الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158470 / تحميل: 7002
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وزكرياء، وميمون بن إبراهيم، ومحمد بن موسى المنجم، وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور، وجعفر المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً، فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه وقال له: أغد غدوةً فلما أصبح لم يشك في ذلك، وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل فقال له: يا أمير المؤمنين أراد أن لا يدع كاتباً ولا قائداً ولا عاملاً إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين!

وغدا نجاح فأجلسه عبيد الله في مجلسه ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إن دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما، وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبا إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعة بخطوطهما وأوصلها عبيد الله بن يحيى وجعل يختلف بين أمير المؤمنين، ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل فضمنا ذلك وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل فأخذاه وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد، وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الوُلد، أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك وقال إنه أخذ مني في أيام الواثق، وهويخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً

٦١

حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً، كما أخذ فضلاً فحبس، ونُجِّمَ عليه في ثلاثة أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد فأغرم سبعة عشر ألف دينار، ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل وكان أحد حجاب المتوكل، وعتاب بن عتاب عن رسالة المتوكل، أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هولم يقر ويؤدِّ ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت، وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات، فأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتماه، فاحتالاه فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد، وقبضا أمتعته كلها، وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه الخ. ».

أقول: هذه صورة لإدارة دولة الخلافة الإسلامية، وتكالب خليفتها وكبار وزرائه على أموال المسلمين المستضعفين! فكيف يجوز تسميته خليفة رسول الله (ص)، وتلقيبه المتوكل على الله! وأي إدارة هذه؟ وأي خلافة لرسول الله هذه؟!

٦٢

نكب كاتب إيتاخ سليمان بن وهب ثم احتاج اليه!

روى التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة « ١ / ٥١ » كيف أخذ المتوكل كاتب إيتاخ، قال: « سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب يقول: كان المتوكل من أغلظ الناس على إيتاخ، فذكر فيه حديثاً طويلاً، وصف فيه كيف قبض المتوكل على إيتاخ وابن وهب ببغداد لما رجعا من الحج بيد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب.

قال سليمان بن وهب: وساعة قبض على إيتاخ ببغداد قبض عليَّ بسر من رأى، وسُلِّمْتُ إلى عبيد الله بن يحي. وكتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم بدخوله بسر من رأى، ليتقوى به على الأتراك، لأنه كان معه بضعة عشر ألفاً لكثرة الظاهرية بخراسان، وشدة شوكتهم، فلما دخل إسحاق أمر المتوكل بتسليمي إليه وقال: هذا عدوي ففصل عظامه! هذا كان يلقاني في أيام المعتصم فلا يبدأني بالسلام، وأبدأه لحاجتي فيرد عليَّ كما يرد المولى على عبده، وكل ما دبره إيتاخ فعن رأيه! فأخذني إسحاق وقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف، وحبسني في كنيف وأغلق على خمسة أبواب، فكنت لا أعرف الليل من النهار، فأقمت كذلك نحوعشرين يوماً لايفتح على الباب إلا حملةً واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع إلى فيهما خبز شعير وملح وماء حار، فكنت آنس بالخنافس وبنات وردان، وأتمنى الموت لشدة ما أنا فيه » ثم روى كيف اضطر المتوكل للإفراج عنه لخبرته في تحصيل مالية البلاد التي كان يحكمها إيتاخ، وهي: مصر، والكوفة، والحجاز، وتهامة، ومكة، والمدينة. « النجوم الزاهرة: ٢ / ٢٧٥ ».

٦٣

قال: « فحُملت إلى مجلس إسحاق فإذا فيه موسى بن عبد الملك صاحب ديوان الخراج، والحسن بن محمد صاحب ديوان الضياع، وأحمد بن إسرائيل الكاتب، وأبو نوح، وعيسى بن إبراهيم، كاتب الفتح بن خاقان، وداود بن الجراح صاحب الزمام، فطُرحت في آخر المجلس، فشتمني إسحاق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: يا فاعل يا صانع تعرضني لاستبطاء أمير المؤمنين، والله لأُفَرِّقن بين لحمك وعظمك، ولأجعلن بطن الأرض أحب إليك من ظهرها، أين الأموال التي جمعتها من غير وجهها الرأي أن تكتب خطك بالتزام عشر ـ ة آلاف ألف درهم، تؤديها في عشرة أشهر، كل شهر ألف ألف درهم، وتَتَرَفَّهُ عاجلاً مما أنت فيه! فأمر إسحاق بأخذي في الحال وإدخالي الحمام، وجاؤني بخلعة نظيفة فلبستها، وبخور طيب فتبخرت، واستدعاني إسحاق ..

فلما كان من غد حولني إلى دار كبيرة حسنة مفروشة، ووكل على فيها بإحسان وإجلال، واستدعيتُ كل من أردت، وتسامع الناس بأمري، وجاؤني ففرج عني، ومضت سبعة وعشرون يوماً، وقد أعددت ألف ألف درهم الخ. »!

٦٤

الفصل الثالث:

سياسة المتوكل مع الإمام الهادي (ع)

من ثوابت سياسة الخلفاء تصفية مخالفيهم!

من ثوابت الخليفة القرشي: أن يعمل للتخلص من خصومه بقتلهم بالسم، أوبالمكيدة، ليكون قتلاً ناعماً مسكوتاً عنه عند الناس!

وكان شعار معاوية المعروف: إن لله جنوداً من عسل! قاله عندما نجح في دسَّ السُّمَّ لمالك الأشتر حاكم مصر (رحمه الله). كما في المستطرف / ٣٥٢، وغيره .

وقال معاوية: لاجدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك من تكره. أي العمل الجدِّي المهم هو: أن تقتل عدوك وتخمده في مكانه، فتزيحه من طريقك! « محاضرات الراغب: ١ / ٥٣١ ».

قال في جمهرة الأمثال « ٢ / ٣٧٦ »: « والمثل لمعاوية رضي الله عنه » قاله بعد قتله عبد الرحمن بن خالد، لأنه كان يعارض توليته لولده يزيد! « ورواه في الأمثال للميداني: ١ / ٦٣٠، والمستقصى للزمخشري / ٣٣٤، وطبقات الأطباء: ١ / ١٥٤: والمنمق في أخبار قريش لابن حبيب: ١ / ١٧٢، والتذكرة الحمدونية / ١٤٩٧، وتاريخ دمشق: ١٩ / ١٨٩ ».

وعلى هذه السياسة مشى خلفاء بني أمية وبني العباس، وكان المتوكل يعمل لقتل الإمام الهادي (ع) وهويعلم أنه إمام رباني، وأنه لا يعمل للسلطة! ولاحجة للمتوكل إلا خوفه من إيمان الناس بالإمام (ع)، فقد رأى أمه تطلب دعاءه، وتنذر له النذور!

٦٥

١. سَجَنَ المتوكل الإمام (ع) ليقتله فنجاه الله:

روى الصدوق في الخصال / ٣٩٥: « عن الصقر بن أبي دلف الكرخي، قال: لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (ع) جئتُ أسأل عن خبره قال: فنظر إليَّ الزُّرَافي وكان حاجباً للمتوكل، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك؟ فقلت: خيرٌ أيها الأستاذ. فقال: أقعد، فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت: أخطأت في المجئ! قال: فوحى الناس عنه، ثم قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟ قلت: لخير ما، فقال: لعلك تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين! فقال: أسكت، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك، فقلت: الحمد لله. قال: أتحب أن تراه؟ قلت: نعم. قال: أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده. قال: فجلست فلما خرج قال لغلام له: خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وَخَلِّ بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة، فأومأ إلى بيت فدخلت فإذا به (ع) جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور! قال: فسلمت فرد، ثم أمرني بالجلوس، ثم قال لي: يا صقر ما أتى بك؟ قلت: يا سيدي جئت أتعرف خبرك؟ قال: ثم نظرت إلى القبر فبكيت! فنظر إلي فقال: يا صقر لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء الآن، فقلت: الحمد لله.

ثم قلت: يا سيدي حديث يروي عن النبي (ص) لا أعرف معناه، قال وما هو؟ فقلت قوله: لا تعادوا الأيام فتعاديكم، ما معناه؟ فقال: نعم، الأيام نحنُ ما

٦٦

قامت السماوات والأرض، فالسبتُ إسم رسول الله (ص) والأحدُ كنايةٌ عن أمير المؤمنين (ع)، والإثنين الحسن والحسين، والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني، وإليه تجتمع عصابة الحق، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

فهذا معنى الأيام، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة. ثم قال (ع): وَدِّعْ واخرج، فلا آمن عليك ».

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: الأيام ليست بأئمة ولكن كنى بها (ع) عن الأئمة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق. كما كنى الله عز وجل بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين عن النبي (ص) وعلي والحسن والحسين (ع) وكما كنى بالسير في الأرض عن النظر في القرآن، سئل الصادق (ع) عن قول الله عز وجل: أو لم يسيروا في الأرض، قال: معناه أو لم ينظروا في القرآن ».

ملاحظات

١. يظهر أن سجن الإمام (ع) في سامراء كان في إحضاره الأول الى سامراء، في أوائل خلافة المتوكل، ولم يسجن في سامراء بعدها.

