الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158454 / تحميل: 7002
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لتشخيص تلك الذنوب، الامور التالية:

١ - كل ذنب وعد الله سبحانه وتعالى له في القرآن الكريم عذاباً.

٢ - كل ذنب عين له الشارع المقدس حداً معيناً (كشارب الخمر والزاني، والسارق، وامثالها، فحدودها الجلد والقتل والرجم) وقد حذر عنه القرآن الكريم.

٣ - كل ذنب يدل على الاستهانة بالدين والامبالاة به.

٤ - كل ذنب ثبتت حرمته وانه ذنب كبير بالأدلة القاطعة.

٥ - كل ذنب هدّد له القرآن والسنة بالعذاب الشديد لمرتكبه(١) .

أما حول عدد الذنوب الكبيرة فبعضهم قال: سبعة والبعض الآخر قالوا: عشرة، واخرون: عشرون، والبعض: اربع وثلاثون وبعض: أربعون أو أكثر.

والجدير بالانتباه هو أنّ هذه الاختلافات في العدد قد جمعت واقتبست من الايات والروايات المختلفة، ولاجل ذلك لا تكون الذنوب الكبيرة في مستوى واحد.

____________________

(١) نقلاً من العلامة المجلسي في شرح اصول الكافي، والتي نقلها بدوره عن الشيخ البهائي، ترجمة (اصول الكافي ج٣ ص ٣٩٢).

٢١

الذنوب الكبيرة في نظر الامام الخميني (قدس سره).

جاء في كتاب تحرير الوسيلة للامام الخميني (قدس سره) حول الذنوب الكبيرة ما يلي:

١ - هي كل معصية توعد الله مرتكبها بنار جهنّم كما ورد في القرآن والروايات الاسلامية.

٢ - أو نهي عنها في الشريعة نهياً غليظاً.

٣ - او دل دليل على كونها اكبر من بعض الذنوب الكبيرة الاخرى او امثالها.

٤ - او حكم العقل بانها كبيرة.

٥ - ان يعد ذلك الذنب في ارتكاز المتشرعة من الذنوب الكبيرة.

٦ - او ورود النص من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) او الائمة (عليهم السلام) بكونها من الذنوب الكبيرة.

ثم قال: الذنوب الكبيرة كثيرة بعضها عبارة عن:

١ - اليأس من رحمة الله.

٢ - الأمن من مكره.

٣ - الكذب على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصيائه.

٤ - قتل النفس التي حرمها الله الا بالحق.

٥ - عقوق الوالدين.

٦ - اكل مال اليتيم ظلماً.

٢٢

٧ - قذف المحصنة.

٨ - الفرار من الزحف.

٩ - قطيعة الرحم.

١٠ - السحر والشعبذة.

١١ - الزنا.

١٢ - اللواط.

١٣ - السرقة.

١٤ - اليمين الغموس.

١٥ - كتمان الشهادة في مورد تكون الشهادة عليه واجبة.

١٦ - شهادة الزور.

١٧ - نقض العهد.

١٨ - الحيف في الوصية.

١٩ - شرب الخمر.

٢٠ - الربا.

٢١ - أكل السحت.

٢٢ - القمار.

٢٣ - اكل الميتة والدم.

٢٤ - اكل لحم الخنزير.

٢٥ - ما أهلّ لغير الله من غير ضرورة.

٢٦ - البخس في المكيال والميزان.

٢٣

٢٧ - التعرب بعد الهجرة(١) .

٢٨ - معونة الظالمين.

٢٩ - الركون اليهم (يعني الظالمين).

٣٠ - حبس الحقوق من غير عذر.

٣١ - الكذب.

٣٢ - التكبر.

٣٣ - الاسراف والتبذير.

٣٤ - الخيانة.

٣٥ - الغيبة.

٣٦ - النميمة.

٣٧ - الاشتغال بالملاهي.

٣٨ - الاستخفاف بالحج.

٣٩ - ترك الصلاة.

٤٠ - منع الزكاة.

٤١ - الاصرار على الصغائر من الذنوب.

وأما الشرك بالله تعالى وانكار ما انزله ومحاربة اوليائه فهي من اكبر الكبائر(٢) .

____________________

(١) يعني أنّ الانسان كان في مكان محفوظ فيه دينه ويهاجر الى مكان يكون دينه في خطر فيسمى ذلك (التعرب).

(٢) تحرير الوسيلة ج ١ ص ٢٧٤، ٢٧٥.

٢٤

وطبقاً لما ورد في رسالة الامام الخميني (قدس سره) فانّ الذنوب الكبيرة كثيرة وما ذكر هو قسم منها. فمثلاً الاستهانة بالكعبة والقرآن والرسول والائمة الطاهرين (عليه السلام) او سبهم او البدعة و...... يعد من الذنوب الكبيرة.

تقسيم آخر للذنوب:

قال الامام علي (عليه السلام)(١) .

« إن الذنوب ثلاثة.... فذنب مغفور وذنب غير مغفور. وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه ».

قيل: يا امير المؤمنين (عليه السلام) فبينها لنا، قال (عليه السلام) نعم: أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله تعالى على ذنبه في الدنيا فالله أحكم وأكرم ان يعاقب عبده مرتيّن، وأما الذنب الذي لا يغفر فظلم العباد بعضهم لبعض، إن الله تبارك وتعالى اذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كفّ بكّف، ولو مسحة بكف ونطحةٍ ما بين الشاة القرناء الى الشاة الجماء، فيقتض الله للعباد بعضهم من بعض، حتى لا يبقى لأحدٍ عند أحد مظلمة، ثم يبعثهم الله الى الحساب، وأم الذنب الثالث فذنب سترة الله على عبده ورزقه التوبة فأصبح خاشعاً من ذنبه، راجياً لربه فنحن له كما هو لنفسه نرجو له الرحمة ونخاف عليه العقاب.

____________________

(١) بحار الانوار ج ٦ ص ٢٩ - ٣٠.

٢٥

الموارد التي تبدل الذنب الصغير

الى ذنبٍ كبير

يستفاد من بعض الروايات والآيات القرآنية بان هناك ذنوباً صغيرة تتبدل الى ذنوبه كبيرة وتتلبس باحكامها.

١ - الاصرار على الذنب الصغير:

إنّ ممارسة الذنب الصغير لعدة مرات يعد ذنباً كبيراً واذا لم يبادر المرتكب للذنب الى التوبة والاستغفار يحسب اصراراً على المعصية.

فمثلاً لو نسج الخيط مع الشعر لصار حبلاً قوياً فعندها لا يكون خيطاً ولا شعراً بل هو حبل قوي. ففي سورة آل عمران (الآية ١٣٥) نقرأ:

(.... ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون).

٢٦

قال الامام الباقر (عليه السلام) في شرح هذه الآية:

« الاصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله فلا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الاصرار »(١) .

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

« إياك والاصرار فأنه من أكبر الكبائر واعظم الجرائم »(٢) .

