الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158556 / تحميل: 7003
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقال الإمام الصادق ـ في جواب السائل عن الكيفية له ـ: لا لأنّ الكيفيّة جهة والاحاطة، ولكن من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه(١) .

وهذه الأحاديث تحدّد موقف المعرفة وأنّها بين التعطيل والتشبيه.

فاتضح انّ رائدنا في مجال المعارف الإلهية أمران :

١ ـ الأقيسة العقليّة.

٢ ـ التأمّل في آثار الرب في العوالم المختلفة.

ولأجل ايضاح الحال وانّه يمكن الحصول على المعارف وصفات الواجب عزّ وجلّ عن طريق ترتيب الأقيسة المنطقيّة أوّلاً، والتدبّر في صنعه وخلقه ثانياً، نأتي بالبيان التالي :

١ ـ الاستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة

وله صور نشير إليها :

إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء بل الكلّ محتاج إليه فالعقل يتّخذه مبدأً لكثير من أحكامه على الواجب عزّ اسمه، فيصفه بما يناسب غناه وينزّهه عمّا لا يجتمع معه، وقد سلك الفيلسوف الإسلامي الكبير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية قال :

« ووجوب الوجود ( الغني ) يدل على سرمديته، ونفي الزائد، والشريك والمثل، والتركيب بمعانيه، والضد، والتحيّز والحلول، والاتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه، والألم واللذّة والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عيناً والرؤية. ».

__________________

(١) الكافي: ج ١ باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث ٢، ٥.

٢١

بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لاثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال: « ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، والملك والتمام والحقّية والخيرية والحكمة والتجّبر والقهر والقيوميّة »(١) .

فقد سبقه إلى ذلك صاحب كتاب « الياقوت » في علم الكلام إذ قال وهو بصدد تنزيهه سبحانه عن الصفات غير اللائقة بساحة قدسه: « وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا حالاًّ في شيء ولا تقوم الحوادث به وإلّا لكان عرضاً »(٢) .

وإن شئت قلت: إنّ ذاته سبحانه نفس الكمال، وفوق ما يتصوّر من الكمال، وليس للنقص إليه سبيل، فإذا كان كذلك فيجب أن يوصف بكلّ ما يُعدّ كمالاً فينزّه عمّا يعدّ نقصاً، فالصفات الذاتية صفات كمال لا محيص عن الاتّصاف بها، كما أنّ الصفات السلبيّة صفات تنزيهيّة طاردة للنقص عن ساحة ذاته فيجب التنزيه عنها، فإذا كان العلم والقدرة والحياة أوصاف كمال وكانت الجسميّة والتركّب والحالّيّه والمحلّيّة صفات نقص فيجب التوصيف بالاُولى والتنزيه عن الثانية ولأجل ذلك قلنا: إنّ الصفات الثبوتية والسلبية ترجع إلى اثبات أمر واحد وهو الكمال، وسلب أمر واحد وهو النقص.

وبتعبير آخر لاثبات صفاته وهو أنّ الوجودات الامكانية وجودات متدلّية قائمة بوجود الواجب وما لها من صفات كمال كالعلم والقدرة والحياة، فالمالك الحقيقيّ لها هو الله سبحانه، والمعطي لها هو الله سبحانه. قال تعالى:( للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) فالعلم والقدرة والحياة كلّها تجلّيات لعلمه وقدرته وحياته، فإذا كان كذلك فالعلم الأصيل والقدرة الأصيلة والحياة الحقيقيّة لله سبحانه.

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ١٧٨ ـ ١٨٥ ( ط صيدا ).

(٢) أنوار الملكوت في شرح الياقوت: ص ٧٦ ـ ٨٠ ـ ٨١ ـ ٩٢.

٢٢

يقول العلّامة الطباطبائي: نحن أوّل ما نفتح أعيننا، يقع ادراكنا على أنفسنا، وعلى أقرب الاُمور منا، وهي صلتنا بالكون الخارج، لكنّا لا نرى أنفسنا إلّا مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أفعالنا إلّا كذلك، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان، يشاهدها من نفسه ومن كلّ ما يرتبط به من قواه وأعماله والدنيا الخارجة. وعند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته ويصد خلّته، وإليه ينتهي كلّ شيء وهو الله سبحانه ويصدقنا في هذا النظر والقضاء قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / ١٥ ).

ثمّ إنّ أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الالهيّه إنّا نذعن بانتهاء كلّ شيء إليه، وكينونته ووجوده منه، فهو يملك كلّ شيء لعلمنا أنّه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره، على أنّ بعض هذه الأشياء مما ليست حقيقته إلّا مبنيّة على الحاجة وهو تعالى منزّه عن كلّ حاجة ونقيصة لأنّه الذي يرجع إليه كلّ شيء في رفع حاجته ونقيصته.

فله الملك ـ بكسر الميم وضمها ـ على الاطلاق فهو سبحانه يملك ما وجدنا في الوجود من صفة كمال كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزّة.

فهو سبحانه حيّ، قادر، بصير، حليم، لأنّ في نفيها اثبات النقص ولا سبيل للنقص إليه، ورازق ورحيم وعزيز ومحيي ومميت ومبدع ومعيد وباعث إلى غير ذلك لأنّ الرزق والرحمة والعزّة والاحياء والاماتة والابداع والاعادة والبعث له سبحانه وهو السبّوح، القدّوس، العلي، الكبير، المتعال، إلى غير ذلك، فنعني بها نفي كلّ نعت عدمي، ونفي كلّ صفة نقص عنه(١) .

ترى أنّه ـ قدس الله سره ـ استدل على الصفات الثبوتية بمبدأ واحد وهو أنّ

__________________

(١) الميزان: ج ٨ ص ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٢٣

الملك له لا لغيره، فكلّ ما يملكه الإنسان فهو يملكه، فصار هذا منشأً لاثبات كثير من الصفات الثبوتية.

٢ ـ مطالعة الكون وآيات وجوده

الطريق الثاني التي يمكن التعرّف بها على ما في ذاته سبحانه من الجمال والكمال طريق التدبّر في النفس والكون أي في آياته الأنفسية والافاقية امتثالاً لقوله سبحانه :

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصّلت / ٥٣ )(١) .

فمطالعة الكون المحيط بنا وما فيه من بديع النظام وغريب الموجودات يكشف لنا عن علمه الوسيع وقدرته المطلقة فمن خِلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الإلهية الجماليّة ( الثبوتية ) والجلالية ( السلبية ) وقد سلك هذا الطريق المحقّق نصير الدين وقال: « والأحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دلائل علمه »(٢) .

وقول شيخنا المحقّق الطوسي ليس فريداً في ذلك الباب بل سبقه شيخنا أبو جعفر الطوسي في بعض كتبه وقال عند البحث عن علمه سبحانه :

« وأمّا الذي يدل على أنّه عالم هو أنّ الإحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان وغيره من الحيوان لأنّ فيه من بديع الصنعة ومنافع الأعضاء وتعديل الامزجة وتركيبها على وجه يصحّ معه أن يكون حيّاً لا يقدر عليه إلّا من هو عالم بما يريد فعله ،

__________________

(١) والاستدلال مبني على عود الضمير المنصوب في « انّه الحق » الى الله سبحانه.

(٢) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ١٧٤ ( ط صيدا ) والاستدلال بالتجرّد، استدلال عقلي والاستدلال بالأحكام واستناد كل شيء اليه، استدلال بآيات وجوده على كماله.

٢٤

لأنّه لو لم يكن عالماً لما وقع على هذا الوجه من الإحكام والنظام، والاختلاف في بعض الأحوال ولـمـّا كان ذلك واقعاً على حد واحد، ونظام واحد، واتساق واحد دل على أنّ صانعه عالم »(١) .

وهناك ـ وراء الإستدلال العقلي والنظر في آثار الرب ـ طريقان آخران نشير إليهما.

٣ ـ المعرفة عن طريق الوحي

إنّ الوحي ادراك مصون عن الخطأ والزلل كما أنّ السنّة الصحيحة فرع من فروعه فكلّ ما ورد في الكتاب والسنّة من الإلهيات والمعارف، يصلح الاستدلال به غير أنّ الآيات القرآنية في ذلك المجال على قسمين: فتارة تتخد لنفسها موقف المعلم والمفكّر الذي يريد تعليم اتباعه فيكون موقف المخاطَب عندئذ موقف الاستلهام والاستعلام كما هو الحال في البراهين التي أقامها القرآن في مجال اثبات الصانع ونفي الشريك عنه وكثير من صفاته الثبوتية، فتكون تلك الآيات حجّة عقليّة من دون استلزام الدور، واُخرى يتخذ لنفسه موقف الرسول المتكلّم باسم الوحي المنبئ عن الله سبحانه فعندئذ يكون قوله حجّة تعبديّة ولا يمكن الاعتماد على مثله إلّا بعد ثبوت وجود الصانع وبعض صفاته وثبوت النبوّة العامّة والخاصة، ولكن الغالب على الآيات القرآنيه والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت هو الأوّل. يقف على ذلك من خالط القرآن روحه وقلبه وقرأ القرآن متدبّراً متعمّقاً.

