أدب الطف الجزء ٧

أدب الطف17%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 328

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 328 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118342 / تحميل: 8952
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أجل ناداك لمسقطه

ولو اثاقلت لما ظفرا

لم لا واسيتك مضطهدا

لم لا سليتك مفتكرا

لم لا جاورت أنينك

منصدعا للغربة منكسرا

لم لا عالجتك معتلا

لم لا شاهدتك محتضرا

واماما فاق بلاغته

وحساما في الهيجا ذكرا

لك عهد في عنقي ما عشت

يبث مراثيك الغررا

وثراك ترصعه عيناي

عقيقا أحمر أو دررا

ولم يعقب سوى ولده السيد علي وابنته زوجة الميرزا جعفر القزويني وذكر صاحب الحصون جملة من شعره كما ذكره الشيخ المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في ( العبقات العنبرية في شعراء الجعفرية ).

فمن شعره يخاطب سلطان مسقط:

لما رماني الدهر بالنوب

الشدائد والهزاهز

وألان صعدتي التي

يعطي الجواهر بالجوائز

ودعاني الزمن الخؤن

صلبت وما لانت لغامز

قالت لي الآراء والفكر

بأهله ( هل من مبارز )

شرق وسل عن ماجد

الثواقب في الغرائز

فاذا بلغت الى ( سعيد )

في ( عمان ) فلا تجاوز

واعلم بأن أبا هلال

عن مرادك غير عاجز

يوليك ما ترجو ولا

يثنيه عنه غمز غامز

فتعود مقضي الديون

الى العراق وأنت فائز

٤١

ويجيز ما ترجو ببذل

صادق الدفعات ناجز

وهكذا انتهت حياة هذا الشريف.

وما عتبي على الدنيا ولكن

على ابل حداها غير حادي

ويحق أن أستشهد بالشعر المنسوب للامام زين العابدين علي ابن الحسين ابن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام حيث يقول:

عتبت على الدنيا فقلت الى متى

أكابد هما بؤسه ليس ينجلي

أكل شريف من علي نجاره

يكون عليه الرزق غير محلل

فقالت نعم يا بن الحسين رميتكم

بسهم عناد يوم طلقني علي

وبالوقت الذي أعتب على الزمن يحق أن أبعث بقول السيد الشريف الرضي الى سلطان مسقط حيث يقول:

أخطأت في طلبي وأخطأ في

ردي، ورد يدي بغير يد

فلا جعلن عقوبتي أبدا

أن لا أمد يدي الى أحد

فتكون أول زلة سبقت

مني وآخرها الى الابد

٤٢

محمد الصحاف

كان حيا سنة ١٢٧٠

بمدحكم الاقلام تفرح والحبر

وطرس به من حسن أوصافكم سطر

يفوز سواكم بالقوافي وانها

تفوز بكم اذ كان منكم لها فخر

فليلة قدر ليلتي بمديحكم

لاني اذا أحييتها يرفع القدر

أقول والقصيدة طويلة وكلها في رثاء سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين وقد جارى بها رائية الشيخ صالح العرندس التي تقدمت في جزء سابق مع ترجمته، والقصيدة التي نظمها شاعرنا الصحاف ذكرها الاخ البحاثة علي الخاقاني في الجزء العاشر من ( شعرا الغري ) وفي أخرها:

أنا ألقن آل الرسول محمد

سليل حسين زانه منكم النجر

عليكم صلاة الله ما نار نير

بدا في رياض زاد نوارها القطر

* * *

السيد محمد بن علي المعروف بالصحاف. ذكره المحقق الطهراني في ( الكرام البررة ) فقال: نزيل سوق الشيوخ، كان أديبا فاضلا شاعرا، رأيت تقريضه اللطيف البليغ نظما ونثرا على ارجوزة ( تحفة النساك ) من نظم الشيخ طاهر الحجامي المتوفى بسوق الشيوخ سنة ١٢٧٩ هـ وأولاده الى اليوم في سوق الشيوخ.

٤٣

عبد العزيز الجشي

وفاته ١٢٧٠

ألا هل لاجفان سهرن هجود

وهل للدموع الجاريات جمود

وهل راحل شطت به غربة النوى

فأوحشني بعد الفراق يعود

أأسهر ليلي أرقب النجم فيكم

عشاء وأنتم بالهناء رقود

وذكرني يوم انفرادي بينهم

مقاما به سبط النبي فريد

ألا بأبي أفديه فردا وقل ما

فديت ولو بالعالمين أجود

فوالهف نفسي للقتيل على ظما

وللسمر منه صادر وورود

فيا عرصات الطف أي أماجد

سموت بهم فليهنكن سعود

لئن شرفت أم القرى بالتي حوت

فأنتن فيكن الحسين شهيد

وان طاولتكن المدينة مفخرا

ففيكن أبناء وتلك جدود

فيا راكبا عيدية شأت الصبا

تساوى قريب عندها وبعيد

عداك البلا، عج هكذا متنكبا

زرودا وان ألوت هناك زرود

بني هاشم يا للحفيظة نكست

على الرغم رايات لكم وبنود

رمتكم كما شاء القضاء أمية

ففر طليق بعدها وطريد

وثارت عليكم بعد أن طال مكثها

من الرعب أوغاد لها وحقود

ودع عنك نجوى أهل مكة وارتحل

فقد عز موجود وعز وجود

ووجه لتلقاء المدينة وجهها

مشيحا ففيها عدة وعديد

ولذ بضريح المصطفى قائلا له

حسين عن الورد المباح مذود

٤٤

ألا يا رسول الله ما لك راقدا

وآلك في أرض الطفوف رقود

فخذها كما شاء الحزين شكاية

تكاد لها شم الرعان تميد

عشية ساقوهن أسرى وقيدوا

العليل فأودى بالعليل قيود

وقبل ثرى أعواد أحمد وارتحل

فأعواده حيث التنشق عود

ودعها على علاتها مستطيرة

لذا سيرها الوجاف فهي صمود

لعلي أراها بالغري مناخة

على جدث فيه الوصي وصيد

أبا حسن أنت المثير عجاجها

اذا اقترعت تحت العجاجة صيد

أغارت بقايا عبد شمس ونوفل

على الدين حتى بات وهو عميد

فيا هل تراها ان سيفك فللت

ضواربه يوم القراع جنود

وان الفتى القراض حطم صدره

ببدر وأحد عتبة ووليد

فلو كنت حيا يوم وقعة كربلا

رأت كيف تبدي حكمها وتعيد

عشية باتت من بنيك عصابة

وسايدها صلد بها وصعيد

لقى كأضاحي العيد لا عاد بعدهم

علي بلذات التنعم عيد

أترضى وانت الثاقب العزم غيرة

يلاحظها حسرى القناع يزيد

أمية كم هذا الغرور فما أتى

بمعشار عشر الفعل منك ثمود

وراءكم يوم يشيب لهوله

الرضيع فايعاد به ووعيد

قال صاحب أنوار البدرين: الشيخ عبد العزيز الجشي من شعراء القطيف الاديب الشاعر الشيخ عبد العزيز بن الحاج مهدي بن حسن بن يوسف بن محمد الجشيقدس‌سره البحراني القطيفي. كان له رحمه الله تعالى من الادب الحظ الوافر ومن الشعر والمعرفة النصيب الكامل له قصائد جيدة منها في رثاء الحسين (ع) تقرأ في المجالس الحسينية وله منظومة في الرد على النصارى ذكر فيها ما ذكره الشيخ سليمان آل عبد