لا تغفلوا عن الذنوب الصغيرة:

قال الامام الصادق (عليه السلام):

ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل بأرضٍ قرعاء فقال لاصحابه: ائتوا بحطبٍ، فقالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال (صلى الله عليه وسلم): فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فان لكلّ شيء طالباً ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمامٍ مبين »(٣) .

اشارة الى قوله تعالى في سورة يس الآية ١٢:

(ونكتب ما قدموا...).

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٨٨.

(٢) غرر الحكم ج ١ ص ١٥١.

(٣) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٨٨.

٢٧

قال الامام الصادق (عليه السلام):

« لا صغيرة مع الاصرار ».

٢ - الاستهانة بالذنب:

الاستهانة بالذنب تعدّ من الذنوب الكبيرة، ولا يضاح الموضوع نضرب مثالاً:

اذا ضرب أحد غيره بحجرٍ كبير على رأسه ثم ندم على عمله واعتذر، فمن الممكن ان يصفح عنه. ولكن اذا ضرب احد الآخر بحجرٍ صغير جداً ولم يعتذر منه زاعماً أنها هفوة طفيفة ولم تكن شيئاً مهماً، فطبيعي أن لا يصفح عنه المضروب، لانها نابعة من روحه المتبكرة واستهانته بذنبه.

قال الامام الحسن العسكري (عليه السلام).

« من الذنوب التي لا تغفر: ليتيني لم أواخذ الاّ بهذا »(١) .

لان الذنب المشار اليه في الرواية قد استهين به.

قال الامام علي (عليه السلام).

« أشد الذنوب ما استهان به صاحبه »(٢) .

نقل زيد الشحام عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال:

« اتقوا المحقرات من الذنوب فانها لا تغفر ».

____________________

(١) بحار الانوار: ج ٧٣، ص ٣٥٥.

(٢) نهج البلاغة الحكمة ٣٤٨ غرر الحكم ج ١ ص ١٩٣.

٢٨

قلت: وما المحقرات؟ قال الامام الصادق (عليه السلام):

« الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك »(١) .

٤ - وجاء في الصحيفة السجادية عن الامام السجاد (عليه السلام) في ضمن الدعاء انه يقول:

« اللهم اعوذ بك من... الاصرار على المآثم واستصغار المعصية واستكبار الطاعة ومباهاة المكثرين والازراء بالمقلين وسوء الولاية لمن تحت ايدينا وترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا... »(٢) .

٣ - الابتهاج عند ممارسة الذنب:

الاحساس باللذة والفرح عند اقتراف الذنب هو احد الاسباب التي تحول الذنب الى كبير ويوجب العذاب الاليم لصاحب الذنب. وفي هذا المورد توجد عدة روايات.

قال الامام علي (عليه السلام):

« شر الاشرار من تبهج بالشر »(٣) .

وقال ايضاً:

« من تلذذ بمعاصي الله ذلّ »(٤) .

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٨٧.

(٢) الدعاء الثامن من الصحيفة السجادية.

(٣) الغرر ص ١٣٠.

(٤) غرر الحكم ج ١ ص ٤٤٦.

٢٩

قال الامام السجاد (عليه السلام):

« اياك وابتهاج الذنب فانه اعظم من ركوبه »(١) .

وقال الامام السجاد (عليه السلام) في حديث آخر:

« حلاوة المعصية يفسدها اليم العقوبة »(٢) .

وله في حديث آخر:

« لا خير في لذة من بعدها النار »(٣) .

وقال الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النار وهو باك »(٤) .

٤ - اقتراف الذنب عند الطغيان:

والسبب الاخر الذي يبدل الذنب الصغير الى كبير هو صدوره عن الطغيان والعصيان كما ورد في الآيات التالية من سورة النازعات الآية ٣٧ الى ٣٩.

(وأمّا من طغى - وآثر الحياة الدّنيا فإنّ الجحيم هي المأوى).

____________________

(١) بحار الانوار ج ٧٨ ص ١٥٩.

(٢) بحار الانوار ج ٧٨ ص ١٥٩.

(٣) بحار الانوار ج ٧٨ ص ١٥٩.

(٤) مشكاة الانوار ص ٣٩٤ - وسائل الشيعه ج ١١ ص ٢٦٨.

٣٠

٥ - الغرور عند ارخاء الستر الالهي للانسان المذنب وامهاله:

من الموارد التي تحول الذنب الصغير كبيراً هو ان المذنب يخالج تفكيره أن عدم مجازاة الله سبحانه وتعالى السريعة له تدل على رضى الله عنه وحبه له كما جاء في الآية ٨ من سورة المجادلة:

(ويقولون في أنفسهم لولا يعذّبنا الله بما نقول حسبهم جهنّم يصلونها فبئس المصير).

فالوعيد بعذاب جهنم لهؤلاء الاشخاص دليل على ان ذنب هؤلاء المغرورين بعدم مجازاة الله السريعة لهم هي من الذنوب الكبيرة.

٦ - التجاهر بالذنب:

إنّ اعلان الذنب والتجاهر به أمام الناس يبدل الذنب الصغير الى ذنبٍ كبير. وهذا التجاهر تعبير عن ان صفة التجرّو على الاوامر الالهية وعدم الالتزام بها هي صفة المذنبين، ويعبّر ايضا عن تلوث المجتمع لكون الذنب فيه متفشياً وطبيعياً.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

« إياك والمجاهرة بالفجور فانه من اشد المآثم »(١) .

وقال الامام الرضا (عليه السلام):

« المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيئة

____________________

(١) غرر الحكم ج ١ ص ١٥١.

٣١

مخذولّ »(١) .

٧ - ذنب الاشخاص ذوي المركز الاجتماعي المرموق:

هناك أشخاص لهم مكانة اجتماعية مرموقة بين الناس، فما يقترفونه من الذنوب له حكمّ خاص يختلف تماماً عن عامة الناس لذا يحكم على ذنوبهم الصغيرة بكونها كبيرة لوجود بعدين.

١ - بعد فردي.

٢ - بعد اجتماعي.

إنّ ذنب الاشخاص المتميزين المرموقين في البعد الاجتماعي يعد ذنباً كبيراً وان كان صغيراً لانه يوفر الارضية لانحراف واغواء جمعٍ كثيرٍ من الناس مما يؤدي الى الاستهانة بالدين.

كما يقولون: « الملح يرجى لإصلاح ما فسد فكيف الحال اذا الملح فسد؟!! »، ولنضرب المثال الآتي:

لو وضع شخص أمي ماءً قذراً في اناء واعطاه لآخر فشربه فاصابه المرض، في هذه الحالة لا يعاقب الأمي لأن الثاني كان عالماً فلماذا شرب الماء؟

ومثله اذا كان شخص يصنع « المرطبات » بالفستق وماء الورد والحليب ويقدمه الى المشتري بشكلٍ جميل وجذاب فاذا أكل أحدً من تلك « المرطبات » فتسمم عوقب ذلك البائع لجذبه المشترين

____________________

(١) مشكاة الانوار: ص ٣٩٤ - اصول الكافي ج ٢ ص ٤٢٨.

