الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158181 / تحميل: 6980
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عند عدم الولد وسماهم كلالة وعدم الوالد مشروط فيها وإن لم يكن مذكورا لقوله تعالى في أول السورة( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) فلم يجعل للأخوة ميراثا مع الأب فخرج الوالد من الكلالة كما خرج الولد لأنه لم يورثهم مع الأب كما لم يورثهم مع الابن والبنت أيضا ليست بكلالة فإن ترك ابنة أو ابنتين وإخوة وأخوات لأب وأم أو لأب فالبنات لسن بكلالة ومن ورث معهما كلالة* وقال تعالى في أول السورة( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) فهذه الكلالة هي الأخ والأخت لأم لا يرثان مع والد ولا ولد ذكرا كان أو أنثى وقد روى أن في قراءة سعد بن أبى وقاص [وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لأم] فلا خلاف مع ذلك أن المراد بالأخ والأخت هاهنا إذا كانا لأم دونهما إذا كانا لأب وأم أو لأب وقد روى عن طاوس عن ابن عباس أن الكلالة ما عدا الولد وورث الإخوة من الأم مع الأبوين السدس وهو السدس الذي حجبت الأم عنه وهو قول شاذ* وقد بينا ما روى عنه أنها ما عدا الوالد والولد ولا خلاف أن الإخوة* والأخوات من الأم يشتركون في الثلث ولا يفضل منهم ذكر على أنثى* وقد اختلفوا في الجد هل يورث كلالة فقال قائلون لم يورث كلالة وقال آخرون بل هو كلالة وهو قول من يورث الأخوة والأخوات مع الجد والأولى أن يكون خارجا من الكلالة لثلاثة أوجه أحدها أنهم لا يختلفون أن ابن الابن خارج عن الكلالة لأنه منسوب إلى الميت بالولاد فواجب على هذا خروج الجد منها إذا كانت النسبة بينهما من طريق الولاد ومن جهة أخرى أن الجد هو أصل النسب كالأب وليس بخارج عنه فوجب أن يكون خارجا عن الكلالة إذا كانت الكلالة ما تكلل على النسب وتعطف عليه ممن ليس أصل النسب متعلقا به والثالث أنهم لا يختلفون أن قوله تعالى( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ) لم يدخل فيه الجد وأنه خارج عنه لا يرث معه الإخوة من الأم كما لا يرثون مع الابن والبنت فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب في خروجه عن الكلالة وهذا يدل على أن الجد بمنزلة الأب في نفى مشاركة الإخوة والأخوات إياه في الميراث* فإن قيل هذا لا يدل على ما ذكرته من قبل

٢١

أن البنت خارجة عن الكلالة ولا يرث معها الإخوة والأخوات من الأم ويرث معها الإخوة والأخوات من الأب والأم فكذلك الجد* قيل له لم نجعل ما ذكرناه علة للمسئلة فيلزمنا ما وصفت وإنما قلنا أنه لما لم يتناوله اسم الكلالة كالأب والابن اقتضى ظاهر الآية أن يكون ميراث الإخوة والأخوات عند عدمه إلا أن تقوم الدلالة على توريثهم معه والبنت وإن كانت خارجة عن الكلالة فقد قامت الدلالة على توريث الإخوة والأخوات من الأب معها فخصصناها من الظاهر وبقي حكم اللفظ فيما سواه ممن يشتمله اسم الكلالة والله أعلم.

باب العول

روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب لما التوت عليه الفرائض ودافع بعضها بعضا قال والله ما أدرى أيكم قدم الله ولا أيكم أخر وكان امرأ ورعا فقال ما أجد شيئا هو أوسع لي أن أقسم المال عليكم بالحصص وأدخل على كل ذي حق ما أدخل عليه من عول الفريضة وروى أبو إسحاق عن الحارث عن على في بنتين وأبوين وامرأة قال صار ثمنها تسعا وكذلك رواه الحكم بن عتيبة عنه وهو قول عبد الله وزيد بن ثابت وقد روى أن العباس ابن عبد المطلب أول من أشار على عمر بالعول قال عبيد الله بن عبد الله قال ابن عباس أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب وأيم الله لو قدم من قدم الله لما عالت فريضة فقيل له وأيها التي قدم الله وأيها التي أخر قال كل فريضة لم تزل عن فريضة إلا إلى فريضة فهي التي قدم الله وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فهي التي أخر الله تعالى فأما التي قدم الله تعالى فالزوج والزوجة والأم لأنهم لا يزولون من فرض إلا إلى فرض والبنات والأخوات نزلن من فرض إلى تعصيب مع البنتين والإخوة فيكون لهن ما بقي مع الذكور فنبدأ بأصحاب السهام ثم يدخل الضرر على الباقين وهم الذين يستحقون ما بقي إذا كانوا عصبة قال عبيد الله بن عبد الله فقلنا له فهلا راجعت فيه عمر فقال إنه كان امرأ مهيبا ورعا قال ابن عباس ولو كلمت فيه عمر لرجع وقال الزهري لو لا أنه تقدم ابن عباس إمام عدل فأمضى أمرا فمضى وكان امرأ ورعا ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم وروى محمد بن إسحاق عن ابن أبى نجيح

٢٢

عن عطاء بن أبى رباح قال سمعت ابن عباس ذكر الفرائض وعولها فقال أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا فهذا النصف وهذا النصف فأين موضع الثلث قال عطاء فقلت لابن عباس يا أبا عباس إن هذا لا يغنى عنك ولا عنى شيئا لو مت أومت قسما ميراثنا على ما عليه القوم من خلاف رأيك ورأيى قال فإن شاءوا فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما جعل الله في مال نصفا ونصفا وثلثا* والحجة للقول الأول أن الله تعالى قد سمى للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف وللأخوة من الأم الثلث ولم يفرق بين حال اجتماعهم وانفرادهم فوجب استعمال نص الآية في كل موضع على حسب الإمكان فإذا انفرد واتسع المال لسهامهم قسم بينهم عليها وإذا اجتمعوا وجب استعمال حكم الآية في التضارب بها ومن اقتصر على بعض وأسقط بعضا أو نقص نصيب بعض ووفى الآخرين كمال سهامهم فقد أدخل الضيم على بعضهم مع مساواته للآخرين في التسمية فأما ما قاله ابن عباس من تقديم من قدم الله تعالى وتأخير من أخر فإنما قدم بعضا وأخر بعضا وجعل له الباقي في حال التعصيب فأما حال التسمية التي لا تعصيب فيها فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر ألا ترى أن الأخت منصوص على فرضها بقوله تعالى( وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) كنصه على فرض الزوج والأم والأخوة من الأم فمن أين وجب تقديم هؤلاء عليها في هذه الحال وقد نص الله تعالى على فرضها في هذه الحال كما نص على فرض الدين معها وليس يجب لأن الله أزال فرضها إلى غير فرض في موضع أن يزيل فرضها في الحال التي نص عليه فيها فهذا القول أشنع في مخالفة الآي التي فيها سهام المواريث من القول بإثبات نصف ونصف وثلث على وجه المضاربة بها ولذلك نظائر في المواريث من الأصول أيضا* قال الله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) فلو ترك الميت ألف درهم وعليه دين لرجل ألف درهم ولآخر خمس مائة ولآخر ألف كانت الألف المتروكة مقسومة بينهم على قدر ديونهم وليس يجوز أن يقال لما لم يمكن استيفاء ألفين وخمس مائة من ألف استحال الضرب بها وكذلك لو أوصى رجل بثلث ماله لرجل وبسدسه لآخر ولم تجز ذلك الورثة تضاربا في الثلث بقدر وصياهم فيضرب أحدهما بالسدس والآخر بالثلث مع استحالة استيفاء النصف

٢٣

من الثلث وكذلك الابن يستحق جميع المال لو انفرد وللبنت النصف لو انفردت فإذا اجتمعا ضرب الابن بجميع المال والبنت بالنصف فيكون المال بينهما أثلاثا وهكذا سبيل العول في الفرائض عند تدافع السهام والله أعلم.

باب المشركة

اختلف أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسألة المشركة وهي أن تخلف المورثة زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها فقال على بن أبى طالب وعبد الله بن عباس وأبى بن كعب وأبو موسى الأشعرى للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث وسقط الأخوة والأخوات من الأب والأم وروى سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال سئل على عن الأخوة من الأم فقال أرأيتم لو كانوا مائة أكنتم تزيدونهم على الثلث قالوا لا قال فأنا لا أنقصهم منه شيئا وجعل الأخوة والأخوات من الأب والأم عصبة في هذه الفريضة وقد حالت السهام دونهم وقال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث ثم يرجع الأخوة من الأب والأم على الأخوة من الأم فيشاركونهم فيكون الثلث الذي أخذوه بينهم سواء* وروى معمر عن سماك ابن الفضل عن وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود الثقفي قال شهدت عمر بن الخطاب أشرك الأخوة من الأب والأم مع الأخوة من الأم في الثلث فقال له رجل قضيت عام أول بخلاف هذا قال كيف قضيت قال جعلته للأخوة من الأم ولم تعط الأخوة من الأب والأم شيئا قال تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا* وروى أن عمر كان لا يشرك بينهم حتى احتج الأخوة من الأب والأم فقالوا يا أمير المؤمنين لنا أب وليس لهم أب ولنا أم كما لهم فإن كنتم حرمتونا بأبينا فورثونا بأمنا كما ورستم هؤلاء بأمهم واحسبوا أن أبانا كان حمارا أليس قد تراكضنا في رحم واحدة فقال عمر عند ذلك صدقتم فأشرك بينهم وبين الأخوة من الأم في الثلث وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إلى قول على بن أبى طالب رضى الله عنه ومن تابعه في ترك الشركة بينهم * والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ

