الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158217 / تحميل: 6981
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ومن هذه الظلمات : حبّ المصلحة الشخصيّة ، وحبّ الذات وهو النفس ، و... التي تعتبر ظلمات فرديّة وخُلُقيّة.

وتوجد ظلمات اجتماعيّة ، مثل : الظلم والتفرقة وغيرهما.

إنّ لفظة ( الظلم ) مأخوذة من مادة ( الظلمة ) وتبيّن نوعاً من الظلمة المعنوية والاجتماعيّة ، وإنّ القرآن وسائر الكتب السماوية تتعهّد بالنضال من أجل رفع الظلمات ، يقول القرآن مخاطباً موسى بن عمرانعليه‌السلام :( ... أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ... ) ( سورة إبراهيم : آية : ٥ )

هذه الظلمة هي ظلمة ظلم فرعون والفراعنة ، والنور هو نور الحرِّيّة والعدالة ، وإنّ النقطة التي لاحظها المفسّرون هي أنّ القرآن يذكر الظلمات دائماً بصيغة الجمع ، ومع الألف واللام ؛ لكي تفيد الاستغراق وتشمل جميع أنواع الظلمات ، في الوقت الذي يذكر النور بصيغة الإفراد ويعني : إنّ الصراط المستقيم طريق واحد لا غير.

٤١

إلاّ أنّ طرق الضلال والانحراف متعدّدة ، نقرأ في آية الكرسي مثلاً :

( ... اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

وبهذا الترتيب يُبيّن القرآن هدفه وهو : تحطيم قيود الجهل والضلال والظلم ، والفساد الخلقي والاجتماعي ، وفي كلمة واحدة : القضاء على الظلمات ، والهداية نحو العدل والخير والنور.

التعرّف على لغة القرآن

الموضوع الآخر هو التعرّف على لغة القرآن وتلاوته.

يتصوّر البعض أنّ الغرض من تلاوة القرآن ينحصر في قراءة القرآن لأجل الثواب ، دون أنْ يدرك شيئاً من معانيه.وهؤلاء يقرؤون القرآن باستمرار ، ولكن إذا سُئلوا مرّة واحدة : إنّكم هل تعرفون معنى ما تقرؤون ؟ يعجزون عن الإجابة.

إنّ قراءة القرآن من هذه الناحية - وهي أنّها مقدّمة لإدراك معاني القرآن - ضروريّة وحسنة ، ولكن ليس فقط لأجل اكتساب الثواب.

٤٢

وهناك أيضا خصائص لإدراك معاني القرآن لا بدّ من ملاحظتها.إنّ ما يلزم حصوله للقارئ - وهو يريد الاستفادة من كثير من الكتب - هو مجموعة الأفكار الجديدة التي ليس لها وجود قبل ذلك في الذهن.وإنّ الذي يعمل ويتحرّك هنا هو العقل وقوّة التفكير لدى القارئ ليس غير.

وبالنسبة للقرآن ، فلا ريب بضرورة مطالعته بهدف دراسته وتعلّمه ، يُصرّح القرآن في هذا المجال بقوله :

( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( سورة ص : آية : ٢٩).

إحدى مسؤوليّات القرآن هي التعليم والتذكير ، ومن هذه الجهة يخاطِب القرآن عَقْلَ الإنسان ويتحدّث معه بالاستدلال والمنطق ، غير أنّ للقرآن لغة أخرى ، والمخاطب فيها ليس العقل ، بل المخاطب هو القلب ، وهذه اللغة الثانية تُسمّى :( الإحساس ) .

وإنّ الذي يريد أنْ يتعرّف على القرآن ويأنس به ،

٤٣

عليه أنْ يتعرّف على هاتَين اللغتَين ويستفيد منهما معاً ، وأنّ تفكيك هاتَين اللغتَين يؤدِّي إلى بروز الخطأ والاشتباه ، ويسبّب الضرر والخسران.

إنّ ما نُسمّيه بالقلب : هو عبارة عن شعور عظيم وعميق جدّاً في باطن الإنسان ، ويسمّونه أحياناً( إحساس الوجود ) ، أي إحساس رابطة الإنسان مع الوجود المطلق.

فالذي يعرف لغة القلب ويخاطب الإنسان بها ، يُحرّك الإنسان من أعماق وجوده ، وعندئذٍ لا يبقى الفكر الإنساني تحت التأثير فحسب ، بل ويتأثّر كلّ وجوده.

وربّما استطعنا أنْ نضرب الموسيقى مثلاً كنموذج عن لغة الإحساس ، فإنّ الأقسام المختلفة للموسيقى تشترك في جهة واحدة ، وهي علامتها مع الإحساسات الإنسانيّة.تُهيِّج الموسيقى روح الإنسان وتغرقها في عالم خاص من الإحساس ، وبالطبع ، فإنّ ضروب الهيجانات والأحاسيس تختلف مع اختلاف أنواع الموسيقى ، فربّما ارتبط أحد أنواع الموسيقى مع الشعور بالفتوّة والشجاعة ، فيتحدّث بهذه اللغة مع الإنسان.

٤٤

لقد رأيتم الأناشيد والمعزوفات العسكريّة ، تُنْشَد وتُعْزَف في ميادين القتال ، ونرى أحياناً مدى تأثير هذه الأناشيد وقوّتها ، بحيث تجعل الجندي الذي لا يخرج من خندقه خوفَ الأعداء تجعله يتقدّم إلى الأمام بكلّ اندفاع ، ويحارب الأعداء رغم الهجوم الثقيل للعدو.

وهناك نوع آخر من الموسيقى يرتبط مع الشهوة و ( الشعور الجنسي ) ، فيعرّض الإنسان إلى الخمول والانقياد نحو الشهوات ، ويدعوه ليستسلم للفساد.

وقد لوحظ أنّ تأثير الموسيقى كبير في هذا المجال ، وربّما لم يستطع أيّ شيء آخر أنْ يؤثر إلى هذا الحد في القضاء على جدران العفّة والأخلاق ، وبالنسبة إلى سائر الغرائز و الأحاسيس أيضاً، عندما يُقال شيء بلسان هذه الأحاسيس - بواسطة لغة الموسيقى أو بأيّ وسيلة أخرى - فإنّه يمكن أنْ يُوضع تحت المراقبة والنَظَارة.

إنّ الشعور الديني والفطرة الإلهيّة من أسمى الغرائز والأحاسيس لدى كلّ إنسان ، وإنّ علاقة القرآن مع هذا

٤٥

الإحساس الشريف علاقة أسمى وأعلى ( ١ ) ( لقد بُحث كثيراً حول هذا الشعور الديني في شرق العالم وغربه.وننقل هنا باختصار أقوال بعض العلماء المعروفين في العالم ، والحديث الأوّل لاينشتاين أنّه يتحدّث عن الدين في إحدى مقالاته ويقول : بأنّه يعتقد بأنّ العقيدة والمذهب بصورة عامّة ثلاثة أنواع :

-مذهب الأخلاق : وهو الدين الذي يبتني على المصالح الخُلُقيّة.

