الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام8%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158605 / تحميل: 7007
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

قميصك أكفنّه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له.

فأعطاه النبيّ قميصه، فقال: آذنّي اُصلّي عليه.

فآذنه، فلمّا أراد أن يصلّي عليه جذبه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين؟

فقال: أنا بين خيرتين، قال: ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ) فصلّى عليه (1) .

2 / في صحيح مسلم بسنده عن عروة بن الزبير:

أنّ عائشة زوج النبيّ قالت:

إعتمّ ـ أي أبطأ ـ رسول الله ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهي التي تُدعى العتمة، فلم يخرج رسول الله حتّى قال عمر بن الخطّاب نام النساء والصبيان.

فخرج رسول الله فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم: ـ... وما كان لكم أن تتزروا ـ أي تستعجلوا ـ رسول الله على الصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطّاب (2) .

3 / في حلية الأولياء بسنده عن ابن عسيب:

قال: خرج رسول الله ليلاً فدعاني، فخرجت إليه، ثمّ مرّ بأبي بكر، فدعاه فخرج، ثمّ مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتّى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: أطعمنا بُسراً. فجاء بعذقٍ، فوضعه، فأكلوا، ثمّ دعا بماءٍ فشرب فقال: ـ لتُسئلُنَّ عن هذا يوم القيامة.

قال: وأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض، حتّى تناثر البُسر نحو وجه

__________________

(1) صحيح البخاري / أحكام الجنائز / باب الكفن من القميص، ورواه الترمذي أيضاً في سننه / ج 2 / ص 185، والنسائي في سننه / ج 1 / ص 269، وابن ماجه في سننه / باب الصلاة على أهل النفاق، وابن عبد البرّ في الاستيعاب / ج 1 / ص 366.

(2) صحيح مسلم / كتاب المساجد / باب وقت العشائين وتأخيرها.

٢١

رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟

قال: نعم (1) .

هذه نماذج ثلاثة تلاحظ فيها بوضوح سوء الأخلاق وإساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كان قمّة في الأخلاق، وصاحب الخلق العظيم، بشهادة ربّ العالمين.

لذلك أورد عليه السيّد الفيروزآبادي بقوله: ـ

(أقول) أمّا جذب عمر رسول الله صلى الله عليه وآله في الرواية الاُولى لمّا أراد أن يصلّي على عبد الله بن اُبيّ وقوله له أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين، فهو ما فيه دلالة واضحة على تجسّر عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسوء أدبه معه، بل يظهر منه أنّ عمر كان يرى الصلاة على عبد الله أمراً حراماً شرعاً وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قد ارتكب الحرام الشرعي فأراد أن ينهاه عن المنكر.

ولم يكتف بالنهي عنه بالكلام فقط بل نهاه عنه قولاً وعملاً فجذبه وقال له: أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين. ومن المعلوم أنّ من ينهي النبيّ صلى الله عليه وآله عن المنكر فهو يرى نفسه أتقى لله وأورع، وهذا لعمري إن لم يكن كفراً محضاً كما لا يبعد فهو ضلال بيِّن لا محالة لا يرتاب فيه إلّا أهل الضلال.

ولو كان مقصود عمر مجرّد الاستفهام والاطّلاع على السبب الباعث لصلاة النبيّ صلى الله عليه وآله على ابن أُبيّ لتقدّم إليه واستفهمه بالكلام الطيّب، ولم يتجسّر عليه بجذبه عن الصلاة وبالقول الخشن المذكور، وهذا واضح ظاهر.

(وأمّا صياح عمر بن الخطّاب) على النبيّ صلى الله عليه وآله في الرواية الثانية حين تأخّر في الخروج إلى صلاة العشاء كما يظهر من آخر الرواية حيث قال وذلك حين صاح

__________________

(1) حلية الأولياء / ج 2 / ص 27، وذكره العسقلاني في الإصابة / ج 7 / القسم الأوّل / ص 131، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده / ج 5 / ص 81، والطبري في تفسيره / ج 30 / ص 185، وابن سلطان في المرقاة / ج 4 / ص 397 وقال: إنّه رواه البيهقي أيضاً.

٢٢

عمر بن الخطّاب، فهو تجسّر أوضح من الأوّل، غير أنّ الأوّل كان نهياً عن المنكر بزعمه وهذا أمرٌ بالمعروف حيث حرّض النبيّ صلى الله عليه وآله على الخروج إلى صلاة العشاء، وهذا لعمري عجيب من عمر.

ألم يسمع قول الله تبارك وتعالى في سورة الحجرات: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ) (1) .

ألم يسمع قول الله تبارك وتعالى في أوّل السورة: ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (2) .

وقد تقدّم في مطاعن أبي بكر في باب رفع أبي بكر وعمر أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله حتّى نزل النهي أنّهما قد رفعا أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله، حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أن يستعمله على قومه، وأشار الآخر برجلٍ آخر فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ونزل النهي.

(وأمّا أخذ عمر العذق) في الرواية الثالثة وضرب به الأرض حتّى تناثر البُسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوله له إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة، فهو تجسّر على الله ورسوله جميعاً لا على الرسول فقط، وتحقير لنعمة الله جلّ وعلا، فكأنّ البسر كان في نظره شيئاً حقيراً هيّناً لا يعتدّ به فقالَ في حقّه ما قال.

وهو ممّا يدلّ على جهله وقلّة علمه مضافاً إلى تجسّره وعدم كونه شاكراً خاضعاً لأنعم الله تعالى (ولكن الذي) يهوّن الخطب في هذا كلّه أنّ الذي يتجسّر على رسول الله ويقول للنبيّ صلى الله عليه وآله عند مماته حين قال: «ائتوني بكتابٍ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده» إنّه يهجر، أو غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا أو حسبنا

__________________

(1) سورة الحجرات: الآيتان 4 و 5.

(2) سورة الحجرات: الآية 2.

٢٣

كتاب الله، وقد تقدّم التفصيل مشروحاً في باب مستقلّ، فأمثال هذه الاُمور المذكورة هاهنا في هذا الباب هي هيّنة يسيرة جدّاً لا ينبغي التعجّب منها أبداً. انتهى.

وهذه المقارنة البسيطة تكشف لك الفرق الأقصى بين المذهبين؛ مذهب أهل البيت عليهم السلام ومذهب غيرهم.

وتكشف الطريق الحقّ في السلوك الأخلاقي، والمسلك الصحيح في الأدب الإلهي.

وهذا الكتاب محاولة موجزة لبيان جانب قليل، ونزر يسير من عظمة أخلاق أهل البيت عليهم السلام، الذي يتجلّى فيهم، وسيرة الخلق الطيّب الذي مَنَّ الله تعالى به عليهم.

فجعلهم اُسوة الخُلق الطيّب، وقدوة الأدب الرفيع، ونموذج السجايا الكريمة.

رجاء أن يتفضّل الله تعالى علينا بأشعّةٍ من نورهم، ولمحةٍ من أخلاقهم.

إنّه خير هادٍ ودليل، إلى سواء السبيل.

٢٤

2 / أخلاق أهل البيت عليهم السلام

من المباحث الاعتقاديّة والعلميّة معاً مبحث أخلاق أهل البيت عليهم السلام.. فإنّه يلزم علينا أن نعتقد أنّ النبيّ والعترة صلوات الله عليهم أفضل الناس في مكارم الأخلاق، كما أنّهم الأفضل في محاسن الصفات، وفضائل الأعمال، ومراتب الكمال.. هذا عقيدةً.

وأمّا عملاً؛ فينبغي لنا أن نسعى في الاقتداء بهم والتأسّي بجميعهم في الأخلاق الكريمة، والمكارم الفاضلة.

لأنّ أهل البيت سلام الله عليهم ـ هم ليس سواهم ـ القدوة الصالحة، والاُسوة الحقّ من الله للخلق، والطاهرون المطهّرون من كلّ رجسٍ ورذيلة.

قال تعالى: ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (1) .

وقال عزّ اسمه: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) .

ولا يحقّ لنا أن نتأسى أو نتمسّك في الأخلاق وفي سواها بغيرهم عليهم السلام،

__________________

(1) سورة الأحزاب: الآية 21.