٢٤

شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) فنص على فرض الأخوة من الأم وهو الثلث وبين أيضا حكم الأخوة من الأب والأم في قوله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ـ إلى قوله تعالى ـوَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فلم يجعل الله لهم فرضا مسمى وإنما جعل لهم المال على وجه التعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين ولا خلاف أنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وأخوة وأخوات لأب وأم أن للزوج النصف وللأم السدس وللأخ من الأم السدس وما بقي وهو السدس بين الأخوة والأخوات من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يدخلوا مع الأخ من الأم في نصيبه فلما كانوا مع ذوى السهام إنما يستحقون باقى المال بالتعصيب لا بالفرض لم يجز لنا إدخالهم مع الأخوة من الأم في فرضهم لأن ظاهر الآية ينفى ذلك إذ كانت الآية إنما أوجبت لهم ما يأخذونه للذكر مثل حظ الأنثيين بالتعصيب لا بالفرض فما أعطاهم بالفرض فهو خارج عن حكم الآية ويدل على ذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلا ولى عصبة ذكر عل للعصبة بقية المال بعد أخذ ذوى السهام سهامهم فمن أشركهم مع ذوى السهام وهم عصبة فقد خالف الأثر* فإن قيل لما اشتركوا في نسب الأم وجب أن لا يحرموا بالأب قيل له هذا غلط لأنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وأخوة وأخوات لأب وأم لأخذ الأخ من أم السدس كاملا وأخذ الأخوة والأخوات من الأب والأم السدس الباقي بينهم وعسى يصيب كل واحد منهم أقل من العشر ولم يكن لواحد منهم أن يقول قد حرمتمونى بالأب مع اشتراكنا في الأم بل كان نصيب الأخ من الأم أوفر من نصيب كل واحد منهم فدل ذلك على معنيين أحدهما انتقاض العلة بالاشتراك في الأم والثاني أنهم لم يأخذوا بالفرض وإنما أخذوا بالتعصيب ويدل على فساد ذلك أيضا أنها لو تركت زوجا وأختا لأب وأم وأختا وأخا لأب أن للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف ولا شيء للأخ والأخت من الأم لأنهما عصبة فلا يدخل مع ذوى السهام ولم يجز أن يجعل الأخ من الأب بمنزلة من لم يكن حتى تستحق الأخت من الأب سهمها الذي كانت تأخذه في حال الانفراد عن الأخ وإنما التعصيب أخرجها عن السدس الذي كانت تستحقه كذلك التعصيب يخرج الأخوة من الأب والأم عن الثلث الذي يستحقه الأخوة من الأم والله أعلم.

٢٥

ذكر اختلاف السلف في ميراث الأخت مع البنت

لم يختلف عن على وعمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل في رجل خلف بنتا وأختا لأب وأم وعصبة أن للبنت النصف وما بقي فللأخت فجعلوها عصبة مع البنات وقال عبد الله بن عباس وابن الزبير للبنت النصف وما بقي فللعصبة وإن بعد نسبه ولاحظ للأخت في الميراث مع البنت وروى أن ابن الزبير رجع عن ذلك بعد أن قضى به وروى أنه قيل لعبد الله بن عباس أن عليا وعبد الله وزيدا كانوا يجعلون الأخوات مع البنات عصبة فيورثونهن فاضل المال فقال أأنتم أعلم أم الله يقول الله( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) وأنتم تجعلون لها مع الولد النصف* قال أبو بكر مما يحتج به للقول الأول قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) فظاهره يقتضى توريث الأخت مع البنت لأن أخاها الميت هو من الأقربين وقد جعل الله ميراث الأقربين للرجال والنساء ويحتج فيه بحديث أبى قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم أن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأعطى للأخت بقية المال بعد السهام وجعلها عصبة مع البنت وأما احتجاج من يحتج في ذلك بأن الله تعالى إنما جعل لها النصف إذا لم يكن ولد ولا يجوز أن يجعل لها النصف مع الولد فإنه غير لازم من قبل أن الله تعالى نص على سهمها عند عدم الولد ولم ينف ميراثها مع وجوده وتسميته لها النصف عند عدم الولد لا دلالة فيه على سقوط حقها إذا كان هناك ولد إذ لم يذكر هذه الحال بنفي الميراث ولا بإيجابه فهو موقوف على دليله ومع ذلك فإن معناه إن امرؤ هلك وليس له ولد ذكر بدلالة قوله تعالى في نسق التلاوة( وَهُوَ يَرِثُها ) يعنى الأخ يرث الأخت( إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) معناه عند الجميع أن لم يكن لها ولد ذكر إذ لا خلاف بين الصحابة أنها إذا تركت ولدا أنثى وأخا أن للبنت النصف والباقي للأخ والولد المذكور هاهنا هو المذكور بديا في أول الآية وأيضا قال الله تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) ومعناه عند الجميع إن كان له ولد ذكر لأنه لا خلاف بين الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء أنه لو ترك

٢٦

ابنة وأبوين أن للبنت النصف وللأبوين السدسان والباقي للأب فيأخذ الأب في هذه الحال مع الولد الأنثى أكثر من السدس وإن قوله تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) على أنه ولد ذكر وكذلك لو ترك أبا وبنتا كان للبنت النصف وللأب النصف فقد أخذ في هاتين المسألتين أكثر من السدس مع الولد قال أبو بكر وشذت طائفة عن الأمة فزعمت أنه إذا ترك بنتا وأختا كان المال كله للبنت وكذلك البنت والأخ وهذا قول خارج عن ظاهر التنزيل واتفاق الأمة قال الله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) فنص على سهم البنت وسهم ما فوق الثنتين وجعل لها إذا انفردت النصف وإذا ضامها غيرها الثلثين لهما جميعا فغير جائز أن تعطى أكثر منه إلا بدلالة* فإن قيل إذا كان ذكر النصف والثلثين غير دال على ما ذكرت فليس إذا في الظاهر نفى ما زاد وإنما تحتاج إلى أن تطالب خصمك بإقامة الدلالة على أن الزيادة مستحقة* قيل له لما كان قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) أمرا باعتبار السهام المذكورة إذ كانت الوصية أمرا أوجب ذلك اعتبار كل فرض مقدر في الآية على حياله ممنوعا من الزيادة والنقصان فيه فاقتضى ذلك وجوب الاقتصار على المقادير المذكورة لمن سميت له غير زائدة ولا ناقصة ولم يقل بذلك من حيث خصه بالذكر دون ما تقدم من الأمر باعتبارها في ابتداء الخطاب فلذلك منعنا الزيادة عليها إلا بدلالة* وقوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) يدل على وجوب توريث الأخ مع البنت ويدل عليه حديث ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت فلا ولى عصبة ذكر فواجب بمجموع الآية والخبر أنا إذا أعطينا البنت النصف أن نعطى الباقي الأخ لأنه أولى عصبة ذكر واختلف السلف في ابني عم أحدهما أخ لأم فقال على وزيد للأخ من الأم السدس وما بقي فبينهما نصفان وهو قول فقهاء الأمصار وقال عمر وعبد الله المال للأخ من الأم وقالا ذو السهم أحق ممن لا سهم له وإليه كان يذهب شريح والحسن ولم يختلفوا في أخوين لأم أحدهما ابن عم أن لهما الثلث بنسب الأم وما بقي فلابن العم خاصة ولم يجعلوا ابن العم أحق بجميع الميراث لاجتماع السهم والتسمية له دون الآخر كذلك حكم ابني العم إذا كان أحدهما أخا لأم فغير جائز أن يجعل أولى

٢٧

بالميراث من أجل اختصاصه بالسهم والتعصيب وشبه عمر وعبد الله ذلك بالأخ لأب وأم وأخ لأب أنه أولى بالميراث وليس هذا عند الآخرين مشبها لهذه المسألة من قبل أن نسبهما من جهة واحدة وهي الأخوة فاعتبر فيها أقربهما إليه وهو الذي اجتمع له قرابة الأب والأم ولا يستحق بقرابته من الأم سهم الأخ من الأم بل إنما يؤكد ذلك حكم الأخوة وليس كذلك ابنا العم إذا كان أحدهما أخا لأم لأنك تريد أن تؤكد بالأخوة من جهة الأم ما ليس بأخوة وإنما هو سبب آخر غيرها فلم يجز أن تؤكده بها ويدل لك على هذا أن نسبته من جهة أنه ابن العم لا يسقط سهمه من جهة أنه أخ لأم بل يرث بأنه أخ لأم سهم الأخ من الأم وإن كان ابن عم ألا ترى أن الميتة لو تركت أختين لأب وأم وزوجا وأخا لأم هو ابن عم أن للأختين الثلثين وللزوج النصف وللأخ من الأم السدس ولم يسقط سهمه من جهة أنه ابن عم ولو تركت زوجا وأما وأختا لأم وأخوة لأب وأم كان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت من الأم السدس وما بقي فللإخوة من الأب والأم ولم يستحق أخوة من الأب والأم سهم الأخوة من الأم لمشاركتهم للأخ من الأم في نسبها بل إنما استحقوا بالتعصيب فكانت قرابتهم بالأب والأم مؤكدة لتعصيبهم فلا يستحقون بها أن يكونوا من ذوى السهام وقرابة ابن العم بنسبه من جهة الأم لا تخرجه من أن يكون من ذوى السهام فيما يستحقه من سهم الأخ من الأم وليس لهذا تأثير في تأكيد التعصيب لأنه لو كان كذلك لوجب أن لا يستحق أبدا إلا بالتعصيب كما لا يؤخذ الأخوة من الأب والأم إلا بالتعصيب ولا يأخذون بقرابتهم من الأم سهم الأخوة من الأم والله أعلم.

