الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158647 / تحميل: 7008
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٤- النظام الإسلامي

ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الأنظمة الأربعة : فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض ، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة أُخرى وكلٌّ من النظامين يملك كياناً سياسيّاً عظيماً ، يحميه في صراعه مع الآخر ، ويسلِّحه في معركته الجبّارة التي يخوضها أبطاله في سبيل الحصول على قيادة العالم ، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه

وأمّا النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما بالفعل فكري خالص غير أنّ النظام الإسلامي مرّ بتجربة من أروع تجارب النُّظُم الاجتماعية وأنجحها ، ثمّ عصفت به العواصف بعد أن خلا الميدان من القادة المبدئيّين أو كاد ، وبقيت التجربة في رحمة أُناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم ، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره ، فعجزت عن الصمود والبقاء ، فتقوَّض الكيان الإسلامي ، وبقي نظام الإسلام فكراً في ذهن الأُمّة الإسلامية ، وعقيدةً في قلوب المسلمين ، وأملاً يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون وأمّا النظام الشيوعي فهو فكرة غير مُجرَّبة حتّى الآن تجربة كاملة ، وإنّما تتّجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم إلى تهيئة جوٍّ اجتماعي له ، بعد أن عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم ، فأعلنت النظام الاشتراكي ، وطبّقته كخطوة إلى الشيوعية الحقيقية

فما هو موضعنا من هذه الأنظمة ؟

وما هي قضيّتنا التي يجب أن ننذر حياتنا لها ، ونقود السفينة إلى شاطئها ؟

٢١

الديمقراطية الرأسمالية

ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي ، هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية ، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية ، وبجمود الكنيسة وما إليها في الحياة الفكرية ، وهيّأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلَّت محلّ السابقين ، وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد

وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية على الإيمان بالفرد إيماناً لا حدّ له ، وبأنّ مصالحه الخاصّة بنفسها تكفل- بصورة طبيعية- مصلحة المجتمع في مختلف الميادين وأنّ فكرة الدولة إنّما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصّة ، فلا يجوز لها أن تتعدَّى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها

ويتلخّص النظام الديمقراطي الرأسمالي في إعلان الحرّيات الأربع : السياسية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والشخصية

فالحرّية السياسية تجعل لكلّ فرد كلاماً مسموعاً ، ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامّة للأُمّة : وضع خططها ، ورسم قوانينها ، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها ؛ وذلك لأنّ النظام الاجتماعي للأمّة ، والجهاز الحاكم فيها ، مسألةٌ تتّصل اتّصالاً مباشراً بحياة كلّ فرد من أفرادها ، وتؤثّر تأثيراً حاسماً في سعادته أو شقائه ، فمن الطبيعي ، حينئذٍ ، أن يكون لكلّ فرد حقّ المشاركة في بناء النظام والحكم

وإذا كانت المسألة الاجتماعية ـ كما قلنا ـ مسألة حياة أو موت ، ومسألة سعادة أو شقاء للمواطنين الذين تسري عليهم القوانين والأنظمة العامّة

٢٢

فمن الطبيعي- أيضاً- أن لا يباح الاضطلاع بمسؤوليّتها لفرد أو لمجموعة خاصّة من الأفراد ـ مهما كانت الظروف ـ ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة قصده ورجاحة عقله على الأهواء والأخطاء

فلابدّ إذن من إعلان المساواة التامّة في الحقوق السياسية بين المواطنين كافةً ؛ لأنّهم يتساوون في تحمُّل نتائج المسألة الاجتماعية ، والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية وعلى هذا الأساس قام حقّ التصويت ومبدأ الانتخاب العامّ الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم ، بكلّ سلطاته وشُعَبه ، عن أكثرية المواطنين

والحرّية الاقتصادية ترتكز على الإيمان بالاقتصاد الحرّ ، وتقرّر فتح جميع الأبواب ، وتهيئة كلّ الميادين إمام المواطن في المجال الاقتصادي فيباح التملّك للاستهلاك وللإنتاج معاً ، وتباح هذه الملكية التي يتكوّن منها رأس المال من غير حدٍّ وتقييد ، وللجميع على حدٍّ سواء فلكلّ فرد مطلق الحرّية في انتهاج أيّ أُسلوب وسلوك أيّ طريق لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية

وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرّية الاقتصاديّة أنّ قوانين الاقتصاد السياسي ، التي تجري على أُصول عامّة بصورة طبيعية ، كفيلة بسعادة المجتمع ، وحفظ التوازن الاقتصادي فيه ، وأنّ المصلحة الشخصية التي هي الحافظ القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه ، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامّة وأنّ التنافس الذي يقوم في السوق الحرّة ، نتيجةً لتساوي المنتجبين والمتّجرين في حقّهم من الحرّية الاقتصادية ، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والإنصاف في شتّى الاتفاقات والمعاملات فالقوانين الطبيعية للاقتصاد تتدخّل ـ مثلاً ـ في حفظ المستوى الطبيعي للثمن ، بصورة تكاد أن تكون آلية ؛ وذلك أنّ

٢٣

الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم بأنّ ارتفاع الثمن يؤثّر في انخفاض الطلب ، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن ، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر ، ولا يتركه حتّى ينخفض به إلى مستواه السابق ، ويزول الشذوذ بذلك

والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد ـ دائماً ـ التفكير في كيفية إزادة الإنتاج وتحسينه ، مع تقليل مصارفه ونفقاته ؛ وذلك يحقّق مصلحة المجتمع ، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصّة بالفرد أيضاً

والتنافس يقتضي ـ بصورة طبيعية ـ تحديد أثمان البضائع ، وأُجور العمال والمستخدمين بشكل عادل ، لا ظلم فيه ولا إجحاف ؛ لأنّ كلّ بائع أو منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه ، أو تخفيض أُجور عمّاله ، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجبين

والحرّية الفكرية تعني : أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم ، يفكّرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم ، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادهم ، أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة فالدولة لا تسلب هذه الحرّية عن فرد ، ولا تمنعه عن ممارسة حقّه فيها ، والإعلان عن أفكاره ومعتقداته ، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده

والحرّية الشخصية تعبّر عن تحرُّر الإنسان في سلوكه الخاصّ من مختلف ألوان الضغط والتحديد ، فهو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصّة ، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاصّ من مضاعفات ونتائج ، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم فالحدّ النهائي الذي تقف عنده الحرّية الشخصية لكلّ فرد : حرّية الآخرين فما لم يمسّها الفرد بسوء

٢٤

فلا جناح عليه أن يكيّف حياته باللون الذي يحلو له ، ويتّبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها ؛ لأنّ ذلك مسألة خاصّة تتّصل بكيانه وحاضره ومستقبله وما دام يملك هذا الكيان ، فهو قادر على التصرّف فيه كما يشاء

وليست الحرّية الدينية ـ في رأي الرأسمالية التي تنادي بها ـ إلاّ تعبيراً عن الحرّية الفكرية في جانبها العقائدي ، وعن الحرّية الشخصية في الجانب العملي الذي يتّصل بالشعائر والسلوك

ويُستخلَص من هذا العرض : أنّ الخطّ الفكري العريض لهذا النظام ـ كما ألمحنا إليه ـ هو : أنّ مصالح المجتمع بمصالح الأفراد ، فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الاجتماعي ، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يُسخَّر لخدمة الفرد وحسابه ، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها

هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية التي قامت من أجلها جملة من الثورات ، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والأُمم ، في ظلّ قادة كانوا حين يعبّرون عن هذا النظام الجديد ويعِدونهم بمحاسنه ، يصفون الجنّة في نعيمها وسعادتها ، وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء وقد أُجريت عليها بعد ذلك عدّة من التعديلات ، غير أنّها لم تمسّ جوهرها بالصميم ، بل بقيت محتفظةً بأهمّ ركائزها وأُسسها

الاتجاه المادّي في الرأسمالية :

ومن الواضح أنّ هذا النظام الاجتماعي نظامٌ مادّيٌّ خالص ، أُخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه وآخرته ، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادّية ،

٢٥

وافتُرِض على هذا الشكل ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادّية الطاغية لم يبنَ على فلسفة مادّية للحياة ، وعلى دراسة مفصّلة لها

فالحياة في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام ، فُصِلت عن كلّ علاقة خارجة عن حدود المادّة والمنفعة ، ولكن لم يُهيَّأ لإقامة هذا النظام فهمٌ فلسفيٌّ كامل لعملية الفصل هذه ولا أعني بذلك : أنّ العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادّية وأنصار لها ، بل كان فيه إقبال على النزعة المادّية تأثُّراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي(١) ، وبروح الشكّ والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي في طائفة من الأفكار كانت تُعَدُّ من أوضح الحقائق وأكثرها صحّة(٢) ، وبروح

