الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ21%

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 274

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137151 / تحميل: 6114
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام حبسناه في المطبق (١) .

وجاء في بعض الأخبار: « أنه لما صار الماء فوق مكان القبر وقف وافترق فرقتين، يمينا وشمالاً، ودار حتى التقى تحت المكان، وبقي الوسط خاليا من الماء، والماء مستدير حوله، فسمّي من ذلك اليوم بالحائر » (٢) .

وتألم المسلمون بسبب هذا الموقف المشين الذي سوّد وجه التاريخ، فكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، ومنهم دعبل ابن علي الخزاعي ت ٢٤٦ والبسّامي (٣) الذي يقول:

تاللّه إن كانت اُمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتى بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبره مهدوما

أسفوا على أن لايكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما (٤)

ولم يكتف المتوكل بالاعتداء على المكان المقدس الذي شهد ملحمة البطولة بين معسكر الحق بقيادة سيد الشهداء عليه‌السلام ومعسكر الباطل بقيادة يزيد ابن معاوية، بل اعتدى على الزمان الذي بقي رمزا يختزن الشجاعة والتحدّي للظلم والطغيان على مرّ الدهور، فجعل المتوكل العاشر من المحرم الحرام سنة ٢٥٦ يوما لافتتاح مدينته التي بناها بالماحوزة، ونزوله في قصر الخلافة فيها

__________________

(١) راجع: مقاتل الطالبيين: ٣٩٥، الكامل في التاريخ ٦: ١٠٨، تاريخ ابن الوردي ١: ٢١٦، البداية والنهاية ١٠: ٣١٥، تاريخ الخلفاء / السيوطي: ٢٦٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٥: ٤٠٣، التتمة في تواريخ الأئمّة عليهم‌السلام / السيد تاج الدين العاملي: ١٣٧.

(٣) هو أبو الحسن، علي بن محمد بن نصر بن منصور ابن بسّام، المعروف بالبسّامي، أو ابن بسّام، سير أعلام النبلاء ١٤: ١١٢ / ٥٦.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢: ٣٥، تاريخ الخلفاء / للسيوطي: ٢٦٩.

٦١

الذي سماه اللؤلؤة، وكان يوما مشهودا يعجّ بأصحاب الملاهي والمطربين، فأعطى فيه وأطلق، وقيل: إنّه وهب فيه أكثر من ألفي ألف درهم (١) .

ومع صرامة اجراءات المتوكل في منع زيارة الامام السبط عليه‌السلام فقد استطاع بعض محبيه أن يزوره في أيام الحظر مخاطراً بنفسه وهو يمشي بين مسلحتين متحرياً القبر من خلال رائحته الزكية لانعدام أي شاخص يدل عليه.

قال أبو الفرج الاصفهاني: حدثني محمد بن الحسين الاشناني، قال: بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمّ الأرض ونتحرّى جهته حتى أتيناه، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأُحرق وأجرى الماء عليه، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط، كشيء من الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها، كشيء من العطر، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر، فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه (٢) .

ثانياً - موقفه من آل أبي طالب:

قال أبو الفرج الأصفهاني: كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب،

__________________

(١) راجع: البداية والنهاية ١٠: ٣٤٧، الكامل في التاريخ ٦: ١٣٠.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٣٩٦.

٦٢

غليظا على جماعتهم، مهتمّا بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم، واتّفق له أن عبيداللّه بن يحيى بن خاقان وزيره كان يسيء الرأي فيهم، فحسّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم مالم يبلغه أحدٌ من خلفاء بني العباس قبله (١) .

من هنا فرض المتوكل حصارا قاسياً على آل أبي طالب، واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي وبلغ في هذا الاتجاه مبلغا لم يبلغه أحد ممن سبقه، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البر بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشيء وان قلّ إلا أنهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ثم يرقعنه، ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر، إلى أن قتل المتوكل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم (٢) .

وتجاوز المتوكل في الاساءة جميع الخطوط، فتعرض آل أبي طالب بشكل عام والعلويون بشكل خاص لصنوف الأذى والقسوة في زمانه، وتفرق رجالهم في مختلف بقاع الارض تاركين أوطانهم ومرابع طفولتهم، وأعلن آخرون الجهاد بوجه الطغيان، واختفى بعض كبارهم طيلة مدة حكمه الذي استمر نحو ١٥ عاماً، وتعرض بعضهم للمطاردة والابعاد أو الاعتقال أو التصفية بدسّ السمّ اليهم وهم سجناء، وأُجْبِرَ آخرون على ارتداء السواد الذي يمثّل شعار الدولة العباسية.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٤٠٦.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٣٩٦.

٦٣

وممن قُتِل في زمان المتوكل من الطالبيين القاسم بن عبداللّه بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي، وكان رجلاً فاضلاً، وقد حمله عمر بن الفرج الرخّجي إلى سرّ من رأى، فأمروه بلبس السواد فامتنع، فلم يزالوا به حتى لبس شيئا يشبه السواد فرضي منه بذلك.

روى أبو الفرج الأصفهاني عن أحمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن، عن ذوب مولاة زينب بنت عبداللّه بن الحسين قالت: « اعتلّ مولاي القاسم بن عبداللّه، فوجّه إليه بطبيب يسأله عن خبره، وجّهه إليه السلطان، فجسّ يده، فحين وضع الطبيب يده عليها يبست من غير علّة، وجعل وجعها يزيد عليه حتّى قتله، قالت: سمعت أهله يقولون: إنّه دسّ إليه السمّ مع الطبيب » (١) .

وقتل الحسن بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن، وقتل جعفر بن عيسى بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر، وقتل عبد الرحمن خليفة أبي الساج بمكة أحمد بن عبد الله بن موسى بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى، وقتل بالري جعفر بن محمد ابن جعفر بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين، وقتل إبراهيم بن محمد ابن عبد الله بن عبيد الله بن الحسن بن عبد الله بن العباس بن علي عليه‌السلام .

ومات في سجن الكوفة عيسى بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر، وكان أبو الساج حمله فحبس بالكوفة فمات هناك.

وحبس الحارث بن أسد عامل أبي الساج بالمدينة احمد بن محمد بن يحيى

__________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٤٠٧.

٦٤

ابن عبد الله بن الحسن المثنى في دار مروان فمات في محبسه (١) .

وتوارى أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام مدةً طويلة حتى توفي سنة ٢٤٧ هـ، وكان فاضلاً عالما مقدما في أهله، معروفا فضله، وقد كَتَب الحديث وعمّر، وكُتِب عنه، وروى عنه الحسين بن علوان روايات كثيرة، وروى عنه محمد بن المنصور الراوي ونظراؤه.

وتوارى أيضا عبداللّه بن موسى بن عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام منذُ أيام المأمون ومات في أيام المتوكل (٢) .

روى أبو الفرج الأصفهاني بالأسناد عن محمد بن سليمان الزينبي قال: « نُعي عبداللّه بن موسى إلى المتوكل صبح أربع عشرة ليلة من يوم مات، ونُعي له أحمد ابن عيسى فاغتبط بوفاتهما وسُرّ، وكان يخافهما خوفا شديدا، ويحذر حركتهما لما يعلم من فضلهما واستنصار الشيعة الزيدية بهما وطاعتهما لهما لو أرادوا الخروج عليه، فلما ماتا أمن واطمأنّ، فما لبث بعدهما إلاّ اُسبوعا حتّى قُتِل » (٣) .

وكان الناس يفتخرون بتزويج آل أبي طالب لشرفهم واتصال نسبهم بالرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينما تراهم في زمان المتوكل يمتنعون من تزويجهم خوفاً منه، روى أبو الفرج بالاسناد عن إبراهيم بن المدبر، قال: جاءني محمد بن صالح الحسني، وسألني أن أخطب عليه بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحربي، ففعلت ذلك وصرت إلى عيسى فسألته أن يجيبه، فأبى وقال لي: لا أكذبك والله إني لا أرده لأني لا أعرف أشرف وأشهر منه لمن يصاهره، ولكني أخاف

__________________

(١) راجع: مقاتل الطالبيين: ٤٣٤ و ٤٥٠.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٤٠٨.

(٣) مقاتل الطالبيين: ٤١٧.

٦٥

المتوكل وولده بعده على نعمتي ونفسي... (١) .

ثالثاً - موقفه من شيعة الامام عليه‌السلام :

أمعنت أجهزة المتوكل في منع شيعة الإمام ومواليه من الدخول اليه، روى القطب الراوندي بالاسناد عن أبي القاسم بن القاسم، عن خادم علي ابن محمد عليه‌السلام ، قال: كان المتوكل يمنع الناس من الدخول إلى علي بن محمد عليه‌السلام ، فخرجت يوماً وهو في دار المتوكل، فإذا جماعة من الشيعة جلوس خلف الدار، فقلت: ما شأنكم جلستم ها هنا؟ قالوا: ننتظر انصراف مولانا لننظر إليه ونسلم عليه وننصرف... (٢) .