باب الرجل يموت وعليه دين ويوصى بوصية

قال الله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) وروى الحارث عن على قال تقرءون الوصية قبل الدين وأن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدين قبل الوصية * قال أبو بكر وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين وذلك لأن معنى قوله( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أن الميراث بعد هذين وليست أو في هذا الموضع لأحدهما بل قد تناولهما جميعا وذلك لأن قوله( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) مستثنى عن الجملة المذكورة في قسمة المواريث ومتى دخلت أو على النفي صارت في معنى الواو كقوله تعالى( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ

٢٨

كَفُوراً ) وقال تعالى( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) فكانت أو في هذه المواضع بمنزلة الواو فكذلك قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) لما كان في معنى الاستثناء كأنه قال إلا أن تكون هناك وصية أو دين فيكون الميراث بعدهما جميعا وتقديم الوصية على الدين في الذكر غير موجب للتبدئة بها على الدين لأن أو لا توجب الترتيب وإنما ذكر الله تعالى ذلك بعد ذكر الميراث إعلاما لنا أن سهام المواريث جارية في التركة بعد قضاء الدين وعزل حصة الوصية ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كانت سهام الورثة معتبرة بعد الثلث فيكون للزوجة الربع أو الثمن في الثلثين وكذلك سهام سائر أهل الميراث جارية في الثلثين دون الثلث الذي فيه الوصية فجمع تعالى بين ذكر الدين والوصية ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين وإن كانت الوصية مخالفة للدين من جهة الاستيفاء لأنه لو هلك من المال شيء لدخل النقصان على أصحاب الوصايا كما يدخل على الورثة وليس كذلك الدين لأنه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي وإن استغرقه وبطل حق الموصى له والورثة جميعا فالموصى له شريك الورثة من وجه ويأخذ شبها من الغريم من وجه آخر وهو أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كاعتبارها بعد الدين وليس المراد بقوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أن الموصى له يعطى وصيته قبل أن يأخذ الورثة أنصباءهم بل يعطون كلهم معا كأنه أحد الورثة في هذا الوجه وما هلك من المال قبل القسمة فهو ذاهب منهم جميعا.

باب مقدار الوصية الجائزة

قال الله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) ظاهره يقتضى جواز الوصية بقليل المال وكثيره لأنها منكورة لا تختص ببعض دون بعض إلا أنه قد قامت الدلالة من غير هذه الآية على أن المراد بها الوصية ببعض المال لا بجميعه وهو قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) فأطلق إيجاب الميراث فيه من غير ذكر الوصية فلو اقتضى قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها ) الوصية بجميع المال لصار قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) منسوخا بجواز الوصية بجميع المال فلما كان حكم هذه الآية

٢٩

ثابتا في إيجاب الميراث وجب استعمالها مع آية الوصية فوجب أن تكون الوصية مقصورة على بعض المال والباقي للورثة حتى تكون مستعملين لحكم الآيتين ويدل عليه أيضا قوله تعالى( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) يعنى في منع الرجل الوصية بجميع ماله على ما تقدم من بيان تأويله فيدل على جواز الوصية ببعض المال لاحتمال اللفظ للمعنيين وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار تلقتها الأمة بالقبول والاستعمال في الاقتصار بجواز الوصية على الثلث منها ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة وابن أبى خلف قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال مرض أبى مرضا شديدا قال ابن أبى خلف بمكة مرضا شفى منه فعاده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين قال لا قال فبالشطر قال لا قال فبالثلث قال الثلث والثلث كثير وإنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك قلت يا رسول الله أتخلف عن هجرتي قال إنك أن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ثم قال اللهم امض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثى له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مات بمكة * قال أبو بكر قد حوى هذا الخبر ضروبا من الأحكام والفوائد منها أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث والثاني أن المستحب النقصان عن الثلث ولذلك قال بعض الفقهاء أستحب النقصان عنه لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والثلث كثير والثالث أنه إذا كان قليل المال وورثته فقراء أن الأفضل أن لا يوصى بشيء لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وفي ذلك أيضا دليل على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأنه أخبر أن الوصية بأكثر من الثلث ممنوعة لأجل الورثة وفيه الدلالة على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث لأن سعد قال أتصدق بجميع مالي فقال لا إلى أن رده إلى الثلث وقد رواه جرير عن عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن السلمى عن سعد قال عادني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مريض فقال أوصيت قلت نعم قال بكم قلت بمالي كله في

٣٠

سبيل الله قال فما تركت لولدك قال هم أغنياء قال أوص بالعشر فما زلت أناقصه ويناقصنى حتى قال أوص بالثلث والثلث كثير قال أبو عبد الرحمن فنحن نستحب أن تنقص من الثلث لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والثلث كثير فذكر في هذا الحديث أنه قال أوصيت بمالي كله وهذا لا ينفى ما روى في الحديث الأول من الصدقة في المرض لأنه جائز أن يكون لما منعه الوصية بأكثر من الثلث ظن أن الصدقة جائزة في المرض فسأله عنها فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن حكم الصدقة حكم الوصية في وجوب الاقتصار بها على الثلث وهو نظير حديث عمران بن حصين في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته وفيه أن الرجل مأجور في النفقة على أهله وهذا يدل على أن من وهب لامرأته هبة لم يجز له الرجوع فيها لأنها بمنزلة الصدقة لأنه قد استوجب بها الثواب من الله تعالى وهو نظير ما روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا أعطى الرجل امرأته عطية فهي له صدقة * وقول سعد أتخلف عن هجرتي عنى به أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى المهاجرين أن يقيموا بعد النفر أكثر من ثلاث فأخبره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يتخلف بعده حتى ينفع الله به أقواما ويضربه آخرين وكذلك كان فإنه بقي بعدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتح الله على يده بلاد العجم وأزال به ملك الأكاسرة وذلك من علوم الغيب الذي لا يعلمه غير الله تعالى* حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبد الله عبيد الله بن حاتم العجلى قال حدثني عبد الأعلى ابن واصل قال حدثنا إسماعيل بن صبيح قال حدثنا مبارك بن حسان قال حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال حاكيا عن الله تعالى أنه قال يا ابن آدم اثنتان ليست لك واحدة منهما جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك وأزكيك وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك ففي هذا الحديث أيضا أن له بعض المال عند الموت لا جميعه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن أحمد بن شيبة قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثنا عثمان قال سمعت طلحة بن عمرو قال حدثنا عطاء عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم * قال أبو بكر فهذه الأخبار الموجبة للاقتصار بالوصية على الثلث عندنا في حيز التواتر الموجب للعلم لتلقى الناس إياها بالقبول وهي مبينة لمراد الله تعالى في الوصية المذكورة في الكتاب أنها مقصورة على الثلث* وقوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) يدل على أن

٣١

من ليس عليه دين لآدمى ولم يوص بشيء أن جميع ميراثه لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة لم يجب إخراجه إلا أن يوصى به وكذلك الكفارات والنذور* فإن قيل إن الحج دين وكذلك كل ما يلزمه الله تعالى من القرب في المال لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للخثعمية حين سألته عن الحج عن أبيها أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزئ قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء * قيل له أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما سماه دين الله تعالى ولم يسمه بهذا الاسم إلا مقيدا فلا يتناوله الإطلاق وقول الله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) إنما اقتضى التبدئة بما يسمى به على الإطلاق فلا ينطوى تحته ما لا يسمى به إلا مقيدا لأن في اللغة والشرع أسماء مطلقة وأسماء مقيدة فلا يتناول المطلق إلا ما يقع الاسم عليه على الإطلاق فإذا لم تتناول الآية ما كان من حق الله تعالى من الديون لما وصفنا اقتضى قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أنه إذا لم يوص ولم يكن عليه دين لآدمى أن يستحق الوارث جميع تركته وحديث سعد يدل على ذلك أيضا لأنه قال أتصدق بمالي وفي لفظ آخر أوصى بمالي فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الثلث والثلث كثير ولم يستئن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج ولا الزكاة ونحوها من حقوق الله تعالى ومنع الصدقة والوصية إلا بثلث المال فثبت بذلك أنه إذا أوصى بهذه الحقوق كانت من الثلث ويدل عليه أيضا حديث أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله تعالى جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم وحديث ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حاكيا عن الله تعالى جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك يدل جميع ذلك على أن وصيته بالزكاة والنذور وسائر القرب وإن كانت واجبة لا تجوز إلا من الثلث والله أعلم.