٤ ـ المعرفة عن طريق الكشف والشهود

هناك طريق رابع وهو التعرّف على الحقائق من خلال الكشف والشهود، والقائلون به يرون أنّ سبيل الحصول على حقائق المعارف هو السعي إلى صفاء القلب

__________________

(١) الاقتصاد، الهادي الى سبيل الرشاد: ص ٢٨، ولاحظ إرشاد الطالبين للفاضل المقداد: ص ١٩٤.

٢٥

حتى ينعكس ما في ذلك العالم على قلب العارف وضميره، ويدرك ما في ماوراء الطبيعة من الجمال والكمال ادراكاً يقينيّاً لا يخالطه الشك، ولا يمازجه الريب، ولكنه طريق ( قلّ سالكيه ) يختصّ بطائفة خاصّة ولايكون حجّة إلّا لصاحب الكشف.

وعلى كلّ تقدير فليس المدّعى لمن يسلك هذه الطرق الأربعة هو معرفة كنه الذات الإلهية وكنه صفاته وأسمائه، بل المراد التعرّف على ما هناك من الجمال والكمال ونفي النقص والعجز حسب المقدرة الإنسانية.

إلى هنا تبيّن إنّ التفكير الصحيح ممّا دعى إليه الكتاب العزيز والفطرة السليمة، وهناك كلام للعلاّمة الطباطبائي حول التفكّر الذي يدعو إليه القرآن وهو بحث مسهب نقتبس منه ما يلي، قال :

« إنّك لو تتبّعت الكلام الإلهي ثم تدبّرت آياته، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل أو تلقّن النبي الحجّة لاثبات حقّ أو ابطال باطل كقوله:( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) ( المائدة / ١٧ ).

أو ينقل الحجّة الجارية على لسان أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء العظام ولقمان ومؤمن آل فرعون كقوله :

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / ١٠ ).

وقوله:( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / ١٣ ).

وقوله:( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ) ( غافر / ٢٨ ).

وقوله حكاية عن سحرة فرعون( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ

٢٦

وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ( طه / ٧٢ ). إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون حتّى أنّه علّل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته، - علّل - باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) ( العنكبوت / ٤٥ ).

وقوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / ١٨٣ ).

وقوله ( في آية الوضوء ):( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / ٦ ).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول تحريم الخمر والميسر.

وهذا الادراك العقلي الذي يدعو إليه القرآن ويبني على تصديقه، ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ، هو الذي نعرّفه بالخلقة والفطرة ممّا لا يتغيّر ولا يتبّدل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان، والعجب انّ المخالفين للتفكّر المنطقي يعتمدون في اثبات دعاويهم ومقاصدهم على الاُسس المنطقيّة بحيث لو حلّلت مقالهم ودليلهم لعاد على صورة أقيسة منطقية يستدل بها المخالف على بطلان الاستدلال المنطقي(١) .

ونذكر من باب المثال قولهم: « لو كان المنطق طريقاً موصلاً لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق، لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم » ترى أنّه استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر وأمّا الجواب: فإنّ المنطق آلة تصون الفكر عن

__________________

(١) الميزان: ج ٥ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢٧

الخطأ في كيفية الاستدلال ولكن صحّة الاستدلال مبنيّة على دعامتين :

١ ـ صحّة المادّة.

٢ ـ صحّة الهيئة.

والمنطق يصون الإنسان عن الخطأ في الجانب الثاني دون الأوّل وأجاب عنه العلّامة الطباطبائي بوجه آخر وقال :

« إنّ معنى كون المنطق آلة الاعتصام انّ استعماله كما هو حقّه يعصم الإنسان عن الخطأ وأمّا انّ كلّ مستعمل له فإنّما يستعمله صحيحاً فلا يدعيه أحد وهذا كما انّ السيف آلة القطع لكن لايقطع إلّا عن استعمال صحيح »(١) .

القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطروا على استعماله بحسب طبعهم وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات والذي فطرت عليه العقول هو ترتيب مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة، وهو البرهان أو استعمال المقدّمات المشهورة أو المسلّمة وهو الجدل، أو استعمال مقدّمات ظنيّة لغاية الارشاد والهداية إلى خير مظنون وشر مثله وهو العظة، قال تعالى:( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / ١٢٥ ).

والظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته بالعظة والجدل.

ثمّ إنّ آخر ما في كنانة القوم هو ادّعاء انّ جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانيّة مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في الأحاديث فما الحاجة إلى أساليب الكفّار والملاحدة ؟

يلاحظ عليه: إنّ اشتمال الكتاب والسنّة على جميع ما يحتاج إليه لا يلازم

__________________

(١) الميزان: ج ٥ ص ٢٨٨.

٢٨

استغناء البشر عن التفكّر الصحيح الموصل إلى ما في الكتاب والسنّة، فليس فهم الكتاب والسنّة غنيَّا عن التدبّر والامعان، وليس أصحاب الفلسفة والمنطق من الكفّار والملاحدة، والواجب على المسلم الواعي هو استماع القول ـ من أيّ ابن اُنثى صدر ـ ثم اتّباع أحسنه.

وعلى كلّ تقدير فابطال الاستدلال العقلي عن طريق الاستدلال العقلي غريب وعجيب جداً ومن قابَلَ التفكّر والتعقّل واقامة البرهنة فقد عارض إنسانيّته وفطرته التي تدعوه إلى الاعتناء بالتفكر الصحيح والتعقّل الرصين عن طريق اعمال الأقيسة الصحيحة من حيث المادة والهيئة.

وبذلك تقف على قيمة عمل أهل الحديث واسلوب دعوتهم إلى المعارف والحقايق حتى إنّ الأشعري لـمّا تاب عن الإعتزال ولحق بأصحاب أحمد بن حنبل، واستدل على عقيدة أهل الحديث مثل الرؤية وكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه، رفضته الحنابلة قائلة: بأنّ الاستدلال ليس طريقاً دينياً، وإنّما الطريق البرهنة بالآية والحديث مكان التعقل.

قال ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة عن طريق الأهوازي قال: قرأت على عليّ القومسي، عن الحسن الاهوازي قال سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول :

لـمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى « البربهاري » فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت وقالوا وأكثر الكلام فلمّا سكت قال البربهاري: وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلّا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فخرج من عنده وصنف كتاب « الابانة » فلم يقبله منه(١) .

هذا وإذا بان لك انّ الاستدلال المنطقي على المعارف العقليّة هو طريق

__________________

(١) تعليقة « تبيين كذب المفتري » ص ٣٩١.

٢٩

الفطرة التي دعا إليها القرآن، ولا يشذ عنها إلّا من احتجبت عنده الفطرة الإنسانيّة.

فيلزم علينا البحث عن أسمائه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم وسنّة نبيه وأحاديث عترته صلوات الله عليهم أجمعين على ضوء البرهان والقياس العقلي.

٣٠

أسماؤه وصفاته

في القرآن الكريم

قد احتلّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه في كتب الكلام والتفسير المكانة العليا، فالقدماء شرحوا معاني أسمائه وصفاته وأفعاله والمتأخّرون اكتفوا من مباحثهابالبحث عن أمرين :

١ ـ مغايرة الاسم للمسمّى.

٢ ـ كون أسمائه توقيفية.

ونحن في هذه الفصول نجمع بين الطريقين فنأتي بما يتعلّق بها من المباحث المفيدة ونعرض عمّا لا يهمّنا جدّاً ثم نفسّر أسماءه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم، وبناء عليه سيقع البحث في اُمور :

١ ـ الفرق بين الاسم والصفة

دلّت الآيات الكريمة على أنّ له سبحانه الأسماء الحسنى كما ورد ذلك في الأحاديث أيضاً.

قال سبحانه:( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

وقال:( أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الاسراء / ١١٠ ).

وقال:( اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( طه / ٨ ).

٣١

وقال:( هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الحشر / ٢٤ ).