كما أمعنت في التنكيل بأتباع الامام ومحبيه قتلاً واعتقالاً وافقارا، فأمروا ببعضهم أن يلقى من جبل عالٍ ويدفن في أصل الجبل بتهمة موالاة الإمام عليه‌السلام (٣)، وقطعت أرزاق بعضهم لملازمة الإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام (٤) .

وحبس علي بن جعفر وكيل الإمام الهادي عليه‌السلام ، وكان من أهل همينيا - قرية من قرى سواد بغداد - فسعي به إلى المتوكل، فحبسه مدة طويلة وتحت ظروف قاسية، وحينما كلمه عبيد الله بن خاقان بقبول ضمانة عنه قدرها ثلاثة آلاف دينار قال المتوكل: يا عبيد الله، لو شككت فيك لقلت إنك رافضي، هذا وكيل فلان - أي علي بن محمد عليهما‌السلام - وأنا عازم على قتله. فتأدى الخبر إلى علي ابن جعفر، فكتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام : يا سيدي، الله الله في فقد والله خفت أن

__________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٣٩٩.

(٢) الخرائج والجرائح ١: ٤٠٣ / ٩.

(٣) الثاقب في المناقب: ٥٤٣، المناقب لابن شهر آشوب ٤: ٤٤٨.

(٤) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٤٤٢.

٦٦

أرتاب. فوقع في رقعته: « أما إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك »، وكان هذا في ليلة الجمعة، فأصبح المتوكل محموماً فازدادت عليه حتى صرخ عليه يوم الاثنين، فأمر بتخلية كل محبوس عرض عليه اسمه حتى ذكر هو علي ابن جعفر، فقال لعبيد الله: لم لم تعرض علي أمره؟ فقال: لا أعود إلى ذكره أبداً. قال: خل سبيله الساعة، وسله أن يجعلني في حلّ، فخلى سبيله (١) .

وفي كل ذلك يتوجه الأصحاب إلى إمامهم عليه‌السلام كماترى فيعينهم بالدعاء للتخلص مما هم فيه. عن عبداللّه بن سليمان الخلال، قال: « كتبت إليه عليه‌السلام أسأله الدعاء أن يفرّج اللّه عنّا في أسباب من قبل السلطان كنا نغتم بها من غلماننا، فرجع الجواب بالدعاء، ورد علينا الغلمان... » (٢) .

قتل ابن السكّيت (٣):

وهو امام العربية الحجة، صيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى المتوكل،

__________________

(١) رجال الكشي ٢: ٨٦٦ / ١١٢٩.

(٢) الثاقب في المناقب: ٥٤٨ / ٤٩٠.

(٣) ترجم له النجاشي وقال: يعقوب بن إسحاق السكيت، أبو يوسف، كان مقدماً عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن عليهما‌السلام ، وكان يختصانه، وله عن أبي جعفر عليه‌السلام رواية ومسائل، وقتله المتوكل لأجل التشيع وأمره مشهور. كان وجيهاً في علم العربية واللغة، ثقة، مصدقاً، لا يطعن عليه، وله كتب منها: كتاب إصلاح المنطق، كتاب الألفاظ، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، كتاب الاضداد، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب المقصور والممدود، كتاب الطير، كتاب النبات، كتاب الوحش وغيرها. رجال النجاشي: ٤٤٩.

وقال ابن خلكان: قال بعض العلماء: ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل إصلاح المنطق، ولا شك أنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة، ولا نعرف في حجمه مثله في بابه. وفيات الاعيان ٦: ٤٠٠.

٦٧

فندبه الى تعليم أولاده، فبينما هو مع المتوكل يوماً إذ جاء المعتز والمؤيد، فقال له المتوكل: يا يعقوب، أيما أحبّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فذكر الحسن والحسين عليهما‌السلام بما هما أهله، وقال له: إن قنبراً خادم علي أحبّ إلي من ابنيك. أو إن قنبراً خادم علي خير منك ومن ابنيك، فأمر المتوكل الأتراك فسلوا لسانه وداسوا بطنه حتى مات، وذلك في يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة ٢٤٣، وقيل: سنة ٢٤٤، وقيل: سنة ٢٤٦ (١) .

رابعاً - موقفه من الامام الهادي عليه‌السلام :

١ - اشخاص الامام عليه‌السلام إلى سامراء:

أمر المتوكل باشخاص الامام الهادي عليه‌السلام الى عاصمة ملكه سامراء ليكون محاصرا ومعزولاً عن قاعدته العريضة في المدينة المنورة، وعلى مقربة من رقابة الجهاز الحاكم.

أسباب الاشخاص:

معلوم أن المتوكل ينطلق في كل مواقفه مع الإمام الهادي عليه‌السلام وشيعته مما تنطوي عليه نفسه من البغض الذي يكنّه لأهل بيت النبوة عليهم‌السلام الأمر الذي صرّح به كثير من المؤرخين، وفضلاً عن ذلك فقد أضاف المؤرخون سببين مرتبطين دفعا المتوكل إلى إشخاص الإمام عليه‌السلام إلى سامراء وهما:

أ - الوشاية بالإمام إلى المتوكل من قبل بعض الحاقدين من عمال بني العباس، ومنهم عبداللّه بن محمد بن داود الهاشمي، المعروف بابن اترجة أو

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦: ١٣٣، تاريخ الخلفاء: ٢٦٩، تاريخ ابن الوردي ١: ٣١٣، وفيات الاعيان ٦: ٤٠٠، معجم الادباء ٢٠: ٥٠.

٦٨

بريحة (١)، وكان يتولى ادارة الحرب والصلاة في الحرمين.

قال المسعودي: كتب بريحة... إلى المتوكل: إن كان لك في الحرمين حاجة، فاخرج علي بن محمد منها، فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه واتبعه خلق كثير، وتابع كتبه إلى المتوكل بهذا المعنى (٢) .

وذكر الشيخ المفيد أن عبدالله بن محمد سعى بأبي الحسن عليه‌السلام إلى المتوكل، وكان يقصده بالأذى (٣) .

وقال اليعقوبي: كتب إلى المتوكل يذكر أن قوما يقولون إنه الإمام (٤) .

ومهما يكن فان أفعال الوشاة توقظ شكوك المتوكل وأحقاده وتثير توجّسه الكامن في نفسه تجاه الامام عليه‌السلام .

ب - تخوف المتوكل من خروج الامام عليه‌السلام عليه أو أن يأمر أحداً من أهل بيته بالخروج لانصراف الناس إلى الإمام عليه‌السلام وإلتفافهم حوله في المدينة، نقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير قولهم: « إنّما أشخصه المتوكل إلى بغداد، لأن المتوكل كان يبغض عليا عليه‌السلام وذريته، فبلغه مقام علي عليه‌السلام بالمدينة، وميل الناس إليه فخاف منه » (٥) .

وعبّر عن هذا المعنى أيضا يزداد النصراني طبيب البلاط تلميذ بختيشوع الطبيب المعروف، حيث جاء عنه في حديث ذكر فيه الامام الهادي عليه‌السلام أنه قال: « بلغني أن الخليفة استقدمه من الحجاز فَرَقا منه، لئلا تنصرف إليه وجوه

__________________

(١) أو بريهة، راجع: الكامل في التاريخ ٦: ٢٤٥.

(٢) إثبات الوصية: ٢٣٣.

(٣) الارشاد ٢: ٣٠٩.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٤.

(٥) تذكرة الخواص: ٣٢٢.

٦٩

الناس، فيخرج هذا الأمر عنهم، يعني بني العباس » (١) .

هذا مع أن الإمام عليه‌السلام لم يكن في موقع الدعوة إلى الثورة ضد الخلافة العباسية، لأن الظروف الموجودة آنذاك لم تكن تسمح بمثل هذا العمل، وقد عرف الإمام عليه‌السلام بعد استدعائه هواجس نفس المتوكل، فبين له أنه ليس همّة استلام السلطة ولاتنزع نفسه الكريمة إلى شيء من هذا الحطام، وذلك حينما استعرض المتوكل جيشه بحضور الإمام عليه‌السلام بأحسن زينة وأتم عدة وأعظم هيبة، وقد بلغ تسعين ألفا من الترك.

قال الراوي معبراً عن غرض المتوكل من استعراض الجيش بحضرة الامام عليه‌السلام : وكان غرضه أن يكسر كل من يخرج عليه، وكان خوفه من أبي الحسن أن يأمر أحداً من أهل بيته أن يخرج على الخليفة، إلى أن قال: فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : « نحن لاننافسكم في الدنيا، نحن مشتغلون بأمر الآخرة، ولا عليك ممّا تظنّ » (٢) .

قال الشاعر:

لست أنسى غداة أخرجه

الطاغي مع الناس ذلة وصغارا

وغدا يعرض الجيوش عليه

عل يرتاع خيفة وانذعارا

فأراه من الملائك جيشاً

ملأ الافق والفضا جرارا (٣)

__________________

(١) دلائل الإمامة / الطبري: ٤١٩ / ٣٨٢، نوادر المعجزات / الطبري: ١٨٨ / ٧ - مؤسسة الإمام المهدي عليه‌السلام - قم - ١٤١٠ هـ، فرج المهموم: ٢٣٣.