٣٢

واغرائهم بلون المرطبات المعروضة وجهلهم بتسمّمها.

وعلى هذا المعيار تأتي المحاسبة الالهية للشخصيات المرموقة في المجتمع مختلفةً عن محاسبة الآخرين.

ذنب العلماء من وجهة نظر القرآن الكريم:

١ - في الآية ٤٤ ألى ٤٨ من سورة الحاقة نقرأ:

(ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل - لأخذنا منه باليمين - ثمّ لقطعنا منه الوتين - فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين).

لقد ظهر اشخاص كثيرون في التاريخ أظهروا البدع وتحريف الدين، ولم يخاطبهم الله بذلك الخطاب الشديد الوارد في الآية اعلاه. لكن لو فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك لعاقبه تعالى لاجل مقام العصمة والعلم والمعرفة التي يتصف بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا تأكيد على أن رفيع المنزلة اذا أذنب فذنبه ذنب كبير، وعلى هذا الاساس فانّ كل من يمتلك شخصية علمية او دينية وينتسب الى الشريعة والدين تكون مسؤوليته اكبر.

العالم غير الملتزم في القرآن الكريم:

شبه القرآن الكريم العالم الذي لا يعمل بما يعلم « بالكلب والحمار » فنرى في سورة الأعراف الآية ١٧٦ ما ورد في ذم العالم المذنب « بلعم بن باعوراء » قوله تعالى:

٣٣

(فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث).

وفي الآية ٥ من سورة الجمعة شبّه تعالى حال اللاهثين وراء حبّ الدنيا حيث قال:

(مثل الذّين حمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفاراً).

وفي الآية ٣٠ من سورة الاحزاب نقرأ:

(يا نساء النّبي من يأت منكنّ بفاحشةٍ مبينةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين).

فنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاجل منزلتهن العظيمة في المجتمع يضاعف لهن العذاب، وذكر الفاحشة المبينة في الآية الكريمة اشارة الى الاثر الاجتماعي الذي يتركه ذلك الذنب في المجتمع الذي لاجله تتضاعف العقوبة.

وعلى هذا الاساس جاء رجل الى الامام السجاد (عليه السلام) وقال له: انكم أهل بيتٍ مغفور له.

فاجابه الامام (عليه السلام):

« ليس كما تقول فللمحسن منا أجران وللمسيء يضاعف له العذاب »(١) ثم تلا الآية (٣٠ و ٣١) من سورة الاحزاب.

____________________

(١) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٥٤.

٣٤

ذنب الرؤساء من وجهة نظر الروايات:

١ - قال الامام الصادق (عليه السلام):

« يغفر للجاهل سبعون ذّنباً قبل ان يغفر للعالم ذنبّ واحد »(١) .

٢ - قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« إذا فسد العالم فسدت الأمة »(٢) .

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً:

« خواص امتي أربعة: الملوك و العلماء والعباد و التجار »(٣) .

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

« لا تصلح عوام امتي ما لم تصلح خواصها، فسأل سائل: من هو خواص امتك يا رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): خواص امتي اربعة الملوك والعلماء والعباد والتجار، فسأل سائل آخر: كيف يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الملوك رعاة الامة فعندما يكونوا ذئاباً فكيف يرعى الرعيل من الشياه؟ والعلماء اطباء الناس فعندما يكون الطبيب مريضاً من يعالج المرضى؟ والعباد هداة الناس فعندما يكونون ضالين فمن يهدي الناس؟ والتجار امناء الناس فعندما يكون الامين خائناً

____________________

(١) اصول الكافي ج ١ ص ٤٧.

(٢) بحار ط بيروت ج ٧٤ ص ١٥٤.

(٣) المواعظ العددية ص ١٢٥.

٣٥

فمن يطمئن اليه؟ ».

٣ - وكذلك قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

« ثلاث لا يكلمهم الله سبحانه يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولهم عذاب اليم:

شيخ زانٍ وملك جبار ومقل مختال »(١) .

٤ - وقال الامام الصادق (عليه السلام) لاحد اصحابه يدعى الشقراني:

« يا شقراني إنّ الحسن من كل احدٍ حسن وانه منك أحسن لمكانك منّا، وإنّ القبيح من كل احدٍ قبيح وإنه منك اقبح »(٢) .

٥ - قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

« زلة العالم تفسد العوالم »(٣) .

وقال ايضاً سلام الله عليه:

« زلة العالم كانكسار السفينة تغرق وتغرق معها غيرها »(٤) .

ولذلك يعتبر ذنب المسؤولين والشخصيات والعلماء والمؤلفين والزعماء والسادات أكبر من غيرهم.

مفاتيح العيوب والذنوب:

كما أن للشيخوخة والكبر دور في تهيئة الارضية لهجوم

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٣١١.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٧٠٨.

(٣) غرر الحكم ج ١ ص ٤٢٦.

(٤) غرر الحكم ج ١ ص ٤٢٦.

٣٦

الامراض المختلفة على صاحبها، كذلك تكون العيوب مفتاحاً للذنوب.

١ - الحسد: يجبر الانسان على ارتكاب انواع الذنوب، مثل التخلف عن الاعمال والتهمة والكذب وسوء القصد و... و...

كما قال الامام الصادق (عليه السلام):

« إنّ الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب »(١) .

وعليه يسعى الانسان الحسود باي طريقة الى تحطيم رقيبه بأية وسيلة.

٢ - البخل والحرص: يعتبر البخل احد العيوب المؤدية الى ارتكاب الذنب، اذ هو مانع عن اعطاء الحقوق الشرعية، مثل الزكاة، والخمس، وعدم الانفاق في سبيل الله سبحانه، وغيرها من الذنوب، إضافة الى ذلك اشمئزاز الناس من البخيل مما يؤدي الى سوء الظن به وسبه.

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

« البخل جامع لمساوىء العيوب وهو زمام يقاد به الى كل سوءٍ »(٢) .

وكذلك الحرص فهو باعث للذنوب، كنقص المكيال والاحتكار، والاجحاف في الاسعار، والرشوة والتملق مما يؤدي الى

____________________

(١) بحار ج ٧٣ ص ٢٥٥.

(٢) بحار ج ٧٣ ص ٣٠٧ - نهج البلاغة الحكمة ٣٧٠.

٣٧

قلة التقوى و ضعفها عند الحريص.

٣ - الكذب: يبرر الانسان الكاذب ذنوبه بانواع التبررات والحجج وتحت غطاء الكذب يقوم باقتراف مئات الذنوب.

قال الامام الحسن العسكري (عليه السلام):

« جعلت الخبائث كلها في بيتٍ وجعل مفتاحها الكذب »(١) .

٤ - الغضب والاخلاق السيئة: الغضب عيب آخر للذنب يؤدي بصاحبه الى الفحشاء والغيبة والمعاداة وانواع السيئات.

