الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام16%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158540 / تحميل: 7003
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

سعة، لا ترى مثله! فسقط المتوكل لوجهه، وسقط السيف من يده، وأنا أسمعه يقول: يا مولاي ويا ابن عمي، أقلني أقالك الله، وأنا أشهد أنك على كل شئ قدير! فأشار مولاي بيده إلى الثعبان فغاب، ونهض وقال: ويلك ذلك الله رب العالمين. فحمدنا الله وشكرناه ».

٩. لقد فاخرتنا من قريش عصابةٌ:

« دخل (ع) يوماً على المتوكل فقال: يا أبا الحسن من أشعر الناس، وكان قد سأل قبله ابن الجهم فذكر شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام، فلما سأل الإمام (ع) قال: فلان بن فلان العلوي. قال ابن الفحام: وأحسبه الحماني قال: حيث يقول:

لقد فَاخَرَتْنَا من قريشٍ عُصَابَةٌ

بِمَطِّ خُدُودٍ وامتدادِ أصابعِ

فلما تنازعنا القضاءَ قضى لنا

عليهم بما نهوى نداءُ الصوامع

قال: وما نداء الصوامع، يا أبا الحسن؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، جدي أم جدك؟فضحك المتوكل ثم قال: هوجدك لاندفعك عنه ».

« أمالي الطوسي / ٢٨٧، ومناقب آل أبي طالب: ٣ / ٥١٠، والمحاسن والمساوئ للبيهقي: ١ / ٤٦، وفي طبعة / ٧٨، والمحاسن والأضداد للجاحظ: ١ / ١٤٧، ومصادر أخرى ».

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة « ١ / ١٨٥ »: « وَالحِمَّاني: علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين (ع) الذي كان يقول: أنا شاعر وأبي شاعر وجدي شاعر إلى أبي طالب. والذي شهد له الهادي (ع) أمام المتوكل بأنه أشعر الناس لقوله من أبيات فلما تنازعنا الحديث قضى لنا ...

٨١

وقال في أعيان الشيعة « ٨ / ٣١٦ »: « علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين (ع) المعروف بالحِمَّاني، نسبة إلى حِمَّان بكسر الحاء وتشديد الميم قبيلة بالكوفة نزلها. توفي سنة ٢٦٠، كما قال ابن الأثير، كان فاضلاً أديباً شاعراً وشهد له الإمام أبوالحسن (ع) الثالث في التفضيل في الشعر. وذكر تتمة البيتين:

وإنا سكوتٌ والشهيدُ بفضلنا

عليهم جهيرُ الصوت في كل جامع

فإنَّ رسولَ الله أحمدُ جدُّنا

ونحنُ بنوهُ كالنجوم الطوالع

وقال: قوله وأنشد له المرتضى في الفصول المختارة من كتاب المجالس، وكتاب العيون والمحاسن للمفيد:

يا آلَ حم الذين بحبهمْ

حَكَمَ الكتابُ مُنزلاً تنزيلا

كان المديحُ حُلَى الملوك وكنتمُ

حُلَلَ المدائح عِزَّةً وجُمولا

بيتٌ إذا عَدَّ المآثرَ أهلُها

عَدُّوا النبيَّ وثانياً جبريلا

قومٌ إذا اعتدلوا الحمايلَ أصبحوا

متقسمين خَلَيفةً ورسولا

نشأوا بآيات الكتاب فما انثنوا

حتى صدرنَ كُهولةً وكُهولا

ثقلانِ لن يتفرقا أو يُطْفِيَا

بالحوض من ظمإِ الصدورِ غليلا

وخليفتان على الأنام بقوله

بالحق أصدقُ من تكلم قيلا

فاقوا أكفَّ الآيسين فأصبحوا

لايعدلون سوى الكتاب عديلا ».

ورواها في مناقب آل أبي طالب « ٢ / ٣٣٩ » وأنشد له ابن عنبة في عمدة الطالب / ٣٠١:

« لنا من هاشمٍ هَضَبَاتُ عِزٍّ

مُطَنَّبَةٌ بأبراجِ السماءِ

تُطيفُ بنا الملائكُ كلَّ يَوْمٍ

ونُكفَلُ في حُجُورِ الأنبياء

ويَهتزُّ المقامُ لنا ارتياحاً

ويلقانا صَفَاهُ بالصَّفاء ».

٨٢

١٠ . هيأ له المعتز علوجاً ليقتلوه فهابوه وسجدوا له:

روى في الثاقب في المناقب / ٥٥٦: « عن أبي العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب قال: كنا مع المعتز، وكان أبي كاتبه، فدخلنا الدار والمتوكل على سريره قاعد، فسلم المعتز ووقف ووقف خلفه، وكان عهدي به إذا دخل عليه رحب به وأمره بالقعود، ونظرت إلى وجهه يتغير ساعة بعد ساعة، ويقبل على الفتح بن خاقان ويقول: هذا الذي يقول فيه ما يقول، ويرد عليه القول، والفتح مقبل عليه يسكنه ويقول: مكذوب عليه يا أمير المؤمنين. وهو يتلظى ويقول: والله لأقتلن هذا المرائي الزنديق، وهوالذي يدعي الكذب، ويطعن في دولتي.

ثم قال: جئني بأربعة من الخزر وأجلاف لا يفقهون، فجئ بهم ودفع إليهم أربعة أسياف، وأمرهم أن يرطنوا بألسنتهم إذا دخل أبوالحسن، وأن يقبلوا عليه بأسيافهم فيخبطوه ويقتلوه، وهويقول: والله لأحرقنه بعد القتل، وأنا منتصب قائمٌ خلفه من وراء الستر، فما علمت إلا بأبي الحسن (ع) قد دخل، وقد بادر الناس قدامه فقالوا: جاء! والتفتُّ ورائي وهوغير مكترث ولا جازع، فلما بصر به المتوكل رمى بنفسه من السرير إليه وهو بسيفه فانكب عليه يقبل بين عينيه، واحتمل يده بيده وهويقول: يا سيدي، يا ابن رسول الله، ويا خير خلق الله يا ابن عمي يا مولاي، يا أبا الحسن، وأبوالحسن يقول: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا! فقال: ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت؟ قال: جاءني رسولك، فقال المتوكل: كذب ابن الفاعلة، إرجع يا سيدي من حيث جئت.

٨٣

يا فتح، يا عبد الله، يا معتز، شيعوا سيدي وسيدكم. فلما بصر به الخزر خروا سجداً مذعنين، فلما خرج دعاهم المتوكل، ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون، ثم قال لهم: لم لا تفعلوا ما أمرتكم به؟ قالوا: لشدة هيبته، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن ننالهم، فمنعنا ذلك عما أمرنا به، وامتلأت قلوبنا رعباً من ذلك. فقال المتوكل: هذا صاحبكم، وضحك في وجه الفتح، وضحك الفتح في وجهه وقال: الحمد لله الذي بيض وجهه، وأنار حجته ».

رووا أن الإمام (ع) مدح العباس:

قال الذهبي في سيره « ١٢ / ٣٨ »: « قال المبرد: قال المتوكل لعلي بن محمد بن الرضا: ما يقول ولد أبيك في العباس؟ قال: ما تقول يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله طاعته على نبيه (ص) وذكر حكاية طويلة، وبكى المتوكل، وقال له: يا أبا الحسن لينت منا قلوباً قاسية، أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فأمر له بها ».

أقول: إذا صح ذلك فهو تقية جائزة للتخلص من قرار المتوكل بقتله (ع)، ويكون معنى: فرض طاعته على نبيه (ص)، أي طاعة الله تعالى لا طاعة العباس.