____________________

(١) فإنّ التجربة اكتسبت أهمية كُبرى في الميدان العلمي ، ووفِّقت توفيقاً ـ لم يكن في الحسّبان ـ إلى الكشف عن حقائق كثيرة ، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة ، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة ، أشاد لها قدسيّةً في العقليّة العامّة ، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقليّة ، وعن كلّ الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحسّ والتجربة ، حتّى صار الحسّ التجريبي في عقيدة كثير من التجْرِيبيين الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم

وسوف نوضِّح في هذا الكتاب : أنّ التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي وأنّ الأساس الأوّل للعلوم والمعارف هو العقل الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحسّ ، كما يدرك الحقائق المحسوسة (المؤلّفقدس‌سره )

(٢) فإنّ جملة من العقائد العامّة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العامّ ، مع أنّها لم تكن قائمةً على أساس من منطق عقلي ، أو دليل فلسفي ، كالإيمان بأنّ الأرض مركز العالم فلمّا انهارت هذه العقائد في ظلّ التجارب الصحيحة ، تزعزع الإيمان العامّ ، وسيطرت موجة من الشكّ على كثير من الأذهان ، فبُعِثت السفسطة اليونانية من جديد متأثّرة بروح الشكّ ، كما تأثّرت في العهد اليوناني بروح الشكّ الذي تولَّد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدّة الجدل بها (المؤلّف قدس‌سره )

٢٦

التمرّدوالسخط على الدين المزعوم الذي كان يجمِّد الأفكار والعقول ، ويتملّق للظلم والجبروت ، وينتصر للفساد الاجتماعي في كلّ معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين(١)

فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادّية في كثير من العقليّات الغربية

كلّ هذا صحيح ، ولكنّ النظام الرأسمالي لم يركّز على فهم فلسفي مادّي للحياة ، وهذا هو التناقض والعجز ، فإنّ المسألة الاجتماعية للحياة تتّصل بواقع الحياة ، ولا تتبلور في شكل صحيح إلاّ إذا أُقيمت على قاعدة مركزية ، تشرح الحياة وواقعها وحدودها ، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة ، فهو ينطوي على خداع وتضليل ، أو على عجلة وقلّة أناة ، حين تجمّد المسألة الواقعية للحياة ، وتُدرَس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها ، مع أنّ قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية إلى واقع الحياة ، التي تموِّن المجتمع بالمادّة الاجتماعية ـ وهي : العلاقات المتبادلة بين الناس ـ وطريقة فهمه لها ، واكتشاف أسرارها وقيمها فالإنسان في هذا الكوكب إن كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة ، عالمة بأسراره وخفاياه ، بظواهره ودقائقه ، قائمة على تنظيمه وتوجيهه ، فمن الطبيعي أن يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوّة الخالقة ؛ لأنّها أبصر بأمره ، وأعلم

____________________

(١) فإنّ الكنيسة لعبت دوراً هاماً في استغلال الدين استغلالاً شنيعاً ، وجعْلِ اسمه أداةَ مآربها وأغراضها ، وخنق الأنفاس العلمية والاجتماعية ، وأقامت محاكم التفتيش ، وأعطت لها الصلاحيّات الواسعة للتصرّف في المقدَّرات ، حتّى تولّد عن ذلك كلّه التبرّم بالدين والسخط عليه ؛ لأنّ الجريمة ارتكبت باسمه ، مع أنّه في واقعه المصفّى وجوهره الصحيح لا يقلّ عن أُولئك الساخطين والمتبرّمين ضيقاً بتلك الجريمة ، واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها (المؤلّف قدس‌سره )

٢٧

بواقعه ، وأنزه قصداً ، وأشدّ اعتدالاً منه

وأيضاً ، فإنّ هذه الحياة المحدودة إن كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها ، وتتلوّن بطابعها ، وتتوقّف موازينها على مدى اعتدال الحياة الأُولى ونزاهتها ، فمن الطبيعي أن تنظّم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها ، وتقام على أُسس القِيَم المعنوية والمادّية معاً.

وإذن فمسألة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه ليست مسألةً فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة ، لتُفصل عن مجالات الحياة ويشرّع لها طرائقها ودساتيرها مع إغفال تلك المسألة وفصلها ، بل هي مسألة تتّصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً

والدليل على مدى اتّصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها : أنّ الفكرة فيها تُقدَّم على أساس الإيمان بعدم وجود شخصية أو مجموعة من الأفراد بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها إلى الدرجة التي تبيح إيكال المسألة الاجتماعية إليها ، والتعويل في إقامة حياة صالحة للأُمّة عليها وهذا الأساس بنفسه لا موضعَ ولا معنىً له إلاّ إذا أُقيم على فلسفة مادّية خالصة ، لا تعترف بإمكان انبثاق النظام إلاّ عن عقل بشري محدود

فالنظام الرأسمالي مادّي بكلّ ما للّفظ من معنىً ، فهو إمّا أن يكون قد استبطن المادّية ، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها وإمّا أن يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الوقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة التي لا بدّ لكلّ نظام اجتماعي أن يرتكز عليها وهو ـ بكلمة ـ نظام مادّي ، وإن لم يكن مقاماً على فلسفة مادّية واضحة الخطوط

٢٨

موضع الأخلاق من الرأسمالية :

وكان من جرّاء هذه المادّية التي زخر النظام بروحها أن أُقصيت الأخلاق من الحسّاب ، ولم يُلحَظ لها وجودٌ في ذلك النظام ، أو بالأحرى تبدّلت مفاهيمها ومقاييسها ، وأُعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى ، والحرّيات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة فنشأ عن ذلك أكثر ما ضجَّ به العالم الحديث من محن وكوارث ، ومآسي ومصائب.

وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية ، قائلين إنّ الهدف الشخصي بنفسه يحقّق المصلحة الاجتماعية ، وإنّ النتائج التي تحقّقها الأخلاق بقيمها الروحية تُحقَّق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي ، لكن لا عن طريق الأخلاق ، بل عن طريق الدوافع الخاصّة وخدمتها ؛ فإنّ الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقّق بذلك مصلحةً شخصية أيضاً ؛ باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله ، وحين ينقذ حياة شخص تعرَّضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضاً ؛ لأنّ حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية ، فيعود عليه نصيب منها ، وإذن ، فالدافع الشخصي والحسّ النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها ، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصّة ومنافع فردية

وهذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال فتصوّر بنفسك أنّ المقياس العملي في الحياة لكلّ فرد في الأُمّة إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصّة ، على أوسع نطاق وأبعد مدى ، وكانت الدولة تُوفِّر للفرد حرّياته وتقدِّسه بغير تحفّظ ولا تحديد ، فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد ؟! وكيف يمكن أن يكون اتّصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافياً لتوجيه

٢٩

الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخُلُقية ؟! مع أنّ كثيراً من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع ، وإذا اتّفق أن كان فيها شيء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع ، فكثيراً ما يُزاحَم هذا النفع الضئيل ـ الذي لا يُدْرِكه الإنسان إلاّ في نظرة تحليلية ـ بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية تجد في الحرّيات ضماناً لتحقيقها ، فيطيح الفرد في سبيلها بكلّ برنامج الخُلُق والضمير الروحي

مآسي النظام الرأسمالي :

وإذا أردنا أن نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل- لا على أساس فلسفيٍّ مدروس ـ فسوف يضيق بذلك المجال المحدود لهذا البحث ؛ ولذا نلمّح إليها :

فأوّل تلك الحلقات : تحكُّم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية ؛ فإنّ الحرّية السياسية كانت تعني : أنّ وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حقّ الأكثرية ولنتصوّر أنّ الفئة التي تمثِّل الأكثرية في الأُمّة ملكت زمام الحكم والتشريع ، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية ، وهي عقلية مادّية خالصة في اتّجاهها ونزعاتها ، وأهدافها وأهوائها ، فماذا يكون مصير الفئة الأُخرى ؟! أو ماذا ترتقب للأقلية من حياة في ظلّ قوانين تُشرَّع لحساب الأكثرية ولحفظ مصالحها ؟! وهل يكون من الغريب حينئذٍ إذا شَرَّعت الأكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصّة ، وأهملت مصالح الأقلية ، واتّجهت إلى تحقيق رغباتها اتّجاهاً مجحفاً بحقوق الآخرين ؟! فمن الذين يحفظ لهذه الأقلية كيانها الحيوي ، ويذبُّ عن وجهها الظلمَ ، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كلّ فرد ، وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليّتها الاجتماعية ؟! وبطبيعة الحال ، أنّ التحكّم سوف يبقى في ظلّ النظام كما كان