قال الامام الحسن العسكري (عليه السلام):

« الغضب مفتاح كل شرٍّ »(٢) .

وهناك عيوب كثيرة تمهد الارضية الى اقتراف الذنوب الاخرى، كسوء الظن، وشرب الخمر، والعداء، والتكبر، و... ونكتفي بهذا المقدار لاجل الاختصار.

طريق آخر لمعرفة الذنوب:

ورد في القرآن الكريم ان هناك ثمانية عشر مجموعة اقترفوا ذنوباً مختلفة فاصبحوا عرضة للعن.

اللعن: ومعناه الطرد والابتعاد من رحمة الله سبحانه. وهو

____________________

(١) البحار ج ٧٢ ص ٢٦٢.

(٢) تحف العقول ص ٥٨١ - اصول الكافي ج ٢ ص ٣٠٣ عن الامام الصادق (عليه السلام).

٣٨

مقرون بالغضب وبالرغم من ان رحمة الله الواسعة شملت كل شيء إلاّ أنّ اولئك الملعونين لا تشملهم الرحمة وجاء في الآية ١٥٢ من سورة الاعراف:

(ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ).

والانسان بمحض إرادته قد تبوّأ مكاناً استحق به اللعن، فمثله كمثل الكرة المغلقة في وسط المحيط لا تصل اليها قطرة من بحر الرحمة الواسعة.

الملعونون في القرآن عبارة عن الكفار والمشركين، واليهود المعاندين والمصرّين على انكارالحق ومساندتهم لاصحاب الاوثان، المرتدون، والمحتالون المعارضون للقوانين الالهية ناقضوا المواثيق الكاتمون للحق، وزعماء الكفر لافسادهم في الارض، والمنافقون المتملقون الذين آذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والظالمون، والقاتلون بغير حق، وابليس، والقاذفون للمحصنات الطاهرات، والمخالفون للقادة الصالحين، والذين يفسدون في الارض واصحاب القلوب الخبيثة والكاذبون.

وجاء في الروايات الاسلامية ان اللعن جعل للذين اتصفوا بالصفات التالية:

قال الامام الصادق (عليه السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

« خمسة لعنتهم وكلّ نبي مجاب: الزائد في كتاب الله والتارك لسنتي، والكذب بقدر الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله،

٣٩

والمتسأثر بالفيء المستحل له »(١) ، ومن دعا الى فعل الخير وهو تاركه او من حذّر الآخرين من ارتكاب الذنوب وهو فاعله.

ولمعرفة الذنوب اكثر هناك حديث مشهور يشير الى وجود جنود للعقل وللجهل وهو دليل جيد لمعرفة هذا الموضوع، ففي البداية نقول:

جنود العقل والجهل:

« عن سماعة بن مهران قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل، فقال ابو عبد الله (عليه السلام): اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سماعة: فقلت: جعلت فداك لا نعرف إلاّ ما عرّفتنا، فقال ابو عبدالله (عليه السلام): ان الله عزّ وجلً خلق العقل وهو اول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له: ادبر فادبر، ثم قال له: اقبل فأقبل؛ فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي، فقال: ثم خلق الجهل من البحر الاجاج ظلمانياً، فقال له: أدبر فادبر؛ ثم قال له: اقبل، فلم يقبل، فقال له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً فلمّا رأى الجهل ما اكرم الله به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة، فقال الجهل: يا رب هذا خلق مثلي خلقته وكرّمته وقوّيته وأنا

____________________

(١) اصول الكافي: ج ٢، ٢٩٣ - وسائل ج ١١ ص ٢٧١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

رؤساء الوزارة

الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات:

كان محمد بن عبد الملك الزيات من أسرة عادية من الدسكرة « الأعلام: ٦ / ٢٤٨ »، والظاهر أنها المقدادية الواقعة قرب بعقوبة. وقد استوزره المعتصم، ثم الواثق.

روى ابن الزيات أن المعتصم ضحك يوماً من نفسه، فسألناه عن سبب ضحكه فقال إن منجماً رآه فقال له: « الطالع أسدٌ وهوالطالع في الدنيا، وإنه يوجب لك الخلافة، وأنت تفتح الآفاق وتزيل الممالك ويعظم جيشك، وتبني بلاداً عظيمة ويكون من شأنك كذا ومن أمرك كذا، وقصَّ عليَّ جميع ما أنا فيه الآن!

قلت: فهذا السعود، فهل عليَّ من نحوس؟ قال: لا، ولكنك إذا ملكت فارقت وطنك وكثرت أسفارك. قلت: فهل غير هذا؟ قال: نعم، ما شئ أنحس عليك من شئ واحد. قلت: ما هو؟ قال: يكون المتولَّون عليك في أيام ملكك أصولهم دنية سفلة، فيغلبون عليك ويكونون أكابر أهل مملكتك ...

ولكني ما ذكرته إلى الآن، ولما بلغت الرحبة وقعت عيني على موضعه فذكرته، وذكرت كلمته وتأمَّلتكما حواليَّ وأنتما أكبر أهل مملكتي، وأنت ابن زيَّات وهذا ابن قَيَّار، وأومأ إلى ابن أبي دؤاد، فإذا قد صح جميع ما قال!

فأنفذت هذا الخادم في طلبه والبحث عنه لأفي له بسالف الوعد، فعاد إليَّ وذكر أنه قد مات قريباً وأخذني الضحك، إذ ترأس في دولتي أولاد السُّفَّل. قال: فانكسرنا، ووددنا أنا ما سألناه »! « نشوار المحاضرة: ٧ / ٢١٢ ».

٣٢١

وقال في تاريخ بغداد « ٣ / ١٤٥ »: « كان بين محمد بن عبد الملك وبين أحمد بن أبي دؤاد، عداوةٌ شديدة، فلما ولي المتوكل دارَ ابن أبي داود على محمد، وأغرى به المتوكل حتى قبض عليه، وطالبه بالأموال ».

وقال البغدادي في خزانة الأدب « ١ / ٤٢٨ »: « وكان ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد، وأطراف مساميره المحددة إلى داخله، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ، وكان يعذب فيه أيام وزارته، فكيفما انقلب المعذب أوتحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه! وإذا قال له أحد: إرحمني أيها الوزير، فيقول له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة! فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، فقال له: يا أمير المؤمنين إرحمني، فقال له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة، كما كان يقول للناس! وكان ذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وكانت مدة تعذيبه في التنور أربعين يوماً، إلى أن مات فيه »!

وتدل روايتنا عن الإمام الهادي (ع) على أن المتوكل كان في سجن ابن الزيات، فأخرجه ابن أبي دؤاد وعقد البيعة له، ثم بطشوا بابن الزيات!