٢. أما الصقر بن أبي دلف، فهو من الكرخ وكان فيها شيعة لأهل البيت (ع) من زمن الإمام الصادق (ع) , وكانت بغداد: الكرخ وبراثا، ثم أسس المنصور بينهما بغداد المدورة، وقد وثقنا ذلك في سيرة الإمام الكاظم (ع).

٦٧

والحديث يدل على أن الحاجب زرافة كان يعرف الصقر ويحترمه، وكان يميل الى الشيعة، وقيل يكتم تشيعه عن المتوكل، وقد روى مدحه في الهداية الكبرى.

٣. لايبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف الذي خرج على هارون الرشيد، ثم اتفق معه وصار والياً على بلاد الجبل من إيران، وأسس مدينة كرج. وقد كتبنا عنه في القبائل العراقية: قبيلة عِجل بن لُجَيْم.

وكان أبو دلف شيعياً متشدداً، وسكن قسم من أولاده في بغداد وآخرون في الحلة، وبقي قسم منهم في الجبل، ويشمل همدان وأصفهان وغيرهما، ومنهم ولاة في زمن الواثق والمتوكل.

٤. سؤال الصقر عن معنى الأيام في الحديث النبوي، يدل على تعمقه في التشيع فقد كان مطروحاً وقتها موقع الأئمة (ع) التكويني، وتفسير قوله تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) . « التوبة: ٣٦ ».

وكان في عصره بوادر ظهور مذاهب الغلو في بغداد، وأشهرها مذهب الحلاج والشلمغاني، وبشار الشعيري الذي عرف أتباعه بالكرخية المخمسة، وهو مذهب مأخوذ من مذهب الحلول المجوسي، قالوا: « إن سلمان الفارسي والمقداد وعماراً وأبا ذر وعمر بن أمية الضمري، هم الموكلون بمصالح العالم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ». « خلاصة الأقوال للعلامة / ٣٦٤ ».

٦٨

ولعل أول من أشاع ذلك في بغداد أحمد بن هلال الكرخي، الملعون على لسان الإمام المهدي (ع)، فسُمِّيَ أتباعه بالكرخية والكرخيين.

قال الطوسي في الغيبة / ٤١٤: « وكان الكرخيون مُخمسة، لايشك في ذلك أحدٌ من الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه، أكثر من أن تحصى، فلا نطول بذكرها الكتاب ها هنا ».

أقول: أبو دلف المغالي بعد الصقر بن أبي دلف بسنين كثيرة، وقد يكون من آل أبي دلف أو على اسمه. ولم يكن الصقر من أهل الغلو، وسؤاله عن معنى الأيام وتفسيرها ليس من الغلو، لأن الآية تدل على أن مخطط الكون مبني على عدة الشهور الإثني عشر، وعدة أوصياء الأنبياء (ع) ونقبائهم، فهو قانون المنظومة العددية في تكوين الكون، وفي هداية المجتمع. وبحثه خارج عن غرضنا.

٢. واتهم المتوكل الإمام (ع) بجمع السلاح للثورة عليه:

وقد أحضره ليلاً فأدخلوه على المتوكل وهو يشرب الخمر وأراد منه أن يشرب معه فأبى، بل وعظه فبكى المتوكل، وأمر برفع مائدة الخمر من مجلس الخلافة!

وقد روت ذلك عامة المصادر، ومنها المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ١٠ » بسنده عن محمد بن عرفة النحوي قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد: « وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره فوجده في بيت وحده مغلق عليه، وعليه مَدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت

٦٩

إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مَلْحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمَه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليه بها. فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط فأعْفِنِي منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني. فأنشده:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن مَعَاقِلهمْ

فأُودعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزلوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا

أينَ الأسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ

أينَ الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستارُ والكِللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهمْ

تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتِل

قد طالَ ما أكلُوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

وطالما عَمروا دوراً لتحصنهمْ

ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخروا

فخلَّفُوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قَفْراً مُعَطَّلَةً

وساكنوهَا إلى الأجْدَاثِ قد رَحَلُوا

قال: فأشفق كل من حضر على علي، وظنوا أن بادرة تبدر منه إليه، قال: والله لقد بكى المتوكل بكاء طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر

٧٠

برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً ».

ورواها الذهبي في تاريخ الإسلام « ١٨ / ١٩٩ » ، فقال: « سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم، ومن نيته التوثب، فكَبَسَ بيته ليلاً فوجده في بيت عليه مدرعة صوف، متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات، فأُخذ كهيئته إلى المتوكل وهويشرب ». واليافعي في مرآة الجنان: ٢ / ١١٩، والقلقشندي في معالم الخلافة: ١ / ٢٣٢، والأبشيهي في المستطرف: ٢ / ٨٧٤، وغيرهم، وغيرهم .

٣. وكان يقول: أعياني أمرُ ابن الرضا!

كان المتوكل ذات يوم غاضباً متوتراً، لأنه عجز أن يجرَّ الإمام الهادي (ع) الى شرب الخمر، ثم يُظهره للناس سكراناً لتسقط عقيدتهم به!

وهذه لجاجةٌ منه لأنه يعرف أن الإمام (ع) من العترة الذين طهرهم الله تعالى! روى في الكافي « ١ / ٥٠٢ »: « حدثني أبوالطيب المثنى يعقوب بن ياسرقال: كان المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا! أبى أن يشرب معي أوينادمني أوأجد منه فرصة في هذا! فقالوا له: فإن لم تجد منه، فهذا أخوه موسى قَصَّافٌ عَزَّاف، يأكل ويشرب ويتعشق. قال: إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نُمَوِّهَ به على الناس ونقول ابن الرضا! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة، وبنى له فيها، وحول الخمارين والقيان إليه، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرياً، حتى يزوره هوفيه!

٧١

فلما وافى موسى تلقاه أبوالحسن (ع) في قنطرة وصيف، وهو موضع يتلقى فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه، ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط.

فقال له موسى: فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟ قال: فلا تضع من قدرك ولا تفعل، فإنما أراد هتكك، فأبى عليه، فكرر عليه. فلما رأى أنه لا يجيب قال: أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهوعليه أبداً!

فأقام ثلاث سنين، يبكر كل يوم فيقال له: قد تشاغل اليوم فَرُحْ فَيروح. فيقال: قد سكر فبكِّر، فيبكر. فيقال: شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل، ولم يجتمع معه عليه ».

أقول: لما رأى الإمام (ع) إصرار أخيه على المنكر، وعلى إعطاء المتوكل مبرراً للطعن بإمامة العترة النبوية (ع)، دعاعليه بأن لا يلتقي بالمتوكل أبداً، وهو يعلم أن الله تعالى لا يردُّ له طلبة، فأخبره بأنه لن يجتمع مع صاحبه الخليفة الخمَّار أبداً!

هذا، وقد روي أن موسى المبرقع تاب بعد ذلك وأناب واستقام. وله ذرية كثيرة، وفيهم أبرار وعلماء أجلاء.

٤. يتفاءل المتوكل بنفسه ويتشاءم بالإمام (ع):

« عن فارس بن حاتم بن ماهويه قال: بعث يوماً المتوكل إلى سيدنا أبي الحسن (ع) أن اركب وأخرج معنا إلى الصيد لنتبرك بك، فقال للرسول: قل له إني راكب، فلما خرج الرسول قال لنا: كذب، ما يريد إلا غير ما قال! قالا: قلنا: يا

٧٢

مولانا فما الذي يريد؟ قال: يظهر هذا القول فإن أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ما يبعده من الله، وإن أصابه شرٌّ نسبه إلينا، وهويركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصيد فيرد هو وجيشه على قنطرة على نهر، فيعبر سائر الجيش ولا تعبر دابته، فيرجع ويسقط من فرسه فتزل رجله وتتوهن يداه، ويمرض شهراً.

قال فارس: فركب سيدنا وسرنا في المركب معه والمتوكل يقول: أين ابن عمى المدني؟ فيقول له: سائرٌ يا أمير المؤمنين في الجيش، فيقول: ألحقوه بنا، ووردنا النهر والقنطرة، فعبر سائر الجيش وتشعثت القنطرة وتهدمت، ونحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا، ورُسل المتوكل تحثُّه، فلما وردنا النهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبر سائر الجيش ودوابنا، فاجتهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر، وعثر المتوكل فلحقوا به، ورجع سيدنا، فلم يمض من النهار إلا ساعات حتى جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته وزلت رجله وتوهنت يداه، وبقي عليلاً شهراً! وعتب على أبي الحسن (ع) قال: أبوالحسن (ع) إنما رجع عنا لئلا تصيبنا هذه السقطة فنشأم به، فقال أبو الحسن (ع): صدق الملعون ».

٥. وكانت أم المتوكل تعتقد بالإمام (ع) وتنذر له:

روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون

٧٣

عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « بالضم عُصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه.

فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله، فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال. وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها. ثم استقل من علته فسعى به البطحائي العلوي، بأن أموالاً تحمل إليه وسلاحاً، فقال لسعيد الحاجب: أُهْجُمْ عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح، واحمله إليَّ.

قال إبراهيم بن محمد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة، لم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته: عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة، على حصير بين يديه، فلم أشك أنه كان يصلي، فقال لي: دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي: دونك المصلى، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبس.

