الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158460 / تحميل: 7002
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وسبىَ نسائهم، فكنَّ اوَّل مسلمات سبين في الإسلام، وقتل أحياءً من بني سعد « ثمَّ أخرج أبو عمرو باسناده من طريق رجلين عن أبي ذر » : انّه دعا وتعوّذ في صلاة صلّاها أطال قيامها وركوعها وسجودها قال: فسئلاه ممَّ تعوَّذتَ؟ وفيمَ دعوتَ؟ قال تعوَّذت بالله من يوم البلاء يدركني، ويوم العورة أن أدركه. فقالا: وما ذاك؟ فقال: أمّا يوم البلاء فتلقى فئتان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضاً، وأمّا يوم العورة فإنّ نساءاً من المسلمات يسبين فيكشف عن سوقهنَّ فأيَّتهنّ كانت أعظم ساقاً اُشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان ولعلّكما تدركانه. فقُتل عثمان ثمَّ أرسل معاوية بُسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساءً مسلمات فأقمن في السّوق.

وفي تاريخ ابن عساكر ٣: ٢٢٠ - ٢٢٤: كان بُسر من شيعة معاوية بن أبي سفيان وشهد معه صفِّين، وكان معاوية وجَّهه إلى اليمن والحجاز في أوّل سنة أربعين، وأمره أن يستقرأ من كان في طاعة عليّ فيوقع بهم، ففعل بمكة والمدينة واليمن أفعالاً قبيحةً وقد ولي البحر لمعاوية. وقتل باليمن ابني عبيد الله بن العبّاس. وقال الدارقطني: انّ بُسراً كانت له صحبة ولم يكن له استقامة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( يعني: أنّه كان من أهل الردّة ).

قال: وروى البخاري في التاريخ: انّ معاوية بعث بُسراً سنة سبع وثلاثين فقدم المدينة فبايع ثمَّ انطلق إلى مكّة واليمن فقتل عبد الرَّحمن وقثم ابني عبيد الله بن عبّاس وفي رواية الزهري: أنَّ معاوية بعثه سنة تسع وثلاثين فقدم المدينة ليبلّغ الناس فأحرق دار زرارة(١) بن خيرون أخي بني عمرو بن عوف بالسوق، ودار رفاعة(٢) ابن رافع، ودار عبد الله(٣) بن سعد من بني الأشهل، ثمّ استمرَّ إلى مكّة واليمن فقتل عبد الرَّحمن بن عبيد، وعمرو(٤) بن امّ إدراكة الثقفي، وذلك انّ معاوية بعثه

____________________

١ - صحابىّ توجد ترجمته فى معاجم الصحابة.

٢ - صحابىّ مترجم له فى المعاجم.

٣ - صحابىّ ترجم له اصحاب فهارس الصحابة.

٤ - صحابىّ مذكور في عدّ الصحابة.

٢١

على ما حكاه ابن سعد ليستعرض الناس فيقتل من كان في طاعة عليّ بن أبي طالب فأقام في المدينة شهراً فما قيل له في أحد: إنَّ هذا ممَّن أعان على عثمان إلّا قتله، وقتل قوماً من بني كعب على مائهم فيما بين مكّة والمدينة وألقاهم في البئر ومضى إلى اليمن.

وقتل من همدان بالجرف من كان مع عليّ بصفين فقتل أكثر من مأتين، وقتل من الأبناء كثيراً وهذا كلّه بعد قتل عليّ بن أبي طالب.

قال ابن يونس: كان عبيد الله بن العبّاس قد جعل ابنيه عبد الرَّحمن وقثم عند رجل من بني كنانة وكانا صغيرين فلمّا انتهى بُسر إلى بني كنانة بعث إليهما ليقتلهما، فلمّا رأى ذلك الكناني دخل بيته فأخذ السيف واشتدَّ عليهم بسيفه حاسراً وهو يقول:

ألليث من يمنع حافات الدار

ولا يزال مصلتاً دون الدار(١)

إلّا فتى أروع غير غدّار

فقال له بُسر: ثكلتك امّك والله ما أردنا قتلك فِلمَ عرضتَ نفسكَ للقتل؟ فقال: اُقتل دون جاري فعسى اُعذر عند الله وعند الناس. فضرب بسيفه حتّى قُتل، وقدّم بُسر الغلامين فذبحهما ذبحاً، فخرج نسوةٌ من بني كنانة فقالت قائلةٌ منهنَّ: يا هذا هؤلاء الرجال قتلت فعلامَ تقتل الولدان؟ والله ما كانوا يُقتلون في الجاهليّة ولا إسلام والله انّ سلطاناً لا يقوم إلّا بقتل الرضَّع الصغيرة والمدره الكبير، وبرفع الرَّحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء فقال لها بُسر: والله لقد هممت أن أضع فيكنَّ السيف. فقالت: تالله انَّها لاُخت التي صنعت، وما أنا بها منك بآمنة.

ثمَّ قالت للنساء اللواتي حولها: ويحكنَّ تفرَّقن.

وفي الإصابة ٣: ٩: عمرو بن عميس قتله بُسر بن ارطاة لمـّا أرسله معاوية للغارة على عمّال عليّ فقتل كثيراً من عمّاله من أهل الحجاز واليمن.

صورة مفصّلة

كان بُسر بن أرطاة(٢) قاسي القلب، فظّاً سفّاكاً للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة

____________________

١ - والصحيح: ولا يزال مصلتاً دون الجار.

٢ - ويقال؟: ابن ابى ارطاة.

٢٢

، فأمره معاوية أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكّة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ إلّا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنّهم لا نجاء لهم، وانّك محيطٌ بهم، ثمَّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة عليّ حيث كانوا.

وفي راوية إبراهيم الثقفي في ( الغارات ) في حوادث سنة اربعين: بعث معاوية بُسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف وقال: سر حتّى تمرّ بالمدينة فاطرد الناس، واخفَّ به مَن مررت به، وانهب اموال كلِّ من أصبت له مالاً ممّن لم يكن له دخلٌ في طاعتنا، فاذا دخلت المدينة فأرهم إنَّك تريد أنفسهم، وأخبرهم إنَّه لا براءة لهم عندك ولا عذر حتى إذا ظنّوا انّك موقع بهم فاكفف عنهم، ثمَّ سر حتى تدخل مكّة ولا تعرض فيها لأحد، وأرحب الناس عنك فيما بين المدينة ومكّة، واجعلها شرودات حتى تأتي صنعاء والجند، فإنَّ لنا بها شيعة وقد جاء في كتابهم.

فخرج بُسر في ذلك البعث مع جيشه وكانوا إذا وردوا ماءً أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر، فيردّون تلك الإبل ويركبون إبل هؤلاء، فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة، فاستقبلتهم قضاعة ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة، وعامل عليّعليه‌السلام عليها أبو أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج عنها هارباً ودخل بُسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهدّدهم يومئذ وتوعّدهم وقال: شاهت الوجوه إنّ الله تعالى ضرب مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنّة يأتيها رزقها رغداً. وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله كان بلدكم مهاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنزله وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربّكم ولم ترعوا حقَّ نبيّكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل ومتربّص وشامت، إن كانت للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم؟ وإن كان للكافرين نصيب، قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟ ثمَّ شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبد الأشهل! أما والله لأوقعنَّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان، أما والله لأدعنَّكم

٢٣

أحاديث كالاُمم السّالفة، فتهدَّدهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلى حُويطب بن عبد العزَّى، ويقال: انّه زوج امّه فصعد إليه المنبر فناشده وقال: عترتك وأنصار رسول الله وليست بقتلة عثمان، فلم يزل به حتى سكن ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ونزل فأحرق دوراً كثيرة منها: دار زرارة بن حرون أحد بني عمرو بن عوف، ودار رفاعة بن رافع الزرقي، ودار أبي أيّوب الأنصاري، وفقد جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: مالي لا أرى جابراً يا بني سلمة؟ لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر. فعاذ جابر بامّ سلمة رضي الله عنها، فأرسلت إلى بُسر بن أرطاة فقال: لا أو منه حتى يبايع فقالت له امّ سلمة: اذهب فبايع، وقالت لابنها عمر: اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه.

وروى من طريق وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لمـَّا خفت بُسراً وتواريت عنه قال لقومي: لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر فأتوني وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك ودماء قومك فانَّك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا وسبيت ذرارينا، فاستنظرتهم الليل فلمّا أمسيت دخلت على امّ سلمة فاخبرتها الخبر فقالت: يا بنيَّ انطلق فبايع احقن دمك ودماء قومك، فانّي قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع، وإنِّي لأعلم انّها بيعة ضلالة.

قال إبراهيم: فأقام بُسر بالمدينة أيّاماً ثمّ قال لهم: إنّي قد عفوت عنكم وإن لم تكونوا لذلك بأهل، ما قومٌ قتل امامهم بين ظهرانيهم بأهل أن يكفّ عنهم العذاب، ولئن نالكم العفو منيّ في الدّنيا انّي لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله عزَّ وجلَّ في الآخرة، وقد استخلفت عليكم أبا هريرة فإيّاكم وخلافه. ثمَّ خرج إلى مكّة.

وروى الوليد بن هشام قال: أقبل بُسر فدخل المدينة فصعد منبر الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ قال: يا أهل المدينة خضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوباً، والله لا أدع في المسجد مخضوباً إلّا قتلته. ثمَّ قال لأصحابه: خذوا بأبواب المسجد وهو يريد أن يستعرضهم فقام إليه عبد الله بن الزبير وأبو قيس أحد بني عامر بن لويّ فطلبا إليه حتى كفّ عنهم وخرج إلى مكّة فلمّا قرب منها هرب قثم بن العباس وكان عامل عليعليه‌السلام

٢٤

ودخلها بُسر فشتم أهل مكّة وأنّبهم ثمَّ خرج عنها واستعمل عليها شيبة بن عثمان.