٤٥

الجبار ومتضمنة للادلة التي ذكرها في الرد على النصارى جيدة حسنة وقد اشتغل في العلوم الا ان الشعر والتجارة غلبا عليه فكان بهما موسوما ولم أعلم بتاريخ وفاته ضاعف الله حسناته. انتهى. ويقول الشيخ علي منصور في شعراء القطيف: كانت وفاته سنة ١٢٧٠.

أقول وترجم له الشيخ الطهراني في ( الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة ) وسماه بـ ( السيد عبدالعزيز ) وهو خطأ مطبعي.

٤٦

السيد محمد ابو الفلفل

١٢٧١

وذوو المروة والوفا أنصاره

لهم على الجيش اللهام زئير

طهرت نفوسهم لطيب أصولها

فعناصر طابت لهم وحجور

عشقوا العنا للدفع لا عشقوا الغنا

للنفع لكن أمضي المقدور

فتمثلت لهم القصور وما بهم ـ

لو لا تمثلت القصور - قصور

ما شاقهم للموت الا دعوة الـ

رحمن لا ولدانها والحور

بذلوا النفوس لنصره حتى قضوا

والخيل تردى والعجاج يثور

فغدا ربيب المكرمات يشق تيا

ر الحروب وعزمه مسجور

يدعو ألا أين النصير وما له

غير الارامل والعليل نصير

والكل يدعو يا حسين فصبية

وعقائل ومقاتل وعفير(١)

قال البحاثة المعاصر الشيخ علي منصور المرهون في كتابه ( شعراء القطيف ) السيد محمد الفلفل المتوفى سنة ١٢٦١ تقريبا.

هو السيد الشريف السيد محمد بن السيد مال الله ابن السيد

__________________

١ - عن ( أنوار البدرين ).

٤٧

محمد المعروف بـ ( الفلفل ) أحد أهالي قرية ( التوبي ) من القطيف، نزيل كربلاء من المعاصرين للسيد كاظم الرشتي ومن المقربين اليه، ذكره صاحب الدمعة الساكبة وأثبت له القصيدة الهائية التي أولها ( خلها تدمي من السير يداها ).

وآل الفلفل موجودون من خيار السادة يفتخرون بشاعرهم هذا، أقول وروى له أبياته الشهيرة التي أولها:

وذوو المروة والوفا أنصاره

لهم على الجيش اللهام زئير

وقال: كانرحمه‌الله من الشعراء المجيدين المكثرين في مراثي الحسينعليه‌السلام وقال صاحب أنوار البدرين: لقد غلب شعره على منزلته العلمية فاشتهر بالادب. انتقل من القطيف للعراق فجاور جده الحسين « ع » حتى توافه الله، وكان شديد الرقة واراقة الدموع على مصاب جده الشهيد. نقل الشيخ علي الحمامي نائحة أهل البيت المشهور بزهده وولائه لهم قال حدثني العالم الرباني الشيخ جعفر الشوشتري، قال حدثني السيد محمد أبو الفلفل القطيفي قال: رأيت في المنام ليلة من الليالي كأن امرأة عليها آثار الهيبة والوقار قد جلست على غدير ماء وهي تئن وتبكي وبيدها قميص مضمخ بالدم تغسله وهي تردد هذا البيت ببكاء وزفير:

وكيف يطوف القلب مني بهجة

ومهجة قلبي بالطفوف غريب

قال السيد محمد فدنوت منها وسلمت عليها وسألتها فقالت: أما تعرفني أنا جدتك فاطمة الزهراء وهذا قميص ولدي الحسين

٤٨

لا أفارقه أبدا. فانتبه السيد ونظم قصيدة وضمنها هذا البيت. فكان أول القصيدة ( أراك متى هبت صبا وجنوب ). وكان أبوه السيد مال الله من أهل العلم والفضل. انتهى.

أقول ربما حصل التباس بين سيدنا المترجم له وبين سميه ومعاصره السيد محمد بن مال الله بن معصوم لاتحاد الاسمين واسم الابوين والمسكن اذ هما في كربلاء يسكنان حتى ربما نسب البعض شعر هذا لهذا. أرجو الانتباه.

فمن شعر السيد محمد بن مال الله الملقب بالفلفل المتوفى ١٢٦١ ويقول صاحب الذريعة ان وفاته سنة ١٢٧٧.

