أدب الطف الجزء ٧

أدب الطف17%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 328

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 328 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117958 / تحميل: 8887
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الشيخ الطهراني في ( الكرام البررة ). وله قصيدة تعرف بـ ( الخالية ) تتكون من ٣٢ بيتا آخر كل بيت منها كلمة ( خال ) وتعطي معنى غير الاخر، وقد عارض بها قصيدة بطرس كرامة وقد تخلص في القصيدة لمدح العلامة الشيخ حسن آل كاشف الغطاء وأولها:

سقى الخال من نجد وسكانه الخال

وأزهر في أكنافه الرند والخال

كما خمس القصيدة الخالية وبعث التخميس الى الآستانة الى ناظمها، فلما وقف عليه قرضه فقال:

يا بن الشريف الذي أضحت فضائله

كالشمس تشرق بين البدو والحضر

خمست بالنظم ذات الخال مكرمة

مطوقا جيدها عقدا من الدرر

من البديع ومن سحر البيان لقد

أوتيت سؤلك يا موسى على قدر

وللحاج جواد بدكت الحائري - تخميس الشيخ للقصيدة الدريدية:

ان آيا أبديتها في القوافي

قد هوت سجدا لها الشعراء

ان هوت سجدا فغير عجيب

أنت موسى وهي اليد البيضاء

وللشيخ جابر الكاظمي:

ألقت لموسى الشعراء العصا

كما لموسى ألقت الساحرون

في شعره للشعرا معجز

مثل العصا تلقف ما يأفكون

١٤١

ذكر الدكتور عبدالرزاق محي الدين في مؤلفه ( الحالي والعاطل ) المترجم له في معارضة قصيدة بطرس كرامة ( الخالية ) أما تخميسه للقصيدة الدريدية المذكورة في ( الحالي والعاطل ) والتي نظمها ابن دريد في مدح ابني مكيال - كما هو معروف فقد حولها شاعرنا المترجم له الى مدح الامامين الحسن والحسينعليهما‌السلام بتخميسه للقصيدة وها نحن نروي جملة من هذا التخميس:

هما سليلا احمد خير الملا

الحسنين الاحسنين عملا

هما اللذان انقعالي غللا

هما اللذان أثبتا لي أملا

قد وقف اليأس به على شفا

هما اللذان أورداني موردا

عاد به روض المنى موردا

وأنشئاني بعد ما كنت سدى

وأجريا ماء الحيا لي رغدا

فاهتز غصني بعد ما كان ذوى

كم ردني بعد الرجاء خائبا

من خلته ألا يرد طالبا

وحين أصبحت له مجانبا

هما اللذان عمرا لي جانبا

من الرجاء كان قدما قد عفا

وأولياني ما به النفس اقتنت

عزاً به عن درن الدنيا اعتنت

وعوداني عادة ما امتهنت

وقلداني منة لو قرنت

بشكر أهل الارض طراً ما وفى

أحمد ربي الله ما أعاشني

اذ في ولاء المرتضى قد راشني

فلم أقل وهو بخير ناشني

ان ابن مكيال الامير انتاشني

من بعد ما قد كنت كالشيء اللقى(١)

__________________

١ - اللقى: الشيء المطروح.

١٤٢

ومذ وفى لي بالذي له ضمن

وخصني بما به قلبي أمن

قلت أبو السبطين بالوفا قمن

ومد ضبعي أبوالعباس من

بعد انقباض الذرع والباع الوزي(١)

ذاك علي المرتضى عقد الولا

وصنو طه المرتضى خير الملا

ذاك الذي رام المعالي فعلا

ذاك الذي لا زال يسمو للعلا

بفعله حتى علا فوق العلا

ومذ علا بالرغم من حسوده

لو كان يرقى أحد بجوده

قلت وحق القول من ودوده

بجوده الموفى على وفوده

ومجده الى السماء لارتقى

فعد الى مدح الحسين والحسن

تأمن في مدحهما من الزمن

وقل اذا ما فزت منهما بمن

نفسي الفداء لأميري ومن

تحت السماء لأميري الفدا

وقال يمدح الامام (ع):

أقول لمقتعد اليعملات

يلف الوعوث على السجسج

أنخها على ذكوات الغري

وفي باب حيدرة عرج

على أسد الغاب بحر الرغاب

مغيث السغاب سرور الشجى

وصي الرسول وزوج البتول

ومعطي السؤل الى المرتجي

أبي الحسنين وطلق اليدين

اذا العام ضاق ولم يفرج

وقل يا يد الله في الكائنات

ويا وجهه في الظلال الدجي

سلام عليك بصوت رقيق

من الخطب والكرب لم يفرج

أتيتك ملتجأ منهما

لأنك أنت حمى الملتجي

وجئت وايقنت أن يصدرا

طريدين عني مهما أجي

فمثلك من كف عني الهموم

وألحب في أعيني منهجي(٢)

__________________

١ - الوزى بالفتح: القصير.

٢ - عن الحالي والعاطل.

١٤٣

الحاج جواد بدقت

المتوفى ١٢٨١

الحاج جواد بدكت قال في الحسين (ع):

بواعث اني للغرام مؤازر

رسوم بأعلا الرقمتين دوائر

يعاقب فيها للجديدين وارد

اذا انفك عنها للجديدين صادر

ذكرت بها الشوق القديم بخاطر

به كل آن طارق الشوق خاطر

وان لم تراع للوداد أوائلا

فما لك في دعوى الوداد أواخر

وتلك التي لو لم تهم بمهجتي

لما أنبأت أن اللحاظ سواحر

لحاظ كألحاظ المهى أن أتيتها

فواتك الا أن تلك فواتر

وجيد يريك الظبي عند التفاتها

هي الظبي ما بين الكثيبين نافر

تحملت حتى ضاق ذرعا تحملي

ومل اصطباري عظم ما أناصابر

عدمتك فاقلع عن ملائمة الهوى

ألم يعتبر بالأولين الاواخر

أهل جاء أن ذو صبوة نال طائلا

وان جاء فاعلم ان تلك نوادر

فان شئت ان توري بقلبك جذوة

يصاعدها ما بين جنبيك ساجر

فبادر على رغم المسرة فادحا

عظيما له قلب الوجودين ذاعر

غداة أبو السجاد والموت باسط

موارد لا تلفى لهن مصادر

أطل على وجه العراق بفتية

تناهت بهم للفرقدين الاواصر

فطاف بهم والجيش تأكله القنا

وتعبث فيه الماضيات البواتر

على معرك قد زلزل الكون هوله

وأحجمن عنه الضاريات الخوادر

١٤٤

يزلزلن أعلام المنايا بمثلها

فتقضي بهول الاولين الاواخر

وينقض أركان المقادير بالقنا

امام على نقض المقادير قادر

أمستنزل الاقدار من ملكوتها

فكيف جرت فيما لقيت المقادر

وان اضطرابي كيف يصرعك القضا

وان القضا انفاذ ما أنت آمر

أطل على وجه المعالم موهن

وبادر أرجاء العوالم بادر

بأن ابن بنت الوحي قد أجهزت به

معاشر تنميها الاماء العواهر

فما كان يرسو الدهر في خلدي بأن

تدور على قطب النظام الدوائر

وتلك الرفيعات الحجاب عواثر

بأذيالها بل انما الدهر عاثر

تجلى بها نور الجلال الى الورى

على هيئة لا أنهن حواسر

يطوف على وجه البراقع نورها

فيحسب راء أنهن سوافر

وهب انها مزوية عن حجابها

وقاهرها عن لطمة الخدر قاهر

فماذا يهيهن البدر وهو بأفقه

بأن الورى كل الى البدر ناظر

ولكن عناها حين وافت حميها

رأته صريعا فوقه النقع ثائر

فطورا تواريه العوادي وتارة

تشاكل فيه الماضيات البواتر

فيا محكم الكونين أو هي احتكامها

بأنك ما بين الفريقين عافر

وانك للجرد الضوامير حلبة

الا عقرت من دون ذاك الضوامر

ألست الذي أوردتها مورد الردى

فيا ليتها ضاقت عليها المصادر

فيا ليت صدري دون صدرك موطأ

ويا ليت خدي دون خدك عافر

* * *

١٤٥

هو الحاج جواد ابن الحاج محمد حسين الاسدي الحائري - الشهير بـ ( بذقت ) أو بذكت(١) . ولد بكربلاء عام ١٢١٠ هـ وتوفي سنة ١٢٨١ بكربلاء ودفن فيها.