وقال:( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

والاسم مشتق إمّا من « السمو » على ما ذهب إليه البصريون، أو من « السمة » على ما اختاره الكوفيون، وعلى كلّ تقدير فلو كان الملاك في تسميه اللفظ اسما هو سموّه على المعنى، وتقدمه عليه أو كونه علامة له، فالكلمه بأقسامها الثلاثه اسم لوجود كلا الملاكين فيها(١) .

ومع ذلك كلّه فالاسم في مصطلح النحويين يطلق على قسم واحد من أقسام الكلمة، وعرّفوه بأنّه ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان، فالاسم بهذا المعنى يقابل الفعل والحرف، فالفعل يدل على معنى مستقل مقترن بالزمان، والحرف يدل على معنى في غيره.

وهناك اصطلاح ثالث للاسم وهو كلّ ماهيّة تعتبر من حيث هي هي فهو أسم أو من حيث انّها موصوفة بصفه معينة فهو وصف، فالأوّل كالسماء والأرض والرجل والجدار، والثاني كالخالق والرازق والطويل والقصير. ذكره الرازي وقال: هذا هو الفرق بين الاسم والصفة على قول المتكلّمين(٢) .

يلاحظ عليه: إنّ حاصل كلامه يرجع إلى أنّ الجوامد أسماء، وأسماء الفاعلين ونظائرها صفات مع أنّه لاينطبق على مصطلح المتكلّمين فإنّ الخالق والرازق من أسمائه سبحانه لا من صفاته، فكيف يعده من صفاته ومقابل أسمائه والحق أن يقال :

__________________

(١) اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ اطلاق الاسم على خصوص قسم من الكلمة لأجل كون معناه سامياً ومرتفعاً بين معاني سائر الكلمات أعني الفعل والحرف فعندئذ يختص بالقسم المعروف عند النحويين.

(٢) لوامع البينات للرازي ص ٢٧ ( طبع القاهره ).

٣٢

ما هو المختار في الفرق بين أسماءه وصفاته ؟

« الاسم هو اللفظ المأخوذ إما من الذات بما هي هي، أو بكونها موصوفاً بوصف أو مبدأ الفعل، فالأوّل كلفظ الجلالة له سبحانه والرجل والإنسان لغيره، والثاني كالعالم والقادر، والثالث كالرازق والخالق، وأمّا الصفة فهو الدال على المبدء مجرّداً عن الذات كالعلم والقدرة والرزق والخلقة ولأجل ذلك يصحّ أن يقال الاسم ما يصحّ حمله كما يقال الله عالم وخالق ورحمان ورحيم، والصفة لا يصحّ حملها كالعلم والخلق والرحمة، وهذا هو المشهور بين المتكلّمين بل الحكماء والعرفاء، فالصفات مندكة في الأسماء من غير عكس.

يقول العلّامة الطباطبائى: لا فرق بين الصفة والاسم، غير أنّ الصفة تدلّ على معنى من المعاني تتلبّس به الذات، أعم من العينيّة والغيريّة والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف، فالحياة والعلم صفتان، والحي والعالم اسمان(١) .

هذا كلّه على ما هو المشهور ويوافقه ظاهر الكتاب العزيز من أنّ أسماءه سبحانه من قبيل الألفاظ والمعاني فيكون لفظ الجلالة وسائر الأسماء كالرحمان والرحيم، والعالم والقادر أسماء الله الحسنى الحقيقية، ولها معان ومفاهيم فينتقل إليها الذهن عند السماع.

الأسماء والصفات عند أهل المعرفة

إنّ لأهل المعرفة اصطلاحاً خاصّاً فالأسماء والصفات عندهم ليست من قبيل الألفاظ والمفاهيم بل حقيقة الصفه ترجع إلى كمال وجودي قائم بالذات، والاسم عبارة عن تعيّن الذات بنفس ذلك الكمال والأسماء والصفات الملفوظة، أسماء وصفات لتلك الأسماء والصفات الحقيقية التي سنخها سنخ الوجود والكمال ،

__________________

(١) الميزان: ٨ / ٣٦٩.

٣٣

والتحقّق والتعيّن، فلفظ الجلالة ليس اسماً بل اسماً للاسم، ومثله العلم والقدرة والحياة فليست صفات بالحقيقة، بل مرايا لأوصافه الحقيقيّة.

فالقولان متّفقان على أنّ الذات مع التعيّن هو الاسم، والتعيّن بما هو هو، هو الوصف، ويختلفان من كونها من قبيل الألفاظ والمفاهيم أو من قبيل الحقايق والواقعيات. يقول أهل المعرفه: إنّ الذات الأحدية، بما أنّه وجود غير متناه، عار عن المجالي والمظاهر، يسمّى « غيب الغيب » وإذا لوحظ في رتبة متأخّرة، بتعيّن من التعيّنات الكماليّة كالعلم والقدرة، فهو مع هذا التعيّن اسم، ونفس التعيّن بلا ملاحظة الذات، وصف.

يقول الحكيم السبزواري: « فالذات الموجودة مع كلّ منها ( التعيّنات ) يقال لها الاسم في عرفهم، ونفس ذلك المحمول العقلي هي الصفه عندهم »(١) . ويقول في موضع آخر: « والوجود بشرط التعيّن هو الاسم، ونفس التعيّن هو الصفة »(٢) .

ويقول أيضاً: « الاسم عند العرفاء هو حقيقة الوجود مأخوذة بتعيّن من التعيّنات الصفاتية من كمالاته تعالى، أو باعتبار تجلّ خاص من التجليّات الإلهية » فالوجود الحقيقي مأخوذاً بتعين « الظاهرية بالذات » و « المظهرية للغير » اسم « النور » وبتعيّن كونه « ما به الانكشاف لذاته ولغيره » اسم « العليم » وبتعيّن « كونه خيراً محضاً » و « عشقا صرفاً » اسم « المريد » وبتعيّن « الفياضية الذاتية » للنورية عن علم ومشيئة، اسم « القدير » وبتعيّن « الدراكيّة » و « الفعاليّة » اسم « الحي » وبتعيّن « الاعراب عمّا في الضمير » المخفي والمكنون العيني اسم « المتكلّم » وهكذا »(٣) .

__________________

(١) شرح الاسماء الحسنى: ١٩.

(٢) شرح الاسماء الحسنى: ٢١٥.

(٣) شرح الاسماء الحسنى: ٢١٤.

٣٤

٢ ـ هل الاسم نفس المسمّىٰ أو غيره

من المباحث التي شغلت بال القدماء والمتأخّرين، هو مسألة اتحاد الاسم والمسمّى وهو بحث لا يحتاج إلى التفصيل، يقول الرازي: إنّ هذا البحث ممّا لا يمكن النزاع فيه بين العقلاء، فإن كان المراد من الاسم هو اللفظ الدال على الشيء بالوضع، وكان المسمّى عبارة عن نفس ذلك الشيء، فالعلم الضروري حاصل بأنّ الاسم غير المسمّى وإن كان الاسم عبارة عن ذات الشيء ( المدلول ) والمسمّى ايضاً ذات الشيء كان معنى قولنا الاسم نفس المسمّى هو أن ذات الشيء نفس ذات الشيء فثبت أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنّما كان بسبب أنّ التصديق ما كان مسبوقاً بالتصوّر وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية(١) .

هذا وان شيخ مذهبه « أبا الحسن الأشعري » قد زاد في الطين بلّة فعاد يفصّل فيها ويقول: إنّ الاسم ( يريد مدلوله ) عين المسمّى أي ذاته من حيث هي هي نحو الله فإنّه اسم للذات من غير اعتبار معنى فيه، وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق ممّا يدل على نسبته إلى غيره، ولا شك انّ تلك النسبة غيره وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته(٢) .

ولا يخفى إنّ صحّة كلامه يتوقف على تسليم اصطلاح خاص له.

ففي الشق الأوّل الذي يدعى فيه انّ الاسم عين المسمّى يريد من الاسم المدلول لا اللفظ المتكلّم به وهو اصطلاح جديد لم نسمعه إلّا منه ومن أمثاله.

كما أنّ حكمه بأنّ الخالق والرازق غيره، مبني على كون المشتق بمعنى المبدء أي الخلق والرزق، وانّ معنى المشتق هو نسبة المبدء إلى الذات على نحو خروج الذات عن مدلول المشتق.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي: ص ١٨.

(٢) شرح المواقف: ج ٨ ص ٢٠٧.

٣٥

وأمّا الثالث فهو نظرية أخرى بين القول بإتحاد صفاته الذاتية مع الذات ومغايرته، فالمعتزله على الأوّل وأهل الحديث على الثاني، ولـمـّا لم ينجح الشيخ في القضاء الحاسم بين النظريتين إختار قولاً ثالثاً وهو أنّه لا هو ولا غيره، وهو بحسب ظاهره أشبه بارتفاع النقيضين إلّا أن يفسّر بوجه يرفع ذلك الاشكال.