باب الوصية للوارث

حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة قال حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وروى عمرو بن خارجة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا وصية لوارث إلا أن تجيزها الورثة ونقل أهل السير خطبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع وفيها أن لا وصية لوارث فورد نقل ذلك مستفيضا كاستفاضة وجوب الاقتصار بالوصية على الثلث دون ما زاد لا فرق بينهما من طريق نقل الاستفاضة

٣٢

واستعمال الفقهاء له وتلقيهم إياه بالقبول وهذا عندنا في حيز المتواتر الموجب للعلم والنافى للريب والشك وقوله في حديث عمرو بن خارجة إلا أن تجيزها الورثة يدل على أنها إذا أجازتها فهي جائزة وتكون وصية من قبل الموصى لا تكون هبة من قبل الوارث لأن الهبة من قبل الوارث ليست بإجازة من قبل الموروث وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن عبد الصمد قال حدثنا محمد بن عمرو قال حدثنا يونس بن راشد عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة * قال أبو بكر وقد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الباقون في حياته فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن ابن صالح وعبيد الله بن الحسن والشافعى لا يجوز ذلك حتى يجيزها بعد الموت وقال ابن أبى ليلى وعثمان البتى ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت وهي جائزة عليهم وقال ابن القاسم عن مالك إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عن أبيه والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله فإنه ليس لهم أن يرجعوا فأما امرأته وبناته اللاتي لم يبن وكل من في عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا وكذلك العم وابن العم ومن خاف منهم أنه إن لم يجز لحقه ضرر منه في قطع النفقة إن صح فلهم أن يرجعوا وقول الليث في هذا كقول مالك* قال أبو بكر وإن أجازوها بعد الموت جازت عند* جميع الفقهاء* قال أبو بكر لما لم يكن لهم فسخها في الحياة كذلك لا تعمل إجازتهم لأنهم لم يستحقوا بعد شيئا والله أعلم.

باب الوصية بجميع المال إذا لم يكن وارث

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا لم يكن له وارث فأوصى بجميع ماله جاز وهو قول شريك بن عبد الله وقال مالك والأوزاعى والحسن ابن صالح لا تجوز وصيته إلا من الثلث* قال أبو بكر قد بينا دلالة قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) وأنهم كانوا يتوارثون بالحلف وهو أن يحالفه على أنه إن مات ورثه ما يسمى له من ميراثه من ثلث أو أكثر وقد كان ذلك حكما ثابتا في صدر الإسلام وفرضه الله تعالى بقوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) ثم أنزل الله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) وقوله تعالى( يُوصِيكُمُ

«3 ـ أحكام لث»

٣٣

اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وقوله تعالى( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) فجعل ذوى الأرحام أولى من الحلفاء ولم يبطل بذلك ميراث الحلفاء أصلا بل جعل ذوى الأنساب أولى منهم كما جعل الابن أولى من الأخ فإذا لم يكن ذوو الأنساب جاز له أن يجعل ماله على أصل ما كان عليه حكم التوارث لحلف وأيضا فإن الله تعالى أوجب سهام المواريث بعد الوصية بقوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) وقال( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) وقد بينا أن ظاهر قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) يقتضى جواز الوصية بجميع المال لو لا قيام دلالة الإجماع والسنة على منع ذلك ووجوب الاقتصار بها على الثلث وإيجاب نصيب الرجال والنساء من الأقربين فمتى عدم من وجب به تخصيص الوصية في بعض المال وجب استعمال اللفظ في جواز الوصية بجميع المال على ظاهره ومقتضاه ويدل عليه قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث سعد إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فأخبر أن منع الوصية بأكثر من الثلث إنما هو لحق الورثة ويدل عليه حديث الشعبي وغيره عن عمرو بن شرحبيل قال قال عبد الله بن مسعود ليس من حي من العرب أحرى أن يموت الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب ولا يعلم له مخالف من الصحابة وأيضا فإنه لا يخلو من لا وارث له إذا مات من أن يستحق المسلمون ماله من جهة الميراث أو من جهة أنه مال لا مالك له فيضعه الإمام حيث يرى فلما جاز أن يستحقه الرجل مع ابنه ومع أبيه والبعيد مع القريب علمنا أنه غير مستحق لهم على وجه الميراث لأن الأب والجد لا يجتمعان في استحقاق ميراث واحد من جهة الأبوة وأيضا لو كان ميراثا لم يجز حرمان واحد منهم لأن سبيل الميراث أن لا يخص به بعض الورثة دون بعض وأيضا لو كان ميراثا لوجب أن يكون لو كان الميت رجلا من همدان ولا يعرف له وارث أن يستحق ميراثه أهل قبيلته لأنهم أقرب إليه من غيرهم فلما كان إنما يستحقه بيت المال للمسلمين وللإمام أن يصرفه إلى من شاء من الناس ممن يراه أهلا له دل ذلك على أن المسلمين لا يأخذونه ميراثا وإذا لم يأخذوه ميراثا وإنما كان للإمام صرفه إلى حيث يرى لأنه مالك له فمالكه أولى بصرفه إلى من يرى ومن جهة أخرى أنهم إذا لم يأخذوه ميراثا أشبه الثلث الذي يوصى به الميت

٣٤

ولا ميراث فيه فله أن يصرفه إلى من شاء فكذلك بقية المال إذا لم يستحقه الوارث كان له صرفه إلى من شاء ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا أيوب قال سمعت نافعا عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حق امرئ مسلم له مال يوصى فيه تمر عليه الليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة فلم يفرق بين الوصية ببعض المال أو بجميعه وظاهره يقتضى جواز الوصية بجميع المال وقد قامت الدلالة على وجوب الاقتصار على بعضه إذا كان له وارث فإذا لم يكن له وارث فهو على ظاهر مقتضاه في جوازها بالجميع والله أعلم.

باب الضرار في الوصية

قال الله تعالى( غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ ) قال أبو بكر الضرار في الوصية على وجوه منها أن يقر في وصيته بماله أو ببعضه لأجنبى أو يقر على نفسه بدين لا حقيقة له زيا للميراث عن وارثه ومستحقه ومنها أن يقر باستيفاء دين له على غيره في مرضه لئلا يصل إلى وارثه ومنها أن يبيع ماله من غيره في مرضه ويقر باستيفاء ثمنه ومنها أن يهب ماله في مرضه أو يتصدق بأكثر من ثلثه في مرضه إضرارا منه بورثته ومنها أن يتعدى فيوصي بأكثر مما تجوز له الوصية به وهو الزيادة على الثلث فهذه الوجوه كلها من المضارة في الوصية وقد بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك في فحوى قوله لسعد الثلث والثلث كثير إنك لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن المصرى قال حدثنا عبد الصمد بن حسان قال حدثنا سفيان الثوري عن داود يعنى ابن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال الإضرار في الوصية من الكبائر ثم قرأ( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال في الوصية( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال في الوصية وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قال حدثنا حميد بن زنجويه قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا عمر بن المغيره عن داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الإضرار في الوصية من الكبائر وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا طاهر بن عبد الرحمن بن إسحاق القاضي قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أشعث عن شهر بن حوشب عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى

٣٥

حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة قال أبو بكر ومصادقه في كتاب الله فيما تأوله ابن عباس في قوله تعالى( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال في الوصية( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) قال في الوصية.

باب من يحرم الميراث مع وجود النسب

قال أبو بكر لا خلاف بين المسلمين أن قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) وما عطف عليه من قسمة الميراث خاص في بعض المذكورين دون بعض فبعض ذلك متفق عليه وبعضه مختلف فيه فما اتفق عليه أن الكافر لا يرث المسلم وأن العبد لا يرث وأن قاتل العمد لا يرث وقد بينا ميراث هؤلاء في سورة البقرة ما أجمعوا عليه منه وما اختلفوا فيه واختلف في ميراث المسلم الكافر وميراث المرتد فأما ميراث المسلم من الكافر فإن الأمة من الصحابة متفقون على نفى التوارث بينهما وهو قول عامة التابعين وفقهاء الأمصار وروى شعبة عن عمرو بن أبى حكيم عن ابن(1) باباه عن يحيى بن يعمر عن أبى الأسود الدؤلي قال كان معاذ بن جبل باليمن فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخاه مسلما فقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الإسلام يزيد ولا ينقص وروى ابن شهاب عن داود بن أبى هند قال قال مسروق ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضاها معاوية قال كان يورث المسلم من اليهودي والنصراني ولا يورث اليهودي والنصراني من المسلم قال فقضى بها أهل الشام قال داود فلما قدم عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول وروى هشيم عن مجالد عن الشعبي أن معاوية كتب بذلك إلى زياد يعنى توريث المسلم من الكافر فأرسل زياد إلى شريح فأمره بذلك وكان شريح قبل ذلك لا يورث المسلم من الكافر فلما أمره زياد بما أمره قضى بقوله فكان شريح إذا قضى بذلك قال هذا قضاء أمير المؤمنين وقد روى الزهري عن على بن الحسين عن عمرو ابن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى وفي لفظ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوارث أهل ملتين فهذه الأخبار تمنع توريث المسلم من الكافر

__________________

(1) قوله : ابن باباه ـ اسمه عبد الله واسم أبيه باباه كما في خلاصة تهذيب الكمال.

٣٦

والكافر من المسلم ولم يرو عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خلافه فهو ثابت الحكم في إسقاط التوارث بينهما وأما حديث معاذ فإنه لم يعن هذه المقالة وإنما تأول فيها قوله الإيمان يزيد ولا ينقص والتأول لا يقضى به على النص والتوقيف وإنما يرد التأويل إلى المنصوص عليه يحمل على موافقته دون مخالفته وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان يزيد ولا ينقص يحتمل أن يرد به من أسلم ترك على إسلامه ومن خرج عن الإسلام رد إليه وإذا احتمل ذلك واحتمل ما تأوله معاذ وجب حمله على موافقة خبر أسامة في منع التوارث إذ غير جائز رد النص بالتأويل والاحتمال أيضا لا تثبت به حجة لأنه مشكوك فيه وهو مفتقر في إثبات حكمه إلى دلالة من غيره فسقط الاحتجاج به وأما قول مسروق ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضى بها معاوية في توريث المسلم من الكافر فإنه يدل على بطلان هذا المذهب لإخباره أنها قضية محدثة في الإسلام وذلك يوجب أن يكون قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وإذا ثبت أن من قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وأن معاوية لا يجوز أن يكون خلافا عليهم بل هو ساقط القول معهم ويؤيد ذلك أيضا قول داود بن أبى هند أن عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول والله أعلم.