(٢) الخرائج والجرائح ١: ٤١٤ / ١٩، الثاقب في المناقب: ٥٥٧، كشف الغمة ٣: ١٨٥، بحار الأنوار ٥٠: ١٥٥ / ٤٤.

(٣) الذخائر / ديوان الشاعر محمد علي اليعقوبي: ٦٣.

٧٠

كتاب الاستدعاء:

أورد الشيخ المفيد كتاب الاستدعاء الذي أرسله المتوكل الى الامام عليه‌السلام ، وذكر في أوله سبب شخوص أبي الحسن عليه‌السلام إلى سر من رأى، فجاء فيه أن عبد الله بن محمد كان يتولى الحرب والصلاة في مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسعى بأبي الحسن عليه‌السلام إلى المتوكل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن عليه‌السلام سعايته به، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد ويكذبه فيما سعى به، فتقدم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعاه فيه إلى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول.

وكان جواب المتوكل الذي استدعى بموجبه الإمام عليه‌السلام إلى سامراء هادئا لينا، تظاهر فيه بتعظيم الإمام عليه‌السلام وإكرامه، ووعده فيه باللطف والبرّ، وذكر فيه براءته مما نسب إليه واتّهم به من التحرك ضد الدولة، وانه أمر بعزل الوالي الذي سعى به - وهو عبداللّه بن محمد - عن منصبه وولّى محلّه محمد بن الفضل، وادّعى في آخر الكتاب أنّه مشتاق إلى الإمام عليه‌السلام ، ثمّ أفضى إلى بيت القصيد وهو أن يشخص الإمام عليه‌السلام إلى سامراء مع من اختار من أهل بيته ومواليه، وأن يرافقه يحيى بن هرثمة الذي أرسله لأداء هذه المهمة على رأس الجند.

قال الشيخ المفيد: فخرجت نسخة الكتاب وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد: فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك، راع لقرابتك، موجب لحقك، مؤثر من الامور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم، ويثبت به عزك وعزهم، ويدخل الأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضا ربه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما

٧١

كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي علم أمير المؤمنين براءتك منه، وصدق نيتك في برك وقولك، وأنك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه، وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك.

وأمير المؤمنين مشتاق إليك، يحب إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك، على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك فالأمر في ذلك إليك، وقد تقدمنا إليه بطاعتك، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة، ولا أحمد له أثرة، ولا هو لهم أنظر، وعليهم أشفق، وبهم أبر، وإليهم أسكن منه إليك.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس في شهر كذا من سنة ثلاث وأربعين ومائتين.

قال الشيخ المفيد: فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن عليه‌السلام تجهّز للرحيل، وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل إلى سر من رأى، فلما وصل إليها تقدم المتوكل بأن يحجب عنه في يومه، فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك وأقام فيه يومه، ثم تقدم المتوكل بإفراد دار له فانتقل إليها (١) .

__________________

(١) الارشاد / الشيخ المفيد ٢: ٣٠٩، الكافي / الشيخ الكليني١: ٥٠١ / ٧ - باب

٧٢

ويبدو أن المتوكل قد صاغ كتابه بصيغة الرجاء، وكأنه ترك للإمام عليه‌السلام الخيار في الشخوص أو البقاء، غير أنه الاكراه بعينه، إذ أنه بعث الكتاب مع الجند وقادتهم الذي أرسلهم لأداء مهمة إشخاص الإمام، ثمّ ان الإمام إن لم يذهب حيث أمره يكون قد أثبت تلك التهمة على نفسه، وأعلن العصيان على الخلافة، وكلاهما مما لاتقتضيه سياسة الإمام عليه‌السلام .

ولعل أوضح دليل على إلزام الإمام عليه‌السلام بهذا الأمر هو تصريحه عليه‌السلام بذلك في حديث رواه المنصوري عن عم أبيه أبي موسى، قال: « قال لي يوما الإمام علي بن محمد عليهما‌السلام : يا أبا موسى، اُخرجت إلى سرّ من رأى كرها... » (١) .

قال الشاعر:

وأشخص رغماً عن مدينة جده

إلى الرجس إشخاص المعادي المخاصم

ولاقى كما لاقى من القوم أهله

جفاءً وغدراً وانتهاك محارم

وعاش بسامراء عشرين حجةً

يجرع من أعداه سم الأراقم

بنفسي موتوراً عن الوتر مغضياً

يسالم أعداءً له لم تسالم (٢)

__________________

مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام من كتاب الحجة.

(١) المناقب لابن شهر آشوب ٤: ٤٤٩، بحار الأنوار ٥٠: ١٢٩ / ٨.

(٢) المجالس السنية / محسن الأمين ٥: ٦٥٦. والشعر للسيد صالح بن مهدي الحسيني النجفي، المتوفى في بغداد سنة ١٣٠٦.

٧٣

المتوكل ينقض وعوده:

يظهر من كتاب المتوكل أنه لا يعدو كونه مناورة حاول المتوكل الالتفاف من خلالها على الإمام عليه‌السلام واحتواء نشاطه، أو قل هو صيغة دبلوماسية من قبيل ذرّ الرماد في العيون، إذ لم يكن المتوكل صادقا فيما وعد، ولا التزم بالشروط التي تعهد بها في كتابه، وأول بادرة سوء في ذلك أنه حينما دخل يحيى ابن هرثمة المدينة أمر بتفتيش دار الامام تفتيشاً دقيقاً، حتى ضجّ أهل المدينة خوفاً على الامام عليه‌السلام ، ولو كان المتوكل ينوي إكرام الامام عليه‌السلام لما احتجب عنه في اليوم الأول من وصوله إلى سامراء، ولما انزله في خان الصعاليك، ولما حجب عنه شيعته وأصحابه، ولما فرض عليه الاقامة الجبرية في عاصمة العسكر سامراء طيلة مدة حكمه، ولما أمر بتفتيش داره في سامراء مرات عديدة، ولعل أظهر موارد نقض الشروط هو أن المتوكل أعاد محمد بن الفرج الرخّجي المعروف بعدائه السافر لآل البيت عليهم‌السلام الى عمله وعزل محمد بن الفضل (١) .

تاريخ الاشخاص:

اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ رحلة الإمام الهادي عليه‌السلام من المدينة الى

__________________

(١) قال ابن كثير: كان المتوكل لايولي أحدا إلا بعد مشورة الإمام أحمد، البداية والنهاية ١٠: ٣١٦، فإن كان ذلك حقا، فلا أدري كيف يوافق الامام أحمد على تولية أمثال: محمد بن الفرج الرخجي، والديزج الذي هدم قبر الحسين عليه‌السلام ، وأبي السمط مروان بن أبي الجنوب الذي ولاه على اليمامة والبحرين، وابن اُترجة الذي ولاه الحرب والصلاة في الحرمين وغيرهم من النواصب؟! فإنّ أراد المبالغة في مدح المتوكل الناصبي فقد عرّض بالإمام أحمد وأساء إليه، وإن كان قوله حقا فان الإمام أحمد على رأس النواصب وأهم المروجين لثقافة النصب.

ومما يشهد بنصبه قوله في حقّ (حريز بن عثمان) الناصبي الذي كان يلعن أمير المؤمنين صباحا ومساءً: « ثقة ثقة ثقة »: ولهذه الأمور خاطب عبداللّه بن أحمد أباه قائلاً: إنّ الناس يقولون عنك... ذكره ابن الجوزي.

٧٤

العراق؛ فقد ذكر المسعودي أنه شخص الإمام الهادي عليه‌السلام إلى العراق في سنة ٢٣٦ هـ (١) .

وذكر الطبري أنه قدم يحيى بن هرثمة بعلي بن محمد بن علي الرضا بن موسى ابن جعفر سنة ٢٣٣ هـ (٢)، وعلى ضوئه ذكر ابن كثير أن مدة إقامة الإمام الهادي عليه‌السلام في سامراء أكثر من عشرين سنة. فقال في أحداث سنة ٢٥٤ هـ، وهي السنة التي توفي فيها الإمام الهادي عليه‌السلام : نقله المتوكل إلى سامراء، فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر، ومات في هذه السنة (٣)، وكذلك ذكر الخطيب البغدادي والسمعاني وابن طولون أنه عليه‌السلام أقام في سامراء عشرين سنة وتسعة أشهر (٤) .

أما الشيخ المفيد فقد ذكر في ذيل نسخة كتاب الاستدعاء الذي كتبه المتوكل أن كاتبه إبراهيم بن العباس كتبه في سنة ٢٤٣ هـ (٥) . وهذا يعني أنه تاريخ الاشخاص، وأكّد الشيخ المفيد هذا التاريخ باعتباره مقام الإمام الهادي عليه‌السلام في سامراء إلى أن قُبض عشر سنين وأشهرا (٦) .