قال خيران الأسباطي « الكافي: ١ / ٤٩٨ »: « قدمت على أبي الحسن (ع) « الإمام الهادي » المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام. قال فقال لي: إن أهل المدينة يقولون: إنه مات. فلما أن قال لي: الناس، علمت أنه هو. ثم قال لي: ما فعل جعفر « المتوكل »؟ قلت: تركته أسوأ الناس حالاً في السجن. قال فقال: أما إنه

٣٢٢

صاحب الأمر. ما فعل ابن الزيات؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره. قال فقال: أما إنه شؤم عليه. قال: ثم سكت وقال لي: لابد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه. يا خيران، مات الواثق، وقد قعد المتوكل جعفر، وقد قتل ابن الزيات. فقلت: متى جعلت فداك؟ قال: بعد خروجك بستة أيام ».

وذكر المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٥ » أن بطشهم بابن الزيات كان بعد أشهر، قال: « سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر، فقبض أمواله وجميع ما كان له، وقلد مكانه أبا الوزير، وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادَرين والمغضوب عليهم تنُّوراً من الحديد رؤوس مساميره إلى داخله قائمة مثل رؤوس المسالّ، في أيام وزارته للمعتصم والواثق، فكان يعذب الناس فيه، فأمر المتوكل بإدخاله في ذلك التنور، فقال محمد بن عبد الملك الزيات للموكل به أن يأذن له في دواة وبطاقة ليكتب فيها ما يريد، فاستأذن المتوكل في ذلك فأذن له فكتب:

هي السبيل فمن يوم إلى يوم

كأنه ما تُريك العين في النومِ

لا تجزعنَّ رويداً إنها دوَلٌ

دُنْيَاً تنقَّلُ من قومٍ إلى قوم.

قال: وتشاغل المتوكل في ذلك اليوم فلم تصِل الرقعة اليه، فلما كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميتاً. وكان حَبْسُه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوماً، وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً ».

٣٢٣

وفي نشوار المحاضرة « ٨ / ١٩ »: « قال الفضل بن مروان: ولا نعلم وزيراً وَزَرَ وزارةً واحدة بلا صَرْف، لثلاثة خلفاء متَّسقين، غير محمد بن عبد الملك ».

وقال في النهاية « ١٤ / ٣٣٣ »: « أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الواثق فطلبه فركب بعد غدائه يظن أن الخليفة بعث إليه، فأتت به الرسل إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط عليه وقُيِّدَ، وبعثوا في الحال إلى داره، فأخذ جميع ما كان فيها من الأموال واللآلئ والجواهر والحواصل والجواري والأثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشراب، وبعث الخليفة إلى حواصله وضياعه بسائر الإماكن، فاحتيط عليها، وأمر به أن يعذب فمنع من الطعام، وجعلوا يساهرونه، كلما أراد الرقاد نُخِسَ بالحديد، ثم وضع بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله، فأقيم عليها ووُكِّلَ به من يمنعه من الرقاد، فمكث كذلك أياماً حتى مات ..

ويقال: إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهوتحت الضرب. ويقال: إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت عليه الكلاب فأكلت لحمه وجلده، سامحه الله وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحواً من تسعين ألف ألف دينار ».

أقول: كان هذا الأسلوب الدموي في انتقال السلطة وما زال، أمراً ثابتاً عند الشعوب المختلفة، وثقافةً سائدةً، ففي نفس السنة التي قتل فيها المتوكل ابن الزيات، قَتَلَ ملك الروم ميخائيل أمه تدورة، بعد أن ملكت ست سنين. « النهاية: ١٤ / ٣٣٣ ».

٣٢٤

أما الديمقراطيات الغربية فقد جعلت انتقال السلطة في الغرب سلمياً، في الظاهر، لكنها لم تحقق ذلك في شعوب العالم التي تحت نفوذها، فبقي دموياً بشكل عام!

الوزير عمر بن الفرج الرخجي:

١. كتبنا له ترجمة في سيرة الإمام الجواد (ع) ووصفناه بأنه ممسحة الخلفاء، لأنهم كانوا يكلفونه بالمهمات القذرة! وكان ناصبياً معادياً لأهل البيت (ع)، بعكس أخيه محمد الذي كان من خيرة أصحاب الأئمة: الرضا والجواد والهادي (ع)، وصار والياً للمتوكل على مصر لفترة. « تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٨٥ ».

٢. ذكرنا في سيرة الإمام الجواد (ع) أن عمر الرخجي كان والياًَ على مكة والمدينة وأنه حاول قتل الإمام الجواد (ع) بالسم، فقد قال كما في « الثاقب في المناقب / ٥١٧ »: « سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر! فقلت: وما هوأصلحك الله؟ قال: إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قُرِّب الطعام فقال: أمسكوا. فقلت: فداك أبي قد جاءكم الغيب؟فقال: عليَّ بالخبَّاز، فجئ به فعاتبه وقال: من أمرك أن تسمني في هذا الطعام؟ فقال له: جعلت فداك، فلان! ثم أمر بالطعام فرفع وأتي بغيره »!

يقصد أنه رأى من الإمام الجواد (ع) شيئاً لو رآه أخوه محمد لصار من الغلاة فيه، واعتقد أنه يعلم الغيب، وكفر بذلك! أما هو فلايكفر ويقول إن الجواد (ع) ساحر! ثم ذكر أن الإمام (ع) كشف محاولة قتله بالسم، وأبعد الرخجي التهمة عن نفسه وأنه هو صاحب المحاولة، مع أنه كان والي مكة والمدينة! فتفكيره كتفكير مشركي قريش،

٣٢٥

فهم يرون أنهم غير معنيين بالإيمان بالمعجزات التي يشاهدونها ولا بتفسيرها! بل عليهم أن يقولوا إن صاحب المعجزة ساحر، حتى لا يفتتن به الناس!

٣. وبعد أن قتل المعتصم الإمام الجواد (ع) أمره أن يوكَّل شخصاً بابنه الإمام الهادي (ع) بعنوان معلم، ويكون تحت رقابته التامة، ويعزله عن الناس حتى لا يفتنوا به كما فتنوا بأبيه! فاختار الرخجي الجنيدي ونصبه لهذه المهمة، وأمر حاكم المدينة أن ينفذ أوامره، فكانت النتيجة إيمان الجنيدي بإمامة الهادي (ع)!

٤. وبعد المعتصم كان الواثق يوكل اليه تعذيب الوزراء والجباة، الذين يغضب عليهم، ليستخرج منهم الأموال!

قال ابن حمدون في التذكرة « ٢ / ١٠٦ »: « لما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب، جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخجي، ثم وجه إليه يوماً: طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه، فإن أذعن بها وإلا فجرِّده واضربه مائة سوط، ولاتتوقف عن هذا لحظة واحدة، ففعل عمر ».

٥. أما المتوكل فأوكل اليه أسوأ الأدوار، ثم بطش به أسوأ البطش! فقد غضب عليه في أول خلافته، قال الطبري « ٧ / ٣٤٧ »: « وفيها « سنة ٢٣٣ » غضب المتوكل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبسه عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله ».