فأخذت ذلك وصرت إليه، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له: كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه، وهذا خاتمي على الكيس، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فضم إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته، ورددت السيف

٧٤

والكيسين وقلت له: يا سيدي عَزَّ عليَّ! فقال لي: وَسَيَعْلَمُ أَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ».

أقول: البطحائي العلوي، الذي افترى على الإمام (ع) هو مع الأسف: محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي (ع).

٦. بنى المتوكل عاصمة جديدة بالإجبار:

من غطرسة المتوكل وبذخه: أنه قرر بناء عاصمة قرب سامراء، وسماها سامراء وأجبر الناس على أن يبنوا بيوتهم فيها، وكان يعطيهم نفقاتها، أو قسماً منها.

فقال الإمام الهادي (ع) كما في الهداية / ٣٢٠: « إن هذا الطاغية يبني مدينة يقال لها سامرا، يكون حتفه فيها على يد ابنه المسمى بالمنتصر، وأعوانه عليه الترك ...

ثم كان من أمر بناء المتوكل الجعفري وما أمر به بني هاشم وغيرهم من الأبنية هناك ما تحدث به، ووجه إلى أبي الحسن (ع) بثلاثين ألف درهم، وأمره أن يستعين بها على بناء دار، وركب المتوكل يطوف على الأبنية، فنظر إلى دار أبي الحسن (ع) لم ترتفع إلا قليلاً، فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان: عليَّ وعليَّ يميناً وأكدها: لئن ركبت ولم ترتفع دار أبي الحسن (ع) لأضربنَّ عنقه، فقال له عبيد الله: يا أمير المؤمنين لعله في إضاقة، فأمر له بعشرين ألف درهم وجه بها إليه مع أحمد ابنه، وقال له: تحدثه بما جرى، فصار إليه وأخبره بما جرى فقال: إنْ رَكِب فليفعل ذلك! ورجع أحمد إلى أبيه عبيد الله فعرفه ذلك، فقال عبيد الله: ليس والله يركب »! أي قال رئيس الوزراء: إن المتوكل لن يركب، لأنه يعرف أن الإمام (ع) يتكلم بإلهام من الله تعالى!

٧٥

٧. حاول المتوكل إذلال الإمام (ع) فدعا عليه:

« عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال: كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده وقربه منه دون الناس جميعاً، ودون ولده وأهله، أراد أن يبين موضعه عندهم. فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر ووجوه الناس، أن يَزَّينوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عُدَدهم وذخائرهم، ويَخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يَركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى!

ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رَجَّالَة، وكان يوماً قائظاً شديد الحر.

وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد (ع) وشقَّ ما لقيه من الحر والزحمة. قال زرافة: فأقبلت إليه وقلت له: يا سيدي يعز والله عليَّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلفته من المشقة، وأخذت بيده فتوكأ عليَّ وقال: يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني، أوقال بأعظم قدراً مني، ولم أزل أسائله وأستفيد منه، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب وأمر الناس بالإنصراف. فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم، وقدمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره فنزل وودعته وانصرفت إلى داري، ولوُلدي مؤدبٌ يتشيع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد

٧٦

وما سمعته من قوله: ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً مني. وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال: بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه؟ فقلت له: والله إني سمعته يقوله، فقال لي: إعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك! فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أوسبب يجري.

فقلت له: من أين لك ذلك؟ فقال: أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. ولا يجوز أن تبطل قول الإمام (ع)! قال زرافة، فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه، والفتح بن خاقان جميعاً، قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته!

فلقيت الإمام أبا الحسن (ع) بعد ذلك وعرفته ما جرى مع المؤدب وما قاله، فقال: صدق إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعز من الحصون والسلاح والجنن، وهودعاء المظلوم على الظالم، فدعوت به عليه فأهلكه الله ». « مهج الدعوات / ٢٦٧ ».

وفي الخرائج: ١ / ٤٠٢: ذكر زرافة حديثه مع مؤدبه وقال: « فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي، فخرج. فلما خلوت بنفسي تفكرت وقلت: ما يضرني أن آخذ بالحزم، فإن كان من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرني ذلك، قال: فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها، وفرقت كل ما

٧٧

كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلا حصيراً أقعد عليه. فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي، فتشيعت عند ذلك وصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعولي وتوليته حق الولاية ».

وفي الثاقب / ٥٣٩: « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال: دخلت على سعيد بن صالح الحاجب فقلت: يا أبا عثمان قد صرت من أصحابك، وكان سعيد يتشيع. فقال: هيهات! قلت: بلى والله. فقال: وكيف ذلك؟ قلت: بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل، ففعلت ذلك فوجدته يصلي فبقيت قائماً حتى فرغ، فلما انفتل من صلاته أقبل عليَّ وقال: يا سعيد، لا يكف عني جعفر أي المتوكل حتى يقطع إرباً إرباً! إذهب واعزب، وأشار بيده الشريفة فخرجت مرعوباً ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه! فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية، فسألت عنه فقيل: قتل المتوكل، فرجعنا وقلتُ بها ».

أقول: كذب سعيد، فقد كان جلوازاً سيَّافاً عند بني العباس، ثم ادعى التشيع!

وفي الخرائج: ١ / ٤١٢: « حدثنا ابن أرومة قال: خرجت أيام المتوكل إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن إليه ليقتله، فلما دخلت عليه، قال: تحب أن تنظر إلى إلهك؟ قلت: سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار. قال: هذا الذي تزعمون أنه إمامكم! قلت: ما أكره ذلك. قال: قد أمرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فادخل إليه.

٧٨

فلم ألبث أن خرج قال: أدخل، فدخلت الدار التي كان فيها محبوساً فإذا هو ذا بحياله قبر يحفر، فدخلت وسلمت وبكيت بكاءً شديداً، قال: ما يبكيك؟ قلت: لما أرى. قال: لا تبك لذلك فإنه لا يتم لهم ذلك. فسكن ما كان بي فقال: إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. قال: فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل وقتل صاحبه ».

٨. أظهر الله قدرة وليه (ع) فخاف الطاغية:

روى الخصيبي في الهداية الكبرى / ٣٢٢: « عن الحسن بن مسعود وعلي وعبيد الله الحسني، قال: دخلنا على سيدنا أبي الحسن (ع) بسامرا وبين يديه أحمد بن الخصيب ومحمد وإبراهيم الخياط، وعيونهم تفيض من الدمع، فأشار الينا (ع) بالجلوس فجلسنا وقال: هل علمتم ما علمه إخوانكم؟ فقلنا: حدثنا منه يا سيدنا ذكراً. قال: نعم، هذا الطاغي قال مسمعاً لحفدته وأهل مملكته: تقول شيعتك الرافضة إن لك قدرة، والقدرة لا تكون إلا لله، فهل تستطيع إن أردت بك سوءً أن تدفعه؟ فقلت له: وإن يمسك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو.

فأطرق ثم قال: إنك لتروي لكم قدرة دوننا، ونحن أحق به منكم، لأننا خلفاء وأنتم رعيتنا. فأمسكت عن جوابه، لأنه أراد أن يبين جبره بي، فنهضت فقال: لتقعدن وهو مغضب، فخالفت أمره وخرجت، فأشار إلى من حوله: الآن خذوه، فلم تصل أيديهم إليَّ وأمسكها الله عني! فصاح: الآن قد أريتنا قدرتك والآن نريك قدرتنا، فلم يستتم كلامه حتى زلزلت الأرض ورجفت!

٧٩

فسقط لوجهه، وخرجتُ فقلت: في غدٍ الذي يكون له هنا قدرة يكون عليه الحكم لا له. فبكينا على إمهال الله له وتجبره علينا وطغيانه.

فلما كان من غد ذلك اليوم، فأذن لنا فدخلنا فقال: هذا ولينا زرافة يقول إنه قد أخرج سيفاً مسموماً من الشفرتين، وأمره أن يرسل إليَّ فإذا حضرت مجلسه أخلى زرافة لأمته مني ودخل إلي بالسيف ليقتلني به، ولن يقدر على ذلك.

فقلنا: يا مولانا إجعل لنا من الغم فرجاً. فقال: أنا راكب إليه فإذا رجعت فاسألوا زرافة عما يرى. قال: وجاءته الرسل من دار المتوكل، فركب وهويقول: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. ولم نزل نرقب رجوعه إلى أن رجع ومضينا إلى زرافة فدخلنا عليه في حجرة خلوته فوجدناه منفرداً بها واضعاً خده على الأرض يبكي ويشكر الله مولاه ويستقيله، فما جلس حتى أتينا إليه فقال لنا: أجلسوا يا إخواني حتى أحدثكم بما كان من هذا الطاغي، ومن مولاي أبي الحسن (ع)، فقلنا له: سُرَّنَا سَرَّك الله، فقال: إنه أخرج إلي سيفاً مسموم الشفرتين وأمرني ليرسلني إلى مولاي أبي الحسن إذا خلا مجلسه فلا يكون فيه ثالث غيري وأعلومولاي بالسيف فأقتله. فانتهيت إلى ما خرج به أمره إليَّ فلما ورد مولاي للدار وقفت مشارفاً فاعلم ما يأمر به، وقد أخليت المجلس وأبطأت، فبعث إلي هذا الطاغي خادماً يقول إمض ويلك ما آمرك به. فأخذت السيف بيدي ودخلت، فلما صرت في صحن الدار ورآني مولاي فركل برجله وسط المجلس فانفجرت الأرض، وظهر منها ثعبان عظيم فاتحٌ فاه، لوابتلع سامرا ومن فيها لكان في فيه

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

في الاستمرار بمسيرتها نحو هدفها السماوي الذي فرضه الله سبحانه وتعالى وقد عمل الإمام على هذا المحور بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، كما عبّر عن مسؤوليته تجاه هذا الأمر بقولهعليه‌السلام :(لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ؛ لألقيت حبلها على غاربها) (١) .