ويبدو أن الشيخ المفيد استفاد من رواية الشيخ الكليني لنسخة كتاب

__________________

(١) إثبات الوصية / المسعودي: ٢٤٤.

(٢) تاريخ الطبري ٩: ١٦٣ - حوادث سنة ٢٣٣ هـ.

(٣) البداية والنهاية ١١: ١٥ - حوادث سنة ٢٥٤ هـ.

(٤) تاريخ بغداد ١٢: ٥٦ / ٦٤٤٠، الانساب / السمعاني ٤: ١٩٣، الأئمّة الاثنا عشر / لابن طولون: ١٠٩ و ١١٣ - بيروت - دار صادر.

(٥) الارشاد ٢: ٣١٠.

(٦) الارشاد ٢: ٣١٢.

٧٥

المتوكل، والتي ورد فيها اسم كاتب المتوكل (إبراهيم بن العباس) في ذيل الكتاب إلاّ أنه يخلو من التاريخ، لكن جاء في أول رواية الشيخ الكليني ما يلي: عن محمد بن يحيى، عن بعض أصحابنا، قال: أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث من يحيى بن هرثمة في سنة ٢٤٣ هـ (١)، من هنا يظهر أن هذا هو تاريخ أخذ نسخة الكتاب من يحيى بن هرثمة لا تاريخ كتابته.

ورجّح السيد محمد الصدر أن تاريخ الرحلة كان سنة ٢٣٤ هـ، وترجيحه مبني على اعتبارين: الأول: ما ذكره ابن شهر آشوب من أن مدة مقام الإمام الهادي عليه‌السلام في سامراء من حين دخوله إلى وفاته عشرون سنة (٢)، فإذا كانت وفاته ٢٥٤ هـ، تكون سفرته سنة ٢٣٤ هـ، الثاني: كون هذا التاريخ أنسب بالاعتبار السياسي، لأنه بعد مجيء المتوكل إلى الخلافة بعامين، فيكون المتوكل قد طبّق منهجه في الرقابة على الإمام عليه‌السلام في الأعوام الاولى من خلافته، بخلاف رواية الشيخ المفيد التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوكل أحد عشر عاما (٣) .

من المدينة إلى سامراء:

ان الروايات الواردة في هذا المضمار لا تساعد على تتبع حركة الامام عليه‌السلام من المدينة إلى بغداد ومن ثم إلى سامراء، وكل ما يستفاد من الروايات أنه رافق الإمام الهادي عليه‌السلام في رحلته هذه أهل بيته وبعض مواليه، وولده الإمام بعده الحسن العسكري عليه‌السلام .

__________________

(١) اصول الكافي ١: ٥٠١ / ٧ - باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام من كتاب الحجة.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ٤: ٤٣٣.

(٣) تاريخ الغيبة الصغرى ٢: ١٠٧ - ١٠٨.

٧٦

أما من حيث الوقت فالذي صرحت به الروايات أنه قد قطع هذا الطريق في موسم الحرّ فعانى المزيد من الجهد، وقد صاحبه في سفره هذا كثير من القادة والجند الذين لا يعرفون مقامه الالهي السامي بل كان منهم الخارجي والحشوي والناصب.

ومنها ما روي عن يحيى بن هرثمة، قال: دعاني المتوكل فقال: اختر ثلاث مئة رجل ممن تريد واخرجوا إلى الكوفة، فخلفوا أثقالكم فيها، واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة، فاحضروا علي بن محمد بن الرضا إلى عندي مكرماً معضماً مبجلاً. قال: ففعلت وخرجنا، وكان في أصحابي قائد من الشراة، وكان لي كاتب يتشيع، وأنا على مذهب الحشوية، وكان ذلك الشاري يناظر ذلك الكاتب، وكنت أستريح إلى مناظرتهما لقطع الطريق... الى أن قال: وسرنا حتى دخلنا المدينة، فقصدت باب أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا فدخلت إليه فقرأ كتاب المتوكل فقال: انزلوا وليس من جهتي خلاف. قال: فلما صرت إليه من الغد وكنا في تموز أشدّ ما يكون من الحرّ، فإذا بين يديه خياط وهو يقطع ثياب غلاظ له ولغلمانه، الى آخر الخبر (١) .

وعن أبي العباس خال شبل كاتب إبراهيم بن محمد، قال: كنت في الوفد الذي أوفده المتوكل إلى المدينة في إحضار أبي الحسن عليه‌السلام ، وطوينا المنزل وكان منزلاً صائفاً شديد الحر، الى آخر الخبر (٢) .

وهناك روايات تعكس لنا كيفية حمل الامام عليه‌السلام وتصرف الموكلين

__________________

(١) الثاقب في المناقب: ٥٥١، الخرائج والجرائح ١: ٣٩٣ الباب الحادي عشر، كشف الغمة ٣: ١٨٠.

(٢) الخرائج والجرائح ١: ٤١٥ / ٢٠.

٧٧

بذلك، وموقف الناس في المدينة حين أحسوا بذلك، وتعلق الناس بامامهم في بعض منازل الطريق.

ذكر المسعودي أن يحيى بن هرثمة قدم المدينة، فأوصل الكتاب إلى بريحة، وركبا جميعا إلى أبي الحسن عليه‌السلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل، فاستأجلهما ثلاثا، فلما كان بعد ثلاث عاد يحيى إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها، وخرج صلوات اللّه عليه متوجها نحو العراق، وأتبعه بريحة مشيعا، فلما صار في بعض الطريق، قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك، وعليَّ حلف بأيمان مغلظة لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحد من خاصّته وأبنائه، لأجمرنّ عيون ضيعتك، ولأفعلن وأصنعن.

فالتفت إليه أبو الحسن عليه‌السلام فقال له: إن أقرب عَرضي إياك على اللّه البارحة، وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكونك إلى غيره من خلقه. فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه. فقال له: قد عفوت عنك (١) .

وهكذا تجد بريحة يهدد الامام عليه‌السلام بتخريب حطام الدنيا ان هو شكاه الى المتوكل أو أحد خاصته وأبنائه، والامام عليه‌السلام يخبره بأنه شكاه الى الله فكيف يشكوه الى غيره؟! فهو يخاف من الشكوى الى المتوكل ولا يخاف من عرضه على الله، فتراه ينكبّ على الامام عليه‌السلام ويتضرّع إليه ويستعفيه رغم أنّه في موقع القوة وزمام السلطة، والامام عليه‌السلام يعفو عنه رغم وشايته به كذباً وافتراءاً، وهذا هو خلق أهل البيت عليهم‌السلام وسماحتهم لمن ساء إليهم.

ونقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير: أن المتوكل دعا يحيى بن هرثمة

__________________

(١) إثبات الوصية: ٢٣٣.

٧٨

وقال: اذهب إلى المدينة، وانظر حاله وأشخصه إلينا، قال يحيى: فذهبت إلى المدينة، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجا عظيما ماسمع الناس بمثله خوفا على علي، وقامت الدنيا على ساق، لأنّه كان محسنا إليهم ملازما للمسجد، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا.

قال يحيى: فجعلت اُسكّنهم وأحلف لهم أنّي لم اُؤمر فيه بمكروه، وأنه لابأس عليه، ثمّ فتّشت منزله، فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني، وتوليت خدمته بنفسي، وأحسنت عشرته، فلما قدمت به بغداد بدأت باسحاق بن إبراهيم الطاهري، وكان واليا على بغداد فقال لي: يا يحيى، إن هذا الرجل قد ولده رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمتوكل من تعلم، فإن حرّضته عليه قتله، وكان رسول اللّه خصمك يوم القيامة، فقلت له: واللّه ما وقعت منه إلاّ على كلّ أمر جميل، ثمّ صرت به إلى سرّ من رأى، فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله، فقال: واللّه لئن سقط منه شعره لايطالب بها سواك، قال: فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق » (١) .

وهذا الخبر يدل على الموقع الذي يشغله الإمام عليه‌السلام في نفوس الناس وكسب ثقتهم ومحبتهم على اختلاف توجهاتهم، وذلك من خلال إحسانه إليهم ورعاية اُمورهم وتأثّرهم بخصائص شخصيته الباهرة، ممّا جعله في موقع محبة الناس كلهم، فهرعوا في مظاهرة احتجاجية لم يسمع بمثلها خوفا على حياة إمامهم عليه‌السلام من بطش المتوكل الذي يعرفون توجهاته وممارساته، لهذا حاول ابن هرثمة تهدئتهم بقسمه لهم أنه لم يؤمر فيه بمكروه، وتأثّر ابن هرثمة بعظمة الإمام عليه‌السلام أيضا فتولّى خدمته بنفسه وأحسن عشرته، وهكذا امتدت محبة

__________________

(١) تذكرة الخواص: ٣٢٢، مروج الذهب ٤: ٤٢٢ نحوه.