٣٠

في السابق ، وأنّ مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم ستُحفَظ في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الأجواء الاجتماعية القديمة

وغاية ما في الموضوع من فرق : أنّ الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قِبَل أفراد بأُمّة ، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثِّل الأكثريّات بالنسبة إلى الأقلِّيات التي تشكّل بمجموعها عدداً هائلاً من البشر

وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ ، إذاً لكانت المأساة هيّنة ، ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر ممّا يعرض من دموع ، بل إنّ الأمر تفاقم واشتدّ حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك ، فقرّرت الحرّية الاقتصادية على هذا النحو الذي عرضناه سابقاً ، وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً ، ومهما كان شاذّاً في طريقته وأسبابه ، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه ، في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير ، والعلم يتمخَّض عن ولادة الآلة التي قلبت وجه الصناعة ، وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها ، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الأقلية من أفراد الأُمّة ، ممّن أتاحت لهم الفرص وسائل الإنتاج الحديث ، وزوَّدتهم الحرّيات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حدٍّ ، والقضاء بها على كثير من فئات الأُمّة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها ، وزعزعت حياتها ، ولم تجد سبيلاً للصمود في وجه التيّار ، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلّحين بالحرّية الاقتصادية ، وبحقوق الحرّيات المقدَّسة كلّها

وهكذا خلا الميدان إلاّ من تلك الصفوة من أرباب الصناعة والإنتاج ، وتضاءلت الفئة الوسطى ، واقتربت إلى المستوى العامّ المنخفض ، وصارت هذه الأكثرية المحطَّمة تحت رحمة تلك الصفوة التي لا تفكّر ولا تحسب إلاّ على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية ومن الطبيعي حينئذٍ أن لا تمدُّ يد العطف

٣١

والمعونة إلى هؤلاء ، لتنتشلهم من الهوَّة ، وتشركهم في مغانمها الضخمة ولماذا تفعل ذلك ؟! ما دام المقياس الخُلُقي هو المنفعة واللذّة ، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرّية فيما تعمل ، وما دام النظام الديمقراطي الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصّة

فالمسألة ـ إذاً ـ يجب أن تُدرَس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام ، وهي أن يستغلَّ هؤلاء الكبراء حاجة الأكثرية إليهم ، ومقوِّماتهم المعيشية ، فيفرض على القادرين العملُ في ميادينهم ومصانعهم في مدّة لا يمكن الزيادة عليها ، وبأثمان لا تفي إلاّ بالحياة الضرورية لهم هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي أن يسلكوه ، وتنقسم الأُمّة بسبب ذلك إلى فئة في قمّة الثراء ، وأكثرية في المهوى السحيق

وهنا يتبلور الحقّ السياسي للأُمّة من جديد بشكل آخر فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين وإن لم تمح من سجلّ النظام ، غير أنّها لم تعد بعد هذه الزعازع إلاّ خيالاً وتفكيراً خالصاً ؛ فإنّ الحرّية الاقتصادية حين تسجِّل ما عرضناه من نتائج ، تنتهي إلى الانقسام الفظيع الذي مرّ في العرض ، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام ، وتُقهَر الحرّية السياسية أمامها ؛ فإنّ الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع ، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية ، وتمكُّنِها من شراء الأنصار والأعوان ، تهيمن على مقاليد الحكم في الأُمّة ، وتتسلّم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها ، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال ، بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية أنّه من حقّ الأُمّة جمعاء وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حُكماً تستأثر به الأقلية ، وسلطاناً يحمي به عدّة من الأفراد كيانهم على حساب الآخرين ، بالعقلية النفعية التي يستوحونها

٣٢

من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية

ونصل هنا إلى أفظع حلقات المأساة التي يمثّلها هذا النظام ؛ فإنّ هؤلاء السادة الذين وضع النظامُ الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كلَّ نفوذ ، وزوَّدهم بكلّ قوّة وطاقة ، سوف يمدّون أنظارهم ـ بوحي من عقلية هذا النظام ـ إلى الآفاق ، ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم أنّهم في حاجة إلى مناطق نفوذ جديدة ؛ وذلك لسبيين :

الأوّل : أنّ وفرة الإنتاج تتوقّف على مدى توفّر المواد الأوّلية وكثرتها ، فكلّ من يكون حظّه من تلك المواد أعظم تكون طاقاته الإنتاجية أقوى وأكثر وهذه المواد منتشرة في بلاد الله العريضة وإذا كان من الواجب الحصول عليها ، فاللازم السيطرة على البلاد التي تملك المواد ، لامتصاصها واستغلالها

الثاني : أنّ شِدَّة حركة الإنتاج وقوّتها بدافع من الحرص على كثرة الربح من ناحية ، ومن ناحية أُخرى انخفاض المستوى المعيشي لكثير من المواطنين بدافع من الشره المادّي للفئة الرأسمالية ، ومغالبتها للعامّة على حقوقها بأساليبها النفعية ، التي تجعل المواطنين عاجزين عن شراء المنتجات واستهلاكها ، كلّ ذلك يجعل كبار المنتجين في حاجة ماسّة إلى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها ، وإيجاد تلك الأسواق يعني التفكير في بلاد جديدة

وهكذا تُدرَس المسألة بذهنية مادّية خالصة ومن الطبيعي لمثل هذه الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخُلُقية ، ولم يعترف مذهبها الاجتماعي بغاية إلاّ إسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات ، أن ترى في هذين السببين مبرّراً ومسوّغاً منطقيّاً للاعتداء على البلاد الآمنة ، وانتهاك كرامتها ، والسيطرة على مقدّراتها ومواردها الطبيعية الكبرى ، واستغلال ثرواتها لترويج البضائع الفائضة فكلّ ذلك أمر معقول وجائز في عرف المصالح الفردية

٣٣

التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد الحرّ

وينطلق من هنا عملاق المادّة ، يغزو ويحارب ، ويقيِّد ويكبّل ، ويستعمر ويستثمر ؛ إرضاءً للشهوات وإشباعاً للرغبات فانظر ماذا قاست الإنسانية من ويلات هذا النظام ، باعتباره مادّياً في روحه وصياغته ، وأساليبه وأهدافه ، وإن لم يكن مركّزاً على فلسفة محدَّدة تتّفق مع تلك الروح والصياغة ، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف كما ألمعنا إليه ؟!!

وقدِّرْ بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار ، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الإيثار والثقة المتبادلة ، والتراحم والتعاطف الحقيقي ، وجميع الاتّجاهات الروحية الخيِّرة ، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنّه المسئول عن نفسه وحده ، وأنّه في خطر من قبل كلّ مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به ، فكأنّه يحيا في صراع دائم ومغالبة مستمرّة ، لا سلاح له فيها إلاّ قواه الخاصّة ، ولا هدف له منها إلاّ مصالحه الخاصّة

٣٤

الاشتراكية والشيوعية

في الاشتراكية مذاهب متعدّدة ، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادّية الجدلية التي هي عبارة عن فلسفة خاصّة للحياة ، وفهم مادّي لها على طريقة ديالكتيكية وقد طبّق المادّيون الديالكتيكيون هذه المادّية الديالكتيكية على التأريخ والاجتماع والاقتصاد ، فصارت عقيدةً فلسفية في شأن العالم ، وطريقة لدرس التأريخ والاجتماع ، ومذهباً في الاقتصاد ، وخطّة في السياسة

وبعبارة أُخرى : أنّها تصوغ الإنسان كلّه في قالب خاصّ ، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره إلى الحياة وطريقته العملية فيها ولا ريب في أنّ الفلسفة المادّية وكذلك الطريقة الديالكتيكية ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته ، فقد كانت النزعة المادّية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي ، سافرةً تارة ، ومتواريةً أُخرى وراء السفسطة والإنكار المطلق ، كما أنّ الطريقة الديالكتيكيّة في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني ، وقد استكملت كلّ خطوطها على يد (هيجل ) الفيلسوف المثالي المعروف وإنّما جاء (كارل ماركس ) إلى هذا المنطق وتلك الفلسفة فتبنّاهما ، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة ، فقام بتحقيقين :

أحدهما : أن فسَّر التأريخ تفسيراً مادّياً خالصاً بطريقة ديالكتيكيّة

والآخر : زعم فيه أنّه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامّل(١) وأشاد على أساس هذين

____________________

(١) شرحنا هذه النظريّات مع دراسة علمية مفصّلة في كتاب (اقتصادنا) (المؤلّف قدس‌سره )

٣٥

التحقيقين إيمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي ، وإقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي الذي اعتبره خطوة للإنسانية إلى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً

فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات ، وكلّ وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادّية خالصة ، منسجمة مع سائر الظواهر والأحوال المادّية ومتأثّرة بها ، غير أنّه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه ، وينشب ـ حينئذٍ ـ الصراع بين النقائض في محتواه ، حتّى تتجمَّع المتناقضات ، وتُحدِث تبدّلاً في ذلك الوضع وإنشاءً لوضع جديد ، وهكذا يبقى العراك قائماً حتّى تكون الإنسانية كلّها طبقةً واحدة ، وتتمثَّل مصالح كلّ فرد في مصالح تلك الطبقة الموحّدة في تلك اللحظة يسود الوئام ، ويتحقّق السلام ، وتزول نهائياً جميع الآثار السيّئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي ؛ لأنّها إنّما كانت تتولَّد من تعدّد الطبقة في المجتمع ، وهذا التعدّد إنّما نشأ من انقسام المجتمع إلى منتج وأجير وإذاً فلابدّ من وضع حدٍّ فاصل لهذا الانقسام ، وذلك بإلغاء الملكيّة وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية ؛ وذلك لأنّ الاقتصاد الشيوعي يرتكز :

أوّلاً - على إلغاء المِلْكية الخاصّة ومحوها محواً تاماً من المجتمع ، وتمليك الثروة كلّها للمجموع ، وتسليمها إلى الدولة باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في إدارتها واستثمارها لخير المجموع واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق إنّما كان ردّ الفعل الطبيعي لمضاعفات المِلْكية الخاصّة في النظام الديمقراطي الرأسمالي وقد بُرِّر هذا التأميم بأنّ المقصود منه إلغاء الطبقة الرأسمالية ، وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ؛ ليُختم بذلك الصراع ، ويُسدّ على الفرد الطريق إلى استغلال شتّى الوسائل والأساليب لتضخيم ثروته ، إشباعاً

٣٦

لجشعه واندفاعاً بدافع الأثرة وراء المصلحة الشخصية

ثانياً - على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للأفراد ، ويتلخّص في النصّ الآتي : (من كلٍّ حسب قدرته ، ولكلّ حسب حاجته) ؛ وذلك أنّ كلّ فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها ، فهو يدفع للمجتمع كلّ جهده ، فيدفع له المجتمع متطلّبات حياته ، ويقوم بمعيشته

ثالثاً ـ على منهاج اقتصادي ترسمه الدولة ، وتوفِّق فيه بين حاجة المجموع والإنتاج : في كمّيته ، وتنويعه ، وتحديده ؛ لئلاً يمنى المجتمع بنفس الأدواء والأزمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما أطلق الحرّيات بغير تحديد

الانحراف عن العملية الشيوعية :

ولكنّ أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام لم يستطيعوا أن يطبّقوه بخطوطه كلّها حين قبضوا على مقاليد الحكم ، واعتقدوا أنّه لابدّ لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها ، زاعمين أنّ الإنسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية ، وتحيا فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية ، فلا يفكّر إلاّ في المصلحة الاجتماعية ، ولا يندفع إلاّ في سبيلها

ولأجل ذلك كان من الضروري ، في عرف هذا المذهب الاجتماعي ، إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك ؛ ليتخلّص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة ، ويكتسب الطبيعة المستعدّة للنظام الشيوعي وهذا النظام الاشتراكي أُجريت فيه تعديلات مهمّة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية

٣٧

فالخطّ الأوّل من خطوط الاقتصاد الشيوعي ، وهو : إلغاء الملكية الفردية ، قد بُدِّل إلى حلٍّ وسط ، وهو : تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية الكبيرة ، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي وبكلمة أُخرى : إلغاء رأس المال الكبير مع إطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للأفراد ؛ وذلك لأنّ الخطّ العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا إليه ؛ حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم ، ويتهرَّبون من واجباتهم الاجتماعية ؛ لأنّ المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسدِّ حاجاتهم ، كما أنّ المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد ـ مهما كان شديداً ـ لأكثر من ذلك فعلام إذن يجهد الفرد ويكدح ويجدُّ ما دامت النتيجة في حسابه هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط ؟! ولماذا يندفع إلى توفير السعادة لغيره وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته ، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة ، إلاّ القيمة المادّية الخالصة ؟!!

فاضطرّ زعماء هذا المذهب إلى تجميد التأميم المطلق ، وإلى تعديل الخطّ الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً ، وذلك بجعل فوارق بين الأُجور ؛ لدفع الأعمال إلى النشاط والتكامل في العمل ، معتذرين بأنّها فوارق مؤقّتة سوف تزول حينما يُقضى على العقلية الرأسمالية ، وينشأ الإنسان إنشاءً جديداً وهم لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرّة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية ؛ لتدارك فشل كلّ طريقة بطريقة جديدة ولم يوفَّقوا حتّى الآن للتخلّص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي ، فلم تلغ ـ مثلاً ـ القروض الربوية نهائياً ، مع أنّها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي

٣٨

ولا يعني هذا كلّه أنّ أولئك الزعماء مقصّرون ، أو أنّهم غير جادّين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم ، وإنّما يعني : أنّهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق ، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للإصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشّرون به ، ففرض عليه الواقع التراجعَ آملين أن تتحقّق المعجزة في وقت قريب أو بعيد

وأمّا من الناحية السياسية ، فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل إلى محو الدولة من المجتمع حين تتحقّق المعجزة ، وتعمّ العقلية الجماعية كلَّ البشر ، فلا يفكّر الجميع إلاّ في المصلحة المادّية للمجموع وأمّا قبل ذلك ، ما دامت المعجزة غير محقّقة ، وما دام البشر غير موحَّدين في طبقة ، والمجتمع ينقسم إلى قوى رأسمالية وعمّالية ، فاللازم أن يكون الحكم عمّالياً خالصاً ، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال ، ودكتاتوري بالنسبة إلى العموم وقد علَّلوا ذلك بأنّ الدكتاتورية العمّالية في الحكم ضرورية في كلّ المراحل التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية ؛ وذلك حمايةً لمصالح الطبقة العامّلة ، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية ، ومنعاً لها عن البروز إلى الميدان من جديد.

والواقع : أنّ هذا المذهب الذي تمثَّل في الاشتراكية الماركسية ، ثمّ في الشيوعية الماركسية ، يمتاز على النظام الديمقراطي الرأسمالي بأنّه يرتكز على فلسفة مادّية معيّنة ، تتبنّى فهماً خاصّاً للحياة ، لا يَعترف لها بجميع المثُل والقيم المعنوية ، ويعلِّلها تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة ، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادّية المحدودة وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية ؛ فإنّها وإن كانت نظاماً مادّياً ولكنّها لم تبنَ على أساس فلسفيٍّ محدَّد فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية آمنت به الشيوعية المادّية ، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية أو لم تحوّل إيضاحه

٣٩

وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركّز عليها وانبثق عنها ، فإنّ الحكم على كلّ نظام يتوقّف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وإدراكها

ومن السهل أن ندرك في أوّل نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفَّف أو الكامل ، أنّ طابعه العامّ هو إفناء الفرد في المجتمع ، وجعله آلة مسخَّرة لتحقيق الموازين العامّة التي يفترضها فهو على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحرّ الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخّره لمصالحه ، فكأنّه قد قُدِّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية ـ في عرف هذين النظامين ـ أن تتصادما وتتصارعا فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في حدّ النظامين الذي أقام تشريعه على أساس الفرد ومنافعه الذاتية ، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوِّه الحياة في جميع شُعَبِها وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق ، فساند المجتمع ، وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء ، فأُصيب الأفراد بمحن قاسية قضت على حرّيتهم ووجودهم الخاصّ ، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير

المؤاخذات على الشيوعية :

والواقع : أنّ النظام الشيوعي وإن عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرّة بمحوه للملكية الفردية ، غير أنّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً ، وطريقة تنفيذه شاقّة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والأساليب ، هذا من ناحية ومن ناحية أُخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كلّه ؛ لأنّه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء ، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالم في ظلّ الأنظمة الرأسمالية ،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وصيف ألف ألف دينار وثلاث مائة ألف دينار، وأخذ منها من الجواهر ما قيمته ألفا ألف دينار.

وكان الجند سألوا المعتز في خمسين ألف دينار ويصطلحون معه، فسألها المعتز في ذلك فقالت: ما عندي شئ. فلما رأى ابن وصيف هذا المال قال: قبح الله قبيحة عرَّضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذا كله ».