-ثمّ يذكر مذهباً آخر ويسمّيه مذهب الوجود : وهذا التعبير هو ما نطلق عليه ( القلب ).

ويعتقد اينشتاين :

أنّ هذا المذهب - في الحقيقة - يريد أنْ يقول بأنّه تحصل - في فترةٍ ما - حالةٌ معنويّة وروحيّة للإنسان حيث يخرج فجأة - في تلك الحالة - من هذه النفس المحدودة والمحاطة بالآمال والأُمنيات الحقيرة ، والمفصولة عن الآخرين ، وهكذا عن عالم الوجود الطبيعي الذي أصبح حصاراً له ، ويتحرّر من هذا السجن ، وعند ذلك يجلس ليراقب كلّ الوجود فيجد الوجود كحقيقة واحدة ، ويرى بوضوح تلك العظمة والشموخ والجلالة لما وراء هذا الموجودات ، ويتذكّر حقارة نفسه ، وعندئذٍ يريد أنْ يرتبط بكلّ الوجود.

إنّ تعبير اينشتاين هذا يذكّرنا بقصّة همّام عندما سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن صفات المؤمن ، فأجابه الإمام جواباً موجزاً جامعاً ،

٤٦

حيث قال :( يا همّام اتّقِ الله وأحسن ، إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون ) ، ولكنّ همّام لم يقتنع بهذا الجواب ، ويطلب توضيحاً أكثر عن كيفية المعاشرة وطريقة العبادة في الصباح والمساء ، و... ، عندئذٍ يبدأ الإمام عليعليه‌السلام بذكر صفات المؤمن ويرسم حوالي ١٣٠ خطّاً من خطوط المتّقين ، ويقول ضمن ذلك :

( لولا الآجال التي كتب الله تعالى لهم ، لم تستقرّ أرواحهم في أبدانهم طرفة عين ).

هذه هي نفس الحالة التي يشير إليها اينشتاين ، ويقول : إنّ الإنسان المتديّن يرى نفسه مسجوناً فيما يشبه السجن ، وكأنّه يريد أنْ يطير من قفص البدن ويحصل على كلّ الوجود مرّة واحدة.وقد جاءت هذه الحقيقة في كلمات أمير المؤمنينعليه‌السلام بصورة أوضح وأكمل ، فمِن وجهة نظر الإمامعليه‌السلام نرى المؤمن كأنّه جمع كلّ الوجود في بدنه المادّي ، وعلى هذا الأساس يخرّ من قالبه مرّة واحدة ليحرّر روحه.وقد ذكروا في قصّة همّام هذه النقطة وهي أنّه عندما أتمّ الإمام كلامه ، شهق همّام شهقة وخرج من قالبه (المادّي).

وبمناسبة الشعور المعنوي للبشر ، هناك حديث لطيف إلى ( إقبال ) يقول فيه :

لا يوجد في هذا القول لغز ولا سر ، وهو إنّ الدعاء بمثابة وسيلة إشراقيّة نفسيّة ، عمل حيوي عادي ، بواسطته تُكتشف الجزيرة الصغيرة لشخصيّة مكانها في قطعة أكبر من العالم.

٤٧

القرآن بنفسه يوصينا أنْ نقرأه بصوت حسن لطيف.

وبهذا النداء السماوي يتحدّث القرآن مع الفطرة الإلهيّة للإنسان ويسخّرها ، ( كان الأئمّة - ع - يقرؤون القرآن بتلك اللهفة التي ما أنْ يسمعهم المارّة حتّى يضطرّون إلى الوقوف ، والاستماع والتأثير والبكاء ).

القرآن عندما يصف نفسه يتحدّث

٤٨

بلسانين :

فتارةً : يعرّف نفسه بأنّه كتاب التفكّر والمنطق والاستدلال.

وتارةً : أخرى بأنّه كتاب الإحساس والعشق.وبعبارة أخرى فالقرآن ليس - إذاً - للعقل والفكر فحسب ، بل هو غذاء للروح أيضاً.

يؤكّد القرآن كثيراً على الموسيقى الخاصّة به ، الموسيقى التي لها تأثير أكثر من كلّ موسيقى أخرى ، في إثارة الأحاسيس العميقة والمتعالية للإنسان.

يأمر القرآن المؤمنين بأنْ يقضوا بعض أوقات الليل بتلاوة القرآن ، وأنْ يُرَتّلوا القرآن في صلواتهم عندما يتوجّهون إلى الله ، وفي خطابٍ للرسول يقول :

( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ) ( سورة المزمل : آية : ١ - ٣ ).

* الترتيل :

الترتيل : قراءة القرآن بحيث تخرج الكلمات من الفم بسهولة واستقامة ( مفردات الراغب ) يعني : قراءة القرآن ، بحيث لا تكون سرعة خروج الكلمات كبيرة ، فلا تُفهم الكلمات ، ولا

٤٩

تكون متقطّعة فتنفصم علاقاتها ، يقول : قراءة القرآن بتأنٍّ في الوقت الذي تلاحظ محتوى الآيات بدقّة.

وفي الآية الأخيرة لتلك السورة يدعونا أنْ لا ننسى العبادة في حال من الأحوال اليوميّة ، وحتّى في الأوقات التي نحتاج لنوم أكثر ، مثل أوقات الجهاد أو الأعمال التجاريّة اليوميّة : قال تعالى :

( ... عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً... ) (سورة المزمل : آية : ٢٠ ).

الشيء الوحيد الذي كان سبباً للنشاط واكتساب القوّة الروحيّة والحصول على الخلوص وصفاء الباطن بين المسلمين ، هو موسيقى القرآن.

فالنداء السماوي للقرآن أوجد في مدّة قصيرة من المتوحّشين ( الجاهلين ) ، في شبه الجزيرة العربيّة شعباً مؤمناً مستقيماً ، استطاعوا أنْ يحاربوا أكبر القوى الموجودة في ذلك العصر ويقضوا عليها.

٥٠

فالمسلمون لم يتّخذوا القرآن كتاب درس وتعليم فحسب ، بل كانوا ينظرون إليه بمثابة غذاء للروح ومنبع لاكتساب القوّة وازدياد الإيمان.فكانوا يقرؤون القرآن بكل إخلاص في الليل ( يشير الإمام السجادعليه‌السلام إلى هذه النقطة بقوله في دعاء ختم القرآن : ( واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً ) ، ويناجون ربّهم تضرّعاً وخفية ، وفي الصباح يهاجمون الأعداء كالأسود البواسل ، والقرآن ينتظر مثل ذلك منهم ، يقول مخاطباً النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) ( سورة الفرقان : آية : ٥٢ ).