٨٤

الفصل الرابع:

إحضار المتوكل للإمام الهادي (ع) الى سامراء

أحضر المتوكل الإمام (ع) الى سامراء ثلاث مرات

١. حكم المتوكل أربع عشرة سنة « ٢٣٢ ـ ٢٤٧ » وحكم بعده ابنه المنتصر نحو سبعة أشهر، ثم حكم المستعين وهو أحمد بن محمد بن المعتصم، سنتين وتسعة أشهر، ثم حكم المعتز وهوالزبير بن المتوكل، ثماني سنين وستة أشهر، وهو الذي ارتكب جريمة قتل الإمام الهادي (ع).

وكان المتوكل على خط أسلافه خلفاء بني عباس في عدائهم للأئمة من عترة النبي (ص)، لأنهم يعرفون أنهم أئمة ربانيون ينجذب اليهم الناس، ويقيسون بهم الخليفة العباسي. فهم برأي الخلفاء خطرٌ على حكمهم.

وبسبب هذا العداء أرسل المتوكل القائد عَتَّاب بن أبي عتاب في أول خلافته لإحضار الإمام الهادي (ع)، ثم أرسل القائد يحيى بن هرثمة أكثر من مرة. وروت المصادر نص رسالة المتوكل الى الإمام (ع) مع ابن هرثمة سنة ٢٤٣ . كما روت أنه حبسه في إحدى إحضاراته وحفر له قبراً في السجن! ويظهر أن ذلك كان في مطلع خلافته سنة ٢٣٣، فبقي الإمام (ع) مدة في سامراء، ثم تخلص ورجع الى المدينة، أو رجع في موسم الحج وبقي في المدينة.

٨٥

ثم أحضره ثانية قبل سنة ٢٣٥ ، فتخلص أيضاً وعاد الى المدينة، ثم أحضره سنة ٢٤٣، وألزمه بالبقاء في سامراء.

وقلنا ثلاث مرات على الأقل، لأنهم رووا أن المتوكل مرض في أول خلافته، ونذر إن عوفي أن يتصدق بدنانير كثيرة، ولم يعرف الفقهاء مقدارها، وأرسل الى الإمام الهادي (ع) وكان في سامراء، فسأله.

ورووا أن يحيى بن هرثمة مرَّ به في مجيئه على بغداد، وزاره القائد إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وقد توفي الطاهري سنة ٢٣٥ ، فلا بد أن يكون ذلك غير إحضاره مع القائد عَتَّاب بن أبي عتاب.

كما أن المتوكل حبس الإمام (ع) في هذا الإحضار، وأراد قتله. أما في الإحضار الأخير فلم يحبسه وأظهر احترامه وألزمه بالإقامة في سامراء، فاشترى الإمام داراً من نصراني وسكن فيها، ثم أضاف اليها داراً أو دوراً أخرى.

أما محاولة المتوكل إهانة الإمام (ع) وإنزاله في خان الصعاليك، وتأخير مقابلته له يوماً، فلا يبعد أن تكون في إحضاره الأخير.

٢. وبهذا تعرف أن سبب تفاوت كلام المؤرخين في أن الإمام الهادي (ع) أقام في سامراء عشرين سنة، أوعشر سنين، هوالإحضارات المتعددة له، والتي ختمت بفرض الإقامة الجبرية عليه حتى هلاك المتوكل.

ثم جاء المستعين والمعتز فواصلا فرض الإقامة الجبرية عليه، حتى ارتكب المعتز وهو الزبير بن المتوكل، جريمة قتله (ع).

٨٦

الإحضار الأول للإمام (ع) الى سامراء

قال في مناقب آل أبي طالب « ٣ / ٥١٥ »: « وَجَّهَ المتوكل عَتَّابَ بن أبي عتاب إلى المدينة ليحمل علي بن محمد (ع) إلى سر من رأى، وكان الشيعة يتحدثون أنه يعلم الغيب، فكان في نفس عتاب من هذا شئ، فلما فصل من المدينة رآه وقد لبس لَبَّادة والسماء صاحية، فما كان أسرع من أن تغيمت وأمطرت، فقال عتاب: هذا واحد. ثم لما وافى شط القاطون رآه مُقْلَقَ القلب فقال له: مالك يا أبا أحمد؟ فقال: قلبي مُقلق بحوايج التمستها من أمير المؤمنين. قال له: فإن حوائجك قد قضيت، فما كان بأسرع من أن جاءته البشارات بقضاء حوائجه. قال: الناس يقولون إنك تعلم الغيب. وقد تبينتُ من ذلك خَلَّتين ».

عتَّاب بن أبي عتاب قائد عباسي فارسي

قال في تاريخ دمشق « ٣٨ / ٢٢٦ »: « عتَّاب بن عتاب بن سالم بن سليمان النسائي، أحد قواد المتوكل، قدم معه دمشق سنة ثلاث وأربعين ومائتين، فيما قرأته بخط أبي محمد عبد الله بن محمد الخطابي، ثم ولاه حجابته مع الحسين بن إسماعيل ».

وذكره الطبري في مواضع وهو مطيعٌ لخلفاء بني عباس.

منها « ٧ / ٣٧٣ » لما وثب أهل حمص على واليهم فأرسل لهم المتوكل عتَّاباً: « وأمره أن يقول لهم إن أمير المؤمنين قد أبدلكم رجلاً مكان رجل فرضوا بمحمد بن عبدويه فولاه عليهم، فعمل فيهم الأعاجيب ».

٨٧

ومنها: أن المعتز ظفر جيشه بعلوي ثار عليه في الكوفة، « الطبري: ٧ / ٥١١ » : « فورد الكتاب بحمله مع عتاب بن عتاب، وحمل هؤلاء الطالبيين فحملوا جميعاً ».

ومنها: دور عَتَّاب بعد المتوكل حتى قتل مع المهتدي سنة ٢٥٦ ، وذلك لما اختلف المهتدي مع القادة الأتراك، فخدعه القائد التركي بايكباك بأنه معه ضد موسى بن بغا، ودخل قصر المهتدي ومهد لدخول ابن بغا لقتله. ولما اكتشف المهتدي مؤامرة بايكباك، قَتَلَهُ وأمر عتاب بن عتاب أن يرميهم برأسه فرماههم به، فأطبقوا على المهتدي وجيشه: « شد رجل منهم على عتاب فقتله فحمل عليهم طغوتيا أخو بايكباك حملة ثائر حَرَّان موتور، فنقض تعبيتهم وهزمهم وأكثر فيهم القتل وولوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزماً والسيف في يده مشهور وهوينادي: يا معشر الناس أنصروا خليفتكم! حتى صار إلى دار ابن جميل فبادرهم ليصعد فرُمِي بسهم وبُعِج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أوبغل وأردف خلفه سائساً حتى صار به إلى داره، فدخلوا عليه فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخُرْثي « الأثاث » فأقر لهم بست مائة ألف قد أودعها فأخذوا رقعته بست مائة ألف دينار، ودفعوه إلى رجل فوطئ على خصييه حتى قتله ». « الطبري « ٧ / ٥٨٢ »

ثم وصف الطبري انتخاب الأتراك للخليفة الجديد فقال « ٧ / ٥٨٧ »: « كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار، فأخرج من ولد المتوكل جماعة فصار بهم إلى داره، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان، يوم الثلاثاء لثلاث عشرة

٨٨

خلت من رجب وسميَ المعتمد على الله، وأشهد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدى محمد بن الواثق، وأنه سليم ما به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة ».

وهذا يدل على أن عتاباً كان فارسياً وليس تركياً، وأنه قتل مع المهتدي. ومن المستبعد أن يكون استبصر لما رأى معجزات الإمام (ع) في مرافقته من المدينة، رغم أنه اقتنع بأنه ولي الله، وأن الله تعالى يظهره على بعض غيبه.

فقد بقي عتاب مخلصاً للمتوكل، والخلفاء من بعده، وكانوا يكلفونه بمهمات قذرة، من القمع والقتل، حتى قُتل في سبيلهم!