والشيخ الأشعري يصّر في كتاب « الابانة » على أنّ الاسم نفس المسمّى ولا يذكر وجهه(١) .

وما ذكرنا من المبني ( مراده من الاسم المدلول ) لتوجيه كلامه فإنّما ذكره اتباع مذهبه ك‍ « الايجي » في المواقف و « التفتازاني » في المقاصد وشرحه، والسيد الشريف في شرحه على المواقف.

يؤاخذ على الشيخ بأنّه أي حاجة في جعل هذا الاصطلاح أي اطلاق الاسم وارادة المدلول منه حتى نحتاج إلى هذه التوجيهات.

ثمّ إنّ القائلين بالاتحاد استدلّوا بوجوه :

١ ـ قالوا: إنّ الله تعالى أمر بتسبيح اسمه وقال:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / ١ ). ودلّ العقل على أنّ المسبّح هو الله تعالى لا غيره وهذا يقتضي انّ اسم الله تعالى هو هو لا غيره.

٢ ـ وقالو: إنّه سبحانه أخبر انّ المشركين عبدوا الأسماء وقال:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف / ٤٠ ).

والقوم ما عبدوا إلّا تلك الذوات فهذا يدل على أنّ الاسم هو المسمّى.

__________________

(١) وراجع مقالات الاسلاميين: ص ٢٩٠ ـ الطبعة الثالثة الفصل الخاص لبيان عقيدة أهل الحديث والسنّة.

٣٦

٣ ـ قالوا: اسم الشيء لو كان عبارة عن اللفظ الدال عليه لوجب ان لا يكون لله تعالى في الأزل شيء من الأسماء إذ لم يكن هناك لفظ ولا لافظ وذلك باطل.

٤ ـ قالوا: إذا قال القائل: محمد رسول الله فلو كان اسم محمد غير محمد لكان الموصوف بالرسالة غير محمد.

٥ ـ قالوا: إنّ لبيد يقول: « اسم السلام » ويريد نفس السلام حيث قال :

« إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ عاماً كاملاً فقد اعتذر »(١) .

وهذه الحجج التي نقلها الرازي تعرب من أنّ للمستدل كالشيخ الأشعري إصطلاح خاص في الاسم، فهو كلّما يطلق الاسم إنّما يريد المدلول لا اللفظ الدال.

وعلى ضوء ذلك فنقول :

أمّا الدليل الأوّل: فلأنّ الظاهر أنّ الآية تحثّ على تسبيح الإسم وتقديسه وتنزيهه لا على تنزيه المسمّى وذلك لأنّه كما يجب تنزيه المدلول يجب تنزيه الدال، وذلك بأن لا يسمّى به غيره، فيكون ذلك نهياً عن دعاء غير الله تعالى باسم من أسماء الله فإنّ المشركين كانوا يسمّون الصنم باللات وكانوا يسمّون أوثانهم آلهة.

ويمكن أن يكون المراد تفسيره بما لا يليق بساحته ولا يصحّ ثبوته في حقه سبحانه.

وهناك وجه ثالث وهو أن تصان أسماء الله عن الإبتذال والذكر لا على وجه التعظيم.

ووجه رابع وهو أنّه يمكن أن يكون تسبيح الاسم كناية عن تسبيح الذات كما في قولهم سلام على المجلس الشريف والجناب المنيف إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن أن تكون باعثة لتسبيح الاسم نفسه.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي: ص ٢١ ـ ٢٢.

٣٧

أمّا الدليل الثاني: فلأنّ المراد من قوله سبحانه:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) إنّه ليس لها من الاُلوهية إلّا التسمية وهي أسماء بلامسميات، وهذا كما يقال لمن سمّى نفسه باسم السلطان انّه ليس له من السلطنة إلّا الاسم وكذا هنا وعلى ذلك فالمراد من قوله:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) اي إلّا أشخاصاً أنتم سمّيتموها آلهة وليسوا بآلهة.

وأمّا الدليل الثالث: فلا محذور أن لا يكون له اسم ملفوظ في الأزل غير أنّ فقدان هذه الأسماء لا يلازم فقدان المدلولات، فالله سبحانه كان جامعاً لكمالات هذه الأسماء ومداليلها، وإن لم يكن هناك اسم على النحو اللفظي.

وأمّا الدليل الرابع: فساقط جداً لأنّ المبتدأ أعني قولنا: محمد يمثّل طريقاً إلى المدلول، والحكم على ذي الطريق لا على نفس الطريق، وهذا حكم كلّ لفظ موضوع اسما كان أو فعلاً أو حرفاً.

وأمّا الدليل الخامس: فهو تمسّك بشعر شاعر علم بطلانه ببديهة العقل ومن المحتمل جدّا أنّ اقحام لفظة اسم في البيت لأجل الضرورة وإلّا فلا وجه للعدول من « السلام عليكما » إلى « اسم السلام عليكما »(١) .

والرازي مع أنّه جعل المسألة بديهية، أخذ في الاستدلال على أنّ الاسم غير المسمّى لاقناع غيره الذي وقع في الشبهة مقابل البديهية، فقال: الذي يدل على أنّ الاسم غير المسمّى وجوه :

منها: إنّ أسماء الله كثيرة والمسمّى ليس بكثير.

منها قوله تعالى:( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) حيث أمرنا أن ندعو الله تعالى بأسمائه، والشيء الذي يدعي مغاير للشيء الذي يدعى به ذلك المدعو.

إلى غير ذلك من الوجوه التي لا تحتاج إلى الذكر والبيان.

__________________

(١) لاحظ لوامع البينات للرازي: ص ٢١ ـ ٢٢، وشرح المواقف: ج ٨ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨، وشرح المقاصد للتفتازاني: ج ٢ ص ٦٩ ـ ٧٠.

٣٨

بيان آخر لوحدة الاسم والمسمّى

نعم هناك بيان آخر لتوحيد الاسم مع المسمّى غير معتمد على اصطلاح الأشعري من تفسير الاسم بالمدلول الذي هو متّحد مع المسمّى، وهذا الوجه هو ما أشار إليه علماء العرفان من أنّ كلاًّ من العالم والقادر والخالق ليس اسماً للذات المقدسة بل اسم للاسم، والاسم للذات المقدسة هو الذات المنكشفة بحقيقة العلم أو القدرة.

توضيح ذلك: إنّه قد يطلق الأسم على اللفظ الدال على الذات المتّصفة بوصف الكمال، دلالة بالجعل والمواضعة وعندئذ يكون الاسم من قبيل الألفاظ والمسمّى من قبيل الأمر الخارجي، وعلى ذلك فلا مسوّغ للبحث عن الاتحاد.

وقد يطلق على الذات المنكشفة، بوصف من صفاته الكمالية وذلك لأنّ ذاته سبحانه مبهمة في غاية الإبهام غير معروفة لأحد من خلقه، وإنّما تعرف عن طريق صفاته الجمالية، ولولا الصفات لما عرف سبحانه بوجه، وعلى ذلك يكون المراد من الاسم هو الحقيقية الخارجية المبهمة غاية الابهام، المنكشفة لنا بواحد من صفاته وعلى هذا يكون المراد من الاسم الذات المنكشفة، والمراد من الوصف نفس الكمال الواقعي، والاسم والوصف بهذا المعنى ليسا من الأمور الملفوظة أو الذهنية بل من الاُمور الواقعيّة الحقيقيّة العينيّة وعندئذ يكون ألفاظ الحي، والقادر، والعالم أسماء للاسم، كما يكون الحياة، والقدرة، والعلم أوصافاً للوصف لا أسماء وصفاتاً لذاته سبحانه، فالاسم نفس المسمّى لكن اسم الاسم غيره، وهذا المعنى الدقيق العرفاني لا يقف عليه إلّا من له قدم راسخ في الأبحاث العرفانية وأين هو من تفسير الشيخ، الاسم بالمدلول والحكم بأنّ المدلول نفس المسمّى ؟

وعلى أيّ تقدير فالظاهر من الروايات أنّ القول بالاتحاد كان ذائعاً في عصر أئمّة أهل البيت وما ذكره الشيخ الأشعري كان توجيهاً لتلك العقيدة الباطلة وإن كان أصحابها غافلين عن ذلك التوجيه، وإليك ما روي عنهم: في

٣٩

ذلك الباب :

١ ـ روى الكليني عن عبد الاعلى، عن أبي عبد الله7 قال: « اسم الله غيره، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء »(١) فهو مخلوق ما خلا الله، فأمّا ما عبّرته الألسن أو ما عملت الأيدي فهو مخلوق ـ إلى أن قال ـ: والله خالق الأشياء لا من شيء كان، والله يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره(٢) .