وروى عوانة عن الكلبي: انَّ بُسراً لمـّا خرج من المدينة إلى مكّة قتل في طريقه رجالاً، وأخذ أموالاً، وبلغ أهل مكّة خبره فتنحَّى عنها عامَّة أهلها، وتراضى الناس بشيبة بن عثمان أميراً لمـّا خرج قثم بن العبّاس عنها، وخرج إلى بُسر قومٌ من قريش فتلقّوه فشتمهم ثمَّ قال: أما والله لو تركت ورأيي فيكم لتركتكم وما فيها روحٌ تمشي على الأرض. فقالوا: ننشدك الله في أهلك وعترتك. فسكت ثمَّ دخل وطاف بالبيت وصلّى ركعتين ثمَّ خطبهم فقال: الحمد لله الذي أعزَّ دعوتنا، وجمع اُلفتنا، وأذلَّ عدوَّنا بالقتل والتشريد، هذا ابن ابي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق قد ابتلاه الله بخطيئته، وأسلمه بجريرته، فتفرَّق عنه أصحابه ناقمين عليه، وولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان، فبايعوا، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا. فبايعوا وفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده وأقام أيّاماً ثمَّ خطبهم فقال: يا أهل مكّة! انّي قد صفحت عنكم فإيّاكم والخلاف، فوالله إن فعلتم لأقصدنَّ منكم إلى التي تبير الأصل، وتحرب المال، وتخرب الديار، ثمَّ خرج إلى الطائف.

قال [ إبراهيم الثقفي ]: ووجّه رجلاً من قريش إلى نبالة وبها قومٌ من شيعة عليّعليه‌السلام وأمره بقتلهم فأخذهم وكلم فيهم وقيل له: هؤلاء قومك فكفَّ عنهم حتّى نأتيك بكتاب من بُسر بأمانهم فحبسهم وخرج منيع الباهلي من عندهم إلى بُسر وهو بالطائف يستشفع إليه فيهم، فتحمّل عليه بقوم من الطائف فكلّموه فيهم وسألوه الكتاب بإطلاقهم فوعدهم ومطلهم بالكتاب حتى ظنَّ انَّه قد قتلهم القرشيُّ المبعوث لقتلهم، وانَّ كتابه لا يصل إليهم حتّى يُقتلوا، ثمَّ كتب لهم فأتى منيع منزله وكان قد نزل على امرأة بالطائف ورحله عندها فلم يجدها في منزلها فوطئ على ناقته بردائه وركب فسار يوم الجمعة وليلة السبت لم ينزل عن راحلته قطّ فأتاهم ضحوة وقد اُخرج القوم ليُقتلوا واستبطئ كتاب بُسر فيهم فقدّم رجلٌ منهم فضربه رجل من أهل الشام فانقطع سيفه فقال الشاميون بعضهم لبعض: شمّسوا سيوفكم حتى تلين فهزّوها وتبصّر منيع الباهلي بريق السيوف، فألمع بثوبه فقال القوم: هذا راكبٌ عنده خبر

٢٥

فكفّوا وقام به بعيره، فنزل عنه وجاء على رجليه يشدُّ فدفع الكتاب اليهم فاُطلقوا، وكان الرّجل المقدَّم الذي ضُرب بالسيف فانكسر السيف أخاه.

قال ابراهيم: وروى علي بن مجاهد عن ابن اسحاق: انَّ اهل مكّة لمـّا بلغهم ما صنع بُسر خافوه وهربوا، فخرج ابنا عبيد الله بن العبّاس وهما: سليمان. وداود. وامّهما حوريّة ابنة خالد بن فارط الكنانيَّة وتكنّى امّ حكيم، وهم حلفاء بني زهرة وهما غلامان مع أهل مكّة فأضّلوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي، وميمون هذا أخو العلاء بن الحضرمي، وهجم عليهما بُسر فأخذهما وذبحهما فقالت امّهما:

ها من أحسَّ بابنيّ اللذين هما

كالدرَّتين تشظّى عنهما الصدفُ(١)

وقد روي انَّ اسمهما: قثم وعبد الرّحمن، وروي: انّهما ضلّا في أخوالهما من بني كنانة، وروي: انّ بُسراً انَّما قتلهما باليمن وانّهما ذُبحا على درج صنعاء وروى عبد الملك بن نوفل عن أبيه: انّ بُسراً لمـّا دخل الطائف وقد كلّمه المغيرة قال له: لقد صدقتني ونصحتني فبات بها وخرج منها وشيّعه المغيرة ساعة ثمَّ ودّعه وانصرف عنه فخرج حتّى مرّ ببني كنانة وفيهم ابنا عبيد الله بن العبّاس وامّهما فلمّا انتهى بُسر إليهم طلبهما، فدخل رجلٌ من بني كنانة، وكان أبوهما أوصاه بهما، فأخذ السيف من بيته وخرج فقال له بُسر: ثكلتك امّك والله ما كنّا أردنا قتلك فِلم عرضت نفسك للقتل؟ قال: اُقتل دون جاري أعذر لي عند الله والناس. ثمّ شدَّ على أصحاب بُسر بالسيف حاسراً وهو يرتجز:

آليت لا يمنع حافات الدار

ولا يموت مصلتاً دون الجار

إلّا فتى أروع غير غدّار

فضارب بسيفه حتى قُتل، ثمَّ قدّم الغلامان فقتلا، فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهنّ: هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان؟ والله ما كانوا يُقتلون في جاهليّة ولا اسلام، والله إنَّ سلطاناً لا يشتدّ إلّا بقتل الرضّع الضعيف، والشيخ الكبير ورفع الرّحمة، وقطع الأرحام، لسلطان سوء، فقال بُسر: والله لهممت أن أضع فيكنَّ

____________________

١ - الى آخر الابيات التي مرت في صفحة ١٧، ١٨.

٢٦

السيف، قالت: والله إنّه لأحبّ إليَّ إن فعلت.

قال إبراهيم: وخرج بُسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان وابنه مالكاً وكان عبد الله هذا صهراً لعبيد الله بن العبّاس ثمَّ جمعهم وقام فيهم، وقال: يا أهل نجران! يا معشر النصارى وإخوان القرود! أمّا والله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودنَّ عليكم بالتي تقطع النسل، وتهلك الحرث، وتخرب الديار، وتهدَّدهم طويلاً ثمَّ سار حتى دخل أرحب فقتل أبا كرب وكان يتشيَّع ويقال: إنَّه سيِّد من كان بالبادية من همدان فقدَّمه فقتله، وأتى صنعاء قد خرج عنها عبيد الله بن العبّاس وسعيد بن نمران، وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن اراكة الثقفي، فمنع بُسراً من دخولها وقاتله فقتله بُسر ودخل صنعاء فقتل منها قوماً، وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلّا رجلٌ واحدٌ ورجع إلى قومه فقال لهم: أنعي قتلانا، شيوخاً وشبّانا.

قال إبراهيم: وهذه الأبيات المشهورة لعبد بن اراكة الثقفي يرثي بها ابنه عمراً:

لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارساً

بصنعاء كالليث الهزبر أبي الأجرِ

تعزَّ فإن كان البكا ردَّ هالكاً

على أحد فاجهد بكاك على عمروِ

ولا تبك ميتاً بعد ميت أحبّة

عليّ وعبّاس وآل أبي بكرِ

قال: ثمَّ خرج بُسر من صنعاء فأتى أهل حبسان وهم شيعة لعليّعليه‌السلام فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم وقتّلهم قتلاً ذريعاً، ثمّ رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأنّ ابني عبيد الله بن العبّاس كانا مستترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج وكان الذي قتل بُسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفاً، وحرَّق قوماً بالنار، فقال يزيد بن مفرغ:

تعلّق من أسماء ما قد تعلّقا

ومثل الذي لاقى من الشوق أرّقا

سقى منفخ الاكناف منبعج الكلى

منازلها من مشرقات فشرَّقا

إلى الشَّرف الأعلى إلى رامهرمز

إلى قربات الشيخ من نهر اربقا

إلى دست مارين إلى الشطّ كله

إلى مجمع السّلّان من بطن دورقا

إلى حيث يرقى من دجيل سفينه

إلى مجمع النهرين حيث تفرّقا

٢٧

إلى حيث سار المرء بُسر بجيشه

فقتّل بُسرٌ ما استطاع وحرَّقا

قال: ودعا عليُّعليه‌السلام على بُسر فقال: أللّهم انَّ بسراً باع دينه بالدنيا، وانتهك محارمك، وكانت طاعة مخلوق فاجر، آثر عنده ممّا عندك، أللّهم فلا تمته حتى تسلبه عقله، ولا توجب له رحمتك، ولا ساعة من نهار، أللّهم العن بُسراً وعمراً ومعاوية، وليحلّ عليهم غضبك، ولتنزل بهم نقمتك، وليصبهم بأسك وزجرك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين. فلم يلبث بُسر بعد ذلك إلّا يسيراً حتّى وسوس وذهب عقله، فكان يهذي بالسيف ويقول: اعطوني سيفاً أقتل به. لا يزال يردِّد ذلك حتى اتّخذ له سيفٌ من خشب، وكانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه فلبث كذلك إلى أن مات(١) .

وفي شرح ابن أبي الحديد ٣: ١٥: روى أبو الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدايني من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلِّ كورة وعلى كلِّ منبر يلعنون عليّاً ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدُّ الناس بلاءً حينئذ اهل الكوفة لكثرة مَن بها من شيعة عليّعليه‌السلام فاستعمل عليهم زياد بن سميّة وضمَّ إليه البصرة فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارفٌ لأنَّه كان منهم أيّام عليّعليه‌السلام فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرَّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروفٌ منهم وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق: أن لا يُجيروا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا مَن قبلكم من شيعة عثمان ومحبِّيه وأهل ولايته والّذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرِّبوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكلِّ ما يروي كلُّ رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلِّ مصروتنا فسوا في المنازل والدّنيا، فليس يجيء أحدٌ

____________________

١ - شرح ابى الحديد ١: ١١٦ - ١٢١.