وفي تاريخ الخلفاء / ٢٦٢: « أخذوالمعتز بعد خمس ليال من خلعه، فأدخلوه الحمام فلما اغتسل عطش فمنعوه الماء، ثم أخرج فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتاً، وذلك في شهر شعبان المعظم سنة خمس وخمسين ومائتين، واختفت أمه قبيحة، ثم ظهرت في رمضان وأعطت صالح بن وصيف مالاً عظيماً، من ذلك ألف ألف دينار وثلاث مائة ألف دينار، وسفط فيه مكوك زمرد، وسفط فيه لؤلؤ حب كبار، وكيلجة ياقوت أحمر وغير ذلك، فقومت السفاط بألفي ألف دينار!

فلما رأى ابن وصيف ذلك قال: قبحها الله عرضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذا، فأخذ الجميع ونفاها إلى مكة، فبقيت بها إلى أن تولى المعتمد، فردها إلى سامرا، وماتت سنة أربع وستين ».

وقال الذهبي في سيره « ١٢ / ٥٣٥ »: يمدح المهتدي الذي بايعوه بعد المعتز: « وكان المهتدي أسمر رقيقاً مليح الوجه، ورعاً، عادلاً، صالحاً، متعبداً، بطلاً، شجاعاً، قوياً في أمر الله، خليقاً للإمارة، لكنه لم يجد معيناً ولا ناصراً وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه ويُجلس بين يديه الكتاب

٣٨١

يعملون الحساب وقد ضرب جماعة من الكبار، ونفى جعفر بن محمود إلى بغداد لرفضٍ فيه وفي أوائل خلافته عَبَّأ موسى بن بغا جيشه، وشهر السلاح بسامراء لقتل صالح بن وصيف بدم المعتز، ولأخذه أموال أمه قبيحة وأموال الدواوين فهجم بمن معه والمهتدي جالس في دار العدل، فأقاموه وحملوه على أكدش « بغل » وانتهبوا القصر ..

ثم خرج المهتدي وعليه ثياب بيض وتقلد سيفاً، وأمر بإدخالهم إليه فقال: قد بلغني شأنكم، ولست كالمستعين والمعتز، والله ما خرجت إلا وأنا متحنط وقد أوصيت، وهذا سيفي فلأضربن به ما استمسك بيدي، أما دينٌ أما حياءٌ أما رِعَةٌ؟ كم يكون الخلاف على الخلفاء والجرأة على الله! فركب المهتدي وصالح بن علي في عنقه المصحف يصيح: أيها الناس، أنصروا إمامكم ..

وتفلل جمع المهتدي واستحر بهم القتل، فولى والسيف في يده يقول: أيها الناس قاتلوا عن خليفتكم، ثم دخل دار صالح بن محمد بن يزداد، ورمى السلاح ولبس البياض ليهرب من السطح، وجاء حاجب باكيال فأعلم به، فهرب فرماه واحد بسهم ونفحه بالسيف، ثم حمل إلى الحاجب فأركبوه بغلاً وخلفه سائس، وضربوه وهم يقولون: أين الذهب؟ فأقرَّ لهم بست مئة ألف دينار مودعة ببغداد، فأخذوا خطه بها، وعَصَرَ تركيٌّ على أنثييه فمات! وقيل: أرادوا منه أن يخلع نفسه فأبى فقتلوه (رحمه الله)، وبايعوا المعتمد على الله ».

٣٨٢

أقول: نلاحظ أن المهتدي ليس بطلاً كما زعم الذهبي. كما نلاحظ أن الخليفة صار جزءاً من الأطراف التركية المتصارعة، بل آلةً بيدها!

وأن صراع الأتراك بينهم كان شديداً، فقد جاء موسى بن بغا من خراسان لينتقم من وصيف ويحاسبه على ثروته الطائلة، التي حصل عليها!

قتل المهتدي ونصب المعتمد « أحمد بن المتوكل »

حدثت تطورات عديدة بعد شهادة الإمام الهادي (ع)، فقد ظهرت حركة الزنج في البصرة، وحركة الخوارج في الموصل، وانقسم الترك الى قسمين: قسم مع المهتدي في سامراء بقيادة صالح بن وصيف، وقسم ضدهم بقيادة موسى بن بغا، وسيأتي ذلك إن شاء الله في سيرة الإمام الحسن العسكري (ع).

وكانت نهاية المهتدي لأنه حاول أن يوقع بين الأتراك، فاتفقوا عليه فكشف المهتدي مؤامرتهم، فقتل القائد بايكباك، فجاش الترك عليه وهاجموه، وكانت بينهم معارك انتهت بهزيمة المهتدي وقتله.

قال الطبري « ٧ / ٥٨٢ »: « وفي رجب من هذه السنة « ٢٥٦ » لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.

ذُكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة يطلبون أرزاقهم، فوجه إليهم المهتدى طبايغو الرئيس عليهم، وعبد الله أخا المهتدي، فكلمهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين

٣٨٣

مشافهة، وخرج أبونصر بن بغا تحت ليلته إلى عسكر أخيه وهوبالسن بالقرب من الشاري، ودخل دار الجوسق جماعة منهم ».

ثم ذكر الطبري محاورة المهتدي مع بايكباك، وكيف قام بقتله وألقى رأسه الى الأتراك فجاشوا واتحدوا، ليأخذوا منه ثأرهم!

قال الطبري « ٧ / ٥٨٤ »: « فاجتمع جميع الأتراك فصار أمرهم واحداً، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغتيا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك في نحو من خمس مائة، مع من جاء مع طغوتيا من الأتراك والعجم.

وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي والمصحف في عنقه يدعوالناس إلى أن ينصروا خليفتهم، فلما التحم الشر مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفراغنة والمغاربة ومن خف معه من العامة، فحمل عليهم طغوتيا أخو بايكباك حملة ثائر حران موتور فنقض تعبيتهم وهزمهم، وأكثر فيهم القتل وولوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزماً والسيف في يده مشهور، وهو ينادى يا معشر الناس أنصروا خليفتكم! حتى صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وهوبعد خشبة بابك، وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه ولبس البياض ليعلوداراً وينزل أخرى ويهرب، فطلب فلم يوجد.

وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارساً يسأل عنه، حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد فرُمِيَ بسهم وبُعِج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائساً حتى صار به إلى داره، فدخلوا عليه فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثي، فأقر لهم بست مائة

٣٨٤

ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خَسَف الواضحة، مغنية، فأخذوا رقعته بست مائة ألف دينار. ودفعوه إلى رجل فوطأ على خصييه حتى قتله »!

أخبار الإمام الهادي (ع) في عهد المستعين والمعتز

اتضح بما تقدم أن الخلافة كانت بعد المعتز للمهتدي، ثم للمعتمد، وكانت شهادة الإمام الهادي (ع) سنة ٢٥٤، في خلافة المعتز، قبل المعتمد. فعبارة: سمه المعتمد، التي وردت في سيرته (ع) تصحيفٌ أو لأن المعتمد كان منفذاً.

وفي مناقب آل أبي طالب « ٣ / ٥٣٠ »: « علي بن محمد بن زياد الصيمري قال: دخلت على أبي أحمد بن عبد الله بن طاهر، وفي يديه رقعة أبي محمد (ع) فيها: إني نازلت الله في هذا الطاغي يعني المستعين، وهو آخذه بعد ثلاث، فلما كان اليوم الثالث خلع، وكان من أمره ما كان، إلى أن قتل ».

وزمن هذه الحادثة لا بد أن يكون سنة ٢٥٢، وأن يكون أبا محمد ورد فيها بدل أبا الحسن (ع) لأن المستعين خلع نفسه في هذه السنة، ثم قتلوه.

والرواية تدل على أن المستعين كان يؤذي الإمام الهادي (ع) ويستهدفه فدعا عليه، وأخبر أن دعاءه يستجاب بعد ثلاثة أيام!

كما توجد حادثة رويت على أنها للمستعين مع الإمام العسكري (ع)، فلا بد أن تكون في حياة الإمام الهادي (ع) أيضاً، لأن المستعين مات قبل شهادته (ع).

وقد رواها الكليني « ١ / ٥٠٧ » وخلاصتها أن المستعين كان عنده بغلٌ عجزت الرَّاضَةُ عن ترويضه، فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين ألا تبعث إلى الحسن

٣٨٥

بن الرضا حتى يجئ، فإما أن يركبه وإما أن يقتله فتستريح منه، قال: فبعث إلى أبي محمد ومضى معه أبي فقال أبي: لما دخل أبومحمد الدار كنت معه فنظر أبومحمد إلى البغل واقفاً في صحن الدار، فعدل إليه فوشَّع بيده على كفله، قال فنظرت إلى البغل وقد عرق حتى سال العرق منه، ثم صار إلى المستعين فسلم عليه فرحب به وقرب، فقال: يا أبا محمد ألجم هذا البغل » ثم تقول الرواية: إنه ألجمه وأسرجه وركبه، فتعجب الخليفة ووهبه له.

