أدب الطف الجزء ٦

أدب الطف11%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 336

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 336 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113802 / تحميل: 8834
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بينما يخص الانذار بالمخاطبين في هذه الآية يعمّم الانذار لكلّ الناس في آية اُخرى ويقول:( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) ( يونس ـ ٢ ).

٢. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين :

انّ القرآن الكريم يعد بعض أهل الكتاب من الصالحين حيث يقول :

( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ *يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران: ١١٣ ـ ١١٤ ).

فلو كانت رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عالمية يجب أن يرجع إلى شريعتها كلّ من يعيش تحت السماء من أصحاب الشرائع السماوية فعندئذ كيف يعد بعض من لم يرجع إليها من الصالحين ويصفهم بالأوصاف المذكورة في هاتين الآيتين ؟

الجواب :

انّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الرجوع إلى سياق الآيات فانّه سبحانه لـمّا وصف أهل الكتاب بأنّ أكثرهم الفاسقون وقال :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

وقال:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

وقال في حق اليهود :

( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) ( آل عمران: الآيات١١٠، ١١١، ١١٢ ).

أراد سبحانه أن لا يبخس حق الأقلّية الصالحة منهم، تمشّياً مع الحقيقة، ووفاء للحق. وقال :

( لَيْسُوا سَوَاءً ) .

٦١

أي ليس الجميع ـ من أهل الكتاب ـ على وتيرة واحدة، وأنّه يوجد بينهم من يستقيم على دينه، ويثبت على أمر الله، ويتلوا آيات الله فهم الذين يعدّون من الصالحين أي الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

ومن المعلوم أنّ توصيف ثلة قليلة بالصلاح إنّما هو في مقابل الأكثرية الموصوفة بالفسق والطغيان وقتل الأنبياء والاعتداء.

وهذا التحسين النسبي لا يدل على إقرار شريعتهم وعدم نسخه بالإسلام وأنّهم لو عملوا بشريعتهم لكانوا من الناجحين.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه يصرّح في الآية ١١٠ بلزوم إيمان أهل الكتاب بما آمن به المسلمون ويقول :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ) .

وعلى ذلك يتّضح مساق الآية وهدفها.

إجابة اُخرى :

غير أنّ المفسرين فسّروا الآية على وجه آخر وقالوا: لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلّا شرارنا فأنزل الله:( لَيْسُوا سَوَاءً ـ إلى قوله ـمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.

وقيل انّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم(١) .

غير أنّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية فالظاهر أنّ الموصوفين بالصلاح من أهل الكتاب حين نزول الآية كما هو ظاهر قوله:( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ولو كان المراد هو المؤمنون المسلمون لما عبّر عنهم بهذا العنوان ولا ينافي ما ذكرنا توصيفهم

__________________

(١) مجمع البيان ج ٤ ص ٤٨٨، راجع الدر المنثور ج ٢ ص ٦٤ و ٦٥.

٦٢

بأنّهم يتلون آيات الله آناء الليل إذ عندهم من المناجات والأدعية له الشيء الكثير لا سيّما في زبور داود.

٣. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها :

وهناك بعض الآيات تخص الانذار باُمّ القرى ومن حولها حيث يقول :

( وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) ( الأنعام ـ ٩٢ ).

وقال سبحانه :

( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) ( الشورى ـ ٧ ).

فهاتان الآيتان يستظهر منهما اختصاص نطاق رسالته في إطار أُمّ القرى ومن حولها.

وأُمّ القرى أمّا علم من اعلام مكّة أو كلّي اطلق عليها في هذه الآية.

وعلى أي تقدير فتشعر باختصاص الرسالة بما ذكر فيها.

الجواب :

غير خفي على القارئ النابه أنّ ما ادّعاه من الظهور ضعيف جداً، ولو سلم فلا يتجاوز حد الاشعار الابتدائي(١) ولا يعتنى به اتّجاه الحجّج الدامغة الدالّة على سعة نطاق رسالته وعدم محدوديتها بشيء من الحدود والقيود، كما وافاك بيانها.

__________________

(١) بل ذيل نفس الآية دليل على عموم رسالته، حيث أنّه سبحانه قال:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وظاهره أنّ كل من يؤمن بالآخرة من العرب والعجم يؤمن بهذا الكتاب، وإنّه منزّل من ربّهم: مصدّق لما تقدمه من الكتب، فلو كانت دعوته اقليمية أو طائفية لما كان لإيمان من ليس من تلك الطائفة أو لا يعيش في الجزيرة العربية معنى صحيح.

٦٣

نحن نسأله لماذا نسي أو تناسى قوله سبحانه في نفس هذه السورة ( الأنعام ) الدالّ على عمومية رسالته، وأن ّ الله سبحانه أمره أن ينذر بكتابه كلّ من بلغه هتافه في أقطار الأرض وأرجاء العالم. وقال سبحانه:( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

وصريح هذه الآية أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرلينذر بقرآنه كلّ من بلغه ووصل إليه هتافه، عربياً كان أو أعجمياً، شرقياً كان أم غربياً، فلماذا أخذ الكاتب بالإشعار الضعيف وترك التصريح على خلافه مع كونهما في سورة واحدة ؟!

فلو أنّه كتب ما كتب بدافع التحقيق والبخوع للحقائق، فلماذا فتح بصره وألقى أسدالاً على بصيرته فاعتمد على الاشعار ورفض التصريح.

ومن المتحتمل أنّه رأى الآيتين، لكنّه حسب أنّ الله تعالى نقض كلامه الوارد في ابتداء السورة بختامها وهو سبحانه يقول:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء ـ ٨٢ ).

نحن لا نميط الستر عن نواياه وضمائره وهو قد وقف على هذه الآية وغيرها مما سردناه من الآيات الدالّة على عالمية رسالته، لكن الظاهر أنّه لا يستهدف بذلك إلّا تعكير الصفو وبث بذور الشك في قلوب السذّج والبسطاء من الاُمّة الإسلامية لغاية هو أعرف بها وإن كان لا يفوتنا عرفانها.

والحق أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن في دعوته وانذاره بدعاً من الرسل، فقد مشى في ابلاغه على سنن من قبله من المرسلين، فالمسيح كان رسول الله، إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني إسرائيل(١) ، ومع ذلك كلّه فقد بدأ هتافه بكونه رسولاً إلى بني إسرائيل مع أنّه رسول

__________________

(١) نعم لم يثبت كون المسيح مبعوثاً إلى الناس أجمع، كما سيوافيك بيانه في هذا البحث بل كان مبعوثاً إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني اسرائيل، لما ثبت من بعثهعليه‌السلام رسلاً من حوارييه وتلاميذه إلى الاُمم التي لا تمت إلى بني إسرائيل بصلة، وهو دليل على أوسعية نطاق رسالته من بني اسرائيل.

٦٤

إليهم وإلى غيرهم وقال:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف ـ ٦ ).

فخصّ خطابه ورسالته ببني إسرائيل مع كونه رسول الله إلى غيرهم أيضاً ولا ضير في ذلك لأنّ كونه رسولاً إليهم لا ينافي كونه رسولاً إلى غيرهم فإنّ اثبات الحكم لموضوع لا يلازم نفيه عن غيره.

وقد ضارعه نبي الإسلام، فهو مع كونه رسول الله إلى الناس جميعاً، ومع أنّه أمره الله أن ينذر بقرآنه قومه وكلّ من بلغه كتابه في مشارق الأرض ومغاربها(١) أمره الله سبحانه أن يقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢، الشورى ـ ٧ ) فإنّ كونه مبعوثاً لانذار الاُمّة العربية القاطنة في عاصمتها مكة ومناطقها التابعة لها، لا ينافي كونه مبعوثاً إلى غيرها أيضاً ومنذراً بكتابه سواها.