٢٨

مردودُ من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقرَّبه وشفَّعه فلبثوا بذلك حيناً، ثمَّ كتب إلى عمّاله: انَّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلِّ مصر وفي كلِّ وجه وناحية فإذا جائكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرِّواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأوّلين ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلّا وأتوني بمناقض له في الصّحابة مفتعلة، فإنَّ هذا أحبُّ إليَّ، وأقرُّ لعيني، وأدحض لحجَّة أبي تراب وشيعته، وأشدُّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

ثمَّ كتب إلى عمّاله نسخةً واحدةً إلى جميع البلدان: انظروا إلى مَن أقامت عليه البيّنة انَّه يحبُّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطائه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة اخرى: من اتَّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة حتَّى أنَّ الرجل من شيعة عليّعليه‌السلام ليأتيه مَن يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرَّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يُحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثيرٌ موضوعٌ وبهتانٌ منتشرٌ إلخ.

استخلف زياد على البصرة سمرة بن جندب لمـَّا كتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة فكان زيادٌ يقيم ستَّة أشهر بالكوفة وستَّة أشهر بالبصرة، وسمرة من الّذين أسرفوا في القتل على علم من معاوية بل بأمر منه، أخرج الطبري من طريق محمّد بن سليم قال: سألت أنس بن سيرين: هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يُحصى من قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له معاوية: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت، أو كما قال. قال أبو سوار العدوي: قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن.

وروى باسناده عن عوف قال: أقبل سمرة من المدينة فلمَّا كان عند دور بني أسد خرج رجلٌ من أزقَّتهم ففجأ أوائل الخيل فحمل عليه رجلٌ من القوم فأوجره الحربة قال: ثمَّ مضت الخيل فأتى عليه سمرة بن جندب وهو متشحِّطٌ في دمه فقال: ما هذا

٢٩

؟ قيل: أصابته أوائل خيل الأمير. قال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتَّقوا أسنَّتنا(١) .

أعطى معاوية سمرة بن جندب من بيت المال أربعمائة الف درهم على أن يخطب في أهل الشام بأنَّ قوله تعالى: ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام، وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبُّ الفساد انَّها نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . وانّ قوله تعالى: ومن الناس من يَشري نفسه ابتغاء مرضات الله. نزل في ابن ملجم أشقى مراد(٢) .

وأخرج الطبري من طريق عمر بن شبَّه قال: مات زياد وعلى البصرة سمرة بن جندب خليفةً له، فأقر سمرة على البصرة ثمانية عشر شهراً. قال عمر: وبلغني عن جعفر الضبعي قال: أقرَّ معاوية سمرة بعد زياد ستَّة أشهر ثمَّ عزله فقال سمرة: لعن الله معاوية والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذَّبني أبدا.

وروى من طريق سليمان بن مسلم العجلي قال: سمعت أبي يقول: مررت بالمسجد فجاء رجلٌ إلى سمرة فأدّى زكاة ماله ثمَّ دخل فجعل يصلّي في المسجد فجاء رجلٌ فضرب عنقه فإذا رأسه في المسجد وبدنه ناحية، فمرّ أبو بكرة فقال: يقول الله سبحانه: قد أفلح من تزكىّ وذكر اسم ربِّه فصلّى. قال أبي: فشهدت ذلك فما مات سمرة حتّى أخذه الزمهرير فمات شرّ ميتة. قال: وشهدته واُتي بناس كثير واناسٌ بين يديه فيقول للرجل: ما دينك؟ فيقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانَّ محمّداً عبده ورسوله، وإنِّي بريٌ من الحروريَّة. فيقدَّم فيضرب عنقه حتى مرّ بضعة وعشرون. تاريخ الطبري ٦: ١٦٤.

وفي مقدَّم عمّال معاوية الحاملين عداء سيِّد العترة، المهاجمين على شيعة آل الله بكلِّ قوىً متيسِّرة زياد بن سميَّة، ومن الزائد جدّاً بحثنا عن جرائمه الوبيلة التي حفظها له التاريخ، وأسودَّت بها صفحات تاريخه، ولا بدع وهو وليد البغاء من الأدعياء المشهورين، ربيب حجر سميَّة البغيِّ، والإناء إنَّما يترشَّح بما فيه، والشوك

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٦: ١٣٢.

٢ - شرح ابن ابى الحديدا: ٣٦١.

٣٠

لا يثمر العنب، وقد صدَق النبيُّ الكريم في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السبطين ووالديهما: لا يحبّهم إلّا سعيد الجدِّ طيِّب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدِّ رديّ المولد. وكان السَّلف يبور أولادهم بحبِّ عليّعليه‌السلام فمن كان لا يحبّه علموا انَّه لغير رشدة(١) . فلا تعجب من الدعيِّ ومن كتابه القارص إلى الإمام السبط الحسن الزكيّعليه‌السلام قد شفع إليه في رجل من شيعته. قال ابن عساكر: كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة عليّ بن أبي طالب، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه وطلبه زياد فأتي الحسن بن عليّ فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته وحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن عليّ إلى زياد. أمّا بعد: فإنَّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، فإنّي قد أجرته فشفِّعني فيه. فكتب اليه زياد:

من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة كتبتَ إليَّ في فاسق لا يؤبه به، وشرٌّ من ذلك تولّيه أباك وإيّاك، وقد علمت أنَّك أدنيته إقامةً منك على سوء الرأي ورضي منك بذلك، وأيم الله لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك، فإنَّ أحبَّ لحم إليَّ أن آكل منه أللحم الذي أنت منه، فسلّمه بجريرته إلى مَن هو أولى به منك، فإن عفوتُ عنه لم أكن شفَّعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلّا لحبّه أباك الفاسق، والسَّلام(٢) ، ولمـّا بلغ موته ابن عمر قال: يا ابن سميَّة! لا الآخرة أدركت ولا الدنيا بقيت عليك.

كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرِّضهم على لعن عليّعليه‌السلام - وفي لفظ البيهقي: يحرِّضهم على البرائة من عليّ كرَّم الله وجهه، فملأ منهم المسجد و

____________________

١ - مرت تلكم الاحاديث وستأتى فى مسند المناقب ومرسلها.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١٨، شرح ابن الحديد ٤: ٧، ٧٢.

٣١

الرحبة - فمن أبي ذلك عرضه على السيف. وعن المنتظم لابن الجوزي: انّ زياداً لمـّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، وهمَّ أن يخرب دورهم، ويحمر نخلهم، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البرائة من عليعليه‌السلام وعلم أنّهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم. فذكر عبد الرَّحمن بن السائب قال: اُحضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة من الأنصار، فرأيت شيئاً في منامي وأنا جالسٌ في الجماعة وقد خفقت، وهو انّي رأيت شيئاً طويلاً قد أقبل فقلت: ما هذا؟ فقال: أنا النقّاد ذو الرقبة بُعثت إلى صاحب هذا القصر، فانتبهت فزعاً فما كان إلّا مقدار ساعة حتى خرج خارجٌ من القصر فقال: انصرفوا فإنَّ الأمير عنكم مشغولٌ، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء، وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب:

ما كان منتهياً عمّا أراد بنا

حتى تأتّى له النقّاد ذو الرقبة

فاسقط الشقَّ منه ضربة ثبتت

لمـّا تناول ظلماً صاحب الرحبة(١)

قال الأميني: هلمَّ معي نقرأ هذه الصحائف السوداء المحشوَّة بالمخازي وشية العار، المملوَّة بالموبقات والبوائق، فننظر هل في الشريعة البيضاء، أو في نواميس البشريَّة، أو في طقوس العدل مساغُ لشيء منها؟ دع ذلك كلّه هل تجد في عادات الجاهليّة مبرِّراً لشيء من تلكم الهمجيَّة؟ وهل فعل اولئك الأشقياء الأشدّاء في أيّامهم المظلمة فعلاً يربو مخاريق ابن هند؟ لا. وإنّك لا تسمع عن أحد ممّن يحمل عاطفةً إنسانيّةً ولا أقول ممّن يعتنق الدين الحنيف فحسب يستبيح شيئاً من ذلك، أو يحبِّذ مخزاتاً من تلكم المخازي، وهل تجد معاوية وهذه جناياته من مصاديق قوله تعالى:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْکُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُکَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) الآية؟(٢) . فهل ترى ابن أبي سفيان خارجاً عنهم؟ فليس هو من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ممّن معه، ولا رحيماً بهم، أو أنَّ من ناواه وعاداه وسبّه وآذاه وقتله وهتكه خارجون عن ربقة الإسلام؟

____________________

١ - مروج الذهب ٢: ٦٩، المحاسن والمساوى للبيهقى ١: ٣٩، قال المسعودى والبيهقى: صاحب الرحبة هو على بن أبى طالب، شرح ابن ابى الحديد ١: ٢٨٦ نقلا عن ابن الجوزى.

٢ - سورة الفتح ٢٩.

٣٢

فهو شديدٌ عليهم وهم خيرةُ اُمّة محمّد المسلمة، تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا. فالحكم للنصفة لا غيرها.