باب ميراث المرتد

اختلف السلف في ميراث المرتد الذي اكتسبه في حال الإسلام قبل الردة على أنحاء ثلاثة فقال على وعبد الله وزيد بن ثابت والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وعمر بن عبد العزيز وحماد بن الحكم وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والأوزاعى وشريك يرثه ورثته من المسلمين إذا مات أو قتل على ردته وقال ربيعة بن عبد العزيز وابن أبى ليلى ومالك والشافعى ميراثه لبيت المال وقال قتادة وسعيد بن أبى عروبة إن كان له ورثة على دينه الذي ارتد إليه فميراثه لهم دون ورثته من المسلمين ورواه قتادة عن عمر بن عبد العزيز والصحيح عن عمر أن ميراثه لورثته من المسلمين ثم اختلفوا فيما اكتسبه بعد الردة إذا قتل أو مات مرتدا فقال أبو حنيفة والثوري ما اكتسبه بعد الردة فهو فيء وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعى في إحدى الروايتين ما اكتسبه بعد الردة أيضا فهو لورثته

٣٧

المسلمين قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) يقتضى توريث المسلم من المرتد إذ لم يفرق بين الميت المسلم وبين المرتد فإن قيل يخصه حديث أسامة بن زيد لا يرث المسلم الكافر كما خص توريث الكافر من المسلم وهو وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه في منع توريث الكافر من المسلم فصار في حيز المتواتر ولأن آية المواريث خاصة بالاتفاق وأخبار الآحاد مقبولة في تخصيص مثلها قيل له في بعض ألفاظ حديث أسامة لا يتوارث أهل ملتين لا يرث المسلم الكافر فأخبر أن المراد إسقاط التوارث بين أهل ملتين وليست الردة بملة قائمة لأنه وإن ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فغير مقر عليها فليس هو محكوما له بحكم أهل الملة التي انتقل إليها ألا ترى أنه وإن انتقل إلى ملة الكتابي أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها فثبت بذلك أن الردة ليست بملة وحديث أسامة مقصور في منع التوارث بين أهل ملتين وقد بين ذلك في حديث مفسر وهو ما رواه هشيم عن الزهري قال حدثنا على بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فدل ذلك على أن مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك هو منع التوارث بين أهل ملتين وأيضا فإن أبا حنيفة من أصله أن ملك المرتد يزول بالردة فإذا قتل أو مات انتقل إلى التوارث ومن أجل ذلك لا يجيز تصرف المرتد في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام وإذا كان هذا أصله فهو لم يورث مسلما من كافر لأن ملكه زال عنه في آخر الإسلام وإنما ورث مسلما ممن كان مسلما* فإن قبل فإذا يكون قد ورثته منه وهو حي* قيل له ليس يمتنع توريث الحي قال الله تعالى( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ) وكانوا أحياء وعلى أنا إنما نقلنا المال إلى الورثة بعد الموت فليس فيه توريث الحي ويقال للسائل عن ذلك وأنت إذا جعلت ماله لبيت المال فقد ورثت منه جماعة المسلمين وهو كافر وورثتهم منه وهو حي إذا لحق بدار الحرب مرتد وأيضا فإن المسلمين إذا كانوا إنما يستحقون ماله بالإسلام فقد اجتمع للورثة القرابة والإسلام وجب أن يكونوا أولى بماله لاجتماع السببين لهم وانفراد المسلمين بأحدهما دون الآخر والسببان اللذان اجتمعا للورثة هو الإسلام وقرب النسب فأشبه سائر الموتى من المسلمين لما كان ماله مستحقا للمسلمين كان من اجتمع له قرب النسب مع الإسلام أولى ممن بعد نسبه منه وإن

٣٨

كان له إسلام فإن قال قائل هذه العلة توجب توريثه من مال الذمي قيل له لا يجب ذلك لأن مال الذمي بعد موته غير مستحق بالإسلام لاتفاق الجميع على أن ورثته من أهل الذمة أولى به من المسلمين واتفاق جميع فقهاء الأمصار على أن مال المرتد مستحق بالإسلام فمن قائل يقول يستحقه جماعة المسلمين وآخرين يقولون يستحقه ورثته من المسلمين فلما كان ماله مستحقا بالإسلام أشبه مال المسلم الميت لما كان مستحقا بالإسلام كان من اجتمع له الإسلام وقرب النسب أولى من جماعة المسلمين فإن قيل فلو مات ذمي وترك مالا ولا وارث له من أهل دينه وله قرابة مسلمون كان ماله لجماعة المسلمين ولم يكن أقاربه من المسلمين أولى به لاجتماع السببين لهم من الإسلام والنسب قيل له إن مال الذمي غير مستحق بالإسلام والدليل عليه أنه لو كانت له ورثة من أهل الذمة لم يستحق المسلمون ماله وما استحق من مال الذمي بالإسلام لا يكون ورثته من أهل الذمة أولى به منهم بل يكونون هم أولى كمواريث المسلمين فدل ذلك على أن مال الذمي وإن جعل لبيت المال إذا لم يكن له وارث فليس هو مستحقا بالإسلام وإنما هو مال لا مالك له وجده الإمام في دار الإسلام كاللقطة التي لا يعرف مستحقها فتصرف في وجوه القرب إلى الله تعالى فإن قيل فقد قال أبو حنيفة فيما اكتسبه المرتد في حال ردته أنه فيء لبيت المال وهذا ينقض الاعتلال ويدل على أصل المسألة للمخالف قيل له لا يلزم ذلك ولا دلالة فيه على قول المخالف وذلك لأن ما اكتسبه في حال الردة هو بمنزلة مال الحربي ولا يملكه ملكا صحيحا ومتى جعلناه في بيت المال بعد موته أو قبله فإنما يصير ذلك المال مغنوما كسائر أموال الحرب إذا ظفرنا بها وما يؤخذ على وجه الغنيمة فليس بمستحق لبيت المال لأجل الإسلام لأن الغنائم ليست بمستحقة لغانميها بالإسلام والدليل عليه أن الذمي متى شهد القتال استحق أن يرضخ له من الغنيمة فثبت بذلك أن مال الحربي ومال المرتد الذي اكتسبه في الردة مغنوم غير مستحق بالإسلام فلم يعتبر فيه قرب النسب والإسلام كما اعتبرناه في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام لأن ذلك المال كان ملكه فيه صحيحا إلى أن ارتد ثم زال ملكه عنه بالردة فمن يستحقه من الناس فإنما يستحقه بالميراث والمواريث يعتبر فيها الإسلام وقرب النسب إذا كان ملكا لمسلم إلى أن زال عنه بالردة الموجبة لزوال ملكه كما يزول بالموت فلم يلزم عليه حكم ماله المكتسب في حال الردة ولا يجوز

٣٩

أيضا أن يكون أصلا للمال المكتسب في حال الإسلام لأن ملكه فيه كان صحيحا إلى أن زال عنه بالموت والمال المكتسب في حال الردة بمنزلة مال الحربي ملكه فيه غير صحيح لأنه اكتسبه وهو مباح الدم فمتى حصل في يد المسلمين صار مغنوما بمنزلة حربى دخل إلينا بغير أمان فأخذناه مع ماله أن ماله يكون غنيمة فكذلك مال المرتد الذي اكتسبه في حال الردة* فإن احتج محتج بحديث البراء بن عازب قال مربى خالي أبو بردة ومعه الراية فقلت إلى أين تذهب فقال أرسلنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله وهذا يدل على أن مال المرتد فيء* قيل له إنما فعل ذلك لأن الرجل كان محاربا مع استحلاله لذلك حربيا فكان ماله مغنوما لأن الراية إنما تعد للمحاربة وقد روى معاوية بن قرة عن أبيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه ويخمس ماله وهذا يدل على أن مال ذلك الرجل كان مغنوما بالمحاربة ولذلك أخذ منه الخمس* فإن قيل ما أنكرت أن يكون مال المرتد مغنوما* قيل له أما ما اكتسبه في حال الردة فهو كذلك وأما ما اكتسبه في حال الإسلام فغير جائز أن يكون مغنوما من قبل أن ما كان يغنم من الأموال سبيله أن يكون ملك مالكه غير صحيح فيه قبل الغنيمة كمال الحربي ومال المرتد قبل الردة قد كان ملكه فيه صحيحا فغير جائز أن يغنم كما لا يغنم أموال سائر المسلمين إذ كانت أملاكهم فيه صحيحة وزواله عن المرتد بالردة كزواله بالموت فمتى انقطع حقه عنه بالقتل أو بالموت أو اللحاق بدار الحرب استحقه ورثته دون سائر المسلمين لأن سائر المسلمين إن استحقوه بالإسلام لا على أنه غنيمة كانت ورثته أولى به لاجتماع الإسلام والقرابة لهم وإن استحقوه بأنه غنيمة لم يصح ذلك لما بينا من أن شرط الغنيمة أن يكون مال المغنوم غير صحيح الملك في الأصل واختلف السلف فيمن أسلم قبل قسمة الميراث فقال على بن أبى طالب في مسلم مات فلم يقسم ميراثه حتى أسلم ابن له كافرا وكان عبدا فأعتق أنه لا شيء له وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وأبى الزناد وأبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعى والشافعى وروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قالا من أسلم على ميراث قبل أن يقسم شارك في الميراث وهو مذهب الحسن وأبى الشعثاء وشبهوا ذلك بالمواريث التي كانت في الجاهلية ما طرأ عليه الإسلام منها قبل القسمة قسم على حكم الإسلام ولم يعتبر وقت الموت وليس هذا عند الأولين كذلك لأن حكم

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وزكرياء، وميمون بن إبراهيم، ومحمد بن موسى المنجم، وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور، وجعفر المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً، فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه وقال له: أغد غدوةً فلما أصبح لم يشك في ذلك، وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل فقال له: يا أمير المؤمنين أراد أن لا يدع كاتباً ولا قائداً ولا عاملاً إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين!