٢ ـ روي الكليني عن علي بن رئاب، عن أبي عبد الله7 قال :

« من عبد الله بالتوهّم فقد كفر.

ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر.

ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك.

ومن عبد المعنى بايقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه، ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّاً »(٣) .

ترى أنّه7 يقسّم العابد حسب اختلاف المعبود إلى أقسام :

الف ـ فمن عابد لله سبحانه لكن بالتوهّم والشك فهو كافر بالله لأنّ الشك كفرٌ به.

ب ـ ومن عابد للاسم أي الحروف أو المفهوم الوضعي معرضاً عن المعنى المعبّر عنه فقد كفر أيضا لأنّه لم يعبد المعبّر عنه بالاسم لأنّ الحروف والمفهوم غير الواجب الخالق للكلّ فإنّما الاسم بلفظه ومفهومه تعبير عن المعنى المقصود.

__________________

(١) أي لفظ « الشيء ».

(٢) الكافي: ج ١ باب حدوث الأسماء ص ١١٢ الحديث ٤، وتوحيد الصدوق باب أسماء الله: ص ١٩٢ الحديث ٥.

(٣) الكافي: ج ١ باب المعبود ص ٨٧ الحديث ١.

٤٠

وكان جلوسه فيه في سنة تسع وثلاثين ومائتين، ثم دعا بالطعام وحضر الندماء وسائر المغنين والملهين، وأكل الناس. ورام النوم فما تهيأ له، فقال له الفتح: يا مولاي، ليس هذا يوم نوم، فجلس للشرب. فما كان الليل رامَ النوم، فما أمكنه فدعا بدهن بنفسج، فجعل منه شيئاً على رأسه وتنشقه فلم ينفعه.

فمكث ثلاثة أيام بلياليها لم ينم، ثم حُمَّ حُمَّى حَادَّة، فانتقل إلى الهاروني قصر أخيه الواثق، فأقام به ستة أشهر عليلاً، وأمر بهدم البرج ».

ما قيمة الخلافة إذا كان الخليفة مُنْحَطاً!

عملت الحكومات على نسج هالة كاذبة على شخصية الخليفة، واخترعت له صفات ومناقب، لتتناسب شخصيته مع لقبه الرسمي: خليفة رسول الله (ص).

بل جعلوه خليفة الله تعالى، وفضلوه على رسول الله (ص)! فقد سمى معاوية نفسه « خليفة الله » وقال: « الأرض لله وأنا خليفة الله، فما أخذت من مال الله فهولي، وما تركت منه كان جائزاً لي! فقال صعصعة:

تُمَنِّيكَ نفسُكَ ما لا يكونُ

جهلاً معاويَ لا تأثمِ ».

« مروج الذهب: ٣ / ٥٢، وجمهرة خطب العرب: ١ / ٤٤٥ ».

وفي أنساب الأشراف للبلاذري / ١١٠٩: « فقال صعصعة بن صوحان: ما أنت وأقصى الأمة في ذلك إلا سواء، ولكن من ملك استأثر! فغضب معاوية وقال: لهممتُ! قال صعصعة: ما كل من هَمَّ فعل! قال: ومن يَحُولُ بيني وبين ذلك؟! قال: الذي يحول بين المرء وقلبه، وخرج »!

٤١

وفَضَّلَ علماء البلاط والرواة الخليفة الأموي على الرسول الهاشمي (ص)!

ففي سنن أبي داود « ٢ / ٤٠٠ »: « عن الربيع بن خالد الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه، أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: لله عليَّ ألا أصلي خلفك صلاة أبداً وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنك معهم »! « والنهاية: ٩ / ١٥١، وتاريخ دمشق: ١٢ / ١٥٨ ».

وقال ابن حزم في الإحكام « ٤ / ٥٨١ »: « أوَليس ابن عباس يقول: أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض! أقول لكم قال رسول الله (ص)، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! وكان إسحاق بن راهويه يقول: من صح عنده حديث عن النبي (ص) ثم خالفه يعني باعتقاده، فهوكافر ».

أقول: المتوكل نموذجٌ للحاكم القرشي الذين عظَّموه وضخَّموه! وقد كان متجاهراً بالفحشاء، غارقاً في الدُّون من قرنه الى قدمه، ومن أصله الى فصله.

كانت عقيدة المتوكل وسياسته مضادةً لآبائه!

كان الخلفاء العباسيون الى الواثق مُنَزِّهِين لله تعالى، يرفضون أفكار التجسيم وأحاديثه الموضوعة. ومنها مقولة أن القرآن قديمٌ لأنه كلام الله تعالى وجزءٌ منه!

فقد أجاب المنزهة على هذه المقولة بأن الله تعالى وجودٌ غير مركب، والقرآن كلامه المخلوقٌ، وكل شئ ما عداه عز وجل فهومخلوق.

وأمر المأمون بتأديب من يقول بقدم القرآن لأنه يجعله إلهاً مع الله تعالى!

٤٢

ونهى أن يعطى منصباً في الدولة. وتابع المعتصم سياسة أخيه المأمون، فكان يمتحن العلماء في القول بقدم القرآن. وواصل الواثق سياسة أبيه المعتصم.

لكن المتوكل خالفهم فجمع العلماء المشبِّهين والمجسمين، وشجعهم وأغدق عليهم، وقمع العلماء المنزهين وأهملهم!

من جهة أخرى، قامت حركة العباسيين والحسنيين على الدعوة الى الرضا من آل محمد (ص) أي بني هاشم، والبراءة من بني تَيْمٍ وعَدِيٍّ وأمية.

لكن المنصور بعد أن ثار عليه الحسنيون، أمر المحدثين والفقهاء والولاة أن لا يَرْوُوا شيئاً في فضائل علي (ع)، ولا شيئاً يطعن بأبي بكر وعمر، وأن يفضلوهما عليه، وأن يضيفوا مدح أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة وقال: « والله لأرغمن أنفي وأنوفهم، وأرفع عليهم بني تيم وعدي ». « منهاج الكرامة / ٦٩ ».

واستمرت سياسته حتى جاء المأمون، فأعلن فضائل علي وأبنائه (ع).

ولما جاء المتوكل خالف أسلافه المأمون والمعتصم والواثق، ورفع راية العداوة لعلي وأبنائه (ع)، واضطهدهم، وهدم قبر الحسين (ع) ومنع زيارته، ومنع زيارة قبر أمير المؤمنين (ع) في النجف الأشرف وقيل هدمه. ومنع زيارة قبر موسى بن جعفر (ع) في بغداد. وقَرَّبَ النواصب ودعمهم مادياً ومعنوياً.

٤٣

وَضَعَ المتوكل خطةً واسعة لنشر النُّصْب والتجسيم

فقد نفذ سياسةً متشددة لإحياء النصب الأموي والتجسيم، وقامت سياسته على تبني علماء النصب والتجسيم وإغداق المال والجوائز عليهم، وإعطائهم المناصب الكبيرة، ليؤثروا في ثقافة الناس.

وقام بتكوين حركة باسم أهل الحديث بقيادة الشاب ابن صاعد، وهي أشبه بميليشا مسلحة، تقوم بقمع الشيعة في بغداد!

ثم قام باختيار أحد العلماء الشَّيَبَة المعروفين، وهو أحمد بن حنبل، ليكون مرجعاً دينياً للدولة، وغطاءً شرعياً للمتوكل وأتباعه.

كما تَبَنَّي كُتب النصب والتجسيم وعممها على الناس، فقد تبنى مسند أحمد، ثم ارتضى أحمد صحيح محمد بن إسماعيل البخاري فصار الكتاب الرسمي للدولة!

كما قمعَ الأشعرية والمعتزلة، وحرم إعطاءهم المناصب، وضيَّق عليهم.

ثم تفنن في قمع الشيعة، ففرض الإقامة الجبرية على إمامهم الهادي (ع) في سامراء، وعمل لقتله.

واضطهد العلويين قاطبة وأفقرهم وشردهم وسجنهم. واضطهد شيعتهم، ومنعهم من زيارة المشاهد المشرفة لأئمتهم (ع)، خاصة زيارة قبر الحسين (ع) بكربلاء، وقبر أمير المؤمنين (ع) في النجف، وقبرالكاظم (ع) ببغداد، وضيق على جامع بُراثا، وهوالجامع المركزي للشيعة في بغداد.