(2) سورة الأحزاب: الآية 33.

٢٥

أو نقتدي بسواهم.

لأنّ أهل البيت عليهم السلام هم سفينة النجاة، والمستمسك المنجي الذين اُمرنا بمتابعتهم، وعدل القرآن الذين اُمرنا بالتمسّك بهم في حديث الثقلين، المتّفق عليه بين الفريقين.

لذلك يكون مرجعنا في علوم الأخلاق هو القرآن الكريم، وأحاديث أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم الشريفة.

فلنتعرّف في البداية على أمرين:

الأوّل: ما هي الأخلاق؟

الثاني: ما هي أخلاق أهل البيت عليهم السلام في كتاب الله تعالى وسيرتهم؟

فنقول بعونه وتوفيقه: ـ

الخُلُق: هي السجيّة، والملكات والصفات الراسخة في النفس؛ كالسخاء، والشجاعة، والعفو، والكرم، التي هي من السجايا الطيّبة، والخلق الطيّب.

وحسن الخُلق: يُطلق غالباً على معاشرة الناس بالمعروف، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة.

وأحسن تعريف لحُسن الخلق هو ما عرّفه به الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: ـ

(تُلين جناحَك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن) (1) .

ومكارم الأخلاق: هي الأعمال الشريفة التي توجب كرامة الإنسان، وشرافته، وسموّه، وعزّته، مثل كظم الغيظ، وإصلاح ذات البين، والسبق إلى الفضائل ونحوها ممّا يأتي ذكرها.

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام في مكارم الأخلاق، ذكر منها: ـ

(العفو عمّن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك) (2) .

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 103.

(2) بحار الأنوار / ج 69 / ص 368.

٢٦

ومن أبرز مصاديق مكارم الأخلاق هذه التي ذكرها الإمام عليه السلام، وأحسن آثارها هي مقابلة الإساءة بالإحسان التي ذكرها وأمر بها الله تعالى في قوله عزّ اسمه: ـ ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (1) .

هذا هو: الخُلق الطيّب، وحُسن الخُلق، ومكارم الأخلاق.

وأهل البيت عليهم السلام هم المثلُ الأعلى في جميعها، والبالغون إلى ذروتها.

وهم لا غيرهم كانوا سماء طيب الأخلاق، فاستحقّوا أن يكونوا قدوة الخلق.

وسيّدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أثنى عليه ربّه بقوله عزّ اسمه: ـ ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (2) .

وكانت مكارم الأخلاق من غايات البعثة النبويّة المباركة، وخصوصيّات الرسالة المحمّديّة الشريفة، والمزايا العالية التي نالها رسول الله صلى الله عليه وآله.

ففي الحديث: ـ (إنّ الله تبارك وتعالى خصّ رسول الله صلى الله عليه وآله بمكارم الأخلاق.

فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله جلّ وعزّ، وارغبوا إليه في الزيادة منها) (3) .

بل فاز صلوات الله عليه وآله بقمّة السجايا الطيّبة والأخلاق الفاضلة، فوصفه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله بأجمل بيان: ـ

(كان أجود الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وألينَهم عريكةً، وأكرمهم عِشرةً، مَن رآه بديهةً هابَه، ومَن خالطه أحبّه، لم أرَ مثلَه قَبله ولا بَعده) (4) .

__________________

(1) سورة فصّلت: الآية 34.

(2) سورة القلم: الآية 4.

(3) بحار الأنوار / ج 69 / ص 368.

(4) سفينة البحار / ج 2 / ص 688.

٢٧

وقال عليه السلام في خطبته القاصعة: ـ

(وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.

وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ» (1) .

وحقّاً كان صلى الله عليه وآله أعظم الناس في عظيم الأخلاق وكريم الشيَم.

وحسبُك من ذلك ما أصابه من قريش..

فقد تألّبت عليه، وجرّعته أنواع الغصص، حتّى ألقَتْ عليه مشيمة الرحم القذرة، وأدمت ساقه الشريف، وكسرت رباعيّته المباركة، وضيّقت عليه الحياة في شِعب أبي طالب، وآذته أشدّ إيذاء، وهجمت على داره لقتله في حرم الله تعالى مكّة المكرّمة، حتّى ألجأته إلى مغادرة بلده وأهله، وهجرته إلى المدينة.

ولم تتركه يرتاح حتّى في المدينة، بل أجّجت عليه كلّ برهة حرباً شعواء، وأرصدت لإيذائه أهل الظلم والجفاء..

لكن بالرغم من جميع ذلك لمّا نصره الله تعالى عليهم، وأظفره بهم في فتح مكّة قابلهم بأعظم إحسان وأكبر أمان.

حيث قال لهم: ـ ما تقولون إنّي فاعلٌ بكم؟

قالوا: ـ خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم.

فقال صلى الله عليه وآله: أقول لكم ما قال أخي يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم ـ أي لا توبيخ ـ إذهبوا فأنتم الطلقاء.

حتّى أنّ صفوان بن اُميّة الذي كان من المشركين الذين آذوا النبيّ صلى الله عليه وآله هرب إلى

__________________

(1) نهج البلاغة / الطبعة المصريّة / الخطبة 187.

٢٨

جدّه ليقذف نفسه في البحر، فراراً من الرسول الأعظم.

فقال عمير بن وهب: يا رسول الله إنّ صفوان بن اُميّة سيّد قومه قد خرج هارباً منك فآمنه.

قال صلى الله عليه وآله: هو آمن.

قال عمير بن وهب: ـ أعطني شيئاً يعرف به أمانك.

فأعطاه صلى الله عليه وآله عمامته.

وهذا يكشف عن أعظم سموٍّ أخلاقي وكرَمٍ روحيّ، في عظيم عفوه حين عظيم قدرته.

ومثله كان خلفاؤه الأئمّة المعصومين من أهل بيته الطاهرين عليهم السلام كانوا نموذجاً في سموّ الآداب ومكارم الأخلاق، ومثالاً له في الدعوة إلى حُسن الخليقة، وإنماء الفضيلة، دعوة صادقة، وتربيةً رائقة بأعمالهم وأقوالهم.

نذكر نُبذة منها في هذا الكتاب لتكون دروساً خالدة في الأخلاق الفاضلة والمحاسن الكاملة.

فنستمدّ منها حياةً زكيّة، وروحاً معنويّة، لتهذيب ضمائرنا وصلاحها، وتزكية أنفسنا وفلاحها، فنكون من مصاديق قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) (1) .

وعلى هذا الصعيد السامي نتشرّف بذكر الفصول التالية فيما يلي: ـ

أوّلاً: سيرة أهل البيت عليهم السلام الأخلاقيّة في أعمالهم.

ثانياً: دروسهم الأخلاقيّة في أقوالهم.

ثالثاً: مدرستهم الأخلاقيّة في الصحيفة المباركة السجّاديّة.

وكفى بأهل البيت عليهم السلام أولياء إلهيّين، ومربّين صالحين، وقدوة العالمين للأخلاق

__________________

(1) سورة الشمس: الآية 9.

٢٩

الطيّبة، والآداب الحسنة، والدروس التربويّة في الأدب الإلهي، والخلق الزكيّ.

ففي وصيّة أمير المؤمينن عليه السلام: ـ

(يا كميل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أدّبه الله عزّوجلّ، وهو أدّبني، وأنا أؤدّب المؤمنين، وأورّث الأدب المكرّمين) (1) .

وفي حديثه عليه السلام: ـ

(إنّ الله كريمٌ حليمٌ عظيمٌ رحيم، دلّنا على أخلاقه، وأمرَنا بالأخذ بها وحَمْل الناس عليها.

فقد أدّيناها غير متخلّفين، وأرسلناها غير منافقين، وصدّقناها غير مكذّبين، وقبلناها غير مرتابين) (2) .

وبحقٍّ قد أدّبوا شيعتهم الأبرار، وأصحابهم الكُبّار على الآداب الإلهيّة، والمكارم الأخلاقيّة.

أدّبوهم على مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وعلّموهم مقابلة الإساءة بالإحسان والفضائل المزكية للإنسان، كما تلاحظها في وصاياهم الواقية ومواعظهم الشافية، التي ربَّت جيلاً طيّبين، وعلماء ربّانيّين، ورجالاً صالحين.

