الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158688 / تحميل: 7012
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

التّفسير

العقاب بعد البيان :

إن الآية الأولى تشير إلى قانون كلّي وعام ، يؤيده العقل أيضا ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى ما دام لم يبيّن حكما ، ولم يصل شيء من الشرع حوله ، فإنّه تعالى سوف لا يحاسب عليه أحدا ، وبتعبير آخر : فإنّ التكليف والمسؤولية تقع دائما بعد بيان الأحكام ، وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الأصول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

ولذلك فأوّل ما تطالعنا به الآية قوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) .

إنّ المقصود من (يضل) ـ في الأصل الإضلال والتضييع ، أو الحكم بالإضلال ـ كما احتمله بعض المفسّرين (كما يقال في التعديل والتفسيق ، أي الحكم بعدالة الشخص وفسقه)(1) أو بمعنى الإضلال من طريق الثواب يوم القيامة ، وهو في الواقع بمعنى العقاب.

أو أنّ المقصود من «الإضلال» ما قلناه سابقا ، وهو سلب نعمة التوفيق ، وإيكال الإنسان إلى نفسه ، ونتيجة ذلك هو الضياع والحيرة والانحراف عن طريق الهداية لا محالة ، وهذا التعبير إشارة خفية ولطيفة إلى حقيقة ثابتة ، وهي أنّ الذّنوب دائما هي مصدر وسبب الضلال والضياع والابتعاد عن طريق الرشاد(2) .

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي إن علم الله يحتم ويؤكّد على أنّ الله سبحانه ما دام لم يبيّن الحكم الشرعي لعباده ، فإنّه سوف لا يؤاخذهم أو يسألهم عنه.

__________________

(1) يتصور البعض أنّ باب (تفعيل) هو الوحيد الذي يأتي أحيانا بمعنى الحكم ، في حين يلاحظ ذلك في باب (إفعال) أيضا ، كالشعر المعروف المنقول عن الكميت ، حيث يقول في بيان عشقه وحبّه لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وطائفة قد أكفروني بحبّكم.

(2) لمزيد التوضيح حول معنى الهداية والضلال في القرآن ، راجع ذيل الآية (26) من سورة البقرة.

٢٤١

جواب سؤال

يتصور بعض المفسّرين والمحدّثين أنّ الآية دليل على أن «المستقلات العقلية» ـ (وهي الأمور التي يدركها الإنسان عن طريق العقل لا عن طريق حكم الشرع ، كإدراك قبح الظلم وحسن العدل ، أو سوء الكذب والسرقة والاعتداء وقتل النفس وأمثال ذلك) ـ ما دام الشرع لم يبيّنها ، فإن أحدا غير مسئول عنها. وبتعبير آخر فإنّ كل الأحكام العقلية يجب أن تؤيد من قبل الشرع لإيجاد التكليف والمسؤولية على الناس ، وعلى هذا فإنّ الناس قبل نزول الشرع غير مسئولين مطلقا ، حتى في مقابل المستقلات العقلية.

إلّا أنّ بطلان هذا التصور واضح ، فإنّ جملة( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ) تجيبهم وتبيّن لهم أنّ هذه الآية وأمثالها خاصّة بالمسائل التي بقيت في حيز الإبهام وتحتاج إلى التّبيين والإيضاح ، ومن المسلّم أنّها لا تشمل المستقلات العقلية ، لأنّ قبح الظلم وحسن العدل ليس أمرا مبهما حتى يحتاج إلى توضيح.

الذين يذهبون إلى هذا القول غفلوا عن أن هذا القول ـ إن صحّ ـ فلا وجه لوجوب تلبية دعوة الأنبياء ، ولا مبرر لأن يطالعوا ويحققوا دعوى مدعي النّبوة ومعجزاته حتى يتبيّن لهم صدقه أو كذبه ، لأنّ صدق النّبي والحكم الإلهي لم يبيّن لحد الآن لهؤلاء ، وعلى هذا فلا داعي للتحقق من دعواه.

وعلى هذا فكما يجب التثبت من دعوى من يدعي النّبوة بحكم العقل ، وهو من المستقلات العقلية ، فكذلك يجب اتباع سائر المسائل التي يدركها العقل بوضوح.

والدليل على هذا الكلام التعبير المستفاد من بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ففي كتاب التوحيد ، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير هذه الآية : «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه»(1) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية وأمثالها تعتبر أساسا لقانون كلّي أصولي ، وهو

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 276.

٢٤٢

أننا ما دمنا لا نملك الدليل على وجوب أو حرمة شيء ، فإنّنا غير مسئولين عنه ، وبتعبير آخر فإنّ كل شيء مباح لنا ، إلّا أن يقوم دليل على وجوبه أو تحريمه ، وهو ما يسمونه ب (أصل البراءة).

وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتوكّد :( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وأن نظام الحياة والموت أيضا بيد قدرته ، فإنّه هو الذي( يُحْيِي وَيُمِيتُ ) وعلى هذا :( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ، وهو إشارة إلى أنّه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده ، وخاضعة لأمره ، فلا ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره ، وتلتجئوا إلى البعيدين عن الله وإلى أعدائه وتوادوهم ، وتوثقوا علاقتكم بهم عن طريق الاستغفار وغيره.

* * *

٢٤٣

الآيتان

( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) )

سبب النّزول

درس كبير!

قال المفسّرون : إنّ الآية الأولى نزلت في غزوة تبوك ، وما واجهه المسلمون من المشاكل والمصاعب العظيمة ، هذه المشاكل التي كانت من الكثرة والصعوبة بمكان بحيث صمّم جماعة على الرجوع ، إلّا أنّ اللطف الإلهي والتوفيق الرّباني شملهم ، فثبتوا في مكانهم.

ومن جملة من قيل أن الآية نزلت فيهم أبو خيثمة ، وكان من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،لا من المنافقين ، إلّا أنّه لضعفه امتنع عن التوجه إلى معركة تبوك مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤٤

مرّت عشرة أيّام على هذه الواقعة ، وكان الهواء حارا محرقا ، فحضر يوما عند زوجتيه، وكنّ قد هيأن خيمته ، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد ، فتذكر فجأة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغاص في تفكير عميق ، وقال في نفسه : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وضمن له آخرته ، قد حمل سلاحه على عاتقه وسار في الصحاري المحرقة ، وتحمل مشقّة هذا السفر ، أمّا أبو خيثمة ـ يعني نفسه ـ فهو في ظل بارد ، يتمتع بأنواع الأطعمة ، والنساء الجميلات!! إنّ هذا ليس من الإنصاف.

فالتفت إلى زوجاته وقال : أقسم بالله أن لا أكلم إحداكن كلمة ، ولا أستظل بهذه الخيمة حتى ألتحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال ذلك وحمل زاده وجرابه وركب بعيره وسار ، وجهدت زوجتاه أن يكلمنه فلم يعبأ بهما ولم ينبس ببنت شفة ، وواصل سيره حتى اقترب من تبوك.

فقال المسلمون بعضهم لبعض : من هذا الراكب على الطريق؟ ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كن أبا خيثمة» فلمّا اقترب وعرفه الناس ، قالوا : نعم ، هو أبو خيثمة ، فأناخ راحلته وسلّم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحدثه بما جرى له ، فرحبّ به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا له.

وبذلك فإنّه كان من جملة الذين مال قلبهم إلى الباطل ، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى لما رأى استعداده الروحي أرجعه إلى الحق وثبّت قدمه.

* * *

وقد نقل سبب آخر لنزول الآية الثّانية ، خلاصته : إنّ ثلاثة من المسلمين وهم : «كعب بن مالك» و «مرارة بن ربيع» و «وهلال بن أمية» ، امتنعوا من المسير مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاشتراك في غزوة تبوك ، إلّا أن ذلك ليس لكونهم جزءا من المنافقين ، بل لكسلهم وتثاقلهم ، فلم يمض زمان حتى ندموا.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن

٢٤٥

تقصيرهم ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة ، وأمر المسلمين أيضا أن لا يكلموهم.

لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة ، حتى أنّ أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن لهم بالمفارقة ، لكنّه أمرهم أن لا يقتربوا منهم.

إنّ فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر ، واضطروا للتخلص من هذا الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والالتجاء إلى قمم الجبال.

ومن المسائل التي أثرت تأثيرا روحيا شديدا ، وأوجدت صدمة نفسية عنيفة لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال : كنت يوما جالسا في سوق المدينة وأنا مغموم ، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي ، فلمّا عرفني سلمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها : إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا ، فتغير حالي وقلت : الويل لي ، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!