يا نفس عن فعل الخطايا فاقلعي

ذهب الشباب وأنت لم تتورع

لا تخدعنك زينة الدنيا فقد

غرت سواك بخدعة وتصنع

أو ما سمعت بذكر كسرى في الورى

وبذكر قيصر ذي الجنود وتبع

أين القرون وعادها وثمودها

قذفتهم الدنيا بقبح الموضع

أين الذين تمتعوا بنعيمها

وتمنعوا في كل حصن أمنع

أين الطواغيت الذين تنكبوا

بالظلم عن نهج الرشاد الاوسع

كم ظالم تحت التراب وهالك

لم يستطع رد الجواب ولا يعي

يا نفس ان شئت السلامة في غد

فعن القبايح والخطايا فاقلعي

وتوسلي عند الاله باحمد

وبآله فهم الرجا في المفزع

يا نفس من هذا الرقاد تنبهي

ان الحسين سليل فاطمة نعي

فتولعي وجدا له وتوجعي

وتلهفي وتأسفي وتفجعي

آه لها من وقعة قد أوقعت

في الدين أكبر فتة لم تنزع

آه لها من نكبة قد أردفت

بمصائب تبقى ليوم المجمع

٤٩

قتل الحسين فيا سما ابكي دما

حزنا عليه ويا جبال تصدع

منعوه شرب الماء لا شربوا غدا

من كف والده البطين الانزع

مذ جائها يبدي الصهيل جواده

يشكو الظليمة ساكبا للادمع

يا أيها المهر المخضب بالدما

لا تقصدن خيم النساء الضيع

يا مهره قف لا تحم حول الخبا

رفقا بنسوته الكرام الهلع

اني أخاف بأن تروع قلوبها

وهي التي ما عودت بتروع

لهفي لتلك الناظرات حماتها

فوق الجنادل كالنجوم الطلع

والريح سافية على أبدانهم

فمقطع ثاو بجنب مبضع

ولزينب نوحا لفقد شقيقها

وتقول يا ابن الزاكيات الركع

اليوم أصبغ في عزاك ملابسي

سودا وأسكب هاطلات الادمع

اليوم شبوا نارهم في منزلي

وتناهبوا ما فيه حتى مقنعى

اليوم ساقوني بقيدي يا أخي

والضرب آلمني وأطفالي معي

لا راحم أشكو اليه أذيتي

لم ألف الا ظالما لم يخشع

حال الردى بيني وبينك يا أخي

لو كنت في الأحياء هالك موضعي

مسلوبة مضروبة مسحوبة

منهوبة حتى الخمار وبرقعي

وهلم خطب يوم قوض ضعنها

من كربلا في نسوة تبدي النعي

مروا بها لترى أعزة قومها

صرعى تكفنهم رياح الزوبع

فرأت أخاها جثة من غير ما

رأس فألقت نفسها بتلوع

فوق الحسين السبط حاضنة له

فنعته نعي الفاقدات الضيع

وتقول حان فراق شخصك يا أخي

من ذا لثاكلة وطفل مرضع

يا كافلي هل نظرة أشفي بها

قلبي وتطفي لوعة في أضلعي

أتبيت في الرمضا بلا كفن ولا

غسل ويهنى بعد فقدك مضجعي

حاشا وكلا يا كفيل أراملي

وذخيرتي في النايبات ومفزعي

٥٠

يا واحدي عزموا على أن يرحلوا

بي عنك يا غوثي وغوث المربع

ودعتك الرحمن يا من فقده

أجرا دموعي مثل سحب الهمع

لا عن ملال ان رحلت ولا قلا

وعليك تسليمي ليوم المرجع

بالله يا حادي الضعون معجلا

قف بالطفوف ولو كنعسة هجع

لأبث أحزاني وأكتم ما جرى

أسفا بقان من غزير الادمع

يا سائرا يطوي القفار ميمما

قف ساعة ان كنت ذا اذن تعي

وأحمل رسالة من أضر به الجوى

لجناب أحمد ذي المقام الارفع

قل يا رسول الله آلك قد نأت

بهم الديار بكل واد أشنع

مذ غبت والحق الذي أظهرته

وأبنته للناس فيهم ما رعي

وحبيبك السبط الحسين ونسله

مع صحبه قد ذبحوا في موضع

قد صيروهم للسهام رمية

وضريبة للمرهفات اللمعي

وبنات بنتك في القيود أذلة

مسبية تسبى كسبي الزيلع

واعمد الى قبر البتول ونادها

يا فاطم بمصاب نسلك فاسمعي

قومي انزلي أرض الطفوف وشاهدي

قتلاك بين مبضع ومقطع

ثاوين حول حبيب قلبك بالعزى

ورؤوسهم تهدى لرجس ألكع

ونساءك الحور الحسان تغيرت

منها الوجوه من النكال المفضع

أطواقها قيد العدى وشرابها

من دمعها والاكل ترداد النعي

واقصد أخاه في البقيع وقل له

ذبح الحسين أخاك يا ابن الاروع

وبنيك والاخوان جمعا صرعوا

من حوله بالذابلات الشرع

واذا قضيت رسالتي من يثرب

فاقصد بسيرك للغري واسرع

وأطل وقوفك عند قبر المرتضى

والثم ثراه على وقار واخضع

قل يا أمير المؤمنين شكاية

فاسمع لها يا شافعي ومشفعي

هذا الحسين لقى بعرصة نينوى

أكفانه مور الرياح الاربع

٥١

من غير دفن والخيول تدوسه

بنعالها في صدره والاضلع

والريح قد لعبت بشيبته وقد

صبغت بقان فوق رمح أرفع

ونساءه مقرونة بقيودها

محمولة فوق الجمال الظلع

وأذية الاطفال أعظم محنة

من جوعها ومن السرى لم تهجع

ان حن طفل ساعدته ثواكل

لم تلف غير مروعة ومروع

والعابد السجاد في أقياده

لهفي له من ناحل متوجع

يا وقعة راعت قلوب اولي النهى

جلت ونحن بمثلها لم نسمع

قد جاءكم ذو المخزيات محمد

لم يلف غيركم له من مفزع

فتعطفوا وترفقوا وتلطفوا

بمحبكم عند الحساب اذا دعي

وعليكم صلى وسلم ربكم

ما ناح ذو وجد بقلب موجع

ومن شعره قصيدته التي أولها:

تعزي فلا شيء من العيش راجع

وهل في صروف الدهر ينفع نافع

٨٦ بيتا.

٥٢

السيد محمد معصوم

المتوفى ١٢٧١

السيد محمد بن مال الله بن معصوم القطيفي النجفي المتوفى بالحائر الحسيني سنة ١٢٧١.

شطر مقصورة ابن دريد وجعلها في رثاء الحسينعليه‌السلام بما يقرب من أربعمائة وخمسين بيتا مدرجة في ديوانه وأولها:

يا ظبية أشبه شيء بالمها

ما لك لا تبكين سبط المصطفى

تمضين بعد ما دعاك ضاميا

رايقة بين الغوير واللوى

أما ترى رأسي حاكى لونه

بيض مواضينا بحومات الوغى

تلوح في ليل الوغى كأنها

طرة صبح تحت أذيال الدجى(١)

* * *

__________________

١ - عن الذريعة ج ٤ ص ١٩١.

٥٣

هو السيد محمد ابن السيد مال الله آل السيد معصوم القطيفي النجفي الحائري، خطيب معروف، وشاعر رقيق.

يظهر من سيرته أنه ولد بالقطيف وهاجر منها وهو يافع والتحق بالنجف فاتصل بأعلامه من زعماء الدين وبعد أخذه المقدمات انصرف الى سرد قصة الامام الحسين (ع). ذكره الشيخ النوري فقال: كان جليل القدر، عظيم الشأن، وكان شيخنا الاستاذ العلامة الشيخ عبدالحسين الطهراني كثيرا ما يذكره بخير ويثني عليه ثناء بليغا، وقال: كان تقيا صالحا، شاعرا مجيدا، وأديبا قاريا غريقا في بحار محبة آل البيت (ع) وكان أكثر ذكره وفكره فيهم، حتى انه كان كثيرا ما نلقاه في الصحن الشريف فنسأله عن مسألة أدبية فيجيبنا عنها ويستشهد في كلامه ببيت أنشأه هو أو غيره في المراثي فينقلب حاله ويشرع في ذكر مصيبتهم على أحسن ما ينبغي فيتحول المجلس الى مجلس آخر وله حكايتان طريفتان ذكرهما النوري في كتابه دار السلام.