وقد حذى الرسول حذو القرآن في خطاباته الشخصية في اندية الانذار والابلاغ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما وفدت إلى داره عشيرته وأقربوه: « انّي رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامّة » وهو في الوقت نفسه حينما صعد على الصفا خص قريشاً بالخطاب وقال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ».

وقد وافيناكم بتلك الدرية في صدر البحث(٢) .

هذه سيرة الرسول وسيرة من قبله، من اُولي العزم من الرسل، فهم يقتفون في توجيهاتهم ودعواتهم مقتضى الحال، مراعين في ذلك شرائط البلاغة، وإلقاء الكلام على وفق الحكمة، فربّما دعت المصلحة إلى توجيه الكلام إلى مجتمع خاص، كما أنّه ربّما اقتضت توجيهه إلى الناس عامة من دون أي تنافر وتناكر في التوجيهين.

وإن شئت قلت: انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث إلى عشيرته والعرب والناس جميعاً على سبيل « تعدد المطلوب » كما قال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار » وقال: « انّي رسول

__________________

(١) الأنعام ـ ١١٩.

(٢) أنظر ص ١٣٥ من كتابنا هذا.

٦٥

الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة » وكانت كلّ واحدة من هذه الطوائف الثلاثة صالحة لأن يبعث إليهم رسول خاص. وعلى ذلك فله أن يصرّح حسب مقتضيات المقام بأحد الأغراض التي اُرسل لأجلها ويسكت عن الآخرين بلا استنكار.

ويشير إلى ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا لي، فإلي وحدي »(١) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام :

« إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى:: التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة إلى أن قال: ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس »(٢) .

ونظير ذلك لو بعثت انساناً لينجز لك اُموراً مختلفة، وكان كلّ واحد منها صالحاً لأن يبعث لانجازه شخص خاص، فعند ذلك يصح لك أن تقول: بعثته ليعمل كذا وتذكر أحد الاُمور التي بعث لأجلها وتسكت عن ذكر الباقي كما يصح للمبعوث أن يقول: بعثت لأفعل كذا ويذكر أحد الأهداف التي بعث لتحقيقها من دون أن يذكر الأمرين الآخرين وهكذا

على أنّ الآية التي استدل بها القائل على ضيق نطاق رسالته، مكية، وردت في سورتي الأنعام والشورى المكيتين، ولم تكن الظروف في مكة تبيح له الاجهار غالباً بنفس رسالته، فضلاً عن الاجهار بعالميتها، فلا عتب عليه لو خص خطابه بجمع دون جمع. مع سعة نطاقها في نفس الأمر، إذا اقتضت المصلحة ذلك لأنّ المرمى الأهم في هذه البيئة، الاجهار بنفس الرسالة لا كمّها ولا كيفها وإن كان يصلح أن يصرّح في بعض

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ١ ص ١٩٢.

(٢) الكافي ج ٢ ص ١٧ وسيوافيك بعض الروايات عند البحث عن « الخاتمية في الأحاديث ».

٦٦

الأوقات بعالمية رسالته إذا كان الظرف في مكّة صالحاً. كما في قوله سبحانه:( وَمَا هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ( القلم ـ ٥٢ ) والآية مكية بلا كلام. وكما في قوله:( لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ) والسورة مكية، وإن شئت قلت: انّ الظروف في مكّة كانت مختلفة متلوّنة، ولم تكن حياة الرسول رخاءاً وشدة على نسق واحد، فتارة كانت بيئة مكة قاسية عنيفة لا تسمح بالجهر بنفس رسالته، فضلاً عن المصارحة بكيفها وكمّها، والمسلمون من جانب ـ اضطهاد قريش لهم ـ كانوا يعيشون في حالة عصيبة واُخرى كانت الأزمة قليلة مخففة بحلول أشهر الحج أو طروء حوادث تمنع العصابة المشركة المجرمة وتكفّهم عن إيذاء المسلمين.

وعند ذاك كان يفسح المجال أمام النبي وأصحابه بأن يبلغوا الدعوة وفق الظروف وحسب المقتضيات شدة وضعفاً، فنراه في مواقفه بمكة يصرّح بجانب من جوانب الدعوة على صعيد خاص كقوله: يا معشر قريش انقذوا أنفسكم واُخرى ينادي بعموم دعوته مما يستفاد من أنّه بعث إلى الناس كافة ولأجل ذلك نواجه في سورة واحدة لونين من طريقة الدعوة، فنرى أنّها في صدرها تأخذ بجميع جوانب دعوته وتصرّح بعموم دعوته وعالمية رسالته، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمر من جانبه سبحانه أن ينذر بقرآنه قريشاً وكلّ من بلغه كتابه وانذاره حيث قال:( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) وفي الوقت نفسه نرى في خلال السورة، لوناً خاصاً من الدعوة حيث تخصّها بمن في اُمّ القرى ومن حولها ويقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فيعلم من ذلك أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوجّه دعوته حسب ما تقتضيه المصلحة تبعاً للأحوال المختلفة وتبدل الظروف الزمانية والمكانية من دون توهّم تناقض في طريق الدعوة ولونها.

جواب آخر عن الشبهة :

جاء بعض المعاصرين من الأجلاّء، في تعاليقه القيّمة على كتاب « الابطال » بجواب آخر(١) مبني على أمرين :

__________________

(١) ترى اجمال هذا الجواب في مجمع البيان ج ٣، ص ٣٣٤، و ج ٥، ص ٢٢ والمفردات للراغب مادة « اُم ».

٦٧

الأوّل: انّ المراد من « القرى » في قوله تعالى:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ما يعم المدن الواسعة، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( يوسف ـ ٨٢ ) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها، هي مدينة « مصر » وقد كانت يوم ذاك مدينة كبيرة، ذات أبواب متفرّقة، لقوله سبحانه:( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ) ( يوسف ـ ٦٧ ).

الثاني: قد استفاضت الروايات من مهبط الوحي والتنزيل على أنّ الله سبحانه دحى الأرض يوم دحاها، من تحت مكة، والمراد من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء، بعد ما كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء، ثمّ برز سائر اجزائها، عن تحت الماء تدريجاً، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً تكوينياً للأرض.

قال: إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة، فيصير المراد من « أُمّ القرى »، أي أُمّ البلاد الموجودة في العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من( وَمَنْ حَوْلَهَا ) عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد الله بن عباس، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله: « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها »(١) فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على عالمية رسالته.

وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :

أمّا أوّلاً: فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً لمكّة، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه، كيف وقد قال سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات الله عليهم. وهذه سنّة الله تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً، غير مختصة بالاُمّة العائشة بمكّة ومن حولها.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٢٢.

٦٨

وهذا إمام اللغة ابن فارس، يقول في مقاييسه: « أُمّ القرى، مكّة، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

قال ابن فندق في تاريخه: إذا تركّزت اُمور منطقة خاصة في محل، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له، أُمّ القرى، ثم أتى بأمثلة وقال: فصنعاء أُمّ القرى في اليمن، « وبغداد » أُمّ القرى في العراق، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان وهكذا(١) .

فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها ) ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده، وقد نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص، بل هو والعرف في ذلك سواسية، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا قيل:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقامت القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلّا ما يراد في نظائرها، فإذا قيل: هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها، فلا يراد إلّا نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها، حكماً وسياسة واقتصاداً، أو غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً، وهكذا إذا قيل: بعث نبي الإسلام لينذر مكّة ومن حولها، لا يراد منه إلّا أنّه بعث لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً، سياسة وحكماً أو اقتصاداً وتجارة، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها، القائمة عند حدودها والمناطق التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه، فإنّ إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود، لو لم يكن مستهجناً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكره من حديث دحو الأرض إلى آخره، صحيح، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة التكوينية يحتاج إلى دليل، ودون اثباته خرط القتاد، والعرب الجاهليون كانوا يطلقون أُمّ القرى، على مكّة، من غير أن يكون لهم علم

__________________

(١) تاريخ بيهق ج ص ٢٢ بتعريب منّا.