وغدا نجاح فأجلسه عبيد الله في مجلسه ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إن دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما، وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبا إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعة بخطوطهما وأوصلها عبيد الله بن يحيى وجعل يختلف بين أمير المؤمنين، ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل فضمنا ذلك وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل فأخذاه وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد، وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الوُلد، أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك وقال إنه أخذ مني في أيام الواثق، وهويخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً

٦١

حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً، كما أخذ فضلاً فحبس، ونُجِّمَ عليه في ثلاثة أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد فأغرم سبعة عشر ألف دينار، ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل وكان أحد حجاب المتوكل، وعتاب بن عتاب عن رسالة المتوكل، أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هولم يقر ويؤدِّ ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت، وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات، فأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتماه، فاحتالاه فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد، وقبضا أمتعته كلها، وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه الخ. ».

أقول: هذه صورة لإدارة دولة الخلافة الإسلامية، وتكالب خليفتها وكبار وزرائه على أموال المسلمين المستضعفين! فكيف يجوز تسميته خليفة رسول الله (ص)، وتلقيبه المتوكل على الله! وأي إدارة هذه؟ وأي خلافة لرسول الله هذه؟!

٦٢

نكب كاتب إيتاخ سليمان بن وهب ثم احتاج اليه!

روى التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة « ١ / ٥١ » كيف أخذ المتوكل كاتب إيتاخ، قال: « سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب يقول: كان المتوكل من أغلظ الناس على إيتاخ، فذكر فيه حديثاً طويلاً، وصف فيه كيف قبض المتوكل على إيتاخ وابن وهب ببغداد لما رجعا من الحج بيد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب.

قال سليمان بن وهب: وساعة قبض على إيتاخ ببغداد قبض عليَّ بسر من رأى، وسُلِّمْتُ إلى عبيد الله بن يحي. وكتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم بدخوله بسر من رأى، ليتقوى به على الأتراك، لأنه كان معه بضعة عشر ألفاً لكثرة الظاهرية بخراسان، وشدة شوكتهم، فلما دخل إسحاق أمر المتوكل بتسليمي إليه وقال: هذا عدوي ففصل عظامه! هذا كان يلقاني في أيام المعتصم فلا يبدأني بالسلام، وأبدأه لحاجتي فيرد عليَّ كما يرد المولى على عبده، وكل ما دبره إيتاخ فعن رأيه! فأخذني إسحاق وقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف، وحبسني في كنيف وأغلق على خمسة أبواب، فكنت لا أعرف الليل من النهار، فأقمت كذلك نحوعشرين يوماً لايفتح على الباب إلا حملةً واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع إلى فيهما خبز شعير وملح وماء حار، فكنت آنس بالخنافس وبنات وردان، وأتمنى الموت لشدة ما أنا فيه » ثم روى كيف اضطر المتوكل للإفراج عنه لخبرته في تحصيل مالية البلاد التي كان يحكمها إيتاخ، وهي: مصر، والكوفة، والحجاز، وتهامة، ومكة، والمدينة. « النجوم الزاهرة: ٢ / ٢٧٥ ».

٦٣

قال: « فحُملت إلى مجلس إسحاق فإذا فيه موسى بن عبد الملك صاحب ديوان الخراج، والحسن بن محمد صاحب ديوان الضياع، وأحمد بن إسرائيل الكاتب، وأبو نوح، وعيسى بن إبراهيم، كاتب الفتح بن خاقان، وداود بن الجراح صاحب الزمام، فطُرحت في آخر المجلس، فشتمني إسحاق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: يا فاعل يا صانع تعرضني لاستبطاء أمير المؤمنين، والله لأُفَرِّقن بين لحمك وعظمك، ولأجعلن بطن الأرض أحب إليك من ظهرها، أين الأموال التي جمعتها من غير وجهها الرأي أن تكتب خطك بالتزام عشر ـ ة آلاف ألف درهم، تؤديها في عشرة أشهر، كل شهر ألف ألف درهم، وتَتَرَفَّهُ عاجلاً مما أنت فيه! فأمر إسحاق بأخذي في الحال وإدخالي الحمام، وجاؤني بخلعة نظيفة فلبستها، وبخور طيب فتبخرت، واستدعاني إسحاق ..

فلما كان من غد حولني إلى دار كبيرة حسنة مفروشة، ووكل على فيها بإحسان وإجلال، واستدعيتُ كل من أردت، وتسامع الناس بأمري، وجاؤني ففرج عني، ومضت سبعة وعشرون يوماً، وقد أعددت ألف ألف درهم الخ. »!

٦٤

الفصل الثالث:

سياسة المتوكل مع الإمام الهادي (ع)

من ثوابت سياسة الخلفاء تصفية مخالفيهم!

من ثوابت الخليفة القرشي: أن يعمل للتخلص من خصومه بقتلهم بالسم، أوبالمكيدة، ليكون قتلاً ناعماً مسكوتاً عنه عند الناس!

وكان شعار معاوية المعروف: إن لله جنوداً من عسل! قاله عندما نجح في دسَّ السُّمَّ لمالك الأشتر حاكم مصر (رحمه الله). كما في المستطرف / ٣٥٢، وغيره .

وقال معاوية: لاجدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك من تكره. أي العمل الجدِّي المهم هو: أن تقتل عدوك وتخمده في مكانه، فتزيحه من طريقك! « محاضرات الراغب: ١ / ٥٣١ ».

قال في جمهرة الأمثال « ٢ / ٣٧٦ »: « والمثل لمعاوية رضي الله عنه » قاله بعد قتله عبد الرحمن بن خالد، لأنه كان يعارض توليته لولده يزيد! « ورواه في الأمثال للميداني: ١ / ٦٣٠، والمستقصى للزمخشري / ٣٣٤، وطبقات الأطباء: ١ / ١٥٤: والمنمق في أخبار قريش لابن حبيب: ١ / ١٧٢، والتذكرة الحمدونية / ١٤٩٧، وتاريخ دمشق: ١٩ / ١٨٩ ».

وعلى هذه السياسة مشى خلفاء بني أمية وبني العباس، وكان المتوكل يعمل لقتل الإمام الهادي (ع) وهويعلم أنه إمام رباني، وأنه لا يعمل للسلطة! ولاحجة للمتوكل إلا خوفه من إيمان الناس بالإمام (ع)، فقد رأى أمه تطلب دعاءه، وتنذر له النذور!

٦٥

١. سَجَنَ المتوكل الإمام (ع) ليقتله فنجاه الله:

روى الصدوق في الخصال / ٣٩٥: « عن الصقر بن أبي دلف الكرخي، قال: لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (ع) جئتُ أسأل عن خبره قال: فنظر إليَّ الزُّرَافي وكان حاجباً للمتوكل، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك؟ فقلت: خيرٌ أيها الأستاذ. فقال: أقعد، فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت: أخطأت في المجئ! قال: فوحى الناس عنه، ثم قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟ قلت: لخير ما، فقال: لعلك تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين! فقال: أسكت، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك، فقلت: الحمد لله. قال: أتحب أن تراه؟ قلت: نعم. قال: أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده. قال: فجلست فلما خرج قال لغلام له: خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وَخَلِّ بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة، فأومأ إلى بيت فدخلت فإذا به (ع) جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور! قال: فسلمت فرد، ثم أمرني بالجلوس، ثم قال لي: يا صقر ما أتى بك؟ قلت: يا سيدي جئت أتعرف خبرك؟ قال: ثم نظرت إلى القبر فبكيت! فنظر إلي فقال: يا صقر لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء الآن، فقلت: الحمد لله.

ثم قلت: يا سيدي حديث يروي عن النبي (ص) لا أعرف معناه، قال وما هو؟ فقلت قوله: لا تعادوا الأيام فتعاديكم، ما معناه؟ فقال: نعم، الأيام نحنُ ما

٦٦

قامت السماوات والأرض، فالسبتُ إسم رسول الله (ص) والأحدُ كنايةٌ عن أمير المؤمنين (ع)، والإثنين الحسن والحسين، والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني، وإليه تجتمع عصابة الحق، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

فهذا معنى الأيام، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة. ثم قال (ع): وَدِّعْ واخرج، فلا آمن عليك ».

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: الأيام ليست بأئمة ولكن كنى بها (ع) عن الأئمة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق. كما كنى الله عز وجل بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين عن النبي (ص) وعلي والحسن والحسين (ع) وكما كنى بالسير في الأرض عن النظر في القرآن، سئل الصادق (ع) عن قول الله عز وجل: أو لم يسيروا في الأرض، قال: معناه أو لم ينظروا في القرآن ».