وذكره الشيخ ابراهيم صادق العاملي في مجموعته معربا عن اعجابه بتقريظه لموشح السيد صالح القزويني البغدادي فقال: وممن لمح ذلك الموشح بطرف غير كليل، وسبح في تيار لجته فاستخرج منها دررا هي لتاج الادب اكليل وأي اكليل، الراغم بفضله وأدبه عرين الملك الضليل والشامخ بحسبه ونسبه على كل ذي حسب زكي ونسب جليل، قرة عين الفضائل والعلوم، جناب السيد السند السيد محمد نجل المرحوم السيد معصوم فقرظ عليه بهذا الموشح المحلى بفرائد الدر المنظوم، المطوق بأسنى قلائد تزري محاسنها بدراري النجوم.

٥٤

وذكره صاحب الحصون في ج ٥ ص ٥٨٢ فقال: كان مجاورا في الحائر الحسيني، وكان تقيا صالحا، وشاعرا مجيدا، وأديبا وقارئا ذاكرا لعزاء الحسين، جليل القدر عظيم الشأن، غريقا في بحار محبة آل البيت وأكثر ذكره وفكره فيهم وكان اذا هل ربيع الاول ينشر قصائد في مدح الرسول (ص) في المجالس ويصفق بيده أثناء الانشاد، توفي في حدود ١٢٦٩ هـ.

وذكره النقدي في الروض النضير ص ٣٦٦ فقال: من فضلاء القرن الماضي، وكان له في التقوى والصلاح أسمى مكان، وكان من المعمرين.

وذكره المحقق الطهراني في كتابه الكرام البررة ص ٣٦٨ فقال القطيفي الحائري المتوفى ١٢٧١ هـ كان تلميذ السيد عبدالله شبر وكتب في ترجمة أستاذه هذا رسالة مستقلة(١) .

وذكره السيد حسن الصدر في التكملة فقال: له رسالة أسماها نوافح المسك لم أقف عليها، وله ديوان كبير عند الشيخ محمد السماوي فيه رثاء الشيخ احمد الاحسائي والسيد كاظم الرشتي والشيخ موسى بن جعفر كاشف الغطاء والشيخ محسن خنفر الذي توفي ١٢٧٠ هـ وهذا آخر زمن رثى به.

توفي المترجم له في حدود ١٢٧١ هـ وله شعر كثير أشهره اللامية المكسورة من حروف الرجز المسماة بزهر الربيع. وديوان شعره

__________________

١ - أقول نشرت رسالة في مقدمة كتاب « الاخلاق » لجدنا السيد عبدالله شبر.

٥٥

مخطوط اشتمل على جميع الحروف. وله روضة في رثاء الحسين. انتهى

وفي الذريعة - قسم الديوان قال: ديوان السيد محمد بن مال الله ابن معصوم الموسوي القطيفي الخطي الحائري المتوفى ١٢٧١ هو من تلاميذ السيد عبدالله شبر وكتب رسالة في ترجمة أستاذه. رأيت ديوانه في مكتبة السماوي كل ما فيه قصائده في المراثي، مرتبة على الحروف، وكتب له بعض أصحابه مقدمة، أوله:

كربلا فقت السماوات العلى

وسمى فخرك ما فوق الثرى

وفيه تلميع الرائية للشريف الرضي، وتخميس النونية لابن زيدون، وتشطير المقصورة لابن دريد. وجعل جميعها في رثاء الحسينعليه‌السلام ، وفيه قصيدة طويلة في رثائهعليه‌السلام تتضمن أسماء جميع سور القرآن، أولها:

أشجان فاتحة الاحداث أشجاني

وقوعها فجرت للعين عينان

أذكت حشى البهم من وحش ومن بقر

فكيف آل النهى من آل عمران

وقال السيد الامين في الاعيان ج ١٦ ص ٦٩ ان الشاعر السيد محمد القطيفي المقيم في الحائر أطرى شعره وفضله على شعر غيره خصوصا مراثيه في الامام الحسين وكان في دار آل الشيخ

٥٦

جعفر آل الشيخ خضر الجناجي النجفي واستدل على مدعاه بقوله في الامامعليه‌السلام :

بكتك الضيوف وبيض السيوف

وسود الحتوف أسى والقطار

وخاب الملمون والوافدون

وضاع المشيرون والمستشار

فقال له الشيخ جعفر وهو يومئذ حدث السنان المشير والمستشار واحد واعترضه في غير هذا البيت أيضا بأن فيه من الزحاف الكف وهو حذاف السابع الساكن من مفاعيل وهو قبيح في بحر الطويل كما ان القبض في مفاعيل في عروض الطويل واجب، وقد أتى القطيفي به في قصيدته غير مقبوض فانتقده بمثل هذه القواعد العروضية حتى أفحمه، فقال له القطيفي:

كأنك يا ولدي عروضي، قال نعم. قال فقطع لنا هذا البيت:

حولوا عنا كنيستكم

يا بني حمالة الحطب

وكأنه ظن أن لا خبرة له بقصة الاعرابي مع المرأة التميمية، حيث ان بني تميم يكسرون أول المضارع فقال لها: أتكتنون فأجابته فأخجلها فقالت له: أتحسن العروض، قال نعم قالت: قطع هذا البيت:

حولوا عنا كنيستكم ( البيت ) فقطعه وأخجلته.

وكان الشيخ جعفر يعرف القصة فارتجل على الفور بيتا

٥٧

وقال للقطيفي:

ان قطعت البيت الذي قبله قطعته لك، قال ما هو قال:

كل من تجلى طبيعته

ذاك مرؤ من ذوي الحسب

فقطعه: كل من تج، فاعلات. لا طبي، فاعل. فأخجله.

ونشر البحاثة الشيخ محمد السماوي في مجلة الغري النجفية السنة السابعة تحت عنوان ( ندوة بلاغة بلاغية ) قال: للعالم الفاضل الاديب السيد محمد بن السيد مال الله السيد معصوم القطيفي النجفي الحائري ديوان شعر كبير مشتمل على الحروف، ولقد كان معمرا ومن المكثرين والمجيدين في رثاء الامام الحسين (ع) وكانت وفاته سنة ١٢٦٩ هـ وله كذلك روضة عامرة في رثاء الامام الحسين (ع).