قف في وجوههم وجاهدهم بسلاح القرآن واطمئن بالنصر.وقصّة حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضّح صدْق هذه الحقيقة ، إنّه يقوم وحيداً ودون أي ناصر ، في حين يحمل القرآن في يده ، ولكنّ هذا القرآن يصبح كلّ شيء له ، يجهّز له الجيوش ، ويَعدّ له الأسلحة والتجهيزات الحربيّة ، وأخيرا فإنّه يدعو العدوّ إلى الاستسلام والخضوع أمامه.

٥١

يدعو الأعداء ليستسلموا أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يصادق على الوعد الإلهي ( وفي زماننا أيضاً ، تحقّق هذا الوعد الإلهي الحقّ مرّة أخرى ، وجاء رجل من سلالة رسول الله - الإمام الخميني - مستنداً إلى القرآن والأيمان كجدِّه العظيم ، وهزم جيش الكفر والباطل أكبر هزيمة )

عندما يعتبر القرآنُ لغتَه لغة القلب ، فإنّ غرضاً من هذا القلب هو الذي ينسجم مع آيات الله ويتصفا ويثور.تختلف أيضاً عن لغة الأنغام والأناشيد العسكريّة ، التي تُعزف في الجيش لتحيِّي فيهم الحماسة البطوليّة.إنّها تلك اللغة التي تصنع من البدويّين العرب مجاهدين قيل في حقِّهم :

( حملوا بصائرهم على أسيافهم ) أولئك الذين وضعوا أفكارهم النَيِّرة ومعارفهم ومعنويّاتهم على سيوفهم ، ويستخدمون سيوفهم في طريق هذه الأفكار والعقائد.

إنّهم لم يهتمّوا بمصالحهم الشخصيّة وأمورهم الفرديّة.وبالرغم من أنّهم لم يكونوا معصومين ، بل

٥٢

ويخطئون أيضاً ، إلاّ أنّهم المصاديق الحقيقيّة للقائمين في الليل ، والصائمين في النهار ( قائم الليل وصائم النهار ) ، كانوا في علاقة مستمرّة مع أعماق الوجود ، تقضي لياليهم في العبادة وأيّامهم في الجهاد ( يصف أمير المؤمنين - ع - المتّقين في خطبة تُعرف باسم المتّقين ( خطبة ١٩٣ من نهج البلاغة ) ، وبعد أنْ يذكر أقوالهم ومعاملاتهم ، يشرح أحوالهم في الليل ويقول :

( أَمّا الليل فصافّون أقدامهم تَالِين لأجزاء القرآن ، يرتّلونها ترتيلاً ، يُحزِنون به أنفسهم ، ويستشرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طعماً ، وتطلّعتْ نفوسهم إليها شوقاً ، وظنّوا أنّها نُصْب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم... ).

يؤكّد القرآن كثيراً على هذه النقطة التي تعتبر من خصائصه ، وهي أنّه كتاب القلب والروح ، كتاب يُثير النفوس ويسيل الدموع ويهزّ القلوب ، ويعتبر القرآنُ هذه الميزة صادقة حتّى بالنسبة لأهل الكتاب.

يصف مجموعة منهم بأنّهم إذا تُلي عليهم القرآن تحصل لهم حالة خضوع وخشوع ، ويقولون أنّهم آمنوا بما في الكتاب ، وأنّه حقٌّ كلّه ، يقولون ذلك وتزداد حالتهم خشوعاً باستمرار.

٥٣

ويؤكّد في آية أخرى أنّ المسيحيّين من أهل الكتاب ، أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين، كما في تعالى :

( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى... ) ( سورة المائدة : آية : ٨٢ ).

ثمّ يصِف القرآن جماعة من المسيحيّين الذين آمنوا بعد أنْ سمعوا القرآن بقوله :

( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( سورة المائدة : آية : ٨٣ ).

وفي مكان آخر ، وعندما يتحدّث عن المؤمنين ، يقول في وصْفهم :

( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ... ) ( س--ورة الزمر : آية : ٢٣).

في هذه الآيات وفي آيات أخرى كثيرة :

( ... إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) ( سورة مريم : آية : ٥٨ ) ، والآيات الأولى من سورة الصف ، يوضّح

٥٤

القرآن أنّه ليس كتاباً علميّاً وتحليليّاً محضاً ، بل إنّه في الوقت الذي يستخدم الاستدلال المنطقي ، يتحدّث مع إحساس الإنسان وذوقه ولطائف روحه ويؤثّر عليه.

المخاطبون في القرآن

من النقاط الأخرى التي لا بدّ أنْ تُسْتَنْبَط من القرآن ، في البحث حول المعرفة التحليليّة للقرآن ، هي تعيين المخاطَبين في القرآن.

وردتْ كثيراً في القرآن تعابير مثل :( ... هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ،( هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) و( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً... ) ، هنا يمكن طرح هذا الإشكال ، وهو أنّ الهداية لا تلزم للمتّقين ؛ لأنّهم أنفسهم متّقون.

ومن جانب آخر نرى القرآن هكذا يُعرّف نفسه :

( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) ( سورة ص : آية : ٨٧ ) ، ( وهذه الآية من الآيات العجيبة في القرآن ، عندما نزلت الآية كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة ، وكان يتحدّث مع أهالي إحدى القرى ، كان عجيباً للناس أنْ يروا رجلاً وحيداً يقول بكلّ طمأنته إنّكم سوف تسمعون نبأ هذه الآية فيها بعد ، سوف تسمعون قريباً ماذا يصنع هذا الكتاب مع العالَم خلال فترة قصيرة ).

وفي آية أخرى يخاطب الله رسولَه قائلاً :

٥٥

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ( سورة الأنبياء : آية : ١٠٧).

وسوف نذكر شرحاً مفصّلاً عن هذا الموضوع في مبحث : التأريخ في القرآن.إلاّ أنّه لا بدّ من القول هنا بإيجاز :

في الآيات التي يخاطب القرآن جميع أبناء العالم ، يريد - في الواقع - أنْ يقول : بأنّ القرآن لا يختصّ بقوم وجماعة خاصّة ، كل مَن يتوجّه نحو القرآن يحصل على النجاة.

وأمّا في الآيات التي يتحدّث فيها عن أنّه كتاب هداية للمؤمنين والمتّقين ، يريد أنْ يوضّح هذه النقطة ، وهي أنّه مَن الذي يسير نحو القرآن في النهاية ؟ ومَن هم الذين يبتعدون عنه ؟

لا يذكر القرآن عن شعب خاص وقبيلة معيّنة ، على أساس أنّهم هم المعتقدون به والتابعون له، ولا يقول إنّ القرآن يُعتبر كتاب شعب خاص.

٥٦

القرآن - خلافاً لسائر المبادئ - لم يهتم بمصالح طبقة خاصّة ، ولم يقل - مثلاً - : إنّه جاء لتأمين مصالح طبقة ما ، ولم يقل - أيضاً - : إنّ هدفه الوحيد هو مساندة العمّال أو الدفاع عن حقوق الفلاّحين.