فحاول الإمامعليه‌السلام تعبئة الأمة ، ولكنّه لم يتمكّن أن يصل إلى حدّ إنجاح هذه المحاولة لأسباب منها :

١ ـ عدم وعي الأمة لرزيّة يوم السقيفة وما جرى فيها من مؤامرات سياسية وتوجّها خاطئة كانت خافية على شريحة كبيرة من الأمة .

٢ ـ عدم فهم دور ومسؤولية الإمام والإمامة ، فقد تصوّروه مطلباً شخصياً وهدفاً فردياً ، ولكنّ الحقيقة أنّ دخول الإمام في مواجهة الحاكمين كان بوعي رسالي وإرادة صادقة لاستمرار الرّسالة الإسلامية نقيةً كما شرّعها الله بعيدةً عن الزيغ والانحراف ، ومضحّياً بكلّ شيء من أجل ذلك حتى لو كان ذلك تعدّياً على حقّ الشخصيّ ، فالمقياس هو سلامة الرسالة وديمومتها على أسس الحقّ والعدل الإلهي وهو القائل :(إعرف الحقّ تعرف أهله) (٢) وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ) (٣) .

كما أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام عمل بشمولية وعلى جميع المستويات موفّقاً بين النظرية والتطبيق ، فربّى أصحابه على أنّهم أصحاب الأهداف الرسالية لا أصحاب الأشخاص يميلون مع هذا الطرف أو ذاك، ونجد أنّ الإمام رفض أن يستلم الحكم بشرط السير بسيرة من قبله ، إذ كانت تسيء إلى الرسالة والمجتمع .

٣ ـ الرواسب الجاهلية المتأصّلة في فكر الأمة ، فالعهد قريب ولم تدرك الأمة عمق الرسالة والرسول ودور الإمام ، فتصوّروا أنّ عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوصاية للإمامعليه‌السلام مجرّد عملية ترشيح لأحد أعضاء أسرته ، وإنّه قد يهدف لإحياء أمجاد أسرة متطلّعة للمجد والسلطان كما هو دأب غالب الحكّام قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده .

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة الشقشقية .

(٢) بحار الأنوار : ٦ / ١٧٩ ط الوفاء .

(٣) راجع سنن الترمذي : ٢ / ٢٩٨ وتاريخ بغداد : ١٤ / ٣٢١ .

١٦١

٤ ـ دور المنافقين وأطماعهم في زعزعة الاستقرار الأمني والاجتماعي ، ومحاولة إثارة النوازع والأحقاد بين صفوف المسلمين ، وتغلغلهم في صفوف الجهاز الحاكم والدولة ويزدادون توغّلاً إذا كان الحاكم ضعيفاً أو منحرفاً .

٥ ـ الأمراض النفسية لدى المتصدّين للزعامة ، فكان الشعور بالنقص لديهم تجاه الإمام عليّعليه‌السلام بدرجة عالية ، حيث كان الإمامعليه‌السلام يمثّل تحدّياً بوجوده ، بصدقه ، بجهاده ، بصراحته ، باستبساله وشبابه (كما ورد في كتاب معاوية لمحمد ابن أبي بكر)(١) .

المحور الثاني : وحين لم يفلح المحور الأوّل في بلوغ هدفه عمل الإمامعليه‌السلام بمنهجية أخرى ، ألا وهي تحصين الأمة ضد الانهيار التامّ وإعطاؤها من المقوّمات القدر الكافي كي تتمكّن من البقاء صامدة في مواجهة المحنة بعد استيلاء فئة غير كفوءة على السلطة وانحدار الأمة عن جادّة الحقّ والصواب بسببها .

فاجتهد الإمامعليه‌السلام في تعميق الرسالة فكرياً وروحياً وسياسياً في صفوف الأمة ، وتقديم الوجه الحقيقي للنظرية الإسلامية عبر أساليب منها :

١ ـ التدخّل الإيجابي في عمل الزعامة المنحرفة بعد أن كانوا لا يحسنون مواجهة ومعالجة القضايا الكثيرة البسيطة منها والمعقدة وتوجيههم نحو المسار الصحيح لإنقاذ الأمة من مزيد الضياع ، فكان دور الإمامعليه‌السلام دور الرقيب الرسالي الذي يتدخّل لتقويم الأود.

ونجد الإمام يتدخّل للردّ على شبهات المنكرين للرسالة بعد أن عجز

ــــــــــــ

(١) وقعة صفّين : ١١٩ .

١٦٢

المتصدّي للزعامة عن ذلك ، ونجده أيضاً يتدخّل ليعطي للخليفة نصائح عسكرية أو اقتصادية ، وما أكثر نصائحه ومعالجاته القضائية(١) !

٢ ـ توجيه مسار سياسة الخليفة ومنعها من المزيد من الانحراف من خلال الوعظ والنصيحة ، وبدا هذا الأسلوب جليّاً في عهد عثمان بن عفان حيث كان لا يقبل التوجيه والنصيحة .

٣ ـ تقديم المثل الأعلى للإسلام والصورة الحقيقية لطبيعة وشكل الحكم والمجتمع الإسلامي ، وقد ظهر هذا واضحاً في فترة حكومة الإمامعليه‌السلام ، وعلى هذا الأساس استند قبول الإمام للحكم بعد أن رفضه ، فقد مارس دور القائد السياسي المحنّك والحاكم العادل ونموذج الإنسان الذي صاغته الرسالة الإسلامية وكان مثالاً يُحتذى به لبلوغ هدف الرسالة ، فهو المعصوم عن الخطأ والزلل والدنس في الفكر والعمل والسيرة .

٤ ـ تربية وبناء ثلّة صالحة من المسلمين تُعين الإمامعليه‌السلام في حركته الإصلاحية والتغييرية ، وذلك عبر تحرّكها في وسط الأمة لإنضاج أفكارها وتوسيع قاعدة الفئة الواعية الصالحة ، وتستمر في مسيرها عبر التأريخ لتتواصل الأجيال اللاحقة في العمل وفق النهج الإسلامي(٢) .

٥ ـ إحياء سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتنبيه عليها وتدوينها والاهتمام بالقرآن تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وتدويناً ، إذ هما عماد الشريعة، ولابدّ أن تدرك الأمة حقائق القرآن والسنّة كما شُرّعت وكما أريد لها أن تفهمها .

الثقافة الإسلامية في حكم الخلفاء(*) :

من أخطر المشاكل التي تواجهها الرسالات والعقائد هو تصدّي الفئات

ــــــــــــ

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٣٣ ، ١٤٥ .

(٢) أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف للشهيد السيد محمّد باقر الصدر : ٥٩ ـ ٦٩ .

(*) للمزيد من التفصيل راجع معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري : ٢ / ٤٣ .

١٦٣

العاجزة والفارغة فكرياً للدفاع عنها أو تطبيقها ، وحين يتعرّض المتصدّون للزعامة للاختبار لمعرفة رأي الرسالة ومدى علمهم بها فإنّ سكوتهم أو اختلافهم سيزرع شكّاً لدى الجماهير ويزعزع ثقتهم بالرسالة ومقدرتها على مجاراة الحياة ، ومن ثَمّ يتحوّل الشكّ إلى حالة مرضية تجعل الأمة تتقاعس عن التفاعل مع الرسالة أو الدفاع عنها في معترك الصراعات وخضمّ الأزمات ، ومن هنا نجد تصدّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلّ قضيّة غامضة أو مجهولة تبدو هنا أو هناك في حياة الأمة حيث يعطي الموقف الواضح للرسالة منها ، كما ترى ذلك جليّاً في سيرة الإمام عليّعليه‌السلام من بعده خلال حكم الخلفاء الثلاثة حين كان يظهر للناس عجزهم وقصورهم العلمي والعملي ، إذ فسحعليه‌السلام المجال إلى أقصاه للبحث والسؤال عندما تسلّم زمام الحكم.

وحين أدركت الفئة الحاكمة أنّها ليست المؤهّلة للحكم وأنّها قاصرة علمياً ؛ اتّخذت عدّة إجراءات لمعالجة هذه المثالب منها :

١ ـ منع نشر أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما فيها من التوجيه العلمي والبعث نحو الوعي والفاعلية في الحياة ، إضافةً إلى أنّ أحاديث الرسول تعلن بوضوح أنّ أهل البيت هم المعنيّون بالخلافة وشؤون الرسالة دون من عداهم ، ومن هنا نعلم السرّ في رفع شعار (حسبنا كتاب الله) الذي تحدّى قائله به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه عندما أراد أن يدوّن كتاباً لن تضلّ الأمة من بعده .

ويبدو أنّ ظاهرة تحديد أو منع نشر أحاديث النبيّ بدأت قبل هذا التأريخ ، وذلك عندما منعت قريش عبد الله بن عمرو بن العاص بن كتابة الأحاديث(١) ، كما قامت السلطة الحاكمة بحرق الكتب التي تضمّنت نصوصاً من أحاديث الرسول(٢) .