وله يمدح الامامين الجوادينعليهما‌السلام وهي من أواسط شعره:

خلها تدمي من السير يداها

لا تعقها فلقد شق مداها

ما هوت في الدو الا وانثنت

تلتقي الحصبا كما تفلي فلاها

هزها الشوق فأبراها الضنا

فانبرت تحمد بالشوق ضناها

رضيت حر الهوى ماءا كما

رضيت متلفة السير غذاها

عميت عن كل ما يشغلها

عن هداها وهداها في عماها

عكرت رحب الفضا مما أثا

رته فالتف دجاها بضحاها

قصدها الكاظم موسى والذي

غمر الناس يدا بعض نداها

قف فدتك النفس واغنم أجرها

حيث تحبيها سلاما من فناها

٥٨

مبلغا جل سلامي لهما

طالبا للنفس ما فيه هداها

قل لمن كلم موسى باسمه

ولمن من جوده نال عصاها

أشهيدي جانب الزوراء هل

زورة تطغي عن النفس لظاها

أم لعيني نظرة ممن رأى

جدثي قدسكما تجلو جلاها

لم ير الله أناسا غيركم

للشهادات فأنتم شهداها

بل ولا نال اغترابا غيركم

مثل ما نلتم فأنتم غرباها

جدكم أعظم قدرا وأذى

فحسوتم بعده كأسا حساها

وسقاكم ثدي أخلاق بها

عطر القرآن من عطر شذاها

يا ذواتا أكملت علة ايجاد

ذي العرش الورى والبدء طاها

ما رجا راج بكم الا نجا

كيف والراجي الميامين فتاها

ثم عج يا مرشد النفس الى

أرض ( سامراء ) ننشق من ثراها

واعطها مقودها حتى ترى

قبة فيها رجاها ومناها

فعلى نوري علا حلا بها

من صلوة الله والخلق رضاها

والق عنها حلس وعثاء السرى

وقل البشرى فقد زال عناها

واطلب الحاجات تحظى بالا

جابة في حال بقاها وفناها

ثم انهضني فلا قوة لي

من هموم أبهضتني من عداها

نحو سرداب حوى خوف العدى

عصمة العالم والمعطي رجاها

وامش بي رسلا فما تدري عسى

الله لبى دعوة في مشتكاها

وادخلن بي خاضعا مستشفعا

لي بأن اسعد يوما بلقاها

نقرأ التسليم منا عد ما

خلق الله الى يوم جزاها

يا ولي الله والمعطي مدى

أمد الايام اقليد عطاها

والنضير الشاهد الحاكم في الـ

ـخلق والموصي له من نظراها

قم على اسم الله أثبت ما بقي

من رسوم فالعدى راموا محاها

٥٩

طهر الارض بأجناد أبت

أن يرى مبدؤها أو منتهاها

وابسط العدل بعيسى الروح و

الخضر محفوفا بأملاك سماها

ان دوحات الرجا قد أذنت

بانحسار فمتى خضرا نراها

جرد السيف لثارات بني

امك الزهراء واجهد في رضاها

تلتقي جيش العدى ضاحكة

والمواضي من دم طال بكاها

ابلغوا للدفع عن حامية الـ

ـدين يوصي الكل كلا بحماها

لم يزالوا في الوغى حتى جرى

من يد الاقدار ما حم قصاها

وله يرثي السيد عبد الله شبر الكاظمي المتوفى ١٢٤٢ هـ ويعزى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر بفقده:

أروح وفي القلب مني شجن

وأغدو وفي القلب مني احن

ولم يشجني فقد عيش الشباب

وليل الصبا ولذيذ الوسن

ولا هاجني منزل بالحمى

ولا ذكر غانية أو أغن

ولكن شجتني صروف الزمان

بأهل الرشاد ولاة الزمن

بموسى الكليم بدت بالردى

وكم فيه رد الردى والمحن

وثنت بمن لم يكن غيره

اماما لدينا يقيم السنن

فأخنى الزمان بنجل الرضا

وألبسني منه ثوب الحزن

وناعيه لما نعاه الي

أذاب الفؤاد وأفنى البدن

نعى العالم الهاشمي التقي

نعى من له الفضل في كل فن

فلا غرو أن بكت المكرمات

بدمع جرى فيضه للقنن

على من سرى ذكره في البلاد

وشاع بذكر جميل حسن

فيا طود فضل هوى في الثرى

وغيب في بطنه أو بطن

ويا راحلا عن ديار الغرور

فذكر جميلك فينا قطن

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

غانمة تنتصر لهاشم

بلغ غانمة بنت غانم سبُّ ابن هند وابن النابغة بني هاشم! فقالت لأهل مكة: أيها الناس، إنّ قريشاً لم تَلِد من رَقم ولا رُقم، سادت وجادت، ومُلِّكت فملكت، وفُضِّلت فَفَضَلت، واصطُفِيَت فاصطَفَت، ليس فيها كدرُ عيب ولا أفْنُ(١) ريب، ولا حشروا طاغين، ولا حادوا نادمين، ولا المغضوب عليهم ولا الضالّين. إنّ بني هاشم أطولُ الناس باعاً، وأمجَدُ الناس أصلاً، وأحلمُ الناس حلماً، وأكثر الناس عطاءً. منّا عبد مَناف الذي يقول فيه الشاعر:

كانت قريش بيضةً فتفلّقت

فالمخُّ خالِصُها لعبدِ مَناف

وولده هاشم الذي هشَمَ الثَّريدَ لقومشه، وفيه يقول الشاعر:

هشم الثريد لقومه وأجارَهم

ورجال مكّة مُسْنِتُون عِجافُ(٢)

ثمّ منّا عبد المطّلب الذي سُقينا به الغَيث، وفيه يقول الشاعر:

ونحن سِنيَّ المحلِ قامَ شفيعُنا

بمكّةَ يدعو والمياهُ تَغورُ

وابنُه أبوطالب عظيمُ قريش، وفيه يقول الشاعر:

آتيتُه مَلِكا فقام بحاجتي

وترى العُلَيّجَ خائباً مذموما

ومنّا العبّاس بن عبد المطّلب، أردفه رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعطاه ماله، وفيه يقول الشاعر:

رَدِيفُ رسولِ الله لم أرَ مثلَهُ

ولا مِثلُهُ حتّى القيامةِ يُوجَدُ

____________________

(١) أفْن: ضعيف الرأي.