كان فاضلا أديبا مشهور المحبة لاهل البيتعليهم‌السلام من مشاهير شعراء القرن الثالث عشر وديوانه لا يزال مخطوطا وفيه قصائد عامرة، وقد ساجل جملة من شعراء عصره نخص بالذكر منهم الشيخ صالح الكواز فلقد ذكر الشيخ اليعقوبي في ( البابليات ) ان الكواز زار شاعرنا المترجم له فرأى عنده عبدا له اسمه ( ياقوت ) وهو يضجر من رمد في عينيه فقال الكواز:

ألا ان ياقوتا يصوت معلنا

غداة غدت عيناه ياقوته حمرا

فأجابه الحاج جواد مرتجلا:

وقد صير الرحمن عينيه هكذا

لأني اذا أدعوه ينظرني شزرا

نظم الحاج جواد في مختلف أبواب الشعر فأجاد وأبدع فمن روائعه قوله مخمسا:

قلت لصحبي حين زاد الظما

واشتد بي الشوق لورد اللمى

متى أرى المغنى وتلك الدمى

قالوا غدا تأتي ديار الحمى

وينزل الركب بمغناهم

هم سادة قد أجزلوا بذلهم

لمن أتاهم راجيا فضلهم

فمن عصاهم لم ينل وصلهم

وكل من كان مطيعا لهم

أصبح مسرورا بلقياهم

__________________

١ - وبذقت لقب جدهم الحاج مهدي، أراد أن يقول عن الشمس بزغت فقال لتمتمة فيه: بذقت.

١٤٦

قد لامني صحبي على غفلتي

اذ نظرت غيرهم مقلتي

فما أطالوا اللوم في زلتي

قلت فلي ذنب فما حيلتي

بأي وجه أتلقاهم

يا قوم اني عبد احسانهم

ولم أزل أدعى بسلمانهم

فاليوم هل أحظى بغفرانهم

قالوا أليس العفو من شانهم

لا سيما عمن تولاهم

جعلت زادي في السرى ودهم

وموردي في نيتي وردهم

وقلت هم لم يخجلوا عبدهم

فحين ألقيت العصا عندهم

واكتحل الطرف بمرءآهم

لم أر فيهم ما تحذرته

بل لاح بشر كنت بشرته

كأنما فيما تفكرته

كل قبيح كنت أحرزته

حسنه حسن سجايايهم

ومن شعره قوله مقرضا تخميس الشيخ موسى ابن الشيخ شريف محي الدين لمقصورة ابن دريد:

أي آي أبديتها في القوافي

قد هوت سجدا لها الشعراء

ان هوت سجدا فغير غريب

أنت موسى وهي اليد البيضاء

وله ايضا في تقريضه:

لقد كفرت بالشعر قوم وقد قضى

علينا الردى حزنا عليه وتبئيسا

فأحييتنا فيما نظمت فآمنوا

فكنت لنا عيسى وكنت لهم موسى

وللشاعر ملحمة كبيرة يمدح بها الامام أمير المؤمنين علياعليه‌السلام نظمها فصولا على عدد حروف الهجاء رأيت أكثرها في مخطوط العلامة المرحوم الشيخ علي كاشف الغطاء المسمى بـ

١٤٧

( سمير الحاظر وأنيس المسافر ) ج ٣ ص ٣٢٥ قال: وقد نقلتها من نسخة بخطه وهي مسودة ومبيضة لا ثاني لها. أقول ورأيت هذه الروضة في مجموعة بمكتبة كاشف الغطاء العامة قسم المخطوطات - رقم ٨٧٢ وهي التي أشار اليها الشيخ.

وكتب عنه صديقنا السيد سليمان هادي الطعمة فقال: ان الديوان يشتمل على جوانب انسانية ووطنية وله ملحمة رائعة يمتدح بها أهل البيتعليهم‌السلام جارى بها ملحمة الشيخ كاظم الازري المسماة بـ ( الازرية ) عدد أبياتها ١٢٦٥ بيتا. أقول ويحتفظ بنسخة منها آل الرشتي بكربلاء ومطلعها:

أهي الشمس في سماء علاها

أخذت كل وجهة بسناها

طرق أبواب الشعر فأسمع كل حي وفتح له الشعر أبوابه وأحسن به ترحابه فها هو يصف جلسة اختلسها من الزمان بين أحباب واخوان ولعلها بمناسبة زفاف السيد أحمد الرشتي عام ١٢٧٩:

هي والراح أسفرا اسفارا

فأعاد ليل الندامى نهارا

أشرقا حين لاصحاب فيحمي

عن تعاطى اجتلاهما الابصارا

هي عاطتهم لماها ولما

أسكرتهم به سقتهم عقارا

تتهاوى فيهم فتحسبهم منها

سكارى وما هم بسكارى

كلما رنحت لهم عطفها هاجوا

ارتياحا وأزعجوا الاوتارا

بينهم من بني النصارى طروب

ضل فيها احكام دين النصارى

سلبت رشده وقد كسر الناقوس

هجرا وقطع الزنارا

١٤٨

ومن شعره في رثاء الامام الحسين (ع):

شجتك الضعائن لا الاربع

وسال فؤادك لا الادمع

ولو لم يذب قلبك الاشتياق

فمن أين يسترسل المدمع

توسمتها دمنة بلقعا

فما أنت والدمنة البلقع

تعاتبها وهي لا ترعوي

وتسألها وهي لا تسمع

فعدت تروم سبيل السلو

وسهمك طاش به المنزع

خذوه بألسنة العاذلين

فقد عاد في سلوة يطمع

تجاهلت حين طلب السلو

علام قد انضمت الاضلع

هل ارتعت من وقفة الاجرعين

فأمسيت من صابها تجرع

فأينك من موقف بالطفوف

يحط له الفلك الارفع

بملمومة حار فيها القضاء

وطاش بها البطل الانزع

فما اقلعت دون قتل الحسين

فيا ليتها الدهر لا تقلع

اذا ميز الشمر رأس الحسين

أيجمعها للعلا مجمع

فيا ابن الذي شرع المكرمات

والا فليس لها مشرع

بكم أنزل الله ام الكتاب

وفي نشر آلائكم يصدع

أوجهك يخضبه المشرفي

وصدرك فيه القنا تشرع

وتعدو على صدرك الصافنات

وعلم الاله به مودع

وينقع منك غليل السيوف

وان غليلك لا ينقع

ويقضي عليك الردى مصرعا

وكيف القضا بالردى يصرع

بنفسي ويا ليتها قدمت

وأحرزها دونك المصرع

ويا ليته استبدل الخافقين

وأيسر ما كان لو يقنع

لقد أوقعوا بك يابن النبي

عزيز على الدين ما أوقعوا

وخوص متى نسفت مربعا

تلقفها بعده مربع

لقد أوقروها بنات النبي

فهل بعدها جلل أسفع

١٤٩

خريم يغار عليها الاله

بمن أرقلوا وبمن جعجعوا

أتدري حدات مطياتها

وأملاكه عندها تخضع

يلاحظها في السبا أغلف

ويحدو بها في السرى أكوع

يطارحن بالنوح ورق الحمام

فهذي تنوح وذي تسجع

لسهم الزفير بأكبادها

الى أن تكاد به تنزع

تسير وتخفي لفرط الحيا

جواها ويعربه المدمع

وللحاج جواد بذكت:

فوق الحمولة لؤلؤ مكنون

زعم العواذل انهن ضعون

لم لقبوها بالظعون وانها

غرف الجنان بهن حور عين

يا ايها الرشأ الذي سميته

قمر السماء وانه لقمين

اني بمن أهواه مفتون وذاك

بأن يؤنب بالهوى مفتون

مهما نظرت وانت مرآة الهوى

بك بان لي ما لا يكاد يبين

لم تجر ذكرى نير وصفاته

الا ذكرتك والحديث شجون

ومنها:

يا قلب ما هذي شعار متيم

ولعل حال بني الغرام فنون

خفض فخطبك غير طارقة الهوى

ان الهوى عما لقيت يهون

ما برحت بك غير ذكرى كربلا

فاذا قضيت بها فذاك يقين

ورد ابن فاطمة المنون على ظما

ان كنت تأسف فلتردك منون

ودع الحنين فانها العظمى فلا

تأتي عليها حسرة وحنين

ظهرت لها في كل شيء آية

كبرى فكاد بها الفناء يحين

بكت السماء دما ولم تبرد به

كبد ولو ان النجوم عيون

ندبت لها الرسل الكرام وندبها

عن ذي المعارج فيهم مسنون

فبعين نوح سال ما اربى على

ماسار فيه فلكه المشحون

١٥٠

وبقلب ابراهيم ما بردت له ـ

ما سجر النمرود وهو كمين

ولقد هوى صعقا لذكر حديثها

موسى وهون ما لقى هارون

واختار يحيى ان يطاف برأسه

وله التأسي بالحسين يكون

وأشد مما ناب كل مكون

من قال قلب محمد محزون

فحراك تيم بالضلالة بعده

للحشر لا يأتي عليه سكون

عقدت بيثرب بيعة قضيت بها

للشرك منه بعد ذاك ديون

برقي منبره رقي في كربلا

صدر وضرج بالدماء جبين

لولا سقوط جنين فاطمة لما

أودى لها في كربلاء جنين

وبكسر ذاك الضلع رضت أضلع

في طيها سر الاله مصون

وكذا على قوده بنجاده

فله علي بالوثاق قرين

وكما لفاطم رنة من خلفه

لبناتها خلف العليل رنين

وبزجرها بسياط قنفذ وشحت

بالطف من زجر لهن متون

وبقطعهم تلك الاراكة دونها

قطعت يد في كربلا ووتين

لكنما حمل الرؤوس على القنا

أدهى وان سبقت به صفين

كل كتاب الله لكن صامت

هذا وهذا ناطق ومبين(١)

__________________

١ - عن ( رياض المدح والرثاء ) للشيخ حسين آل سليمان البلادي البحراني من منشورات المكتبة العربية ومطبعتها مطبعة الاداب - النجف الاشرف.

١٥١

الشيخ صالح بن طعان

المتوفى ١٢٨١

فآه واندمى من فوت نصرته

وغير مجد على مافات، واندمي

والظاهرات من الاستار حين وعت

صوت الجواد أتاها قاصد الخيم

توجهت نحوه تلقاء سيدها

اذا به من على ظهر الجواد رمي

فصرن كالمتمنى اذ يرى فلقا

من الصباح فلما ان رآه عمي

لهفي لهن من الاستار بارزة

ما بين رجس وأفاك ومغتشم

عواثرا في ذيول ما تطرقها

ريب ولا سحبت في مسحب أثم

تخال في صفحات الخد أدمعها

كالدر ما بين منثور ومنتظم

كل تلوذ بأخرى خوف آسرها

لوذ القطا خوف بأس الباشق الضخم

حتى اذا صرن في أسر العداة وقد

ركبن فوق ظهور الانيق الرسم

مروا بهن على القتلى مطرحة

ما بين منعفر في جنب مصطلم

فمذ رأت زينب جسم الحسين على

البوغا خضيبا بدم النحر واللمم

عار اللباس قطيع الراس منخمد

الانفاس في جندل كالجمر مضطرم

ألقت ردى الصبر وانهارت هناك على

جسم الشهيد كطود خر منهدم

وقد لوت فوقه احدى اليدين على

الاخرى وتدعوه يا سؤلي ومعتصمي

١٥٢

أخي فقدتك فقدان الربيع فلا

يسلوك قلبي ولا يقلو نعاك فمي

هل كيف يجمل لي صبري ويهتف بي

بشر وانت رهين الترب والرجم

وتارة تستغيث المصطفى ولها

قلب خفوق ودمع في الخدود ودهمي

يا جد هذا أخي ما بين طائفة

قد استحلوا دماه واحتووا حرمي

يا جد أصبحت نهبا للنوائب ما

بين العدى من ظلوم لي ومهتضم

لا والد لي ولا عم ألوذ به

ولا أخ لي بقى أرجوه ذو رحم

أخي ذبيح ورحلي قد أبيح وبي

ضاق الفسيح وأطفالي بغير حمي

وابن الحسين كساه البين ثوب أسى

والسقم أبراه بري السيف للقلم

بالله يا راكب الوجنا يخد بها

بيد الفلا مدلجا بالسير لم ينم

ان جزت بالنجف الاعلا فقف كرما

بقرب قبر علي سيد الحرم

وابد الخضوع ولذ بالقبر ملتزما

واقرى السلام لخير الخلق واحترم

وانع الحسين له واقصص مصيبته

وقل له يا امام العرب والعجم

هل أنت تعلم ما نال الحسين وما

نالت ذراريك أهل المجد والكرم

أما الحسين فقد ذاق الردى وقضى

بجانب النهر لهفان الفؤاد ظمي

وصحبه أصبحوا صرعى ونسوته

أمسوا سبايا كسبي الترك والخدم

* * *

الشيخ صالح بن طعان بن ناصر بن علي الستري البحراني البركوياني المتوفى بالطاعون في مكة سنة ١٢٨١ له ديوان في المراثي لأهل البيت مطبوع في بمبي. كذا ذكر البحاثة الطهراني في الذريعة وقال:

١٥٣

رأيت رثاءه للشيخ سليمان بن أحمد بن عبد الجبار المتوفى سنة ١٢٦٢ بخط صاحب أنوار البدرين وولده الشيخ احمد بن صالح المولود سنة ١٢٥١ وله ايضا ديوان مطبوع بمبي، وتوفي سنة ١٣١٥ ذكره لنا ولده الشيخ محمد صالح بن احمد بن صالح ابن طعان المذكور قبل وفاته ١٣٣٣.

وجاء في ( الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة ) للشيخ الطهراني:

الشيخ صالح بن طعان عالم فاضل وفقيه بارع، وقال: أثنى صاحب ( انوار البدرين في أحوال علماء الاحساء والقطيف والبحرين ) على علمه وصلاحه، وكان من العلماء العاملين الورعين، وله آثار كثيرة منها ( تسلية الحزين ) وله ( ديوان المراثي ) طبع.