ملاحظات

١. يظهر أن سجن الإمام (ع) في سامراء كان في إحضاره الأول الى سامراء، في أوائل خلافة المتوكل، ولم يسجن في سامراء بعدها.

٢. أما الصقر بن أبي دلف، فهو من الكرخ وكان فيها شيعة لأهل البيت (ع) من زمن الإمام الصادق (ع) , وكانت بغداد: الكرخ وبراثا، ثم أسس المنصور بينهما بغداد المدورة، وقد وثقنا ذلك في سيرة الإمام الكاظم (ع).

٦٧

والحديث يدل على أن الحاجب زرافة كان يعرف الصقر ويحترمه، وكان يميل الى الشيعة، وقيل يكتم تشيعه عن المتوكل، وقد روى مدحه في الهداية الكبرى.

٣. لايبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف الذي خرج على هارون الرشيد، ثم اتفق معه وصار والياً على بلاد الجبل من إيران، وأسس مدينة كرج. وقد كتبنا عنه في القبائل العراقية: قبيلة عِجل بن لُجَيْم.

وكان أبو دلف شيعياً متشدداً، وسكن قسم من أولاده في بغداد وآخرون في الحلة، وبقي قسم منهم في الجبل، ويشمل همدان وأصفهان وغيرهما، ومنهم ولاة في زمن الواثق والمتوكل.

٤. سؤال الصقر عن معنى الأيام في الحديث النبوي، يدل على تعمقه في التشيع فقد كان مطروحاً وقتها موقع الأئمة (ع) التكويني، وتفسير قوله تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) . « التوبة: ٣٦ ».

وكان في عصره بوادر ظهور مذاهب الغلو في بغداد، وأشهرها مذهب الحلاج والشلمغاني، وبشار الشعيري الذي عرف أتباعه بالكرخية المخمسة، وهو مذهب مأخوذ من مذهب الحلول المجوسي، قالوا: « إن سلمان الفارسي والمقداد وعماراً وأبا ذر وعمر بن أمية الضمري، هم الموكلون بمصالح العالم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ». « خلاصة الأقوال للعلامة / ٣٦٤ ».

٦٨

ولعل أول من أشاع ذلك في بغداد أحمد بن هلال الكرخي، الملعون على لسان الإمام المهدي (ع)، فسُمِّيَ أتباعه بالكرخية والكرخيين.

قال الطوسي في الغيبة / ٤١٤: « وكان الكرخيون مُخمسة، لايشك في ذلك أحدٌ من الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه، أكثر من أن تحصى، فلا نطول بذكرها الكتاب ها هنا ».

أقول: أبو دلف المغالي بعد الصقر بن أبي دلف بسنين كثيرة، وقد يكون من آل أبي دلف أو على اسمه. ولم يكن الصقر من أهل الغلو، وسؤاله عن معنى الأيام وتفسيرها ليس من الغلو، لأن الآية تدل على أن مخطط الكون مبني على عدة الشهور الإثني عشر، وعدة أوصياء الأنبياء (ع) ونقبائهم، فهو قانون المنظومة العددية في تكوين الكون، وفي هداية المجتمع. وبحثه خارج عن غرضنا.

٢. واتهم المتوكل الإمام (ع) بجمع السلاح للثورة عليه:

وقد أحضره ليلاً فأدخلوه على المتوكل وهو يشرب الخمر وأراد منه أن يشرب معه فأبى، بل وعظه فبكى المتوكل، وأمر برفع مائدة الخمر من مجلس الخلافة!

وقد روت ذلك عامة المصادر، ومنها المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ١٠ » بسنده عن محمد بن عرفة النحوي قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد: « وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره فوجده في بيت وحده مغلق عليه، وعليه مَدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت

٦٩

إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مَلْحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمَه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليه بها. فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط فأعْفِنِي منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني. فأنشده:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن مَعَاقِلهمْ

فأُودعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزلوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا

أينَ الأسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ

أينَ الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستارُ والكِللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهمْ

تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتِل

قد طالَ ما أكلُوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

وطالما عَمروا دوراً لتحصنهمْ

ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخروا

فخلَّفُوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قَفْراً مُعَطَّلَةً

وساكنوهَا إلى الأجْدَاثِ قد رَحَلُوا

قال: فأشفق كل من حضر على علي، وظنوا أن بادرة تبدر منه إليه، قال: والله لقد بكى المتوكل بكاء طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر

٧٠

برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً ».

ورواها الذهبي في تاريخ الإسلام « ١٨ / ١٩٩ » ، فقال: « سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم، ومن نيته التوثب، فكَبَسَ بيته ليلاً فوجده في بيت عليه مدرعة صوف، متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات، فأُخذ كهيئته إلى المتوكل وهويشرب ». واليافعي في مرآة الجنان: ٢ / ١١٩، والقلقشندي في معالم الخلافة: ١ / ٢٣٢، والأبشيهي في المستطرف: ٢ / ٨٧٤، وغيرهم، وغيرهم .

٣. وكان يقول: أعياني أمرُ ابن الرضا!

كان المتوكل ذات يوم غاضباً متوتراً، لأنه عجز أن يجرَّ الإمام الهادي (ع) الى شرب الخمر، ثم يُظهره للناس سكراناً لتسقط عقيدتهم به!

وهذه لجاجةٌ منه لأنه يعرف أن الإمام (ع) من العترة الذين طهرهم الله تعالى! روى في الكافي « ١ / ٥٠٢ »: « حدثني أبوالطيب المثنى يعقوب بن ياسرقال: كان المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا! أبى أن يشرب معي أوينادمني أوأجد منه فرصة في هذا! فقالوا له: فإن لم تجد منه، فهذا أخوه موسى قَصَّافٌ عَزَّاف، يأكل ويشرب ويتعشق. قال: إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نُمَوِّهَ به على الناس ونقول ابن الرضا! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة، وبنى له فيها، وحول الخمارين والقيان إليه، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرياً، حتى يزوره هوفيه!

٧١

فلما وافى موسى تلقاه أبوالحسن (ع) في قنطرة وصيف، وهو موضع يتلقى فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه، ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط.

فقال له موسى: فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟ قال: فلا تضع من قدرك ولا تفعل، فإنما أراد هتكك، فأبى عليه، فكرر عليه. فلما رأى أنه لا يجيب قال: أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهوعليه أبداً!

فأقام ثلاث سنين، يبكر كل يوم فيقال له: قد تشاغل اليوم فَرُحْ فَيروح. فيقال: قد سكر فبكِّر، فيبكر. فيقال: شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل، ولم يجتمع معه عليه ».

أقول: لما رأى الإمام (ع) إصرار أخيه على المنكر، وعلى إعطاء المتوكل مبرراً للطعن بإمامة العترة النبوية (ع)، دعاعليه بأن لا يلتقي بالمتوكل أبداً، وهو يعلم أن الله تعالى لا يردُّ له طلبة، فأخبره بأنه لن يجتمع مع صاحبه الخليفة الخمَّار أبداً!

هذا، وقد روي أن موسى المبرقع تاب بعد ذلك وأناب واستقام. وله ذرية كثيرة، وفيهم أبرار وعلماء أجلاء.

٤. يتفاءل المتوكل بنفسه ويتشاءم بالإمام (ع):

« عن فارس بن حاتم بن ماهويه قال: بعث يوماً المتوكل إلى سيدنا أبي الحسن (ع) أن اركب وأخرج معنا إلى الصيد لنتبرك بك، فقال للرسول: قل له إني راكب، فلما خرج الرسول قال لنا: كذب، ما يريد إلا غير ما قال! قالا: قلنا: يا

٧٢

مولانا فما الذي يريد؟ قال: يظهر هذا القول فإن أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ما يبعده من الله، وإن أصابه شرٌّ نسبه إلينا، وهويركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصيد فيرد هو وجيشه على قنطرة على نهر، فيعبر سائر الجيش ولا تعبر دابته، فيرجع ويسقط من فرسه فتزل رجله وتتوهن يداه، ويمرض شهراً.

قال فارس: فركب سيدنا وسرنا في المركب معه والمتوكل يقول: أين ابن عمى المدني؟ فيقول له: سائرٌ يا أمير المؤمنين في الجيش، فيقول: ألحقوه بنا، ووردنا النهر والقنطرة، فعبر سائر الجيش وتشعثت القنطرة وتهدمت، ونحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا، ورُسل المتوكل تحثُّه، فلما وردنا النهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبر سائر الجيش ودوابنا، فاجتهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر، وعثر المتوكل فلحقوا به، ورجع سيدنا، فلم يمض من النهار إلا ساعات حتى جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته وزلت رجله وتوهنت يداه، وبقي عليلاً شهراً! وعتب على أبي الحسن (ع) قال: أبوالحسن (ع) إنما رجع عنا لئلا تصيبنا هذه السقطة فنشأم به، فقال أبو الحسن (ع): صدق الملعون ».

٥. وكانت أم المتوكل تعتقد بالإمام (ع) وتنذر له:

روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون

٧٣

عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « بالضم عُصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه.

فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله، فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال. وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها. ثم استقل من علته فسعى به البطحائي العلوي، بأن أموالاً تحمل إليه وسلاحاً، فقال لسعيد الحاجب: أُهْجُمْ عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح، واحمله إليَّ.

قال إبراهيم بن محمد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة، لم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته: عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة، على حصير بين يديه، فلم أشك أنه كان يصلي، فقال لي: دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي: دونك المصلى، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبس.