خلاصة الأمر : إنّ عوائل هؤلاء وأصدقاءهم كانوا يأتونهم بالطعام ، إلّا أنّهم لا يكلمونهم قط ، ومضت مدّة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الانتظار والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم ، لكن دون جدوى في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال : إذا كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا ، فلما ذا لا يعتزل كل منا صاحبه ، صحيح أنّنا مذنبون جميعا ، لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضا ، ولم بتكلموا بكلمة واحدة ، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيرا وبعد خمسين يوما من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في ذلك(1) .

__________________

(1) مجمع البيان ، وسفينة البحار ، وتفسير أبي الفتوح الرازي.

٢٤٦

التّفسير

الحصار الاجتماعي للمذنبين :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عن غزوة تبوك ، والمسائل والأحداث التي ترتبط بهذا الحدث الكبير ، وما جرى خلاله.

فتشير الآية الأولى إلى رحمة الله اللامتناهية التي شملت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة ، وتقول :( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) .

ثمّ تبيّن أن شمول هذه الرحمة الإلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث والضغوط والاضطرابات إلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض المسلمين عن جادة الصواب ، (وصمموا على الرجوع من تبوك) فتقول :( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) . ثمّ توكّد مرّة أخرى على أن الله سبحانه قد تاب عليهم ، فتقول :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط ، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد :( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) .

إلّا أنّ اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة ، بل عند ما عاش هؤلاء ـ وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية ، الذين مر شرح حالهم في سبب النزول ـ مقاطعة اجتماعية شديدة ، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية ، فتقول :( حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) .

بل إنّ صدور هؤلاء امتلأت همّا وغمّا بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود ، فكأنّه ضاق عليهم( وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.

عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم. فأيقنوا( وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ

٢٤٧

إِلَّا إِلَيْهِ ) فأدركتهم رحمة الله مرّة أخرى ، وسهلت ويسرت عليهم أمر التوبة الحقيقية ، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

بحوث

وهنا بحوث نلفت النظر إليها :

1 ـ المراد من توبة الله على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قرأنا في الآية الأولى أن الله سبحانه قد تاب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار ، وقبل توبتهم. ولا شك أنّ النّبي معصوم من الذنوب ، ولم يرتكب معصية ليتوب فيقبل الله توبته ، وإن كان بعض مفسّري العامّة قد اعتبروا التعبير في هذه الآية دليلا على صدور السهو والمعصية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحداث تبوك.

إلّا أنّ التدقيق في نفس هذه الآية وسائر آيات القرآن سيرشدنا إلى عدم صحة هذا التّفسير ، لأن :

أوّلا : إن معنى توبة الله سبحانه رجوعه بالرحمة والرعاية على عباده ، ولا يوجد في هذا المعنى أثر للزلل أو المعصية ، كما قال في سورة النساء بعد ذكر قسم من الأحكام:( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) . ففي هذه الآية والتي قبلها لم يرد حديث عن الزلل والمعصية ، بل الكلام ـ عن تبيين الأحكام والإرشاد إلى سنن الماضين القيمة المفيدة ، وهذا بنفسه يوضح أن التوبة هنا بمعنى شمول رحمة الله سبحانه لعباده.

ثانيا : لقد ورد في كتب اللغة أن أحد معاني التوبة هو ما ذكرناه ، ففي كتاب (القاموس) المعروف ورد في أن هذا هو أحد معاني التوبة ما لفظة : رجع عليه بفضله

٢٤٨

وقبوله :

ثالثا : إنّ الآية تحصر الانحراف عن طريق الحق والتخلف عنه بجماعة من المؤمنين ، مع أنّها تصرح بأنّ الرحمة الإلهية تعم الجميع ، وهو بنفسه يبيّن أنّ توبة الله هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد ، بل هي الرحمة الإلهية الخاصّة التي أدركت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل المؤمنين بدون استثناء في اللحظات الحساسة ، وثبّتت أقدامهم في أمر الجهاد.

2 ـ غزوة تبوك وساعة العسرة

«السّاعة» من الناحية اللغوية بمعنى مقطع زمني ، سواء كان قصيرا أم طويلا ، ولا يقال للزمن الطويل جدا : ساعة. «والعسرة» بمعنى المشقة والصعوبة.

إن تاريخ الإسلام يبيّن أنّ المسلمين لم يعانوا مثل ما عانوه في غزوة تبوك من الضغوط والمشقة ، لأنّ المسير إلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ القحط قد أثّر في الناس وأنهك قواهم.

وكذلك فإنّ الفصل كان فصل اقتطاف الثمار ، ولا بدّ من جمع ما على الأشجار والنخيل لتأمين قوت سنتهم.

وإذا تجاوزنا جميع ذلك ، فإنّ المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جدا.

والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كانت يومها من أقوى الامبراطوريات العالمية.

إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إلى الحد الذي قد يضطر أحيانا عشرة أشخاص إلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة ، وبعض المشاة لم يكونوا يمتلكون حتى النعل ، وكانوا مضطرين إلى العبور على رمال الصحراء الحارقة بأقدام عارية

أمّا من ناحية الطعام والشراب ، فإنّهم كانوا يعانون من قلّة المواد الغذائية.

٢٤٩

بحيث أنّ عدّة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحيانا ، فيمص كل منهم التمرة ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إلى النواة وكان عدّة أفراد يشتركون في جرعة ماء!!

لكن ، ورغم كل هذه الأوضاع ، فإنّ المسلمين كانوا يتمتعون بمعنويات عالية وراسخة، وبالرغم من كل المشكلات ، فإنّهم توجهوا برفقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو العدو ، وبهذه الاستقامة والرجولة فإنّهم سجلوا للمسلمين. وفي كل العصور والقرون ، درسا كبيرا خالدا في ذاكرة الزمن درسا كافيا لكل الأجيال ، وطريقا للانتصار على أكبر الأعداء وأخطرهم وأكثرهم عدّة ولا شك أنّ بين المسلمين من كان يمتلك معنويات أضعف ، وهم الذين دارت في رؤوسهم فكرة الرجوع والذين عبّر عنهم القرآن الكريم ب( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) لأنّ (يزيغ) مأخوذة من (زيغ) بمعنى الميل والانحراف عن الحق نحو الباطل.

لكن ، وكما رأينا ، فإنّ المعنويات العالية للأكثرية من المسلمين ، ولطف الله سبحانه بهم ، هو الذي صرف هؤلاء عن هذه الفكرة ، ليلتحقوا بجماعة المجاهدين في طريق الحق.

3 ـ ما هو معنى( خُلِّفُوا ) ؟

لقد عبرت الآيات عن هؤلاء الثلاثة المقصرين المهملين ب (خلّفوا) بمعنى الذين تركهم الجيش وراء ظهره ، وذلك لأن المسلمين عند ما كانوا يصادفون من يتخاذل ويكسل عن الجهاد ، فإنّهم لا يعبؤون به ، بل يتركونه وراء ظهورهم ويتوجهون إلى جبهات الجهاد.

أو لأنّ هؤلاء عند ما حضروا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعتذروا ويطلبوا الصفح عن ذنبهم لم يقبل عذرهم ، وأخّر قبول توبتهم.

٢٥٠

4 ـ درس كبير دائمي

من المسائل المهمّة التي تستفاد من هذه الآيات ، مسألة مجازاة المجرمين والفاسدين عن طريق الحصار الاجتماعي وقطع الروابط والعلاقات ، فنحن نرى أن قطع الروابط هذا قد وضع هؤلاء الثلاثة في شدة كانت أصعب عليهم من كل السجون بحيث ضاقت عليهم الدنيا تحت وطأت الحصار الاجتماعي وقطعوا الأمل من كل شيء.

إنّ هذا الأسلوب قد أثر في المجتمع الإسلامي آنذاك تأثيرا قويا جدّا ، بحيث قلّ بعد هذه الحادثة من يجرءوا أن يرتكبوا مثل هذه المعاصي.

إنّ هذا النوع من العقاب لا يحتاج إلى متاعب وميزانية السجون ، وليس فيه خاصية تربية الكسالى والأشرار كما هو حال السجون ، إلّا أنّ أثره أكبر وأشدّ من تأثير أي سجن ، فهو نوع من الإضراب والجهاد السلبي للمجتمع مقابل الأفراد الفاسدين ، فإنّ المسلمين إذا أقدموا على مثل هذه المجابهة في مقابل المتخلفين عن أداء الواجبات الاجتماعية الحساسة ، فإنّ النصر سيكون حليفهم قطعا ، وسيكون بامكانهم تطهير مجتمعهم بكل سهولة.