وفي مروج الذهب « ٤ / ١٩ »: « سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي، وكان من عِلْيَةِ الكتاب وأخذ منه مالًا وجوهراً، نحومائة ألف وعشرين ألف دينار،

٣٢٦

وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف وخمسين ألف دينار، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم، على أن يرد إليه ضياعه ثم غضب عليه غضبةً ثانية، وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة، وألبسه جبة صوف، ثم رضي عنه، وسخط عليه ثالثة، وأحدر إلى بغداد، وأقام بها حتى مات »!

وفي تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٥ »: « وسخط على عمر بن فرج الرخجي، وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك ».

ووصف القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « ٢ / ١٢ »، بطش المتوكل به لما بلغه أنه كان في الأهواز يفتخر على قاضيها بقربه من المتوكل، وأنه أخذ منه الألوف ولم يحاسبه، فوشى به القاضي الى المتوكل فأرسل جاء به الى سامراء، وأركبه على حمار وسجنه وعذبه، وباع أملاكه!

٦. ثم رضي عليه المتوكل وأوكل اليه مهمة هدم قبر الحسين (ع)، فبعثه أكثر من مرة بجيش، وقاتل أهل الكوفة حتى أخضعهم، ثم هدم القبر!

روى الطوسي في الإمالي / ٣٢٥: « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين (ع) فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فمُرَّ بها على القبور، فمرت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (ع) لم تمر عليه! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فوالله ما جازت على

٣٢٧

قبره ولا تخطته. قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد (ص) فأنا أبرأ إلى الله منه. وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته ». أي أفرح بولادتي منه.

٧. ثم أوكل اليه المتوكل حكم الحجاز ليضطهد العلويين ويفقرهم ويبيدهم! قال أبوالفرج في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥: « واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البر بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشئ وإن قلَّ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غُرْماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر »!

٨. وبعد أن نفذ أوامر المتوكل، وارتكب لأجله الجرائم، غضب عليه وعزله، وأذله! وصدق رسول الله (ص): من أعان ظالماً سلطه الله عليه. « الخرائج: ٣ / ١٠٥٨ ».

وتقدم أن المتوكل أنه سمع بعائشة بنت عمر الرخجي، فأمره في جوف الليل والمطر أن يأتيه بها، فوطأها ثم ردها إلى منزل أبيها! « المحاسن للجاحظ / ١١٨ ».

٩. وقد ورد أن الإمام الجواد (ع) دعا على عمر الرخجي، ففي الكافي « ١ / ٤٩٧ »: « محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن « الإمام الهادي (ع) » فقال: يا محمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت: مات عمر. فقال: الحمد لله، حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرة. فقلت: يا سيدي لوعلمت أن هذا يسرُّكَ لجئتُ حافياً أعدو إليك. قال: يا محمد أوَلا تدري ما قال لعنه الله لمحمد بن علي أبي؟ قال

٣٢٨

قلت: لا. قال: خاطبه في شئ فقال: أظنك سكران! فقال أبي: اللهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً، فأذقه طعم الَحرَب وذلَّ الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حَرِبَ ما لَه « خسره » وما كان له، ثم أخذ أسيراً، وهوذا قد مات لا رحمه الله. وقد أدال الله عز وجل منه. وما زال يديل أولياءه من أعدائه ».

أقول: استشكل الرجاليون في هذه الرواية بأن وفاة محمد بن سنان سنة ٢٢٠، ووفاة الرخجي ٢٣٧، لكن الرواية قرينة على أن وفاة ابن سنان بعد هذا التاريخ.

الوزير الفتح بن خاقان:

كان للمتوكل عدة وزراء، لكن أهمهم الفتح بن خاقان الذي قُتل معه، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وعندما قَتَل المتوكل ابن الزيات كلف شخصاً إسمه أبو الوزير فتسلم أمواله الواسعة. ثم استوزر الجرجرائي، ثم استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وكان فوقهم جميعاً الفتح بن خاقان.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣ و ٦ »: « فكانت أيام أبي الوزير في الوزارة يسيرة، وقد كان اتخذ للوزارة محمد بن الفضل الجرجرائي، ثم صرفه غلب عليه الفتح بن خاقان: وكان الفتح بن خاقان التركي مولاه، أغلبَ الناس عليه، وأقربَهم منه، وأكثرهم تقدُّماً عنده ».

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء « ١٢ / ٨٢ »: « الفتح بن خاقان: الأمير الكبيرالوزير الأكمل، أبومحمد التركي، شاعر مترسل بليغ مفوه، ذوسؤدد وجود ومحاسن، على لعب فيه. وكان المتوكل لا يكاد يصبر عنه، استوزره، وفوض إليه إمرة

٣٢٩

الشام، فبعث إليها نواباً عنه وكان أحد الأذكياء، دخل المعتصم على الأمير خاقان فمازح ابنه هذا وهوصبي، فقال: يا فتح، أيما أحسن داري أوداركم؟ فقال الفتح: دارنا إذا كنت فيها، فوهبه مئة ألف. وكان الفتح ذا باع أطول في فنون الأدب. قتل مع المتوكل سنة سبع وأربعين ».

ومدحه ابن النديم في الفهرست فقال / ١٣٠: « الفتح بن خاقان بن أحمد، في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب، من أولاد الملوك، اتخذه المتوكل أخاً، وكان يقدمه على سائر ولده وأهله، وكان له خزانة « مكتبة » جمعها له علي بن يحيى المنجم لم يُرَ أعظم منها كثرةً وحسناً. وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين. قال أبوهَفَّان: ثلاثة لم أرَ قطُّ ولا سمعتُ أحب َّإليهم من الكتب والعلوم: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي ».

أقول: تدل أخبار الفتح على أنه كان إنساناً محترماً، وكان في عمله مع المتوكل مهنياً أميناً، لم يُؤْذِ أحداً، ولا دفع المتوكل الى ذلك. على عكس زميله عبيد الله بن يحيى بن خاقان! قال أبوالفرج « مقاتل الطالبيين / ٣٩٥ »: « كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم، فحسَّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين (ع) وعفى أثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له، لايجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله أوأنهكه عقوبة »!

٣٣٠

بل نجد أن الفتح بن خاقان كان يعتقد أن الإمام الهادي (ع) ولي الله تعالى، ويطلب أن يدعوللمتوكل أويعالجه، فقد روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لوبعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « عصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه ». وتقدم ذلك في فصل سياسة المتوكل مع الإمام (ع).

وتذكر بعض رواياتنا أنه كان محباً للإمام الهادي (ع) ويعمل لدفع الضر ـ ر عنه، فقد روى الشيخ الطوسي في الامالي / ٢٧٥ ، عن أبي موسى المنصوري وهو أمير عباسي من أولاد المنصور، وكان منقطعاً الى الإمام الهادي (ع)، فبعث المتوكل اليه الفتح بن خاقان، ولما جاء أكرمه ودفع له مخصصاته المتأخرة.