يؤكّد القرآن عندما يتحدّث عن نفسه : أنّه كتاب لبسْط العدالة ، يقول عن الأنبياء :

( ... وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ... ) ( سورة الحديد : آية : ٢٥).

يريد القرآن القسط والعدل لكلّ المجتمع البشري ، وليس لقوم أو طبقة أو قبيلة خاصّة.ولكي يجذب الناس إلى نفسه لم يشر إلى العصبيّات القومية مثل النازيّة.

وخلافاً لمبادئ أخرى كالماركسية مثلاً ، لا يستند على مصالحهم ومنافعهم الشخصيّة ، ليثيرهم عن هذا الطريق ؛ لأنّه في هذه الحالة لا يستهدف العدل والحق لاتّباعه ، بل يستهدف وصوله إلى منافعهم وطلباتهم الشخصيّة.

٥٧

وكما أنّ القرآن يعتقد بأصالة الوجدان العقلي للإنسان ، فإنّه يعتقد له أيضاً أصالة وجدانيّة وفطريّة ، وعلى أساس فطرة طلب الحقّ والعدل يدعوهم إلى الحركة والثورة ؛ ولهذا فإنّ رسالته لا تنحصر بطبقة العمّال أو الفلاحين أو المحرومين أو المستضعفين.

يخاطِب القرآن الظالمين والمظلومين بأنْ يتّبعوا الحق ، يبلّغ موسىعليه‌السلام رسالتَه إلى بني إسرائيل ، وإلى فرعون أيضاً ، ويدعوهم جميعاً إلى الإيمان بالله والسير في رسالته.

ودعوته لرؤساء قريش ، في الوقت تكون إثارة الأفراد ضدّ أنفسهم ، ورجوعهم عن مسيرة الضلال ، وهي أنّ رجوع وإنابة المترَفين والمتنعِّمين أصعب بكثير من رجوع المحرومين والمظلومين.

الفريق الثاني يتحرّكون في مسير العدالة باقتضاء طباعهم.وأمّا الفريق الأوّل فعليه أنْ يمتنع عن مصالحه

٥٨

الشخصيّة والاجتماعيّة ، ويدوس برجليه على ميوله وأهوائه.

يقول القرآن : بأنّ أتباعه هم الذين طَهُرَتْ نفوسُهم وزَكَتْ أرواحُهم ، وهؤلاء اتبعوا القرآن على أساس مطالبة الحق والعدل ، التي هي في فطرة كلّ إنسان ، ولم يتّبعوا ما تقتضيه مصالحهم وميولهم المادِّيَّة والزخارف الدنيويّة.

٥٩

الفصل الثالث

* فطرة القرآن عن العقل.

* دلائل حجِّيَّة العقل.

* الدعوة إلى التعقّل من قِبل القرآن.

* الاستفادة من نظام العلّة والمعلول.

* فلسفة الأحكام.

* النضال مع انحرافات العقل.

* مواطن الخطأ من وِجهة نظر القرآن.

* نظرة القرآن عن القلب.

* تعريف القلب.

* خصائص القلب.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

رؤساء الوزارة

الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات:

كان محمد بن عبد الملك الزيات من أسرة عادية من الدسكرة « الأعلام: ٦ / ٢٤٨ »، والظاهر أنها المقدادية الواقعة قرب بعقوبة. وقد استوزره المعتصم، ثم الواثق.

روى ابن الزيات أن المعتصم ضحك يوماً من نفسه، فسألناه عن سبب ضحكه فقال إن منجماً رآه فقال له: « الطالع أسدٌ وهوالطالع في الدنيا، وإنه يوجب لك الخلافة، وأنت تفتح الآفاق وتزيل الممالك ويعظم جيشك، وتبني بلاداً عظيمة ويكون من شأنك كذا ومن أمرك كذا، وقصَّ عليَّ جميع ما أنا فيه الآن!

قلت: فهذا السعود، فهل عليَّ من نحوس؟ قال: لا، ولكنك إذا ملكت فارقت وطنك وكثرت أسفارك. قلت: فهل غير هذا؟ قال: نعم، ما شئ أنحس عليك من شئ واحد. قلت: ما هو؟ قال: يكون المتولَّون عليك في أيام ملكك أصولهم دنية سفلة، فيغلبون عليك ويكونون أكابر أهل مملكتك ...

ولكني ما ذكرته إلى الآن، ولما بلغت الرحبة وقعت عيني على موضعه فذكرته، وذكرت كلمته وتأمَّلتكما حواليَّ وأنتما أكبر أهل مملكتي، وأنت ابن زيَّات وهذا ابن قَيَّار، وأومأ إلى ابن أبي دؤاد، فإذا قد صح جميع ما قال!

فأنفذت هذا الخادم في طلبه والبحث عنه لأفي له بسالف الوعد، فعاد إليَّ وذكر أنه قد مات قريباً وأخذني الضحك، إذ ترأس في دولتي أولاد السُّفَّل. قال: فانكسرنا، ووددنا أنا ما سألناه »! « نشوار المحاضرة: ٧ / ٢١٢ ».

٣٢١

وقال في تاريخ بغداد « ٣ / ١٤٥ »: « كان بين محمد بن عبد الملك وبين أحمد بن أبي دؤاد، عداوةٌ شديدة، فلما ولي المتوكل دارَ ابن أبي داود على محمد، وأغرى به المتوكل حتى قبض عليه، وطالبه بالأموال ».

وقال البغدادي في خزانة الأدب « ١ / ٤٢٨ »: « وكان ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد، وأطراف مساميره المحددة إلى داخله، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ، وكان يعذب فيه أيام وزارته، فكيفما انقلب المعذب أوتحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه! وإذا قال له أحد: إرحمني أيها الوزير، فيقول له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة! فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، فقال له: يا أمير المؤمنين إرحمني، فقال له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة، كما كان يقول للناس! وكان ذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وكانت مدة تعذيبه في التنور أربعين يوماً، إلى أن مات فيه »!

وتدل روايتنا عن الإمام الهادي (ع) على أن المتوكل كان في سجن ابن الزيات، فأخرجه ابن أبي دؤاد وعقد البيعة له، ثم بطشوا بابن الزيات!

قال خيران الأسباطي « الكافي: ١ / ٤٩٨ »: « قدمت على أبي الحسن (ع) « الإمام الهادي » المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام. قال فقال لي: إن أهل المدينة يقولون: إنه مات. فلما أن قال لي: الناس، علمت أنه هو. ثم قال لي: ما فعل جعفر « المتوكل »؟ قلت: تركته أسوأ الناس حالاً في السجن. قال فقال: أما إنه

٣٢٢

صاحب الأمر. ما فعل ابن الزيات؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره. قال فقال: أما إنه شؤم عليه. قال: ثم سكت وقال لي: لابد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه. يا خيران، مات الواثق، وقد قعد المتوكل جعفر، وقد قتل ابن الزيات. فقلت: متى جعلت فداك؟ قال: بعد خروجك بستة أيام ».