(٢) في جمهرة النسب: فولَدَ عبد مَناف بن قُصَيّ: هاشماً، وهو عمرو، وسُمِّيَ هاشماً لأنّه هشم الثَّريدَ، وله يقول الشاعر:

عمرو العُلى هَشَمَ الثَّرِيدَ لقومِهِ

ورجالُ مكّةَ مُسْنتِونَ عِجافُ

٢٦١

ومنّا حمزة سيّد الشهداء، وفيه يقول الشاعر:

أبا يَعلى لكَ الأركانُ هُدّتْ

وأنتَ الماجدُ البرُّ الوَصُولُ

ومنّا جعفر ذو الجناحين أحسنُ الناس وأكملهم كمالاً، ليس بغدّار ولا ختّار، بدّله الله عزّ وجلّ بكلّ يد له جناحاً يطير به في الجنّة، وفيه يقول الشاعر:

هاتوا كجعفرنا الطيّار أو كعليّنا

أليسا أعزّ النّاس عند الخلائق؟!

ومنّا أبو الحسن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، أفرس بني هاشم وأكرم من احتفى وتنعّل بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن فضائله ما قصر عنكم أنباؤها، وفيه يقول الشاعر:

ومن يكُ جدُّه حقّاً نبيّاً

فإنّ لَهُ الفضيلة في الأنام

ومنّا الحسين بن عليّ رضوان الله عليه، حمله جبرئيل علىعليه‌السلام عاتقه وكفى بذلك فخراً، وفيه يقول الشاعر:

نفى عنه عيبَ الآدميّين ربُّهُ

ومن مجدِه مجدُ الحسينِ المطهَّرِ(١)

ثمّ قالت: يا معشر قريش! والله ما معاوية بأميرالمؤمنين، ولا هو كما يزعم، هو والله شانئ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّي آتيةٌ معاوية وقائلة له بما يعرق جبينُه ويكثر منه عويله(٢) .

فكتب عامل معاوية إليه بذلك، فلمّا بلغه أنّ غانمة قد قرُبت منه أمر بدارِ ضيافةٍ

____________________

(١) صريح في العصمة.

(٢) لـمّا تأتي ابن هند بعد، حتّى جعلتها تظاهرة في مكّة صدحت بفضائل الشجرة المباركة. ولكن لا أظن سيعرق جبين ابن هند فهو نسيج عاهات وعورات سارت بها الركبان!

٢٦٢

فنُظّفت وألقي فيها فرش، فلمّا قربت من المدينة استقبلها يزيد في حَشَمه ومماليكه، فلمّا دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم، فقال لها يزيد: إنَّ عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته، فقالت: من أنت كّلأكّ الله؟ قال: يزيد بن معاوية. قالت: لا رعاك الله يا ناقص! لست بزائد، فتمعّر لون يزيد(١) ، فأتى أباه فأخبره، فقال: هي أسَنّ قريش وأعظمهم. فلما قال يزيد: كم تعدّ لها؟ قال: كانت على عهد رسول الله أربعمائة عام وهي من بقيّة الكرام.

فلمّا كان من الغد أتاها معاوية فسلّم عليها، فقالت: وعلى المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان! ثمّ قالت: من منكم ابن العاص؟ قال عمرو: ها أنا ذا. فقالت: وأنت تسبّ بني هاشم وأنت والله أهل السبّ وفيك السبّ وإليك يعود السبّ يا عمرو! إنّي والله عارفة بعيوبك وعيوب أمّك، وإنّي أذكر لك عيبا عيباً؛ ولدت من أمة سوداء مجنونة حمقاء تبول من قيام ويعلوها اللّئام، إذا لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذَ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً! وأما أنت، فقد رأيتُك غاويا غير راشد ومفسدا غير صالح، ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك فما غِرتَ ولا أنكرتَ!

وأمّا أنت يا معاوية، فما كنت في خير ولا رُبّيت في خير، فما لَكَ ولبني هاشم؟ أنساء بني أميّة كنسائهم أم أُعطي أميّة ما أُعطي هاشم في الجاهليّة والإسلام؟ وكفى برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال معاوية: أيّتها الكبيرة أنا كاف عن بني هاشم. قالت: فإنّي أكتب عليك عهداً، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا ربّه أن يستجيب لي خمس دعوات، فأجعل تلك الدعوات كلّها فيك. فخاف معاوية وحلف لها أن لا يسبّ بني هاشم أبداً(٢) .

____________________

(١) أي تغيّر وعَلَته صُفرة.

(٢) المحاسن والمساوئ، للبيهقي: ٩١ - ٩٤.

٢٦٣

أخذ الله تعالى على ابن هند وحاشيته الفاسدة أبصارهم وأسماعهم، وطبع على قلوبهم، فهم يتعاوون. يسبّون (خير البشر؛ ومن أبى فقد كفر) و (خير البريّة)...، وشجرته المباركة! ولا يأتي السبّ إلّا عن أفن وسوء منبت وفساد طبع وفقدان حجّة. فسلّط الله سبحانه عليهم من يذيع فضائحهم التي تزكم الأنوف.

وللهِ محتدك يا غانمة! إذ بدأت بقريش، فهي المبرّزة بين قبائل العرب فبدأت بها لتنتقي منها جوهرتها (عبد مناف) ومن ولد عبد مناف: ذورة السنام من غير منازع (بني هاشم) موضع سبّ ابن النابغة وابن هند وكفى بصنعهما هذا حقارة وصغاراً! وتحوّلت إلى وريثه في المجد: ولده (عبد المطّلب)، ومن ولد عبد المطلب، انتقت ولده مؤمن قريش وعظيمها (أبا طالب). وراحت تعدد من بني هاشم الأماجد، فكان (العباس بن عبد المطلب)، رديف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فحمزة؛ سيد الشهداء بن عبد المطلب؛ فجعفر ذا الجناحين بن أبي طالب. ثمّ حطّت رحالها في دوحة الفخر عند عليّ بن أبي طالب أكرم خلق الله بعد رسوله؛ ومنه إلى شبله سبط رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة وكفى بذلك فخراً (الحسن المجتبى بن عليّ المرتضى) فإلى الحسين بن عليّ الذي طهّره الله وتشرّف جبريل بحمله على عاتقه. فمن ذا حمل ابن هند ووضعه على قارعة الطريق؟!

وبعد أن أحكمت كلامها إذ بدأت بقريش وانتهت بخامس أصحاب الكساء، عادت تخاطب قريشا وتذكرهم بفعل ابن هند وتسلبه الإمارة الجبريّة، فهو شانئ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فهي لذلك منتصرة لهذا البيت المنيف والشجرة المباركة، من بيت الطغاة والكفر والشجرة الملعونة.