فأخذت ذلك وصرت إليه، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له: كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه، وهذا خاتمي على الكيس، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فضم إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته، ورددت السيف

٧٤

والكيسين وقلت له: يا سيدي عَزَّ عليَّ! فقال لي: وَسَيَعْلَمُ أَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ».

أقول: البطحائي العلوي، الذي افترى على الإمام (ع) هو مع الأسف: محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي (ع).

٦. بنى المتوكل عاصمة جديدة بالإجبار:

من غطرسة المتوكل وبذخه: أنه قرر بناء عاصمة قرب سامراء، وسماها سامراء وأجبر الناس على أن يبنوا بيوتهم فيها، وكان يعطيهم نفقاتها، أو قسماً منها.

فقال الإمام الهادي (ع) كما في الهداية / ٣٢٠: « إن هذا الطاغية يبني مدينة يقال لها سامرا، يكون حتفه فيها على يد ابنه المسمى بالمنتصر، وأعوانه عليه الترك ...

ثم كان من أمر بناء المتوكل الجعفري وما أمر به بني هاشم وغيرهم من الأبنية هناك ما تحدث به، ووجه إلى أبي الحسن (ع) بثلاثين ألف درهم، وأمره أن يستعين بها على بناء دار، وركب المتوكل يطوف على الأبنية، فنظر إلى دار أبي الحسن (ع) لم ترتفع إلا قليلاً، فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان: عليَّ وعليَّ يميناً وأكدها: لئن ركبت ولم ترتفع دار أبي الحسن (ع) لأضربنَّ عنقه، فقال له عبيد الله: يا أمير المؤمنين لعله في إضاقة، فأمر له بعشرين ألف درهم وجه بها إليه مع أحمد ابنه، وقال له: تحدثه بما جرى، فصار إليه وأخبره بما جرى فقال: إنْ رَكِب فليفعل ذلك! ورجع أحمد إلى أبيه عبيد الله فعرفه ذلك، فقال عبيد الله: ليس والله يركب »! أي قال رئيس الوزراء: إن المتوكل لن يركب، لأنه يعرف أن الإمام (ع) يتكلم بإلهام من الله تعالى!

٧٥

٧. حاول المتوكل إذلال الإمام (ع) فدعا عليه:

« عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال: كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده وقربه منه دون الناس جميعاً، ودون ولده وأهله، أراد أن يبين موضعه عندهم. فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر ووجوه الناس، أن يَزَّينوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عُدَدهم وذخائرهم، ويَخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يَركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى!

ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رَجَّالَة، وكان يوماً قائظاً شديد الحر.

وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد (ع) وشقَّ ما لقيه من الحر والزحمة. قال زرافة: فأقبلت إليه وقلت له: يا سيدي يعز والله عليَّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلفته من المشقة، وأخذت بيده فتوكأ عليَّ وقال: يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني، أوقال بأعظم قدراً مني، ولم أزل أسائله وأستفيد منه، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب وأمر الناس بالإنصراف. فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم، وقدمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره فنزل وودعته وانصرفت إلى داري، ولوُلدي مؤدبٌ يتشيع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد

٧٦

وما سمعته من قوله: ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً مني. وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال: بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه؟ فقلت له: والله إني سمعته يقوله، فقال لي: إعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك! فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أوسبب يجري.

فقلت له: من أين لك ذلك؟ فقال: أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. ولا يجوز أن تبطل قول الإمام (ع)! قال زرافة، فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه، والفتح بن خاقان جميعاً، قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته!

فلقيت الإمام أبا الحسن (ع) بعد ذلك وعرفته ما جرى مع المؤدب وما قاله، فقال: صدق إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعز من الحصون والسلاح والجنن، وهودعاء المظلوم على الظالم، فدعوت به عليه فأهلكه الله ». « مهج الدعوات / ٢٦٧ ».

وفي الخرائج: ١ / ٤٠٢: ذكر زرافة حديثه مع مؤدبه وقال: « فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي، فخرج. فلما خلوت بنفسي تفكرت وقلت: ما يضرني أن آخذ بالحزم، فإن كان من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرني ذلك، قال: فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها، وفرقت كل ما

٧٧

كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلا حصيراً أقعد عليه. فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي، فتشيعت عند ذلك وصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعولي وتوليته حق الولاية ».

وفي الثاقب / ٥٣٩: « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال: دخلت على سعيد بن صالح الحاجب فقلت: يا أبا عثمان قد صرت من أصحابك، وكان سعيد يتشيع. فقال: هيهات! قلت: بلى والله. فقال: وكيف ذلك؟ قلت: بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل، ففعلت ذلك فوجدته يصلي فبقيت قائماً حتى فرغ، فلما انفتل من صلاته أقبل عليَّ وقال: يا سعيد، لا يكف عني جعفر أي المتوكل حتى يقطع إرباً إرباً! إذهب واعزب، وأشار بيده الشريفة فخرجت مرعوباً ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه! فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية، فسألت عنه فقيل: قتل المتوكل، فرجعنا وقلتُ بها ».

أقول: كذب سعيد، فقد كان جلوازاً سيَّافاً عند بني العباس، ثم ادعى التشيع!

وفي الخرائج: ١ / ٤١٢: « حدثنا ابن أرومة قال: خرجت أيام المتوكل إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن إليه ليقتله، فلما دخلت عليه، قال: تحب أن تنظر إلى إلهك؟ قلت: سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار. قال: هذا الذي تزعمون أنه إمامكم! قلت: ما أكره ذلك. قال: قد أمرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فادخل إليه.

٧٨

فلم ألبث أن خرج قال: أدخل، فدخلت الدار التي كان فيها محبوساً فإذا هو ذا بحياله قبر يحفر، فدخلت وسلمت وبكيت بكاءً شديداً، قال: ما يبكيك؟ قلت: لما أرى. قال: لا تبك لذلك فإنه لا يتم لهم ذلك. فسكن ما كان بي فقال: إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. قال: فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل وقتل صاحبه ».

٨. أظهر الله قدرة وليه (ع) فخاف الطاغية:

روى الخصيبي في الهداية الكبرى / ٣٢٢: « عن الحسن بن مسعود وعلي وعبيد الله الحسني، قال: دخلنا على سيدنا أبي الحسن (ع) بسامرا وبين يديه أحمد بن الخصيب ومحمد وإبراهيم الخياط، وعيونهم تفيض من الدمع، فأشار الينا (ع) بالجلوس فجلسنا وقال: هل علمتم ما علمه إخوانكم؟ فقلنا: حدثنا منه يا سيدنا ذكراً. قال: نعم، هذا الطاغي قال مسمعاً لحفدته وأهل مملكته: تقول شيعتك الرافضة إن لك قدرة، والقدرة لا تكون إلا لله، فهل تستطيع إن أردت بك سوءً أن تدفعه؟ فقلت له: وإن يمسك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو.

فأطرق ثم قال: إنك لتروي لكم قدرة دوننا، ونحن أحق به منكم، لأننا خلفاء وأنتم رعيتنا. فأمسكت عن جوابه، لأنه أراد أن يبين جبره بي، فنهضت فقال: لتقعدن وهو مغضب، فخالفت أمره وخرجت، فأشار إلى من حوله: الآن خذوه، فلم تصل أيديهم إليَّ وأمسكها الله عني! فصاح: الآن قد أريتنا قدرتك والآن نريك قدرتنا، فلم يستتم كلامه حتى زلزلت الأرض ورجفت!

٧٩

فسقط لوجهه، وخرجتُ فقلت: في غدٍ الذي يكون له هنا قدرة يكون عليه الحكم لا له. فبكينا على إمهال الله له وتجبره علينا وطغيانه.

فلما كان من غد ذلك اليوم، فأذن لنا فدخلنا فقال: هذا ولينا زرافة يقول إنه قد أخرج سيفاً مسموماً من الشفرتين، وأمره أن يرسل إليَّ فإذا حضرت مجلسه أخلى زرافة لأمته مني ودخل إلي بالسيف ليقتلني به، ولن يقدر على ذلك.

فقلنا: يا مولانا إجعل لنا من الغم فرجاً. فقال: أنا راكب إليه فإذا رجعت فاسألوا زرافة عما يرى. قال: وجاءته الرسل من دار المتوكل، فركب وهويقول: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. ولم نزل نرقب رجوعه إلى أن رجع ومضينا إلى زرافة فدخلنا عليه في حجرة خلوته فوجدناه منفرداً بها واضعاً خده على الأرض يبكي ويشكر الله مولاه ويستقيله، فما جلس حتى أتينا إليه فقال لنا: أجلسوا يا إخواني حتى أحدثكم بما كان من هذا الطاغي، ومن مولاي أبي الحسن (ع)، فقلنا له: سُرَّنَا سَرَّك الله، فقال: إنه أخرج إلي سيفاً مسموم الشفرتين وأمرني ليرسلني إلى مولاي أبي الحسن إذا خلا مجلسه فلا يكون فيه ثالث غيري وأعلومولاي بالسيف فأقتله. فانتهيت إلى ما خرج به أمره إليَّ فلما ورد مولاي للدار وقفت مشارفاً فاعلم ما يأمر به، وقد أخليت المجلس وأبطأت، فبعث إلي هذا الطاغي خادماً يقول إمض ويلك ما آمرك به. فأخذت السيف بيدي ودخلت، فلما صرت في صحن الدار ورآني مولاي فركل برجله وسط المجلس فانفجرت الأرض، وظهر منها ثعبان عظيم فاتحٌ فاه، لوابتلع سامرا ومن فيها لكان في فيه

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477