٦٩

ولا عهد بهذه المعارف، وليس إطلاقها عليها من خصائص القرآن، بل هو يتبع في ذلك لما هو الدارج، والحق في الجواب ما أوضحناه.

٤. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه

جرت سنّة الله على بعث رسله بلسان قومهم، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً إلى خصوص إنقاذ قومه.

أمّا إذا كان مبعوثاً إلى اُمّة أوسع من قومه، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاص فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك مع ما في نزوله بلسانين أو أزيد من التطويل، وامكان تطرّق التحريف والتبديل والتنازع والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبي ولغتهم لأنّهم أقرب إليه، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.

على أنّ إيمان قومه به، وخضوعهم له، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به كما أنّ إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه، تثير روح الشك والترديد في قلوب البعداء عنه، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.

على أنّ في إرسال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلسان قومه نكتة اُخرى وهو أنّ قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يملكون نفسيّة خاصة وهو عدم رضوخهم واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.

فلو أنزل الله سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به كما قال سبحانه:( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الأَعْجَمِينَ *فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء: ١٩٨ ـ ١٩٩ ) فلأجل ذلك بعثه الله سبحانه بلسان قومه حتى يسد باب العذيرة عليهم.

ولأجل هذه المهمة الاجتماعية يجب على الرسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه وانقاذهم حتى يتسنّى له هداية الآخرين، وهذه سنّة متبعة في الاُمور العادية، فضلاً عن المبادئ العامّة.

٧٠

وإلى ذلك تهدف الآية التالية:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم ـ ٤ ) ومفاد الآية أنّه سبحانه لم يجر في بعث رسله مجرى الاعجاز وخرق العادة، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضلال شيئاً، بل أرسلهم بلسانهم العادي الذي يتحاورون به كل يوم مع أقوامهم ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلّا بيان ما اُمروا به وأمّا الغاية من بعثهم، أعني الاهتداء فهو بيد الله سبحانه، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.

وعلى ذلك فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرسول مع لغة من اُرسل إليهم، حتى يلزم منهم اختصاص دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقومه. إذ الآية تصرّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه، لا اتّحاد لغته مع لسان كل من اُرسل إليهم، كما هو أساس الشبهة، ومن الممكن المتحقق أن يكون المرسل إليه أوسع من قومه كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرسل، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحج، والوفود إلى زيارة بيته، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به، ودعا نبيّنا اُمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته، فآمن منهم من آمن. وبقي منهم من بقي.

مغالطة اُخرى حول الآية

نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها: « أنّ كلّ رسول من الله يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم »، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية، وقال: إذا كان معنى الآية ما ذكر فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا، من لا يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم ليس رسولاً منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبعوثاً إلى العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللسان، يلزم منه كونه غير مبعوث من الله سبحانه أصلاً.

وعلى الجملة: تنتج عالمية رسالته، وسعة نطاق دينه، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.

ومنشأ هذه المغالطة ما تخيّله المغالط من مفاد الآية، إذ ليس مفادها ما تصوّره من

٧١

أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم حتى يصح ما بني عليه، بل مفاده: أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من قومه(١) أو إلى قومه فقط.

نعم تنعكس الآية إلى قولنا: من لا يوافق لسانه، لسان قومه ليس رسولاً من الله سبحانه، وهو صحيح، وأمّا نبي الإسلام فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة مع لسان قومه.

وعلى أي تقدير فالمراد من القوم هم الذين عاش فيهم الرسول وخالطهم ولا يختص بالذين هو منهم نسباً، والشاهد على ذلك أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من « كلدة » وهم سريانيو اللسان، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيون، وفي الوقت نفسه سمّاهم قومه، وأرسله إليهم، ثم أنجاه وأهله إلّا امرأته(٢) .

__________________

(١) هذا أحد الاحتمالات في اُولي العزم، أعني من اُرسل إلى أزيد من اُمّة، راجع الميزان ج ١٢ ص ١٣ وسوف نحقق معنى هذه الكلمة على ضوء ما ورد في الذكر الحكيم في فصول هذا الكتاب.

(٢) الميزان ج ١٢ ص ١٣.

٧٢

هل كانت

نبوّة نوح والكليم والمسيح

عالمية ؟

قد اتضح من هذا البحث الضافي أنّ رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة عالمية، فهو مبعوث إلى شرق الأرض وغربها.

غير أنّه اكمالاً للبحث نبحث عن نبوّة ورسالة الأنبياء الثلاثة، فهل كانت نبواتهم ورسالاتهم عالمية أم كانت تقتصر على أقوامهم، أو المناطق التي ظهروا فيها ؟

ونبحث في المقام عما يفيده القرآن في هذا الموضوع مع غض النظر عمّا يوجد في التوراة والانجيل وما يدعيه علما ء اليهود والنصارى لأنّ البحث في المقام قرآني ينظر إلى الموضوع من زاوية خاصة، فيقع الكلام في مقامات :

الأوّل: في عمومية نبوّة نوح وعدمها.

الثاني: في عمومية نبوّة الكليم وعدمها.

الثالث: في عمومية نبوّة المسيح وعدمها.

ويتضح ممّا ذكرنا حال رسالة الخليلعليه‌السلام أيضاً.

وليكن القارئ الكريم على ذكر من نكتة، وهي أنّ ما سنذكره من الآيات ونستدل بها لا يعدو عن كونها اشعارات واستظهارات ولا يمكن أن يستدل بكلّ واحدة منها على المقصود، نعم يمكن اعتبار مجموعها دليلاً مفيداً للاطمئنان.

٧٣

على أنّ تلك الاشعارات إنّما تتم إذا لم يكن هناك دليل صريح على خلافها وإلّا فتكون النسبة بين تلك الاشعارات وما يدل على خلافها من قبيل نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي الحاكم بالاشتغال.

فيرتفع الأصل بموضوعه عند وجود الدليل الاجتهادي.

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟

يمكن استظهار الاختصاص من قوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) ( نوح ـ ١ )، فهو يشعر باختصاص رسالته بقومه(١) .

وأمّا صيرورة رسالته بعد الطوفان عالمية، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ قدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً بل خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه، ويؤيد ذلك أنّه لا وجه لتعذيب غيرهم واهلاكهم بتكذيب قومه خاصة.

فانّ الظاهر من القرآن هو أنّ التعذيب كان لتكذيب قومه، قال سبحانه:( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) ( هود: ٣٦ ـ ٣٧ ) أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلب وجود امكانيات تمكن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء العالم، وذلك لم يكن متوفراً في عهد نوح، كما سيوافيك بيانه مفصّلاً.

تحقيق وتنقيب :

إنّ العلّامة الطباطبائي ( رضوان الله عليه ) قد طرح مسألة عمومية نبوّة نوح

__________________

(١) لاحظ الآيات ٢٥ ـ ٤٨ من سورة هود، ترى فيها اشعارات كثيرة باختصاص رسالته بقومه.

٧٤

عليه‌السلام في الجزء العاشر من تفسيره القـيّـم « الميزان » فقال :

المعروف عند الشيعة عموم رسالتهعليه‌السلام وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة لشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله سبحانه:( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( نوح ـ ٢٦ )، وقوله تعالى:( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلّا مَن رَّحِمَ ) ( هود ـ ٤٣ ) وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) ( الصافات ـ ٧٧ ).

وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة: أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولازم ذلك كونه مبعوثاً إليهم كافة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي: « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ».

وأجابوا عن الآيات بأنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) ( يونس ـ ٧٨ ).

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديّاراً، وكذا المراد بالثانية: « لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله » وكذا المراد بالثالثة: « وجعلنا ذريته هم الباقين » من قومه.