وذكر المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٥ » أن بطشهم بابن الزيات كان بعد أشهر، قال: « سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر، فقبض أمواله وجميع ما كان له، وقلد مكانه أبا الوزير، وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادَرين والمغضوب عليهم تنُّوراً من الحديد رؤوس مساميره إلى داخله قائمة مثل رؤوس المسالّ، في أيام وزارته للمعتصم والواثق، فكان يعذب الناس فيه، فأمر المتوكل بإدخاله في ذلك التنور، فقال محمد بن عبد الملك الزيات للموكل به أن يأذن له في دواة وبطاقة ليكتب فيها ما يريد، فاستأذن المتوكل في ذلك فأذن له فكتب:

هي السبيل فمن يوم إلى يوم

كأنه ما تُريك العين في النومِ

لا تجزعنَّ رويداً إنها دوَلٌ

دُنْيَاً تنقَّلُ من قومٍ إلى قوم.

قال: وتشاغل المتوكل في ذلك اليوم فلم تصِل الرقعة اليه، فلما كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميتاً. وكان حَبْسُه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوماً، وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً ».

٣٢٣

وفي نشوار المحاضرة « ٨ / ١٩ »: « قال الفضل بن مروان: ولا نعلم وزيراً وَزَرَ وزارةً واحدة بلا صَرْف، لثلاثة خلفاء متَّسقين، غير محمد بن عبد الملك ».

وقال في النهاية « ١٤ / ٣٣٣ »: « أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الواثق فطلبه فركب بعد غدائه يظن أن الخليفة بعث إليه، فأتت به الرسل إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط عليه وقُيِّدَ، وبعثوا في الحال إلى داره، فأخذ جميع ما كان فيها من الأموال واللآلئ والجواهر والحواصل والجواري والأثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشراب، وبعث الخليفة إلى حواصله وضياعه بسائر الإماكن، فاحتيط عليها، وأمر به أن يعذب فمنع من الطعام، وجعلوا يساهرونه، كلما أراد الرقاد نُخِسَ بالحديد، ثم وضع بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله، فأقيم عليها ووُكِّلَ به من يمنعه من الرقاد، فمكث كذلك أياماً حتى مات ..

ويقال: إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهوتحت الضرب. ويقال: إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت عليه الكلاب فأكلت لحمه وجلده، سامحه الله وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحواً من تسعين ألف ألف دينار ».

أقول: كان هذا الأسلوب الدموي في انتقال السلطة وما زال، أمراً ثابتاً عند الشعوب المختلفة، وثقافةً سائدةً، ففي نفس السنة التي قتل فيها المتوكل ابن الزيات، قَتَلَ ملك الروم ميخائيل أمه تدورة، بعد أن ملكت ست سنين. « النهاية: ١٤ / ٣٣٣ ».

٣٢٤

أما الديمقراطيات الغربية فقد جعلت انتقال السلطة في الغرب سلمياً، في الظاهر، لكنها لم تحقق ذلك في شعوب العالم التي تحت نفوذها، فبقي دموياً بشكل عام!

الوزير عمر بن الفرج الرخجي:

١. كتبنا له ترجمة في سيرة الإمام الجواد (ع) ووصفناه بأنه ممسحة الخلفاء، لأنهم كانوا يكلفونه بالمهمات القذرة! وكان ناصبياً معادياً لأهل البيت (ع)، بعكس أخيه محمد الذي كان من خيرة أصحاب الأئمة: الرضا والجواد والهادي (ع)، وصار والياً للمتوكل على مصر لفترة. « تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٨٥ ».

٢. ذكرنا في سيرة الإمام الجواد (ع) أن عمر الرخجي كان والياًَ على مكة والمدينة وأنه حاول قتل الإمام الجواد (ع) بالسم، فقد قال كما في « الثاقب في المناقب / ٥١٧ »: « سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر! فقلت: وما هوأصلحك الله؟ قال: إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قُرِّب الطعام فقال: أمسكوا. فقلت: فداك أبي قد جاءكم الغيب؟فقال: عليَّ بالخبَّاز، فجئ به فعاتبه وقال: من أمرك أن تسمني في هذا الطعام؟ فقال له: جعلت فداك، فلان! ثم أمر بالطعام فرفع وأتي بغيره »!

يقصد أنه رأى من الإمام الجواد (ع) شيئاً لو رآه أخوه محمد لصار من الغلاة فيه، واعتقد أنه يعلم الغيب، وكفر بذلك! أما هو فلايكفر ويقول إن الجواد (ع) ساحر! ثم ذكر أن الإمام (ع) كشف محاولة قتله بالسم، وأبعد الرخجي التهمة عن نفسه وأنه هو صاحب المحاولة، مع أنه كان والي مكة والمدينة! فتفكيره كتفكير مشركي قريش،

٣٢٥

فهم يرون أنهم غير معنيين بالإيمان بالمعجزات التي يشاهدونها ولا بتفسيرها! بل عليهم أن يقولوا إن صاحب المعجزة ساحر، حتى لا يفتتن به الناس!

٣. وبعد أن قتل المعتصم الإمام الجواد (ع) أمره أن يوكَّل شخصاً بابنه الإمام الهادي (ع) بعنوان معلم، ويكون تحت رقابته التامة، ويعزله عن الناس حتى لا يفتنوا به كما فتنوا بأبيه! فاختار الرخجي الجنيدي ونصبه لهذه المهمة، وأمر حاكم المدينة أن ينفذ أوامره، فكانت النتيجة إيمان الجنيدي بإمامة الهادي (ع)!

٤. وبعد المعتصم كان الواثق يوكل اليه تعذيب الوزراء والجباة، الذين يغضب عليهم، ليستخرج منهم الأموال!

قال ابن حمدون في التذكرة « ٢ / ١٠٦ »: « لما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب، جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخجي، ثم وجه إليه يوماً: طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه، فإن أذعن بها وإلا فجرِّده واضربه مائة سوط، ولاتتوقف عن هذا لحظة واحدة، ففعل عمر ».

٥. أما المتوكل فأوكل اليه أسوأ الأدوار، ثم بطش به أسوأ البطش! فقد غضب عليه في أول خلافته، قال الطبري « ٧ / ٣٤٧ »: « وفيها « سنة ٢٣٣ » غضب المتوكل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبسه عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله ».

وفي مروج الذهب « ٤ / ١٩ »: « سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي، وكان من عِلْيَةِ الكتاب وأخذ منه مالًا وجوهراً، نحومائة ألف وعشرين ألف دينار،

٣٢٦

وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف وخمسين ألف دينار، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم، على أن يرد إليه ضياعه ثم غضب عليه غضبةً ثانية، وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة، وألبسه جبة صوف، ثم رضي عنه، وسخط عليه ثالثة، وأحدر إلى بغداد، وأقام بها حتى مات »!