كأنَّ هاهنا نسيت ثارات عثمان وعادت تبعة اولئك المضطهدين محض ولاء عليّ امير المؤمنينعليه‌السلام وقد قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله، وحبّهم لمن يحبّه الله ورسوله، وطاعتهم لمن فرض الله طاعته، وودّهم من جعل الله ودَّه أجر الرِّسالة. فلم يقصد معاوية وعمّاله أحداً بسوء إلّا هؤلاء، فطفق يرتكب منهم ما لا يُرتكب إلّا من أهل الردَّة والمحادَّة لله ولرسوله. فكان الطريد اللعين ابن الطريد اللعين مروان، وأزني ثقيف مغيرة بن شعبة، واُغيلمة قريش الفسقة في أمنٍ ودعة، وكان يولِّي لأعماله الزعانفة الفجرة أعداء أهل بيت الوحي: بُسر بن أرطاة، ومروان بن الحكم، ومغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، وعبد الله الفزاري، وسفيان بن عوف، والنعمان بن بشير، والضحاك بن قيس، وسمرة بن جندب، ونظرائهم، يستعملهم على عباد الله وهو يعرفهم حقَّ المعرفة ولا يبالي بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تولّى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أنَّ فيهم من هو أولى بذلك وأعلم بكتاب الله وسنَّة رسوله فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين(١) . فكانوا يقترفون السيِّئات، ويجترحون المآثم بأمر منه ورغبة، ولم تكن عنده حريجة من الدين تزعه عن تلكم الجرائم، فأمر بالإغارة على مكّة المكرَّمة وقد جعلها الله بلداً آمناً يأمن من حلَّ بها وإن كان كافراً، ولأهلها وطيرها ووحشها ونباتها حرمات عند الله، وهي التي حقنت دم أبي سفيان ومن على شاكلته من حامل ألوية الكفر والإلحاد، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرعاها كلَّ الرعاية يوم الفتح وغيره، فما عامل أهلها هو وجيشه الفاتح إلّا بكلِّ جميل، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنَّ هذا بلد حرم الله يوم خلق السَّموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنّه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلّا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلّا من عرفها ولا يختلى خلاها(٢) .

____________________

١ - مجمع الزوائد ٥: ٢١١.

٢ - صحيح البخاري: باب لا يحل القتال بمكة ٣: ١٦٨، صحيح مسلم ٤: ١٠٩.

٣٣

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ مكّة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس، فلا يحلُّ لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فان أحدٌ ترخّص لقتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقولوا له: إنّ الله أذن لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يأذن لكم، وإنَّما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشاهد الغائب(١) .

وأمر ابن هند بالإستحواذ على مدينة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخافة أهلها والوقيعة فيهم واستقراء من يوجد فيها من شيعة عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه وللمدينة المنوَّرة في الإسلام حرمتها الثابتة، ولنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها قوله الصّادق: ألمدينة حرمٌ ما بين عائر إلى كذا، مَن أحدث فيها حدثاً(٢) أو آوى حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ذمَّة المسلمين واحدةٌ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يكيد أهل المدينة أحدٌ إلّا انماع كما ينماع الملح في الماء(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يريد أحدٌ أهل المدينة بسوء إلّا أذابه الله في النار ذوب الرّصاص أو ذوب الملح في الماء(٥) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللهمَّ إنّ إبراهيم حرَّم مكّة فجعلها حرماً وإنِّي حرَّمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دمٌ، ولا يحمل فيها سلاحٌ لقتال، ولا تخبط فيها شجرةٌ إلّا لعلف(٦) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أهل هذه البلدة بسوء ( يعني المدينة ) أذابه الله كما

____________________

١ - صحيح البخارى: باب لا يعضد شجر الحرم ٣: ١٦٧.

٢ - قال القاضي عياض: معنى قوله: من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثا. الخ. من أتى فيها إثماً أو آوى من أتاه.

٣ - صحيح البخارى ٣: ١٧٩، صحيح مسلم ٤: ١١٤، ١١٥، ١١٦، مسند أحمد ١: ٨١، ١٢٦، ١٥١، ج ٢: ٤٥٠، سنن البيهقى ٥: ١٩٦، سنن أبى داود ١: ٣١٨.

٤ - صحيح البخارى ٣: ١٨١.

٥ - صحيح مسلم ٤: ١١٣.

٦ - صحيح مسلم ٤: ١١٧، سنن ابى داود ١: ٣١٨، واللفظ لمسلم.

٣٤

يذوب الملح في الماء. وفي لفظ سعد: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله. الخ(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المدينة حرمٌ من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدثٌ، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما جبّار أراد المدينة بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء. وفي لفظ: من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه الطبراني برجال الصحيح: أللّهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخاف اهل المدينة أخافه الله يوم القيامة، وغضب عليه، ولم يقبل منه صرفاً ولا عدلا(٥) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه النسائي: من أخاف اهل المدينة ظالماً لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله(٦) . وفي لفظ ابن النجار: من أخاف اهل المدينة ظلماً أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيَّ. أخرجه أحمد في مسنده ٣: ٣٥٤ بالاسناد عن جابر بن عبد الله: إنَّ أميراً من اُمراء الفتنة قدم المدينة وكان قد ذهب بصر جابر فقيل لجابر: لو تنحّيت عنه فخرج يمشي بين ابنيه فنكب فقال: تعس من أخاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال ابناه أو أحدهما: يا أبت! وكيف أخاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مات؟ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من أخاف. الحديث.

____________________

١ - صحيح مسلم ٤: ١٢١، ١٢٢.

٢ - صحيح البخارى ٣: ١٧٨، سنن البيهقى ٥: ١٩٧.

٣ - وفاء الوفاء للسمهودى ١: ٣١.

٤ - وفاء الوفاء ١: ٣١ وصححه.

٥ - وفاء الوفاء ١: ٣١، فيض القدير ٦: ٤٠.

٦ - وفاء الوفاء ١: ٣١.

٣٥

قلت: الأمير المشار اليه هو بُسر بن أرطاة كما في وفاء الوفاء للسمهودي ١: ٣١ وصحّح الحديث.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه الطبراني في الكبير: من آذى أهل المدينة آذاه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل. وفاء الوفاء ١: ٣٢.

نعم: إنَّ بُسراً لم يلو إلى شيىء من ذلك وإنَّما اؤتمر بما سوَّل له معاوية من هتك الحرمات بقتل الرِّجال، وسبي النساء، وذبح الأطفال، وهدم الديار، وشتم الأعراض، وما رعي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاً ولا ذمَّةً في مجاوري حرم أمنه، وساكني حماه المنيع فخفر ذمَّته كما هتك حرمته، واستخفَّ بجواره، وآذاه باباحة حرمه حرم الله تعالى،( وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‌ ) (١) ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ ) (٢) فيالها من جرأة تقحمَّ صاحبها في المحادَّة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه القويم.

كما أنَّ يزيد كان يحذو حذو أبيه في جرائمه الوبيلة وشنِّ الغارة على أهل المدينة المشرَّفة، وبعث مسلم بن عقبة الهاتك الفاتك إلى هتك ذلك الجوار المقدَّس بوصيَّة من والده الآثم قال السمهودي في وفاء الوفاء ١: ٩١:

وأخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بنت أسماء: سمعت أشياخ المدينة يتحدَّثون: انّ معاوية رضي الله عنه لمـّا احتضر دعا يزيد فقال له: إنَّ لك من أهل المدينة يوماً فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنّي عرفت نصيحته. فلمّا ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم فرجع فحرَّض الناس على يزيد وعابه و دعاهم إلى خلع يزيد فأجابوه فبلغ ذلك يزيد فجهَّز اليهم مسلم بن عقبة. الخ.

وأخرجه البلاذري في أنساب الأشراف ٥: ٤٣ بلفظ أبسط من لفظ السمهودي.

____________________

١ - سورة التوبة: ٦١.

٢ - سورة الاحزاب: ٥٧.

٣٦

معاوية

وحجر بن عدى واصحابه

إنّ معاوية استعمل مغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين فلمّا أمَّره عليها دعاه وقال له: أمّا بعد: فإنَّ لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. وقد قال المتلمس:

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا

وما علّم الإنسان إلّا ليعلما

وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت ايصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها إعتماداً على بصرك بما يرضيني، ويسعد سلطاني، ويصلح رعيَّتي، ولست تارك ايصاءك بخصلة: لا تقهم عن شتم عليّ وذمِّه. والترحّم على عثمان والإستغفار له، و العيب على أصحاب عليّ والإقصاء لهم، وترك الإستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والإدناء لهم، والإستماع منهم. فقال المغيرة: قد جرَّبت وجُرِّبت و عملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي رفعٌ ولا وضعُ، فستبلو فتحمد أو تذمّ. ثمّ قال: بل نحمد إن شاء الله. فأقام المغيرة عاملاً على الكوفة سبع سنين وأشهراً وهو من أحسن شيء سيرة وأشدّه حبّاً للعافية، غير أنّه لا يدع شتم عليّ والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرَّحمة والإستغفار له والتزكية لأصحابه، فكان حُجر بن عديّ إذا سمع ذلك قال: بل ايّاكم فذمّ الله ولعن ثمَّ قام وقال: إنَّ الله عزّ وجلّ يقول: كونوا قوّامين بالقسط شهداء الله، وأنا أشهد أنَّ من تذمُّون وتعيرون لأحقُّ بالفضل، وأنَّ من تزكّون وتطرون أولى بالذمِّ. فيقول له المغيرة: يا حُجر! لقد رمي بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك، يا حُجر! ويحك اتّق السّلطان، اتّق غضبه وسطوته، فإنَّ غضب السّلطان أحيانا ممّا يُهلك أمثالك كثيراً، ثمّ يكفُّ عنه ويصفح، فلم يزل حتى كان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في عليّ وعثمان كما كان يقول وكانت مقالته. اللّهمَّ ارحم عثمان بن عفان، وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله، فانّه عمل بكتابك واتّبع سنّة نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجمع كلمتنا، وحقن دمائنا، وقتل مظلوماً(١) ، اللّهم فارحم أنصاره وأوليائه ومحبّيه والطالبين

____________________

١ - هذه كلها تخالف ما هو الثابت المعلوم من سيرة عثمان كما فصلنا القول فيها فى الجزء الثامن والتاسع.