٤٤

كان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب (ع)

قال ابن الأثير في الكامل « ٦ / ١٠٨ »: « وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم! وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه وهوأصلع، ويرقص بين يدي المتوكل، والمغنون يغنون:

قد أقبل الأصلع البدين، خليفة المسلمين، يحكي بذلك علياً!

والمتوكل يشرب ويضحك! ففعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر، فأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه، فقال المتوكل ما حالك؟ فقام وأخبره، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هوابن عمك، وشيخ أهل بيتك وبه فخرك! فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه! فقال المتوكل للمغنين: غنوا جميعاً:

غَارَ الفَتَى لابنِ عَمِّهْ

رأسُ الفَتى في حَرِ أمِّهْ »!

وقال النويري في نهاية الأرب « ٢٢ / ٢٨٢ »: « في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأمر أن يسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادى في الناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثالثة حبسناه في المِطبق « سجن مظلم تحت الأرض » فهرب الناس وتركوا زيارته، وحُرث وزُرع!

٤٥

وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ولأهل بيته، وكان يقصد من يتولى علياً وأهل بيته بأخذ المال والروح! وكان من جملة ندمائه عبَّادة المخنث، وكان أصلع فيشد تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه ويرقص والمغنون يغنون ».

وروى ذلك عمر بن الوردي في تاريخه « ١ / ٢١٦ »، وقال: « وكان يجالس من اشتهر ببغض علي، كابن الجهم الشاعر، وأبي السمط، وكان من أحسن الخلفاء سيرةً، ومنع القول بخلق القرآن، فغطى ذمه لعليٍّ على حسناته. قلت:

وكم قد مُحِي خيرٌ كما انمحتْ

ببغض علي سيرة المتوكل

تعمق في عدلٍ ولما جنى على

جناب عليٍّ حطه السيلُ من علِ »

ولا ندري ماذا رأى ابن الوردي من « عدالة » المتوكل! وقد روى بغضه لعلي (ع) عامة المؤرخين، فهوشهادةٌ متواترةٌ بأنه ناصبيٌّ منافق، وقد قال ابن حجر في فتح الباري « ١ / ٦٠ »: « وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي (ص) قال له: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ».

وقال في فتح الباري « ٧ / ٥٧ »: « وفي الحديث تلميحٌ بقوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، فكأنه أشار إلى أن علياً تام الإتباع لرسول الله (ص) حتى اتصف بصفة محبة الله له، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق ». كما رووا أن من يبغض علياً (ع) لا يكون ابن أبيه! ففي الصحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري: قال رسول الله (ص): « بَوِّروا أولادكم بحب علي بن أبي طالب أي اختبروا طيب ولادتهم بحبه. وقال جابر: كنا نُبَوِّرُ أولادنا بحب علي ».

٤٦

« غريب الحديث لابن الجوزي: ١ / ٩٠، والنهاية لابن الأثير: ١ / ١٦١، ولسان العرب: ٤ / ٨٧، وتاج العروس: ١٠ / ٢٥٧، وتهذيب اللغة: ١٥ / ١٩١ ».

وروى المسعودي في مروج الذهب « ٢ / ٦٥ » قصة دُلف بن أبي دلف في بغض علي (ع) وقال: « وجمعتُ طرق الحديث: لاينتقصُ عليّاً أحد إلا كان لغير رَشْدَةٍ، الوارد فيها، فرواه من نيف وستين طريقاً ». وتاريخ بغداد: ١٢ / ٤١٨، وتاريخ دمشق: ٤٩ / ١٥٠.

وقد روى ذلك عن أبي دلف ابن كثير، فقال في النهاية « ١٠ / ٣٢٣ »: « وكان يقول: من لم يكن متغالياً في التشيع فهو ولد زنا. فقال له ابنه دلف: لستُ على مذهبك يا أبة. فقال: والله لقد وطأت أمك قبل أن أشتريها، فهذا من ذاك »!

وفي مناقب آل أبي طالب « ٢ / ١٠ »: « عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أحمد قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: قال أنس بن مالك: ما كنا نعرف الرجل لغير أبيه إلا ببغض علي بن أبي طالب كان الرجل من بعد يوم خيبر يحمل ولده على عاتقه ثم يقف على طريق علي، فإذا نظر إليه أومى بإصبعه: يا بنيَّ تُحِبُّ هذا الرجل؟فإن قال نعم، قبله، وإن قال لا قال له: إلحق بأمك »!

وفي تاريخ دمشق « ٤٢ / ٢٨٧ »: « عن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه قال: كنا نُبَوِّرُ « نمتحن » أولادنا بحب علي بن أبي طالب، فإذا رأينا أحداً لا يحب علي بن أبي طالب، علمنا أنه ليس منا، وأنه لغير رَشْدَة ».

أقول: كفى بذلك حكماً من النبي (ص) بأصل المتوكل، الذي زعموا أنه خليفة رسول الله (ص)، ومحيي سنته، وجعلوه قطب أولياء الله المتقين، معاذ الله!

٤٧

قَرَّبَ المتوكل العلماء المجسمين والنواصب وأغدق عليهم

قال الخطيب البغدادي في تاريخه « ٣ / ١٤٧ »: « عن محمد بن يحيى الصولي قال: في سنة أربع وثلاثين ومائتين، نهى المتوكل عن الكلام في القرآن، وأشخص الفقهاء والمحدثين إلى سر من رأى، منهم القاضي التيمي البصري، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وابنا أبي شيبة، ومصعب الزبيري ووصلهم ».

وقال في تاريخ بغداد « ١٠ / ٦٧ »: « حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: سنة أربع وثلاثين ومائتين فيها أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، فكان فيهم مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة الكوفيان، وهما من بني عبس، وكانا من حفاظ الناس، فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية! فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور، ووضع له منبر واجتمع عليه نحومن ثلاثين ألفاً من الناس. فأخبرني حامد بن العباس أنه كتب عن عثمان بن أبي شيبة. وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة، وكان أشد تقدماً من أخيه عثمان، واجتمع عليه نحومن ثلاثين ألفاً ».

وقال الذهبي في سيره « ١٢ / ٣٤ »: « وفي سنة ٢٣٤ ، أظهر المتوكل السنة، وزجر عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار، واستقدم المحدثين إلى سامراء، وأجزل صلاتهم، ورووا أحاديث الرؤية والصفات ».

٤٨

وفي كتاب العلل لأحمد بن حنبل « ١ / ٨٠ »: « استقدم المتوكل المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وأمرهم أن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية! وتوفر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه، والتعظيم له، حتى قال قائلهم: الخلفاء ثلاثة: أبوبكر الصديق في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم ».

وقال ابن تميم التميمي في المحن / ٢٧١: « ونفى كل بدعة، وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المجالس، فصرف الله ذلك كله به، فكان يبعث إلى الآفاق فيؤتى إليه بالفقهاء والمحدثين، فخرَّج كل واحد منهم بثلاثين حديثاً في تثبيت القدر، وثلاثين حديثاً في الرؤية، وغير ذلك من السنن، فتعلمها الناس حتى كثرت السنن وفشَت ونمَت، وطُغيت البدعة وذلَّت ».

أقول: هذه النصوص صريحةٌ في أن لقب « محيي السنة » الذي أعطوه للمتوكل، معناه إحياء أحاديث التجسيم التي يسمونها أحاديث الصفات والرؤية، وإحياء البغض الأموي لأهل البيت (ع) ونصب العداوة لهم.

لاحظ قول الراوي: فخرَّج كل واحد منهم بثلاثين حديثاً في تثبيت القدر، وثلاثين حديثاً في الرؤية! فمن أين جاؤوا بها؟!

لعل أصلها حديثان، ثم نسجوا عليهما! قال الذهبي في سيره « ٨ / ١٠٣ »: « قال ابن القاسم: سألت مالكاً عمن حدث بالحديث الذي قالوا: إن الله خلق آدم على صورته، والحديث الذي جاء: إن الله يكشف عن ساقه وأنه يدخل يده في جهنم

٤٩

حتى يخرج من أراد، فأنكر مالك ذلك إنكاراً شديداً ونهى أن يحدث بها أحد! فقيل له إن ناساً من أهل العلم يتحدثون به فقال: من هو؟ قيل ابن عجلان عن أبي الزناد، قال: لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالماً وذكر أبا الزناد فقال: لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات ».