ــــــــــــ

(١) سنن الدارمي : ١ / ١٢٥ ، وسنن أبي داود : ٢ / ٢٦٢ ، ومسند أحمد : ٢ / ١٦٢ وتذكرة الحفّاظ : ١ / ٢ .

(٢) طبقات ابن سعد : ٥/ ١٤٠ ط ، بيروت .

١٦٤

٢ ـ إنّ ظاهرة النهي عن السؤال عمّا لا يُعلم من معاني الآيات القرآنية تعني تجريد الأمة من سلاح البحث والتحقيق والتعلّم للقرآن نفسه بعد عزل السنّة عن القرآن ، والاهتمام بظواهر القرآن من دون فسح المجال للتدبّر والتفقّه في آياته وأحكامه حتى أوصى عمر عمّاله قائلاً : (جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم) بل إنّه عاقب كلّ من يسأل عن تفسير آيات القرآن(١) .

٣ ـ فتح باب الاجتهاد في مقابل النصّ ، فقد اجتهد أبو بكر في جملة من الأحكام من دون أن يستند إلى نصّ قرآني أو حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ذلك مصادرة تركة النبيّ ومنع أهل البيت من حقّهم في الخمس ، وإحراقه الفجاءة السلمي(٢) وفتواه في مسألة الكلالة(٣) وفتواه في إرث الجدّة(٤) ، كما اجتهد عمر بن الخطّاب في التمييز في العطاء خلافاً لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) واجتهد في منع متعتي الحجّ والنساء وغيرها ممّا تجده في كتاب (النصّ والاجتهاد)(٦) ، وقد اجتهد عثمان بن عفّان في إسقاط القود عن عبيد الله بن عمر(٧) وتأوّل في جملة من الأحكام الصريحة خلافاً لما قرّره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ثار عليه المسلمون كما عرفت .

كلّ هذه الأمور وغيرها أثارت للدولة الإسلامية وللأمة المسلمة الكثير من المصاعب والمصائب التي كانت السبب الرئيس في انحراف المسيرة المقرّرة للرسالة الإسلامية ووقوع الكثيرين في شِباك الفتن والضلالة حتى قال الإمام عليّعليه‌السلام عن ذلك :

ــــــــــــ

(١) تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٠٧ ، وسنن الدارمي : ١ / ٥٤ ، وتفسير الطبري : ٣ / ٣٨ والإتقان للسيوطي : ١ / ١١٥.

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٨ ط مؤسسة الأعلمي .

(٣) سنن الدارمي : ٢ / ٣٦٥ ، والسنن الكبرى للبيهقي : ٦ / ٢٢٣ .

(٤) سنن الدارمي : ٢ / ٣٥٩ ، واُسد الغابة : ٣ / ٢٩٩ .

(٥) فتوح البلدان : ص ٥٥ ، وتأريخ الخلفاء للسيوطي : ١٣٦ .

(٦) كنز العمال : ١٦ / ٥١٩ الحديث ٤٥٧١٥ ، وزاد المعاد لابن القيم : ٢ / ٢٠٥ ز

(٧) راجع منهاج السنّة لابن تيمية : ٣ / ١٩٣ ، وهناك اجتهادات كثيرة للخلفاء تذكرها كتب التأريخ .

١٦٥

(إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله ، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ ؛ لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل ، انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى)(١) .

جهود الإمامعليه‌السلام في إحياء الشريعة الإسلامية :

كان الإمام عليّعليه‌السلام يرى أن من أوليّات مهامّه بعد غياب الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو صيانة الشريعة المقدسة من الزيغ والانحراف ورعاية شؤون الدّولة الإسلامية حتى تستمر من دون تلكؤ أو توقّف ، وقد بذل جهده في ذلك أثناء حكم الخلفاء متغاضياً بمرارة وألم عن حقّه في إدارة شؤون الأمة مباشرة ، وما أن أمسك زمام الحكم ؛ حتى خطا خطوات عظيمة في إحياء سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الدعوة إلى الحياة في ظلّها ، واهتم اهتماماً كبيراً بالقرآن الكريم وتفسيره وتربية الأمة وإصلاح الفساد أَينما وجد ، ويمكننا أن نلحظ الخطوات التي قام بها الإمام عليّعليه‌السلام كما يلي :

١ ـ فتح باب الحوار والسؤال عن القرآن والسنّة وكلّ ما يتعلّق بالشريعة المقدّسة أمام الجماهير المسلمة وبصورة علنية وعامّة من دون أن يتردّد حتى في جواب مخالفيه وأعدائه الحاقدين عليه .

٢ ـ الاهتمام بالقرّاء مراعياً لشؤونهم ومتّبعاً فيهم سنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التعليم ، فكان تعليم قراءة القرآن مقروناً بتعلّم ومعرفة ما فيه من العلم والعمل والتفقّه في أحكام الدين .

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة (٥٠) .

١٦٦

٣ ـ الاهتمام بقراءة المسلمين من غير العرب ، أو من الذين لا يحسنون اللغة العربية بصورة صحيحة ، فوضع علم النحو لتقويم اللسان عن اللحن في الكلام(١) .

٤ ـ دعا الإمامعليه‌السلام إلى رواية السنّة النبوية وتدوينها ومدارستها ، فكان يقول :(قيّدوا العلم بالكتابة) (٢) وأمرعليه‌السلام بالبحث في علوم السنّة فيقول :(تزاوروا وتدارسوا الحديث ولا تتركوه يدرس) (٣) .

٥ ـ ركّز الإمام على مصدرية القرآن والسنّة في التشريع والأحكام ، وأدان المصادر الأخرى كالاستحسان والقياس وغيرهما ممّا لا يكون مصدراً شرعياً للأحكام الإلهية(٤) .

كما أنّ الإمامعليه‌السلام أحيى سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سيرته العبادية والأخلاقية ، فعالج البدع التي طرأت على الشريعة نتيجة اجتهاد وإبداع من سبقه من الخلفاء(٥) .

٦ ـ استطاع الإمام أن يبني ثلّةً صالحةً من المؤمنين تتحرّك في المجتمع الإسلامي للمساهمة في قيادة التجربة الإسلامية والمحافظة على المجتمع الإسلامي .

ويبدو أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام بدأ عملياً في هذا المسار منذ حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأمر منه ، فنجد أن النبيّ كان يُوكل مهمّة تعهّد ورعاية من يجد فيهم الرغبة والوعي في التحرك الإسلامي إلى الإمام عليعليه‌السلام ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحثّ على التمسّك في العمل بخط عليّ حتى تكوّنت جماعة عرفت بشيعة عليّ في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل : عمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، وأبي ذر ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، والمقداد بن الأسود ، وعبد الله بن عباس ، ممّن ثبتوا على هذا الخطّ رغم كلّ الظروف الصعبة التي مرّت بها التجربة الإسلامية بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وحين استلم أمير المؤمنينعليه‌السلام الخلافة ؛ احتفّت به جماعة من المؤمنين الأوفياء الأشدّاء ، فازداد الإمامعليه‌السلام اعتناءً بهم وأعدّهم إعداداً رسالياً خاصاً ، وأودعهم علوماً شتّى في مختلف نواحي الحياة ،

ــــــــــــ

(١) الأغاني : ١٢ / ١٣ ، الفهرست لابن النديم : ٥٩ ، وفيات الأعيان ك ٢ / ٢١٦ ، والبداية والنهاية ك ٨ / ٣١٢ .

(٢) الطبقات الكبرى : ٦ / ١٨٦ ، وتدوين السنّة الشريفة للسيد الجلالي : ١٣٧ .

(٣) كنز العمال ك ١٠ حديث ٢٩٥٢٢ .

(٤) نهج البلاغة : الخطبة (١٢٥) .

(٥) صحيح مسلم : كتاب صلاة التراويح ، ومسند أحمد : ٥ / ٤٠٦ ، وصحيح البخاري : كتاب الخمس : باب ٥ / حديث ٢٩٤٤ ، وسنن أبي داود : ٢ / حديث ١٦٢٢ .

١٦٧

وقام هؤلاء الصحابة الأجلاّء بدورهم في دعم الرسالة الإسلامية ومساندة الإمامة والمحافظة على الشريعة من الزيغ والانحراف والاندثار ، فكانت مواقفهم رائعة وبطولية مقابل الحكّام الطواغيت والمتسلّطين بغير حقّ على أمور المسلمين ، ومن هؤلاء : مالك الأشتر ، كميل بن زياد النخعي ، محمد بن أبي بكر ، حجر بن عدي ، عمرو بن الحمق الخزاعي ، صعصعة بن صوحان العبدي ، رشيد الهجري ، هاشم المرقال ، قنبر ، سهل بن حُنيف وغيرهم .

الفصل الثاني: الإمام عليعليه‌السلام مع الناكثين(*)

مثيروا الفتن :

كانت بيعة الناس لأمير المؤمنينعليه‌السلام بمنزلة صاعقة حلّت بقريش وكلّ من يكنّ العداء للإسلام ، فحكومة الإمام هي امتداد لحكومة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أذلّت الظلم والعدوان والبغي ، وجاءت بالعدل والمساواة والحقّ والفضيلة ، وحطّمت المصالح الاقتصادية القائمة على الربا والاحتكار والاستغلال ، فعزّ على كثير من كبار قريش أن يكونوا على قدم المساواة مع أيّ مواطن آخر من أيّ فئة كانت في حكومة الإمام عليّعليه‌السلام الذي طالت إصلاحاته ولاة عثمان .