١٥٤

الشيخ محمد علي كمونة

المتوفى ١٢٨٢

الشيخ محمد علي كمونة مفخرة الامجاد وسلالة الاسخياء الاجواد نشأ في بيت الزعامة والرئاسة والوجاهة كان ولم يزل هذا البيت محط رحال الوفاد ومنتدى العلم والادب وله الشرف والرفعة والمكانة السامية لدى أهالي كربلاء وكانت بيدهم سدانة الحرم المطهر الحسيني من ذي قبل. نشأ شاعرنا نشأة علمية دينية أدبية، نظم فأجاد وبرع حتى فاق أقرانه ولانه يتحدر من الاسرة العربية الشهيرة وهم بنو أسد الذين نالوا الشرف بمواراة جسد الحسينعليه‌السلام فهو لازال يفتخر بهم ولأن عددا غير قليل منهم نالوا السعادة وحصلوا الشهادة يوم عاشوراء بين يدي أبي عبدالله الحسين سيد شباب أهل الجنة فهو يتمنى أن يكون معهم ويغبطهم على هذه المنزلة فيقول:

فواحزني ان لم أكن يوم كربلا

قتيلا ولم أبلغ هناك مأربي

__________________

١ - والقصيدة تناهز الستين بيتا وأولها:

أعدها أخا المسرى لقطع السباسب

مهجنة من يعملات نجائب

١٥٥

فان غبت عن يوم الحسين فلم تغب

بنو أسد أسد الهياج أقاربي

وقد جمع بعض أحفاده شعره في مجموعة سماها ( اللئالئ المكنونة في منظومات ابن كمونة ) ويقع في خمسة آلاف بيت.

جاء في ( الحصون المنيعة ) للشيخ علي كاشف الغطاء ما نصه: الحاج محمد علي الشهير بكمونة كان شاعرا بليغا أديبا لبيبا فصيحا آنست الناس أشعاره الرائقة وأسكرتهم بمعانيها ومبانيها الفائقة، درة صدف الادب والمعالي والعاقمة عن مثله أمهات الليالي، قد شاهدته أيام صباي في كربلاء زمن توقفي فيها واجتمعت معه كثيرا واقتطفت من ثمار افاداته يسيرا وقد ناهز عمره الثمانين من السنين، وعرضت أول نظمي عليه، وكان رجلا طوالا ذا شيبة بيضاء مهيبا شهما غيورا وكان قليل النظم وأكثر شعره في مدح الامام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان معاونا لأخويه الحاج مهدي والشيخ محمد حسن في تولية خدمة مرقد أبي عبدالله الحسين وسدانة هذه العتبة المقدسة.

توفي في شهر جمادي الاخرة ليلة الاحد سنة ١٢٨٢ بمرض الوباء في كربلاء ودفن مع أخيه الحاج مهدي في مقبرتهم المعدة لهم في الحائر الحسيني تجاه قبور الشهداء. أقول وفي سنة ١٣٦٧ هـ ١٩٤٨ م قام الاديب المعاصر محمد كاظم الطريحي بجمع ديوانه والتعليق عليه ونشره بمطبعة دار النشر والتأليف بالنجف الاشرف.

١٥٦

جاء في احدى قصائده الحسينية:

متى فلك الحادثات استدارا

فغادر كل حشى مستطارا

كيوم الحسين ونار الوغى

تصعد للفرقدين الشرارا

فلم تر الا شهابا ورى

وشهما بفيض النجيع توارى

فعاد ابن أزكى الورى محتدا

وأمنع كل البرايا جوارا

تجول على جسمه الصافنات

وتكسوه من نقعها ما استثارا

وقالرحمه‌الله في رأس الامام الحسين يوم طيف به على رمح:

رأس وقد بان عن جسم وطاف على

رمح وترتيله القرآن ما بانا

رأس ترى طلعة الهادي البشير به

كأنما رفعوه عنه عنوانا

تنبي البرية سيماه وبهجته

بأن خير البرايا هكذا كانا

يسري ومن خلفه الاقتاب موقرة

أسرى يجاب بها سهلا وأحزانا

وله رائعة غراء في سيدنا أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أولها:

نبت بالذي رام المعالي صوارمه

اذا ما حكتها بالفضاء عزائمه

وله القصيدة الشهيرة التي يصف فيها بطولة شهداء كربلاء ومنها:

أراه وأمواج الهياج تلاطمت

يعوم بها مستأنسا باسما ثغرا

ولو لم يكفكفه عن الفتك حلمه

لعفى ديار الشرك واستأصل الكفرا

١٥٧

ولما تجلى الله جل جلاله

له خر تعظيما له ساجدا شكرا

هوى وهو طود والمواضي كأنها

نسور أبت الا مناكبه وكرا

هوى هيكل التوحيد فالشرك بعده

طغى غمره والناس في غمرة سكرى

وأعظم بخطب زعزع العرش وانحنى

له الفلك الدوار محدودبا ظهرا

غداة أراق الشمر من نحره دما

له انبجست عين السما أدمعا جمرا

وان أنس لا أنسى العوادي عواديا

ترض القرى من مصدر العلم والصدرا

ولم أنس فتيانا تنادوا لنصره

وللذب عنه عانقوا البيض والسمرا

رجال تواصوا حيث طابت أصولهم

وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا

وما كنت أدري قبل حمل رؤوسهم

بأن العوالي تحمل الانجم الزهرا

حماة حموا خدرا أبى الله هتكه

فعظمه شأنا وشرفه قدرا

فأصبح نهبا للمغاوير بعدهم

ومنه بنات المصطفى أبرزت حسرا

يقنعها بالسوط شمر فان شكت

يؤنبها زجر ويوسعها زجرا

نوائح الا أنهن ثواكل

عواطش الا أن أعينها عبرى

يصون بيمناها الحيا ماء وجهها

ويسترها ان أعوز الستر باليسرى

وله من القصائد الحسينية المنشورة في ديوانه ما هذه أوائلها:

١ - ما بال عينك بعد كشف غطائها

قذف الاسى انسانها في مائها

٤٤ بيتا

٢ - باتت تلوم على الهوى وتؤنب

وحمى شجوني بالغرام محجب

٢٩ بيتا

١٥٨

٣ - أعدها أخا المسرى لقطع السباسب

مهجنة من يعملات نجائب

٥٧ بيتا.

٤ - أصبحت آل علي في السبا

أين عنها اليوم ارباب الابا

٣١ بيتا.

٥ - ماذا على النوائب

لو جانبت جوانبي

٥٠ بيتا.

٦ - نوى ظعنا يبغي منى فالمحصبا

فأدنى اليه اليعملات وقربا

٨٨ بيتا.

٧ - دع المطايا تجوب البيد في السحر

وعج بربع أبي الضيم من مضر

٤٨ بيتا.

٨ - من ذا دهى مضر الحمرا وعدنانا

وسام أقمارها خسفا ونقصانا

٢٣ بيتا.

والشاعر كمونة لم تقتصر براعته وشاعريته على الرثاء فقط وانما طرق أبواب الشعر من غزل ونسيب وفخر وحماسة فكم له من روائع عرفانية ووجدانية تنم عن ملكة أدبية ونوادر شعرية فمن ظرفه قوله في قصيدة:

نسيم الصبا هيجت لاعج أشواقي

وألحقت بالماضي من الرمق الباقي

فيا صاحبي نجواي عوجا على الحمى

لعل به رقيا لما أعجز الراقي

فكم لي عهدا بالحمى متقادما

ذوى غصن جسمي هو ينمو بايراق

١٥٩

ويا عاذلي في حب ليلى وما عسى

تروم وميثاقي على الحب ميثاقي

وله بمدح الامام أبي السبطين الحسن والحسين:

ألام على من خصه الله في العلى

وصيره في شرب كوثره الساقي

وزين فيه العرش فانتقش اسمه

على جبهة العرش المعظم والساق

وأودع من عاداه نار جهنم

فخلد في كفار قوم وفساق

لهم من ضريع مطعم وموارد

اذا وردوها من حميم وغساق

أما انني أكثرت ذنبا وانه

سيبدل أحمالي بعفو وأوساق

غداة أرى صحفي بكفيه في الولا

ينسق منها زلتي أي نساق

وأنظر لوامي تدع الى لظى

فيسقط منساق على اثر منساق

تقصدت لفظ الساق في ذكر نعته

لأنجو اذا ما التفت الساق بالساق

ومن نوادره قوله:

عصيت هوى نفسي صغير افعند ما

دهتني الليالي بالمشيب وبالكبر

أطعت الهوى عكس القضية ليتني

خلقت كبيرا ثم عدت الى الصغر

وقال في التوكل:

الهي ما ادخرت غني لنفسي

وولدي من حطام الدهر مالا

لعلمي أنك الكافي وأني

وكلت على خزائنك العيالا

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فأخذت السمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام)، وكان صائماً في وقت شديد الحرّ، وما إن وصل السمّ إلى جوف الإمام (عليه السّلام) لاحتّى تقطّعت أمعاؤه، فالتفت (عليه السّلام) إلى الخبيثة الماكرة وقال لها:«قتلتيني قتلك الله! والله لا تصيبين منّي خلفاً، لقد غرّك - يعني معاوية -وسخر منك، يخزيك الله ويخزيه» (١) .