٧٩

الإمام عليه‌السلام وتعظيمه إلى حاشية المتوكل في بغداد وسامراء.

وتتجلّى مظاهر الحب والتعظيم أيضا في تشوّق الناس من أهالي بغداد إلى الإمام واجتماعهم لرؤيته، مما اضطرهم إلى دخول البلد ومغادرته في الليل، فقد جاء في تاريخ اليعقوبي أنه لما كان في موضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم الطاهري لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرّ من رأى (١) .

في سامراء:

حينما وصل ركب الإمام عليه‌السلام إلى سامراء تقدّم المتوكل بأن يُحجَب عنه في يومه، واُنزل في خان يُعرَف بخان الصعاليك، فأقام فيه يومه، وقد استطاع أحد محبيه من زيارته في ذلك الخان وهو صالح بن سعيد.

روى ثقة الاسلام الشيخ الكليني وغيره بالاسناد عن محمد بن يحيى، عن صالح بن سعيد قال: « دخلت على أبي الحسن عليه‌السلام فقلت له: جعلت فداك في كل الامور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى انزلوك هذا الخان الأشنع - خان الصعاليك؟! - فقال: هاهنا أنت يا ابن سعيد؟! ثم أومأ بيده وقال: انظر فنظرت، فإذا أنا بروضات أنفات وروضات باسرات فيهن خيرات عطرات وولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري وحسرت عيني، فقال: حيث كنا فهذا لنا عتيد، لسنا في خان الصعاليك » (٢) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٤.

(٢) راجع: اصول الكافي ١: ٤٩٨ / ٢ باب مولد ابي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام من

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

العسكريعليه‌السلام فقال :يا أحمد ، ما كان حالكم فيما كان فيه الناس من الشك والارتياب ؟ فقلت له : يا سيدي لما ورد الكتاب لم يبق منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق. فقالعليه‌السلام :أحمد الله على ذلك يا أحمد ، أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة ، وأنا ذلك الحجة ، أو قال :أنا الحجة »(1) .

الثاني : اظهار الدلالة

فقد طالب بعض المشككين الإمامعليه‌السلام بالدلالة ، وكانعليه‌السلام يستجيب بما اُوتي من الحكمة وفصل الخطاب ، لمن يعتقد أنه يسكن إليها. ويدل عليه ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن القاسم الهروي ، قال : خرج توقيع من أبي محمدعليه‌السلام إلى بعض بني أسباط ، قال : « كتبت إليهعليه‌السلام أخبره عن اختلاف الموالي وأسأله إظهار دليل. فكتب إليّ :إنّما خاطب الله عزوجل العاقل ، ليس أحد يأتي بآية أو يظهر دليلاً أكثر مما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين ، فقالوا : ساحر وكاهن وكذاب ، وهدى الله من اهتدى ، غير أن الأدلة يسكن إليها كثير من الناس ، وذلك أن الله عزوجل يأذن لنا فنتكلم ، ويمنع فنصمت ، ولو أحب أن لا يُظهِر حقاً ما بعث النبيين مبشرين ومنذرين ، فصدعوا بالحقّ في حال الضعف والقوة ، وينطقون في أوقات ليقضي الله أمره وينفذ حكمه ».

ثمّ أشارعليه‌السلام إلى طبقات الناس في أخلاصهم له أو ابتعادهم عنه ، مبيناً أن بعضهم يعيش البصيرة في عقله وفي قلبه وفي روحه من أجل أن ينجو عندما يقف بين يدي الله ، وهذا متمسك بهدي الإمام وسبيله ، وبعضهم أخذ العلم ممن

__________________

(1) إكمال الدين : 222 / 9 باب 22.

١٢١

يملك مسؤولية العلم وعمقه وممن لا يملكهما ، أو ممن يملك تقوي الحقيقة وممن لا يملكها ، وهؤلاء مذبذبون ليس لديهم قاعدة ثابتة ينطلقون منها ولا أرض يقفون عليها ، وبعضهم استحوذ عليهم الشيطان فأعمى بصيرتهم ، وليس لهم شأن إلا مواجهة أهل الحق.

قالعليه‌السلام : مواصلاً كتابه الأول : « الناس فيَّ طبقات شتّى ، فالمستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق ، متعلق بفرع أصيل ، غير شاك ولا مرتاب ، لا يجد عنه ملجأً ، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله ، فهم كراكب البحر يموج عند موجه ، ويسكن عند سكونه. وطبقة استحوذ عليهم الشيطان ، شأنهم الردّ على أهل الحقّ ودفع الحقّ بالباطل ، حسداً من عند أنفسهم ، فدع من ذهب يميناً وشمالاً ، فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي.

ذكرت ، ما اختلف فيه مواليّ ، فإذا كانت الوصية والكبر فلا ريب ، ومن جلس مجالس الحكم فهو أولى بالحكم ، احسن رعاية من استرعيت ، وإياك والاذاعة وطلب الرئاسة ، فانهما يدعوان إلى الهلكة.

ذكرت شخوصك إلى فارس ، فاشخص خار الله لك ، وتدخل مصر إن شاء الله آمناً ، واقرأ من تثق به من موالي السلام ، ومرهم بتقوى الله العظيم ، وأداء الأمانة ، وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا. قال : فلما قرأت : وتدخل مصر إن شاء الله ، لم أعرف معنى ذلك ، فقدمت إلى بغداد ، وعزيمتي الخروج إلى فارس ، فلم يتهيأ ذلك فخرجت إلى مصر »(1) .

__________________

(1) إثبات الوصية : 247 ، الخرائج والجرائح 1 : 448 / 35 ، بحار الأنوار 50 : 296 / 70.

١٢٢

وهكذا كانعليه‌السلام يثبت إمامته لبعض المشككين باظهار الدلالة ، مما يسكّن قلوبهم ، ويكون له الأثر في هدايتهم إلى سواء السبيل.

روى علي بن جعفر عن الحلبي ، قال : « اجتمعنا بالعسكر وترصدنا لأبي محمدعليه‌السلام يوم ركوبه ، فخرج توقيعه :ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ولا يؤمئ ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم. قال : وإلى جنبي شاب فقلت : من أين أنت ؟ قال : من المدينة. قلت : ما تصنع هاهنا ؟ قال : اختلفوا عندنا في أبي محمدعليه‌السلام فجئت لأراه وأسمع منه ، أو أرى منه دلالة ليسكن قلبي ، وإني لولد أبي ذرّ الغفاري.

فبينما نحن كذلك ، إذا خرج أبو محمدعليه‌السلام مع خادم له ، فلما حاذانا نظر إلى الشاب الذي بجنبي. فقال :أغفاري أنت ؟ قال : نعم. قال :ما فعلت اُمك حمدويه ؟ فقال : صالحة ، ومرّ. فقلت للشاب : أكنت رأيته قط وعرفته بوجهه قبل اليوم ؟ قال : لا. قلت : فينفعك هذا ؟ قال : ودون هذا »(1) .

وعن يحيى بن المرزبان ، قال : « التقيت مع رجل من أهل السيب سيماه الخير ، فأخبرني أنه كان له ابن عم ينازعه في الإمامة والقول في أبي محمدعليه‌السلام وغيره ، فقلت : لا أقول به أو أرى منه علامة ، فوردت العسكر في حاجة فأقبل أبو محمدعليه‌السلام فقلت في نفسي متعنتاً : ان مدّ يده إلى رأسه ، فكشفه ثمّ نظر إليّ ورده قلت به. فلما حاذاني مدّ يده إلى رأسه فكشفه ، ثم برق عينيه فيّ ثم ردّها ، وقاليا يحيى ، ما فعل ابن عمك الذي تنازعه في الإمامة ؟ فقلت : خلّفته

__________________

(1) الخرائج والجرائح 1 : 439 / 20 ، بحار الأنوار 50 : 269 / 24.

١٢٣

صالحاً. فقال :لا تنازعه ، ثم مضىٰ »(1) .

كما كانعليه‌السلام يحذّر من لايعتقد بإمامته إلا ببرهان ثم يعطى ذلك ويبقى على عناده بمصير وخيم يوم يفد على الله فرداً بلا ناصر أو معين.

روى المسعودي بالاسناد عن الربيع بن سويد الشيباني ، قال : حدثني ناصح البارودي ، قال « كتبت إلى أبي محمدعليه‌السلام اُعزيه بأبي الحسنعليه‌السلام وقلت في نفسي وأنا أكتب : لو قد خبر ببرهان يكون حجة لي. فأجابني عن تعزيني ، وكتب بعد ذلك :من سأل آية أو برهاناً فاُعطي ، ثمّ رجع عمن طالب منه الآية ، عذب ضعف العذاب ، ومن صبر أعطي التاييد من الله ، والناس مجبولون على جبلة إيثار الكتب المنشرة ، فاسأل السداد ، فإنّما هو التسليم أو العطب ، ولله عاقبة الأمور » (2) .

* * *

__________________

(1) الخرائج والجرائح1 : 440 / 21 ، بحار الأنوار 50 : 270 / 25.