وهي ذا شذرات من تلك الأخلاقيّات التي علّمت وهذّبت وربّت اُولئك الشيعة الطيّبين: ـ

1 ـ ما في تعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه، جاء فيه: ـ

(... يا أبا ذرّ احفظ ما أوصيك به تكُن سعيداً في الدُّنيا والآخرة...

يا أبا ذرّ إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخُذ من صحّتك قبل سُقمك، وحياتك قبل موتك، فإنّك

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 269.

(2) بحار الأنوار / ج 77 / ص 418.

٣٠

لا تدري ما اسمك غداً...

يا أبا ذرّ إنّ شرّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة عالمٌ لا يَنتَفِع بعلمه، ومن طلب علماً ليصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنّة...

يا أبا ذرّ... إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرةٍ يخاف أن تقع عليه، وإنّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذبابٌ مرّ على أنفه...

يا أبا ذرّ دَع ما لستَ منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك...

يا أبا ذرّ إخفض صوتك عند الجنائز، وعند القتال، وعند القرآن...

يا أبا ذرّ حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً، وزِنْ نفسك قبلَ أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تُعرض لا تخفى على الله خافية...

يا أبا ذرّ مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل كمثَل الذي يرمي بلا وَتر..

يا أبا ذرّ ما من شابٍّ يدع لله الدُّنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله إلّا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدَّيقاً...

يا أبا ذرّ كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكلّ ما سمع...

يا أبا ذرّ لا يزال العبد يزداد من الله بُعداً ما ساء خُلقه...

يا أبا ذرّ من لم يبال من أين اكتسب المال، لم يُبال الله عزّوجلّ من أين أدخله النار...

يا أبا ذرّ من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر.

قلت: وما الثلاث فداك أبي واُمّي؟

قال: ورعٌ يحجزه عمّا حرّم الله عزّوجلّ عليه، وحلمٌ يردّ به جهل السفيه، وخُلق يداري به الناس.

٣١

يا أبا ذرّ إن سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكّل على الله، وإن سرّك أن تكون أكرم الناس فاتّق الله، وإن سرّك أن تكون أغنى الناس فكُن بما في يد الله عزّوجلّ أوثق منك بما في يديك...

يا أبا ذرّ من صمت نجا، فعليك بالصدق، ولا تخرجنّ من فيك كذبة أبداً...

يا أبا ذرّ سباب المؤمن فُسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كرحمة دمه...

يا أبا ذرّ إيّاك وهجران أخيك، فإنّ العمل لا يتقبّل من الهجران...

يا أبا ذرّ من مات وفي قلبه مثقال ذرّةٍ من كبر لم يجد رائحة الجنّة...

يا أبا ذرّ طوبى لمن تواضع لله تعالى من غير منقصة، وأذلّ نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعَهُ من غير معصية، ورحِمَ أهل الذلّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة.

طوبى لمن صلحت سريرته، وحسنت علانيّته، وعزل عن الناس شرّه.

طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله...) (1) .

2 ـ ما في وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد النخعي رضوان الله عليه: ـ (يا كميل لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا...

يا كميل أحسِن خُلقك، وابسط جليسك ـ أي سُرّه ـ، ولا تنهرَنَّ خادمك.

يا كميل البركة في المال من إيتاء الزكاة، ومواساة المؤمنين، وصلة الأقربين وهم الأقربون لنا...

يا كميل لا تردّ سائلاً، ولو بشقِّ تمرة، أو من شطر عنب...

يا كميل حُسن خلق المؤمن من التواضع، وجماله التعفّف، وشرفه الشفقة،

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 74.

٣٢

وعزّه ترك القيل والقال.

يا كميل إيّاك والمراء، فإنّك تغري بنفسك السفهاء إذا فعلت، وتُفسد الإخاء...

يا كميل جانب المنافقين، ولا تصاحب الخائنين...

يا كميل لا تُريَنَّ الناس افتقارك واضطرارك، واصطبر عليه احتساباً بعزٍّ وتستّر...

يا كميل ومن أخوك؟

أخوك الذي لا يخذلك عند الشدّة، ولا يغفل عنك عند الجريرة، ولا يخدعك حين تسأله، ولا يتركك وأمرك حتّى تُعلمه فإن كان مميلاً ـ أي صاحب مال ـ أصلحه...

يا كميل إنّما المؤمن من قال بقولنا، فمن تخلّف عنّا قصّر عنّا، ومن قصّر عنّا لم يلحق بنا، ومن لم يكن معنا ففي الدرك الأسفل من النار...

يا كميل قُل عند كلّ شدّةٍ: (لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم) تكفها.

وقُل عند كلّ نفحةٍ الحمدُ لله تُزد منها، وإذا أبطأت عليك الأرزاق فاستغفر الله يُوسّع عليك فيها.

يا كميل إذا وسوس الشيطان في صدرك فقُل: ـ

(أعوذ بالله القويّ من الشيطان الغويّ، وأعوذ بمحمّد الرضيّ من شرّ ما قُدّر وقُضي، وأعوذ بإله الناس من شرّ الجِنّة والناس أجمعين)، وسلّم، تُكفى مؤونة إبليس والشياطين معه، ولو أنّهم كلّهم أبالسة مثله...

يا كميل إنّ الأرض مملوّةٌ من فخاخهم، فلن ينجو منها إلّا مِن تشبّث بنا..

يا كميل ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، إنّما الشأن أن تكون الصلاة فُعلَت بقلبٍ نقيّ، وعملٍ عند الله مرضيّ، وخشوعٍ سويّ، وإبقاءٍ للجدّ فيها...

يا كميل اُنظر فيمَ تصلّي، وعلى ما تصلّي، إن لم تكن من وجهه فلا حِلَّ ولا قبول...

يا كميل إنّما يتقبّل الله من المتّقين...

يا كميل قال رسول الله صلى الله عليه وآله لي قولاً، والمهاجرون والأنصار متوافرون يوماً بعد

٣٣

العصر، يوم النصف من شهر رمضان، قائماً على قدميه، فوق منبره: ـ

عليٌّ منّي، وإبناي منه، والطيّبون منّي وأنا منهم، وهم الطيّبون بعد اُمّهم، وهم سفينةٌ من ركبها نجى، ومَن تخلّف عنها هوى، الناجي في الجنّة، والهاوي في لظى...) (1) .

3 ـ ما في تعليم فاطمة الزهراء عليها السلام لبعض النساء: ـ

(أرضِ أبوَي دينِك محمّداً صلى الله عليه وآله وعليّاً عليه السلام، بسخطِ أبوي نسبكِ.

ولا تُرضِ أبوي نسبكِ بسخط أبوَي دينك.

فإنَ أبوي نسبك إن سخطا أرضاهما محمّد صلى الله عليه وآله وعليّ عليه السلام بثواب جزءٍ من ألف ألف جزءٍ من ساعةٍ من طاعاتهما.

وإنَ أبوَي دينك إن سخطا لم يقدر أبوا نسبك أن يرضياهما، لأنّ ثواب طاعات أهل الدُّنيا كلّهم لا تفي بسخطهما...) (2) .

4 ـ ما في كلام لمولانا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: ـ

(يا ابن آدم عُفّ عن محارم الله تكُن عابداً، وارضِ بما قسم الله سبحانه تكن غنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحِب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً.

إنّهم كان بين أيديكم أقوامٌ يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً.

أصبح جمعهم بواراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً.

يا ابن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن اُمّك، فخُذ ممّا في يديك لما بين يديك، فإنّ المؤمن يتزوّد، والكافر يتمتّع.

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 270.

(2) الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام / ج 21 / 164.

٣٤

وكان عليه السلام يتلو بعد هذه الموعظة: ـ

( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ) (1) .

5 ـ ما في توصية مولانا الإمام الحسين عليه السلام لابن عبّاس: ـ

(لا تتكلّمنَّ فيما لا يعنيك فإنّي أخاف عليك الوزر.

ولا تتكلّمنّ فيما يعنيك حتّى ترى للكلام موضعاً، فرُبّ متكلّمٍ قد تكلّم بالحقّ فعيب.