ومعناها أن المستعين دبَّرَ هذه المكيدة للإمام الحسن العسكري (ع) أو أراد أن يمتحن مقامه عند الله تعالى، وهل يخضع له البغل الشموس.

وبما أن المستعين مات بدعوة الإمام الهادي فلا بد أن تكون القصة في حياته (ع) وربما كانت معه هو، وجعلها الراوي مع ولده الحسن (ع). أو يكون الخليفة الذي هوطرفها، غير المستعين.

٣٨٦

الفصل الرابع عشر:

من معجزات الإمام الهادي (ع)

الأئمة أفضل أوصياء الأنبياء (ع)

لكل واحد من الأئمة (ع) معجزات كثيرة، وقد حفظ الرواة للإمام الهادي (ع) أكثر من مئة معجزة، وتقدم عددٌ منها، ونورد فيما يلي عدداً آخر، ونذكر قبلها حديثاً يصف ما أعطى الله تعالى لأئمة العترة النبوية.

قال النوفلي « الكافي: ١ / ٢٣١ »: « سمعته (ع) يقول: إسم الله الأعظم ثلاثةٌ وسبعون حرفاً، كان عند آصف حرفٌ فتكلم به، فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناول عرش بلقيس حتى صيَّره إلى سليمان (ع)، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً. وحرفٌ عند الله مستأثرٌ به في علم الغيب ».

وفي عيون أخبار الرضا (ع) « ١ / ١٩٢ »: « للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختوناً ويكون مطهراً، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل، وإذا وقع إلى الأرض من بطن أمه وقع على راحتيه رافعاً صوته بالشهادتين، ولا يحتلم، وتنام عينه ولا ينام قلبه، ويكون محدثاً، « تحدثه الملائكة » ويكون دعاؤه مستجاباً حتى أنه لودعا على صخره لانشقت بنصفين إن الإمام مؤيدٌ بروح القدس، وبينه وبين الله عمودٌ من نور، يرى فيه أعمال العباد وكلما احتاج إليه يبسط له فيعلم، ويقبض عنه فلا يعلم ».

٣٨٧

يحيى بن هرثمة يحدث بمعجزات الإمام (ع)

يوجد قبر في ضواحي مشهد الإمام الرضا (ع) يزوره الناس ويسمونه: خاجه مراد، فقصدناه ووجدنا مكتوباً عليه أنه قبر هرثمة بن أعين، وقيل قبر يحيى بن هرثمة. فندمنا على سفرنا لأنا لا نزور قبر هرثمة وأمثاله من قادة جيش العباسيين! فقد كان يحيى كأبيه هرثمة قائداً عند المتوكل، ينفذ أوامره القذرة في قتل المسلمين، ثم واصل ذلك مع غيره من الخلفاء. ولا يوجد ليحيى حسنة في تاريخه إلا روايته لمعجزات الإمام الهادي (ع)! وقوله إنه تاب وأناب عندما رآها، وهومجرد قول بلا عمل.

قال الطبري « ٧ / ٤٧٩ »: « وفيها « سنة ٣٤٨ » كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش، قتل من الفريقين جماعة، ثم انهزم أبوالحسين بن قريش ».

وقد أورد السيد الخوئي في معجمه « ٢١ / ١٠٢ » رواية تشيعه ولم يعلق بشئ.

ووصفه في مستدرك سفينة البحار « ٣ / ٢٨ » بحُسْنُ الخاتمة , ولا نعرف له حسنةً إلا روايته لما شاهد من معجزات الإمام الهادي (ع)، وذلك بعد موت المتوكل.

١. ظهر الماء في الصحراء ورويت القافلة:

قال المسعودي في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٢ »: « وروي عن يحيى بن هرثمة قال: رأيت من دلائل أبي الحسن (ع) الأعاجيب في طريقنا. منها: أنا نزلنا منزلاً لا ماء فيه فأشفينا ودوابنا وجمالنا من العطش على التلف، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة، فقال أبوالحسن (ع): كأني أعرف على أميال موضع ماء. فقلنا له: إن نشطت وتفضلت عدلت بنا إليه وكنا معك. فعدل بنا عن الطريق فسرنا نحو ستة أميال « نحوعشرة كيلومتر » فأشرفنا على واد كأنه زهرالرياض فيه

٣٨٨

عيون وأشجار وزروع، وليس فيها زارع ولا فلاح ولا أحد من الناس، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابنا، وأقمنا الى بعد العصر ثم تزودنا وارتوينا، وما معنا من القرب ورحنا راحلين. فلم نبعد أن عطشتُ وكان لي مع بعض غلماني كوز فضة يشده في منطقته. وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام، ونظرتُ فإذا هو قد أنسي الكوز في المنزل الذي كنا فيه. فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي جواد سريع وأغذ السير، حتى أشرفت على الوادي فرأيته جدباً يابساً، قاعاً مَحْلاً، لاماء فيه ولا زرع ولاخضرة، ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم، والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام! فأخذته وانصرفت ولم أعَرِّفْه شيئاً من الخبر. فلما قربت من القطر والعسكر وجدته (ع) واقفاً ينتظر فتبسم صلى الله عليه ولم يقل لي شيئاً، ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز فأعلمته أني وجدته!

٢. عرف الإمام بموعد نزول المطر في الصيف:

قال يحيى: وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حاميةٌ تُحرق، فركب من مضربه وعليه ممطر، وذنبُ دابته معقودٌ وتحته لبدٌ طويل، فجعل كل من في العسكر وأهل القافلة يضحكون تعجباً ويقولون: هذا الحجازي ليس يعرف الرأي، فما سرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأظلتنا بسرعة، وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب، فكدنا أن نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا الى أبداننا وامتلأت خفافنا، وكان أسرع وأعجل من

٣٨٩

أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد، فصرنا شهرةً، وما زال (ع) يتبسم تبسماً ظاهراً تعجباً من أمرنا ». « إثبات الوصية / ٢٣٤ ».

٣. الإمام يشفي عين طفل ويرد بصره:

قال يحيى: وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابنٌ لها أرمدُ العين، ولم تزل تستذل وتقول: معكم رجل علوي دُلوني عليه حتى يرقي عين ابني هذا. فدللناها عليه ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشك أنها ذاهبة، فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علة »!

٤. رواية أخرى لحادثة المطر في الصيف:

في الخرائج « ١ / ٣٩٢ » والثاقب لابن حمزة / ٥٥١، عن يحيى بن هرثمة، قال: « دعاني المتوكل فقال: إختر ثلاث مائة رجل ممن تريد، واخرجوا إلى الكوفة، فخلفوا أثقالكم فيها، واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة فأحضروا علي بن محمد بن الرضا إلى عندي مكرماً معظماً مبجلاً. قال: ففعلت وخرجنا. وكان في أصحابي قائد من الشراة « الخوارج » وكان لي كاتب يتشيع، وأنا على مذهب الحشوية « أهل الحديث » وكان ذلك الشاري يناظرذلك الكاتب، وكنت أستريح إلى مناظرتهما لقطع الطريق. فلما صرنا إلى وسط الطريق قال الشاري للكاتب: أليس من قول صاحبكم علي بن أبي طالب أنه ليس من الأرض بقعة إلاوهي قبر أوستكون قبراً؟ فانظر إلى هذه البرية أين من يموت فيها حتى يملأها الله قبوراً كما تزعمون؟ قال فقلت للكاتب: أهذا من قولكم؟ قال: نعم. قلت: صدق. أين

٣٩٠

من يموت في هذه البرية العظيمة حتى تمتلئ قبوراً؟! وتضاحكنا ساعة، إذ انخذل الكاتب في أيدينا. قال: وسرنا حتى دخلنا المدينة، فقصدت باب أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا فدخلت إليه، فقرأ كتاب المتوكل فقال: إنزلوا وليس من جهتي خلاف. قال: فلما صرت إليه من الغد، وكنا في تموز أشد ما يكون من الحر، فإذا بين يديه خياطٌ وهويقطع من ثياب غلاظ خفاتين « الخفتان: معطف وهوالقفطان » له ولغلمانه، ثم قال للخياط: إجمع عليها جماعة من الخياطين، واعمد على الفراغ منها يومك هذا، وبكر بها إليَّ في هذا الوقت. ثم نظر إلي وقال: يا يحيى، إقضوا وطركم من المدينة في هذا اليوم، واعمل على الرحيل غداً في هذا الوقت.