ومعنى كلامه أن الراوي الأصلي لهذا الحديث أبو الزناد وهو متهم، لأنه كان عاملاً عند بني أمية، فهو موظف عندهم ينشر أحاديث التجسيم لكعب الأحبار وغيره من اليهود! وهو نص على أن الدولة الأموية تبنت تجسيم اليهود من القرن الأول ودسته في أحاديث النبي (ص) ووظفت رواة ينشرونه في المسلمين!

وكلُّ واحدٍ من الرواة والفقهاء الذين جمعهم المتوكل من البلدان، داعيةٌ من دعاة التجسيم والنصب! فمصعب الزبيري وابن أخيه الزبير بن بكار، مؤلفان معروفان بتعصبهما ونصبهما لأهل البيت (ع). وعثمان بن أبي شيبة صاحب المسند الذي أكثر فيه من أحاديث النصب والتجسيم الخ. وابن أبي الشوارب: أموي من بني العاص جعله المتوكل قاضي القضاة في سامراء وفي نفس الوقت قاضياً في بغداد، وهو أستاذ الشاب ابن صاعد الذي جعله المتوكل شيخ أهل الحديث في بغداد.

وهشام بن عمار الذي سموه محدث الشام، وعظَّمَهُ المتوكل، كان يبيع الحديث بالصفحة! ورووا عنه أحاديث التجسيم، ورووا عنه وقاحته، وسيأتي ذكره.

٥٠

أسس حزب أهل الحديث أو الصاعدية

أسس المتوكل مجموعة في بغداد من العوام الخشنين وسماهم: أهل الحديث، والمحدثين، وأهل السنة. وسماهم المسلمون: مجسمة الحنابلة، والنواصب.

وروى الذهبي سخرية البغوي الإمام المعروف، من إسم أهل الحديث، ومن رئيسهم ابن صاعد، فقال في سير أعلام النبلاء: « ١٤ / ٤٤٩ »: « اجتاز أبوالقاسم البغوي بنهر طابَق على باب مسجد، فسمع صوت مُسْتَمْلٍ فقال: من هذا؟ فقالوا: ابنُ صاعد. قال: ذاك الصبي! قالوا: نعم. قال: والله لا أبرحُ حتى أُملي هاهنا! فصعد دكةً وجلس، ورآه أصحاب الحديث فقاموا وتركوا ابن صاعد. ثم قال: حدثنا أحمد بن حنبل قبل أن يولد المحدثون! وحدثنا طالوت قبل أن يولد المحدثون! وحدثنا أبونصر التمار فأملى ستة عشر حديثاً عن ستة عشر شيخاً، ما بقي من يروي عنهم سواه »!

يقول البغوي: أن هؤلاء الصبيان الذين سمَّوْهم المحدثين، إنما هم أحداث، لا علم عندهم، وقد جمعهم المتوكل حول أحمد بن حنبل، وجعله إماماً لهم!

ومعنى قوله: حدثنا أحمد بن حنبل قبل أن يولد المحدثون! أن الحديث والمحدثين كانوا قبل هذه الفئة الذين سموا أنفسهم أهل الحديث، وأحمد بن حنبل نفسه كان محدثاً، ولم يكن إمام فئة تسمى أهل الحديث.

فالمتوكل هوالذي حَنْبَلهم، وجعل ابن حنبل إماماً لهم، فصارالإمام أحمد.

٥١

والمتوكل هوالذي بَخَّرهم، فقد تبنى أحمد ومسنده، وتبنى أحمد البخاري، فصار كتابه الصحيح الرسمي مع مسند أحمد.

وابن صاعد الذي سخر منه البغوي هو: يحيى بن محمد بن صاعد. وهو غلامٌ عباسي معرق، فجده من غلمان أبي جعفر المنصور. « كتاب العرش لابن أبي شيبة / ٢٦ ».

وتعرف طريقة تفكير ابن صاعد وحزبه المتطرف، من قصته مع الحافظ الإمام ابن عقدة، المشهود له عند جميع المسلمين!

ففي تاريخ بغداد « ٥ / ٢٢١ »: « روى ابن صاعد ببغداد في أيامه حديثاً أخطأ في إسناده، فأنكر عليه ابن عقدة الحافظ، فخرج عليه أصحاب ابن صاعد وارتفعوا إلى الوزير علي بن عيسى، وحبس بن عقدة فقال الوزير: من يَسأل « ابن صاعد » ويَرجع إليه؟ فقال: ابن أبي حاتم، قال فكتب إليه الوزير يسأله عن ذلك فنظر وتأمل، فإذا الحديث على ما قال ابن عقدة، فكتب إليه بذلك، فأطلق ابن عقدة وارتفع شأنه.

سمعت بن الجعابي يقول: دخل ابن عقدة بغداد ثلاث دفعات، فسمع في الدفعة الأولى من إسماعيل القاضي ونحوه، ودخل الثانية في حياة ابن منيع وطلب مني شيئاً من حديث يحيى بن صاعد لينظر فيه، فجئت إلى ابن صاعد وسألته أن يدفع إليَّ شيئاً من حديثه لأحمله إلى ابن عقدة، فدفع إليَّ مسند علي بن أبي طالب فتعجبت من ذلك، وقلت في نفسي كيف دفع إلي هذا وابن عقدة أعرف الناس به مع اتساعه في حديث الكوفيين، وحملته إلى ابن عقدة فنظر فيه

٥٢

ثم رده عليَّ فقلت: أيها الشيخ هل فيه شئ يستغرب؟ فقال: نعم فيه حديث خطأ فقلت: أخبرني به، فقال: والله لا أعرفنك ذلك حتى أجاوز قنطرة الياسرية، وكان يخاف من أصحاب ابن صاعد!

فطالت عليَّ الأيام انتظاراً لوعده، فلما خرج إلى الكوفة سرت معه، فلما أردت مفارقته قلت: وعدك؟ قال: نعم، الحديث عن أبي سعيد الأشج، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. ومتى سمع منه؟! وإنما ولد أبوسعيد في الليلة التي مات فيها يحيى بن زكريا بن أبي زائدة!

فودعته وجئت إلى ابن صاعد فقلت له: ولد أبوسعيد الأشج في الليلة التي مات فيها يحيى بن زكريا بن أبي زائدة! فقال: كذا يقولون، فقلت له: في كتابك حديث عن الأشج عنه، فما حاله؟فقال لي: عَرَّفك ذلك ابن عقدة؟ فقلت: نعم فقال: لأجعلن على كل شجرة من لحمه قطعةً!

ثم رجع يحيى إلى الأصول، فوجد الحديث عنده عن شيخ غير أبي سعيد، عن ابن أبي زائدة، وقد أخطأ في نقله، فجعله على الصواب ».

فقد كان ابن عقدة من كبار علماء الشيعة، وكان حفظه عجيباً، وقد خضع له المحدثون، وألَّف الذهبي في ترجمته كتاباً، وقال عنه في سيرأعلام النبلاء: « ١٥ / ٣٤٠ »: « الحافظ العلامة، أحد أعلام الحديث، ونادرة الزمان، وصاحب التصانيف، وهوالمعروف بالحافظ ابن عقدة. وكَتب عنه ما لا يُحد ولا يُوصف من خلقٍ كثير بالكوفة وبغداد ومكة، وجمع التراجم والأبواب والمشيخة، وانتشر حديثه وبعد

٥٣

صيته ». وقال عنه في تذكرة الحفاظ « ٣ / ٣٨٩ »: « حافظ العصر، والمحدث البحر، أبوالعباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي. كان إليه المنتهى في قوة الحفظ، وكثرة الحديث، وصنَّف وجمع وألَّف، في الأبواب والتراجم ».

وكان ابن عقدة (رحمه الله) يسكن الكوفة، ويأتي الى بغداد ويحدث في مسجد براثا، فصحَّح خطأً لابن صاعد، فحرك ابن صاعد مجسمة الحنابلة، فألزموا حاكم بغداد بحبسه! ولا بد أن ابن عقدة أقنع الوزير أن يسأل أستاذ ابن صاعد عن المسألة، فسأله فظهر الحق مع ابن عقدة، فأطلقه وارتفعت مكانته.

ثم نقل عن الجعابي أنه جاء الى ابن عقدة ببعض أحاديث ابن صاعد، فوجد فيها خطأ، فطلب الجعابي أن يخبره به، فامتنع ابن عقدة لأن ذلك يحرك عليه ابن صاعد وسفهاءه، وقال له سأعطيك خطأه عندما أغادر بغداد الى الكوفة، وأصل الى قنطرة الياسرية، خارج بغداد!