ولا تمارينَّ حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك.

ولا تقولنّ في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلّا ما تحبّ أن يقول فيك إذا تواريت عنه.

واعمل عمل رجلٍ يعلم أنّه مأخوذٌ بالإجرام، مجزى بالإحسان، والسلام) (2) .

6 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام لبعض بنيه: ـ

(يا بُني اُنظر خمسةٌ فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق.

فقال: يا أبه مَن هم؟

قال عليه السلام: ـ إيّاك ومصاحبة الكذّاب فإنّه بمنزلة السراب يقرِّب لك البعيد، ويبعّد لك القريب.

وإيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك.

وإيّاك ومصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه.

وإيّاك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك.

وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله) (3) .

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 112.

(2) بحار الأنوار / ج 78 / ص 127.

(3) بحار الأنوار / ج 78 / ص 137.

٣٥

7 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي وجماعة الشيعة: ـ

(قال جابر: دخلنا على أبي جعفر عليه السلام، ونحن جماعة، بعدما قضينا نسكنا، فودّعناه وقلنا له أوصنا يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:

ليُعن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتًى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا.

فإن كنتم كما أوصيناكم، لم تعدْوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، وإن أدرك قائمنا فقُتل معه كان له أجر شهيدين، ومَن قَتَلَ بين يديه عدوّاً لنا كان له أجر عشرين شهيداً) (1) .

8 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله بن جُندَب: ـ

(... يا ابن جُندب إنّما المؤمنون الذين يخافون الله، ويشفقون أن يُسلبوا ما أُعطوا من الهدى، فإذا ذكروا الله ونعماءه وجلوا وأشفقوا، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ممّا أظهره من نفاذ قدرته، وعلى ربّهم يتوكّلون...

يا ابن جندب لا تقُل في المذنبين من أهل دعوتكم إلّا خيراً، واستكينوا إلى الله في توفيقهم، وسلوا التوبة لهم.

فكلّ من قصدنا، وتولّانا، ولم يوال عدوّنا، وقال ما يعلم، وسكت عمّا لا يعلم أو أشكل عليه فهو في الجنّة...

يا ابن جندب الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدرٍ واُحد، وما عذّب الله اُمّةً إلّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم...

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 182.

٣٦

يا ابن جندب إنّما شيعتنا يُعرفون بخصالٍ شتّى:

بالسخاء، والبذل للإخوان، وبأن يصلّوا الخمسين ليلاً نهاراً.

شيعتنا لا يهرّون هرير الكلب، ولا يطعمون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدوّاً، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً.

شيعتنا لا يأكلون الجرَي، ولا يمسحون على الخفّين، ويحافظون على الزوال، ولا يشربون مسكراً...

يا ابن جندب صِل من قطعك، واعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلِّم على من سبّك، وأنصف مَن خاصمك، واعف عمّن ظلمك كما تحبّ أن يُعفى عنك.

فاعتبر بعفو الله عن، ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ مطره ينزل على الصالحين والخاطئين...

يا ابن جندب... الواجب على من وهب الله له الهدى، وأكرمه بالإيمان، وألهمه رُشده، وركّب فيه عقلاً يتعرّف به نعمه، وآتاه علماً وحكماً يدبّر به أمر دينه ودُنياه أن يوجب على نفسه أن يشكر الله ولا يكفره، وأن يذكر الله ولا ينساه، وأن يطيع الله ولا يعصيه...

أما إنّه لو وقعت الواقعة، وقامت القيامة، وجاءت الطامّة، ونصب الجبّار الموازين لفصل القضاء، وبرز الخلائق ليوم الحساب، أيقنت عند ذلك لمن تكون الرفعة والكرامة، وبمن تحلّ الحسرة والندامة.

فاعمل اليوم بما ترجو به الفوز في الآخرة) (1) .

9 ـ ما أوصى به الإمام الكاظم عليه السلام هشام بن الحكم، جاء فيه: ـ

(يا هشام إنّ العاقل رضى بالدون من الدُّنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 279.

٣٧

من الحكمة مع الدُّنيا، فلذلك ربحت تجارتهم...

يا هشام كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول:

ما من شيء عُبدَ الله به أفضل من العقل، وما تمَّ عقل امرءٍ حتّى يكون فيه خصالٌ شتّى:

الكفر والشرّ منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، نصيبه من الدُّنيا القوت، لايشبع من العلم دهره، الذلّ أحبُّ إليه مع الله من العزّ مع غيره، والتواضع أحبّ إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقلّ كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلّهم خيراً منه وأنّه شرّهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام من صدق ليانه زكى عمله، ومن حسنت نيّته زيدَ في رزقه، ومن حسُن برّه بإخوانه وأهله مُدَّ في عمره...

يا هشام رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعَلِممَ أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات.

يا هشام من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة...

يا هشام أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله بعد المعرفة به: الصلاة، وبرّ الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر.

يا هشام أصلح أيّامك الذي هو أمامك، فانظر أيّ يومٍ هو، وأعدّ له الجواب، فإنّك موقوفٌ ومسؤول...

يا هشام قال الله جلّ وعزّ: وعزّتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوّي في مكاني، لا يُؤثِر عبدٌ هواي على هواه إلّا جعلت الغِنى في نفسه، وهمّه في

٣٨

آخرته، وكففتُ عليه ضيعته، وضمّنتُ السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر.

يا هشام الغضب مفتاح الشرّ، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً...

يا هشام إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار..

يا هشام أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قُل لعبادي: ـ

لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي، اُولئك قطّاع الطريق من عبادي، إنّ أدنى ما أنا صانعٌ أن أنزع حلاوى محبّتي ومناجاتي من قلوبهم...

يا هشام إيّاك والكِبر على أوليائي، والاستطالة بعلمك، فيمقتك الله، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك، وكُن في الدُّنيا كساكن دارٍ ليست له، إنّما ينتظر الرحيل...

يا هشام لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل.

يا هشام إيّاك والطمع، وعليك باليأس ممّا في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين.

فإنّ الطمع مفتاح للذلّ، واختلاس العقل، واختلاف المروّات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم.

وعليك بالاعتصام بربّك، والتوكّل عليه.

وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنّه واجب عليك كجهاد عدوّك...) (1) .

10 ـ ما أوصى به مولانا الإمام الرضا عليه السلام شيعته في حديث عبد العظيم الحسني: ـ

(يا عبد العظيم... أبلغ عنّي أوليائي السلام وقُل لهم: ـ

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 296.

٣٩

أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومُرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة.

ومُرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة فإنّ ذلك قربةً إليّ.

ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإنّي آليتُ على نفسي أنّه من فعل ذلك وأسخط وليّاً من أوليائي دعوت الله ليعذّبه في الدُّنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين.

وعرّفهم أنّ الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، إلّا من أشرك به، أو آذى وليّاً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإنّ الله لا يغفر له حتّى يرجع عنه، فإن رجع وإلّا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي، ولم يكن له نصيبٌ في ولايتنا. وأعوذ بالله من ذلك) (1) .

11 ـ ما في كتاب مولانا الإمام الجواد عليه السلام لسعد الخير: ـ

(... اعلم رحمك الله أنّه لا تنال محبّة الله إلّا ببغض كثير من الناس، ولا ولايته إلّا بمعاداتهم، وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون.

يا أخي إنّ الله عزّوجلّ جعل في كلّ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهُدى، ويصبرون معهم على الأذى، ويجيبون داعي الله، ويدعون إلى الله.

فابصرهم رحمك الله فإنّهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم في الدُّنيا وضيعة.

إنّهم يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصرون بنور الله من العمى.

كم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه.

__________________

(1) الاختصاص / ص 247.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النعش. قالوا جميعاً: فلما خرج النعش وعليه أبو الحسن، خرج أبومحمد حافي القدم مكشوف الرأس، محلل الإزرار خلف النعش، مشقوق الجيب مُخْضَلَّ اللحية بدموع على عينيه، يمشي راجلاً خلف النعش، مرةً عن يمين النعش ومرةً عن شمال النعش، ولا يتقدم النعش.