إحضار الإمام الى سامراء بعد هدم قبر الحسين (ع)

ارتكب المتوكل جريمة هدم قبر الحسين (ع) سنة ٢٣٦، واتفق المؤرخون على أنه أثار على نفسه نقمةً عامة من كل الفئات، حتى كتب المسلمون شعار شتمه على جدران بغداد، ولم يرووا أن أحداً كان يمحوه!

وقد رافق ذلك تزايد تعاطف المسلمين مع الإمام الهادي (ع) خاصة في بغداد والحجاز، وقد وصل هذا التعاطف الى بعض وزراء الخليفة، وأفراد أسرته!

ويظهر أن بعض الأوساط لهجوا بالثورة على المتوكل.

وفي ذلك الظرف كتب اليه والي مكة والمدينة: إن كانت لك حاجة في الحجاز، فأخرج منه علي بن محمد. أي قبل أن يدعوهم للثورة عليك فيستجيبون له!

٨٩

قال المسعودي في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٢ »: « وكتب بُرَيْحَة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين الى المتوكل: إن كان لك في الحرمين حاجة، فأخرج علي بن محمد منهما فإنه قد دعا الى نفسه واتبعه خلق كثير. وتابع بُريحة الكتب في هذا المعنى، فوجه المتوكل بيحيى بن هرثمة وكتب معه الى أبي الحسن (ع) كتاباً جميلاً يعرفه أنه قد اشتاقه، ويسأله القدوم عليه. وأمر يحيى بالمسير معه كما يحبُّ، وكتب الى بريحة يعرفه ذلك. فقدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب الى بريحة، وركبا جميعاً الى أبي الحسن (ع) فأوصلا إليه كتاب المتوكل، فاستأجلهما ثلاثاً.

فلما كان بعد ثلاث عاد الى داره فوجد الدواب مُسْرَجة، والأثقال مشدودة قد فُرغ منها. وخرج صلى الله عليه متوجهاً نحوالعراق، واتَّبعه بريحة مشيعاً، فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك، وعليَّ حلفٌ بأيمان مغلظة لئن شكوتني الى أمير المؤمنين، أوالى أحد من خاصته وأبنائه، لَأُجَمِّرَنَّ نخلك، ولأقتلن مواليك، ولأُعُوِّرَنَّ عيون ضيعتك، ولأفعلن ولأصنعن. فالتفت إليه أبوالحسن (ع) فقال له: إن أقرب عَرْضِي إياك على الله البارحة. وما كنت لأعرضنك عليه، ثم أشكونك الى غيره من خلقه. قال: فانكب عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه. فقال له: قد عفوت عنك ».

ملاحظة

بريحة هو تُرُنْجَة، وقد يكون تصحيفاً له، ففي شفاء الغرام للفاسي « ٢ / ٢١٩ »: « ثم وليها « مكة » محمد بن داود عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن

٩٠

عباس العباسي، الملقب تُرُنْجَة، في سنة اثنين وعشرين ومائتين، ولعل ولايته دامت إلى أثناء خلافة المتوكل ».

وقال في صبح الأعشى « ٤ / ٢٧١ »: « ثم وليها محمد بن عيسى، ثم عزله المتوكل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وولَّى مكانه ابنه المنتصر بن المتوكل. ثم وليها علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور، ثم عزله المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين وولَّى مكانه عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى. ثم عزله المتوكل سنة ثنتين وأربعين ومائتين، وولَّى مكانه عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام. ثم توالت عليها العمال من قبل خلفاء بني العباس ».

وفي رسالة المتوكل الى الإمام الهادي (ع) أنه عزل بريحة لأنه أساء اليه، وذلك سنة ٢٤٣. ومعناه أنه عزل ثم نصب على الصلاة في الحرمين.

وسماه في الإرشاد « ٢ / ٣٢٥ »: تُرنجة، وقال في هامشه: وهوعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي بن أترجة من ندماء المتوكل، والمشهور بالنصب والبغض لعلي بن أبي طالب (ع)، وقد قتل بيد عيسى بن جعفر، وعلي بن زيد الحسنيين بالكوفة قبل موت المعتز بأيام. أنظر: الكامل لابن الأثير: ٧ / ٥٦، تاريخ الطبري: ٩ / ٣٨٨ .

وورد خبر قتله في الكافي « ١ / ٥٠٦ »: « قال: كتب أبومحمد (ع) إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحوعشرين يوماً: إلزم بيتك حتى يحدث الحادث، فلما قتل بُريحة كتب إليه قد حدث الحادث فما تأمرني؟ فكتب: ليس هذا الحادث، الحادث الآخر. فكان من أمر المعتز ما كان.

٩١

وعنه قال: كتبت (ع) إلى رجل آخر: يُقتل ابن محمد بن داود عبد الله قبل قتله « المعتز » بعشرة أيام، فلما كان في اليوم العاشر، قُتل ».

وكان قَتل المعتز سنة ٢٥٥ « الثقات لابن حبان: ٢ / ٣٣١ » بعد شهادة الإمام (ع) كما يأتي.

أمر المتوكل قائده أن يفتش بيت الإمام (ع)

وقد نص على ذلك المحدثون والمؤرخون، وقالوا إن بريحة العباسي كتب الى المتوكل أن الإمام الهادي (ع) يجمع السلاح، وأن شيعته من قم أمَدُّوهُ بالأموال.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٨٤ »: « حدثني يحيى بن هرثمة، قال: وَجَّهني المتوكل الى المدينة لإشخاص علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر لشئ بلغه عنه، فلما صرت إليها ضجَّ أهلها وعَجُّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعتُ مثله، فجعلت أُسَكِّنُهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وفتشت بيته فلم أجد فيه إلا مصحفاً ودعاءً، وما أشبه ذلك، فأشخصته وتوليت خدمته وأحسنت عشرته. فبينا أنا نائم يوماً من الأيام والسماء صاحية والشمس طالعة، إذ ركب وعليه مِمْطَرٌ، وقد عقد ذَنَب دابته، فعجبت من فعله، فلم يكن بعد ذلك إلا هنيهة حتى جاءت سحابة فأرخت عزَاليَها، ونالنا من المطر أمرٌ عظيم جداً. فالتفت إليَّ، وقال: أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيتَ، وتوهمتَ أني علمت من الأمر ما لا تعلمه، وليس ذلك كما ظننتَ، ولكن نشأتُ بالبادية، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فلما اصبحت هبَّتْ ريح لا تخلف وشممت منها رائحة المطر، فتأهبتُ لذلك!

٩٢

فلما قدمت مدينة السلام بدأت بإسحاق ابن إبراهيم الطاهري، وكان على بغداد فقال لي: يا يحيى، إن هذا الرجل قد ولده رسول الله، والمتوكل من تعلم، وإن حَرَّضته على قتله كان رسول الله خصمك! فقلت: والله ما وقفت له إلا على كل أمر جميل. فصرت الى سامرا، فبدأتُ بوصيف التركي وكنت من أصحابه فقال: والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة لا يكون المطالب بها غيري! فعجبت من قولهما، وعرَّفت المتوكل ما وقفت عليه، وما سمعته من الثناء عليه فأحسن جائزته، وأظهر بِرَّهُ وتكرمته ».

أقول: في هذا النص دلالات عديدة، منها شعبية الإمام الواسعة في المدينة، بحيث ضجَّ أهلها لما جاءت سرية المتوكل لأخذه!

أما إسحاق بن إبراهيم الطاهري فهومنسوبٌ إلى عمه طاهر بن الحسين، قائد جيش المأمون الذي دخل إلى بغداد وقتل الأمين. وكان إسحاق حاكم بغداد من قبل المتوكل، ويدل كلامه على أن عامة أهل بغداد كانوا ينظرون الى الإمام الهادي (ع) نظرة تقديس، فكان يخاف من غضب الناس إذا قتلته السلطة.