ولما أخبر الجعابي ابن صاعد بخطئه الواضح، فبدل أن يشكره ويشكر ابن عقدة تأسف لأنه أفلت منه، ثم توعده بقوله: لأجعلن على كل شجرة من لحمه قطعةً ! وهذا يدل على طبيعة ابن صاعد العدوانية هو وجماعته، وأنهم أهل شر لا علم! فقد كانوا مجموعة متخصصة بالمشاكل، ولهم أدوار في مهاجمة مجالس الشيعة في بغداد خاصة في جامع براثا والكرخ، ثم في هدم قبر الحسين (ع).

٥٤

وقد تحولوا الى مذهب متطرف، وتسموا بالصاعدية! قال المقدسي في البدء والتاريخ « ٥ / ١٤٩ »: « وأما الصاعدية فهم أصحاب ابن صاعد، يجيزون خروج أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، لأنه روى: لا نبيَّ بعدي إلا ما شاء الله »!

الصاعدية أجداد الوهابية!

قال ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه « ١ / ١٠٤ »: « ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبوعبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب!

ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحمَلوا الصفات على مقتضى الحسّ، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورةً ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات، وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات، ويديْن وأصابع وكفاً، وخنصراً وإبهاماً، وصدراً وفخذاً، وساقين ورجلين. وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس. وقالوا يجوز أن يَمُسَّ ويُمَس، ويدني العبد من ذاته!

وقال بعضهم: ويتنفس! ثم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل، وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسميةً مبتدعة، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل، حتى قالوا صفة ذات.

ثم، لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا لا نحملها على توجيه اللغة، مثل يد على نعمة وقدرة، ومجئ وإتيان على معنى بر ولطف، وساق على شدة، بل قالوا نحملها على

٥٥

ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشئ إنما يحمل على حقيقته، إذا أمكن.

ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السنة! وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلقٌ من العوام!

فقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهوتحت السياط: كيف أقول ما لم يُقل! فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه.

ثم قلتم في الأحاديث: تحمل على ظاهرها، وظاهر القدم الجارحة، فإنه لما قيل في عيسى روح الله اعتقدت النصارى أن لله صفة هي روحٌ ولجت في مريم! ومن قال استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات!

وينبغي أن لا يهمل ما يثبت به الأصل وهوالعقل، فإنا به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقدم، فلوأنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت، ما أنكر عليكم أحد إنما حملكم إياها على الظاهر قبيحٌ، فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه.

ولقد كسيتم هذا المذهب شيناً قبيحاً، حتى صار لا يقال حنبلي إلا مجسم!

ثم زينتم مذهبكم أيضاً بالعصبية ليزيد بن معاوية، ولقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته، وقد كان أبومحمد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهب شيناً قبيحاً، لا يغسل إلى يوم القيامة »!

ويقصد بأئمتكم أبا يعلى الموصلي، قال أبو الفداء « ٢ / ١٨٦ »: « وكان ابن التميمي الحنبلي يقول: لقد خريَ أبويعلي بن الفراء على الحنابلة خريةً لا يغسلها الماء »!

٥٦

أعطوا المتوكل لقب محي السنة، وقطب الظاهر والباطن!

ذكرت مرةً لأحد علماء الوهابية أن المتوكل كان ناصبياً يبغض علياً (ع) وكان خماراً، فاستنكر وقال: كلا، إنه عندنا محي السنة، ومذل النصارى والزنادقة!

وقال ابن كثير في النهاية « ١٠ / ٣٨٧ »: « وكان المتوكل محبباً إلى رعيته، قائماً في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصدِّيق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية. وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله. وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهوجالس في نور، قال فقلت: المتوكل؟ قال: المتوكل. قلت: فما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بقليل من السنة أحييتها »!

وقد اشتهر لقبه محيي السنة وتفاخر به العوام المجسمة، وتقرب اليهم الصوفية فأعطاه ابن عربي أعلى لقب في التصوف والعرفان وهو: القطب الرباني والغوث!

قال في فتوحاته المكية: ٢ / ٦، وفي الطبعة الجديد: ١١ / ٢٧٥: « وقد يسمى رجل البلد قطب ذلك البلد، وشيخ الجماعة قطب تلك الجماعة، ولكن الأقطاب المصطلح على أن يكون لهم هذا الإسم مطلقاً من غير إضافة، لا يكون منهم في الزمان إلا واحد، وهوالغوث أيضاً وهو من المقربين، وهوسيد الجماعة في زمانه. ومنهم من يكون ظاهر الحكم ويحوز الخلافة الظاهرة، كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والحسن، ومعاوية بن يزيد، وعمر بن عبد العزيز، والمتوكل! ومنهم من له الخلافة الباطنة خاصة ولا حكم له في

٥٧

الظاهر، كأحمد بن هارون الرشيد السبتي، وكأبي يزيد البسطامي. وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر »!

أقول: لا بد أن ابن عربي قرأ سيرة المتوكل من تاريخ الطبري وأمثاله، وقرأ عن فسقه وخمره، وقرأ عن تخنثه ونصبه، لكنه أصيب بعمى التقرب لمحبيه، فجعله كبير أولياء الله تعالى! وكفى بذلك طعناً في مبدئية ابن عربي وفكره!

كيف كان المتوكل يدير الدولة؟

كان النمط السائد للإدارة في العالم: أن الملك هوالمقاول الأكبر، فيختار وزيره الأول لينفذ أوامره، ويجبي الماليات من الحكام. ثم يختار حكام الولايات، ويتفق مع الواحد منهم على المبلغ السنوي عن المنطقة التي تحت يده.

فالمسألة الأولى في الحكم هي الماليات التي تصل الى الحاكم الصغير ثم الكبير. قال الطبري « ٧ / ٣٨٤ »: « كان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل، وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج، فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى، يذكر أنهما قد خانا وقصرا فيما هما بسبيله، وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم!

فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية وقال: يا نجاح، خذل الله من يخذلك فبكر إليَّ غداً حتى أدفعهما إليك، فغدا وقد رتب أصحابه وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا فلان خذ أنت موسى، فغدا نجاح إلى المتوكل فلقي عبيد الله وقد

٥٨

أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل، فقال له: يا أبا الفضل إنصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر، وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح. قال: وما هو؟ قال: أصلح بينك وبينهما وتكتب رقعة تذكر فيها أنك كنت شارباً، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين! فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به فأدخلها على المتوكل وقال: يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عما قال البارحة، وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا، فتأخذ ما ضمنا عنه، ثم تعطف عليهما فتأخذ منهما قريباً مما ضمن لك عنهما، فَسُرَّ المتوكل وطمع فيما قال له عبيد الله، فقال: إدفعه إليهما، فانصرفا به وأمرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزاً، فوجد البرد فقال: ويحك يا حسن قد وجدت البرد، فأمر بوضع قلنسوته على رأسه وصار به موسى إلى ديوان الخراج، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد، فأُخذ أبوالفرج وهرب أبومحمد ابن بنت حسن بن شنيف، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطربلي وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب، وكان انقطاعه إلى نجاح، فأقر لهما نجاح وابنه بنحومن مائة وأربعين ألف دينار، سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما، بسامرا وبغداد، وسوى ضياع لهما كثيرة!

فأمر بقبض ذلك كله، وضرب مراراً بالمقارع في غير موضع الضرب، نحواً من مائتي مقرعة، وغُمز وخُنق، خنقه موسى الفرانق والمعلوف.

٥٩

فأما الحارث فإنه قال: عَصَرَ خصيتيه حتى مات، فأصبح ميتاً يوم الإثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فأمر بغسله ودفنه فدفن ليلاً.

وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد، وإسحاق بن سعد نحواً من خمسين خمسين، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار، وأقر عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار، وقيل عشرين ألف دينار، وكان ابنه أحمد بن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح، فحبس في الديوان وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما. وأخذ وكيله بناحية السواد وهوابن عياش، فأقر بعشرين ألف دينار.

وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي، وحسن بن يعقوب البغدادي، وأُخذ بسببه قوم فحُبسوا. وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه: ذُكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان عبيد الله متمكناً من المتوكل واليه الوزارة وعامة أعماله، وإلى نجاح توقيع العامة، فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري، قال له نجاح وكان في الندماء وقال: يا أمير المؤمنين أسمي لك قوماً تدفعهم إليَّ حتى أستخرج لك منهم أموالاً تبني بها مدينتك هذه، فإنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره ويجل ذكره؟

فقال له: سمهم، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك، وعيسى بن فرخانشاه، خليفة الحسن بن مخلد، والحسن بن مخلد، وزيدان بن إبراهيم خليفة موسى بن عبد الملك، وعبيد الله بن يحيى وأخويه عبد الله بن يحيى

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477