وخرج جعفر أخوه خلف النعش بدراريع يسحب ذيولها، معتمٌّ محبتكُ الإزار، طلق الوجه، على حمار يماني، يتقدم النعش. فلما نظر إليه أهل الدولة وكبراء الناس والشيعة، ورأوا زي أبي محمد وفعله، ترجل الناس وخلعوا أخفافهم، وكشفوا عمائمهم، ومنهم من شق جيبه، وحل إزاره، ولم يمش بالخفاف من الأمراء وأولياء السلطان أحد، فأكثروا اللعن والسب لجعفر الكذاب، وركوبه وخلافه على أخيه ...

لما تلا النعش إلى دار السلطان سبق بالخبر إليه، فأمر بأن يوضع على ساحة الدار على مصطبة عالية كانت على باب الديوان، وأمر أحمد بن فتيان وهو المعتمد بالخروج إليه والصلاة عليه، وأقام السلطان في داره للصلاة عليه إلى صلاة العامة، وأمر السلطان بالإعلان والتكبير، وخرج المعتمد بخف وعمامة ودراريع فصلى عليه خمس تكبيرات، وصلى السلطان بصلاتهم ..

وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح، ويشرب الشربات. وجعفر بغير هذه الصفة، ويفعل ما يقبح ذكره من الأفعال.

٤٤١

قالوا جميعاً: وسمعنا الناس يقولون: هكذا كنا نحن جميعاً نعلم ما عند سيدنا أبي محمد الحسن من شق جيبه. قالوا جميعاً: فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة. بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شق جيبه على الذرية: يعقوب على يوسف حزناً. قال: يا أسفي على يوسف، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».

وفي الهداية الكبرى / ٣٨٣: « حدثني أبو الحسن علي بن بلال وجماعة من إخواننا: أنه لما كان في اليوم الرابع من زيارة سيدنا أبي الحسن (ع) أمر المعتز بأن ينفذ إلى أبي محمد من يستركبه إلى المعتز ليعزيه ويسليه، فركب أبو محمد إلى المعتز، فلما دخل عليه رحب به وعزاه وأمر فرتب بمرتبة أبيه (ع) وأثبت له رزقه وزاد فيه، فكان الذي يراه لا يشك إلا أنه في صورة أبيه (ع)، واجتمعت الشيعة كلها من المهتدين على أبي محمد بعد أبيه، إلا أصحاب فارس بن ماهَوَيْه، فإنهم قالوا بإمامة جعفر بن علي العسكري (ع) ».

وفي إثبات الوصية للمسعودى « ١ / ٢٤٢ »: « واعتل أبوالحسن علته التي مضى فيها صلى الله عليه في سنة أربع وخمسين ومائتين، فأحضر أبا محمد ابنه (ع) فسلم إليه النور والحكمة ومواريث الأنبياء (ع) والسلاح، وأوصى إليه، ومضى صلى الله عليه، وَسِنُّه أربعون سنة.

وكان مولده في رجب سنة أربع عشرة ومائتين من الهجرة، فأقام مع أبيه (ع) نحوسبع سنين، وأقام منفرداً بالإمامة ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً.

٤٤٢

وحدثنا جماعة كل واحد منهم يحكي أنه دخل الدار، وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعباسيين، واجتمع خلق من الشيعة، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد (ع) ولا عرف خبره إلا الثقات الذين نص أبوالحسن عندهم عليه، فحكوا أنهم كانوا في مصيبة وحيرة، فهم في ذلك إذْ خرج من الدار الداخلة خادمٌ فصاح بخادم آخر: يا رَيَّاشُ خذ هذه الرقعة وامض بها الى دار أمير المؤمنين وأعطها الى فلان وقل له: هذه رقعة الحسن بن علي. فاستشرف الناس لذلك، ثم فتح من صدر الرواق بابٌ وخرج خادمٌ أسود، ثم خرج بعده أبومحمد (ع) حاسراً مكشوف الرأس، مشقوق الثياب، وعليه مبطنة بيضاء، وكان وجهه وجه أبيه (ع) لا يخطئ منه شيئاً، وكان في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد إلا قام على رجله، ووثب إليه أبومحمد الموفق فقصده أبومحمد (ع) فعانقه ثم قال له: مرحباً بابن العم. وجلس بين بابي الرواق، والناس كلهم بين يديه.

وكانت الدار كالسوق بالأحاديث، فلما خرج وجلس أمسك الناس، فما كنا نسمع شيئاً إلا العطسة والسعلة، وخرجت جارية تندب أبا الحسن (ع) فقال أبومحمد: ما هاهنا من يكفي مؤونة هذه الجاهلة؟ فبادر الشيعة إليها، فدخلت الدار، ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد (ع) فنهض صلى الله عليه وأخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتى أخرج بها الى الشارع الذي بازاء دار

٤٤٣

موسى بن بقا، وقد كان أبومحمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس، وصلى عليه لما أخرج المعتمد، ثم دفن في دار من دوره.

واشتد الحر على أبي محمد (ع) وضغطه الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه، فصار في طريقه الى دكان بقال رآه مرشوشاً « مصطبة » فسلم واستأذنه في الجلوس فأذن له وجلس، ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شابٌّ حسن الوجه نظيف الكسوة، على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض، قد نزل عنه فسأله أن يركبه، فركب حتى أتى الدار ونزل.

وخرج في تلك العشية الى الناس، ما كان يَخْرِمُ عن أبي الحسن (ع) حتى لم يفقدوا منه إلا الشخص. وتكلمت الشيعة في شق ثيابه وقال بعضهم: هل رأيتم أحداً من الأئمة شق ثوبه في مثل هذه الحال؟فوقَّعَ الى من قال ذلك: يا أحمق ما يدريك ما هذا، قد شق موسى على هرون. وقام أبومحمد الحسن بن علي مقام أبيه (ع) ».

ملاحظات على شهادة الإمام (ع) ومراسم جنازته

١. شاء الله عز وجل أن يحفظ الإمام الهادي (ع) من المتوكل، وأفشل محاولاته لقتل الإمام (ع). وأن يُقِرَّ عين وليه الإمام الهادي (ع) فيريه نهاية عدوه المتوكل فسلط عليه غلمانه الأتراك، فقتلوه وهو سكران ذاهب العقل!

كما شاء عز وجل أن تكون شهادة الإمام (ع) بيد المعتز، وهو الزبير بن المتوكل وكانت أمه جميلة جداً فسماها المتوكل قبيحة لإبعاد الحسد عنها، وقد جمعت ثروةً طائلة لكنها بخلت أن تنقذ ابنها من القتل! وقد صح الحديث بأنه لايقتل

٤٤٤

الأنبياء والأوصياء (ع) إلا أولاد الحرام، فقد سئل الصادق (ع) عن قوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فقيل له: من كان يمنعه؟ قال: منعه أنه كان لرَشْدَةٍ، لأن الأنبياء والحجج لايقتلهم إلا أولاد زنا! « كامل الزيارات / ١٦٣ ».

٢. كانت شهادة الإمام (ع) بعد حرب استمرت سنة بين سامراء وبغداد، من محرم ٢٥١ الى ٢٥٢ ، بين خليفتين هما: المعتز والمستعين « الطبري: ٧ / ٤٤٥ » وحكم المعتز بعدها نحو ثلاث سنين الى سنة ٢٥٥ ، وأقدم على قتل الإمام (ع) في رجب في سنة ٢٥٤ ، ثم ثار عليه الأتراك وقتلوه في السنة التالية ٢٥٥ ، ونصبوا المهتدي.

فمن هو المستفيد من قتل الإمام الهادي (ع)، ومن الذي خطط لقتله؟

الأمر المرجح أن المخطِّط والمنفِّذ هو المعتز، فقد قتل المستعين مع أنه خلع نفسه وبايعه، ولعله كان يخاف من تفاقم الثورات العلوية، وأن يرفع ثائر منها إسم الإمام (ع) فينجذب الناس الى بيعته ويبايعوه!