أمّا روح المجاملة والمساومة والاستسلام التي سرت اليوم ـ مع الأسف ـ في كثير من المجتمعات الإسلامية كمرض عضال ، فإنّها لا تمنع ولا تقف أمام أمثال هؤلاء المتخلفين ، بل وتشجعهم على أعمالهم القبيحة.

5 ـ غزوة تبوك ونتائجها

منطقة «تبوك» هي أبعد نقطة وصل إليها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزواته ، وهذه الكلمة في الأصل اسم قلعة محكمة وعالية كانت في الشريط الحدودي بين الحجاز والشام ، ولذلك سمّيت تلك المنطقة بأرض تبوك.

إنّ انتشار الإسلام السريع في جزيرة العرب كان سببا في أن يدوي صوت

٢٥١

الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونداؤه في جميع الدول المجاورة للجزيرة العربية ، ولم يكن أحد يعير للحجاز أهمية لغاية ذلك اليوم ، فلما بزغ فجر الإسلام ، وظهرت قوّة جيش النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وحّد الحجاز تحت راية واحدة ، خاف هؤلاء من عاقبة الأمر.

إنّ دولة الروم الشرقية المتاخمة للحجاز ، كانت تحتمل أن تكون من أوائل ضحايا تقدم الإسلام السريع ، لذلك فقد جهزت جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل ، وكان مجهزا بالأسلحة الكافية التي كانت تمتلكها قوّة عظمى كإمبراطورية الروم ، واستقر الجيش في حدود الحجاز ، فوصل الخبر إلى مسامع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق المسافرين ، فأراد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلقن الروم وباقي جيرانه درسا يكون لهم عبرة.

فلم يتأخر عن إصدار أمره بالتهيؤ والاستعداد للجهاد ، وبعث الرسل الى المناطق الأخرى يبلّغون المسلمين بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يمض زمن حتى اجتمع لديه ثلاثون ألفا لقتال الروميين ، وكان من بينهم عشرة آلاف راكب وعشرون ألف راجل.

كان الهواء شديد الحّر ، وقد فرغت المخازن من المواد الغذائية ، والمحصولات الزراعية لتلك السنة لم تحصد وتجمع بعد ، فكانت الحركة في مثل هذه الأوضاع بالنسبة للمسلمين صعبة جدّا ، إلّا أنّ أمر الله ورسوله يقضي بالمسير في ظل أصعب الظروف وطي الصحاري الواسعة والمليئة بالمخاطر بين المدينة وتبوك.

إنّ هذا الجيش نتيجة للمشاكل الكثيرة التي واجهها من الناحية الاقتصادية ، والمسير الطويل ، والرياح السموم المحرقة ، وعواصف الرمال الكاسحة ، وعدم امتلاك الوسائل الكافية للنقل ، قد عرف ب (جيش العسرة) ، ولكنّه تحمل جميع هذه المشاكل ، ووصل إلى أرض تبوك في غرة شعبان من السنة التاسعة للهجرة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خلف علياعليه‌السلام مكانه ، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يشارك فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إن قيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقامة عليعليه‌السلام مكانه كان عملا ضروريا وفي محله ، فإنّه

٢٥٢

كان من المحتمل جدا أن يستفيد المتخلفون من المشركين أو المنافقين ـ الذي امتنعوا بحجج مختلفة عن الاشتراك في الجهاد ـ من غيبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطويلة ، ويجمعوا أفرادهم ويحملوا على المدينة ويقتلوا النساء والأطفال ويهدموا المدينة ، إلّا أنّ وجود عليعليه‌السلام كان سدّا منيعا في وجه مؤامراتهم وخططهم.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما وصل إلى تبوك لم ير أثرا لجيوش الروم ، وربّما كان ذلك لأنّهم سمعوا بخبر توجه هذا الجيش الإسلامي العظيم ، وقد سمعوا من قبل بشجاعة واستبسال المسلمين العجيبة ، وما أبدوه من بلاء حسن في الحروب ، فرأوا أنّ الأصلح سحب قواتهم إلى داخل بلادهم ، وليبيّنوا أنّ خبر تجمع جيش الروم على الحدود ، ونيّته بالقيام بهجوم على المدينة ، شائعة لا أساس لها ، لأنّهم خافوا من التورط بمثل هذه الحرب الطاحنة دون مبررات منطقية ، فخافوا من ذلك.

إلّا أنّ حضور جنود الإسلام إلى ساحة تبوك بهذه السرعة قد أعطى لأعدائه عدة دروس :

أولا : إنّ هذا الموضوع أثبت أنّ المعنويات العالية والروح الجهادية لجنود الإسلام ، كانت قوية إلى الدرجة التي لا يخافون معها من الاشتباك مع أقوى جيش في ذلك الزمان.

ثانيا : إنّ الكثير من القبائل وأمراء أطراف تبوك أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمضوا عهودا بعدم التعرض للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحاربته ، وبذلك فقد اطمأن المسلمون من هذه الناحية ، وأمنوا خطرهم.

ثالثا : إنّ إشعاع الإسلام وأمواجه قد نفذت إلى داخل حدود إمبراطورية الروم ، ودوّى صدى الإسلام في كل الأرجاء باعتباره أهم حوادث ذلك اليوم ، وهذا قد هيأ الأرضية الجيدة لتوجه الروميين نحو الإسلام والإيمان به.

رابعا : إنّ المسلمين بقطعهم هذا الطريق ، وتحملهم لهذه الصعاب ، قد عبّدوا

٢٥٣

الطريق لفتح الشام في المستقبل ، وقد اتضح للجميع بأن هذا الطريق سيقطع في النهاية.

وهكذا ، فإنّ هذه المعطيات الكبيرة تستحق كل هذه المشاق والتعبئة والزحف.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبي على عادته ـ قد استشار جيشه في الاستمرار في التقدم أو الرجوع ، وكان رأي الأكثر بأنّ الرجوع هو الأفضل والأنسب لروح التعليمات الإسلامية ، خاصّة وأن جيوش المسلمين كانت قد تعبت نتيجة المعاناة الكبيرة في الطريق ، وضعفت مقاومتهم الجسمية ، فأقر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الرأي ورد جيوش المسلمين إلى المدينة.

* * *

٢٥٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) )

التّفسير

كونوا مع الصّادقين :

في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله ، وأظهروا عمليا تكذيبهم للإيمان بالله واليوم الآخر ، ورأينا كيف أنّ المسلمين قد أرجعوهم إلى حظيرة الإيمان بمقاطعتهم ، ونبّهوههم على خطئهم.

أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء ، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه.

في البداية تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت :( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .

وقد احتمل المفسّرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين ، ومن هم؟إلّا أنّنا إذا أردنا اختصار الطريق ، يجب أن نرجع إلى القرآن الكريم نفسه الذي فسّر معنى الصادقين في آيات متعددة.

٢٥٥

فنقرأ في سورة البقرة ، الآية (177) :( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .

فنحن نرى في هذه الآية أنّها بعد نهي المسلمين عن البحث والمناقشة حول مسألة تغيير القبلة ، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح والبر بأنّه الإيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء ، ثمّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين والمحرومين ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والاستقامة والصمود أمام المشاكل حين الجهاد ، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول : إنّ الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون وهم المتقون.

وعلى هذا ، فإنّ الصادق هو الذي يؤمن بكل المقدسات ، ثمّ يعمل بموجبها في جميع النواحي ، وفي الآية (15) من سورة الحجرات نقرا :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فإنّ هذه الآية أيضا تعرّف الصدق بأنّه مجموع الإيمان والعمل الذي لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة.

ونقرا في الآية (8) من سورة الحشر :( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فهذه الآية عرّفت الصادقين بأنّهم المؤمنون المحرومون الذين استقاموا وثبتوا رغم كل المشاكل ، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى رضى الله ونصرة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة ، وهي أنّ الصادقين هم الذين

٢٥٦

يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات ، بل يثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.

ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات ، فقد يكون البعض في قمتها ، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين ، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.

هل المراد من الصّادقين هم المعصومون فقط؟

بالرغم من أنّ مفهوم الصادقين ـ كما ذكرنا سابقا ـ مفهوم واسع ، إلّا أنّ المستفاد من الرّوايات الكثيرة أنّ المراد من هذا المفهوم هنا هم المعصومون فقط.

يروي سليم بن قيس الهلالي : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان له يوما كلام مع جمع من المسلمين ، ومن جملة ما قال : «فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) . فقال سلمان : يا رسول الله أعامّة هي أم خاصّة؟ قال: أمّا المأمورون فالعامّة من المؤمنين أمروا بذلك ، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة»؟ قالوا : اللهم نعم(1) .