ولما خرج قال له الفتح: لست أشكُّ أنك سألته دعاءً لك، فالتمس لي منه دعاء! فلما دخلت إليه (ع) قال لي: يا أبا موسى هذا وجهُ الرضا. فقلت: ببركتك يا سيدي قلت: إن الفتح قال لي كيت وكيت. قال: إنه يوالينا بظاهره ويجانبنا بباطنه، الدعاء لمن يدعو به. إذا أخلصتَ في طاعة الله واعترفتَ برسول الله (ص) وبحقنا أهل البيت، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً، لم يحرمك ».

٣٣١

وقال له الفتح: « ذكر الرجل يعني المتوكل خبر مال يجئ من قم، وقد أمرني أن أرصده لأخبره به، فقل لي: من أي طريق يجئ حتى أجتنبه »!

وقد يكون الفتح صادقاً، وسيأتي ذلك في ترجمة المنصوري في أصحاب الإمام (ع).

الوزير عبيدالله بن يحيى بن خاقان:

ذكر القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « ٨ / ١٢ » كيف تمكن عبيد الله بن يحيى بن خاقان من المتوكل، قال: « حدثنا أبوجعفر أحمد بن إسرائيل، قال: كان سبب رفعه عبيد الله بن يحيى: طلبُ المتوكل لحدثٍ من أولاد الكتاب يوقع بحضرته في الأبنية والمهمات، لأنه كان قد أسقط الوزارة، بعد صرف محمد بن الفضل الجرجرائي واقتصر على أصحاب الدواوين، وأمرهم أن يعرضوا الأعمال بأنفسهم، وجعل التاريخ في الكتب باسم وصيف التركي، وانتصب منصب الوزارة، وإن كان لم يسم بها. فأسميَ له جماعة فاختار عبيد الله من بينهم، فحضر أول يوم، فصلَّى في الدار ركعات وجلس وعليه قباء وسيف ومنطقة وشاشية على رسم الكتاب. قال أبوالحسين لأنه لم يكن أحد يصل إلى الخليفة، إلَّا بقباء وسيف ومنطقة من الناس كلهم، إلَّا القضاة، لا في موكب ولا غيره، فإذا كان يوم موكب، كانت الأقبية كلها سواداً، وإذا كان غير يوم موكب فربما كانت من بياض، وفي الأكثر سواداً.

٣٣٢

فلما صلَّى عبيد الله وجلس لم يجتز به أحد من الحاشية كبير ولا صغير إلَّا قام إليه قائماً وسلَّم عليه، حتى قام إلى رئيس الفراشين! فرآه بعض الحاشية فقال: من هذا الشقي الذي قد قام لسائر الناس حتى قام إلى الكلاب؟ فقيل له فلان.

ثم أذن له المتوكل لما خلا، فدخل إليه وكان على رأسه قلنسوة سوداء شاشية، وكان طويل العنق فظهرت عنقه. فلما رآه المتوكل أومأ بيده إلى قفاه ومسحه شبه صفعة، فأخذ عبيد الله يده فقبلها فنفق عليه وخف على قلبه وسُرَّ بذلك، واستخف روحه وقال له: أكتب. فكتب وهوقائم: ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، إلى قوله عز وجل: ويَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً ) . فكتب: وينصرك الله يا أمير المؤمنين نصراً عزيزاً، فزاد ذلك في تقبل المتوكل له وتفاءل بذلك، وقال له: إلزم الدار، فكان يلزمها منذ السحر، إلى وقت نوم المتوكل في الليل.

وقوي أمره مع الأيام، حتى صار يعرض الأعمال، كما كان الوزراء يعرضونها وليس هو بعدُ وزير، والتاريخ لوصيف. فأمره المتوكل في بعض الأيام أن يكتب نسخة في أمر الأبنية فقال: نعم. فلما كان بعد ساعة سأله هل كتبت؟ فقال: لم يكن معي دواة. فقال: أكتب الساعة، فاستحضر دواة، وكان إيتاخ الحاجب قائماً يسمع ذلك، فلما خرج عبيد الله قال له: إنما طلبك أمير المؤمنين لتكتب بين يديه فإذا حضرت بلا دواة فلأي شئ تجئ؟ فقال له عبيد الله: وأي مدخل لك أنت في هذا، أنت حاجب أو وزير؟ فاغتاظ من ذلك فأمر به فبُطح وضربه على رجليه عشرين مقرعة، وقال له: الآن علمت أن لي فيه مدخلاً!

٣٣٣

فلم يتأخر عبيد الله عن الخدمة، وعاد فجعل يمشي ويعرج، فسأل المتوكل عن خبره فعرف الصورة، فغلظ عليه ذلك، وقال: إنما قَصَدَهُ إيتاخ لمحبتي له.

وكان قد اجتمع في نفس المتوكل من إيتاخ العظائم، مما كان يعمل به في أيام الواثق، ولا يقدر له على نكبته لتمكَّنه من الأتراك.

فأمر بأن يخلع على عبيد الله من الغد، وأن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين عليه شيئاً، وأن يدفعوا أعمالهم إليه ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم، فندم إيتاخ على ما فعله، وجعل يداري عبيد الله ويثاقفه، وقوي أمر عبيد الله حتى حذف بنفسه من غير أمر إسمَ وصيف من التاريخ وأثبت إسمه. ثم أمر له المتوكل برزق الوزارة، ثم خوطب بالوزارة بعد مُدَيْدَة وخلع عليه لها خلعاً أخر.

ثم قلَّده كتابة المعتز وخلع عليه، ثم قلَّده كتابة المؤيد وخلع عليه، وضمَّ المتوكل إلى ابنيه، بضعة عشر ألف رجل، وجعل تدبيرهم إلى عبيد الله، فكان وزيراً أميراً. فلما تمكَّن هذا التمكَّن بالجيش والمحل، عارض إيتاخ وبطَّأ حوائجه وقصده، ووضع من كُتَّابه، ولم يزل ذلك يقوى من فعله إلى أن دبَّرَ على إيتاخ، فقتله على يد إسحاق بن إبراهيم الطاهري ببغداد، بعد عود إيتاخ من الحجّ ».

وقال اليعقوبي « ٢ / ٤٨٨ »: « سخط المتوكل على محمد بن الفضل كاتب ديوان التوقيع لأمر وقف عليه منه، فصير مكانه عبيدالله بن يحيى بن خاقان ورفعه وأعلى مرتبته وولاه وأمره أن يكتب: مولى أمير المؤمنين وكان ولاؤه في الأزد ».