وفي تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٥ »: « وسخط على عمر بن فرج الرخجي، وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك ».

ووصف القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « ٢ / ١٢ »، بطش المتوكل به لما بلغه أنه كان في الأهواز يفتخر على قاضيها بقربه من المتوكل، وأنه أخذ منه الألوف ولم يحاسبه، فوشى به القاضي الى المتوكل فأرسل جاء به الى سامراء، وأركبه على حمار وسجنه وعذبه، وباع أملاكه!

٦. ثم رضي عليه المتوكل وأوكل اليه مهمة هدم قبر الحسين (ع)، فبعثه أكثر من مرة بجيش، وقاتل أهل الكوفة حتى أخضعهم، ثم هدم القبر!

روى الطوسي في الإمالي / ٣٢٥: « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين (ع) فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فمُرَّ بها على القبور، فمرت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (ع) لم تمر عليه! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فوالله ما جازت على

٣٢٧

قبره ولا تخطته. قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد (ص) فأنا أبرأ إلى الله منه. وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته ». أي أفرح بولادتي منه.

٧. ثم أوكل اليه المتوكل حكم الحجاز ليضطهد العلويين ويفقرهم ويبيدهم! قال أبوالفرج في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥: « واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البر بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشئ وإن قلَّ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غُرْماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر »!

٨. وبعد أن نفذ أوامر المتوكل، وارتكب لأجله الجرائم، غضب عليه وعزله، وأذله! وصدق رسول الله (ص): من أعان ظالماً سلطه الله عليه. « الخرائج: ٣ / ١٠٥٨ ».

وتقدم أن المتوكل أنه سمع بعائشة بنت عمر الرخجي، فأمره في جوف الليل والمطر أن يأتيه بها، فوطأها ثم ردها إلى منزل أبيها! « المحاسن للجاحظ / ١١٨ ».

٩. وقد ورد أن الإمام الجواد (ع) دعا على عمر الرخجي، ففي الكافي « ١ / ٤٩٧ »: « محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن « الإمام الهادي (ع) » فقال: يا محمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت: مات عمر. فقال: الحمد لله، حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرة. فقلت: يا سيدي لوعلمت أن هذا يسرُّكَ لجئتُ حافياً أعدو إليك. قال: يا محمد أوَلا تدري ما قال لعنه الله لمحمد بن علي أبي؟ قال

٣٢٨

قلت: لا. قال: خاطبه في شئ فقال: أظنك سكران! فقال أبي: اللهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً، فأذقه طعم الَحرَب وذلَّ الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حَرِبَ ما لَه « خسره » وما كان له، ثم أخذ أسيراً، وهوذا قد مات لا رحمه الله. وقد أدال الله عز وجل منه. وما زال يديل أولياءه من أعدائه ».

أقول: استشكل الرجاليون في هذه الرواية بأن وفاة محمد بن سنان سنة ٢٢٠، ووفاة الرخجي ٢٣٧، لكن الرواية قرينة على أن وفاة ابن سنان بعد هذا التاريخ.

الوزير الفتح بن خاقان:

كان للمتوكل عدة وزراء، لكن أهمهم الفتح بن خاقان الذي قُتل معه، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وعندما قَتَل المتوكل ابن الزيات كلف شخصاً إسمه أبو الوزير فتسلم أمواله الواسعة. ثم استوزر الجرجرائي، ثم استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وكان فوقهم جميعاً الفتح بن خاقان.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣ و ٦ »: « فكانت أيام أبي الوزير في الوزارة يسيرة، وقد كان اتخذ للوزارة محمد بن الفضل الجرجرائي، ثم صرفه غلب عليه الفتح بن خاقان: وكان الفتح بن خاقان التركي مولاه، أغلبَ الناس عليه، وأقربَهم منه، وأكثرهم تقدُّماً عنده ».

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء « ١٢ / ٨٢ »: « الفتح بن خاقان: الأمير الكبيرالوزير الأكمل، أبومحمد التركي، شاعر مترسل بليغ مفوه، ذوسؤدد وجود ومحاسن، على لعب فيه. وكان المتوكل لا يكاد يصبر عنه، استوزره، وفوض إليه إمرة

٣٢٩

الشام، فبعث إليها نواباً عنه وكان أحد الأذكياء، دخل المعتصم على الأمير خاقان فمازح ابنه هذا وهوصبي، فقال: يا فتح، أيما أحسن داري أوداركم؟ فقال الفتح: دارنا إذا كنت فيها، فوهبه مئة ألف. وكان الفتح ذا باع أطول في فنون الأدب. قتل مع المتوكل سنة سبع وأربعين ».

ومدحه ابن النديم في الفهرست فقال / ١٣٠: « الفتح بن خاقان بن أحمد، في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب، من أولاد الملوك، اتخذه المتوكل أخاً، وكان يقدمه على سائر ولده وأهله، وكان له خزانة « مكتبة » جمعها له علي بن يحيى المنجم لم يُرَ أعظم منها كثرةً وحسناً. وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين. قال أبوهَفَّان: ثلاثة لم أرَ قطُّ ولا سمعتُ أحب َّإليهم من الكتب والعلوم: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي ».

أقول: تدل أخبار الفتح على أنه كان إنساناً محترماً، وكان في عمله مع المتوكل مهنياً أميناً، لم يُؤْذِ أحداً، ولا دفع المتوكل الى ذلك. على عكس زميله عبيد الله بن يحيى بن خاقان! قال أبوالفرج « مقاتل الطالبيين / ٣٩٥ »: « كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم، فحسَّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين (ع) وعفى أثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له، لايجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله أوأنهكه عقوبة »!

٣٣٠

بل نجد أن الفتح بن خاقان كان يعتقد أن الإمام الهادي (ع) ولي الله تعالى، ويطلب أن يدعوللمتوكل أويعالجه، فقد روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لوبعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « عصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه ». وتقدم ذلك في فصل سياسة المتوكل مع الإمام (ع).

وتذكر بعض رواياتنا أنه كان محباً للإمام الهادي (ع) ويعمل لدفع الضر ـ ر عنه، فقد روى الشيخ الطوسي في الامالي / ٢٧٥ ، عن أبي موسى المنصوري وهو أمير عباسي من أولاد المنصور، وكان منقطعاً الى الإمام الهادي (ع)، فبعث المتوكل اليه الفتح بن خاقان، ولما جاء أكرمه ودفع له مخصصاته المتأخرة.