ويروي نافع عن عبد الله بن عمر : إنّ الله سبحانه أمر أوّلا المسلمين أن يخافوا الله ثمّ قال :( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) يعني مع محمّد وأهل بيته(2) .

وبالرغم من أنّ بعض مفسّري أهل السنة ـ كصاحب المنار ـ قد نقلوا ذيل الرّواية أعلاه هكذا : مع محمّد وأصحابه ، ولكن مع ملاحظة أن مفهوم الآية عام وشامل لكل زمان ، وصحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا في زمن خاص ، تبيّن لنا أنّ العبارة التي وردت في كتب الشيعة عن عبد الله بن عمر هي الأصح.

ونقل صاحب تفسير البرهان نظير هذا المضمون عن طرق العامّة ، وقال : إنّ

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 170.

(2) المصدر السّابق.

٢٥٧

موفق بن أحمد بإسناده عن ابن عباس ، يروي في ذيل هذه الآية : هو علي بن أبي طالب. ثمّ يقول : أورد ذلك أيضا عبد الرزاق في كتاب رموز الكنوز(1) .

أمّا المطلب الأهم ، فهو أنّ الآية تأمر أوّلا بالتقوى ، ثمّ بالكون مع الصادقين ، فلو أنّ مفهوم الصادقين في الآية عامّا وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين المستقيمين ، لكان اللازم أن يقال : وكونوا من الصادقين ، لا مع الصادقين. (فتأمل جيدا).

إنّ هذه بذاتها قرينة واضحة على أنّ (الصّادقين) في الآية هم فئة خاصّة.

ومن جهة أخرى ، فليس المراد من الكون معهم أن يكون الإنسان مجالسا ومعاشرا لهم، بل المراد قطعا هو اتباعهم والسير في خطاهم.

إذا كان الشخص غير معصوم هل يمكن صدور أمر بدون قيد أو شرط باتباعه والسير في ركابه؟ أليس هذا بنفسه دليلا على أن هذه الفئة والمجموعة هم المعصومون؟

وعلى هذا ، فإنّ ما استفدناه من الرّوايات يمكن استفادته من الآية إذا دققنا النظر فيها.

إن الملفت للنظر هنا ، أنّ المفسّر المعروف الفخر الرازي ، المعروف بتعصبه وتشكيكه، قد قبل هذه الحقيقة ـ وإن كان أغلب مفسّري السنة سكتوا عنها عند مرورهم بهذه الآية ـ ويقول : إنّ الله قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ، وعلى هذا فإنّ الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الاقتداء بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظلّه وعصمته ، وسيكون هذا الأمر في كل زمان ، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّه يضيف بعد ذلك : إنّنا نقبل أنّ مفهوم الآية هو هذا ، ويجب أن يوجد معصوم في كل وقت ، إلّا أنّنا نرى أن هذا المعصوم هو جميع الأمّة ، لا أنّه فرد

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 170.

٢٥٨

واحد! وبتعبير آخر : إنّ هذه الآية دليل على حجية إجماع المؤمنين ، وعدم خطأ مجموع الأمّة(1) .

وبهذا الترتيب ، فإنّ الرازي قد طوى نصف الطريق جيدا ، إلّا أنّه زاغ في النصف الثّاني ، ولو أنّه التفت إلى النكتة التي وردت في متن الآية لأكمل النصف الثّاني أيضا بسلامة ، وهي أنّه لو كان المقصود من الصادقين مجموع الأمّة ، فإنّ الأتباع سيكونون جزء من ذلك المجموع وهو في الواقع اتباع الجزء للقدوة والإمام ، وسيعني ذلك اتحاد التابع والمتبوع، في حين نرى أنّ ظاهر الآية هو أن القدوة غير المقتدي ، والتابعين غير المتبوعين ، بل يفترقون عنهم. (دققوا ذلك).

ونتيجة ذلك : إنّ هذه الآية من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل عصر وزمان.

ويبقى سؤال أخير ، وهو أنّ الصادقين جمع ، وهل يجب على هذا الأساس أن يكون في كل زمان معصومون متعددون؟

والجواب على هذا السؤال واضح أيضا ، وهو أنّ الخطاب ليس مختصا بأهل زمن وعصر معين ، بل إنّ الآية تخاطب كل العصور والقرون ، ومن البديهي أن المخاطبين على مر العصور لا بد وأن سيكونوا مع جمع من الصادقين. وبتعبير آخر ، فإنّه لما كان في كل زمان معصوم ، فإنّنا إذا أخذنا كل القرون والعصور بنظر الإعتبار ، فإنّ الكلام سيكون عن جمع المعصومين لا عن شخص واحد.

والشاهد الناطق على هذا الموضوع هو أنّه لا يوجد في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد تجب طاعته غير شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الوقت نفسه فإنّ من المسلّم أنّ الآية تشمل المؤمنين في زمانه ، وعلى هذا الأساس سنفهم أن الجمع الوارد في الآية لا يراد منه الجمع في زمان واحد، بل هو في مجموعة الأزمنة.

* * *

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 16 ، ص 220 ـ 221.

٢٥٩

الآيتان

( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) )

التّفسير

معاناة المجاهدين لا تبقى بدون ثواب :

كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في غزوة تبوك ، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي.

فالآية الأولى تقول :( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) لأنّه قائد الأمّة ، ورسول الله ، ورمز

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

لعلي أقف على معرفة داره من غير أن أسأل أحداً. قال: فجعلت الدراهم في كاغدة وجعلتها في كمي، وركبت فكان الحمار يخرق الشوارع والأسواق يمر حيث يشاء، إلى أن صرت إلى باب دار، فوقف الحمار، فجهدت أن يزول فلم يزل، فقلت للغلام: سل لمن هذه الدار؟ فقيل: هذه دار ابن الرضا (ع) فقلت: الله أكبر، دلالة والله مقنعة!

قال: فإذا خادمٌ أسودُ قد خرج فقال: أنت يوسف بن يعقوب؟قلت: نعم. قال: إنزل فنزلت، فأقعدني في الدهليز ودخل، فقلت في نفسي: وهذه دلالةٌ أخرى! من أين يعرف هذا الخادم إسمي وليس في هذا البلد أحدٌ يعرفني ولادخلته قط!

قال: فخرج الخادم وقال: المائة دينار التي في كمك في الكاغذ هاتها. فناولته إياها وقلت: هذه ثالثة، ثم رجع إليَّ وقال: أدخل، فدخلت إليه وهو في مجلسه وحده، فقال: يا يوسف أما بَانَ لك؟ فقلت: يا مولاي، قد بان من البراهين ما فيه كفاية لمن اكتفى. فقال: هيهات هيهات، أما إنك لا تسلم، ولكن سيسلم ولدك فلان وهو من شيعتنا. يا يوسف، إن أقواماً يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالك. كذبوا والله، إنها لتنفع أمثالك، إمض فيما وافيت فإنك سترى ما تحب!

قال: فمضيت إلى باب المتوكل، فنِلت كلما أردت، وانصرفت.

قال هبة الله: فلقيت ابنه بعد هذا وهومسلم حسن التشيع، فأخبرني أن أباه مات على النصرانية، وأنه أسلم بعد موت والده وكان يقول: أنا بشارة مولاي (ع) ».

٤٠١

ملاحظات

١. هذا المسيحي من الموصل من كفرتوثا، وهي قرب رأس عين على الحدود العراقية السورية. وكان شخصية لأن المتوكل طلب حضوره للتحقق من قضية أو لتكليفه بأمر مهم. وكان يعرف إمامة أهل البيت وخصائص الإمام (ع) وينذر له، ويعتقد أنه بنذره يؤمِّن نفسه من خطر المتوكل. وهذا من مؤشرات انتشار التشيع في بقاع العالم الإسلامي، وقد ورد أن أحد العمال الشيعة هناك دعا شخصاً الى التشيع، وأرسله ليرى الإمام الهادي (ع) فرآه واستبصر.

٢. لاحظ أن المتوكل كان منع الإمام الهادي (ع) من الركوب، أي الخروج من سامراء والمشاركة في مناسباتها الإجتماعية، فهويخاف أن « يفتن » به الناس!

٣. يظهر أن يعقوب بن يوسف كان يخاف من المتوكل إن هو أسلم وأعلن تشيعه. ومع ذلك بشره الإمام (ع) بأن إيمانه به نوع من الولاية وأنه ينفعه: إنها لتنفع أمثالك. ثم بشره بأنه يرزق ولداً يكون مؤمناً، فكان كما أخبر (ع).

وفي الحديث دليل على أن ولاية أهل البيت (ع) قد توجد بدرجة ما في غير المسلم وأنها تنفعهم في الآخرة.