ثمّ انّه ـ قدّس الله سرّه ـ أفاد أنّه لم يستوفوا حقّ الكلام في هذا البحث ثمّ اختار هو عموميّة نبوّته ورسالته بتقديم مقدّمة حاصلها :

أنّ الواجب في عناية الله أن يهدي الانسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه، ولا يكفي في هدايته ما جهز به الإنسان من العقل البشري، بل لابد من طريق آخر لهدايته وسوقه إلى قمة الكمال وهو تعليم الإنسان شريعة الحق، ومنهج الكمال والسعادة، وهو طريق الوحي، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به، والاعتقاد به في حياته الدنيوية والاخروية فطريق النبوّة ممّا لا

٧٥

مناص منه في تربية النوع البشري بالنظر إلى العناية الإلهية.

وإن شئت قلت: الواجب في عناية الله تزويد المجتمع الانساني بشريعة يأخذ بها في حياته الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية له بهم، ولازمه أن يكون أوّل شريعة نزلت على البشر شريعة عامّة، وقد أخبر الله سبحانه أنّ شريعة نوح هي أوّل شريعة نزلت على المجتمع البشري قال سبحانه:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ ١٣ )، ومقام الامتنان يقتضي بأنّ الشرائع الإلهية المنزلة على البشر عبارة عمّا جاء ذكرها في هذه الآية، وأوّل ما نزلت من الشرائع هي شريعة نوح، ولو لم تكن عامة للبشر، بل كانت خاصة بقومه لكان هناك أمّا نبي آخر، وشريعة اُخرى لغير قوم نوح والحال أنّه لم يذكر في هذه الآية ولا في موضع آخر من كلامه سبحانه.

وأمّا اهمال سائر الناس غير قومه في زمنه وبعده إلى حين(١) .

ملاحظات في كلام العلّامة الطباطبائي

وفيما ذكرهقدس‌سره ملاحظات نلفت نظر القارئ الكريم إليها :

أمّا أوّلاً: فإنّ ما ذكره من أنّه يجب في عناية الله تكميل الأنواع وأنّ الشريعة الإلهية تكمل النوع الانساني، وأنّ التشريع تكميل للتكوين ممّا لا كلام فيه، غير أنّ الكلام هو في قابلية سائر العناصر البشرية الاُخرى المعاصرة لنوح، الساكنة في مناطق اُخرى لتلقي الشريعة وأخذها والعمل بها، فإنّه من المحتمل أن لا تكون تلك العناصر والأفراد لبداوتها وبساطة شعورها وحياتها أهلاً لارسال الشريعة إليهم وعدم بلوغهم بعد إلى حد يستأهلون معه للتعليم الإلهي، فإنّه من البديهي أنّ البلوغ الجسماني وحده لا يكفي في تلقي الشريعة والعمل بها، بل يجب أن يكون معه مقدرة فكرية واستعداد نفسي يؤهّله لاستقبال الشريعة، والدخول في مدرسة الوحي الإلهي. فمثل بعض المجتمعات قبل أن

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٧٦

تصل إلى هذه المرتبة مثل الطفل الناشئ لا يستأهل ولم يصبح صالحاً للدخول في المدرسة وتلقي التربية المدرسية.

وثانياً: فإنّ ما استفادهرحمه‌الله من الآية ب‍ « أنّ شريعة نوح أوّل شريعة نزلت إلى البشر » اشعار كسائر الاشعارات فمن المحتمل أن تكون هناك شريعة اُخرى نزلت قبل نوح ولكن لم تذكر لعدم بلوغها إلى مرتبة الشرائع المذكورة في هذه الآية.

وأمّا ثالثاً: انّ من الممكن أن يكون هناك شريعة في عرض شريعة نوح تختص بقوم آخر لكنّه لم يذكرها القرآن، كيف لا وأنّ القرآن صرّح بأنّه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء حيث قال:( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر ـ ٧٨ ) وقال سبحانه:( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء ـ ١٦٤ ).

وفي الختام أنّ ما ذكرناه حول دعوة نوح كمثل ما نذكره حول الكليم والمسيح مجرد نظرية منبعثة من التدبّر في آيات الذكر الحكيم فمن المحتمل أن لا تكون صائبة، والعصمة لله سبحانه ولرسوله والأئمّة الهداة.

ثم إنّه دام ظله رتب على مختاره في تعميم رسالة نوح أنّ الطوفان كان عاماً لجميع الأرض حيث قال: تبين الجواب عن السؤال: هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض فإنّ عموم دعوته يقضي بعموم العذاب.

ثمّ أيّده بما جاء في كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين ابقاء على الأنواع الحيوانية فلو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق ـ كما قيل ـ لم تكن هناك أية حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين(١) .

وقد تبيّن ممّا ذكرناه من اختصاص دعوة نوح وعدم عموميتها عدم صحة ما اعتمدت عليه النظرية.

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٧٧

وأمّا ما استشهد به فيمكن أن يكون للحفاظ على الحيوانات في منطقته إذ كان من العسير انتقال الحيوانات التي تعيش في مناطق اُخرى إلى قومه، والله سبحانه هو العالم.

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟

إنّ تنقيح الموضوع يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل: في عموم دعوته إلى التوحيد.

الثاني: في عموم شريعته وشمول أحكامه.

ونعني من عموم دعوته في مسألة التوحيد أنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وغيرهم، في دعوتهم جميعاً إلى توحيده سبحانه وكسر كلّ صنم ووثن.

كما أنّه نعني من عموم شريعته شمول كلّ ما جاء به موسى في التوراة من الفروع والأحكام لبني إسرائيل وغيرهم(١) وعموم دعوته إلى التوحيد لا يلازم عموم شريعته، دون العكس(٢) ولأجل ذلك جعلنا البحث في مقامين، فنقول :

المقام الأوّل: في عموم دعوته في أصل التوحيد ورفض الأوثان والأصنام كلّها.

الظاهر من الآيات الواردة حول دعوة الكليم، أنّه كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل مثل قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ( البقرة ـ ٩٢ ).

وقوله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ) ( الصف ـ ٥ ).

__________________

(١) وللفرق بين المقامين يعبّر عن الأوّل بعموم الدعوة والنبوّة وعن الثاني بعموم الشريعة والرسالة فلاحظ.

(٢) لامكان انحصار دعوته بالنسبة إلى قوم في الاُصول ولا يمكن العكس إذ لا تصح الدعوة إلى الفروع منفكة عن الدعوة إلى الاُصول.

٧٨

وهذه الآيات الكثيرة تشعر باختصاص دعوته بقوم موسى وإنّما قلنا « تشعر » لوضوح أنّ ارساله إلى قومه، لا يدل على عدم إرساله إلى غيرهم، فإنّ شعيباً كان مرسلاً من جانبه سبحانه إلى أهل مدين كما يدل عليه قوله تعالى:( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ) ( الأعراف ـ ٨٥ ).

وفي الوقت نفسه كان مبعوثاً إلى أصحاب الايكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء ١٧٦ ـ ١٧٧ ).

ولأجل ذلك قلنا انّ ما نستدل به لا يعدو عن كونه استظهارات واشعارات إذا توفرت تفيد الاطمئنان ولو كان هناك دليل صريح على عموم دعوته ونبوّته، لسقطت هذه الاستظهارات عن الاعتبار.

موقف دعوة الكليم من القبطيين

يمكن أن يقال: بأنّ دعوة موسى في مسألة التوحيد، كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين.

وتستفاد عمومية دعوته إليهم أيضاً من بعض الآيات مثل قوله سبحانه:( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف ـ ١٠٥ ).

وقوله سبحانه:( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف ـ ١٣٤ ).

وقوله سبحانه:( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الهُدَىٰ ) ( طه: ٤٣ و ٤٤ ـ ٤٧ ).