قال: فخرجت من عنده وأنا أتعجب منه من الخفاتين، وأقول في نفسي: نحن في تموز وحر الحجاز، وإنما بيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام، فما يصنع بهذه الثياب! ثم قلت في نفسي: هذا رجل لم يسافر، وهويقدر أن كل سفر يحتاج فيه إلى هذه الثياب، وأتعجب من الرافضة حيث يقولون بإمامة هذا مع فهمه هذا. فعدت إليه في الغد في ذلك الوقت فإذا الثياب قد أحضرت، فقال لغلمانه: أدخلوا وخذوا لنا معكم لبابيد وبرانس. ثم قال: إرحل يا يحيى.

فقلت في نفسي: وهذا أعجب من الأول، أيخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتى أخذ معه اللبابيد والبرانس! فخرجت وأنا أستصغر فهمه.

٣٩١

فسرنا حتى وصلنا إلى موضع المناظرة في القبور ارتفعت سحابة واسودَّت وأرعدت وأبرقت، حتى إذا صارت على رؤوسنا أرسلت علينا بَرَداً مثل الصخور، وقد شدَّ على نفسه وعلى غلمانه الخفاتين، ولبسوا اللبابيد والبرانس، وقال لغلمانه: إدفعوا إلى يحيى لبادة، وإلى الكاتب برنساً.

وتجمعنا والبَرَد يأخذنا حتى قتل من أصحابي ثمانين رجلاً، وزالت ورجع الحرُّ كما كان، فقال لي: يا يحيى إنزل أنت ومن بقي من أصحابك ليدفنوا من قد مات من أصحابك. ثم قال: فهكذا يملأ الله هذه البرية قبوراً!

قال: فرميت بنفسي عن دابتي وعدوت إليه فقبَّلت ركابه ورجله، وقلت: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنكم خلفاء الله في أرضه، وقد كنتُ كافراً، وإنني الآن قد أسلمت على يديك يا مولاي. قال يحيى: وتشيعت، ولزمت خدمته إلى أن مضى ».

ملاحظة

شَنَّعَ ذلك الخارجي على زميله الكاتب الشيعي بما رويَ عن أمير المؤمنين (ع): « ليس من الأرض بقعة إلا وهي قبر، أوستكون قبراً » ولم أجد هذا الحديث في المصادر المعروفة. لكن معناه صحيح فكل بقعة، أي كل نوع من الأرض فيه قبور أو سيكون فيه، وليس معناه أن كل مكان في الأرض قبرٌ أوسيكون قبراً.

قال الخليل في العين « ١ / ١٨٤ »: « البَقْعُ: لونٌ يخالف بعضه بعضاً، مثل الغراب الأسود في صدره بياض، غراب أبقع، وكلب أبقع. والبقعة: قطعة من أرض على غير هيئة التي على جنبها، كل واحدة منها بقعة وجمعها بقاع وبقع ».

٣٩٢

على أن كل تستعمل للتعميم النسبي، فقد روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى عن اليهود: ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) . « الأعراف: ١٦٨ » قال: « هم اليهود بسطهم الله في الأرض، فليس من الأرض بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة ». « تفسير ابن أبي حاتم: ٥ / ١٦٠٥ » وبهذا المعنى وردت البقعة في حديث المهدي (ع): « وينزل روح الله عيسى بن مريم (ع) فيصلي خلفه، وتشرق الأرض بنور ربها ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله عز وجل إلا عبد الله فيها ». « كمال الدين: ٢ / ٣٤٥ ».

وقصد الخارجي من تشنيعه على الكاتب، تكذيب أمير المؤمنين (ع)، ولعل الكاتب شكى الى الإمام الهادي (ع) سخريتهم به، فأجرى الله على يد (ع) هذه الكرامة لتصديق ما رواه عن أمير المؤمنين (ع)!

أما قول ابن هرثمة: وتشيعت، ولزمت خدمته إلى أن مضى. فادعاء لم يصح!

٥. رواية ثانية لظهور الماء وريَّ القافلة:

في الخرائج « ١ / ٤١٥ »: « روى أبومحمد البصري، عن أبي العباس خال شبل كاتب إبراهيم بن محمد، قال: كلما أجرينا ذكر أبي الحسن (ع) فقال لي: يا أبا محمد لم أكن في شئ من هذا الأمر وكنت أعيب على أخي، وعلى أهل هذا القول عيباً شديداً بالذم والشتم، إلى أن كنت في الوفد الذين أوفد المتوكل إلى المدينة في إحضار أبي الحسن (ع) فخرجنا إلى المدينة، فلما خرج وصرنا في بعض الطريق، طوينا المنزل وكان يوماً صائفاً شديد الحر، فسألناه أن ينزل قال: لا.

فخرجنا ولم نطعم ولم نشرب، فلما اشتد الحر والجوع والعطش فينا، ونحن إذ ذاك في أرض ملساء لا نرى شيئاً ولا ظلاً ولا ماء نستريح إليه، فجعلنا نشخص

٣٩٣

بأبصارنا نحوه. فقال: ما لكم أحسبكم جياعاً وقد عطشتم؟ فقلنا: إي والله، وقد عيينا يا سيدنا. قال: عَرِّسُوا « إنزلوا » وكلوا واشربوا.

فتعجبت من قوله ونحن في صحراء ملساء لا نرى فيها شيئاً نستريح إليه، ولا نرى ماءً ولا طلاً. قال: ما لكم! عَرِّسُوا. فابتدرت إلى القطار لأنيخ ثم التفتُّ وإذا أنا بشجرتين عظيمتين يستظل تحتهما عالمٌ من الناس، وإني لأعرف موضعهما أنه أرض بَرَاحٌ قفرٌ، وإذا أنا بعين تسيح على وجه الأرض أعذب ماء وأبرده! فنزلنا وأكلنا وشربنا واسترحنا، وإن فينا من سلك ذلك الطريق مراراً!

فوقع في قلبي ذلك الوقت أعاجيب، وجعلت أحد النظر إليه وأتأمله طويلاً، وإذا نظرت إليه تبسم وزوى وجهه عني، فقلت في نفسي: والله لأعرفن هذا كيف هو؟ فأتيت من وراء الشجرة فدفنت سيفي ووضعت عليه حجرين، وتغوطت في ذلك الموضع، وتهيأت للصلاة.

فقال أبوالحسن: استرحتم؟ قلنا: نعم، قال: فارتحلوا على اسم الله، فارتحلنا فلما أن سرنا ساعة رجعت على الأثر فأتيت الموضع فوجدت الأثر والسيف كما وضعت والعلامة، وكأن الله لم يخلق ثم شجرةً ولا ماءً وظلالاً ولا بللاً! فتعجبت ورفعت يدي إلى السماء فسألت الله بالثبات على المحبة والإيمان به والمعرفة منه. وأخذت الأثر ولحقت القوم، فالتفت إليَّ أبوالحسن (ع) وقال: يا أبا العباس فعلتها؟ قلت: نعم يا سيدي، لقد كنت شاكاً، ولقد أصبحت وأنا

٣٩٤

عند نفسي من أغنى الناس بك في الدنيا والآخرة. فقال: هوكذلك، هم معدودون معلومون، لا يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً ».

أقول: لم أجد ترجمة أبي العباس خال كاتب إبراهيم بن محمد، والظاهر أن إبراهيم بن محمد هذا هوالعباسي المسمى بُرَيْه، وقد ذكر الطبري « ٦ / ٤٧٢ و ٦٠٤، و: ٨ / ١٥ » أنه كان والياً على الحرمين، وأنه حج بالناس سنة ٢٥٩.

٦. ما ظهر للفتح بن يزيد الجرجاني:

في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٥ »: « وروى الحميري قال: حدثني أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمني وأبا الحسن (ع) الطريق لما قدم به المدينة فسمعته في بعض الطريق يقول: من اتقى الله يتقى ومن أطاع الله يطاع.

فلم أزل أدلف حتى قربت منه ودنوت، فسلمت عليه ورد عليَّ السلام فأول ما ابتدأني أن قال لي: يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين، ومن أسخط الخالق فليوقن أن يحل به سخط المخلوقين.

يا فتح إن الله جل جلاله لايوصف إلا بما وصف به نفسه، فأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار أن تحيط به، جل عما يصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيَّفَ الكيف فلا يقال كيف، وأيَّنَ الأين فلا يقال أين، إذ هومنقطع الكيفية والأينية، الواحد الأحد جل جلاله، بل كيف يوصف بكنهه محمد (ص) وقد قرن الخليل اسمه باسمه وأشركه

٣٩٥

في طاعته وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته، فقال: وما نقموا منه إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله. وقال تبارك اسمه يحكي قول من ترك طاعته: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا . أم كيف يوصف من قرن الجليل طاعته بطاعة رسول الله (ص) حيث يقول: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.