ولما خرج قال له الفتح: لست أشكُّ أنك سألته دعاءً لك، فالتمس لي منه دعاء! فلما دخلت إليه (ع) قال لي: يا أبا موسى هذا وجهُ الرضا. فقلت: ببركتك يا سيدي قلت: إن الفتح قال لي كيت وكيت. قال: إنه يوالينا بظاهره ويجانبنا بباطنه، الدعاء لمن يدعو به. إذا أخلصتَ في طاعة الله واعترفتَ برسول الله (ص) وبحقنا أهل البيت، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً، لم يحرمك ».

٣٣١

وقال له الفتح: « ذكر الرجل يعني المتوكل خبر مال يجئ من قم، وقد أمرني أن أرصده لأخبره به، فقل لي: من أي طريق يجئ حتى أجتنبه »!

وقد يكون الفتح صادقاً، وسيأتي ذلك في ترجمة المنصوري في أصحاب الإمام (ع).

الوزير عبيدالله بن يحيى بن خاقان:

ذكر القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « ٨ / ١٢ » كيف تمكن عبيد الله بن يحيى بن خاقان من المتوكل، قال: « حدثنا أبوجعفر أحمد بن إسرائيل، قال: كان سبب رفعه عبيد الله بن يحيى: طلبُ المتوكل لحدثٍ من أولاد الكتاب يوقع بحضرته في الأبنية والمهمات، لأنه كان قد أسقط الوزارة، بعد صرف محمد بن الفضل الجرجرائي واقتصر على أصحاب الدواوين، وأمرهم أن يعرضوا الأعمال بأنفسهم، وجعل التاريخ في الكتب باسم وصيف التركي، وانتصب منصب الوزارة، وإن كان لم يسم بها. فأسميَ له جماعة فاختار عبيد الله من بينهم، فحضر أول يوم، فصلَّى في الدار ركعات وجلس وعليه قباء وسيف ومنطقة وشاشية على رسم الكتاب. قال أبوالحسين لأنه لم يكن أحد يصل إلى الخليفة، إلَّا بقباء وسيف ومنطقة من الناس كلهم، إلَّا القضاة، لا في موكب ولا غيره، فإذا كان يوم موكب، كانت الأقبية كلها سواداً، وإذا كان غير يوم موكب فربما كانت من بياض، وفي الأكثر سواداً.

٣٣٢

فلما صلَّى عبيد الله وجلس لم يجتز به أحد من الحاشية كبير ولا صغير إلَّا قام إليه قائماً وسلَّم عليه، حتى قام إلى رئيس الفراشين! فرآه بعض الحاشية فقال: من هذا الشقي الذي قد قام لسائر الناس حتى قام إلى الكلاب؟ فقيل له فلان.

ثم أذن له المتوكل لما خلا، فدخل إليه وكان على رأسه قلنسوة سوداء شاشية، وكان طويل العنق فظهرت عنقه. فلما رآه المتوكل أومأ بيده إلى قفاه ومسحه شبه صفعة، فأخذ عبيد الله يده فقبلها فنفق عليه وخف على قلبه وسُرَّ بذلك، واستخف روحه وقال له: أكتب. فكتب وهوقائم: ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، إلى قوله عز وجل: ويَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً ) . فكتب: وينصرك الله يا أمير المؤمنين نصراً عزيزاً، فزاد ذلك في تقبل المتوكل له وتفاءل بذلك، وقال له: إلزم الدار، فكان يلزمها منذ السحر، إلى وقت نوم المتوكل في الليل.

وقوي أمره مع الأيام، حتى صار يعرض الأعمال، كما كان الوزراء يعرضونها وليس هو بعدُ وزير، والتاريخ لوصيف. فأمره المتوكل في بعض الأيام أن يكتب نسخة في أمر الأبنية فقال: نعم. فلما كان بعد ساعة سأله هل كتبت؟ فقال: لم يكن معي دواة. فقال: أكتب الساعة، فاستحضر دواة، وكان إيتاخ الحاجب قائماً يسمع ذلك، فلما خرج عبيد الله قال له: إنما طلبك أمير المؤمنين لتكتب بين يديه فإذا حضرت بلا دواة فلأي شئ تجئ؟ فقال له عبيد الله: وأي مدخل لك أنت في هذا، أنت حاجب أو وزير؟ فاغتاظ من ذلك فأمر به فبُطح وضربه على رجليه عشرين مقرعة، وقال له: الآن علمت أن لي فيه مدخلاً!

٣٣٣

فلم يتأخر عبيد الله عن الخدمة، وعاد فجعل يمشي ويعرج، فسأل المتوكل عن خبره فعرف الصورة، فغلظ عليه ذلك، وقال: إنما قَصَدَهُ إيتاخ لمحبتي له.

وكان قد اجتمع في نفس المتوكل من إيتاخ العظائم، مما كان يعمل به في أيام الواثق، ولا يقدر له على نكبته لتمكَّنه من الأتراك.

فأمر بأن يخلع على عبيد الله من الغد، وأن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين عليه شيئاً، وأن يدفعوا أعمالهم إليه ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم، فندم إيتاخ على ما فعله، وجعل يداري عبيد الله ويثاقفه، وقوي أمر عبيد الله حتى حذف بنفسه من غير أمر إسمَ وصيف من التاريخ وأثبت إسمه. ثم أمر له المتوكل برزق الوزارة، ثم خوطب بالوزارة بعد مُدَيْدَة وخلع عليه لها خلعاً أخر.

ثم قلَّده كتابة المعتز وخلع عليه، ثم قلَّده كتابة المؤيد وخلع عليه، وضمَّ المتوكل إلى ابنيه، بضعة عشر ألف رجل، وجعل تدبيرهم إلى عبيد الله، فكان وزيراً أميراً. فلما تمكَّن هذا التمكَّن بالجيش والمحل، عارض إيتاخ وبطَّأ حوائجه وقصده، ووضع من كُتَّابه، ولم يزل ذلك يقوى من فعله إلى أن دبَّرَ على إيتاخ، فقتله على يد إسحاق بن إبراهيم الطاهري ببغداد، بعد عود إيتاخ من الحجّ ».

وقال اليعقوبي « ٢ / ٤٨٨ »: « سخط المتوكل على محمد بن الفضل كاتب ديوان التوقيع لأمر وقف عليه منه، فصير مكانه عبيدالله بن يحيى بن خاقان ورفعه وأعلى مرتبته وولاه وأمره أن يكتب: مولى أمير المؤمنين وكان ولاؤه في الأزد ».

٣٣٤

وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق « ٣٨ / ١٤٣ و ١٤٦ »: « عبيد الله بن يحيى بن خاقان بن عرطوج، أبوالحسن التركي، وزير المتوكل، قدم مع المتوكل دمشق فيما وجدت بخط عبد الله بن محمد الخطابي الشاعر الدمشقي، في تسمية من قدم مع المتوكل. وقدمها مرة أخرى منكوباً حين نفاه المستعين إلى برقة سنة ثمان وأربعين ومائتين. وكان عوده إلى بغداد سنة ثلاث وخمسين ومئتين بعد أن حج، ثم استوزره المعتمد في شعبان سنة ست وخمسين ومئتين قال أحمد بن أبي طاهر: تقلد عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة مرتين وكان نُفي في وقت النكبة إلى بَرْقة، فاجتاز بدمشق، وعيسى بن الشيخ يتقلدها فلقيه عيسى بن الشيخ وترجل له وأعظمه وبره وأكرمه وخدمه فلما تقلد عبيد الله بن يحيى الوزارة المرة الثانية حفظ له ذلك، ولم يزل حتى قلده الديار البكرية وإرمينية ».