٣٣٤

وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق « ٣٨ / ١٤٣ و ١٤٦ »: « عبيد الله بن يحيى بن خاقان بن عرطوج، أبوالحسن التركي، وزير المتوكل، قدم مع المتوكل دمشق فيما وجدت بخط عبد الله بن محمد الخطابي الشاعر الدمشقي، في تسمية من قدم مع المتوكل. وقدمها مرة أخرى منكوباً حين نفاه المستعين إلى برقة سنة ثمان وأربعين ومائتين. وكان عوده إلى بغداد سنة ثلاث وخمسين ومئتين بعد أن حج، ثم استوزره المعتمد في شعبان سنة ست وخمسين ومئتين قال أحمد بن أبي طاهر: تقلد عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة مرتين وكان نُفي في وقت النكبة إلى بَرْقة، فاجتاز بدمشق، وعيسى بن الشيخ يتقلدها فلقيه عيسى بن الشيخ وترجل له وأعظمه وبره وأكرمه وخدمه فلما تقلد عبيد الله بن يحيى الوزارة المرة الثانية حفظ له ذلك، ولم يزل حتى قلده الديار البكرية وإرمينية ».

وكان الوزير عبيد الله بن خاقان أداة للمتوكل في هدم قبر الإمام الحسين (ع) واضطهاد الذاهبين لزيارته وتعذيبهم وقتلهم. فقد استمرت محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة ٢٣٦ الى شعبان ٢٣٧، وورد فيها إسم الوزير عبيد الله بن خاقان، وأنه أرسل عدداً من القادة في جند كثيف، ومعهم متطرفون من النواصب. كما ذكرنا في فصل هدم القبر الشريف.

وعاش الوزير عبيد الله بعد المتوكل، وكان وزيراً لعدة خلفاء، حتى توفي فجأة سنة ٢٦٠، في أيام شهادة الإمام العسكري (ع) فقد روى الصدوق في كمال الدين / ٤٧٥، تفتيش السلطة عن الإمام المهدي (ع) قال: « فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله

٣٣٥

عليه على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر، وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرَّ فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية، فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي. وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين ».

القائد العام لجيش الخلافة: إيتاخ

عندما توفي الواثق اجتمع كبار شخصيات الدولة: « أحمد بن أبي دؤاد، وإيتاخ، ووصيف، وعمر بن فرج، وابن الزيات، وأحمد بن خالد أبوالوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهوغلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هوقصير ». « الطبري: ٧ / ٢٤١ ».

فكان إيتاخ القائد الأول ويليه وصيف، لأن جيش الخلافة كان أكثره من الأتراك، فكان لقادتهم دور في اختيار الخليفة، ثم صار لهم كل الدور. وكان إيتاخ غلاماً للمعتصم، فأوكل اليه تربية المتوكل، فكان بمنزلة أبيه!

٣٣٦

قال ابن كثير في النهاية « ١٠ / ٣٤٣ »: « شرب ليلةً مع المتوكل، فعربد عليه المتوكل فهمَّ إيتاخ بقتله، فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له: أنت أبي وأنت ربيتني، ودسَّ اليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج ».

قال الطبري « ٧ / ٣٥٠ »: « ذكر أن إيتاخ كان غلاماً خزرياً لسلام الأبرش طباخاً، فاشتراه منه المعتصم في سنة ١٩٩ وكان لإيتاخ رَجْلَةٌ وبأسٌ، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالاً كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم، وكان من قِبَله رجُلٌ ومن قِبَل إسحاق رجُلٌ، وكان من أراد المعتصم أوالواثق قَتْلَهُ فعند إيتاخ يُقتل، وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس وصالح بن عجيف وغيرهم. فلما وليَ المتوكل كان إيتاخ في مرتبته إليه الجيش، والمغاربة، والأتراك، والموالي، والبريد، والحجابة، ودار الخلافة.

فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزهاً إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة فعربد على إيتاخ فهمَّ إيتاخ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له فاعتذر إليه والتزمه وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دسَّ إليه من يشيرعليه بالإستئذان للحج ففعل وأذن له، وصيره أمير كل بلدةٍ يدخلها، وخلع عليه وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف ..

٣٣٧

لما قفل من مكة راجعاً إلى العراق وجَّه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب، مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أوببعض طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.

فذكر عن إبراهيم بن المدبر أنه قال خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامر، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنوهاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. قال فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته وطرح له بالياسرية صفةً فجلس عليها، حتى قالوا قد قرب منك فركب فاستقبله فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل، قال: وكان إيتاخ في ثلاث مائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباءٌ أبيض متقلداً سيفاً بحمائل، فسارا جميعاً حتى إذا صارا عند الجسر، تقدمه إسحاق عند الجسر وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير، وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه، قدموه حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أوأربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا

٣٣٨

ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولودخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قَتْلَ جميع من خالفه، أمكنه ذلك.

قال: فأتيَ بطعام قرب الليل فأكل فمكث يومين أوثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعدَّ لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه فحدروه إلى الحراقة، وصير معه قوم بالسلاح، وصاعد إسحاق حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة ابن زياد النصراني، بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة فحبسوا ببغداد.

فأما سليمان وقدامة فضربا فأسلم قدامة، وحبس منصور ومظفر.

وذكر عن تُرْك مولى إسحق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال لي: يا تُرك. قلت: ما تريد يا منصور. قال: أقرئ الأمير السلام وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك، فكنت أدفع عنك ما أمكنني فلينفعني ذلك عندك. أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحماً وشيئاً يأكلان منه.

قال تُرك: فوقفت على باب مجلس إسحاق قال لي: مالك يا تُرك، أتريد أن تتكلم بشئ. قلت: نعم. قال لي إيتاخ: كذا وكذا! قال وكانت وظيفة إيتاخ رغيفاً

٣٣٩

وكوزاً من ماء، ويأمر لابنيه بخوانٍ فيه سبعة أرغفة وخمس غرف « جمع غَرْفَة بمعنى ملعقة » فلم يزل ذلك قائماً حياة إسحاق، ثم لا أدرى ما صنع بهما!

فأما إيتاخ فقُيِّدَ وصُيِّر في عنقه ثمانون رطلاً وقيدٌ ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ٢٣٥ ، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد، وصاحب بريد بغداد، والقضاة، وأراهم إياه، لا ضربَ به ولا أثرَ! وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أُطعم فاستسقى فمنع الماء حتى مات عطشاً، وبقي إبناه في الحبس حياة المتوكل فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، وأما منصور فعاش بعده ».

قال المسعودي في التنبيه والإشراف / ٣١٣: « بويع المتوكل جعفر بن محمد المعتصم وجفا الموالي من الأتراك واطَّرحهم وحطَّ مراتبهم، وعمل على الإستبداد بهم والإستظهار عليهم ».

أقول: لم يترك المتوكل أحداً من أولياء نعمته وأصدقائه إلا وغدر به! وقد حقد عليه الترك لغدره بقائدهم إيتاخ، وتبايعوا على قتله.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣٤ »: « ولما عزم بُغا الصغير على قتل المتوكل دعا بباغر التركي، وكان قد اصطنعه واتخذه وملأ عينه من الصِّلات، وكان مقداماً أهوج، فقال له: يا باغر أنت تعلم محبتي لك وتقديمي إياك وإيثاري لك وإحساني إليك، وإني قد صرت عندك في حد من لا يُعْصَى له أمر، ولا يخرج

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477