وأخذ ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعاني من شدّة السمّ وقسوته، وكان يتقيّأ قطعاً من الدم في طشت، فدخلت عليه شقيقته سيّدة النساء العقيلة فأمر برفع الطشت؛ لئلا ترى ما فيه فيذوب قلبها، فنظرت العقيلة إلى أخيها وهو مصفرّ الوجه، قد فتك السمّ به، فانهارت قواها، وطافت بها موجات مذهلة من الألم والحزن؛ فقد علمت أنّ أخاها سيفارقها عمّا قريب.

وأخذ الإمام (عليه السّلام) يقبّل إخوته وخلّص أصحابه، وهو يوصيهم بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وتقوى الله، والاجتناب عن معاصيه. واشتدّت حالته، وأخذ يتلو آيات من كتاب الله العزيز، ويطلب من الله تعالى أن يجعله في أعلى مراتب المتّقين والصالحين. ووافاه الأجل المحتوم ولسانه يلهج بذكر الله، وقد سمت روحه العظيمة إلى بارئها وهي مليئة بالآلام التي عانتها من معاوية العدوّ الماكر للإسلام.

وقام الإمام الحسين (عليه السّلام) بتجهيز جثمان أخيه، وبعد الانتهاء من مراسيم الغسل والتكفين رأى الإمام (عليه السّلام) أن يدفن أخاه بجوار جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمنعته بنو اُميّة، وقد استعانوا بعائشة؛ فقد خرجت على بغل وهي تقول: لا يُدفن الحسن بجوار جدّه أو بيتي هذه.وأومأت إلى شعر رأسها وصاحت بالهاشميّين: لا تدخلوا بيتي مَنْ لا اُحبّ.

وكادت الفتنة أن تقع وتُراق الدماء، فعدل الإمام (عليه السّلام) عن دفن أخيه بجوار جدّه، ودفنه في البقيع، وقد ذكرنا الأحداث التي رافقت دفن الإمام الحسن (عليه السّلام) في كتابنا (حياة الإمام الحسن) فلا نرى حاجة لذكرها.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣١٧.

١٨١

البيعة ليزيد (لعنه الله)

وختم معاوية حياته الملوّثة بالجرائم والموبقات بفرض ولده يزيد خليفة على المسلمين، وقد استخدم جميع الوسائل المنحطّة في جعل الخلافة في أبنائه وتحويلها إلى ملك عضوض لا محلّ فيه لأي قيمة من القيم الدينية.

وقد ورث يزيد صفات جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية من النفاق والغدر، والطيش والعداء للإسلام. يقول السيد مير علي الهندي: وكان يزيد غدّاراً كأبيه، ولكن ليس داهية مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة، وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليهما شفقة ولا عدل؛ كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذّة التي يشعر بهما وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع(١) .

لقد كان يزيد مستهتراً بعيداً عن جميع القيم الإنسانيّة، لا يحفل بما يقترفه من الموبقات والرذائل، وحسبه أنّه حفيد أبي سفيان وابن معاوية الذئب الجاهلي. ووصفه المؤرّخون بأنّه كان مُعرّى من كلّ صفة إنسانيّة، وأنّه جاهلي بما تحويه هذه الكلمة من معنى.

ومن مظاهر استهتاره ولعه بشرب الخمر، ويعزو بعض المؤرّخين سبب وفاته إلى أنّه شرب خمراً كثيراً حتّى أولد فيه انفجاراً في دماغه، ومن أنّه كان ولعاً بالقرود، فكان له فهد يجعله بين يديه ويُكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ.

وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل، فسرّ بذلك،

____________________

(١) روح الإسلام / ٢٩٦.

١٨٢

وجعل يقول:

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها = فليس عليها إن سقطت ضمانُ

فقد سبقت خيلَ الجماعة كلَّها = وخيلَ أمير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّة في حلبة السباق فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه، وأوعز إلى أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم بهذا الفقيد العزيز، ورثاه بهذه الأبيات:

كم من كرامٍ وقوم ذو محافظةٍ = جاؤوا لنا ليعزّوا في أبي قيسِ

شيخ العشيرة أمضاها و أحملها = على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ

لا يبعد الله قبراً أنت ساكنه = فيه جمالٌ وفيه لحيةُ التيسِ(١)

وشاع بين الناس ولعه بالقرود، وقد هجاه [الشاعر] ابن تنوخ بقوله:

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا = فحنّ إلى أرض القرود يزيدُ

فتبّاً لمَنْ أمسى علينا خليفةً = صحابته الأدنون منه قرودُ(٢)

وكان كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(٣) .

لقد كان يزيد عنواناً لكلّ رذيلة وموبقة، وهو أخبث إنسان على وجه الأرض، وأصبح علماً للانحطاط الخُلقي والظلم الاجتماعي، وحيث ما ذكر اسمه فإنّه مثال للفساد والاستبداد، والتهتك والخلاعة، وقد ذكرنا المزيد من صفاته ونزعاته في كتابنا (حياة الإمام الحسين).

____________________

(١) جواهر المطالب لمناقب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) / ١٤٣.

(٢) أنساب الأشراف ٢ / ٢.

(٣) الفخري / ٤٥.

١٨٣

١٨٤

الحكم الأسود

وخيّم على العالم الإسلامي حكم إرهابي عنيف لا يخضع لعرف ولا لقانون، ولا يستجيب لأيّة عاطفة إنسانيّة، شعاره الظلم والاستبداد واللامبالاة. هذا هو السمت الظاهر والواقع لحكم يزيد بن معاوية الذي بُلي به المسلمون، وامتحنوا امتحاناً عسيراً.

لقد عانت عقيلة بني هاشم السيّدة زينب في عهد هذا الطاغية أشقّ وأقسى ألوان المصائب والكوارث، كما تعرّضت الاُسرة النبويّة إلى الإبادة الشاملة؛ فقد جُزروا كالأضاحي، ومثّلت الجيوش الاُمويّة أشرّ تمثيل بأجسامهم الطاهرة.

كلّ ذلك كان بمرأى من حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فذابت نفسها أسى وحسرات، ولم تقتصر محنتها على ذلك، وإنّما تعدّت إلى ما هو أقسى وأشجّ؛ فقد سُبيت مع عقائل الوحي ومخدّرات الرسالة، يُطاف بهنّ من بلد إلى بلد، فتارة يمثلنَ أمام ابن مرجانة، واُخرى في مجلس يزيد، فلم تبقَ محنة من محن الدنيا، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في عهد هذا الطاغية الأثيم.

وعلى أيّ حال، فقد تسلّم يزيد بعد هلاك أبيه قيادة الدولة الإسلاميّة وهو في غضارة العمر وريعان الشباب، لم تصقله التجارب، ولم تُهذّبه الأيام، قد استسلم لشهواته وملذّاته التي كان البارز منها سفك الدماء، وإشاعة الفزع والخوف بين الناس.