وقد كان كلّ من طلحة والزبير يرى نفسه قريناً لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، بعدما رشّحهما عمر للخلافة فكان يتوقّع كلّ منهما أن يلي حكومة جزء كبير من البلاد الإسلامية على أقلّ تقدير ، وكان لعائشة المقام المرموق لدى الخلفاء السابقين حيث كانت تتحدّث كما تشاء ، وهي الآن تعلم أن لا مجال لها في حكومة تعتمد القرآن والسنّة مصدراً ودستوراً للتشريع والتنفيذ .

وكان معاوية يتصرّف في الشام تصرّف الحاكم المطلق المتفرّد والمطامع في السيادة الإسلامية العظمى جادّاً في تولّي أمور الأمة الإسلامية بصورة تامّة ، فكانت المفاجأة لجميع هؤلاء بقرارات الإمام وتخطيطه للإصلاح الشامل إضافةً إلى تضرّر مجموعة أو مجموعات كانت تستغل مناصبها في عهد عثمان وهي الآن قد فقدت مصدر ثرواتها ، فإنّ وجود الإمام في قمّة السلطة كان يُعدّ تهديداً صارخاً للخطّ القبلي المنحرف الذي سارت عليه قريش لأنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام قد عرف بأنّه القادر على رفع راية الإسلام الحق من دون أن تأخذه في الله لومة لائم ، ولهذا فهو سيكشف زيف الخطّ المنحرف دون تردّد .

ــــــــــــ

(*) وقعت معركة الجمل في جمادي الآخرة عام (٣٦) هـ.

١٦٨

من هنا اجتمعت آراؤهم وأهواؤهم على إثارة الفتن للحيلولة دون استقرار الحكم الجديد ، ولم يكن تقلّب الوضع السياسي ووجود العناصر المعادية للاتّجاه الصحيح لمسيرة الحكومة الإسلامية غريباً على الإمام عليّعليه‌السلام ؛ فقد أخبره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتمرّد بعض الفئات على حكمه ، وعهد إليه بقتالهم كما أنّه قد سمّاهم له بالناكثين والقاسطين والمارقين(١) .

عائشة تعلن التمرّد :

كان موقف السيّدة عائشة من عثمان غريباً متناقضاً لا يليق بمقام امرأة تعدّ من نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت تردّد قولها : (اقتلوا نعثلاً) ، وتحرّض الناس على التمرّد عليه وعلى قتله(٢) ، وقد خرجت من المدينة إلى مكّة أثناء محاصرة عثمان من قبل الثوار وهي تتوقّع النهاية السريعة لعثمان ، ومن ثمَّ فوز قريبها طلحة بالخلافة ، والاستيلاء على الحكم .

وحين فوجئت بأنّ الأمر قد استقرّ ـ بعد بيعة الناس إلى الإمام عليّعليه‌السلام ، كرّت راجعة نحو مكّة بعد أن كانت قد عزمت على الرجوع إلى المدينة(٣) ، وأعلنت حزنها وتظلّمها على عثمان ، فقيل لها : أنتِ التي حرّضت على قتله

ــــــــــــ

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٣٩ ، وتأريخ بغداد : ٨ / ٣٤٠ ، ومجمع الزوائد : ٩ / ٢٣٥ ، وكنز العمال : ٦ / ٨٢ .

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ٦ م ٢١٥ ، وكشف الغمة ك ٣ / ٣٢٣ .

(٣) الكامل في التأريخ : ٣ / ٢٠٦ .

١٦٩

فاختلقت عذراً واهياً ، فقالت : إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه(١) . وكأنّها كانت حاضرة تشهد مقتله .

وأعلنت السيدة عائشة حربها ضدّ الإمام عليّعليه‌السلام في خطابها الذي ألقته في مكّة محرّضة أتباعها على الحرب(٢) .

وطمعت السيدة عائشة في توسيع جبهتها ضدّ الإمام عليّعليه‌السلام فحاولت مخادعة أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخروج معهنّ ضدّ الإمام ، فامتنعن من ذلك ، وحاولت أم سلمة أن تنصحها عسى أن ترجع عن غيّها ، وتجنّب الأمة البلاء والدماء ، فقالت لها : إنّك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول وما كان اسمه عندك إلا نعثلاً ، وإنّك لتعرفين منزلة عليّ بن أبي طالب عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أفأذكِّرك ؟ قالت أم سلمة : أتذكرين يوم أقبلعليه‌السلام ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال خلا بعليّ يناجيه ، فأطال فأردت أن تهجمين عليهما فنهيتك فعصيتِني فهجمتِ عليهما ، فما لبثتِ أن رجعت باكية ، فقلتُ : ما شأنك ؟ فقلتِ : إنّي هجمت عليهما وهما يتناجيان ، فقلتُ لعليّ : ليس لي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ يوم من تسعة أيام أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي ؟ فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليَّ وهو غضبان محمرّ الوجه ، فقال :(ارجعي وراءك والله لا يبغضه أحدٌ من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلاّ وهو خارج من الإيمان) ، فرجعتِ نادمة ساخطة ، قالت عائشة : نعم أذكر ذلك ، قالت أم سلمة : أيّ خروج تخرجين بعد هذا ؟ فقالت عائشة : إنّما أخرج للإصلاح بين الناس ، وأرجو فيه الأجر إن شاء الله ، فقالت أم سلمة : أنتِ ورأيكِ ، فانصرفت عائشة عنها(٣) .

وروي : أنّ نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرجن مع عائشة إلى منطقة (ذات عرق)

ــــــــــــ

(١) الكافي في التأريخ : ٣ / ٢٠٦ .

(٢) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٧٤ .

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد : ٦ / ٢١٧ ، وبحار الأنوار ك ٣٢ / ١٤٩ .

١٧٠

ويبدو أنّهنّ حاولن إرجاع عائشة إلى المدينة والحيلولة دون وقوع الفتنة ، فلم يتوصّلن إلى حلّ فبكين على الإسلام وبكى الناس معهنّ ، وسمّي ذلك اليوم بـ (يوم النحيب)(١) .

مكر معاوية ونكث الزبير وطلحة للبيعة :

كان معاوية يتمتّع بسيطرة إدارية على شؤون الشام ، ولديه أجهزة يستطيع بها أن يحرّكها وفق رغباته وأهوائه ، وما كانت لديه مشكلة مع جماهير الشام لأنّ بلاد الشام منذ عرفت الإسلام عرفت آل أبي سفيان ولاة عليها من قبل الخليفة ، فقبله كان أخوه يزيد والياً عليها ، كما أنّ بلاد الشام بعيدة عن عاصمة الخلافة ممّا أعطاه قدراً كافياً من الاستقرار والقوّة وبدأ معاوية تحرّكه السياسي لتأجيج الفتنة المشتعلة بسبب مقتل عثمان ، ومن ثَمَّ ليستثمرها لصالحه ، فخاطب الزبير وطلحة بصيغة تحرّك فيهما الأطماع والرغبات للدخول في الصراع الجديّ ضدّ الإمامعليه‌السلام فتزداد الفتنة في العاصمة المركزية فكتب رسالة إلى الزبير جاء فيها :

لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك فأظهر الطلب بدم عثمان وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله وخذل مناوئكما(٢) .

ولمّا وصلت رسالة معاوية إلى الزبير ؛ خفّ لها طرباً واطمأنّ إلى صدق نيّة معاوية ، واتفق هو وطلحة على نكث بيعة الإمام والخروج عليه ، فأظهر الحسرة

ــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٢٠٩/٣.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد: ٢٣١/١.

١٧١

والتأسف على بيعتهما للإمام مردّدين : بايعنا مكرهين ، وما أن وصلت إلى أسماعهما صيحة السيدة عائشة محرّضة على الإمام ؛ حتى اجتهدا في إيجاد الحيلة للخروج إليها وروي أنّهما جاءا يطلبان من الإمام المشاركة في الحكم فلم يتوصّلا إلى شيء ، فقرّرا الالتحاق بعائشة ثمّ عادا ثانية إلى الإمامعليه‌السلام ليستأذناه للخروج للعمرة ، فقال لهما الإمامعليه‌السلام :نعم، والله ما العمرة تريدان وإنّما تريدان أن تمضيا لشأنكما (١) وروي أنّهعليه‌السلام قال لهما :بل تريدان الغدرة (٢) .

لقد أجمع رأي الخارجين على بيعة الإمامعليه‌السلام في بيت عائشة في مكّة بعد أن كانوا متنافرين متحاربين في عهد عثمان ، فضمّ الاجتماع الزبير وطلحة ومروان بن الحكم على أن يتّخذوا من دم عثمان شعاراً لتعبئة الناس لمحاربة الإمام عليّعليه‌السلام ، فرفعوا قميص عثمان كشعار للتمرّد والعصيان ، وأنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام هو المسؤول عن إراقة دم عثمان ، لأنه آوى قتلته ولم يقتصّ منهم ، وقرّروا أن يكون زحفهم نحو البصرة واحتلالها واتّخاذها مركزاً للتحرّك ومنطلقاً للحرب ، حيث أنّ معاوية يسيطر على الشام ، والمدينة لا زالت تعيش حالة الاضطراب(٣) .