٣. أمر المعتز أخاه المعتمد أن يقيم للإمام (ع) تشييعاً كبيراً، وأن تحمل جنازته الى دار الخلافة ليصلي عليها، قال في الهداية / ٢٤٨: « فإن السلطان لما عرف خبر وفاته، أمر سائر أهل المدينة بالركوب إلى جنازته، وأن يُحمل إلى دار السلطان حتى يصلي عليه ». فصلوا عليه في دار الخليفة، ثم صلوا عليه في شارع كبير، ثم صلوا عليه في داره ودفنوه حيث أوصى. « مروج الذهب: ٤ / ٨٤، واليعقوبي: ٢ / ٥٠٠ ».

٤. كانت سياسة السلطة القرشية دائماً المبالغة في تشييع الإمام من العترة الطاهرة (ع)، ولهم في ذلك أغراض، أولها أن يبعدوا عن أنفسهم جريمة قتله!

٤٤٥

بل كانوا يحرصون على الكشف الطبي على جنازته، وإشهاد كبار القضاة والشهود بأن بدنه سالمٌ وأنه مات حتف أنفه! حتى لايطالب بنو هاشم بدمه.

واستعملوا هذا الأسلوب مع خلفائهم الذين قتلوهم، فكانوا يقتلون الخليفة بالتعذيب أو عصر خصيتيه، ثم يأتون بالشهود فيشهدون أنه مات حتف أنفه!

قال في معالم الخلافة « ٣ / ٣٧١ »: « لما وليَ المعتز لم يمض إلا مدة حتى أُحضر الناس وأخرج المؤيد فقيل: إشهدوا أنه دعي فأجاب وليس به أثر!

ثم مضت أشهر فأحضر الناس وأخرج المستعين، فقال: إن منيته أتت عليه وها هو لا أثر فيه، فأشهدوا!

ثم مضت مُدَيْدَة واستخلف المهتدي فأخرج المعتز ميتاً وقيل: إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه ولا أثر به! ثم لم تكمل السنة حتى استخلف المعتمد فأخرج المهتدي ميتاً وقيل: إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه من جراحته »!

لكنهم كانوا يسلمون جنازة الخليفة الى أقاربه، ولايهتمون بالصلاة عليه وتشييعه، لأنه ليس له جماهير محبة كالإمام (ع) ليكسبها لخليفة الجديد بذلك!

٥. يتضح من أخبار تشييع الإمام (ع) ودفنه، أنهم كانوا يهتمون بالتشييع والصلاة على الجنازة والدفن. وفي اليوم الثاني يجلس أهل الميت لقبول التعزية. ففي الهداية / ٢٤٩: « وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح قالوا جميعاً: فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة.

٤٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شق جيبه على الذرية: يعقوب على يوسف حزناً. قال: يا أسفي على يوسف، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».

٦. اشترى النبي وعترته الطاهرون صلوات الله عليهم، محال قبورهم الشر ـ يفة على سنة أبيهم إبراهيم (ع)، فقد نصت التوراة ومصادرنا على أنه اشترى مكان قبره في الخليل من عفرون الحثي، وكان مزرعة فيها الغار الذي دفن فيه هو وأسرته (ع). واشترى النبي (ص) مكان مسجدة وبيوته وقبره الشر ـ يف، عندما بركت قربه الناقة: « وسأل عن المربد فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء، فأرضاهما معاذ ». « مناقب آل أبي طالب: ١ / ١٦٠ ».

واشترى الإمام الهادي (ع) داره في سامراء، ثم اشترى دوراً ضمها اليها.

قال في تاريخ بغداد « ١٢ / ٥٧ »: « وفي هذه السنة، يعني سنة أربع وخمسين ومائتين، توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى، في داره التي ابتاعها من دليل بن يعقوب النصراني ».

وفي إثبات الوصية للمسعودي « ١ / ٢٤٣ »: « وقد كان أبو محمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس، وصلى عليه لما أخرجه المعتمد، ثم دفن في دار من دوره ».

فهو يدل على أنها كانت دورٌ متعددة متصلة ببعضها، وتدل عليه نصوص كثيرة وصفت دار أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري (ع).

منها ما رواه في الإرشاد « ٢ / ٣١٧ » يصف ساحة إحداها ولعلها الدار الأساسية: « عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس

٤٤٧

أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسن (ع) وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العباس وقريش مائة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس ».

ومنها قول الخادم كما في الكافي « ١ / ٣٢٩ »: « وكنت أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في دار الرجال، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في دار الرجال ».

شاعران من أصحاب الإمام (ع) رثياه

أبو الغوث المنبجي الطهوي:

قال ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر / ٥٠: « وأنشدني أبو منصور عبد المنعم بن النعمان العبادي قال: أنشدني الحسن بن مسلم الوهبي أن أبا الغوث الطهوي المنبجي شاعر آل محمد (ص) أنشده بعسكر سرمن رأى. قال الوهبي: وإسم أبي الغوث أسلم بن مهوز من أهل منبج. وكان البحتري يمدح الملوك، وهذا يمدح آل محمد (ص)، وكان البحتري أبو عبادة ينشد هذه القصيدة لأبي الغوث:

وَلِهْتُ إلى رُؤياكم وَلَهَ الصَّادي

يُذادُ عن الورد الرَّوِيِّ بِذَوَّادِ

مُحَلَّىً عن الورد اللذيذِ مساغُهُ

إذا طافَ وُرَّادٌ به بعدَ ُوَّراد

فأعملت فيكم كل هوجاء جسرةٍ

ذمولِ السُّرَى تَقتاد في كل مُقتاد

أجوبُ بها بيدَ الفَلا وتجوبُ بي

إليكَ ومالي غيرَ ذكركَ من زاد

فلما تراءتْ سُرَّ من رَا تَجَشَّمَتْ

إليك فَعَوْمُ الماء في مُفْعِمِ الوادي

فأدَّت إلينا تشتكي ألمَ السرى

فقلت اقصري فالعزمُ ليسَ بميَّاد

إذا ما بلغتِ الصادقينَ بني الرضا

فحسبُك من هادٍ يُشيرُ إلى هاد

٤٤٨

مقاويلُ إن قالوا بهاليلُ إن دُعوا

وُفَاةٌ بميعاد كُفَاةٌ لمرتاد

إذا أوعدوا أعْفَوْا وإن وعدوا وَفَوْا

فهم أهل فضلٍ عند وعدٍ وإيعاد

كرامٌ إذا ما أنفقوا المالَ أنفدوا

وليس لعلمٍ أنفقوهُ بإنفاد

ينابيعُ علم الله أطوادُ دينه

فهل من نفادٍ إن علمتَ لأطواد

نجومٌ متى نجمٌ خَبَا مثلُهُ بَدا

فصلى على الخابي المهمينُ والبادي

عبادٌ لمولاهم موالي عبادِه

شهودٌ عليهم يومَ حشر وإشهاد

هم حججُ الله اثنتي عشرةٍ متى

عددتَ فثاني عشرهم خَلَفُ الهادي

بميلاده الأنباءُ جاءتْ شهيرةً

فأعظمْ بمولودٍ وأكرمْ بميلاد

وقال ابن عياش: وهي طويلة كتبنا منها موضع الحاجة إلى الشاهد ».

محمد بن إسماعيل بن صالح الصيمري:

وروى ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر / ٥٣: أن محمد بن إسماعيل بن صالح الصيمري، وهو من أصحاب الإمام الهادي (ع) قال عند مرض الإمام (ع):

مَادت الأرضُ بي وآذتْ

فؤادي واعترتني مواردُ العَرْوَاء

حينَ قيل الإمامُ نِضْوٌ عليلٌ

قلتُ نفسي فدتهُ كلَّ الفداء

مرضَ الدينُ لاعتلالك واعتلَّ

وغارت لهُ نجومُ السماء

عجباً إن مُنيت بالداء والسقم

وأنت الإمامُ حسمُ الداء

وأنت أسى الأدواء في الدين

والدنيا ومُحْي الأموات والأحياء

وقال بعد شهادته يرثيه ويعزي ابنه أبا محمد (ع) أولها:

الأرض حزناً زلزلتْ زلزالها

وأخرجتْ من جزعٍ أثقالها

ثم عدد الأئمة وتكملتهم بالخلف المهدي (ع) وذلك قبل ميلاده:

عشرُ نجوم أفَلَتْ في فُلكها

ويُطلع الله لنا أمثالها

٤٤٩

بالحسن الهادي أبي محمد

تُدْرِكُ أشياعُ الهدى آمالها

وبعده من يرتجى طلوعُهُ

يَظل جوابَ الفلا جزَّالها

ذو الغيبة الطولى وبالحق التي

لا يقبل الله من استطالها

يا حجج الرحمن إحدى عشرةٍ

آلف بثاني عشرها مآلها »

أقول: في قصيديتي المنبجي والصيمري دلالات عديدة، منها: أن مرض الإمام الهادي (ع) طال، وقد يكون سقي السم عدة مرات كما حدث لعدد من آبائه (ع)، ولم تصلنا تفاصيل أخبار سمه ومرضه صلوات الله عليه.