٣٧

بدمه. ونال من عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ولعنه ولعن شيعته، فوثب حُجر فنعر نعرةً أسمعت كلّ من كان في المسجد وخارجه وقال: إنّك لا تدري بمن تولع من هرمك أيّها الانسان! مُر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنّك قد حبستها عنّا ولم يكن ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك، وقد أصبحت مولعاً بذمِّ أمير المؤمنين، وتقريظ المجرمين. فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حُجر وبرّ، مُر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنّا لا ننتفع بقولك هذا ولا يُجدي علينا شيئاً. وأكثروا في مثل هذا القول، فنزل المغيرة فدخل القصر فاستأذن عليه قومه فأذن لهم فقالوا: علامَ تترك هذا الرّجل يقول هذه المقالة و يجتري عليك في سلطانك هذه الجرأة؟ فيوهن سلطانك، ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية، وكان أشدُّهم له قولاً في أمر حُجر والتعظيم عليه عبد الله بن أبي عقيل الثقفي، فقال لهم المغيرة: إنِّي قد قتلته إنّه سيأتي أميرٌ بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أوَّل وهلة فيقتله شرَّ قتلة، انّه قد اقترب أجلي، وضعف عملي، ولا اُحبّ أن ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم، فيسعدوا بذلك و أشقى، ويعزّ في الدنيا معاوية، ويذلّ يوم القيامة المغيرة.

ثمَّ هلك المغيرة سنة ٥١ فجمعت الكوفة والبصرة لزياد ( ابن سميّة ) فأقبل زياد حتى دخل القصر بالكوفة ووجّه إلى حُجر فجاءه، وكان له قبل ذلك صديقاً فقال له: قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك وإنّي والله لا أحتملك على مثل ذلك أبدا، أرأيت ما كنت تعرفني به من حبّ عليّ وودّه، فإنّ الله قد سلخه من صدري فصيّره بغضاً وعداوة، وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فإنّ الله قد سلخه من صدري وحوَّله حبّاً ومؤدّة، وانّي أخوك الذي تعهد، إذا أتيتني وأنا جالسٌ للناس فاجلس معي على مجلسي، وإذا أتيت ولم اجلس للناس فاجلس حتّى أخرج إليك، ولك عندي في كلِّ يوم حاجتان: حاجة غدوة، وحاجة عشيّة، انّك إن تستقم تسلم لك دنياك ودينك، وإن تأخذ يميناً وشمالاً تهلك نفسك، وتشطُّ عندي دمك، انّي لا اُحبُّ التنكيل قبل التقدمة، ولا آخذ بغير حجّة، اللّهمّ اشهد. فقال حُجر: لن يرى الإمير منّي إلّا ما يُحبّ وقد نصح وأنا قابلٌ نصيحته. ثمَّ خرج من عنده.

٣٨

ولمـّا ولي زياد جمع أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من عليّ(١) فقام في الناس وخطبهم ثمّ ترحَّم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه، فقام حُجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة، وكان زياد يقيم ستَّة أشهر في الكوفة وستَّة أشهر في البصرة فرجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث فبلغه انّ حُجراً يجتمع إليه شيعة عليّ ويظهرون لعن معاوية والبرائة منه، وانّهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها فأتى القصر فدخله ثمّ خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خزّ أخضر قد فرق شعره وحجرٌ جالسُ في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا فصعد المنبر وخطب وحذّر الناس وقال: أما بعد: فإنّ غبَّ البغي والغيِّ وخيمٌ، إنَّ هؤلاء جمّوا فأشروا، وامنوني فاجترؤا على الله لئن لم تستقيموا لاُداوينَّكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع باحة الكوفة من حُجر، وأدعه نكالاً لمن بعده، ويل امّك يا حجر! سقط العشاء بك على سرحان.

ثمّ قال لشدّاد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط: اذهب فأتني بحُجر فذهب إليه فدعاه فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة فسبّوا الشرط فرجعوا إلى زياد فأخبروه، فقال: يا أشراف أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون باُخرى؟ أبدانكم عندي وأهواءكم مع هذا الهجاجة المذبوب(٢) . وفي الكامل: أبدانكم معي وقلوبكم مع حُجر الأحمق. و الله ليظهرنَّ لي براءتكم أو لآتينّكم بقوم اقيم بهم أودكم وصعركم. فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأيٌ إلّا طاعتك وما فيه رضاك. قال: فليقم كلُّ رجل منكم فليدعُ من عند حُجر من عشيرته وأهله ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه، وقال زياد لصاحب شرطته: انطلق إلى حُجر فإن تبعك فأتني به وإلّا فشدّوا عليهم بالسيوف حتّى تأتوني به. فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته فحمل عليهم فقال أبو العمرطة الكندي لحجر: انَّه ليس معك رجلُ معه سيفٌ غيري فما يغني سيفي؟ قم فألحق بأهلك يمنعك قومك. فقام وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر وغشيهم أصحاب زياد فضرب رجلٌ من

____________________

١ - تاريخ ابن عساكره: ٤٢١.

٢ - فى لفظ الطبرى: الهجهاجة الاحمق المذبوب.

٣٩

الحمراء يقال له: بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع وحمله رجلان من الأزد وأتيا به دار رجل يقال له: عبيد الله بن موعد الأزدي، وضرب بعض الشرطة يد عائذ بن حملة التميمي وكسر نابه، وأخذ عموداً من بعض الشرط فقاتل به وحمى حُجراً وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة.

مضى حُجر وأبو العمرطة إلى دار حُجر واجتمع إليهما ناسٌ كثيرٌ ولم يأته من كندة كثير أحد فأرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان إلى جبَّانة كندة وأمرهم أن يأتوه بحُجر، وأرسل سائر أهل اليمن إلى جبَّانة الصائدين وأمرهم أن يمضوا إلى صاحبهم حُجر فيأتوه به، ففعلوا فدخل مذحج وهمدان إلى جبّانة كندة فأخذوا كلَّ من وجدوا، فأثنى عليهم زياد فلمّا رأى حُجر قلّة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم: لا طاقة لكم بمن قد اجتمع عليكم وما اُحبّ أن تهلكوا، فخرجوا فأدركهم مذحج و همدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون فأخذ حُجر طريقاً إلى بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال: له سليم بن يزيد، وأدركه الطلب فأخذ سليم سيفه ليقاتل فبكى بناته فقال حُجر: بئسما أدخلت على بناتك إذا قال: والله لا تؤخذ من داري أسيراً ولا قتيلاً وأنا حي، فخرج حُجر من خوخة في داره فأتى النخع فنزل دار عبد الله بن الحرث أخي الأشتر فأحسن لقاءه فبينما هو عنده إذ قيل له: إنّ الشرط تسأل عنك في النخع. وسبب ذلك انَّ أمة سوداء لقيتهم فقالت: من تطلبون؟ فقالوا: حُجر بن عدي. فقالت: هو في النخع. فخرج حُجر من عنده فأتى الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجد فلمّا أعياهم طلبه دعا زياد محمّد بن الأشعث وقال له: والله لتأتيني به أو لأقطعنَّ كلَّ نخلة لك وأهدم دورك، ثمَّ لا تسلم منّي حتّى اُقطِّعك إرباً إربا. فاستمهله فأمهله ثلاثاً واُحضر قيس بن يزيد أسيراً فقال له زياد: لا بأس عليك قد عرفت رأيك في عثمان وبلاءك مع معاوية بصفّين وإنّك إنّما قاتلت مع حُجر حميَّة وقد غفرتها لك ولكنّي ائتني بأخيك عُمير. فاستأمن له منه على ماله ودمه فأمنه فأتاه به وهو جريحٌ فأثقله حديداً وأمر الرِّجال أن يرفعوه ويلقوه ففعلوا به ذلك مراراً فقال قيس بن يزيد لزياد: ألم تؤمنه؟ قال: بلى قد أمنته على دمه ولست اُهريق له دماً، ثمَّ ضمنه وخلّى سبيله.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وأما سجود يعقوب لولده فإن السجود لم يكن ليوسف، وإنما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله تعالى وتحية ليوسف، كما أن السجود من الملائكة لم يكن لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله تعالى بإجماع الشمل. ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ الآية.

وأما قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ ، فإن المخاطب بذلك رسول الله (ص) ولم يكن في شك مما أنزل الله إليه، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث نبياً من الملائكة؟ ولمَ لمْ يفرق بينه وبين الناس في الإستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق؟ فأوحى الله إلى نبيه: فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ، بمحضر من الجهلة، هل بعث الله نبياً قبلك إلا وهو يأكل الطعام والشراب، ولك بهم أسوة يا محمد، وإنما قال: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ، ولم يكن، للنصفة كما قال: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ. ولوقال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم، لم يكونوا يجيبوا إلى المباهلة، وقد علم الله أن نبيه مؤدٍّ عنه رسالته، وما هومن الكاذبين، وكذلك عرف النبي (ص) بأنه صادق فيما يقول، ولكن أحب أن ينصف من نفسه.

وأما قوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية، فهوكذلك لوأن أشجار الدنيا أقلام والبحر مدادٌ يمده سبعة أبحر مداً، حتى انفجرت الأرض عيوناً، كما انفجرت في الطوفان، ما نفدت كلمات الله ..

٢٤١

وأما الجنة ففيها من المأكل والمشرب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأباح الله ذلك لآدم. والشجرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد، عهد الله إليهما أن لا ينظر إلى من فضله الله عليهما، والى خلائقه بعين الحسد، فنسي ولم يجد له عزماً.

وأما قوله: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، فإن الله تعالى زوج الذكران المطيعين، ومعاذ الله أن يكون الجليل العظيم عنى ما لَبَّسْتَ على نفسك، تطلب الرخص لارتكاب المحارم! وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إن لم يتب. ( وكان ابن أكثم مشهوراً باللواط )!