وكذلك وصيف التركي، وهومن كبار قادة الجيش التركي في سامراء، وكان كفيل المستعين، الذي صار خليفة. « تاريخ الطبري: ٧ / ٤٣٣ ».

أما قول الإمام الهادي (ع): نشأتُ بالبادية فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فهو صحيح، لكنه عن مصدر واحد لعلمه بالمطر (ع)، ومصادر علمه أوسع .

٩٣

نص كتاب المتوكل الى الإمام الهادي (ع)

قال المفيد في الإرشاد « ٢ / ٣٠٩ »: « وكان سبب شخوص أبي الحسن (ع) إلى سُرَّ من رأى أن عبد الله بن محمد كان يتولى الحرب والصلاة في مدينة الرسول، فسعى بأبي الحسن (ع) إلى المتوكل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد، ويكذبه فيما سعى به، فتقدم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر، على جميل من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن أمير المؤمنين عارفٌ بقدرك، راعٍ لقرابتك موجبٌ لحقك، مؤثرٌ من الأمور فيك وفي أهل بيتك، ما يصلح الله به حالك وحالهم، ويثبت به عزَّك وعزهم، ويدخل الأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضا ربه، وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم.

وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول، إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي علم أمير المؤمنين براءتك منه، وصدق نيتك في برك وقولك، وأنك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه.

وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والإنتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك.

٩٤

وأمير المؤمنين مشتاقٌ إليك، يُحب إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نشطتَ لزيارته والمقام قبله ما أحببت، شخصتَ ومن اخترتَ من أهل بيتك ومواليك وحشمك، على مُهْلَةٍ وطُمأنينة، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت. وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند، يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك، فالأمر في ذلك إليك، وقد تقدمنا إليه بطاعتك، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة، ولا أحمد له أثرةً، ولا هولهم أنظر وعليهم أشفق وبهم أبرُّ، وإليهم أسكن منه إليك. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس، في شهر كذا من سنة ثلاث وأربعين ومائتين .

فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن (ع) تجهز للرحيل، وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل إلى سر من رأى. فلما وصل إليها تقدم المتوكل بأن يحُجب عنه في يومه! فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك، وأقام فيه يومه، ثم تقدم المتوكل بإفراد دار له فانتقل إليها.

ثم روى المفيد (رحمه الله): عن صالح بن سعيد قال: دخلت على أبي الحسن (ع) يوم وروده فقلت له: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك. فقال: هاهنا أنت يا ابن سعيد! ثم أوما بيده فإذا بروضات أنفات، وأنهار جاريات، وجنان فيها خيرات

٩٥

عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر تعجبي، فقال لي: حيث كنا فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصعاليك!

وأقام أبوالحسن (ع) مدة مقامه بسر من رأى، مكرماً في ظاهر حاله، يجتهد المتوكل في إيقاع حيلة به، فلا يتمكن من ذلك.

وله معه أحاديث يطول بذكرها الكتاب، فيها آيات له وبينات، إن قصدنا لإيراد ذلك خرجنا عن الغرض فيما نَحَوْنَاه ». راجع الكافي: ١ / ٤٩٨ .

وقال راوي الرسالة كما في الكافي « ١ / ٥٠١ »: « أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث (ع) من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين ».

وفي الإرشاد « ٢ / ٣١٠ » وروضة الواعظين / ٢٤٥، وغيرهما: « وكتب إبراهيم بن العباس في شهر كذا، من سنة ثلاث وأربعين ومئتين ».

وفي الفصول المهمة لابن الصباغ / ٢٦٥، والبحار « ٥٠ / ٢٠١ » وغيرهما: « وكان المتوكل قد أشخصه من المدينة النبوية إلى سر من رأى مع يحيى بن هرثمة بن أعيَن، في جمادى الأخرى سنة ثلاث وأربعين ومائتين ».

لكن قال الطبري « ٧ / ٣٤٨ »: « وفيها « سنة ٢٣٣ » قدم يحيى بن هرثمة، وهووالي طريق مكة، بعلي بن محمد بن علي الرضا، بن موسى بن جعفر من المدينة ».

ونحوه في النجوم الزاهرة « ٢ / ٢٧١ »، وفيه: « وكان قد بلغ المتوكل عنه شئ ».

وفي فرق الشيعة للنوبختي « ١ / ٩١ »: « وكان المتوكل أشخصه من المدينة مع يحيى بن هرثمة بن أعين وكان قدومه إلى سر من رأى يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من

٩٦

شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين ومأتين. وكان مولده يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة مضت من رجب، سنة أربع عشرة ومأتين، وأقام بسر من رأى داره إلى أن توفي: عشرين سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام. وكانت إمامته ثلاثاً وثلاثين سنة وسبعة أشهر ».

وفي تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنبلي « ١ / ٣٢٢ »: « وكنيته أبوالحسن العسكري وإنما نسب الى العسكري، لأن جعفر المتوكل أشخصه من المدينة الى بغداد الى سر من رأى، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر. قال علماء السير: وإنما أشخصه المتوكل من مدينة رسول الله الى بغداد لأن المتوكل كان يبغض علياً وذريته، فبلغه مقام علي بالمدينة وميل الناس اليه فخاف منه، فدعا يحيى بن هرثمة وقال: إذهب الى المدينة وانظر في حاله وأشخصه الينا.

قال يحيى: فذهبت الى المدينة فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سَمِع الناس بمثله خوفاً على عليٍّ، وقامت الدنيا على ساق لأنه كان محسناً اليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل الى الدنيا.

قال يحيى: فجعلت أسكِّنُهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتوليت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته. فلما قدمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد، فقال لي: يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله والمتوكل من تَعلم، فإن حرضته عليه قتله وكان

٩٧

رسول الله خصمك يوم القيامة! فقلت له: والله ما وقعت منه إلا على كل أمر جميل، ثم صرت به الى سر من رأى فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله فقال: والله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك. « وهو من جند وصيف ».

قال: فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق! فلما دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته، وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم، وأن أهل المدينة خافوا عليه. فأكرمه المتوكل وأحسن جايزته، وأجزل بره، وأنزله معه سر من رأى.

قال يحيى بن هرثمة: فاتفق مرض المتوكل بعد ذلك بمدة، فنذر إن عوفي ليتصدقن بدراهم كثيرة، فعوفي فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم فرجاً فبعث الى علي فسأله فقال: يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً. فقال المتوكل: من أين لك هذا؟ فقال من قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ . والمواطن الكثيرة هي هذه الجملة، وذلك لأن النبي (ص) غزى سبعاً وعشرين غزاة، وبعث خمساً وستين سرية، وآخر غزواته يوم حنين.

فعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب، وبعث اليه بمال كثير فقال: علي هذا الواجب، فتصدق أنت بما أحببت ».

ملاحظات

١. يتضح بما تقدم أن إحضار المتوكل للإمام (ع) كان بإرساله القائد عتاب بن أبي عتاب في أول خلافته سنة ٢٣٣، وأن الإمام (ع) بقي فترة في سامراء، ثم عاد

٩٨

الى المدينة وبقي فيها. أما إرسال المتوكل ليحيى بن هرثمة فكان بعد بضع سنوات، فأحضره وألزمه بالبقاء حتى استشهد (ع) على يد المعتمد.

٢. يظهر من نص رسالة المتوكل الى الإمام (ع) أنه يخاطب شخصية له نفوذه في المسلمين، وله قداسة عندهم، فالمتوكل النمرود يراعي الأدب معه، وفي نفس الوقت يحتم عليه الحضور الى سامراء، لأنه اشتاق اليه!