ومنها: أنه استقر عند المتشرعة أن كلمة الإمام على إطلاقها تعني المعصوم من العترة.

ومنها: أن مذهب الإمامة كان منتشراً معروفاً بين الناس، وأنهم يقولون بإمامة اثني عشر إماماً ربانياً، كما بشر النبي (ص) وأن الإمام الهادي (ع) هو العاشر، وأن حفيده هو المهدي الموعود (ع) الذي سيغيب طويلاً.

٤٥٠

الفصل السابع عشر

بشارة الإمام الهادي بحفيده الإمام المهدي (ع)

نصه على إمامة ابنه الحسن العسكري (ع)

عقد في الكافي باباً « ١ / ٣٢٥ » بعنوان: باب الإشارة والنص على أبي محمد (ع)، أورد فيه بضعة عشرحديثاً، نص فيها على إمامة ولده الحسن بعده وبشر فيها بحفيده الإمام المهدي (ع). منها عن يحيى بن يسار القنبري قال: « أوصى أبو الحسن (ع) إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي.

وعن علي بن عمر النوفلي: « كنت مع أبي الحسن (ع) في صحن داره فمر بنا محمد ابنه فقلت له: جلعت فداك هذا صاحبنا بعدك؟فقال:لا،صاحبكم بعدي الحسن ».

وعن أحمد بن مروان الأنباري قال: « كنت حاضراً عند مضيِّ أبي جعفر محمد بن علي، فجاء أبو الحسن (ع) فوُضع له كرسي فجلس عليه وحوله أهل بيته، وأبو محمد قائم في ناحية، فلما فرغ من أمر أبي جعفر التفت إلى أبي محمد (ع) فقال: يا بنيَّ أحدث لله تبارك وتعالى شكراً، فقد أحدث فيك أمراً ».

أي أظهرَ الله تعالى أنك الإمام بعدي وليس أخاك الأكبر الذي توفي، كما تصور البعض، لأن أئمة العترة (ع) كما قال الله تعالى: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

ومن ذلك: « عن جماعة من بني هاشم، منهم الحسن بن الحسن الأفطس أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد بابَ أبي الحسن يعزونه وقد بسط له في

٤٥١

صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا: قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني هاشم وقريش مائة وخمسون رجلاً، سوى مواليه وسائر الناس، إذ نظر إلى الحسن بن علي قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لانعرفه فنظر إليه أبوالحسن (ع) بعد ساعة فقال: يا بنيَّ أحدثْ لله عز وجل شكراً، فقد أحدث فيك أمراً. فبكى الفتى وحمد الله تعالى واسترجع وقال: الحمد لله رب العالمين، وأنا أسأل الله عز وجل تمام نعمه لنا فيك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فسألنا عنه فقيل هذا الحسن ابنه، وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة، أو أرجح، فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة، وأقامهُ مقامه ».

وعن أبي بكر الفهفكي قال: « كتبت الى أبي الحسن (ع) أسأله عن مسائل، فلما نفذ الكتاب قلت في نفسي: لو أني كتبت فيما كتبت أسأله عن الخلف من بعده، وذلك بعد مضي محمد ابنه. فأجابني عن مسائلي: وكنتَ أردتَ أن تسألني عن الخلف، وأبو محمد ابني أصح آل محمد غريزةً، وأوثقهم عقيدةً بعدي، وهو الأكبر من ولدي، إليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها. فما كنت سائلاً عنه فسله فعنده علم ما يُحتاج إليه، والحمد لله ».

وعن الجلاب قال: « كتب إليَّ أبو الحسن في كتاب: أردتَ أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك، فلا تغتم فإن الله عز وجل: لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وصاحبك بعدي أبو محمد ابني، وعنده ما

٤٥٢

تحتاجون إليه، يقدم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ».

تبشيره بحفيده المهدي الموعود (ع)

عن داود بن القاسم قال: « سمعت أبا الحسن (ع) يقول: الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولم جعلني الله فداك؟ فقال: إنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحجة من آل محمد (ع) ». « الكافي: ١ / ٣٢٧ ».

وفي كمال الدين / ٣٨٣: « عبد الله بن أحمد الموصلي قال: حدثنا الصقر بن أبي دلف قال: سمعت علي بن محمد بن علي الرضا (ع) يقول: إن الإمام بعدي الحسن ابني وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ».

وفي تفسير العسكري / ٣٤٤، عن الهادي (ع) قال: « لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله. ولكنهم الذين يمسكون أزمَّةَ قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل ».

٤٥٣

أولاد الإمام الهادي (ع)

قال المفيد في الإرشاد « ٢ / ٣١٢ »: « وتوفي أبو الحسن (ع) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسر من رأى، وخلف من الولد: أبا محمد الحسن ابنه وهو الإمام من بعده، والحسين، ومحمداً، وجعفراً، وابنته عائشة. وكان مقامه بسر من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهراً، وتوفي وسنه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة ».

وفي الهداية الكبرى / ٣١٣: « وله من الولد: الحسن الإمام، ومحمد، والحسين، وجعفر المدعي الإمامة المعروف بالكذاب، المذكور بحديث جعفر الصادق (ع) ».

وقال الفخر الرازي في الشجرة المباركة في أنساب الطالبية / ٧٨: « أما أبو الحسن علي النقي فله من الأبناء ستة: أبو محمد الحسن العسكري الإمام، وأبو عبد الله جعفر الذي لقبوه ب‍الكذاب لا لطعن في نسبه، بل لأنه طعن في إمامة صاحب الزمان. والحسين مات قبل أبيه بسرمن رأى، وموسى، ومحمد هو أكبر أولاده، وعلي. واتفقوا على أن المعقب من أولاده ابنان: الحسن العسكري الإمام، وجعفر الكذاب. وله من البنات ثلاثة: عائشة، وفاطمة، وبريهة، وزوج بريهة محمد بن موسى بن محمد التقي ».

أقول: تفرد الفخر الرازي بذكر ثلاث بنات للهادي (ع)، ولعلها واحدة كان يطلق عليه أكثر من إسم، وبريهة التي ترجم لها لعلها بنت جعفر الكذاب، وكانت صالحة.

٤٥٤

وقال السيد ضامن بن شدقم في تحفة الأزهار في نسب أبناء الأئمة الأطهار / ٤٦١: « فأبو الحسن علي النقي (ع) خلف أربعة بنين: أبا محمد الحسن العسكري (ع)، أمه أم ولد، والحسين، وأبا علي محمداً، وأبا كرين جعفراً الكذاب، وعايشة. أمهاتهم أمهات أولاد، وعقبهم أربعة أصول .. الخ. ».

وفي عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة / ١٩٩: « وأعقب من رجلين هما الإمام أبومحمد الحسن العسكري (ع) كان من الزهد والعلم على أمر عظيم، وهو والد الإمام محمد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، وهوالقائم المنتظر عندهم، من أم ولد إسمها نرجس.

وإسم أخيه أبوعبد الله جعفر الملقب بالكذاب، لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن، ويدعى أبا كرين « أبا البنين خ. ل » لأنه أولد مائة وعشرين ولداً، ويقال لولده الرضويون نسبة إلى جده الرضا.

وأعقب من جماعة، انتشر منهم عقب ستة ما بين مقل ومكثر، وهم إسماعيل حريفا، وطاهر، ويحيى الصوفي، وهارون، وعلي، وإدريس ».