ولم يكن الطاغية حينما وافت المنية أباه في دمشق، وإنّما كان في رحلات

١٨٥

الصيف في حوارين الثنية، فأرسل إليه الضحّاك بن قيس رسالة يعزّيه فيها بوفاة أبيه، ويهنّئه بالخلافة، ويطلب منه الإسراع إلى عاصمته يتولّى شؤون الحكم، وحينما انتهت إليه الرسالة أسرع نحو عاصمته، ومعه أخواله وبنو اُميّة، والمغنّون والعابثون من أصحابه، وقد شعث في الطريق، فأقبل الناس يسلّمون عليه ويعزّونه، وقد عابوا عليه ما هو فيه، فانتقدوه وقالوا: هذا الأعرابي الذي ولاّه معاوية أمر الناس، والله سائل عنه(١) .

ومضى صوب قبر أبيه فجلس عنده وهو باكي العين، وأنشأ يقول:

جاءَ البريدُ بقرطاسٍ يخبّ به = فأوجسَ القلبُ من قرطاسهِ فزعا

قلنا لكَ الويل ماذا في كتابكمُ = قالَ الخليفَ أمسى مدنفاً وجعا(٢)

ثمّ سار نحو القبّة الخضراء في موكب رسمي تحفّ به بنو اُميّة وأخواله وشرطته.

خطابه في أهل الشام

وخطب يزيد في أهل الشام خطاباً أعلن فيه عن عزمه على خوض حرب مدمّرة مع أهل العراق، جاء فيه: يا أهل الشام، فإنّ الخير لم يزل فيكم، وسيكون بيني وبين أهل العراق حرب شديدة، وقد رأيت في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً، وجعلت أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر فلم أقدر على ذلك، حتّى جاءني عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.

وانبرى أهل الشام فأعلنوا دعمهم الكامل له قائلين:

____________________

(١) تاريخ الإسلام - الذهبي ١ / ٢٦٧.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٦.

١٨٦

يا أمير المؤمنين، امض بنا حيث شئت، وأقدم بنا على مَنْ أحببت، فنحن بين يديك، وسيوفنا تعرفها أهل العراق في يوم صفّين.

وشكرهم يزيد على ولائهم، وأثنى على إخلاصهم(١) .

وقد كشف خطابه عن تصميمه على حرب أهل العراق؛ وذلك لعلمه بكراهيتهم له، وتجاوبهم الكامل مع الإمام الحسين (عليه السّلام).

مع المعارضة في يثرب

وكان يزيد يتحرّق غيظاً وغضباً على الجبهة المعارضة له في يثرب، والتي كانت لا تراه أهلاً لولاية أمير المسلمين.

أمّا أعلام المعارضة فهم:

١ - الإمام الحسين (عليه السّلام)

وهو ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته، وكان يتمتّع بنفوذ واسع النطاق في معظم الأقاليم الإسلاميّة.

٢ - عبد الله بن الزّبير

وهو من أعلام المعارضة، إلاّ أنّه لم تكن له شعبية ولم يتمتّع بصفة فاضلة، وكان يرى أنّه أفضل من يزيد وأحقّ بالبيعة والخلافة منه.

أوامره المشدّدة إلى الوليد

وأصدر الطاغية أوامره المشدّدة إلى الوليد بن عتبة عامله على يثرب بإرغام المعارضين له على أخذ البيعة منهم، فإن امتنعوا نفّذ فيهم حكم الإعدام.

وقد جاء في رسالته: إذا أتاك كتابي فاحضر الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزّبير فخذهما بالبيعة،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ٢ / ٢٤٤.

١٨٧

فإن امتنعا فاضرب [ عنقيهما ] وابعث إليّ [ برأسيهما ]، وخذ الناس بالبيعة، فمَنْ امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزّبير، والسّلام(١) .

فزع الوليد

ولمّا انتهت رسالة يزيد إلى الوليد فزع فزعاً شديداً؛ فإنّ التنكيل بالمعارضين وإنزال العقاب الصارم بهم ليس بالأمر السهل؛ فإنّ معاوية مع ما يتمتّع به من القابليات الدبلوماسية لم يستطع إرغام الإمام الحسين (عليه السّلام) على أخذ البيعة منه ليزيد، فكيف يستطيع الوليد تنفيذ ذلك.

ورأى الوليد أن يعرض الأمر على مروان - عميد الاُسرة الاُمويّة - ويستشيره في الأمر، فبعث خلفه وأطلعه على رسالة يزيد.

فقال له مروان: ابعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت منهم ذلك، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية؛ فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قِبَل لك به، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازع في هذا الأمر أحداً، مع أنّي أعلم أنّ الحسين بن عليّ لا يُجيبك إلى بيعة يزيد ولا يرى له عليه طاعة. والله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتّى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان.

وعظم ذلك على الوليد؛ فقد اختار له مروان هلاك دينه ودنياه، فقال له: يا ليت الوليد لم يولد، ولم يك شيئاً مذكوراً!

وسخر منه مروان، وراح يندّد به قائلاً: لا تجزع ممّا قلت لك؛ فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر ولم

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٥.

١٨٨

يزالوا، وهم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان، ثمّ ساروا إلى أمير المؤمنين - يعني معاوية - فحاربوه.

ونهره الوليد ونصحه قائلاً: ويحك يا مروان عن كلامك هذا! وأحسن القول في ابن فاطمة؛ فإنّه بقيّة النبوّة(١) . واتّفق رأي الوليد ومروان على استدعاء الإمام الحسين (عليه السّلام) وابن الزّبير، وعرض الأمر عليهما والنظر في رأيهما.

استدعاء الحسين (عليه السّلام)

وأرسل الوليد في منتصف الليل(٢) عبد الله بن عمرو بن عفان خلف الإمام الحسين (عليه السّلام) وابن الزّبير، ومضى الفتى يدعوهما فوجدهما في الجامع النبوي فعرض عليهما الأمر فأجاباه إلى ذلك وأمراه بالانصراف، والتفت ابن الزّبير إلى الإمام (عليه السّلام) فقال له: ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟

فأجابه الإمام:«أظنّ أنّ طاغيتهم - يعني معاوية -قد هلك، فبعث إلينا بالبيعة قبل أن يفشو بالناس الخبر» . واستصوب ابن الزّبير رأي الإمام (عليه السّلام) قائلاً: وأنا ما أظنّ غيره، فما تريد أن تصنع؟

-«أجمع فتياني في الساعة ثمّ أسير إليه، وأجلسهم على الباب» .

وانبرى ابن الزّبير يبدي مخاوفه على الإمام (عليه السّلام) قائلاً:

____________________

(١) الفتوح ٥ / ١٢ - ١٣، ذكرنا عرضاً مفصّلاً للأسباب التي دعت مروان إلى هذا الموقف مع المعارضة في كتابنا (حياة الإمام الحسين (عليه السّلام)).

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٦٠.

١٨٩

إنّي أخاف عليك إذا دخلت.

-«لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع» (١) .

واتّجه الإمام الحسين (عليه السّلام) صوب الوليد، فلمّا التقى به نعى إليه معاوية، فاسترجع الإمام (عليه السّلام) وقال له:«لماذا دعوتني؟» .

- دعوتك للبيعة.

فطلب منه الإمام تأجيل البيعة قائلاً:«إنّ مثلي لا يُبايع سرّاً، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم، فكان الأمر واحداً» .

لقد أراد الإمام (عليه السّلام) أن يعلن رأيه أمام الجماهير في رفضه البيعة ليزيد، وعرف مروان قصده، فصاح بالوليد: لئن فارقك - يعني الحسين - الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه؛ احبسه فإن بايع وإلاّ ضربت عنقه.

ووثب أبيّ الضيم كالأسد، فقال للوزغ ابن الوزغ:«يابن الزرقاء! أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت» (٢) . وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفضه الكامل لبيعة يزيد قائلاً:«أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة» (٣) .

____________________

(١)(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٤.

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٥٥.