وكل هدفه أن يكون في قبضته في سامراء، ويأمن من ثورته عليه، لأنه إذا دعا المسلمين الى بيعته، استجاب له منهم قسم كبير.

٣. يدل تعمد المتوكل تأخير استقباله يوماً، وإنزاله في خان ينزل فيه عادة الصعاليك وسواد الناس، أن المقصود إهانته ليذل في نفسه ويخضع للمتوكل كغيره من الشخصيات الذين يُحضرهم، لكن الإمام الهادي شخصيةٌ ربانيةٌ لايقاس بها الأرضيون، ومن بيت لا يقاس بهم أحد، صلوات الله عليهم!

خافت السلطة من ثورة البغداديين!

في تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٤ »: « وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد، في الشخوص من المدينة، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيى بن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه

٩٩

واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سر من رأى ».

أقول: هذا النص يدل على الشعبية العميقة للإمام (ع) في بغداد والعراق، وأن السلطة خافت أن يدخل الى بغداد، فأنزلوه خارجها في الياسرية، وهي على بعد ميلين من بغداد، على ضفة نهر عيسى، وتقع اليوم قرب مطار بغداد القديم.

لكن شيعة الإمام (ع) ومحبيه كانوا يتتبعون حركته، وعرفوا بموعد وصوله الى بغداد، فخرجوا الى ضاحيتها لملاقاته، وازدحموا عليه حتى أن والي بغداد أراد أن يزوره فوجد ازدحام الناس، فانتظر الى الليل فزاره!

ويدلك على تعاظم شعبيته أنهم خافوا من بقائه في ضاحية بغداد ولو ليلة واحدة، فقرروا أن يمضوا به الى سامراء في الليل!

كما يدلك على شعبيته وصية والي بغداد ليحيى به، وتخوفه أن يقتله المتوكل فيفتح باب الثورة على السلطة!

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

أيضاً حدث من الأحداث.(١)

ويقول الدكتور « دونالد روبرت كار »: إنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليّاً ولو كان كذلك لما بقيت فيه أيّ عناصر إشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية.(٢)

أقول: إنّ هذا الأصل يثبت لنا أمرين :

الأوّل: حدوث المادة وكونها مسبوقة بالعدم كما أفاده الدكتور « دونالد »، إذ لو كانت قديمة بلا أوّل لنفدت طاقاتها عبر القرون غير المتناهية، لأنّ صرف القوىٰ المحدودة في زمان غير محدود ينتهي إلى نفاد القوى وعدم بقاء شيء منها، فإذا رأينا بقاء المادة ونشاطها وتفجّر طاقاتها، ننتقل إلى أنّها مسبوقة بالعدم، وانّها وجدت في ظروف محدودة بنحو نفدت بعض طاقاتها.

الثاني: تقويض أُسس النظام السائد تحت غطاء نفاد الطاقات وتساوي الأجسام من حيث الفعل والانفعال والحرارة والبرودة، والإنسان جزء من هذا النظام السائد فهو أيضاً مكتوب عليه الموت.

إنّ العلم الحديث وإن بادر إلىٰ مكافحة الموت وبذل الحياة للإنسان كي يعمّر طويلاً إلّا أنّ هذه المبادرة باءت بالفشل فلم يمكنه أن يهب للإنسان الحياة الخالدة لأنّه سيواجه الموت مهما عمّر، لأنّ الموت سنّة إلهية قطعية، وإلىٰ ذلك تشير الآيات والروايات :

١.( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) .(٣)

٢.( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ) .(٤)

٣.( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ) .(٥)

__________________

١ و ٢. الله يتجلىٰ في عصر العلم: ٢٧ و ٨٥.

٣. النساء: ٧٨.

٤. آل عمران: ١٨٥.

٥. الأنبياء: ٣٤.

١٦١

وفي الأحاديث ما يدعم ذلك.

قال الإمام عليٌّعليه‌السلام : « فلو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داودعليهما‌السلام الذي سُخّر له ملك الجن والإنس ».(١)

ويقول أيضاً في موضع آخر :« إنّ لله ملكاً ينادي في كلّ يوم: لِدُوا للموت ».(٢)

د. خوف الإنسان من الموت

للإنسان حسب فطرته، رغبة في الاستمرار في الحياة، وهذا ممّا لا ينبغي الشكّ فيه، لأنّ الرغبة إلى الحياة أمر جبلي، ولعلها دليل علىٰ أنّ بعد الموت حياة أُخرى فيها تتحقق أُمنيّة الإنسان ولولاها لكانت تلك الرغبة في خلقته أمراً عبثاً سدىً.

والفلاسفة يستدلّون بوجود الرغبة في الحياة على وجود المرغوب إليه في الخارج.

بيد أنّ الناس أمام الموت على صنفين :

فصنف يتصوّر أنّ الموت نهاية الحياة، ولذلك كلّ ما يسمع لفظة الموت يأخذه الحزن والأسىٰ ويتجسّد الموت أمامهم كأنّه غول ذو مخالب فتّاكة يريد أن يبطش بهم.

وآخر ممّن لا يستوحش من الموت ولا من سماعه، لأنّه هو الذي وقف علىٰ حقيقة الحياة الدنيا، وأنّ الموت ليس إلّا قنطرة إلى الحياة الأُخرىٰ، ولذلك يستقبل الموت برحابة صدر ووجه مستبشر.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ١٨٢.

٢. نهج البلاغة: من كلماته القصار، برقم ١٣٢.

١٦٢

ثمّ إنّ الأسباب الكامنة من وراء الخوف من الموت أمران :

الأوّل: كون الموت خاتمة المطاف.

الثاني: الإيمان بالحشر والجزاء، وأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

إنّ القرآن الكريم يصف حالة اليهود ويؤكد على أنّ خوفهم من الموت نجم من جرّاء الأمر الثاني، ويقول:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (١) ، ويقول في سورة أُخرى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .(٢)

وقد أشير في بعض الروايات إلىٰ سبب الخوف من الموت.

روى السكوني عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام أنّه قال: أتى النبي رجل فقال: مالي لا أحب الموت ؟ فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألك مال ؟ » قال: نعم. قال: « فقدمته ؟ »، قال: لا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمن ثمّ لا تحب الموت ».(٣)

وقد أشار الإمام في خطبه وكلمه إلى الأسباب الداعية إلى كراهة الموت، يقولعليه‌السلام : « واعلموا أنّه ليس شيء إلّا ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلّا الحياة فانّه لا يجد في الموت راحة ».(٤)

وقالعليه‌السلام : « ولا تكن ممّن يكره الموت لكثرة ذنوبه ».(٥)

__________________

١. البقرة: ٩٤ ـ ٩٥.

٢. الجمعة: ٦ ـ ٧.

٣. البحار: ٦ / ١٢٧.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩، ط عبده.

٥. نهج البلاغة: قسم الحكم برقم ١٥٠.

١٦٣

وقال رجل للحسن بن عليّعليهما‌السلام : ما لنا نكره الموت ولا نحبّه ؟ فقال: « إنّكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب ».(١)

قيل للإمام محمد بن عليّ بن موسى: : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت ؟ قال: « لأنّهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزّوجلّ لأحبّوه ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا ».(٢)

والرواية تشير إلى السبب الأوّل وهو الجهل بحقيقة الموت وانّه انتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأُخرى، ولذلك نرى أنّ علياًعليه‌السلام يشتاق إلى الموت ويتحنّن إليه، ويقول: « والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه ».(٣)

وفي خطبة أُخرى يقولعليه‌السلام : « فواللّه ما أُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ».(٤)

هذه من خصائص الأولياء وميزاتهم، حيث يستقبلون الموت بصدر رحب لأنّهم يرون الموت قنطرة من الحياة الدنيا إلى حياة طيبة، يقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ *لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) .(٥)

__________________

١. البحار: ٦ / ١٢٩.