١٠. طبيب نصراني يسلم على يد الإمام (ع):

قال الطبري الشيعي في دلائل الإمامة / ٤١٩: « وحدثني أبوعبد الله القمي، قال: حدثني ابن عياش، قال: حدثني أبوالحسين محمد بن إسماعيل بن أحمد الفهقلي

٤٠٢

الكاتب بسر من رأى سنة ثمان وثلاثين وثلاث مائة، قال: حدثني أبي قال: كنت بسر من رأى أسير في درب الحصاء فرأيت يزداد النصراني تلميذ بختيشوع وهومنصرف من دار موسى بن بغا، فسايرني وأفضى بنا الحديث إلى أن قال لي: أترى هذا الجدار، تدري من صاحبه؟ قلت: ومن صاحبه؟ قال: هذا الفتى العلوي الحجازي، يعني علي بن محمد بن الرضا (ع) وكنا نسير في فناء داره، قلت ليزداد: نعم، فما شأنه؟ قال: إن كان مخلوق يعلم الغيب فهو!

قلت: وكيف ذلك؟ قال: أخبرك عنه بأعجوبة لن تسمع بمثلها أبداً، ولا غيرك من الناس، ولكن لي الله عليك كفيلٌ وراعٍ أنك لا تحدث به عني أحداً، فإني رجل طبيب ولي معيشة أرعاها عند هذا السلطان، وبلغني أن الخليفة استقدمه من الحجاز فَرَقاً منه، لئلا ينصرف إليه وجوه الناس، فيخرج هذا الأمر عنهم، يعني بني العباس.

قلت: لك علي ذلك، فحدثني به وليس عليك بأس، إنما أنت رجل نصراني، لا يتهمك أحد فيما تحدث به عن هؤلاء القوم، وقد ضمنت لك الكتمان.

قال: نعم، أعلمك أني لقيته منذ أيام وهوعلى فرس أدهم، وعليه ثياب سود، وعمامة سوداء، وهوأسود اللون، فلما بصرت به وقفت إعظاماً له، لا وحق المسيح ما خرجت من فمي إلى أحد من الناس وقلت في نفسي: ثياب سودٌ، ودابةٌ سوداء ورجلٌ أسود « كان (ع) شديد السمرة » سواد في سواد في سواد! فلما بلغ إلي وأحدَّ النظر قال: قلبك أسود مما ترى عيناك من سواد في سواد في سواد! قال

٤٠٣

أبي (رحمه الله): قلت له: أجل فلا تحدث به أحداً، فما صنعتَ وما قلت له؟ قال: سقط في يدي فلم أجد جواباً. قلت له: أفما ابيض قلبك لما شاهدت؟

قال: الله أعلم. قال أبي: فلما اعتل يزداد بعث إليَّ فحضرت عنده فقال: إن قلبي قد ابيض بعد سواده، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن علي بن محمد حجة الله على خلقه وناموسه الأعظم، ثم مات في مرضه ذلك، وحضرت الصلاة عليه (رحمه الله) ».

١١. عزم المتوكل على قتل علي بن جعفر:

روى الكشي « ١ / ٦٠٧ »: « عن علي بن جعفر قال: عُرض أمري على المتوكل، فأقبل على عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال له: لا تُتعبن نفسك بعرض قصة هذا وأشباهه، فإن عمه أخبرني أنه رافضي، وأنه وكيل علي بن محمد! وحلف أن لا يخرج من الحبس إلا بعد موته! فكتبت إلى مولانا: أن نفسي قد ضاقت، وأني أخاف الزيغ! فكتب إلي: أما إذا بلغ الأمر منك ما أرى فسأقصد الله فيك! فما عادت الجمعة حتى أخرجت من السجن.

وفي رواية ثانية: كان عليّ بن جعفر وكيلاً لأبي الحسن (ع) فسعيَ به إلى المتوكل فحبسه فطال حبسه، واحتال من قبل عبيد الله بن خاقان بمال ضمنه عنه ثلاثة آلاف دينار، وكلمه عبيد الله فعرض جامعهُ على المتوكل فقال: يا عبيد الله لوشككت فيك لقلت إنك رافضي، هذا وكيل فلان وأنا على قتله.

٤٠٤

قال: فتأدّى الخبر إلى علي بن جعفر، فكتب إلى أبي الحسن (ع): يا سيدي اللهَ اللهَ فيَّ فقد والله خفتُ أن أرتاب، فوقَّع (ع) في رقعته: أما إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك. وكان هذا في ليلة الجمعة، فأصبح المتوكل محموماً فازدادت علته حتى صُرخ عليه يوم الإثنين، فأمر بتخلية كل محبوس عُرض عليه إسمه حتى ذكر هوعلي بن جعفر فقال لعبيد الله: لِمَ لم تعرض عليَّ أمره؟فقال: لا أعود إلى ذكره أبداً. قال: خل سبيله الساعة، وسله أن يجعلني في حل، فخلى سبيله وصار إلى مكة بأمر أبي الحسن (ع) فجاور بها، وبرأ المتوكل من علته ».

١٢. قصة زينب الكذابة:

روى في الخرائج « ١ / ٤٠٤ » عن أبي هاشم الجعفري قال: « ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدعي أنها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (ص)! فقال لها المتوكل: أنت امرأة شابة، وقد مضى من وقت وفاة رسول الله (ص) ما مضى من السنين. فقالت: إن رسول الله (ص) مسح على رأسي وسأل الله أن يرد علي شبابي في كل أربعين سنة، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية، فلحقتني الحاجة فصرت إليهم.

فدعا المتوكل كل مشايخ آل أبي طالب، وولد العباس وقريش فعرفهم حالها. فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا، فقال لها: ما تقولين في هذه الرواية؟ فقالت: كذب وزور، فإن أمري كان مستوراً عن الناس، فلم يعرف لي حياة ولا موت. فقال لهم المتوكل: هل عندكم حجة على هذه المرأة غير هذه الرواية؟ قالوا: لا. قال: أنا برئ من العباس إن لا أنزلها عما ادعت إلا بحجة تلزمها. قالوا: فأحضر ابن الرضا فلعل عنده شيئاً من الحجة غير ما عندنا.

٤٠٥

فبعث إليه فحضر فأخبره خبر المرأة فقال: كذبت فإن زينب توفيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا. قال: فإن هؤلاء قد رووا مثل هذه الرواية وقد حلفت أن لا أنزلها عما ادعت إلا بحجة تلزمها. قال: ولا عليك فهاهنا حجة تلزمها وتلزم غيرها. قال: وما هي؟ قال: لحوم ولد فاطمة (ع) محرمة على السباع، فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرها.

فقال لها: ما تقولين؟ قالت: إنه يريد قتلي. قال: فهاهنا جماعة من ولد الحسن والحسين فأنزل من شئت منهم.

قال: فوالله لقد تغيرت وجوه الجميع! فقال بعض المتعصبين: هويحيل على غيره لم لا يكون هو؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع. فقال: يا أبا الحسن لم لا يكون أنت ذلك؟ قال: ذاك إليك.

قال: فافعل، قال: أفعل إن شاء الله. فأتى بسلم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد. فنزل أبوالحسن (ع) إليها، فلما دخل وجلس صارت إليه، ورمت بأنفسها بين يديه، ومدت بأيديها، ووضعت رؤوسها بين يديه!

فجعل يمسح على رأس كل واحد منها بيده، ثم يشير له بيده إلى الإعتزال فيعتزل ناحية، حتى اعتزلت كلها وقامت بإزائه.

فقال له الوزير: ما كان هذا صواباً، فبادر بإخراجه من هناك قبل أن ينتشر ـ خبره. فقال له: أبا الحسن ما أردنا بك سوءً، وإنما أردنا أن نكون على يقين مما قلت، فأحب أن تصعد. فقام وصار إلى السلم وهي حوله تتمسح بثيابه، فلما وضع رجله على أول درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع. فرجعت وصعد فقال: كل من زعم أنه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس.

٤٠٦

فقال لها المتوكل: إنزلي. قالت: اللهَ الله ادعيتُ الباطل، وأنا بنت فلان، حملني الضر ـ على ما قلت! فقال المتوكل: ألقوها إلى السباع، فبعثت والدته واستوهبتها منه، وأحسنت إليها ».