وقوله سبحانه:( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ *أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا

٧٩

بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء: ١٦ ـ ١٧ ).

وقوله سبحانه حكاية عن فرعون:( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) ( الشعراء ـ ٢٧ ).

وقوله سبحانه:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزخرف ـ ٤٦ ).

وقوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً *فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ) ( المزمل ١٥ ـ ١٦ ).

وقوله سبحانه:( وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) ( الذاريات ـ ٣٨ ).

وهذه الآيات وما يشابهها تفيد أنّ دعوته إلى عبادة الله والانخلاع عن عبادة الأوثان كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين ولأجل ذلك ضرب مع رئيسهم فرعون موعداً لا يخلفه هو ولا ذاك، فاتفقا على أن يكون موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فلما ألقى موسى ما ألقى وتلقف ما صنعوا من الكيد والسحر، القي السحرة ساجدين قائلين بأنّهم آمنوا بربّ موسى وهارون(١) .

هذا كلّه يفيد بوضوح شمول دعوته للقبطيين أيضاً وأنّه كان مأموراً من الله بدعوة فرعون وملائه إلى الايمان بالله سبحانه وترك عبادة البشر والاستعلاء على عباد الله واستضعافهم، ويؤيده أنّه لـمّا أدركه الغرق قال فرعون:( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( يونس ـ ٩٠ ) ولم يك ينفع إيمانه ذلك الوقت ولأجله خاطبه سبحانه بقوله:( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس ـ ٩١ ).

ومع ذلك كلّه ففي النفس من شمول دعوته ـ حتى بهذا المعنى للقبطيين، شيء.

أمّا أوّلاً: فلأنّه يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى اُمّة بني إسرائيل فقط ليخلصهم

__________________

(١) راجع سورة طه: الآيات ٤٢ ـ ٧٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الشيخ عمر رمضان الهيتي الاصل البغدادي المسكن

جاء في المسك الأذفر:

كان في معرفة اللغة العربية لا يطاول وفي معرفة وقائع العرب لا يساجل قرأ سائر العلوم وبرع في المنقول والمفهوم ولا سيما فن الأدب ومعرفة كلام العرب لقد كان يشار اليه فيهما بالبنان، ولا يختصم في ذلك اثنان، وكان في الخط ابن مقلة، وبذلك اعترف كبار زمانه وأقروا له، وقد كتب كثيراً من الكتب الفريدة وجمع بخطه اللطيف عدة مجامع مفيدة وكان له شعر فصيح، وقعت بينه وبين الشاعر الشهير السيد عبدالغفار منافرات ومشاجرات، أفضت بهما إلى المهاجات، فهجا كل منهما صاحبه وعدد عليه عيوبه ومثالبه، وهذه شنشنة من مضى من الآباء وسبق، كما وقع مثل ذلك بين جرير والفرزدق، ولو لا خوف الأطناب لأثبتنا ذلك في هذا الكتاب، ولما انتقل المترجم إلى رحمة الله أسف عليه السيد عبدالغفار غاية الأسف ورثاه بهذه القصيدة

رمينا بأدهى المعضلات النوائب

وفقد الذي نرجو أجل المصائب

إلى أن قال:

فمن لفؤاد راعه فقد إلفه

فاصبح من أشجانه نهب ناهب

وجفن يهل الدمع من عبراته

على طيب الأعراق وابن الاطايب

على عمر الرمضان ذي الفضل والنهى

أحاطت بي الأحزان من كل جانب

٣٠١

أذابت عليه يوم مات حشاشتي

وأمسيت في قلب من الحزن ذائب

بكيت وما يجدي الحزين بكاؤه

وضاقت علي الأرض ذات المناكب

فتى كان فينا حاضراً كل نكبة

فغاب ولكن ذكره غير غائب

وقد كان مثل الشهد يحلو وتارة

لكالصل نفاثاً سموم العقارب

وكم أخبر التجريب عن كنه حاله

ويظهر كنه المرء عند التجارب

لسان كحد السيف ماض غراره

وأمضى كلاحاً من شفار القواضب

وكم صاغ من تبر القريض جمانة

وأفرغ معناه بأحسن قالب

وزانت قوافيه من الفضل أفقه

فكانت كأمثال النجوم الثواقب

وادرك فضل الأولين بما اتى

فقصر عن إدراكه كل طالب

معان بنظم الشعر كان يرومها

أدق إذا فكرت من خصر كاعب

فتى كان يصميني الردى في حياته

ولما توفي كان أدهى مصائبي

فتى ظلت أبكي منه حياً وميتاً

أصبت على الحالين منه بصائب

رعيت له من صحبة كل واجب

ولو كان حياً ما رعى بعض واجبي

سقى الله قبراً ضمه مزنة الحيا

وبلغ في الجنات أعلى المراتب

ولا زال ذاك القبر ما ذر شارق

تجود عليه ذاريات السحائب

توفي رحمه الله تعالى في نيف وخمسين بعد المائتين والألف.

وجاء في سمير الحاظر وأنيس المسافر للشيخ علي كاشف الغطاء ص ٣١٠ قال:

مما كتبه المرحوم عمي الشيخ حسن إلى السيد عمر رمضان ولم تقف على أبيات نفس الأسم وهي على سبيل المداعبة.

سلام من محب ليس يسلو

هواك وان تقادمت الليالي

٣٠٢

يحن الى لقاك حنين صادِ

قضى ظمأ الى الماء الزلال

دعاه منه داعي الشوق لما

نوى ضعنا وهم على ارتحال

فكتب السيد عمر في جوابه

شبيه أبيه في عمل وعلم

ويا من لم يزل حسن الفعال

يعز علي والرحمن أني

أرى منك الديار غدت خوالي

خلت منك الديار وان قلبي

وحقك من ودادك غير خالي

سألبس بعد بعدك ثوب حزن

جديد ليس تبليه الليالي

نعم أو أن تهيء لي خيالا

لطيفك لست أقنع بالخيال

٣٠٣

علي بن حبيب التاروتي

احبس ركابك ساعة يا حادي

ذي كربلا فانشق عبير الوادي

لله أشكو زفرة لم يطفها

دمع بصوب كمستهل غوادي

ما لي أراك ودمع عينك جامد

أو ما سمعت بمحنة السجاد

قلبوه عن نطع مسجى فوقه

فبكت له أملاك سبع شداد

وفي آخرها

ابلغ علوج أمية وسمية

أهل الفساد وعصبة الالحاد

وقل اعملوا ما شئتم وأردتم

إن الإله لكم لبا لمرصاد

جاء في أنوار البدرين: هو الشيخ علي بن محمد بن حبيب التاروتي القطيفي كان من شعرائها المجيدين والفصحاء المادحين الراثين وهو أيضاً من العلماء الفاضلين إلا أني لم اطلع على حقيقة أحواله، وذكر له الشيخ يوسف البحراني في ( الكشكول ) قصيدة مطولة عدد فيها مواقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وترجم له العلامة المعاصر الشيخ علي المرهون في كتابه ( شعراء القطيف ) وقال: توفي سنة ١٢٥٠ أقول ولا بد أن تكون وفاته قبل هذا التاريخ لأنه قال في ترجمته ما نصه: ذكره الشيخ يوسف البحراني في كشكوله فاطرة، وإذا علمنا أن الشيخ يوسف كانت وفاته ١١٨٦ أي قبل المترجم بـ ٦٤ سنة ثبت لنا كونه حياً قبل هذا التاريخ.