٢. معاني الأخبار: ٢٠٩.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ٥٥.

٥. الأنبياء: ١٠١ ـ ١٠٣.

١٦٤

ه‍. أقسام الموت في القرآن الكريم

إذا كان الموت انتقالاً من دار إلى دار ومن حياة ضيقة إلى حياة واسعة، فطبيعة الحال تقتضي أن لا يكون أمراً يسيراً بل يتزامن مع العسر والحرج، وهذا نظير انتقال الجنين من رحم الأُمّ الضيّق إلى الدنيا الواسعة ويتزامن هذا الانتقال مع العسر.

نعم هذا العسر يكون مقدمة لحياة جديدة مرافقة لليسر.

وقد أشار الإمام الثامنعليه‌السلام إلى المواقف التي يشهدها الإنسان مع الخوف والوجل :

١. الولادة ٢. الموت ٣. البعث.

ولأجل المواقف العسيرة التي يواجهها الإنسان في هذه الأدوار الثلاثة نجد أنّ الله سبحانه وعد يحيىعليه‌السلام بالسلامة من كلّ مكروه في هذه المواقف، قال سبحانه:( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) .(١)

إذا عرفت ذلك فلنشرح أقسام الموت :

١. الموت العسير واليسير

إنّ حقيقة الموت ترجع ـ في الواقع ـ إلى نزع الروح من البدن مرفقاً بعسر وحرج وضيق عند قاطبة الناس ويشتد خاصة عند من يواجه الموت مقترفاً للذنوب يقول سبحانه:( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) .(٢)

__________________

١. مريم: ١٥.

٢. ق: ١٩.

١٦٥

وفي آية أُخرى:( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) .(١)

وفي مقابل هؤلاء المؤمنون المطيعون لأوامر ربّهم ونواهيه فهم يقابلون بالسلام، يقول سبحانه:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) .(٢)

وفي آية ثانية يخاطب سبحانه النفس المطمئنّة، بقوله:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) .(٣)

وهذا التقسيم الذي تبنّاه الكتاب الإلهي من تقسيم الناس حين الموت إلى من يبشر بالسوء والخير، شائع في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

يقول الإمام الحسنعليه‌السلام : « أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ».(٤)

وقال الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : « الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل ; وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب ».(٥)

إلى غير ذلك من الروايات.


__________________

١. محمد: ٢٧.

٢. النحل: ٣٢.

٣. الفجر: ٢٧ ـ ٢٨.

٤. البحار: ٦ / ١٥٤.

٥. البحار: ٦ / ١٥٥.

١٦٦

٢. موت البدن والقلب

قد ينسب الموت إلى البدن، وأُخرى إلى القلب، فإذا انقطعت علاقة الروح بالبدن فهذا موت البدن، ولكن إذا كانت العلاقة موجودة ولكن الإنسان بلغ من التفكير والتعقّل درجة نازلة تلحقه بميت الأحياء، ولذلك يعد سبحانه الفئة المعاندة للإسلام أمواتاً، ويقول:( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (١) ، وقد ورد هذا المضمون في آيات أُخرى من الذكر الحكيم.

ويقول سبحانه:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) .(٢)

والمراد من « الميت » هو ميت القلب الغافل عن الحقائق والمعارف، فإذا أشرق نور الإسلام على قلبه صار حيّاً بحياة معنوية يمشي بنوره بين الناس، فليس هو كمن بقي في الظلمات ولا يستطيع الخروج منها.

ومن لطائف الكلام ما نلمسه في خطب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يصف حياة المتخلفين عن الجهاد أمام أعدائهم موتاً، كما يصف الشهادة في ميادين الجهاد حياة، ويقولعليه‌السلام : « فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ».(٣)

لأنّ الحياة المعنوية رهن آثار وأهمها الدفاع عن كيان الدين ودفع عادية المعتدين، فالطائفة الأُولى فقدوا هذه الخصيصة فكأنّهم ليسوا بأحياء بل أمواتٌ، بيد أنّ تلك الخصيصة متوفرة عند الطائفة الثانية فهم وإن ضُرّجوا بدمائهم في

__________________

١. الروم: ٥٢.

٢. الأنعام: ١٢٢.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥١.

١٦٧

ساحات الوغىٰ ولكنّهم دافعوا عن كيان الإسلام فصانوا دينهم وديارهم ونواميسهم.

ونظير ذلك تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي استولت الأنانية عليه وغفل عن الآخرين فهو حيّ ظاهراً وميت حقيقةً، إذ لا يشعر بأي مسؤولية حيال إزالة المفاسد الاجتماعية التي تهدِّد المجتمع.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء ».(١)

ويقول أيضاً فيمن يهتمُّ بحياة البدن دون القلب: « يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحيائهم ».(٢)

٣. موت الإنسان والمجتمع

يصف علماء الاجتماع المجتمع تارة بالطفولة، وأُخرى بالريعان والنضج، وثالثة بالانحطاط والهرم وفقاً للحالات الطارئة على الإنسان من طفولة إلى ريعان الشباب ثمّ الشيخوخة والهرم.

فالإنسان في مرحلة الطفولة تكمن فيه استعدادات وقابليات مختلفة، فإذا اجتاز تلك المرحلة تتفجر طاقاته الكامنة رويداً رويداً حتى يبلغ مرحلة الشباب ثمّ يجتاز تلك المرحلة إلىٰ مرحلة الشيخوخة فتنهار قواه وتأخذ بالضعف، وهكذا المجتمع.

وهناك تقسيم آخر وهو :

إنّ الإنسان من حين ولادته إلىٰ أن يبلغ مرحلة شبابه تتكامل شخصيته

__________________

١. نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم ٣٧٤.

٢. نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٠.

١٦٨

شيئاً فشيئاً، فإذا اشتدّت قواه، يبدأ باستغلالها بغية نيل الأموال والمناصب وغيرها، وكلّما تقدم في العمر يزداد حرصاً وطمعاً فإذا اجتاز تلك المرحلة ودخل مرحلة الهرم فيشرع بحفظ ما جمعه وبلغت إليه يده من الأموال والثروات إلى أن يبلغ أجله.

فالمرحلة الأُولىٰ: مرحلة التكوين، والثانية: مرحلة الهجوم، والثالثة: مرحلة التدافع ; والرابعة: مرحلة الانقراض، وهكذا المجتمع في مراحله الأربع.

فالحضارات الإنسانية، مرَّت بتلك المراحل إلىٰ أن اضمحلّت واندثرت.

يقول سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) فيعد للأُمة حياةً وأجلاً.

عوامل أُفول الحضارات

إنّ بزوغ نجم الحضارات وأُفولها من السنن القطعية الإلهية فلا تدوم حضارة عبر القرون والدهور بل تتبعها حضارة أُخرى وهكذا.

نعم هذا البزوغ والأُفول رهن عوامل داخلية وخارجية وليس أمراً اعتباطياً، يقول سبحانه:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢)

إنّ اضمحلال الحضارة واندثارها ناجم عن عوامل كثيرة أهمها تفشي الظلم في المجتمعات وغياب العدالة الاجتماعية في حياتها، وهذا بمرور الزمان يستفحل شيئاً فشيئاً حتى يصل مرحلة لا يطيقها المجتمع فيؤول إلىٰ عصيان عام

__________________

١. الأعراف: ٣٤.

٢. الأعراف: ٩٦.

١٦٩

يؤدي إلىٰ سقوط الحضارة، يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (١) ، ويقول في آية أُخرى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) .(٢)

فقد عدّت الآية الأُولى والثانية الظلم والفسق وارتكاب الذنوب من أسباب انهيار الحضارات وزوالها، ووجهه واضح، لأنّ الفسق والزنا وأكل الأموال بالباطل والغش والسرقة، طغيانٌ على الفطرة السليمة وخروجٌ عليها، ومعه تنفصم عرى الحضارة الإنسانية. فضلاً عن بثِّ العداوة والبغضاء في القلوب.