١٣. بستان الآس:

كان المتوكل يسمي ابنه المنتصر الرافضي لأنه يتشيع ويسخر منه! قال المنتصر: « زرع والدي الآس في بستان وأكثر منه، فلما استوى الآس كُلُّهُ وحَسُن، أمَرَ الفرَّاشين أن يفرشوا له على دكان في وسط البستان، وأنا قائم على رأسه، فرفع رأسه إليَّ وقال: يا رافضي سل ربك الأسود عن هذا الأصل الأصفر ماله من بين ما بقي من هذا البستان قد اصفرَّ، فإنك تزعم أنه يعلم الغيب! فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ليس يعلم الغيب، فأصبحت إلى أبي الحسن من الغد وأخبرته بالأمر فقال: يا بني، إمض أنت واحفر الأصل الأصفر، فإن تحته جمجمة نخرة، واصفراره لبخارها ونتنها! قال ففعلت ذلك فوجدته كما قال، ثم قال لي: يا بني لاتخبرن أحداً بهذا الأمر إلا لمن يحدثك بمثله ». « الثاقب في المناقب / ٥٣٨ ».

فقد وصفه المتوكل بالرافضي، واتهمه بأنه يعبد إمامه (ع) ووصف سمرة الإمام (ع) بالسواد سخريةً منه. أما الجمجمة فقد تكون لأحد ندمائه الذين قتلهم!

١٤. معرفة الإمام (ع) باللغات:

« عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت بالمدينة حين مرَّ بنا بَغَا أيام الواثق، في طلب الأعراب، فقال أبوالحسن: أخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي،

٤٠٧

فخرجنا فوقفنا، فمرت بنا تعبئته فمر بنا تركي، فكلمه أبوالحسن (ع) بالتركي فنزل عن فرسه فقبل حافر فرس الإمام (ع)! فَحَلَّفْتُ التركي فقلت له: ما قال لك الرجل؟ قال: هذا نبي؟! قلت: ليس هو بنبي. قال: دعاني باسم سميت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد إلى الساعة ». « الثاقب في المناقب لابن حمزة / ٥٣٩ ».

« عن علي بن مهزيار قال: أرسلت إلى أبي الحسن الثالث (ع) غلامي وكان صقلابياً فرجع الغلام إلي متعجباً، فقلت له: ما لك يا بني؟ قال: وكيف لا أتعجب! ما زال يكلمني بالصقلابية كأنه واحد منا »! « الإختصاص للمفيد / ٢٨٩ ».

١٥. لسنا في خان الصعاليك:

« عن صالح بن سعيد، قال: دخلت على أبي الحسن (ع) فقلت: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك، فقال: هاهنا أنت يا ابن سعيد، ثم أومأ بيده فقال: أنظر، فنظرت، فإذا بروضات آنفات، وروضات ناظرات، فيهن خيرات عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، وأطيار وظباء، وأنهار تفور، فحار بصري وحسرت عيني، فقال: حيث كنا فهذا لنا عتيد، ولسنا في خان الصعاليك ».

١٦. برذون أبي هاشم الجعفري:

« عن أبي الهيثم عبد الله بن عبد الرحمن الصالحي، قال: إن أبا هاشم الجعفري شكا إلى مولانا أبي الحسن (ع) ما يلقى من الشوق إليه إذا انحدر من عندنا إلى بغداد، فقال له: ادع الله تعالى يا سيدي، فإني لا أستطيع ركوب الماء خوف الإصعاد والإبطاء عنك،

٤٠٨

فسرت إليك على الظهر ومالي مركوب سوى برذوني هذا على ضعفه، فادع الله تعالى أن يقويني على زيارتك على وجه الأرض، فقال: قواك الله يا أبا هاشم وقوى برذونك. قال: فكان أبوهاشم يصلي الفجر ببغداد ويسير على البرذون، فيدرك الزوال من يومه ذلك في عسكر سر من رأى، ويعود من يومه إلى بغداد إذا سار على ذلك البرذون، وكان هذا من أعجب الدلائل التي شوهدت ».

أقول: المسافة بين بغدا وسامرء نحو مئة كيلو متر، ومعناه أن بغل أبي هاشم كان يقطعها في أربع ساعات أو خمس، وأن الله تعالى استجاب دعاء الإمام (ع) بتقوية البغل، أو طيِّ الأرض إذا ركبه أبو هاشم. فكان يتحرك من بغداد صباحاً ويزور الإمام (ع) ويبقى الى العصر، ويعود الى بغداد في نفس اليوم.

١٧. المتوكل يستعين بمشعوذ:

« عن زرافة حاجب المتوكل، قال: وقع رجل مشعبذ من ناحية الهند إلى المتوكل يلعب لعب الحقة ولم ير مثله، وكان المتوكل لعاباً، فأراد أن يُخجل علي بن محمد الرضا (ع)، فقال لذلك الرجل: إن أخجلته أعطيتك ألف دينار.

قال: تقدم بأن يخبز رقاقاً خفافاً واجعلها على المائدة وأقعدني إلى جنبه، فقعدوا وأحضر علي بن محمد (ع) للطعام، وجعل له مسورة عن يساره، وكان عليها صورة أسد، وجلس اللاعب إلى جنب المسورة، فمد علي بن محمد (ع) يده إلى رقاقة فطيرها ذلك الرجل في الهواء ومد يده إلى أخرى، فطيرها ذلك الرجل، ومد يده إلى أخرى فطيرها فتضاحك الجميع، فضرب علي بن محمد (ع) يده المباركة الشريفة على تلك الصورة التي في المسورة وقال: خذيه. فابتلعت الرجل

٤٠٩

وعادت كما كانت إلى المسورة. فتحير الجميع ونهض أبوالحسن علي بن محمد، فقال له المتوكل: سألتك إلا جلست ورددته. فقال: والله لا تراه بعدها، أتسلط أعداء الله على أولياء الله! وخرج من عنده، فلم يُرَ الرجل بعد ذلك ». « الثاقب ٤٩٩ ».

وفي رواية أنه قال للمتوكل: « إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم، فإن هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل »!

ويظهر أن هذا النوع من الشعبذة كان معروفاً في الهند والعراق مما ورثه البابليون عن هاروت وماروت، فقد استعمله المنصور مع الصادق (ع) والرشيد مع الكاظم (ع). راجع: الإمام الكاظم سيد بغداد / ٢١٢.

١٨. وعُلِّمْنَا منطقَ الطير:

في الخرائج « ١ / ٤٠٤ »: « قال أبوهاشم الجعفري: إنه كان للمتوكل مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه، قد جعل فيها الطيور التي تصوت، فإذا كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس فلا يَسمع ما يقال له، ولا يُسمع ما يقول من اختلاف أصوات تلك الطيور، فإذا وافاه علي بن محمد بن الرضا (ع) سكتت الطيور فلا يُسمع منها صوتٌ واحد إلى أن يخرج من عنده، فإذا خرج من باب المجلس عادت الطيور في أصواتها.

قال: وكان عنده عدة من القوابج في الحيطان، وكان يجلس في مجلس له عالٍ ويرسل تلك القوابج تقتتل وهوينظر إليها ويضحك منها، فإذا وافى علي بن محمد (ع) إليه في ذلك المجلس، لصقت تلك القوابج بالحيطان، فلا تتحرك من مواضعها حتى ينصرف، فإذا انصرف عادت في القتال ».

٤١٠

١٩ . إخباره (ع) بأجله:

في الهداية الكبرى / ٣٤٢: « عن أحمد بن داود القمي، ومحمد بن عبد الله الطلحي، قالا: حملنا ما جمعنا من خمس ونذور وبر من غير ورق وحلي وجوهر وثياب من بلاد قم وما يليها، وخرجنا نريد سيدنا أبا محمد الحسن (ع) فلما وصلنا إلى دسكرة الملك تلقانا رجلٌ راكبٌ على جمل، ونحن في قافلة عظيمة فقصد إلينا وقال: يا أحمد الطلحي معي رسالة إليكم، فقلنا من أين يرحمك الله، فقال: من سيدكم أبي محمد الحسن (ع) يقول لكم: أنا راحل إلى الله مولاي في هذه الليلة فأقيموا مكانكم حتى يأتيكم أمر ابني محمد، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وقرحت أجفاننا لذلك، ولم نظهره. وتركنا المسير.