٣٠٤

الشيخ صادق العاملي

المتوفي ١٢٥٠

عرج على شاطي الفرات ميمماً

قبر الأغر أبي الميامين الغرر

قبر ثوى فيه الحسين وحوله

أصحابه كالشهب حفت بالقمر

مولى دعوه للهوان فهاجه

والليث ان أحرجته يوماً زأر

فانساب يختطف الكماة ببارق

كالبرق يخطف بالقلوب وبالبصر

صلى الإله على ثراك ولم يزل

روض حللت حماه مطلول الزهر

لم نعثر له على ترجمة وافية سوى أنه توفي بقرية الطيبة من جنوب لبنان وانه عالم فاضل، أديب شاعر ومعروف بالشيخ صادق بن ابراهيم بن يحيى العاملي

٣٠٥

حبيب بن طالب البغدادي

خل النسيب فلست بالمرتاد

لهو الحديث بزينب وسعاد

مالي وكاعبة تكلفني الهوى

شتان بين مرادها ومرادي

واذكر مصاب الطف فهي رزية

فصم الضلال بها عرى الارشاد

يوم أصاب الشرك فيه حشى الهدى

بمسدد الأضغان والأحقاد

يوم غدا فيه على رغم العلا

رأس الحسين هدية ابن زياد

الله اكبر ياليوم في الورى

لبست به الأيام ثوب حداد

يوم به عجت بنات محمد

من مبلغ عنا النبي الهادي

أما الحسين ففي الوهاد وإننا

في الإسر والسجاد في الأصفاد

أهون بكل رزية إلا التي

صدعت بعاشوراء كل فؤاد

لك في جوانحنا زعازع لم تزل

منها تصب من الجفون غوادي

مولاي يا من حبه وولاؤه

حرزي ومدخري ليوم معادى

أينال مني ما علمت شفاءه

ويريد لي سوءاً وأنت عمادي

وعليكم صلى المهيمن ما سرت

نيب الفلا وحدا بهن الحادي

٣٠٦

حبيب بن طالب البغدادي

الشيخ حبيب ابن الشيخ طالب بن علي بن احمد بن جواد البغدادي الكاظمي مسكنا الشيبي المكي أصلا نزيل جبل عاملة كان حياً سنة ١٢٤٩ شاعر مجيد متفنن خفيف الروح يجمع شعره الرقة والانسجام وأنواع الطرائف. أصله من الكاظمية سكن جبل عاملة ثم عاد إلى الكاظمية وتوفى هناك له شعر كثير ومن شعره قصائد في مدح أهل البيتعليهم‌السلام .

قال الشيخ الطهران في طبقات أعلام الشيعة: هاجر إلى جبل عامل فسكنها وصحب أمراء البلاد ومدحهم بقصائد جيدة ثم عاد إلى العراق في سنة ١٢٤٣ من ( تبنين ) فنظم أرجوزة طويلة ضمنها ما لاقاه في طريقه وجعلها بمثابة الرحلة أرخ فيها ابتداء سفرته من دمشق وسامراء والكاظميين وكربلاء والنجف وغيرها. رأيناها ضمن مجموعة شعرية. فوفاة المترجم بعد التاريخ ورأيت من شعره ما يدل على حنينه إلى بلده كقوله في آخر قصيدة:

وطني يعز علي إلا أنه

ألف السهام البعد من جور القسي

إن جئتم دار السلام فبلغوا

عني السلام أولى المحل الأقدس

واشرح لهم متن الصحيفة قائلا

إني حملت صحيفة المتلمس

٣٠٧

وقال في أهل البيتعليهم‌السلام :(١)

بني النبي لكم في القلب منزلة

بها لغير ولا كم قط ما جنحا

يلومني الناس في تركي مديحكم

وكم زجرت بكم من لامني ولحا

عذراً بني المصطفى إن عنكم جمحت

قريحتي وهي مثل الزند مقتدحا

فلا أرى الوهم والأفهام مدركة

ما عنون الذكر من أسراركم مدحا

سبقتم الناس في علم ومعرفة

والأمر تم بكم ختماً ومفتتحا

وأنتم كلمات الله إذ رفعت

وآدم مذ تلقى عهدها نجحا

بها عني الذكر في لو كان ما نفدت

فكيف تنفذها أبيات من مدحا

وعندكم علم ما في اللوح مرتسخ

وما جرى قلم الباري به ومحا

لكنما الناس في عشواء خابطة

ليلاً وآثاركم في المعجزات ضحى

إن شاهدوا الحق فيما لا تحيط به

عقولهم جعلوا للحق منتزحا

تجارة الله لم تبذل نفائسها

إلا لمن كان عن غش الهوى نزحا

وربما خاضت الألباب إذ شعرت

ومضاً من النور دون السترقد لمحا

شاموا ظواهر آيات لها وقفت

ألبابهم غير أن الوهم قد شرحا

وهم على خوض ما ألفوه من أثر

كمثل أعمش من بعد رأى شبحا

فليس يدري لتشعيب الظنون به

أسانحاً ما رأى أم بارحاً سرحا

وكلما شيم من آثار معجزة

فإنها رشح ما عن فيضكم طفحا

فالحجب عن سعة الآثار ما بخلت

والحكم في صفة الأسرار ما سمحا

أدنى المديح لكم أن قيل خادمكم

جبريل والملأ الأعلى بكم صلحا

نجا بأسمائكم نوح فقيل لكم

سفن النجاة وأمر الله ما برحا

ورب مدح لقوم عنكم جنحوا

أنشدته حيث عذري كان متضحا

نأتي من الوصف ما لا يدر كون له

معنى ولا شربوا من كاسه قدحا

ولو أتيناهم في حق وصفهم

لأوهم الناس أن الروم قد فتحا

فأين هم عن مدى القوم الذين لهم

صنع المهيمن ممن خف أو رجحا

__________________

١ - عن أعيان الشيعة

٣٠٨

وقال لما زار بسامراء مرقد الإمامين العسكريين سلام الله عليهما:

لله تريك سامراء فاح به

ريح النبوة إشماما وتعبيقا

هنئت يا طرف فيما متعتك به

يد المواهب تأييداً وتوفيقا

لم يطرق العقل باباً من سرائرهم

إلا وكان عن الأفهام مغلوقا

وفي المعاجز والآثار تبصرة

لرائم غرر الإيضاح تحقيقا

هذا الكتاب فسله عنهم فبه

صراحة المدح مفهوماً ومنطوقا

أبصر بعينيك واسمع واعتبر وزن

المعقول واختبر المنقول توثيقا

وجل بطرفك أيماناً وميسرة

وطف بسعيك تغريباً وتشريقا

فهل ترى العروة الوثقى بغيرهم

حيث الولاء إذا بالغت تدقيقا

وهل ترى نار موسى غير نورهم

وهل ترى نعتهم في اللوح مسبوقا

وهل ترى صفوة الآيات معلنة

لغيرهم ما يؤود الفكر تشقيقا

قوم إذا مدحوا في كل مكرمة

قال الكتاب نعم أو زاد تصديقا

أضحى الثناء لهم كالشمس رأد ضحى

وبات في غيرهم كذباً وتلفيقاً

إني وإن قل عن أوصافهم خطري

وهل ترى زمناً ينتاش عيوقا

تعساً لقوم تعامت عن سنا شهب

إيضاحها طبق الأكوان تطبيقا

إن الإمامة والتوحيد في قرن

فكيف يؤمن من يختار تفريقا

يا من إليهم حملت الشوق ممتطيا

أقتاب دجلة لا خيلا ولا نوقا

الماء يحملني والنار أحملها

من لاعج الوجد تبريحاً وتشويقا

أنتم رجائي وشوقي كل آونة

وأنتم فرجي مهما أجد ضيقا

في يوم لا والد يغني ولا ولد

ولا يفرج وفر المال تضييقا

٣٠٩

حسن التاروتي

المتوفي سنة ١٢٥٠

اللراعبية بالأجرع

صبابة وجد فلم تهجع

أم استوجدت وأتت مورداً

تمضمض منه ولم تكرع

أجارتنا ليس دعوى الأسى

بأن تخضبي الكف أو تسجعي

إلي حمامة جرع الحمى

فليس الشجي كمن يدعى

فأما استطعت حنيناً له

يلف الحنايا والإدعى

ودمع إذا فار تنوره

دماً لم أقل يا جفوني أقلعي

عذيري من فادح كلما

صغى مسمعي شب في أضلعي

وقائلة وزعيم الأسى

يسدد عن قولها مسمعي

أتعنف عينيك في أربع

فقلت وعن عنفي أربعي

سلي أن جهلت ولما تعي

بأن ابن فاطمة قد نعي

غداة رأى الدين في خامل

يجر قناه ولم يرفع

وداع دعاه ائتنا للهدى

ولم يك هيابة إذ دعي

ومن حوله تبع إن دعا

فما حمير من دعا تبع

٣١٠

كان النجوم بهم تهتدي

إذا حلها البدر في مطلع

فحل بوادي الندى لم يجد

أخا ثقة فيه لم يخدع

فما اسطاع من بينهم مرجعاً

وما كان في الأمر بالمرجع

فقالوا أطعنا يزيداً فكن

له طائعاً وامض في مهيع

فقال أطعتم ولما أطع

له وسمعتم ولم أسمع

أبى الله يخضع جيدي له

وسيفي بكفي وجدي معي

فبات وباتوا ومن بينهم

مواعدة القرع بالأقرع

فوطا قلوب ذويه على

لقا أروع في تقى أورع

فمذ دعت الحرب أقرانها

وقارنت العضب بالأخدع

رأيت أولئك من دارع

يؤم الهياج ومن أدرع

دعوا للرماح الا فاشرعي

وبيض الصفاح ألا فاقطعي

يا خيلنا قد أعدت الدجى

فغيبي به تارة واطلعي

فوفى الذمام وأعلى الوفا

نفوس أسيلت على اللمع

وظل فتى لم تهله الألوف

ولا بالفروقة في المجمع

يرد الكماة كذي لبدة

أغار بسائمه رتع

فليت وما ليت من عله

ولا غالك السهم بالمنقع

ولا شمر الشمر من جهله

لذبحك عن ساعد أكوع

ولا كرت الخيل إصدارها

بمقدس صدرك والأضلع

وياليت فارع رمح بدا

ينؤ برأسك لم يرفع

فقل للسماء وداراتها

وقد وقع القطب منها قعي

وللشهب إن فاخرتك التلاع

فردي النقاب على البرقع

إذا كان نورك من نور من

تلألأ فيها فلا تلمع

متى أشرق البدر في تلعة

وقد كان في الفلك الأرفع

وصارخة إن أراد الحيا

لها الخفض قال أساها أرفع

أتت نحوه وبأحشائها

جوى يوقد النار بالمدمع

٣١١

تقول أخي يا حمي الثغور

غريب بعفرك والأربع

أراك جديلا ويوم الجلاد

بغير قراعك لم يقنع

تغيم فتمطر هام الكماة

وترعد في بارق اللمع

أبيح حماك فلا تمتطي

وبح المنادي فلم تسمع

علام ترشفت من شفرة

مذاقة كاس طلا مترع

لعلك حين هجرت الديار

وآنست فدفدة البلقع

وكلت بأهليك قلب العطوف

واسكنتهم بحمى الأمنع

فخل السرى يا ركاب الوفود

فخبر من السير أن ترجع

فما في القرى لك من مطعم

وما في الثرى لك من مطمع

كان لم يشرع باب الندى

بهن أو الدين لم يشرع

* * *

فيا راكباً ظهر مجدولة

شأت أربع الريح في أربع

تجافى الأباطح حزم الحزوم

وجرعها حزم الأجرع

إذا لمعت نار طور الغري

فأنت بوادي طوى فاخلع

وصل وسلم وصل واستلم

لقدس أبي الحسن الأنزع

وناد وقل يا زعيم الصفوف

ويا قطب دائرة الأجمع

قعدت وفي الطف أم الخطوب

تقعقع في ضنك الموقع

جثت فجثا بازاها بنوك

على ركب قط لم ترفع

فلما تضايق مد السيوف

كمشتبك الأصبع الأصبع

أبيدوا فغصت بهم بقعة

بها غص منهم فم الأبقع

أثر نقعها فحسين قصي

لها رغبة العين والمسمع

فقم فانتظارك ممدودة

وغلة أحشاه لم تقنع

وقد وترته أكف الترات

فأغرقت الرمي بالمنزع

إذا قعد الشمر في صدره

فما لقعودك من موضع

إلام وأهلوك في مهلك

وشمل بناتك لم يجمع

٣١٢

أقام القطيع على رأسها

مقام الملائة والملفع

واقمار أوجههن الذراع

منازلها عوض البرقع

إذا ما اشتكين الظما والطوى

وعز الغياث على المفزع

تنوح الجياع على الساغبات

وتبكي السواغب للجوع

كشكوى الفصال من المرضعات

ونوح الفصيل على الرضع

ألا وأباها واين الغيور

يراهن في السبي كالزيلع

ينازع أجيادها ما جمعن

وجامعة الأسر لم تنزع

تأن من الاين والاغتراب

ينوء بها غارب الأضلع

٣١٣

الشيخ حسن التاروتي

الشيخ حسن التاروتي من نوابغ الشعراء، اشتهر بجودة الشعر، وهو حسن ابن محمد بن مرهون التاروتي، جزل اللفظ جيد السبك، ولعلك تعجب إذا علمت بأنه كان يصيد السمك ويمتهن ذلك ويقوت من الزراعة والسقاية ويتحدث الناس عنه بأنه كان مضيافاً سخي النفس كما كان جميل الوجه حسن الصورة توفى في أواسط القرن الثالث عشر.

فمن شعره في الرثاء:

لمن الشموس الطالعات على قبا

كالشهب إلا أنها فوق الربى

تصبو لها ألبابنا فكأنها

هي معصرات الصفو من عصر الصبا

من لي وقلبي ضاع يوم سويقة

ما بين أفراس الهوادج والخبا

من مبلغ عني الشباب بأنني

من بعده ما عدت إلا شيبا

ضيعت فيه فما بصحف صحيفتي

للحافظين علي إلا مذنبا

أضنتني الأعباء إلا أنني

متمسك بولاء أصحاب العبا

قوم جعلت ولائهم ومديحهم

هذاك معتصماً وهذا مكسبا

أنوار قدس حيث لا فلك يدور

ولا صبح يعاقب غيهبا

ومهللين مكبرين وآدم

من مائه والطين لن يتركبا

نزل الكتاب عليهم فقضوا به

وأبان فضلهم العظيم وأعربا

سلوا له سيفاً وقادوا مقنباً

فعلوا بما فعلوا ونافوا مقنبا

٣١٤

حازوا العلى فاقوا الملا شرعوا الهدى

بلو الصدى نصبو الحبا لزموا الإبا

ما للثناء عليهم وبمدحهم

طه تنوه والمثاني والنبا

سل عنهم الأعراف والأحقاف

والأنفال واسأل هل أتى واسأل سبا

يغنيك قول الله عن ذي مقول

ومديحه عمن أطال وأطنبا

هذا هو الشرف الذي أسرى لهم

من عبد شمس كل عضو كوكبا

حسدوهم نيل المعالي إذ غدوا

أعلى الورى نسباً وأعلى منصبا

ما ذنب أحمد إذ أتى بشريعة

هلا أتوا أصفى للشرايع مشربا

ورضوا بما قد قال في خم وقد

نصب الحدائج ثم قام ليخطبا

فدعا علياً قائلاً من كنت

مولاه فذا مولاه طوعاً أو إبا

ما زال حتى بان من أبطيهما

بلج أراه الجاحد المتريبا

ولووا ببيعته على أعناقهم

حبلاً بآفة نقضهم لن يقظبا

والله لو أوفوا بها لتدفقت

بركاتها غيثا عليهم صيبا

لو لم يحلوا عهدها حل العهاد

بها وما اعتاضوا جهاماً خلبا

من عاذري منهم وقد حسدوا بها

أولى البرية بالنبي وأقربا

الحاكم العدل الرضي المرتضى

العالما لعلم الوصي المجتبى

أسماهم مجداً وأزكى محتداً

وأعفهم أماً وأكرمهم أبا

وأبرهم كفا وأنداهم يداً

واسدهم راياً وأصدقهم نبا

وتقدموه بها ولم يتقدموا

لما رئوا عمر بن ود ومرحبا

في يوم جدل ذا وذاك بضربة

لا خائفاً منها ولا مترقبا

عدلت ثواب العالمين وبوئت

جمع الضلالة خاسراً ما ثوبا

وأبيه لولا بسطة من كفه

دخلوا بها ما أخرجوه ملببا

وتهضموه كاظما حتي قضي

في فرضه بمهند ماضي الشبا

ودعوا إلى حرب الحسين مضلة

الأهواء فاتبعوا السواد الأغلبا

فأتوه لم يرض الهوادة صاحباً

فيهم ولا أعطى المقادة مصحبا

في قتية شرعوا الذوابل والقنا

وتدرعوا وعلوا جياداً شزبا

٣١٥

من كل مخترق العجاج تخاله

فيما أثار من العجاجة كوكبا

ليث قد اتخذ القنا غيلاً كما

كانت له بيض الصوارم مخلبا

ورئوا طوال السمر حين تبوئت

عطفا فظنوها الحسان إلا كعبا

عشقوا القصار البيض لما شاهدوا

بدم الفوارس خدهن مخضبا

حفظوا ذمام محمد إذ لم يروا

عن آله يوم الحفيظة مذهبا

بأبي بأفلاك الطفوف أهله

كانت لها تلع البسيطة مغربا

وبقى الحسين الطهر في جيش العدا

كالبدر في جنح اظلام تحجبا

يسطو بعضب كالشهاب فتنثني

من باسه كالضان وافت أشهبا

عذراً إذا نكصوا فراراً من فتى

قد كان حيدرة الكمي له أبا

هذاك أطعمهم ببدر ممقراً

وبكربلا هذا أغص المشربا

يا من أباح حمى الطفوف بعزمة

ما كان في خلد اللقا أن تغلبا

وأعاد أعطاف السيوف كسيرة

يوم الضراب وفل منها المضربا

كيف افترشت عرى البسيطة هل ترى

أن الحضيض علا فنال الأخشبا

أو زلزلت لما قتلت وأرسيت

بك إذ يخاف على الورى أن يقلا

لم لا وقاك الدهر مولاك الذي

ما فيه من سبب فمنك تسببا

هلا ترى الدنيا بأنك عينها

لم لا وقت عنها لئلا تذهبا

ما للردى لم لا تخطاك الردى

والخطب هلا عن علاك تنكبا

أترى درى صرف الزمان وريبه

ما ذاك حجبه المنون وغيبا

أترى له ترة عليك وللردى

وتراً فراقبه وذاك تطلبا

قل للمثقفة الجياد تحطمي

وتبوئي بالكسر يا بيض الضبا

والجاريات تجر فضل لجامها

قد آن بعد صهيلها أن تنحبا

من ذا يوم هياجها، من ذا يثير

عجاجها، من ذا يقود المقنبا

لا يطلب الوفد الثرى وعلى الثرى

مثواك قد ملأ التراب المتربا

يا محكمات البينات تشاكلي

قد أمسك الداري الخبير عن النبا

٣١٦

قد أظلم النادي وضل عن الهدى

سارنحى منهاجه وتشعبا

من أين للساري النجا ودليله

في الهالكين ونجمه الهادي خبا

رزء متى استنهضت سلواني له

والصبر ذاك أبا، وهذا أنبا

وحصان خدر ما تعودت الأسى

من قبل أن يلج الحصان المضربا

قامت تردد رنة لو أنها

في القاسيات الصم كانت كالهبا

منهلة العبرات لو لا أنها

جمر لقام بها الكلا واخصوصبا

تدعو وقد طافت بمصرع ماجد

أبت المعالي أن تراه متربا

٣١٧

ابراهيم بن نشرة البحراني

بعد سنة ١٢٥٠

هلا وفيت بأن قضيت كما وفى

صحب ابن فاطمة بشهر محرم

قوم ترى لسيوفهم وأكفهم

في الخصم والعافين واضح ميسم

من كل وضاح الفخار لهاشم

يعزى علا ولآل غالب ينتمي

تخذ المواضي حلية وثباته

ثقة له عن صارم أو لهذم

وإذا هم سمعوا الصريخ تواثبوا

ما بين سابق مهره أو ملجم

نفر قضوا عطشاً ومن أيمانهم

ري العطاش يجنب نهر العلقمي

أسفي على تلك الجسوم تقسمت

بيد الظبا وغدت سهام الأسهم

قد جل بأس ابن النبي لدى الوغى

عن أن يحيط به فم المتكلم

إذ هد ركنهم بكل مهند

وأقام مائلهم بكل مقوم

ينحو العدى فتفر عنه كأنهم

حمر تنافر عن زئير الضيغم

ويسل أبيض في الهياج كأنه

صل تلوى في يمين غشمشم

قد كاد يفني جمعهم لولا الذي

قد خط في لوح القضاء المحكم

حتى إذا ضاق الفضاء بعزمه

ألوى به للحشر غير مذمم

سهم رمى أحشاك يابن المصطفى

سهم كبد الهداية قد رمى

يا ثم زولي يا صفاح تثلمي

يا فعم غوري يا رماح تحطم

يا نفس ذوبي يا جفون تقرحي

يا عين جودي يا مدامعنا اسجم

٣١٨

لم أنس زينب وهي تدعو بينهم

يا قوم ما في جمعكم من مسلم

إنا بنات المصطفى ووصيه

ومخدرات بني الحطيم وزمزم

ما دار في خلدي مجاذبة العدى

مني رداي ولا جرى بتو همي

قد أزعجوا أيتامنا قد أججوا

بخيامنا لهب السعير المضرم

الشيخ ابراهيم بن محمد بن حسين آل نشرة الماحوزي البحراني أصلاً النجفي مسكناً ومدفناً كتب عنه في ( شعراء الغري ) فقال: ذكره حفيده الشيخ محمد علي التاجر البحراني في كتابه ( منتظم الدرين في تراجم أعيان القطيف والاحساء والبحرين ) فقال: كان عالماً فاضلاً وأديباً كاملاً وشاعراً قديراً، ورعاً صالحاً وجل شعره في أهل البيتعليهم‌السلام ، ولم أعثر له على ذكر في الكتب إلا ما يوجد من شعره في بعض المجاميع الخطية المحتكرة لدى مالكيها، وقد وقفت له على قصيدتين واحدة في الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام والثانية في سيد الشهداء أبي عبداللهعليه‌السلام انتهى.

٣١٩

الشيخ حسين نجف

المتوفى ١٢٥١

هذه كربلاء ذات الكروب

فاسعداني على البكا والنحيب

ههنا نسكب الدموع دماء

ونشق القلوب قبل الجيوب

ههنا مصرع الكرام من الآل

ومثوى الشهيد مثوى الغريب

الحسين الإمام وابن علي

والبتول الزهراء وسبط الحبيب

لهف نفسي عليه حين ينادي

مستغيثا ولا يرى من مجيب

ظاميا يشتكي غليل أوام

فسقوه حد القنا المذروب

بأبي من ظفرن فيه ذئاب

ذاك وهو الهزبر ليث الحروب

بأبي من بكت عليه السماوات

بدمع من الدما مسكوب

بأبي آله على الترب صرعى

قد كستهم ريح الصبا والجنوب

يا لها فجعة لرزء عظيم

أذكت النار في الحشى والقلوب

ليس يشفى غليل وجدي إلا

عند فوزي بنصرة المحجوب

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336