حركة عائشة ومسيرها نحو البصرة :

مضت عائشة في خطّتها لإثارة الفتنة والدخول في المواجهة المسلّحة مع الإمام عليّعليه‌السلام الخليفة الشرعي ، فحشدت أعداداً من الناس يدفعهم الحقد والكراهية للإسلام وللإمام عليّعليه‌السلام ويحدوهم الطمع بالدنيا ونيل السلطان ، وجهّزهم يعلى بن منية بمستلزمات الحرب من السيوف والإبل التي سرقها من اليمن عندما عزله الإمام عنها ، وقدم عليهم عبد الله بن عامر بمال كثير من البصرة

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ٧٠ .

(٢) شرح النهج : ١ / ٢٣٢ .

(٣) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٧١ ط مؤسسة الأعلمي .

١٧٢

سرقه أيضاً(١) وجهّزوا لعائشة جملها المسمّى (عسكر) وقد احتفّ بها بنو أمية وهي تتقدّم أمام الحشد الزاخر متوجّهين نحو البصرة ، تسبقهم كتبهم التي أرسلوها إلى عدد من وجوه البصرة ، يدعونهم فيها للخروج على بيعة الإمامعليه‌السلام بدعوى المطالبة بدم عثمان(٢) .

وبدرت سمة المكر والخداع ـ التي تكاد تكون ملازمة لكلّ من ناوأ الإمام عليّاًعليه‌السلام ـ من زعماء الفتنة ، فلمّا خرجوا من مكّة أذّن مروان بن الحكم للصلاة ، ثمّ جاء حتّى وقف على طلحة والزبير محاولاً إثارة الوقيعة بين الرجلين وغرس فتنة ليستغلّها إن تمكّن من الأمر ، فقال : على أيّكما أُسلِّم بالإمرة وأُؤذَّن بالصلاة ، فتنافس أتباع الرجلين كلّ يريد تقديم صاحبه ، فأحسّت عائشة بوقوع التفرقة فأرسلت أن يصلّي بالناس ابن أختها عبد الله بن الزبير .

وحين وصل جيش عائشة إلى منطقة (أوطاس) ؛ لقيهم سعيد بن العاص والمغيرة بن شعبة ، وحين علم سعيد بدعوى عائشة (الطلب بدم عثمان) استهزأ ضاحكاً وقال : فهؤلاء قتلة عثمان معك يا أم المؤمنين(٣) ! .

وروي : أنّ سعيداً قال : أين تذهبون وتتركون ثأركم وراءكم على أعجاز الإبل(٤) ؟! ، يقصد بذلك طلحة والزبير وعائشة ، ووصل الجيش إلى مكان يقال له : (الحوأب) فتلقّتهم كلاب الحيّ بنباح وعواء ، فذعرت عائشة وسألت محمد بن طلحة عن المكان فقالت : أيّ ماء هذا ؟ فأجابها : ماء الحوأب يا أم المؤمنين فهلعت وصرخت : ما أراني إلاّ راجعة ، قال : لِمَ ، قالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لنسائه : كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب وإيّاك أن تكوني يا

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٧٩ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢٠٧ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٨٠ ، الكامل في التأريخ : ٣ / ٢١٠ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٨٢ .

(٤) الكامل في التأريخ : ٣ / ٢٠٩ .

١٧٣

حميراء(١) ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت : ردّوني ، أنا والله صاحبة ماء الحوأب ، فأناخوا حولها يوماً وليلة ، وجاءها عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله انه ليس ماء الحوأب ، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك(٢) فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام .

مناوشات على مشارف البصرة :

حين شارف جيش عائشة مدينة البصرة ؛ قام عثمان بن حنيف والي الإمامعليه‌السلام على البصرة موضّحاً أمر الجيش المتقدم إليهم ، ومحذّراً الناس من الفتنة وبطلان وضلالة موقف زعماء الجيش ، وأعلن المخلصون للإسلام وللإمامعليه‌السلام استعدادهم للدفاع عن الحقّ والشريعة المقدّسة وصدّ الناكثين عن الاستيلاء على البصرة(٣) .

وفي محاولة من عثمان بن حنيف ـ الذي يتأسّى بأخلاق الإسلام ويطيع إمامهعليه‌السلام ـ سعى أن يثني عائشة ومَن معها من غيّهم لتجنّب وقوع القتال ، فأرسل إليهم عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي ليحاججوا عائشة ومن معها ببطلان موقفهم ، ولكن محاولات الرجلين باءت بالفشل ، فقد كانت عائشة ومعها طلحة والزبير مصرّين على نيّتهم في إثارة الفتنة وإعلان الحرب(٤) .

وأقبلت عائشة ومن معها حتى انتهوا إلى (المربد) فدخلوا من أعلاه وخرج إليهم عثمان بن حنيف ومن معه من أهل البصرة ، فتكلّم طلحة والزبير وعائشة يحرّضون الناس على الخروج على بيعة الإمامعليه‌السلام بدعوى الثأر لعثمان ، فاختلف الناس بين معارض ومؤيّد .

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٨٢ ، وأخرج الحديث أحمد في مسنده : ٦ / ٥٢١ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : ٢ / ٤٩٧ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٨٢ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٩٥ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٨٣ .

(٤) تاريخ الطبري : ٣ / ٤٧٩ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢١١ .

١٧٤

وأقبل جارية بن قدامة السعدي لينصح عائشة عسى أن يردّها عن تأجيج الفتنة ، فقال : يا أم المؤمنين ! والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون ، عرضة للسلاح ، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكتِ سترك وأبحت حرمتك ، إنّه من رأى قتالك ؛ فإنّه يرى قتلك ، لئن كنت أتيتنا طائعةً فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس(١) .

الاقتتال ـ الهدنة ـ الغدر :

افتتن الناس بقدوم عائشة على البصرة ، فبين منكر ومؤيّد ومصدّق ومكذّب افترقت جماهير البصرة ، وتأزّم الموقف ، فاصطدم الناس واقتتلوا على فم السكّة ، ولم يحجز بينهم إلاّ الليل ، وكان عثمان بن حنيف لا يريد إراقة الدماء ويجنح للسلم وينتظر قدوم الإمام عليّعليه‌السلام إلى البصرة ، فلمّا عضّت الحرب الطرفين ؛ تنادوا للصلح ، فكتبوا كتاباً لعقد هدنة مؤقّتة على أن يبعثوا رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها ، فإن كان طلحة والزبير اُكرها على البيعة ؛ خرج ابن حنيف عن البصرة ، وإلاّ خرج عنها طلحة والزبير(٢) .

وعاد كعب بن مسور رسول الطرفين إلى المدينة بادّعاء أسامة بن زيد أنّ طلحة والزبير بايعا مكرهين ومخالفة أهل المدينة لرأي أسامة فاستغلّها زعماء جيش عائشة ، فهجموا في ليلة ذات رياح ومطر على قصر الإمارة حيث يتواجد عثمان بن حنيف فقتلوا أصحابه وأسروا ونتفوا لحيته ورأسه وحاجبيه ، ولكنّهم خافوا من قتله لأنّ أخاه سهل بن حنيف والي الإمام على المدينة(٣) .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٣ / ٤٨٢ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٢١٣ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٨٧ ، والطبري : ٣ / ٤٨٣ ط مؤسسة الأعلمي ، وراجع الكامل في التأريخ : ٣ / ٢١٥ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٨٩ ، وتأريخ الطبري : ٣ / ٤٨٤ ط مؤسسة الأعلمي ، ومروج الذهب للمسعودي : ٢ / ٣٦٧ .

١٧٥

حركة الإمامعليه‌السلام للقضاء على التمرّد(١) :

حين استلم الإمام عليّعليه‌السلام زمام الحكم كانت هناك عقبة أمام استقرار الأمن وسيطرة الحكومة الشرعية المركزية ، وهي إعلان معاوية بن أبي سفيان تمرّده على خلافة الإمام ، فشرععليه‌السلام بالاستعداد العسكري والسياسي لإيقاف التمزّق في كيان الأمة ومنع سفك الدماء .

وما أن اُحيط الإمامعليه‌السلام علماً بحركة عائشة وطلحة والزبير نحو البصرة وإعلانهم العصيان عدل عمّا كان يخطّط لمعالجة موقف معاوية والشام ، فاتّجهعليه‌السلام نحو البصرة بجيش يضمّ وجوه المهاجرين والأنصار .

وصل الإمامعليه‌السلام إلى منطقة (الربذة) فكتب إلى الأمصار يستمدّ العون ويوضّح الأمر ، كي يتوصّل إلى إخماد نار الفتنة وحصرها في أضيق نطاق ، فأرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر ، فأبى أبو موسى الأشعري الاستجابة للإمام ومارس دور المثبّط عن مناصرة الإمامعليه‌السلام في موقفه ، ثمّ أرسل عبد الله بن عباس ولم يتمكّن من إقناع أبي موسى بالانصياع والكفّ عن تثبيط الناس عن نصرة الإمام ، فأرسلعليه‌السلام ولده الحسن وعمار بن ياسر ثمّ تبعهم مالك الأشتر فعزلوا أبا موسى ، وتحرّكت الكوفة بكلّ ثقلها تنصر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلحقت به في (ذي قار) .