١٩٠

وكان هذا أوّل إعلان من الإمام الحسين (عليه السّلام) بعد هلاك معاوية في رفضه البيعة ليزيد.

لقد أعلن ذلك في بيت الإمارة من دون مبالاة ولا خوف من السلطة، كيف يبايع حفيد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يزيد الفاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحرّمة؟

ولو بايعه فأقرّه إماماً على المسلمين، عرّض العقيدة الإسلاميّة إلى الانهيار والدمار، وعصف بها في متاهات سحيقة من محامل هذه الحياة.

واستاء مروان من موقف الإمام (عليه السّلام)، ووجّه لوماً وعتاباً إلى الوليد قائلاً: عصيتني! لا والله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً.

وردّ عليه الوليد ببالغ الحجّة قائلاً: ويحك يا مروان! أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي. والله ما أحبّ أن أملك الدنيا بأسرها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أأقتل حسيناً أن قال: لا أُبايع؟! والله ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان، لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكّيه، وله عذاب أليم.

وسخر منه مروان وراح يقول: إذا كان هذا رأيك فقد أصبت(١) .

مغادرة الإمام (عليه السّلام) يثرب

وعزم الإمام (عليه السّلام) على مغادرة يثرب ليلوذ بالبيت الحرام، وينشر دعوته فيه.

وداعه لقبر جدّه (صلّى الله عليه وآله)

وخفّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى قبر جدّه وهو حزين كئيب، يشكو إلى الله ما ألمّ به من الخطوب قائلاً:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٠.

١٩١

«اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وأنا ابن بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهمّ إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضاً، ولرسولك رضاً» (١) .

ويُلمس في هذا الدعاء مدى انقطاعه الكامل إلى الله تعالى، وحبّه العارم إلى إقامة المعروف وتدمير الباطل، وهو يسأل الله بلهفة أن يختار له الصالح في دينه ودنياه.

وتوجّه الإمام (عليه السّلام) في غلس الليل البهيم إلى قبر اُمّه سيّدة نساء العالمين فودّعها الوداع الأخير، ووقف قبال قبرها الشريف، وتمثّلت أمامه ذكريات عواطفها الفيّاضة وشدّة حنوّها عليه فانفجر بالبكاء، وذابت نفسه أسى وحسرات، ثم ودّع القبر وداعاً حارّاً وانصرف إلى مرقد أخيه الزكي الإمام أبي محمّد (عليه السّلام)، فأخذ يروي ثراه بدموع عينيه، وقد طافت به الآلام، ثمّ قفل راجعاً إلى منزله.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٢٥٩.

١٩٢

إلى مكّة

وبعدما أعلن الإمام (عليه السّلام) رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب والتوجّه إلى مكة المشرّفة ليبثّ دعوته فيها، وقد دعا العقيلة اُخته السيدة زينب (عليها السّلام) وعرّفها بعزمه وما سيجري عليه من الأحداث، وطلب منها أن تشاركه في محنته فاستجابت له، وصمّمت على مساعدته في نهضته وثورته التي يقيم فيها الحقّ ويدحر الباطل، كما دعا أولاده وزوجاته، وإخوته وبني عمومته إلى مصاحبته، فلبّوا جميعاً ولم يتخلّف منهم أحد إلاّ لعذر قاهر.

ولمّا أصبحوا جاء الموالي بالإبل فحملوا عليها الخيام وأدوات المياه والأرزاق وغيرها، وأعدّوها للسفر، وخرجت حفيدة الرسول السيدة زينب تجرّ أذيالها ونفسها مترعة بالهموم والآلام، وقد أحاطت بها جواريها، وكان إلى جانبها أخوها أبو الفضل العباس قمر بني هاشم، فكان هو الذي يتولّى رعايتها وخدماتها، وقد مُلئت نفسه إجلالاً وإكباراً وولاءً لها.

واستقلّت الإبل بعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وحدا بهم الحادي إلى مكّة المكرّمة، وقد خيّم الحزن والأسى على المدنيّين حينما رأوا آل النبي (صلّى الله عليه وآله) قد نزحوا عنهم إلى غير مئاب.

وكان سيد الشهداء (عليه السّلام) يتلو في طريقه قوله تعالى:( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) .

____________________

(١) سورة القصص / ٢١.

١٩٣

لقد شبّه خروجه بخروج نبي الله موسى بن عمران على فرعون زمانه، وكذلك هو خرج على طاغية عصره حفيد أبي سفيان ليقيم الحقّ وينشر العدل بين الناس، وسلك (عليه السّلام) في سفره الطريق العام من دون أن يتجنّب عنه كما فعل ابن الزّبير مخافة أن يدركه الطلب من قبل السلطة في يثرب، فامتنع وأجاب:«لا والله لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة، أو يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى» .

لقد رضي بما كتب الله وقدّر له، لم تضعف همّته ولم توهن عزيمته، ولم يبالِ بالأحداث المروعة التي سيواجهها، وكان يتمثّل في أثناء مسيرته بشعر يزيد بن المفرغ:

لا ذعرتُ السوام في فلق الصب = -حِ مُغيراً ولا دعيت يزيدا

يوم اُعطى مخافة الموت ضيماً = والمنايا ترصدنني أن أحيدا(١)

لقد كان على ثقة أنّ المنايا ترصده لا تحيد عنه ما دام مصمّماً على عزمه الجبّار في أن يعيش عزيزاً ولا يخضع لحكم يزيد.

احتفاف الحجاج والمعتمرين بالإمام (عليه السّلام)

وانتهى الإمام (عليه السّلام) إلى مكة المكرّمة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان(٢) ، وقد حطّ رحله في دار العباس بن عبد المطلب(٣) ، وقد استقبله المكّيون استقبالاً حافلاً، وجعلوا يختلفون إليه بكرةً وعشيةً وهم يسألونه عن أحكام دينهم، كما يسألونه عن موقفه تجاه الحكم القائم.

____________________

(١) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٠.

(٣) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨.

١٩٤

وأخذ القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجاج والمعتمرين يختلفون إليه ويطوفون حوله، ويتبرّكون بتقبيل يده ويلتمسون منه العلم والحديث، ولم يترك الإمام لحظة واحدة من الوقت تمرّ دون أن يبثّ الوعي الاجتماعي والسياسي في نفوس القادمين إلى بيت الله الحرام، ويدعوهم إلى اليقظة والحذر من الحكم الاُموي الهادف إلى استعباد المسلمين وإذلالهم.

فزع السلطة المحلّيّة

وفزعت السلطة المحلية في مكة من قدوم الإمام (عليه السّلام)، وخافت أن يتّخذها مقرّاً سياسياً لدعوته ومنطلقاً لإعلان الثورة على حكومة يزيد، وقد خفّ حاكم مكة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمام (عليه السّلام)، وقال له: ما أقدمك؟

-«عائذاً بالله وبهذا البيت» (١) .

لقد جاء الإمام (عليه السّلام) إلى مكة عائذاً ببيت الله الحرام الذي مَنْ دخله كان آمناً من كلّ ظلم واعتداء. ولم يحفل الأشدق بكلام الإمام (عليه السّلام)، وإنّما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة واختلاف الناس إليه، وازدحامهم على مجلسه، وإجماعهم على تعظيمه، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على الدولة الاُمويّة.

واضطرب يزيد حينما وافته رسالة عامله الأشدق، فرفع إلى ابن عباس رسالة يُمنّي فيها الإمام الحسين (عليه السّلام) بالسلامة إن استجاب لبيعته، ويتهدّده إن لم يستجب لذلك.

وقد أجابه ابن عباس: أنّ الحسين إنّما نزح عن يثرب لمضايقة السلطة المحلّيّة له، كما وعده أن يلقى الإمام ويعرض عليه ما طلبه منه، وقد ذكرنا ذلك في (حياة الإمام الحسين - نصّ رسالة يزيد وجواب ابن عباس).