نعم هناك ذنوب تترك آثاراً سلبية في المجتمع، وإن لم نقف على الصلة بينها، فقد ورد في الحديث: انّه إذا كثر الزنا، كثر موت الفجأة. وهناك صلة بين الأمرين وإن لم تثبته العلوم الحديثة.

وأمّا تأثير الظلم وبعض الذنوب التي تخالف الفطرة كالزنا واللواط وجمع الأموال بالباطل فهو واضح حسب المعايير الاجتماعية كما ذكرناه.

٤. الموت المشرّف

إنّ بعض أنواع الموت يعد مشرّفاً في حدّ ذاته، وهذا كالموت في سبيل طلب العلم وإقامة العدل وغير ذلك من الأهداف السامية، ولذلك يعد سبحانه هؤلاء أحياءً لا أمواتاً ويقول:( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) .(٣)

__________________

١. هود: ١١٧.

٢. الإسراء: ١٦ ـ ١٧.

٣. البقرة: ١٥٤.

١٧٠

كما أنّه سبحانه يعد من مات في سبيل العلم مجاهداً مأجوراً عند الله، يقول سبحانه:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) .(١)

و. الموت والأجل المحتوم

القرآن الكريم يقسّم الأجل إلى أجل مطلق وأجل مسمّىٰ، ويقول:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) .(٢)

كما أنّه يصرّح بأنّ للشمس والقمر أجلاً مسمّىٰ، يقول:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٣) . إلى غير ذلك من الآيات الناصة على الأجل المطلق والمسمّى.

وقد بسط المفسرون الكلام في تفسير الأجلين، ولكن الذي نفهمه من الآيات هو أنّه سبحانه جعل لكلّ شيء أجلاً طبيعياً بمعنىٰ قابليته لأن ينتهي إليه، ولكن ربّما تعوق المعوِّقات عن بلوغ ذلك الأمد، وهذا كالإنسان فله استعداد أن يحيىٰ ١٢٠ سنة ولكن الظروف البيئية ربما تحول دون ذلك، فالمقدّر لكلّ شيء حسب طبيعته هو الأجل المطلق وأمّا ما ينتهي إليه مصير الشيء، فهو يختلف، فتارة ينقص عن الأجل المطلق لأجل عوائق تحول بينه وبين الأجل المطلق، وأُخرىٰ يجتازه ويعمر أكثر من العمر الطبيعي لأجل توفّر عوامل بيئية ونفسية مناسبة.

وهذا التقسيم أيضاً جار في الصنائع، فلكلّ مصنوع عمر محدد مفيد، ولكنّه

__________________

١. النساء: ١٠٠.

٢. الأنعام: ٢.

٣. فاطر: ١٣.

١٧١

ربّما يواجه ظروفاً وعوامل خاصّة تنقص من ذلك العمر المفيد، كما أنّه ربما يجتازه لأجل رعاية الأساليب الفنية في استخدام ذلك المصنوع.

ز. التوبة والندامة قبيل الموت أو حينه

الموت يلازم رفع الحجب المادية عن البصر، فيرى الإنسان المحتضر مصيره بأُمِّ عينيه، فالصالحون يرون روحاً وريحاناً وحياة فيستقبلون الموت بوجوه مشرقة وصدور رحبة، وأمّا الظالمون المستكبرون فيلمسون حياة مريرة تعانق الآلام والنيران فيحاولون جهد إمكانهم أن يدّاركوا ما اقترفوه من الآثام بالتوبة والندامة ليتخلّصوا بذلك من العذاب الأليم، ولات حين مناص، فلا تنفع الندامة لأنّ الهدف من التوبة هو طهارة الروح من أدران المعصية والآثام وهذه الأمنية رهن صدور التوبة عن اختياره ورغبته إلى الطهارة، وهذا غير متحقق في حال الاحتضار، لأنّه يتوب ويندم بلا اختيار.

وبعبارة أُخرى: التائب إنّما تقبل توبته إذا كان أمامه طريقان فينتخب الطريق الحقّ باختياره، وهذا إنّما يتيسر له ذلك في ثنايا حياته لا في حال الاحتضار الذي يسلب عنه اختياره، ولذلك يقول سبحانه:( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) (١) وفي آية أُخرى:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .(٢)

إنّ فرعون مصر لما كاد أن يغرق، ورأى مصيره المرير حاول أن يتوب ويظهر إيمانه بربّ موسى ولكنّه جُوبه بالرفض والاستنكار، قال سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ

__________________

١. النساء: ١٨.

٢. المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

١٧٢

الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ *آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) .(١)

وليست هذه خصيصة فرعون فحسب، بل الأُمم الغابرة الغارقة في الفساد حاولوا ردّ العذاب بالتوبة بعدما نالوا من الأنبياء والمصلحين وسخروا منهم فلم تغن عنهم توبتهم في شيء قال سبحانه:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .(٢)

والإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يصف بعض الظالمين الذين يواجهون أنواع العذاب حين الموت ويقول: « فهو يعضُّ يده ندامة علىٰ ما أضمر له عند الموت من أمره ».(٣)

وقد علم من كلّ ذلك أنّ رفض توبة الإنسان في تلك الحالة لا يدل على عدم سعة رحمته، لما عرفت من أنّ قبول التوبة فرع سموِّ الإنسان عن اقتراف الذنوب الذي يلازم الاختيار، وهذا غير متحقّق حين الموت.

ح. الوصية في حال الموت

يُستحب للإنسان في جميع الأحوال أن يوصي بما عليه من الديون والحقوق لا سيما إذا حضره الموت، يقول سبحانه:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ) .(٤)

__________________

١. يونس: ٩٠ ـ ٩١.

٢. غافر: ٨٤ ـ ٨٥.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ١٠٩.

٤. البقرة: ١٨٠.

١٧٣

ومن الواضح أنّ هذه اللحظة هي آخر ما يتمكن الإنسان من الوصية والأَولىٰ أن يقدّمها على الاحتضار سواء أكان شاباً أم هرماً، قال عليٌّعليه‌السلام : « ما ينبغي لامرئ أن يبيت ليلة إلّا ووصيته تحت رأسه ».(١)

ويستحب أن يشهد على الوصية عدلان، قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ) .(٢)

فالآية ترغِّب إلى شهادة عدلين من المسلمين إذا أمكن، و إلّا فليشهد من غير المسلمين من أهل الكتاب كما إذا كان الموصي ضارباً في الأرض ولم يجد من نحلته من يُشهده علىٰ وصيته فعليه أن يُشهد من غيرهم، وما هذا إلّا لأجل أن يوصد باب الأعذار على ورثة الميت ويقطع دابر الحيل التي ربما تحول دون تنفيذ الوصية.

ط. جهل الإنسان بموته

إنّ حبّ البقاء من الأُمور التي جبل الإنسان عليها، ولو سلب عنه ذلك الحب لأُطفئت جذوة حياته، فحبّ البقاء مصباح منير لحياته، كما أنّ اليأس من الحياة ظلام دامس لها; روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال: « الأمل رحمة لأُمّتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة ».(٣)

ولو كان الإنسان مطلعاً على زمان موته ومكانه لاستولىٰ عليه الحزن واليأس قبل أن يموت بسنين، وربما يموت قبل أجله المقرر، ولذلك يعد الجهل بزمان موته

__________________

١. وسائل الشيعة: ١٣، كتاب الوصايا، باب ١، حديث ٧.

٢. المائدة: ١٠٦.

٣. سفينة البحار: مادة أمل.

١٧٤

من علل بقاء حياته ونشاطه، ولذلك ستر سبحانه علم هذا الموضوع عن الناس إلّا في موارد خاصة لملاكات كذلك.