فكان أوّل من وقع بين براثنها: الناقص حفيد هند، ولو لاها لم ندر أنّ النابغة من الشّبق والتبذّل أن ركبها واحد وأربعون رجلاً في يوم واحد، وانّ ابنها عمرو مع

٢٦٤

نبوغه في الضلال؛ فإنّه رأي عاهرا مع زوجته في فراشه فلم يغر ولم ينكر!

والتفتت غانمة إلى ابن هند، فلم يكن في بيئة اجتماعيّة طيّبة ولم يتولّ تربيته أهل خير؛ وإن شاءت المقادير أن ينسب إلى بني أميّة، مثلما نسب هو ابن سُميّة زيادا ونقل نسبه إلى نسبه وادّعى أخوّته وزوّجه وزوّج ولده من بنات آل سفيان؛ ومع ذا فليس نساء بني أميّة مثل نساء بني هاشم واشتُهر منهنّ حَمامة جدّة أبي سفيان بغيّ لها راية تؤتى؛ ومنهنّ هند أمّ معاوية، وقد عرضنا لحالها. وإغراق رجالهم في الجهل والغدر والكفر والنفاق وحرب الإسلام...، وإذا اقتصرنا على اشتقاق الأسماء؛ فإنّ (سفيان) اشتقاقه من (السفيه)(١) .

قال: وأبو سفيان، واسمه صخر بن حرب بن أميّة. والصخر، معروف، وليس كلّ الحجارة تسمّى صخراً، وإنّما الصخرة الصّفاة العظيمة التي لا يمكن حملها وإزالتها عن مكانها. (ابن حربٍ) الحرب: ضد السلم. ورجل محرب ومحراب، إذا كان صاحب حرب يسعرها(٢) .

و (أميّة): تصغير أَمَة(٣) .

و (معاوية): استعوى الكلاب ليسمع نُباحَها فيعلمُ أنّه قريب من ماء(٤) .

وابن هند حقيق بهذه التسمية وكأنّ مشيّة الله تعالى أملت على هند أن تسمّيه به، لـما يعلمه سبحانه ممّا سيكون منه تناوش وتهارش ونباح على كلّ قريب وبعيد.

____________________

(١) الاشتقاق، لابن دريد: ٧٣.

(٢) نفس المصدر السابق: ٧٥.

(٣) نفس المصدر السابق: ٥٤.

(٤) نفس المصدر السابق: ٧٥.

٢٦٥

عواؤه على شريك بن الأعور

دخل شريك بن الحارث بن عبد الله الهمدانيّ الحارثيّ البصريّ المعروف بشريك بن الأعور، على معاوية. وكان شريك هذا من خيار الشيعة وكان سيّد قومه، فقال له: ما اسمك؟ قال: شريك. قال: ابن من؟ قال: ابن الأعور. قا ل: إنّك شريك وما لله شريك، وإنّك لابن الأعور والصحيح خير من الأعور، وإنّك لدميم سيّئ الخلق فكيف سُدتَ قومَك؟(١)

فقال: وأنت والله معاوية، وما معاوية إلّا كلبة عوت فاستعوت(٢) فسمّيت معاوية، وإنّك لابن صخر والسهل خير من الصَّخر، وإنّك لابنُ حَرْبٍ والسِّلمُ خيرٌ من الحرب، وإنّك لابن أميّة وأميّة أَمَة صغر بها، فكيف سمّيت أميرالمؤمنين؟!

قال معاوية: واحدة بواحدة والبادي أظلم.

ولشريك شعر في المناسبة يتوعّد فيه ابن هند، فقاسمه(٣) معاوية أن يسكت وقرّبه وأدناه(٤) .

فهل تمسّك ابن هند بقَسَمِه هذا، أم حنَثَ فعاد إلى المحارشة وقد حلف لغانمة كما مرّ بنا أن لا يعود، ولغيرها، ثمّ عاد؟!

وفي التنازع والتخاصم: روى سفينة عن أمّ سلمة أنّه قال لها: إنّ بني أميّة يزعمون

____________________

(١) ابن هند، يعرف شريك حقّ المعرفة، إلّا أنّ سجيّته حملته على سؤاله عن اسمه! وابن من؟! وعرف شريك مرمى ابن هند؛ فلم يقل ابن الحارث وتعمّد أن يقول: ابن الأعور ليستنطقه فيصبّ عليه شؤبوب سخطه!

(٢) استعوت: أي نبحت فتبعها الكلاب. وفي لسان العرب: المعاوية، الكلبة المستحرمة تعوي إلى الكلاب إذا صرفت ويعوين إليها. ومعاوية اسم وهو منه.

(٣) قاسمه: أي حلف له يميناً.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ١٠: ٣٠٥.

٢٦٦

أنّ الخلافة فيهم، فقالت: كذبت بنو الزرقاء، بل هم ملوك ومن شرّ الملوك(١) .

قال: ويقال إنّ الزرقاء هذه هي أمّ بني أميّة؛ واسمها: أرنب، وكانت في الجاهليّة من صواحب الرايات(٢) .

وذكرها ابن حزم في ولد الحكم بن أبي العاصي بن أميّة، فذكر مروان وإخوته وقال: أمّهم اسمها أرنب، وهي من بني مالك بن كنانة، وهي الزّرقاء التي كان يعيّر بها عبد الملك وغيره من بني مروان(٣) .

إنّ قول المقريزي: إنّ الزرقاء، واسمها أرنب، وهي في الجاهليّة من صواحب الرايات؛ هي أمّ بني أميّة.

وقول ابن حزم: إنّ أرنب وهي الزرقاء، هي أمّ ولد الحكم بن أبي العاص بن أميّة، التي يعيّر بها عبد الملك وغيره من بني مروان؛ قريب منه جواب أروى بنت الحارث ابن عبدالمطّلب لمروان في مجلس ابن هند - وقد ذكرناه - إذ خاطبته بقولها: يا ابن الزرقاء، مع نفيها إيّاه من الانتساب إلى الحكم، ونسبته إلى سفيان بن الحارث بن كلدة. وزادت بياناً أنّه يشبه سفيان في زرقة عينيه وحمرة شعره. وذكرت صفات في الحكم غير موجودة في مروان. فما أنكر عليها مروان.

إذاً: الزَّرقاء وهي أرنب، وهي بغيّ من ذوات الرايات، ابنها مروان؛ فمروان وبنوه: بنو الزرقاء، وأيضاً بنو الأزرق لنسبتهم إلى سفيان، أزرق العينين.