واستأجرنا بدسكرة الملك منزلاً وأخذنا ما حملنا إليه، وأصبحنا والخبر شائع بالدسكرة بوفاة مولانا أبي محمد الحسن (ع)، فقلنا لا إله إلا الله ترى الرسول الذي أتانا بالرسالة أشاع الخبر في الناس، فلما تعالى النهار رأينا قوماً من الشيعة على أشد قلق لما نحن فيه، فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره، فلما جَن علينا الليل جلسنا بلا ضوء حزناً على سيدنا الحسن (ع)، نبكي ونشكي إلى فقده، فإذا نحن بيدٍ قد دخلت علينا من الباب فضاءت كما يضئ المصباح وهي تقول: يا أحمد هذا التوقيع إعمل به وبما فيه، فقمنا على أقدامنا وأخذنا التوقيع فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسن المسكين لله رب العالمين، إلى شيعته المساكين: أما بعد، فالحمد لله على ما نزل منه ونشكره إليكم جميل الصبر عليه،

٤١١

وهوحسبنا في أنفسنا وفيكم، ونعم الوكيل، ردوا ما معكم ليس هذا أوان وصوله إلينا، فإن هذا الطاغي قد دنت غشيته إلينا، ولوشئنا ما ضركم، وأمرنا يرد عليكم، ومعكم صرة فيها سبعة عشر ديناراً في خرقة حمراء، إلى أيوب بن سليمان، الآن فردوها فإنه حملها ممتحناً لنا بها بما فعله، وهوممن وقف عند جدي موسى بن جعفر (ع) فردوا صرته عليه، ولا تخبروه!

فرجعنا إلى قم، فأقمنا بها سبع ليال، ثم جاءنا أمر ابنه: قد بعثنا إليكم إبلاً غير إبلكم، إحملا ما قِبَلَكُما عليها واخليا لها السبيل، فإنها واصلةٌ إليَّ! وكانت الإبل بغير قائد ولا سائق، على وجه الأول منها بهذا الشرح، وهومثل الخط الذي بالتوقيع التي أوصلته إلى الدسكرة، فحملنا ما عندنا واستودعناه وأطلقناهم، فلما كان من قابل خرجنا نريده (ع) فلما وصلنا إلى سامرا دخلنا عليه فقال لنا: يا أحمد ومحمد، أدخلا من الباب الذي بجانب الدار، وانظرا ما حملتماه على الإبل، فلا تفقدا منه شيئاً. فدخلنا من الباب فإذا نحن بالمتاع كما وعيناه وشددناه لم يتغير، فحللناه كما أمرنا وعرضنا جمعه، فما فقدنا منه شيئاً، فوجدنا الصرة الحمراء والدنانير فيها بختمها، وكنا قد رددناها على أيوب، فقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلنا: إنها من سيدنا، فصاح بنا من مجلسه: فما لكما بدت لكما سؤاتكما! فسمعنا الصوت فأتينا إليه فقال: من أيوب، وقتَ وردت الصرة عليه فقبل الله إيمانه وقبل هديته، فحمدنا الله وشكرناه على ذلك، فكان هذا من دلائله (ع) ».

٤١٢

الفصل الخامس عشر:

شخصيات من تلاميذ الإمام الهادي (ع) وأصحابه

روى عن الإمام الهادي (ع) مئات الرواة

عَدَّ الشيخ الطوسي والبرقي قدس الله روحيهما، أسماء خمس مئة وستة عشر راوياً رووا عنه (ع). وعَدَّ السيد القزويني في موسوعة الإمام الهادي (ع) ثلاث مئة وسبعة وتسعين راوياً.

وترجم الباحث عبد الحسين الشبستري في كتابه: النور الهادي الى أصحاب الإمام الهادي (ع)، لمئة وثلاثة وتسعين من أصحابه (ع).

ويتسع المجال لأن نذكر نماذج من أصحابه وتلاميذه، صلوات الله عليه.

١. الصقر بن أبي دلف:

١. لما أحضرالمتوكل الإمام الهادي (ع) الى سامراء، خاطر الصقر بنفسه وذهب الى زيارته، وكان يعرف حاجب المتوكل فأدخله الى السجن، وزار الإمام (ع)، فرآهم حفروا له قبراً بجانبه! وأمره الإمام أن يودع ويذهب، لئلا يبطشوا به! وروى الصقرعدة أحاديث في تنزيه الله تعالى، منها أن الإمام الهادي (ع) قال له: « إنه ليس منا من زعم أن الله عز وجل جسم ونحن منه بَراءٌ في الدنيا والآخرة. يا ابن أبي دلف: إن الجسم محُدث والله محدثه ومجسمه ». « التوحيد للصدوق / ١٠٤ ».

٤١٣

٢. ذكرنا في فصل إحضار الإمام الى سامراء، أنه لا يبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف، الذي خرج على هارون الرشيد، ثم تصالح معه وصار والياً من قبله على بلاد الجبل من إيران، وأسس مدينة كرج قرب طهران. وكتبنا عنه في القبائل العراقية، في قبيلة عجل بن لُجَيْم.

وكان أبو دلف شيعياً متشدداً، وسكن بعض أولاده بغداد، وبعضهم الحلة، وبقي بعضهم في إيران، وكان منهم ولاةٌ في زمن الواثق والمتوكل.

وقد ترجم المؤرخون لشعراء وعلماء من ذرية أبي دلف، ومنهم ابن إدريس الحلي الفقيه الشيعي المشهور، ومنهم الأمير أبو نصر بن ماكولا صاحب كتاب الإكمال في تراجم الرجال. « وفيات الأعيان: ٣ / ٣٠٦ ».

وقال ابن الأثير في الكامل‏ « ٧ / ٤٧٩ »: « ذكر الحرب بين عسكر المعتضد وأولاد أبي دلف. وفيها سار عبيد الله بن سليمان إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالجبل فسار عمر إليه بالإمان في شعبان، فأذعن بالطاعة، فخلع عليه وعلى أهل بيته ».

٢ ـ ٣. شخصيتان من أولاد المنصور الدوانيقي:

١. وهما: أبو الحسن محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وعم أبيه: أبو موسى: عيسى بن أحمد بن عيسى بن المنصور.

ونلاحظ أن محمداً يروي كثيراً عن عم أبيه عيسى، وأن رواياته ذات أهمية خاصة ودلالات كبيرة، فموضوعاتها علاقة الإمام الهادي (ع) بالنظام أو مكانة

٤١٤

أميرالمؤمنين علي (ع) والعترة عند الله تعالى ورسوله (ص). فهي سياسية أو عقائدية من الدرجة الأولى، وقد تبلغ أربعين رواية.

ويروي العم عن الزبير بن بكار « دلائل الإمامة / ٤٧٥ » ويقول إنه من حواريِّي الإمام الهادي (ع). وكان يسكن سامراء من سنة ٢٣٩ ، كما نسبه النجاشي، وروى عنه الجوهري في سامراء، في مقتضب الأثر / ١١ .

٢. روى عنه الطوسي في أماليه / ٢٧٥ ، روايات عديدة، وسنده: الفحام، أي عمير بن يحيى الفحام، عن المنصوري الصغير، عن عم أبيه.

ومنها الرواية المتقدمة المليئة بالدلالة: « الفحام، قال: حدثني المنصوري، قال: حدثني عم أبي، قال: دخلت يوماً على المتوكل وهو يشرب، فدعاني إلى الشرب فقلت: يا سيدي ما شربته قط. فقال: أنت تشرب مع علي بن محمد! فقلت له: ليس تعرف من في يدك، إنما يضرك ولا تضره، ولم أُعِد ذلك عليه.

قال: فلما كان يوماً من الأيام، قال لي الفتح بن خاقان: قد ذَكر الرجل يعني المتوكل، خبر مال يجئ من قم، وقد أمرني أن أرصده لأخبره به، فقل لي: من أي طريق يجئ حتى أجتنبه! فجئت إلى الإمام علي بن محمد (ع) فصادفت عنده من أحتشمه فتبسم وقال لي: لايكون إلا خيرٌ يا أبا موسى، لمَ لمَْ تُعِد الرسالة الأوَّلَة؟ فقلت: أجللتك يا سيدي. فقال لي: المال يجئ الليلة وليس يصلون إليه، فبِتْ عندي، فلما كان من الليل وقام إلى ورده قطع الركوع بالسلام، وقال لي: قد جاء الرجل ومعه المال، وقد منعه الخادم الوصول إليَّ فاخرج وخذ ما معه، فخرجت

٤١٥

فإذا معه الزنفيلجة فيها المال، فأخذته ودخلت به إليه فقال: قل له: هات المخنقة التي قالت لك القُمِّيَّة: إنها ذخيرة جدتها! فخرجتُ إليه فأعطانيها فدخلت بها إليه فقال لي: قل له: الجبة التي أبدلتها منها ردها إلينا، فخرجت إليه فقلت له ذلك، فقال: نعم، كانت ابنتي استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة، وأنا أمضي فأجئ بها. فقال: أخرج فقل له: إن الله تعالى يحفظ ما لنا وعلينا، هاتها من كتفك، فخرجت إلى الرجل فأخرجها من كتفه فغشي عليه، فخرج إليه (ع) فقال له: قد كنتُ شاكاً فتيقنتُ »!