وكان الوزير عبيد الله بن خاقان أداة للمتوكل في هدم قبر الإمام الحسين (ع) واضطهاد الذاهبين لزيارته وتعذيبهم وقتلهم. فقد استمرت محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة ٢٣٦ الى شعبان ٢٣٧، وورد فيها إسم الوزير عبيد الله بن خاقان، وأنه أرسل عدداً من القادة في جند كثيف، ومعهم متطرفون من النواصب. كما ذكرنا في فصل هدم القبر الشريف.

وعاش الوزير عبيد الله بعد المتوكل، وكان وزيراً لعدة خلفاء، حتى توفي فجأة سنة ٢٦٠، في أيام شهادة الإمام العسكري (ع) فقد روى الصدوق في كمال الدين / ٤٧٥، تفتيش السلطة عن الإمام المهدي (ع) قال: « فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله

٣٣٥

عليه على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر، وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرَّ فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية، فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي. وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين ».

القائد العام لجيش الخلافة: إيتاخ

عندما توفي الواثق اجتمع كبار شخصيات الدولة: « أحمد بن أبي دؤاد، وإيتاخ، ووصيف، وعمر بن فرج، وابن الزيات، وأحمد بن خالد أبوالوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهوغلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هوقصير ». « الطبري: ٧ / ٢٤١ ».

فكان إيتاخ القائد الأول ويليه وصيف، لأن جيش الخلافة كان أكثره من الأتراك، فكان لقادتهم دور في اختيار الخليفة، ثم صار لهم كل الدور. وكان إيتاخ غلاماً للمعتصم، فأوكل اليه تربية المتوكل، فكان بمنزلة أبيه!

٣٣٦

قال ابن كثير في النهاية « ١٠ / ٣٤٣ »: « شرب ليلةً مع المتوكل، فعربد عليه المتوكل فهمَّ إيتاخ بقتله، فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له: أنت أبي وأنت ربيتني، ودسَّ اليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج ».

قال الطبري « ٧ / ٣٥٠ »: « ذكر أن إيتاخ كان غلاماً خزرياً لسلام الأبرش طباخاً، فاشتراه منه المعتصم في سنة ١٩٩ وكان لإيتاخ رَجْلَةٌ وبأسٌ، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالاً كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم، وكان من قِبَله رجُلٌ ومن قِبَل إسحاق رجُلٌ، وكان من أراد المعتصم أوالواثق قَتْلَهُ فعند إيتاخ يُقتل، وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس وصالح بن عجيف وغيرهم. فلما وليَ المتوكل كان إيتاخ في مرتبته إليه الجيش، والمغاربة، والأتراك، والموالي، والبريد، والحجابة، ودار الخلافة.

فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزهاً إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة فعربد على إيتاخ فهمَّ إيتاخ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له فاعتذر إليه والتزمه وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دسَّ إليه من يشيرعليه بالإستئذان للحج ففعل وأذن له، وصيره أمير كل بلدةٍ يدخلها، وخلع عليه وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف ..

٣٣٧

لما قفل من مكة راجعاً إلى العراق وجَّه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب، مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أوببعض طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.

فذكر عن إبراهيم بن المدبر أنه قال خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامر، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنوهاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. قال فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته وطرح له بالياسرية صفةً فجلس عليها، حتى قالوا قد قرب منك فركب فاستقبله فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل، قال: وكان إيتاخ في ثلاث مائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباءٌ أبيض متقلداً سيفاً بحمائل، فسارا جميعاً حتى إذا صارا عند الجسر، تقدمه إسحاق عند الجسر وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير، وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه، قدموه حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أوأربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا

٣٣٨

ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولودخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قَتْلَ جميع من خالفه، أمكنه ذلك.

قال: فأتيَ بطعام قرب الليل فأكل فمكث يومين أوثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعدَّ لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه فحدروه إلى الحراقة، وصير معه قوم بالسلاح، وصاعد إسحاق حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة ابن زياد النصراني، بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة فحبسوا ببغداد.

فأما سليمان وقدامة فضربا فأسلم قدامة، وحبس منصور ومظفر.

وذكر عن تُرْك مولى إسحق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال لي: يا تُرك. قلت: ما تريد يا منصور. قال: أقرئ الأمير السلام وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك، فكنت أدفع عنك ما أمكنني فلينفعني ذلك عندك. أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحماً وشيئاً يأكلان منه.

قال تُرك: فوقفت على باب مجلس إسحاق قال لي: مالك يا تُرك، أتريد أن تتكلم بشئ. قلت: نعم. قال لي إيتاخ: كذا وكذا! قال وكانت وظيفة إيتاخ رغيفاً

٣٣٩

وكوزاً من ماء، ويأمر لابنيه بخوانٍ فيه سبعة أرغفة وخمس غرف « جمع غَرْفَة بمعنى ملعقة » فلم يزل ذلك قائماً حياة إسحاق، ثم لا أدرى ما صنع بهما!

فأما إيتاخ فقُيِّدَ وصُيِّر في عنقه ثمانون رطلاً وقيدٌ ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ٢٣٥ ، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد، وصاحب بريد بغداد، والقضاة، وأراهم إياه، لا ضربَ به ولا أثرَ! وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أُطعم فاستسقى فمنع الماء حتى مات عطشاً، وبقي إبناه في الحبس حياة المتوكل فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، وأما منصور فعاش بعده ».

قال المسعودي في التنبيه والإشراف / ٣١٣: « بويع المتوكل جعفر بن محمد المعتصم وجفا الموالي من الأتراك واطَّرحهم وحطَّ مراتبهم، وعمل على الإستبداد بهم والإستظهار عليهم ».

أقول: لم يترك المتوكل أحداً من أولياء نعمته وأصدقائه إلا وغدر به! وقد حقد عليه الترك لغدره بقائدهم إيتاخ، وتبايعوا على قتله.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣٤ »: « ولما عزم بُغا الصغير على قتل المتوكل دعا بباغر التركي، وكان قد اصطنعه واتخذه وملأ عينه من الصِّلات، وكان مقداماً أهوج، فقال له: يا باغر أنت تعلم محبتي لك وتقديمي إياك وإيثاري لك وإحساني إليك، وإني قد صرت عندك في حد من لا يُعْصَى له أمر، ولا يخرج

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477