يا فتح كما لا يوصف الجليل جل جلاله، ولايوصف الحجة، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلم لأمرنا. فنبينا (ص) أفضل الأنبياء ووصينا (ص) أفضل الأوصياء. ثم قال لي بعد كلام: فأورد الأمر إليهم وسلم لهم. ثم قال لي: إن شئت. فانصرفت منه. فلما كان في الغد تلطفت في الوصول إليه فسلمت فرد السلام فقلت: يا ابن رسول الله تأذن لي في كلمة اختلجت في صدري ليلتي الماضية؟

فقال لي: سل وأصخْ الى جوابها سمعك، فإن العالم والمتعلم شريكان في الرشد، مأموران بالنصيحة، فاما الذي اختلج في صدرك فإن يشأ العالم أنبأك الله، إن الله لم يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، وكل ما عند الرسول فهوعند العالم، وكل ما اطلع الرسول عليه فقد اطلع أوصياؤه عليه.

يا فتح: عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أوردت عليك وأشكَّكَ في بعض ما أنبأتك، حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم! فقلتَ متى أيقنت أنهم هكذا فهم أرباب! معاذ الله، إنهم مخلوقون مربوبون مطيعون داخرون راغمون. فإذا جاءك الشيطان بمثل ما جاءك به فاقمعه بمثل

٣٩٦

ما نبأتك به. قال فتح: فقلت له: جعلني الله فداك فرجت عني، وكشفت ما لبَّسَ الملعون عليَّ، فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب.

قال: فسجد (ع) فسمعته يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي داخراً خاضعاً.

ثم قال: يا فتح كدت أن تهلك وما ضر عيسى إن هلك من هلك. إذا شئت رحمك الله. قال: فخرجت وأنا مسرور بما كشف الله عني من اللبس.

فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهومتكئ وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان لعنه الله في خلدي أنه لاينبغي أن يأكلوا ولا يشربوا. فقال: أجلس يا فتح، فإن لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكل جسم متغذٍّ إلا خالق الأجسام الواحد الأحد، منشئ الأشياء ومجسم الأجسام وهوالسميع العليم. تبارك الله عما يقول الظالمون وعلا علواً كبيراً. ثم قال: إذا شئت رحمك الله ».

٧. قال البغدادون: أقبل بيت الله الحرام:

في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٦ »: « وقُدم به (ع) بغداد وخَرج إسحاق بن إبراهيم وجملة القواد فتلقوه، فحدث أبوعبد الله محمد بن أحمد الحلبي القاضي قال: حدثني الخضر بن محمد البزاز وكان شيخاً مستوراً ثقة، يقبله القضاة والناس قال: رأيت في المنام كأني على شاطئ دجلة بمدينة السلام في رحبة الجسر ـ والناس مجتمعون خلق كثير يزحم بعضهم بعضاً، وهم يقولون: قد أقبل بيت الله الحرام.

٣٩٧

فبينا نحن كذلك إذ رأيت البيت بما عليه من الستائر والديباج والقَباطي، قد أقبل ماراً على الأرض، يسير حتى عبر الجسر، من الجانب الغربي الى الجانب الشرقي، والناس يطوفون به وبين يديه حتى دخل دار خزيمة، وهي التي آخر من ملكها بعد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر القمي، وأبوبكر الفتى بن أخت إسماعيل بن بلبل بدر الكبير الطولوي، المعروف بالحمامي، فإنه أقطعها.

فلما كان بعد أيام خرجت في حاجة، حتى انتهيت الى الجسر، فرأيت الناس مجتمعين وهم يقولون: قد قدم ابن الرضا من المدينة، فرأيته قد عبر من الجسر على شهري تحته كبير، يسير عليه المسير رفيقاً، والناس بين يديه وخلفه، وجاء حتى دخل دار خزيمة بن حازم، فعلمت أنه تأويل الرؤيا التي رأيتها.

ثم خرج الى سر من رأى فتلقاه جملة من أصحاب المتوكل حتى دخل إليهم، فأعظمه وأكرمه ومهد له. ثم انصرف عنه الى دار أعدت له وأقام بسر من رأى ».

أقول: يدلك هذا على علاقة الناس العقائدية العميقة بالإمام الهادي (ع)، فالبزاز هذا من علماء العامة، وقد رأى هذا المنام عن الإمام (ع).

٨. عرف الإمام (ع) ما في ضميره فاستبصر:

في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٧ »: « وروى احمد بن محمد بن قابنداذ الكاتب الإسكافي قال: تقلدت ديار ربيعة وديار مضر، فخرجت وأقمت بنصيبين، وقلدت عمالي وأنفذتهم الى نواحي أعمالي، وتقدمت أن يحمل اليَّ كل واحد منهم كل من يجده في عمله ممن له مذهب، فكان يردُ علي في اليوم الواحدُ والإثنان والجماعة منهم،

٣٩٨

فأسمع منهم وأعامل كل واحد بما يستحقه. فأنا ذات يوم جالسٌ إذ ورد كتاب عامل بكفرتوثي يذكر أنه قد وجه إليَّ برجل يقال له إدريس بن زياد، فدعوت به فرأيته وسيماً قسيماً قبلته نفسي، ثم ناجيته فرأيته ممطوراً ورأيته من المعرفة بالفقه والأحاديث على ما أعجبني، فدعوته الى القول بإمامة الإثني عشر (ع) فأبى وأنكر عليَّ ذلك وخاصمني فيه!

وسألته بعد مقامه عندي أياماً أن يهب لي زَوْرَةً الى سر من رأى لينظر الى أبي الحسن (ع) وينصرف فقال لي: أنا أقضي حقك بذلك.

وشخص بعد أن حملته، فأبطأ عني وتأخر كتابه، ثم إنه قدم فدخل إليَّ فأول ما رآني أسبل عينيه بالبكاء، فلما رأيته باكياً لم أتمالك حتى بكيت، فدنا مني وقبل يدي ورجلي ثم قال: يا أعظم الناس منةً، نجيتني من النار وأدخلتني الجنة.

وحدثني فقال لي: خرجت من عندك وعزمي إذا لقيت سيدي أبا الحسن (ع) أن أسأله من مسائل، وكان فيما أعددته أن أسأله عن عرق الجنب، هل يجوز الصلاة في القميص الذي أعرق فيه وأنا جنب أم لا؟ فصرت الى سر من رأى، فلم أصل إليه وأبطأ من الركوب لعلة كانت به، ثم سمعت الناس يتحدثون بأنه يركب، فبادرت ففاتني ودخل دار السلطان فجلست في الشارع، وعزمت أن لا أبرح أوينصرف. واشتد الحرُّ عليَّ فعدلت الى باب دار فيه، فجلست أرقبه ونعست فحملتني عيني فلم أنتبه إلا بمقرعة قد وضعت على كتفي، ففتحت عيني فإذا هومولاي أبوالحسن (ع) واقف على دابته، فوثبت فقال لي: يا إدريس

٣٩٩

أما آن لك؟ فقلت: بلى يا سيدي. فقال: إن كان العرق من حلال فحلال، وإن كان من حرام فحرام. من غير أن أسأله، فقلت به وسلمت لأمره ».

أقول: قول الإمام (ع): أما آن لك يدل على أنه رأى منه آيات قبل أن يجيبه على ما في نفسه. لكنه لم يذكرها في هذا الحديث.

٩. النصراني الكاتب مع الإمام الهادي (ع):

في الخرائج « ١ / ٣٩٦ »: « عن هبة الله بن أبي منصور الموصلي، قال: كان بديار ربيعة كاتب لنا نصراني وكان من أهل كفرتوثا، يسمى يوسف بن يعقوب، وكان بينه وبين والدي صداقة. قال: فوافى ونزل عند والدي فقال ما شأنك قدمت في هذا الوقت؟ قال: قد دعيتُ إلى حضرة المتوكل، ولا أدري ما يراد مني، إلا أني قد اشتريت نفسي من الله تعالى بمائة دينار، قد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا، معي! فقال له والدي: وفقت في هذا. قال: وخرج إلى حضرة المتوكل وانصرف إلينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً، فقال له أبي: حدثني بحديثك.

قال: سرت إلى سر من رأى وما دخلتها قط، فنزلت في دار وقلت: يجب أن أوصل المائة دينار إلى أبي الحسن بن الرضا (ع) قبل مصيري إلى باب المتوكل، وقبل أن يعرف أحد قدومي. قال: فعرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره، فقلت: كيف أصنع؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا! لا آمن أن ينذر بي فيكون ذلك زيادة فيما أحاذره. قال: فتفكرت ساعة في ذلك، فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج من البلد، ولا أمنعه من حيث يريد،

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477