(2) إثبات الوصية : 247 ، تحف العقول : 360 مختصراً.

١٢٤

الفصل الخامس

منزلته عليه‌السلام ومكارم أخلاقه

منزلته عليه‌السلام :

حظي الإمام العسكريعليه‌السلام كسائر آبائه المعصومينعليهم‌السلام بمنزلة رفيعة ومكانة اجتماعية مرموقة ، تتمثّل بوافرٍ من مظاهر التعظيم والتبجيل والاحترام التي يكنّها له غالب من عاصره بمن فيهم الذين خاصموه وناوؤه وسجنوه ، وذلك للدرجات العالية من صفات الكمال ومعالي الأخلاق التي يتحلّى بها من العبادة والعلم والحلم والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مظاهر العظمة التي ميزت شخصه الكريم.

ولو استعرضنا ما نقله كتّاب سيرتهعليه‌السلام يتبيّن لنا سموّ مكانته في المجتمع الاسلامي آنذاك ، وأنّ أعداءه وأصدقاءه أجمعوا على تعظيمه وتقديره وإكباره ، بما في ذلك الوزراء والقوّاد والقضاء والفقهاء وطبقات المجتمع كلّها.

وهناك وثيقة تاريخية معتبرة تنقل لنا بعض أجواء ومظاهر ذلك التقدير والاحترام والمكانة والإجلال ، صادرة من بعض رجال الدولة ، وهو أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، عامل السلطان على الضياع والخراج في قم ، وكان

١٢٥

أبوه وزير المعتمد(1) ، فقد جرىٰ يوماً ذكر العلوية ـ أي المنتسبين إلى الإمام عليعليه‌السلام ـ ومذاهبهم ، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيتعليهم‌السلام ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ فقال : « ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هَديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة ، وتقديمهم إياه على ذوي السنّ منهم والخطر ، وكذلك كانت حاله عند القواد والوزراء وعامة الناس ».

فأنت ترى أن لهعليه‌السلام امتداداً من التعظيم في مواقع المجتمع كلّها ، سواء الذين يدينون بإمامته أو الذين يقفون ضدها ، وهو أمر يستحقّ التأمّل ، فكيف يستطيع شاب في مقتبل العمر أن يحظىٰ بالتقديم على ذوي السن والخطر ؟ وأن يتمتع بهذه المنزلة العالية والمكانة الكبيرة عند القواد والوزراء ، وعامة الناس ، وهو في خط مضاد لموقع الخلافة ، بل ويزدحم حوله الذين ينصبون له ولآبائهعليهم‌السلام العداوة ويكنّون لهم البغضاء ؟ لقد فرض الإمامعليه‌السلام نفسه على الواقع كلّه ، بسموّه الروحي والخلقي ، وعناصر العظمة التي يختزنها في شخصه ، ونشاطه الحركي في أوساط الاُمّة.

ويتابع ابن خاقان حديثه فيقول : « فأذكر أنني كنت يوماً قائماً على رأس أبي ، وهو يوم مجلسه للناس ، إذ دخل حجّابه فقالوا : أبو محمد ابن الرضا بالباب ، فقال بصوتٍ عالٍ : ائذنوا له ، فتعجّبت ممّا سمعت منهم ، ومن جسارتهم

__________________

(1) وهو عبيد الله بن يحيى بن خاقان التركي ، ولد سنة 209 ه‍ ، واستوزره المتوكل والمعتمد ، واستمر في الوزارة إلى أن توفّي سنة 263 ه‍ ، وكان عاقلاً سمحاً جواداً حازماً. سير أعلام النبلاء 13 : 9 / 5 ، أعلام الزركلي 4 : 198.

١٢٦

أن يكنّوا رجلاً بحضرة أبي ، ولم يكن يُكنّى عنده إلا خليفة ، أو وليّ عهد ، أو من أمر السلطان أن يكنّى » ذلك لأن ذكر الكنية مظهر من مظاهر التكريم والإجلال ، فكيف يكنّى رجل بحضرة الوزير ، وليس هو خليفة ولا ولي عهد ولا ممن أمر السلطان بتكنيته ؟ إنّه أمر ملفت للنظر ومثير للتعجّب.

ويواصل فيقول : « فدخل رجل أسمر ، حسن القامة ، جميل الوجه ، جيد البدن ، حديث السنّ ، له جلالة وهيئة حسنة ، فلما نظر إليه أبي قام فمشىٰ إليه خُطىً ، ولا أعلمه فَعَل هذا بأحدٍ من بني هاشم والقوّاد ، فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره ، وأخذ بيده ، وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه ، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه ، وجعل يكلّمه ويفدّيه بنفسه ، وأنا متعجّب مما أرى منه ، إذ دخل الحاجب فقال : الموفق ـ وهو أخو المعتمد العباسي ـ قد جاء ، وكان الموفّق إذا دخل على أبي يقدمه حجّابه وخاصّه قوّاده ، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سِماطين إلى أن يدخل ويخرج ، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يُحدّثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة فقال حينئذٍ له : إذا شئتَ جعلني الله فداك ، ثم قال لحجّابه : خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا ـ يعني الموفق ـ فقام وقام أبي فعانقه ومضى.

فقلت لحجّاب أبي وغلمانه : ويلكم من هذا الذي كنّيتموه بحضرة أبي ، وفعل به أبي هذا الفعل ؟ فقالوا : هذا علويّ يقال له : الحسن بن علي ، يعرف بابن الرضا ، فازددت تعجّباً ، ولم أزل يومي ذلك قلقاً مفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيته منه حتى كان الليل ، وكانت عادته أن يصلّي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات ـ أي المراجعات ـ وما يرفعه إلى السلطان.

١٢٧

فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه ، وليس عنده أحد ، فقال لي : يا أحمد ، ألك حاجة ؟ فقلت : نعم يا أبه ، فإن أذنت سألتك عنها ، فقال : قد أذنت. قلت : يا أبه ، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفدّيته بنفسك وأبويك ؟

فقال : يا بني ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي ، المعروف بابن الرضا ، ثم سكت ساعة وأنا ساكت ، ثم قال : يا بني ، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ، ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره ، لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ، ولو رأيت أباه ، رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً ، فازددت قلقلاً وتفكّراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه فيه ، ورأيت من فعله به ، فلم يكن لي هِمّة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره. فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره عندي ، إذ لم أر له ولياً ولا عدوّاً إلا وهو يُحسن القول فيه والثناء عليه »(1) .

ولسنا نريد من خلال شهادة أحد رجال الدولة أن ندخل في تقييم الإمام لمجرد أنّ هذا الرجل شهد له ، لأنّهعليه‌السلام يختص من موقع إمامته بالدرجة الرفيعة عند الله ، ويتمتّع بملكات قدسية في جميع جوانب المعرفة والروحانية والصلاح

__________________

(1) أصول الكافي 1 : 503 / 1 باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : 40 ـ مقدمة المصنف ، الإرشاد 2 : 321 ، روضة الواعظين : 249 ، إعلام الورى 2 : 147.

١٢٨

والخلق الرفيع ، وهي التي جعلت هذا الرجل وسواه يذعن لشخصيتهعليه‌السلام ويظهر له الإكبار والاحترام والثناء.

الذي نريد أن نقوله من خلال هذه الشهادة ، أنه ليس ثمة شخصية كبيرة وفاعلة في المجتمع إلا وهناك من يسيء القول فيها ، كما أنّ هناك من يحسن القول فيها ، لكننا نجد أنّ الغالبية العظمى قد اتفقت على تقدير الإمامعليه‌السلام واحترامه وإجلاله ، وعلى حسن القول فيه ، بحيث أخذ بمجامع قلوب وعقول الأعداء والأصدقاء ، هذا مع أنهعليه‌السلام عاش في مجتمع يقف من الناحية الرسمية ضد خطّ ولايته ، ويعمل على محاصرته ويضيق عليه ويسعى إلى أن ينقص من قدره.

وتلك المنزلة لم تكن مفروضة بقوة السلاح وصولة السلطان ، ولا هي وليدة التعاطف الجماهيري العفوي مع الإمامعليه‌السلام ، بل هي إحدى مظاهر التسديد الإلهي الذي لا تعمل معه جميع محاولات السلطة الساعية إلى الحطّ من منزلته والوضع منه ، الأمر الذي اعترف به رأس السلطة آنذاك.

فقد روى الشيخ الصدوق والقطب الراوندي أنه ورد في ردّ الخليفة المعتمد على جعفر الكذاب حينما جاء بعد وفاة أخيه الإمامعليه‌السلام يطلب مرتبته ، قوله : « إن منزلة أخيك لم تكن بنا ، إنّما كانت بالله ، ونحن كنا نجتهد في حطّ منزلته والوضع منه ، وكان الله يأبى إلا أن يزيده كلّ يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة »(1) .