فأما قول شهادة امرأة وحسدها التي جازت، فهي القابلة التي جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضاً فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها. فأما قول علي (ع) في الخنثى فهوكما قال: يرث من المبال، وينظر إليه قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة، ويقوم الخنثى خلفهم عريانة، وينظرون إلى المرآة، فيرون الشئ ويحكمون عليه.

وأما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة، فإن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها الإمام نصفين وساهم بينهما، فإن وقع السهم على أحد القسمين، فقد أقسم النصف الآخر، ثم يفرق الذي وقع عليهم السهم نصفين

٢٤٢

ويقرع بينهما، فلا يزال كذلك حتى تبقى اثنتان، فيقرع بينهما، فأيتهما وقع السهم عليها ذبحت وأحرقت، وقد نجا سايرهما.

وأما قول أمير المؤمنين (ع): بشِّر قاتل ابن صفية بالنار، لقول رسول الله (ص). وكان ممن خرج يوم النهروان فلم يقتله أمير المؤمنين بالبصرة، لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان. وأما قولك: إن علياً قاتل أهل صفين مقبلين ومدبرين، وأجهز على جريحهم وإنه يوم الجمل لم يتبع مولياً ولم يجهز على جريحهم، وكل من ألقى سيفه وسلاحه آمنه، فإن أهل الجمل قتل إمامهم ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير متحاربين ولا محتالين ولا متجسسين ولا متبارزين، فقد رضوا بالكف عنهم، وكان الحكم فيه رفع السيف والكف عنهم، إذ لم يطلبوا عليه أعواناً.

وأهل صفين يرجعون إلى فئة مستعدة، وإمام منتصب، يجمع لهم السلاح من الرماح والدروع والسيوف، ويستعد لهم، ويسنى لهم العطاء، ويهئ لهم الأموال، ويعقب مريضهم، ويجبر كسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسوحاسرهم، ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم، فإن الحكم في أهل البصرة الكف عنهم، لما ألقوا أسلحتهم إذ لم تكن لهم فئة يرجعون إليها، والحكم في أهل صفين أن يتبع مدبرهم ويجهز على جريحهم، فلا يساوي بين الفريقين في الحكم.

ولولا أمير المؤمنين وحكمه في أهل صفين والجمل لما عرف الحكم في عصاة أهل التوحيد، فمن أبى ذلك عرض على السيف. وأما الرجل الذي أقر باللواط، فإنه أقر بذلك متبرعاً من نفسه ولم تقم عليه بينة ولا أخذه سلطان، وإذا كان الإمام الذي من الله أن يعاقب في الله، فله أن يعفو في الله. أما سمعت الله يقول لسليمان: هذا عطاؤنا فامنن أوامسك بغير، فبدأ بالمن قبل المنع.

٢٤٣

فلما قرأ ابن أكثم قال للمتوكل: ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شئ بعد مسائلي هذه، وإنه لا يرد عليه شئ بعدها إلا دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة »!

ردَّ الإمام الهادي (ع) تفسير المجسمة للمقام المحمود

قال الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا. وقال الإمام الصادق (ع) في تفسيرها، قال رسول الله (ص): « إذا قمتُ المقام المحمود تشفعتُ في أصحاب الكبائر من أمتي، فيُشَفِّعُنِي الله فيهم. والله لا تشفعتُ فيمن آذى ذريتي ». « أمالي الصدوق / ٣٧٠ ».

وروى غيرنا أيضاً أن المقام المحمود هوشفاعة النبي (ص) لأمته، كما في مسند أحمد بن حنبل « ٢ / ٤٤١ » والبخاري « ٥ / ٢٢٨ ». وفسر بعض المشبهة المقام المحمود بأنَّ الله تعالى يُقعد النبي (ص) معه على العرش!

قال ابن عبد البر في التمهيد « ١٩ / ٦٤ »: « روي عن مجاهد أن المقام المحمود أن يقعده معه يوم القيامة على العرش، وهذا عندهم منكر في تفسير هذه الآية.

والذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين، أن المقام المحمود هوالمقام الذي يشفع فيه لأمته. وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك، فصار إجماعاً في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة ».

لكن رواية مجاهد أعجبت جماعة المتوكل فتبنوها، مع أنها ضعيفة السند، لأن راويها ليث بن أبي سليم اختلط وخرف!

٢٤٤

ولم يقف مجسمة الحنابلة عند قبولها فقط، بل جعلوها التفسير الوحيد للمقام المحمود، وجعلوا تفسيره بغير ذلك كفراً!

قال الخلال الحنبلي في كتابه: السنة « ١ / ٢١٥ »: « قال أبوبكر بن أبي طالب: من رده فقد رد على الله عز وجل »!

وجعل جماعة ابن صاعد ذلك شعراً، وجماعة أبي بكر المروذي، تلميذ ابن حنبل، وأخذوا يفرضونه على العلماء الذين يأتون الى بغداد!

قال الصفدي في الوافي « ٢ / ٢١٣ »: « لما قدم « الطبري » من طبرستان إلى بغداد تعصب عليه أبوعبد الله ابن الجصاص وجعفر ابن عرفة والبياضي. وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل يوم الجمعة في الجامع، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبوجعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يُعَدُّ خلافه. فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الإختلاف، فقال: ما رأيته رويَ عنه، ولا رأيت له أصحاباً يُعَوَّل عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحالٌ. ثم أنشد:

سبحانَ من ليس لهُ أنيسُ

ولا لَهُ في عَرشِهِ جليسُ

فلما سمعوا ذلك وثبوا ورموه بمحابرهم، وقد كانت ألوفاً، فقام بنفسه ودخل داره، فردموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتلِّ العظيم!

وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه إلى الليل، وأمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كتب على بابه البيت المتقدم، فأمر نازوك بمحوذلك، وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:

لأحمد منزلٌ لا شكَّ عالٍ

إذا وافى إلى الرحمن وافدْ

فيُدنيه ويُقعده كريماً

على رغمٍ لهم في أنفِ حاسد

٢٤٥

على عرشٍ يُغلِّفُهُ بطيبٍ

على الأكبار يا باغٍ وعانِد

إلا هذا المقام يكون حقاً

كذاك رواهُ ليثٌ عن مجاهد

فخلا في داره، وعمل كتاب المشهور في الإعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم وفَضَّلَ أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده، ولم يخرج كتابه في الإختلاف حتى مات، فوجدوه مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه »!

ومعنى قول الطبري: أما أحمد بن حنبل فلا يُعَدُّ خلافه، أنه ليس من الفقهاء الذي يحسب له حساب إذا خالف فتوى الآخرين.

فثاروا عليه بوحشية، كما نرى في ثورة الوهابية على من خالفهم! فخضع الطبري وألف كتاباً ضد عقيدته، وتقرب به الى مجسمة الحنابلة!

ثم ألف كتاباً ضدهم سماه الرد على الحرقوصية، بعد أن خفت موجتهم.

ويظهر أن المجسمة في بغداد كانوا قلة لكنهم شريرون يخشاهم عوام المسلمين!

قال ابن كثير في النهاية « ١١ / ١٨٤ »: « وفيها « سنة ٣١٧ » وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي وبين طائفة من العامة، اختلفوا في تفسير قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً ، فقالت الحنابلة: يجلسه معه على العرش. وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى، فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل بينهم قتلى ».

وتبنى ابن تيمية رأي مجسمة الحنابلة فقال: « حدَّث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون، أن محمداً رسول الله (ص) يجلسه ربه على العرش معه »!

٢٤٦

وزعم أنه يبقى من العرش أربع أصابع! « مجموعة الفتاوى: ٤ / ٣٧٤ و ١٦ / ٤٣٨ ».

أما أهل البيت (ع) فكان موقفهم ثابتاً بأن المقام المحمود الشفاعة، وأن الله تعالى منزه عن الجسمية والجلوس، وكان الإمام الهادي (ع) يؤكد هذه العقيدة:

ففي أمالي الطوسي / ٢٩٨، عن الإمام الهادي (ع) عن جده أمير المؤمنين (ع) قال: « سمعت النبي (ص) يقول: إذا حشر الناس يوم القيامة ناداني منادٍ يا رسول الله إن الله جل اسمه قد أمكنك من مجازاة محبيك، ومحبي أهل بيتك، الموالين لهم فيك، والمعادين لهم فيك، فكافئهم بما شئت. وأقول: يا رب الجنة، فأبوؤهم منها حيث شئت، فذلك المقام المحمود الذي وعدتُ به ».

تكريم الإمام لعالم مناظر وإفحامه العباسيين

في الإحتجاج « ٢ / ٢٥٩ »: « اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري (ع): أن رجلاً من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب، فأفحمه بحجته حتى أبان عن فضيحته، فدخل إلى علي بن محمد (ع) وفي صدر مجلسه دستٌ ( كالفراش ) عظيم منصوبٌ وهوقاعد خارج الدست، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست، وأقبل عليه.

فاشتد ذلك على أولئك الأشراف، فأما العلوية فأجلُّوه عن العتاب، وأما الهاشميون « العباسية » فقال له شيخهم: يا ابن رسول الله، هكذا تؤثر عامياً على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين! فقال (ع): إياكم أن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب

٢٤٧

الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون. أترضون بكتاب الله حكماً؟ قالوا: بلى.

قال: أليس الله يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم إلى قوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات . فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن.

أخبروني عنه قال: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات؟ أوقال: يرفع الذين أوتوا شرف النسب درجات؟ أوليس قال الله: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله! إن كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها لأفضل له من كل شرف في النسب.

فقال العباسي: يا ابن رسول الله قد أشرفت علينا، هوذا تقصير بنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه فيه. فقال (ع): سبحان الله، أليس عباس بايع أبا بكر وهو تيميٌّ والعباس هاشمي؟ أوليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب، وهوهاشمي أبوالخلفاء، وعمر عدوي! وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكراً، فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز. فكأنما ألقم الهاشمي حجراً »!