٣. تدل الرواية على أن عيسى المذكور كان من شخصيات بني العباس، ومن المحترمين عند المتوكل، بحيث يدخل عليه وهو يشرب الخمر.

وكان المتوكل يعرف علاقته بالإمام (ع) وتشيعه له، فدعاه ليشرب الخمر معه، ثم استثنى وقال له أنت لاتشرب معي، بل تشرب مع إمامك علي بن محمد!

وهذه خباثة من المتوكل، لأنه يعرف أن الإمام (ع) لا يشرب، وقد أجابه عيسى بجواب وقال إنه لم يُعده عليه، حتى لايغضبه!

قال له: « ليس تعرف من في يدك إنما يضرك ولا تضره. ولم أعد ذلك عليه ».

ومعناه: أنك لاتعرف علي بن محمد (ع) من هو، وإنك بحبسك إياه وكلامك عليه تضر نفسك، ولا تضره!

٤١٦

٤. يظهر أن عيسى هذا كان لا يقبل الولاية، أو كان المتوكل لا يوليه بلداً بسبب ولائه للعلويين! وقد ولى على المدينة ومكة عمه وابن عمه: محمد بن عيسى، وابن عمه: علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور. « صبح الأعشى: ٤ / ٢٧١ ».

٥. وكان عيسى (رحمه الله) يعيش في سامراء، وله مخصصات من المتوكل كبقية شخصيات العباسيين، فقد قال (رحمه الله) كما في أمالي الطوسي / ٢٨٥: « قصدتُ الإمام (ع) يوماً فقلت: يا سيدي، إن هذا الرجل قد اطَّرَحني وقطع رزقي ومَلَّني، وما أتهم في ذلك إلا علمه بملازمتي لك، فإذا سألتَهُ شيئاً منه يلزمُهُ القبول منك، فينبغي أن تتفضل علي بمسألته. فقال: تكفى إن شاء الله.

فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكل، رسولٌ يتلو رسولاً، فجئت والفتح على الباب قائم فقال: يا رجل، ماتأوي في منزلك بالليل؟ كَدَّ هذا الرجل مما يطلبك! فدخلتُ وإذا المتوكل جالس في فراشه، فقال: يا أبا موسى نشغل عنك وتنسينا نفسك، أيُّ شئ لك عندي؟ فقلت: الصلة الفلانية، والرزق الفلاني، وذكرت أشياء، فأمر لي بها وبضعفها.

فقلت للفتح: وافى عليُّ بن محمد إلى هاهنا؟فقال: لا. فقلت: كتب رقعة؟ فقال: لا. فوليت منصرفاً فتبعني، فقال لي: لست أشكُّ أنك سألته دعاءً لك، فالتمس لي منه دعاء! فلما دخلت إليه (ع) قال لي: يا أبا موسى هذا وجهُ الرضا. فقلت: ببركتك يا سيدي، ولكن قالوا لي: إنك ما مضيت إليه ولا سألته. فقال: إن الله تعالى علم منا أنا لا نلجأ في المهمات إلا إليه، ولا نتوكل في الملمات إلا عليه وعودنا إذا سألنا الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا.

٤١٧

قلت: إن الفتح قال لي كيت وكيت. قال: إنه يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه، الدعاء لمن يدعو به. إذا أخلصتَ في طاعة الله، واعترفتَ برسول الله (ص) وبحقنا أهل البيت، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك.

قلت: يا سيدي فتعلمني دعاء أختص به من الأدعية. قال: هذا الدعاء كثيراً ما أدعو الله به، وقد سألت الله أن لا يُخيب من دعا به في مشهدي بعدي، وهو:

يا عُدَّتي عند العُدد، ويا رجائي والمعتمد، ويا كهفي والسند، ويا واحد يا أحد ويا قل هو الله أحد، أسالك اللهم بحق من خلقته من خلقك، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحداً، أن تصلي عليهم، وتفعل بي كيت وكيت ».

٦. العجيب أن الفتح بن خاقان وزير المتوكل أخبر عيسى أن المتوكل أمره أن يراقب مجئ أموال الى الإمام (ع) من قم، وطلب منه أن يخبره بطريق مجيئها، ليبتعد عن مراقبة ذلك الطريق! وطبيعي أن يراجع عيسى إمامه الهادي (ع) فراجعه، وكان المعجز الذي حكاه عيسى (رحمه الله) ويظهر منه أن عيسى تعود أن يرى من الإمام (ع) الآيات والكرامات!

٧. كان عيسى ملازماً للإمام الهادي (ع)، وقد استفاد منه أنه ألَّفَ كتاباً مما رواه عنه، ويروي كتابه ابن أخيه أحمد، ولم يصل الينا مع الأسف.

قال النجاشي في فهرس أسماء مصنفي الشيعة / ٢٩٧: « عيسى بن أحمد بن عيسى بن المنصور أبو موسى السر من رائي، روى عن أبي الحسن علي بن محمد (ع). أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن داود الفحام قال: حدثنا أبو الحسن

٤١٨

محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى قال: حدثنا عم أبو موسى عيسى بن أحمد، عن أبي الحسن (ع) بالنسخة ».

٨. ويظهر من الرواية حسن فهم الفتح بن خاقان وزير المتوكل، فقد فهم أن الإمام الهادي (ع) دعا لعيسى فليَّن الله له قلب المتوكل، فأوصى عيسى أن يطلب من الإمام (ع) أن يدعو له، وأجاب الإمام (ع) عن طلبه بقوله: الدعاء لمن يدعو به. إذا أخلصت في طاعة الله، واعترفت برسول الله (ص) وبحقنا أهل البيت، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك.

ومعناه: أن استجابة الدعاء متوقفة على نوعية الشخص الذي يدعو، وكل مسلم يطيع الله ويوالي النبي وعترته الطاهرين (ع)، إذا دعا، لايحرمه الله تعالى.

وتعبيره (ع) عن الفتح: يوالينا بظاهره ويجانبنا بباطنه، تعبير دقيقٌ، وهو حالة أقل من العداء الصريح.

٩. نلاحظ أن عيسى يستعمل كلمة الإمام مطلقة بدون قيد للإمام الهادي (ع) فيقول دخلت على الإمام، قلت للإمام الخ. وهذا يدل على أنها في القرن الثالث صارت كالعلم لإمام العترة من أهل البيت (ع).

١٠. في الختام لا بد أن نسجل تعجبنا من إهمال علماء العامة للمنصورييْن، وعدم رواياتهم عنهما، وعدم ترجمتهما في مصادرالجرح والتعديل، مع أنهما عباسيان من أولاد المنصور مؤسس التسنن الجديد. ولعل السبب في ذلك أن رواياتهما رحمهما الله صريحة في التشيع، لا يحتملها حتى بعض الشيعة، كالذي

٤١٩

رواه الرضي في خصائص الأئمة (ع) / ٧٨: « حدثني أبو محمد هارون بن موسى، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى بن المنصور قال: حدثني أبو موسى عيسى بن أحمد بن عيسى بن المنصور، قال: حدثني الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر (ع) قال: حدثني أبي علي قال: حدثني أبي محمد قال: حدثني أبي علي، قال: حدثني أبي موسى، قال: حدثني أبي جعفر، قال: حدثني أبي محمد، قال: حدثني أبي علي، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، عن أبيه أمير المؤمنين (ع)، والصلاة، قال، قال رسول الله (ص): يا علي، مَثَلُكُم في الناس مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق فمن أحبكم يا علي نجا، ومن أبغضكم ورفض محبتكم هوى في النار.

ومَثَلُكُم يا علي مثل بيت الله الحرام، من دخله كان آمناً، فمن أحبكم ووالاكم كان آمناً من عذاب النار، ومن أبغضكم ألقي في النار. يا علي: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) . ومن كان له عذرٌ فله عذرُهُ، ومن كان فقيراً فله عذره، ومن كان مريضاً فله عذره، وإن الله لا يعذر غنياً ولا فقيراً ولا مريضاً ولا صحيحاً ولا أعمى ولا بصيراً، في تفريطه في موالاتكم ومحبتكم »!

فهذا الحديث ثقيل عليهم، لأنه يجعل ولاية علي والعترة (ع)، من أصول الدين.

٤. خيران الأسباطي:

جعل السيد الخوئي في رجاله « ٨ / ٨٧ » خيران الأسباطي، وخيران الخادم، وخيران بن إسحاق الزاكاني واحداً، وهو الظاهر. وقال: ثقةٌ من أصحاب الهادي (ع) وقال الكشي: وجدت في كتاب محمد بن الحسن بن بندار القمي بخطه: حدثني

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477