ويقع بعض النصارى في دائرة التقدير والاحترام للإمامعليه‌السلام ، ومنهم أحد رجال الدولة الذي كان يتولّى الكتابة للسلطان ، واسمه أنوش النصراني ، الذي

__________________

(1) إكمال الدين : 479 ـ آخر باب 43 ، الخرائج والجرائح3 : 1109.

١٢٩

سأل السلطان أن يدعو الإمامعليه‌السلام إلى بيته ليشارك في مناسبة خاصة يدعو فيها لولديه بالسلامة والبقاء ، فأرسل السلطان خادماً جليل القدر إلى دار الإمام كي يدعوه إلى حضور دار كاتبه أنوش ، فأخبر الخادم الإمامعليه‌السلام أن أنوش يقول : « نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة. فقال الإمامعليه‌السلام :الحمد لله الذي جعل النصراني أعرف بحقنا من المسلمين. ثم قال :اسرجوا لنا. فركب حتى ورد دار أنوش ، فخرج إليه مكشوف الرأس ، حافي القدمين ، وحوله القسيسون والشمامسة(1) والرهبان ، وعلى صدره الانجيل ، فتلقّاه على باب داره وقال : يا سيدنا ، أتوسل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعرف به منا إلا غفرت لي ذنبي في عنائك. وحق المسيح عيسىٰ بن مريم وما جاء به من الانجيل من عند الله ، ما سألت أمير المؤمنين مسألتك [ في ] هذا إلا لأنّا وجدناكم في هذ الانجيل مثل المسيح عيسىٰ بن مريم عند الله. فقالعليه‌السلام :الحمدُ لله »(2) .

ولعلّ أبرز وأصدق مظاهر التبجيل والتعظيم التي تعبّر عن مكانة الإمامعليه‌السلام عند سائر الناس ، هو ازدحام الناس على جنازتهعليه‌السلام إلى حدّ وصفه بعض الرواة بالقيامة ، فقد قال أحمد بن عبيد الله ابن خاقان في حديثه الذي قدّمناه : « لمّا ذاع خبر وفاته صارت سرّ من رأى ضجّه واحدة ( مات ابن الرضا ). وعطلت الاسواق ، وركب بنو هاشم والقوّاد والكتّاب وسائر الناس

__________________

(1) الشسامة : جمع شماس ، وهو خادم الكنيسة بالسريانية.

(2) مدينة المعاجز / السيد هاشم البحراني 7 : 670 / 2655 عن الهداية الكبرى للخصيبي.

١٣٠

الى جنازته ، فكانت سرّ من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة »(1) .

هيبته عليه‌السلام

يحظى الإمام العسكريعليه‌السلام بهيبة حقيقية فرضت نفسها على الناس وسواهم من خلال اجتماع الملكات الروحانية ومقومات الصلاح والاخلاص والخلق الرفيع فيهعليه‌السلام .

وقد جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :« المؤمن يخشع له كلّ شيء ويهابه كلّ شيء » وقالعليه‌السلام :« إذا كان مخلصاً أخاف الله منه كلّ شيء حتى هوام الأرض والسباع وطير الهواء » (2) . فهذا حال المؤمن المخلص ودرجته ، فكيف إذا كان إماماً معصوماً وحجةً على الخلق ؟

قال القطب الراوندي في صفة الإمام العسكري : « له بسالة تذلّ لها الملوك ، وله هيبة تسخّر له الحيوانات كما سخّرت لآبائهعليهم‌السلام بتسخير الله لهم إياها ، دلالة وعلامة على حجج الله ، وله هيئة حسنة ، تعظّمه الخاصة والعامة اضطراراً ، ويبجّلونه ويقدّرونه لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وصلاحه وإصلاحه »(3) .

من هنا فقد وصف أحد خَدَم الإمامعليه‌السلام في حديث له ، حضور الناس يوم ركوبهعليه‌السلام إلى دار الخلافة في كلّ اثنين وخميس ، بأن الشارع كان يغصّ

__________________

(1) أصول الكافي 1 : 505 / 1 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة ، إكمال الدين : 43 ـ المقدمة ، الإرشاد 2 : 324.

(2) الدعوات / الراوندي : 227.

(3) الخرائج والجرائح 2 : 901.

١٣١

بالدواب والبغال والحمير ، بحيث لا يكون لأحد موضع قدم ، ولا يستطيع أحد أن يدخل بينهم ، فإذا جاء الإمامعليه‌السلام هدأت الأصوات وسكنت الضجّة وتفرّقت البهائم وتوسّع له الطريق حين دخوله وخروجه(1) .

وقد امتدت آثار هيبتهعليه‌السلام حتى إلى ساجنيه ، فكانوا يرتعدون خوفاً وفزعاً بمجرد أن ينظر إليهم ، حيث قال بعض الأتراك الموكلون به في سجن صالح ابن وصيف : « ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا »(2) .

مكارم أخلاقه

نأتي هنا إلى ذكر مقومات تلك المنزلة والهيبة التي تتمثل بالملكات القدسية والخصال الروحانية التي اجتمعت في شخصهعليه‌السلام من العلم والعبادة والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من معالي الفضيلة وعناصر العظمة التي تحلّىٰ بها أهل هذا البيتعليهم‌السلام.

وقد وصفه أبوه علي الهاديعليه‌السلام بقوله :« أبو محمد ابني أنصح آل محمد غريزة ، وأوثقهم حجة وهو الخلف ، وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها » (3) .

__________________

(1) راجع الحديث في غيبة الشيخ الطوسي : 215 / 179.

(2) أصول الكافي 1 : 512 / 23 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 334.

(3) أصول الكافي 1 : 327 / 11 ـ باب الاشارة والنص على أبي محمدعليه‌السلام من كتاب الحجة.

١٣٢

وشهد لهعليه‌السلام بخلال الفضل ومعالي الأخلاق بعض المعاصرين له وغيرهم ، ومنهم وزير المعتمد عبيد الله بن يحيى بن خاقان ( ت 263 ه‍ ) الذي وصفه فيما تقدم بالفضل والعفاف والهدي والزهد والعبادة وجميل الأخلاق والصلاح والنبل.

وذكر ابن أبي الحديد عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( ت 255 ه‍ ) في تعداد صفاته وصفات آبائه المعصومينعليهم‌السلام قوله : « من الذي يعدّ من قريش أو من غيرهم ما يعدّه الطالبيون عشرة في نسق ؛كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاكٍ ؟ فمنهم خلفاء ، ومنهم مرشّحون : ابن ابن ابن ابن ، هكذا إلى عشرة ، وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن عليعليهم‌السلام ، وهذا لم يتّفق لبيتٍ من بيوت العرب ولا من بيوت العجم »(1) .

وذلك لأنهم غرس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرعه النامي ، ومنه استوحوا رساليته وروحانيته وأخلاقيته ، وتجسدت فيهم شخصيته ، فكانوا اختصاراً لجميع عناصر الأخلاقية والروحية والانسانية ، وصاروا رمزاً للفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة للانسانية.

قال قطب الدين الراوندي : « أما الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام ، فقد كانت خلائقه كأخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان جليلاً نبيلاً فاضلاً كريماً ، يحتمل الأثقال ولا يتضعضع للنوائب أخلاقة على طريقة واحدة ، خارقة

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 15 : 278.

١٣٣

للعادة »(1) .

وفيما يلي نذكر ما يسمح به المقام من مناقبة الفذّة وخصاله الفريدة :

1 ـ العلم

كان الإمام العسكريعليه‌السلام أعلم أهل زمانه ، وقد بدت عليه مظاهر العلم والمعرفة منذ حداثة سنه ، فقد روى المؤرخون « أنه رآه بهلول(2) وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون ، فظنّ أنه يتحسّر على ما في أيديهم ، فقال : اشتري لك ما تلعب به ؟ فقال :ما للعب خُلِقنا. فقال له : فلماذا خلقنا ؟ قال :للعلم والعبادة. فقال له : من أين لك هذا ؟ قال :من قوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (3) ثمّ وعظه بأبيات من الشعر حتى خرّ مغشياً عليه »(4) .

وشهد للإمامعليه‌السلام برجاحة العلم طبيب البلاط بختيشوع ، وكان ألمع شخصية في علم الطبّ في عصره ، فقد احتاج الإمامعليه‌السلام إلى طبيب فأرسل اليه

__________________

(1) الخرائج والجرائح 2 : 901.

(2) لعلّ المراد به بهلول بن إسحاق بن بهلول ( 204 ـ 298 ه‍ ) أو أخوه المعروف بابن بهلول ، وهو أحمد بن إسحاق بن بهلول ( 231 ـ 318 ه‍ ) وكلاهما من العلماء المعاصرين له.عليه‌السلام راجع : سير أعلام النبلاء 13 : 535 / 268 و 14 : 497 / 281 ، أعلام الزركلي 1 : 95.

(3) سورة المؤمنون : 23 / 115.

(4) راجع : إحقاق الحق 12 : 473 و 19 : 620 و 29 : 65 عن عدة مصادر منها : الصواعق المحرقة لابن حجر ، ونور الأبصار للشبلنجي ، ووسيلة المآل للحضرمي ، وروض الرياحين لعفيف الدين اليافعي وغيرها.