٢٤٨

عالمٌ يعرض عقيدته على الإمام الهادي (ع)

روى الصدوق (قدس سره) في التوحيد / ٨١: « عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، فلما بصر بي قال لي: مرحباً بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقاً، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً أثبتُ عليه حتى ألقى الله عز وجل.

فقال: هات يا أبا القاسم، فقلت: إني أقول إن الله تبارك وتعالى واحد، ليس كمثله شئ، خارجٌ عن الحدين: حد الإبطال وحد التشبيه، وإنه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هومُجسم الأجسام، ومُصور الصور، وخالق الأعراض والجواهر، ورب كل شئ ومالكه، وجاعله ومحدثه، وإن محمداً عبدُه ورسوله، خاتم النبيين، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة.

وأقول إن الإمام والخليفة وولي الأمر من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم أنت يا مولاي. فقال (ع): ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده، قال فقلت: وكيف ذاك يا مولاي؟ قال: لأنه لايرى شخصه، ولا يحل ذكره باسمه، حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

٢٤٩

قال فقلت: أقررتُ. وأقول إن وليهم ولي الله، وعدوهم عدوالله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله. وأقول: إن المعراج حق، والمسألة في القبر حق، وإن الجنة حق، وإن النار حق، والصراط حق، والميزان حق، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله يبعث من في القبور.

وأقول: إن الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال علي بن محمد (ع): يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه، ثبتك الله بالقول الثابت، في الحياة الدنيا وفي الآخرة ».

محاولة ابن تيمية التشكيك بفضائل الإمام الهادي (ع)

أورد العلامة الحلي (رحمه الله) في كتابه منهاج الكرامة ترجمة مختصرة للإمام الهادي (ع) فتصدى ابن تيمية لردها والتنقيص من الإمام (ع) مهما كلفه الأمر!

قال ابن تيمية في منهاجه « ٤ / ٧٥ »: « قال الرافضي: وكان ولده علي الهادي (ع) ويقال له العسكري، لأن المتوكل أشخصه من المدينة إلى بغداد، ثم منها إلى سر من رأى، فأقام بموضع عندها يقال له العسكر، ثم انتقل إلى سر من رأى، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر. وإنما أشخصه المتوكل لأنه كان يبغض علياً فبلغه مقامُ علي بالمدينة وميلُ الناس إليه فخاف منه فدعا يحيى بن هبيرة « هرثمة »، وأمره بإحضاره فضج أهل المدينة لذلك خوفاً عليه لأنه كان محسناً إليهم ملازماً

٢٥٠

للعبادة في المسجد، فحلف يحيى أنه لا مكروه عليه، ثم فتش منزله فلم يجد فيه سوى مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عينه، وتولى خدمته بنفسه.

فلما قدم بغداد بدأ بإسحاق بن إبراهيم الطائي « الطاهري » والي بغداد فقال له: يا يحيى هذا الرجل قد ولده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتوكل من تعلم فإن حرضته عليه قتله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك يوم القيامة. فقال له يحيى: والله ما وقفت منه إلا على خير. قال فلما دخلت على المتوكل أخبرته بحسن سيرته وورعه وزهده، فأكرمه المتوكل.

ثم مرض المتوكل فنذر إن عوفيَ تصدق بدراهم كثيرة، فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جواباً، فبعث إلى علي الهادي فسأله فقال: تصدق بثلاثة وثمانين درهماً، فسأله المتوكل عن السبب فقال: لقوله تعالى: لقد نصر ـ كم الله في مواطن كثيرة ، وكانت المواطن سبعاً وعشرين غزاة، وبعث ستاً وخمسين سرية.

قال المسعودي: نُمِيَ إلى المتوكل بعلي بن محمد أن في منزله سلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنه عازم على الملك فبعث إليه جماعة من الأتراك فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه وهويقرأ، وعليه مدرعةٌ من صوف وهوجالس على الرمل والحصى، متوجهاً إلى الله تعالى يتلوالقرآن، فحمل على حالته تلك إلى المتوكل، فأدخل عليه وهوفي مجلس الشراب والكأس في يد المتوكل، فعظمه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس فقال: والله ما خامر لحمي ودمي قط فاعفني، فأعفاه وقال له: أسمعني صوتاً، فقال: كم تركوا من

٢٥١

جنات وعيون الآيات. فقال أنشدني شعراً، فقال إني قليل الرواية للشعر، فقال لا بد من ذلك، فأنشده:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجال فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن معاقلهمْ

فأُودعوا حُفَراً يا بئسَ ما نزلوا

ناداهُم صارخٌ من بعد ما قُبروا

أين الأسِرَّةُ والتيجان والحُلَلُ

أين الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستار والكِللُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوهُ عليها الدود يَقتتل

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

وطالما عمروا دوراً لتحصنهم

ففارقوا الدور والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادخروا

فخلفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قفْراً مُعَطلةً

وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا »

فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته. انتهى .

ثم عقَّب ابن تيمية بقوله: « فيقال: هذا الكلام من جنس ما قبله لم يذكرمنقبة بحجة صحيحة، بل ذكر ما يعلم العلماء أنه من الباطل، فإنه ذكر في الحكاية أن والي بغداد كان إسحاق بن إبراهيم الطائي، وهذا من جهله فإن إسحاق بن إبراهيم هذا خزاعة معروف هو وأهل بيته كانوا من خزاعة، فإنه إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب، وابن عمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب، أمير خراسان المشهور المعلومة سيرته، وابن هذا محمد بن عبد الله بن

٢٥٢

طاهر، كان نائباً على بغداد في خلافة المتوكل وغيره، وهوالذي صلى على أحمد بن حنبل لما مات. وإسحاق بن إبراهيم هذا كان نائباً لهم في إمارة المعتصم والواثق وبعض أيام المتوكل. وهؤلاء كلهم من خزاعة، ليسوا من طئ، وهم أهل بيت مشهورون ».

أقول: يظهر أن نسخة ابن تيمية من كتاب العلامة فيها تصحيف الطاهري بالطائي، وهرثمة بهبيرة، وقد تحامل عليه ابن تيمية بسببها، ورماه بالجهل بغير حق!

على أن ابن طاهر المشهور ليس خزاعياً بل مولاهم، كما بيناه في فصل ثورات العلويين بعد هدم قبر الحسين (ع)، وقتل ابن طاهر للثائر العلوي، وزوال ملكهم بعده!

ثم قال ابن تيمية: « وأما الفتيا التي ذكرها من أن المتوكل نذر إن عوفيَ يتصدق بدراهم كثيرة، وأنه سأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جواباً، وأن عليَّ بن محمد أمره أن يتصدق بثلاثة وثمانين درهماً، لقوله تعالى: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، وأن المواطن كانت هذه الجملة، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزا سبعاً وعشرين غزاة، وبعث ستاً وخمسين سرية.

فهذه الحكاية أيضاً تحكى عن على بن موسى مع المأمون، وهي دائرة بين أمرين: إما أن تكون كذباً، وإما أن تكون جهلاً ممن أفتى بذلك، فإن قول القائل له عليَّ دراهم كثيرة أو والله لأعطين فلاناً دراهم كثيرة، أولأتصدقن بدراهم كثيرة، لا يحمل على ثلاث وثمانين، عند أحد من علماء المسلمين! والحجة المذكورة باطلة لوجوه:

٢٥٣

أحدها، أن قول القائل إن المواطن كانت سبعاً وعشرين غزاة، وستاً وخمسين سرية، ليس بصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز سبعاً وعشرين غزاة باتفاق أهل العلم بالسير، بل أقل من ذلك.

الثاني: أن هذه الآية نزلت يوم حنين، والله قد أخبر بما كان قبل ذلك فيجب أن يكون ما تقدم قبل ذلك مواطن كثيرة، وكان بعد يوم حنين غزوة الطائف، وغزوة تبوك، وكثير من السرايا كانت بعد يوم حنين، كالسرايا التي كانت بعد فتح مكة، مثل إرسال جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة، وأمثال ذلك. وجرير إنما أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنة. وإذا كان كثير من الغزوات والسرايا كانت بعد نزول هذه الآية، امتنع أن تكون هذه الآية المخبرة عن الماضي إخباراً بجميع المغازي والسرايا.

الثالث: أن الله لم ينصرهم في جميع المغازي، بل يوم أحد تولوا وكان يوم بلاء وتمحيص، وكذلك يوم مؤتة وغيرها من السرايا، لم يكونوا منصورين فيها، فلوكان مجموع المغازي والسرايا ثلاثاً وثمانين، فإنهم لم ينصروا فيها كلها حتى يكون مجموع ما نصروا فيه ثلاثاً وثمانين. الرابع: اختصاص هذا القدر بذلك، فإن لفظ الكثير لفظ عام يتناول الألف والألفين والآلاف، وإذا عم أنواعاً من المقادير، فتخصيص بعض المقادير دون بعض تحكم.

الخامس: أن الله تعالى قال: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ، والله يضاعف الحسنة إلى سبع مائة ضعف بنص القرآن، وقد ورد أنه يضاعفها ألفي ألف حسنة، فقد سمى هذه الأضعاف كثيرة، وهذه المواطن

٢٥٤

كثيرة، وقد قال تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . والكثرة هاهنا تناول أنواعها من المقادير، لأن الفئات المعلومة مع الكثرة لا تحصر في عدد معين، وقد تكون الفئة القليلة ألفاً، والفئة الكثيرة ثلاثة آلاف، فهي قليلة بالنسبة إلى كثرة عدد الأخرى، وقد قال تعالى: إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولوأراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم . ومعلوم أن الله أراه أهل بدر أكثر من مائة، وقد سمى ذلك قليلاً بالنسبة والإضافة، وهذا كله مما يبين أن القلة والكثرة أمر إضافي، ولهذا تنازع الفقهاء فيما إذا قال: له عليَّ مال عظيم أوخطير أوكثير أوجليل، هو يرجع في تفسيره إليه فيفسره بما يتمول، كقول الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، أولا يقبل تفسيره إلا بما له قدر خطير، كقول أبي حنيفة ومالك. وبعض أصحاب أحمد على قولين، وأصحاب القول الثاني منهم من قدره بنصاب السرقة، ومنهم من قدره بنصاب الزكاة، ومنهم من قدره بالدية، وهذا النزاع في الإقرار، لأنه خبر والخبر عن أمر ماض قد علمه المقر.