أقول: اتفقت مصادر الأنساب على أن أبناء الإمام الهادي (ع) ثلاثة غير الإمام الحسن العسكري (ع): وهم محمد وحسين وجعفر، المعروف بجعفر الكذاب:

محمد بن الإمام الهادي، المعروف بالسيد محمد

ويعرف بالسيد محمد، وقبره قرب بلد، يزار وله كرامات. ويسمونه: سبع الدجيل. وكان أكبرأولاد الإمام الهادي، وتوفي في حياة أبيه،فصارالحسن أكبرهم (ع).

٤٥٥

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة « ١٠ / ٥ »: « السيد أبو جعفر محمد بن الإمام علي أبي الحسن الهادي (ع). توفي في حدود سنة ٢٥٢. جليل القدر، عظيم الشأن، كانت الشيعة تظن أنه الإمام بعد أبيه (ع)، فلما توفي نص أبوه على أخيه أبي محمد الحسن الزكي (ع). وكان أبوه خلفه بالمدينة طفلاً لما أتي به إلى العراق ثم قدم عليه في سامراء. ثم أراد الرجوع إلى الحجاز، فلما بلغ القرية التي يقال لها بلد على تسعة فراسخ من سامراء مرض وتوفي ودفن قريباً منها، ومشهده هناك معروف. ولما توفي شق أخوه أبو محمد ثوبه، وقال في جواب من لامَهُ على ذلك: قد شقَّ موسى على أخيه هارون (ع) ».

وفي كتاب المصطفى والعترة للشاكري « ١٤ / ٢١ »: « الحسين بن الإمام الهادي (ع): نقل السيد محمد كاظم القزويني عن كتاب شجرة الأولياء: أن الحسين كان زاهداً عابداً معترفاً بإمامة أخيه أبي محمد الحسن العسكري (ع)، وكان صوت الإمام المهدي (ع) يشبه صوت عمه الحسين. وكان الناس يعبرون عنه وعن أخيه الإمام الحسن العسكري بالسبطين، تشبيهاً لهما بالإمامين الحسن والحسين (ع).

وكان له من الأولاد أربعة، وقد رحلوا بعد وفاة أبيهم عن سامراء إلى مدينة لار من بلاد فارس في إيران، فقتلوا بعد وصولهم إليها ».

٤٥٦

الحسين بن الإمام الهادي (ع)

ورد تشبيه صوت الإمام المهدي (ع) بصوته. « أمالي الطوسي / ٢٨٨ ».

وفي مستدركات الشيخ النمازي « ٣ / ١٧١ »: « الحسين بن علي بن محمد الإمام الهادي (ع): هو أخو الحسن العسكري (ع) يسميان بالسبطين، تشبيهاً لهما بجدهما الحسن والحسين صلوات الله عليهما. كان جليل القدر عظيم الشأن ».

وفي مسند الإمام العسكري « ١ / ٥٢ »: « أولاد الإمام أبي الحسن الهادي (ع) وهم جعفر ومحمد والحسين. أما محمد بن الإمام الهادي: هو صاحب الروضة المعروفة والقبة المشهورة في بلد بين بغداد وسامراء، تقصده الزوار من شتى النواحي. أما الحسين فقد كان ممتازاً في الديانة من سائر أقرانه وأمثاله، تابعاً لأخيه الحسن (ع) معتقداً بإمامته، ودفن في حرم العسكريين (ع) تحت قدميهما، كما ورد في هامش بحار الأنوار في باب أحوال أولاد الإمام الهادي (ع) ».

جعفر الكذاب

ادعى جعفر الكذاب الإمامة بعد وفاة أبيه، ثم بعد وفاة أخيه الإمام الحسن العسكري (ع). ويعرف بأبي كرين لكثرة أولاده، وقيل إن أبناءه بلغوا مئة وعشر ـ ين ابناً غير الإناث. وذريته كثيرة وفيهم صالحون أجلاء. ولم أجد ضبطاً لكلمة كرين أومعنى يربطها بكثرة الأولاد. ولعل أصلها « أبو الكُرَّيْن » مثنى كُر، ويقال كُرُّ حنطة أو كُرُّ ماء. وسيأتي موقفه في سيرة الإمام العسكري (ع). والذي يهون الخطب أنه أعرض عن ادعاء الإمامة، وقيل تاب وأناب. قال الشبراوي في الإتحاف بحب الأشراف

٤٥٧

« ١ / ٣٧٢ »: « لكن إرادة الله غالبة، إذ سرعان ما انكشف زيف أمره، ثم ندم على ما فعل، وتاب على ما قيل ولذا سمي بجعفر الكذاب، ثم جعفر التواب. علماً بأنه من الناس العاديين الذين يجوز عليم الكذب والخطأ والنسيان والعصيان، وادعاء الباطل والحسد. وهذا ليس بغريب في الكون وقد سبقه قابيل بقتل أخيه هابيل، وإخوة يوسف عند ما ألقوا يوسف في الجب ».

وقال الشيخ مُغنية في الشيعة في الميزان / ٢٥٠: « كان للإمام العسكري أخ يسمى جعفراً، وكان يكيد له ويدس عليه وعلى شيعته الدسائس عند الخلفاء، وقد لحق بالموالين الأذى والحبس والتشريد من وشايته وافتراءاته، وادعى الإمامة بعد أخيه، ولذلك قيل له الكذاب.

وجاء جعفر هذا إلى الوزير ابن خاقان بعد أن قُبض أخوه الإمام وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي، وأعطيك في كل سنة عشرين ألف دينار. فنهره الوزير وقال له: يا أحمق إن السلطان جرد سيفه وسوطه على الذين والوا أباك وأخاك ليردهم عن ذلك فلم يقدر، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى إمام يرتبك مراتبهم، وإن لم تكن عندهم بهذه المرتبة لم تنلها، وإن ساندك السلطان وغيره. ثم أمر الوزير أن يحجب عنه جعفر ولا يؤذن له عليه بالدخول.

٤٥٨

وصدق ابن خاقان، فإن منصب الإمامة والرياسة عند الشيعة لا يناط بإرادة الحكام، ولا ينال بالشفاعات والوساطات، كما هوالشأن في تعيين المشيخات والقضاة والمفتين. إن الرياسة عند الإمامية تعود إلى إرادة الله سبحانه ».

وروى الصدوق في كمال الدين / ٣١٩، عن فاطمة بنت محمد بن الهيثم، قالت: « كنت في دار أبي الحسن علي بن محمد العسكري في الوقت الذي ولد فيه جعفر، فرأيت أهل الدار قد سُرُّوا به، فصرت إلى أبي الحسن (ع) فلم أره مسروراً بذلك فقلت له: يا سيدي، ما لي أراك غير مسرور بهذا المولود؟ فقال (ع): هَوِّني عليك أمره، إنه سيُضَلُّ خلقاً كثيراً ». ورواه المسعودي في إثبات الوصية ٢٣٩، عن جماعة.

وروى في الكافي « ١ / ٥٠٣ » حديثاً بليغاً يعطي صورة واضحة عن الإمام العسكري (ع) وأخيه جعفر، قال: « كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان شديد النصب فقال: ما رأيتُ ولا عرفتُ بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه، عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس. فإني كنت يوماً قائماً على رأس أبي « كان أبوه رئيس وزراء » وهو يوم مجلسه للناس، إذ دخل عليه حجابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكن عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى! فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطىً ولا أعلمه فعل

٤٥٩

هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه عانقه وقبل وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجب مما أرى منه إذ دخل الحاجب فقال: الموفق قد جاء وكان الموفق إذا دخل على أبي، تقدم حجابه وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة، قال حينئذ: إذا شئت جعلني الله فداك، ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين حتى لا يراه هذا يعني الموفق، فقام وقام أبي وعانقه ومضى.

فقلت لحُجَّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنيتموه على أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علوي يقال له الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه، حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات « أي المشاورات » وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى وجلس، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد فقال لي: يا أحمد لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه فإن أذنت لي سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت لك يا بني فقل ما أحببت، قلت: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه. ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً! فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه، واستزدته في فعله وقوله فيه ما قال، فلم يكن

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477