____________________

(١) انظر تذكرة الخواصّ / ٢٤٨.

١٩٥

إعلان التمرّد في العراق

وبعدما هلك معاوية أعلن العراقيون رفضهم لبيعة يزيد وخلعهم لطاعته، فكانت أندية الكوفة تعجّ بمساوئ معاوية وابنه الخليع يزيد، وذهب المستشرق (كريمر) إلى أنّ الأخيار والصلحاء من الشيعة ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الإسلام(١) .

وعلى أيّ حال، فإنّ أهل الكوفة لم يرضوا بحكم يزيد وأجمعوا على خلع بيعته، وقد عقدت الشيعة مؤتمراً عاماً في بيت سليمان بن صرد الخزاعي، وهو من أكابر زعمائهم، وألقوا الخطب الحماسية التي أظهرت مساوئ الاُمويِّين وما اقترفوه من الظلم والجور ضدّ شيعة أهل البيت، ودعوا إلى البيعة للإمام الحسين (عليه السّلام).

وكان من جملة الخطباء سليمان بن صرد، وقد جاء في خطابه: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد قبض على القوم بيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.

وتعالت أصواتهم من كلّ جانب، وهم يقولون بحماس بالغ: نقتل أنفسنا دونه، نقاتل عدوّه. وأظهروا بالإجماع دعمهم الكامل للحسين (عليه السّلام)، ورغبتهم الملحّة في نصرته والدفاع عنه، وأجمعوا على إرسال وفد إليه يدعونه للقدوم إليهم.

وفود أهل الكوفة للإمام (عليه السّلام)

وأرسلت الكوفة وفوداً متعدّدة إلى الإمام (عليه السّلام) يدعونه إلى القدوم إلى مصرهم؛ لينقذهم

____________________

(١) العقيدة والشريعة في الإسلام / ٦٩.

١٩٦

من ظلم الاُمويِّين وجورهم، ويعلنون دعمهم الكامل له، وكان من بين الوافدين عبد الله الجدلي(١) .

رسائل أهل الكوفة

وعمد أهل الكوفة إلى كتابة جمهرة من الرسائل إلى الإمام (عليه السّلام) يحثّونه على القدوم إليهم؛ لينقذ الاُمّة من شرّ الاُمويِّين.

وكان من بين تلك الرسائل رسالة بعثها جماعة من شيعة الإمام، وجاء فيها بعد البسملة: من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجيّة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة. أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد - يعني معاوية - الذي انتزا على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود!

إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ. واعلم أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته(٢) .

كما وردت إليه رسائل من الانتهازيين وشيوخ الكوفة، كان منها ما أرسله شبث بن ربعي اليربوعي، ومحمد بن عمر التميمي، وحجّار بن أبجر العجلي، ويزيد بن الحارث الشيباني، وعزرة بن قيس الأحمسي، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وهذا نصّها:

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ٩٥.

(٢) أنساب الأشراف / ١٥٧.

١٩٧

أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام(١) ، فاقدم على جند لك مجنّدة، والسّلام عليك(٢) .

وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الأمل وازدهار الحياة، وتهيئة البلاد عسكرياً للأخذ بحقّ الإمام (عليه السّلام) ومناجزة خصومه، وقد وقّعها اُولئك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله، وكانوا في طليعة القوى العسكريّة التي زجّها ابن مرجانة لحرب الإمام (عليه السّلام).

وعلى أيّ حال، فقد توافدت الرسائل يتبع بعضها بعضاً على الإمام حتّى اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب، ووردت عليه قائمة فيها مئة وأربعة ألف اسم يعربون فيها عن نصرتهم واستعدادهم الكامل لطاعته حال ما يصل إلى مقرّهم.

ولكن بمزيد الأسف لقد انطوت تلك الصحيفة وتبدّلت الأوضاع إلى ضدّها، وإذا بالكوفة تنتظر الحسين (عليه السّلام) لتثب عليه فتريق دمه ودماء أهل بيته وأصحابه، وتسبي عياله، وهكذا شاءت المقادير ولا رادّ لأمر الله تعالى وقضائه.

إيفاد مسلم إلى العراق

وعزم الإمام (عليه السّلام) على أن يلبّي طلب أهل الكوفة ويستجيب لدعوتهم، فأوفد إليهم ممثّله العظيم ابن عمّه مسلم بن عقيل ليعرّفه باتجاهاتهم وصدق نيّاتهم، فإن رأى منهم عزيمة مصمّمة فيأخذ منهم البيعة.

وزوّده بهذه الرسالة:«من الحسين بن علي إلى مَنْ بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة، سلام عليكم. أمّا بعد، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل؛ ليعلم لي كُنه

____________________

(١) الجمام: الآبار.

(٢) أنساب الأشراف / ١٥٨ - ١٥٩.

١٩٨

أمركم، ويكتب إليّ بما يتبيّن له من اجتماعكم؛ فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله، والسّلام)) (١) .

مسلم في بيت المختار

وسار مسلم يطوي البيداء حتّى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت المختار الثقفي(٢) ، وهو من أشهر أعلام الشيعة، ومن أحبّ الناس وأنصحهم وأخلصهم للإمام الحسين (عليه السّلام).

وفتح المختار أبواب داره لمسلم، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا الشيعة لمقابلته، فهرعوا إليه من كلّ حدب وصوب وهم يظهرون له الولاء والطاعة، وكان مسلم يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين (عليه السّلام) وهم يبكون، ويبدون تعطّشهم لقدومه والتفاني في نصرتهم له؛ ليعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وينقذهم من جور الاُمويِّين وظلمهم.

البيعة للحسين (عليه السّلام)

وانهالت الشيعة على مسلم تبايع للإمام الحسين (عليه السّلام)، وكان حبيب بن مظاهر هو الذي يأخذ منهم البيعة للحسين (عليه السّلام)(٣) ، وكان عدد المبايعين أربعين ألفاً، وقيل أقلّ من ذلك(٤) .

رسالة مسلم للحسين (عليه السّلام)

وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة، وبُهر من العدد الهائل الذين بايعوا

____________________

(١) الأخبار الطوال / ٢١٠.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١٢٥، (مخطوط).

(٣) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٢ / ٣٤٧.

(٤) وفي رواية البلاذري أنّ جميع أهل الكوفة معه.

١٩٩

الحسين (عليه السّلام) فكتب له: أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً(١) ، فعجّل حين يأتيك كتابي هذا؛ فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى.

لقد حكت مسلم هذه الرسالة أنّ هناك إجماعاً عاماً على بيعة الإمام (عليه السّلام)، وتلهّفاً حارّاً لقدومه، وقد حمل الرسالة جماعة من أهل الكوفة وعليهم البطل عابس الشاكري، وعند ذلك تهيّأ الإمام الحسين (عليه السّلام) للخروج من مكة إلى العراق.

فزع يزيد

وفزع يزيد حينما وافته الأنباء من عملائه بمجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة وأخذه البيعة للإمام الحسين (عليه السّلام)، واستجابة الجماهير لبيعة الإمام.

وشعر يزيد بالخطر الذي يهدّد ملكه، فاستدعى سرجون الرومي، وكان مستودع أسرار أبيه، ومن أدهى الناس، وعرض عليه الأمر قائلاً: ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد توجّه إلى الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان - وهو والي الكوفة - ضعف وقول سيِّئ، فما ترى مَنْ استعمل على الكوفة؟

وأخذ سرجون يُطيل التأمّل حتّى توصّل إلى نتيجة حاسمة، فقال له: أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذ رأيه.

- نعم.

فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة، وقال له: هذا رأي معاوية، وقد مات، وقد أمر بهذا الكتاب(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٨.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328