وفي هذا الأثناء لم يتوقّف الإمامعليه‌السلام في مراسلة طلحة والزبير وإيفاد الرسل إليهم ، عسى أن يعودوا لرشدهم ويدركوا خطورة فتنتهم فيجنّبوا الأمة المصائب والبلايا وسفك الدماء ، فأوفد إلى عائشة زيد بن صوحان وعبد الله بن عباس وغيرهما ، فحاوروهم بالحجّة والدليل والعقل حتى أنّ عائشة قالت لابن

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٧٤ ، وتأريخ الطبري : ٥ / ٥٠٧ .

١٧٦

عباس : لا طاقة لي بحجج عليّ ، فقال ابن عباس : لا طاقة لك بحجج المخلوق فكيف طاقتك بحجج الخالق(١) ؟!

آخر النصائح :

أكثر الإمامعليه‌السلام من مراسلة طلحة والزبير بعد أن شارفت قواته على أبواب البصرة ، فخشيت عائشة ومن معها من اقتناع قادتها وجموع الناس معها بحجج الإمامعليه‌السلام فخرجوا لملاقاته ، فلمّا توقّفوا للقتال أمر الإمامعليه‌السلام منادياً ينادي في أصحابه :لا يرمينّ أحد سهماً ولا حجراً ولا يطعن برمح حتى أُعذر القوم فأتّخذ عليهم الحجّة البالغة (٢) .

فلم يجد الإمامعليه‌السلام منهم إلاّ الإصرار على الحرب ، ثمّ خرج الإمامعليه‌السلام إلى الزبير وطلحة فوقفوا ما بين الصفّين ، فقال الإمامعليه‌السلام لهما :لعمري لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتما عند الله عذراً فاتّقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، أَلم أكن أخاكما في دينكما ؟ تحرّماني دمي وأُحرّم دمكما فهل من حدث أحلّ لكما دمي ؟

ثمّ قالعليه‌السلام لطلحة :أجئت بعرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت ؟! أما بايعتني ؟ ثمّ قالعليه‌السلام للزبير :قد كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء عبد الله ففرّق بيننا ، ثمّ قالعليه‌السلام :أتذكر يا زبير يوم مررت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني غنم ، فنظر إليّ فضحك وضحكت إليه فقلتَ له : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس بِمُزهٍ ـ أي : ليس به زهو ـلتقاتله وأنت له ظالم ؟! قال الزبير : اللَّهُم نعم .

وروي : أنّ الزبير اعتزل الحرب وقتل بعيداً عن ساحة الحرب بعد أن

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة ك ٩٠ ، وبحار الانوار : ٣٢ / ١٢٢ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٩١ ، ومروج الذهب : ٢ / ٢٧٠ .

١٧٧

استعرت الفتنة(١) كما أنّ طلحة قتله مروان بن الحكم في ساحة المعركة(٢) .

نشوب المعركة :

كان الإمامعليه‌السلام طامحاً حتى آخر لحظة قبل نشوب القتال أن يرتدع الناكثون عن غيّهم ، فلم يأذن بالقتال رغم ما شاهد من إصرار زعماء الفتنة على المضي في الحرب ، فقالعليه‌السلام لأصحابه :(لا يرمينّ رجل منكم بسهم ، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى اُحدث إليكم ، وحتى يبدؤوكم بالقتال والقتل) (٣) .

وشرع أصحاب الجمل بالرمي فقتل رجل من أصحاب الإمام ، ثمّ قتل ثانٍ وثالث ، عندها أَذِنَعليه‌السلام (٤) بالردّ عليهم والدفاع عن الحقّ والعدل .

التحم الجيشان يقتتلان قتالاً رهيباً ، فتساقطت الرؤوس وتقطّعت الأيادي وأثخنت الجراحات في الفريقين ، ووقف أمير المؤمنين ليشرف على ساحة المعركة فرأى أصحاب الجمل يستبسلون في الدفاع عن جملهم فنادى بأعلى صوته :(ويلكم اعقروا الجمل فإنّه شيطان ...) .

فهجم الإمامعليه‌السلام وأصحابه حتى وصلوا الجمل فعقروه ، ففرّ من بقي من أصحاب الجمل من ساحة المعركة فأمرعليه‌السلام بعد ذلك بحرق الجمل وتذريّة رماده في الهواء لئلاّ تبقى منه بقية يفتتن بها السذّج والبسطاء ، ثمّ قال الإمامعليه‌السلام :لعنه الله من دابّة ، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل .

ومدّ بصره نحو الرماد الذي تناثر في الهواء فتلا قوله تعالى :( ... وَانظُرْ إِلَى‏ إِلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً ) (٥) .

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٩١ ، ومروج الذهب ٢ / ٢٧٠ .

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ١٥٨ ، والإمامة والسياسة : ٩٧ .

(٣) شرح النهج : ٩ / ١١١ .

(٤) الإمامة والسياسة : ٩٥ .

(٥) طه (٢٠) : ٩٧ .

١٧٨

مواقف الإمام بعد المعركة :

كتب الله النصر لأمير المؤمنينعليه‌السلام على مخالفيه ، ووضعت الحرب أوزارها ، وانقشع غبار المعركة ، ونادى منادي الإمامعليه‌السلام يعلن العفو العام :ألا لا يجهز على جريح ولا يتبع مول ولا يطعن في وجه مدبر ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، وأن لا يؤخذ شيء من أموال أصحاب الجمل إلاّ ما وجد في عسكرهم من سلاح أو غيره ممّا استخدم في القتال ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم (١) .

وأمر الإمام عليّعليه‌السلام محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلى وسط ساحة المعركة وينحّوه جانباً ، وأن يتعهّد محمد أمر أخته عائشة ، فلمّا كان من آخر الليل أدخلها محمد البصرة فأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي .

وطاف الإمامعليه‌السلام في القتلى من أصحاب الجمل ، وكان يخاطب كلاًّ منهم ويكرّر القول :قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً فهل وجدتَ ما وعدك ربّك حقاً .

وقال أيضاً :ما ألوم اليوم من كفّ عنّا وعن غيرنا ولكنّ المليم الذي يقاتلنا (٢) .

وأقام الإمامعليه‌السلام في ظاهر البصرة ولم يدخلها ، وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم(٣) ، ثمّ دخلعليه‌السلام مدينة البصرة معقل الناكثين ، فانتهى إلى المسجد فصلّى فيه ثمّ خطب في الناس وذكّرهم بمواقفهم ومواقف الناكثين لبيعته ، فناشدوه الصفح والعفو عنهم ، فقالعليه‌السلام :(قد عفوت عنكم ، فإيّاكم والفتنة ، فإنّكم أوّل الرعيّة نكث البيعة ، وشقّ عصا هذه الأمة) ثمّ أقبلت الجماهير

ــــــــــــ

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٧٢ ، ومروج الذهب : ٢ / ٣٧١ .

(٢) الإرشاد للمفيد : ١ / ٢٥٦ ط مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام .

(٣) الكامل في التأريخ : ٣ / ٢٥٥ .

١٧٩

ووجوه الناس لمبايعة الإمامعليه‌السلام (١) .

وبعد ذلك دخل أمير المؤمنين بيت المال في البصرة ، فلمّا رأى كثرة المال قال :(غُرّي غيري ..) وكرّرها مراراً ، وأمر أن يقسّم المال بين الناس بالسوية ، فنال كلّ فرد منهم خمسمائة درهم ، وأخذ هو كأحدهم ، ولم يبقَ شيء من المال فجاءه رجل لم يحضر الوقعة يطالب بحصّته ، فدفع إليه الإمام ما أخذه لنفسه ولم يصب شيئاً(٢) .

ثمّ أمر أمير المؤمنين بتجهيز عائشة وتسريحها إلى المدينة ، وأرسل معها أخاها وعدداً من النساء ألبسهنّ العمائم وقلّدهن السيوف لرعاية شؤونها وأوصلنها إلى المدينة ، ولكنّ عائشة لم تحسن الظنّ بأمير المؤمنين وتصوّرت أنّ الإمام لم يرعَ حرمتها ، وما أن علمت أنّ الإمامعليه‌السلام بعث معها النساء ، أعلنت ندمها على خروجها وفشلها وإثارتها للفتنة ، فكانت تكثر من البكاء(٣) .

نتائج حرب الجمل :

خلّفت حرب الجمل نتائج سلبيّة على واقع المجتمع الإسلامي منها :

١ ـ توسّعت مسألة قتل عثمان بن عفّان حتى أصبحت قضية سياسية كبيرة جرّت من ورائها ظهور تيارات مناوئة فعلاً وقولاً لمسيرة الرسالة الإسلامية ، فأطلّ معاوية بن أبي سفيان ليكمل مسيرة الانحراف الدموي في الجمل .

٢ ـ شاعت الأحقاد بين المسلمين ، وفتحت باب الحرب والاقتتال فيما بينهم ، فكانت الفرقة بين أهل البصرة أنفسهم وبين باقي الأمصار الإسلامية ، فكانت العداوة لمطالبة بعضهم البعض الآخر بدماء أبنائهم في حين كان المسلمون

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٣ / ٥٤٤ ، والإرشاد للشيخ المفيد : ١٣٧ .

(٢) شرح النهج : ١ / ٢٥٠ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٩٨ ، ومروج الذهب للمسعودي : ٢ / ٣٧٩ ، والمناقب للخوارزمي : ١١٥ ، والتذكرة للسبط ابن الجوزي : ٨٠ .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477