١٣٤

بختيشوع بعض تلامذته وأوصاه قائلاً : « طلب مني ابن الرضا من يفصده ، فصر إليه ، وهو أعلم في يومنا هذا بمن هو تحت السماء ، فاحذر أن لا تعترض عليه فيما يأمرك به »(1) .

واستطاع الإمامعليه‌السلام بعلمه الذي لا يجارى وفكره الثاقب ونظره الصائب أن يكشف الحقائق ويظهر الدقائق ، ومن ذلك أن السلطة أخرجته من السجن بعد أن شكّ الناس في دينهم وصبوا إلى دين النصرانية ، لأن أحد الرهبان كان يستسقي فيهطل المطر ، بينما يستسقي المسلمون فلم يسقوا ، فكشف الإمامعليه‌السلام عن حيلة الراهب الذي كان يُخفي عظماً لأحد الأنبياءعليهم‌السلام بين أصابعه ، فأزال الشك عن قلوب الناس وهدأت الفتنة(2) .

قال الحرّ العاملي في ارجوزته :

وفي حديث الراهب النصراني

معجـزة من أوضح البرهانِ

إذ كان في الحبس فصار جدب

وكان سؤال المسلمين الخصب

فخرجوا يدعون للاستسقا

ثلاثة والأرض ليس تسقي

فخرج الراهـب والنصاري

يستمطرون الصيّب المـدرارا

فجـاءهم غيثٌ غزيـر هاطل

وكلّمـا دعوا أجاب الوابل

فافتتن النـاس وراموا الـردّة

لـمّا رأوا مـن فرجٍ وشـدّة

فطلـبوا الإمام حتى خرجا

ثمّ دعـا الله فنـال الفرجا

وعندمـا أراد يدعـو الراهب

وقرب الغيث وفاز الطالب

__________________

(1) الخرائج والجرائح 1 : 422 / 3 ، بحار الأنوار 50 : 260 / 21.

(2) راجع تخريجات الحادثة في آخر الفصل الثاني.

١٣٥

أمر عبده الإمام فأخذ

من يده عظماً فعندهما نبذ

انقشع الغيم وزال المطر

وزال عن دين الإله الخطر

قال الإمام إنه عظم نبيّ

فليس ما رأيتم بعجبِ

إذ كلّما أظهر للسماء

أمطرت الغيث بلا دعاء(1)

وللإمامعليه‌السلام رصيد علمي وعطاء معرفي على صعيد ترسيخ أصول الاعتقاد والأحكام والشرائع ، والتصدي لبعض الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة ، سنأتي إلى ذكره في الفصل السادس باذن الله.

2 ـ العبادة

كان دأب الإمام العسكريعليه‌السلام التوجّه إلى الله تعالى والانقطاع إليه في أحلك الظروف وأشدّها ، فقد كان يحيى الأيام التي أمضاها في السجن بالصيام والصلاة وتلاوة القرآن على رغم التضييق عليه.

قال الموكلون به في سجن صالح بن وصيف : « أنه يصوم النهار ويقوم الليل كلّه لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة »(2) .

وحينما أودع في سجن علي بن جرين ، كان المعتمد يسأله عن أخباره في كلّ وقت ، فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل(3) .

وكانعليه‌السلام معروفاً بطول السجود ، فقد روي عن أحد خدمه المعروف

__________________

(1) إحقاق الحق 12 : 462 ـ 463.

(2) أصول الكافي 1 : 512 / 23 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد 2 : 334.

(3) إثبات الوصية : 252 ، مهج الدعوات : 343 ، بحار الأنوار 50 : 314.

١٣٦

بمحمد الشاكري أنه قال : « كان استاذي أصلح من رأيت من العلويين والهاشميين كان يجلس في المحراب ويسجد ، فأنام وانتبه وأنام وهو ساجد »(1) .

3 ـ الزهد

كان الإمام العسكريعليه‌السلام مثالاً للزهد والاعراض عن زخارف الدنيا وحطامها ، والرغبة فيما أعدّه الله له في دار الخلود من النعيم والكرامة.

قال كامل بن إبراهيم المدني ، وهو أحد أصحابهعليه‌السلام : « لما دخلت على سيّدي أبي محمدعليه‌السلام نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه ، فقلت في نفسي : وليّ الله وحجّته يلبس الناعم من الثياب ، ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله ؟ فقال : متبسماً :يا كامل ـ وحسر عن ذراعية ، فإذا مسح أسود خشن على جلده ـهذا لله وهذا لكم »(2) .

وجاء في حديث خادمه محمد الشاكري « أنهعليه‌السلام كان قليل الأكل ، وكان يحضره التين والعنب والخوخ وما شاكله ، فيأكل منه الواحدة والثنتين ، ويقول :شل هذا يا محمد إلى صبيانك ، فأقول : هذا كلّه ؟ فيقول :خذه »(3) .

4 ـ الكرم والسماحة

كان الإمام العسكريعليه‌السلام معروفاً بالسماحة والبذل ، وهي خصلة بارزة في سيرته وسيرة آبائه المعصومينعليهم‌السلام. قال خادمه محمد الشاكري : « ما رأيت قطّ

__________________

(1) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217 / 179 ، بحار الأنوار 50 : 253.

(2) الغيبة / الشيخ الطوسي : 247 / 216.

(3) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217 / 179.

١٣٧

اسدىٰ منه ». وقال الشيخ الطوسي : « كانعليه‌السلام مع إمامته من أكرم الناس وأجودهم »(1) .

وكانعليه‌السلام يحثّ أصحابه على المعروف ، فقد روى أبو هاشم الجعفري عنهعليه‌السلام أنه قال :« إن في الجنّة باباً يقال له المعروف ، لا يدخله إلا أهل المعروف ، قال : فحمدت الله تعالى في نفسي وفرحت بما أتكلّف به من حوائج الناس ، فنظر إليّ أبو محمدعليه‌السلام فقال :نعم فَدُم على ما أنت عليه ، فإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، جعلك الله منهم يا أبا هاشم ورحمك » (2) .

وسجل الإمام العسكريعليه‌السلام دوراً بارزاً في الانفاق والبذل في سبيل الله وإعانة المعوزين والضعفاء من أبناء المجتمع الاسلامي آنذاك ، رغم حالة الحصار والتضييق الذي مارسته السلطة ضدّه ، وكان مصدر تلك العطاءات والمساعدات الأموال والحقوق الشرعية التي تجلب إليه أو إلى وكلائه من مختلف بقاع الاسلام التى تحتوي على قواعد شعبية تدين بإمامته ، وكان يسدّ بها حاجة ذوي الفاقة على قدر ما يزيل عنهم حالة العوز دون إسراف في العطاء والبذل ، فهوعليه‌السلام يقول :« إن للسخاء مقداراً ، فإن زاد عليه فهو سرف » (3) .

ومن جملة عطاءاته التي سجلتها كتب الحديث ، أنه أعطى علي بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر مائتي درهم للكسوة ، ومائتي درهم للدَّين ، ومائة درهم

__________________

(1) الغيبة / الشيخ الطوسي : 217.

(2) المناقب / لابن شهر آشوب 4 : 464 ، الفصول المهمة 2 : 1082.

(3) بحار الأنوار 78 : 377 / 3.

١٣٨

للنفقة ، وأعطى لابنه محمد بن علي بن إبراهيم مائة درهم في ثمن حمار ، ومائة للكسوة ، ومائة للنفقة(1) .

وشكا إليه أبو هاشم الجعفري الحاجة فأعطاه مرة خمسمائة دينار ، وأرسل إليه مرة اُخرى مائة دينار حينما أخلي سبيله من السجن(2) .

وشكا إليه إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس الفاقة والحاجة ، فأعطاه مائة دينار(3) .

وأعطى برذونه الكميت إلى على بن زيد بن علي بن الحسين بعد موت فرسه(4) ، وأكرمه مائة دينار في ثمن جارية بعد أن ماتت جاريته(5) .

ووهب حمزة بن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين ثلاثمائة دينار ، وكان مصاباً بالشلل ، على رغم عدم قوله بإمامتهعليه‌السلام (6) .

وبعث إلى عمرو بن أبي مسلم خمسين ديناراً على يد محمد بن سنان الصوّاف في ثمن جارية(7) ، وغير ذلك كثير.

* * *

__________________

(1) أصول الكافي 1 : 506 / 3 ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة.

(2) أصول الكافي 1 : 507 / 5 و 508 / 10 من الباب المتقدم.

(3) أصول الكافي 1 : 509 / 14 من الباب المتقدم.

(4) أصول الكافي 1 : 510 / 15 من الباب المتقدم.

(5) بحار الأنوار 50 : 264 / 23.

(6) الثاقب في المناقب : 573 / 520.

(7) بحار الأنوار 50 : 282 / 58 ، عن فرج المهموم لابن طاوُس.

١٣٩
١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274