وأما المسألة المذكورة فهي إنشاءٌ كما لو أوصى له بدراهم كثيرة، والأرجح في مثل هذا أن يرجع إلى عرف المتكلم، فما كان يسميه مثله كثيراً حمل مطلق كلامه على أقل محتملاته، والخليفة إذا قال دراهم كثيرة في نذر نذره لم يكن عرفه في مثل هذا مائة درهم ونحوها، بل هويستقل هذا ولا يستكثره، بل إذا حمل كلامه على مقدار الدية اثنة عشر ألف درهم، كان هذا أولى من حمله على ما دون ذلك. واللفظ يحتمل أكثر من ذلك، لكن هذا مقدار النفس المسلمة في الشرع ولا يكون عوض المسلم إلا كثيراً، والخليفة يحمل الكثير منه على ما لا يحمل الكثير

٢٥٥

من آحاد العامة، فإن صاحب ألف درهم، إذا قال أعطوا هذا دراهم كثيرة احتمل عشرة وعشرين، ونحوذلك بحسب حاله.

فمعنى القليل والكثير هومن الأمور النسبية الإضافية كالعظيم، والخير يتنوع بتنوع الناس فيحمل كلام كل إنسان على ما هو المناسب لحالة في ذلك المقام ».

أقول: يحاول ابن تيمية دائماً تكذيب أي فضيلة لأهل البيت (ع) لأنه يبغضهم! وقد أطال في رد هذه الفتيا التي رواها العلامة عن الإمام الهادي (ع).

وقد رواها الخطيب البغدادي « ١٢ / ٥٦ » بسنده الصحيح، ونصها: « اعتلَّ المتوكل في أول خلافته، فقال: لئن برئت لأتصدقن بدنانير كثيرة، فلما برئ جمع الفقهاء فسألهم عن ذلك فاختلفوا، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر فسأله فقال: يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً فعجب قوم من ذلك وتعصب قوم عليه، وقالوا: تسأله يا أمير المؤمنين من أين له هذا؟ فرد الرسول إليه فقال له قل لأمير المؤمنين في هذا الوفاء بالنذر، لأن الله تعالى قال: لقد نصر ـ كم الله في مواطن كثيرة، فروى أهلنا جميعاً أن المواطن في الوقائع والسر ـ ايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطناً، وأن يوم حنين كان الرابع والثمانين، وكلما زاد أمير المؤمنين في فعل الخير كان أنفع له، وأجر عليه في الدنيا والآخرة ».

ورواها الذهبي في تاريخه « ١٩ / ٢١٨ » بسند صحيح عن الصولي، ولم ينتقدها.

ورواها ابن الجوزي في المنتظم « ١٢ / ٧٥ » ولم ينتقدها.

ورواها أحمد بن محمد النيسابوري الثعلبي في الكشف والبيان، كما في إحقاق الحق « ١٤ / ٢٥٠ ». ورواها السمعاني في الأنساب « ٤ / ١٩٦ ».

٢٥٦

ورواها من مصادرنا علي بن إبراهيم في تفسيره بسند صحيح « ١ / ٢٨٤ » ونصها: « كان المتوكل قد اعتل علة شديدة فنذر إن عافاه الله أن يتصدق بدنانير كثيرة أو قال بدراهم كثيرة، فعوفي، فجمع العلماء فسألهم عن ذلك فاختلفوا عليه، قال أحدهم عشرة آلاف وقال بعضهم مائة ألف، فلما اختلفوا قال له عَبادة: إبعث إلى ابن عمك علي بن محمد بن علي الرضا فاسأله، فبعث إليه فسأله فقال: الكثير ثمانون، فقالوا له رد إليه الرسول فقل: من أين قلت ذلك؟ فقال من قوله تعالى لرسوله: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، وكانت المواطن ثمانين موطناً ».

فلا معنى لتشكيك ابن تيمية في أصلها بعد هذه الإستفاضة.

وأما تشكيكه في الفتيا بعدد المواطن التي نصر الله بها المسلمين، فقد أيد علماء السيرة قول الإمام الهادي (ع) وأن مواطن النصر ثمانون.

أما تشكيكه بالفتيا بيُحتمل ويحُتمل، وبكثرة احتملات الفقهاء في المسألة، فهذا لايضر بقول الإمام (ع) الذي قبله الفقهاء الذين كانوا حول المتوكل، وكان فيهم رأي مخالف كرأي ابن تيمية، فردوه ولم يأخذوا به، فقد ردوا رأيه أيضاً!

ثم قال ابن تيمية عن إحضار المتوكل للإمام (ع): « والحكاية التي ذكرها عن المسعودي منقطعة الإسناد، وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى، فكيف يوثق بحكاية منقطعة الإسناد في كتاب قد عرف بكثرة الكذب مع أنه ليس فيها الفضيلة إلا ما يوجد في كثير من عامة المسلمين، ويوجد فيهم ما هوأعظم منها ».

٢٥٧

يقول ابن تيمية: إن القصة كاذبة، ولو صحت فلا فضيلة فيها تُميز الإمام الهادي (ع)! وهذا من تعصبه وهواه، فالمسعودي ثقة، ولم يتفرد بها، بل استفاضت روايتها، وصححها شيوخ يوثقهم ابن تيمية ولكنه أعشى!

فقد أرسلها الذهبي إرسال المسلمات، ولم ينتقد سندها ولا متنها.

قال في تاريخه « ١٨ / ١٩٩ »: « وكان قد سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل، وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم، ومن نيته التوثب. فكَبَسَ بيته ».

بل صححها في سِيَره « ١٢ / ٤١ » فمدح إمامه المتوكل لأنه بكى من موعظة الإمام الهادي (ع) قال: « وقد بكى من وعظ علي بن محمد العسكري العلوي ».

وكذلك قبلها ابن كثير فقال في النهاية « ١١ / ١٩ »: « ذكر للمتوكل أن بمنزله سلاحاً وكتباً كثيرة من الناس، فبعث كبسة فوجدوه جالساً مستقبل القبلة الخ. ».

وكذلك فعل القلقشندي في مآثر الخلافة « ١ / ٢٣١ » قال: « ومن غريب ما اتفق له في ذلك أنه طلب علياً الزكي، ويقال علي الهادي وعلي التقى فحمل إلى المتوكل والمتوكل في مجلس شرابه، والكأس في يده فلما رآه ».

وكذلك فعل ابن خلكان في وفيات الأعيان « ٣ / ٢٧٢ ».

وأبو الفداء في تاريخه / ٢٣٣، والدميري في حياة الحيوان / ٥٥٣، وغيرهم.

فتبين أن ابن تيمية صاحب هوى يريد تكذيب قصة فاحت منها رائحة الخمر من إمامه، وفاضت منها الكرامة النبوية من الإمام الهادي (ع)!

٢٥٨

الفصل الحادي عشر:

الإمام الهادي (ع) يطلق منشور الغدير والزيارة الجامعة

منشورالغدير في فضائل أمير المؤمنين (ع)

قامت عقيدة المتوكل والنواصب على ركنين: بُغْضَ عَليٍّ وأهل البيت (ع)، وما سموه أحاديث الصفات، أي وصف الله تعالى بالجسم وشبهه. فكان المتوكل يقرِّب النواصب والمجسمة، ويغدق عليهم المال.

أما بغضه لعلي (ع) فقال الذهبي في تاريخه « ١٧ / ١٨ »: « أمر المتوكل بهدم قبر السيد الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهدم ما حوله من الدور وكان معروفاً بالنصب، فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء، دعبل وغيره ».

والإنصاف أن بغض المتوكل لعلي (ع) مشهورٌ ككفر إبليس، فقد كان يعقد مجالس الغناء والرقص، والسخرية من علي (ع) في دار الخلافة!

قال ابن الأثير في الكامل « ٦ / ١٠٨ »: « وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم! وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه وهوأصلع، ويرقص بين يدي المتوكل، والمغنون يغنون قد أقبل الأصلع البدين، خليفة المسلمين، يحكي بذلك علياً! والمتوكل يشرب

٢٥٩

ويضحك! ففعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر، فأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه، فقال المتوكل ما حالك؟ فقام وأخبره، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هوابن عمك، وشيخ أهل بيتك وبه فخرك! فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه! فقال المتوكل للمغنين: غنوا جميعاً:

غَارَ الفَتَى لابن عَمِّهْ

رأسُ الفَتى في حَرِ أمِّهْ »!

وقد روى ذلك عامة المؤرخين، وتقدم في ترجمة المتوكل.

وكذلك تبني المتوكل للتجسيم، قال الخطيب في تاريخ بغداد « ١٠ / ٦٧ »: « حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: سنة أربع وثلاثين ومائتين، فيها أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، فكان فيهم مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة الكوفيان وهما من بني عبس، وكانا من حفاظ الناس. فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية!

فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور، ووضع له منبر واجتمع عليه نحومن ثلاثين ألفاً من الناس. فأخبرني حامد بن العباس أنه كتب عن عثمان بن أبي شيبة. وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة، وكان أشد تقدماً من أخيه عثمان، واجتمع عليه نحومن ثلاثين ألفاً ».

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477