على أنّ لهذا الجهل أثراً تربوياً، فانّ الرجوع إلى الله سبحانه والتوبة من المعاصي مع الرجاء بالبقاء أفضل من التوبة والرجوع إليه عند اقتراب أجله وقبل إطفاء مصباح حياته.

نعم ربما يكون الجهل بالموت سبباً للغرور والاغترار حيث إنّ المغتر يزعم أنّه سيعيش عمراً طويلاً، ولكنّه يرى موته أمراً بعيداً، فيقترف المعاصي في شبابه علىٰ أمل أن يتوب منها في هرمه، ولكنه في الوقت نفسه عامل تربوي للحد من الغرور لأنّه يحتمل أن يكون قد اقترب أجله ويكون هو على مقربة من الموت.

ولهذه الوجوه ستر سبحانه علمه عن الناس وقال:( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) .(١)

ويدل على ذلك ما دلّ من الآيات على أنّ الأجل المسمّى عنده، وهو يلازم جهل الإنسان بموته لانحصار علمه بالله سبحانه.

ي. الموت والملائكة الموكّلون

إنّ من مراتب التوحيد حصر التدبير في الله سبحانه، وأنّه لا مدبّر إلّا هو ولو كانت الشمس مشرقة والقمر منيراً وغيرهما من العوامل الطبيعية ذات الآثار الخاصة فإنّما هو بأمره سبحانه، كما يقول:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .(٢)

__________________

١. لقمان: ٣٤.

٢. الأعراف: ٥٤.

١٧٥

ولكن الإيمان بحصر التدبير في الله لا ينافي وجود عوامل أُخرى مؤثرة تدبر الكون، بأمر من الله سبحانه، فانّ هذا التدبير الظلي التبعي في طول تدبير الله سبحانه، ولأجل ذلك ينسب الله تعالى توفّي الأنفس إليه ويقول:( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) ، ولكنّه في الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة تارة وملك الموت أُخرى، ويقول:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) (٢) ويقول سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(٣)

فهناك فعل واحد نسب إلى فواعل ثلاثة، تارة إلى الله، وأُخرى إلى الملائكة، وثالثة إلى ملك الموت، فالفعل واحد والفواعل متعددة، لأنّ فعل الجميع هو فعل الله سبحانه بالتسبيب.

وترى نظير ذلك في قوله سبحانه:( وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (٤) حيث ينسب الكتابة إلى الله، وفي آية أُخرى ينسبها إلى الرسل، ويقول:( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) .(٥)

وتتجلّى تلك الحقيقة في الآيات التالية الواردة في الموت والحياة، يقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (٦) ، ويقول:( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (٧) .

ويقول أيضاً:( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (٨) .

__________________

١. الزمر: ٤٢.

٢. النحل: ٢٨.

٣. السجدة: ١١.

٤. النساء: ٨١.

٥. الزخرف: ٨٠.

٦. التوبة: ١١٦.

٧. النجم: ٤٤.

٨. الواقعة: ٦٠.

١٧٦

إلى غير ذلك من الآيات التي تعد الإماتة والإحياء فعلاً لله سبحانه، وفي الوقت نفسه تعدّهما فعلاً لغيره، ويقول:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) .(١)

نعم تجعل بعض الآيات زمام الموت والحياة بيد الملائكة الموكّلين، وما هذا إلّا لأنّ عملهم عمله سبحانه.

نعم الذي لا يمكن أن ينكر أنّ الذكر الحكيم يركّز على أنّ ما في الكون أثر فعله سبحانه تكريساً للتوحيد في الربوبية.

















__________________

١. الأنعام: ٦١.

١٧٧





الفصل الثالث عشر :

القبر وعالم البرزخ

إذا كانت حالة الاحتضار نهاية النشأة الأُولى وبداية النشأة الثانية، فالتكفين والصلاة على الميت والتدفين في القبر، هو المنزل الثاني من النشأة الثانية، وهو منزل ضيق للغاية، ولعل الإنسان لا أُنس له بهذا النوع من المنازل، وتنقطع صلته عن الحياة الدنيويّة إذا وُري جثمانه الثرىٰ، وهذا أمر ملموس، يشير إليه قوله سبحانه:( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) (١) .

ولكن في بطن هذا المنزل من تلك النشأة، عالم فسيح يحيا فيه الإنسان لا بهذا البدن المقبور، بل ببدن يناسب تلك النشأة، وهو البدن المثالي الذي له آثار المادة وإن تجرّد عنها، وهذا ما يعبر عنه بعالم البرزخ، وقد صرح به الذكر الحكيم، يقول تعالى:( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٢) ، فقوله:( وَمِن وَرَائِهِم ) بمعنى أمامهم لا بمعنى خلفهم، بشهادة قوله سبحانه:( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) .(٣)

__________________

١. عبس: ٢١.

٢. المؤمنون: ١٠٠.

٣. الكهف: ٧٩.

١٧٨

والبرزخ بمعنى الحائل والفاصل، يقول تعالىٰ:( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) (١) وإنّما أطلق على هذا النوع من الحياة لفظ البرزخ، لأجل الفصل بين الحياتين علىٰ وجه لا يمكن للإنسان أن يتجاوز الفاصل والحائل ويعود إلى الدنيا.

والآيات الدالة عليه كثيرة.

منها: ما دلّت على تجرّد النفس وبقائها بعد الموت، وقد مرّ ما يدل على ذلك.

ومنها: ما دلت على حياة الشهداء، وانّهم في ذلك العالم فرحين مستبشرين بنعم الله سبحانه.

ومنها: ما ورد في حقّ آل فرعون، وانّهم يعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم القيامة يدخلون النار، كما ورد نظيره في حقّ قوم نوحعليه‌السلام وقد مرّت هذه الآيات في فصل تجرد النفس فلاحظ.

وثمّة آيات أُخرى تدل على الحياة البرزخية لم نذكرها فيما سبق.

قال سبحانه:( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) .(٢)

فالآية تحكي عن إماتتين وإحياءين، فالإماتة الأُولىٰ في النشأة الدنيا، والإماتة الثانية في عالم البرزخ عند نفخ الصور.

يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلّا مَن شَاءَ اللهُ ) .(٣) فالموت عند نفخ الصور يلازم وجود الحياة قبل النفخ، وليس هو إلّا الحياة البرزخية، وأمّا الإحياءان فالأوّل منهما عبارة عن الحياة

__________________

١. الرحمن: ٢٠.

٢. غافر: ١١.

٣. الزمر: ٦٨.

١٧٩

في عالم البرزخ، والثاني هو الإحياء بعد نفخ الصور. يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) .(١)

ولأجل إعطاء صورة واضحة عن طبيعة الإماتتين والإحياءين، نقول :

الإماتة الأُولىٰ عند حلول أجله القطعي.

والإماتة الثانية عند نفخ الصور الأوّل.

والإحياء الأوّل بعد الموت وانتقاله إلى النشأة الأُخرى.

والإحياء الثاني عند نفخ الصور الثاني.

وبهذا يعلم وجود الحياة البرزخية بين النشأة الأُولى وقيام الساعة.

وقد ذكر لهاتين الإماتتين، وهذين الإحياءين، وجه آخر ولكن لا ينطبق على ظواهر الآيات.

الحياة البرزخية في الروايات

وقد وردت أحاديث كثيرة في كيفية وطبيعة ذلك العالم نقتصر علىٰ هذا الحديث.

روى أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أرواح المؤمنين، فقال: « في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة، وانجز لنا ما وعدتنا » وسألته عن أرواح المشركين، فقال: « في النار يعذبون ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ».(٢)

__________________

١. يس: ٥١.

٢. بحار الأنوار: ٦ / ٢٦٩، الحديث ١٢٢ و ١٢٦ وما ذكرناه حديث واحد وإن جعله العلّامة المجلسي
حديثين.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477