وهذا لا يمنع أن تكون الزرقاء ثانية على ما ذكر المقريزي وأنّها أمّ بني أميّة، ولا داعي للتوقّف عند ورود اسم أرنب في أمّ بني أميّة، وفي أمّ بني مروان، فما أكثر تشابه

____________________

(١) النزاع والتخاصم، للمقريزي: ٤٢.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) جمهرة أنساب العرب، لابن حزم: ٨٧، والعقد الفريد ١: ٣٥٧.

٢٦٧

الأسماء؛ وإلاّ لوجب حذف أكثر التاريخ لهذه الشُبهة! والقاسم مشترك بين بني مروان وبني أميّة؛ فإنّ في نسب أميّة قول إذ ذهب البعض إلى أنّهم ليسوا من العرب وإنّما من الروم. ولأجل ذلك توقّف شريك بن الحارث (الأعور) الهمدانيّ وهو يلقم المعاوية حجراً مسكتاً، عند حدود أميّة ووسمه بالأمة أي العبد المسترق، وهو لفظ مؤنّث! ثمّ صغّره لا عن شماتة، وإنّما هكذا به يعرف. ولم يكن أميّة في نفسه هناك، وإنّما رفعه أبوه الذي يتبنّاه - ومعذرةً أن نقول: أبوه، إلّا أنّه غلب فصار العبد الرومي (أميّة) يعرف بابن عبد شمس؛ وبنوه الذين أخذوا شهرة بمعاداتهم لبني هاشم! فهم في حالي سلامهم وموادعتهم؛ أو حال حربهم محقّقوا مجد وسمعة: فهم أنداد هاشم وكفى بذلك فخراً! ولئلاّ يشطبهم التاريخ لخمول ذكرهم، فلمّا ناوؤا هاشماً عرفوا.

ولئلاّ ننسى: فلا ننسى (حمامة) وقد أشرنا إليها، جدّة أبي سفيان صخر بن حرب ابن أميّة؛ بَغيّ نابغة في هذا الفنّ من ذوات الرايات.

ولا ننسى (أمّ جميل)؛ اسمٌ جميل لامرأةٍ خلّدها عملُها مع زوجها في جهنّم؛ وهذا هو الوفاء: أن تسير المرأة على خطى زوجها في الدنيا، وتعانقه في الآخرة، فهي معه في السّراء والضّراء وإن كان باطلاً!

(أمّ جميل) بنت حرب بن أميّة؛ أخت أبي سفيان صخر بن حرب، عمّة معاوية - تنزّلاً؛ إذ قامت البراهين أنّه ابن شُبهة، فتارة للصُّبّاح، وأخرى لأربعة، وثالثة لرجل آخر...، وهي: حمّالة الحطب، امرأة أبي لهب، ولا نعرف لها فضيلةً! إلّا حملها الحطب والشوك وطرحه في طريق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ولشدّة عداء زوجها (أبي لهب) وعداءها وإيذائهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنزل الله تعالى فيهما سورة كاملةً من القرآن تخلّد عملهما، وتخلّدهما في جهنّم، تلك هي سورة (تبّت) أو (المسد).

وللمعاويةَ حوار مع عقيل بن أبي طالب، قطعه فيه عقيل النسّابة المعروف بسرعة

٢٦٨

البديهة. وقبل ذكر ذلك، لا ندري هل جرى ذلك بعد الوعد الذي أعطاه ابن هند لشريك أن يسكت عن التهارش أم قبله، وهل كان ذلك بعد وعده لغانمة أم قبل ذلك...؟!

ذكر أبو عمرو بن العلاء، قال: قال معاوية يوماً وعنده عمرو بن العاص وقد أقبل عقيل: لأضحكنّك من عقيل! فلمّا سلّم قال له معاوية: مرحباً برجل عمّه أبو لهب. فقال له عقيل: أهلاً برجلٍ عمّته حمّالةُ الحَطَب في جيدها حبْلٌ من مَسَد.

قال معاوية: يا أبا يزيد، ما ظنّك بأبي لهب؟ قال: يا معاوية - ولم يكنّه كما فعل ابن هند إذ كنّى عقيلاً -، إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمّتك حمّالة الحطب؛ أفناكحٌ في النار خيٌر أم منكوح؟! قال: كلاهما سواءٌ شرٌّ والله(١) .

ليس مثل عقيل بن أبي طالب رضي الله عنهما، مَن يكعّ عن جواب ابن هند أو تخونه بديهته حتّى يجعله أضحوكة لابن النابغة، لكن شاء الله لـما علم من حال ابن هند، وحال أسرته؛ أن يُخليهم وأنفسهم يعمهون ولا يكفّ عنهم قرناءهم ليزيّنوا لهم أعمالهم، فهم عمون.

واتّفق من حال ابن هند أنّ فيه شيئاً يحركه فلا يطيق إلّا أن يعود فيعاد عليه شرّه. وله مع عقيل مواقف غير ما ذكرنا، من ذلك:

قال معاوية لعقيل: ما أبين الشَّبَق(٢) في رجالكم يا بني هاشم!

قال: لكنّه في نسائكم يا بني أميّة أبيَن!(٣)

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٤: ٩٣؛ وبلفظ قريب منه في العقد الفريد ٤: ٩١، الموفقيّات: ٣٣٥، البيان والتبيين، للجاحظ ٢: ٣٢٦، عيون الأخبار ٢: ١٩٧، أنساب الأشراف ٢: ٣٣٠، مختصر تاريخ دمشق ١٧: ١٢٢.

(٢) الشّبق: إشتداد الشهوة الجنسيّة.

(٣) العقد الفريد ٤: ٩١، أنساب الأشراف ٢: ٣٣٠، عيون الأخبار ٢: ٢١٠، شرح نهج البلاغة ٢: ٣٢٩، وفي نثر الدرّ ٢: ١٩٨ قال معاوية لعقيل: إنّ فيكم شبقاً يا بني هاشم. قال: هو منّا في الرجال، ومنكم في النساء.

٢٦٩

وقال معاوية لعقيل وقد ابتلي به: إنّ فيكم يا بني هاشم لِيناً. قال: أجل، إنّ فينا لينا من غير ضعف، وعزّاً من غير عنف، وإنّ لينكم يا معاوية غَدْر وسِلمكم كفر، فقال معاوية: ولا كلّ هذا يا أبا يزيد!(١)

فلم يكن عقيل يتكلّم من غير بيّنة؛ فهند أعطت لوحشي ضمير الصدر، ومعاوية مردّد بين الصُّبّاح؛ وبين أربع رجال، حاله حال أخيه عُتبة؛ وعدا الصُّبّاح والأربع فهناك رجل آخر...، ومن قبل تزوّجت هند رجالاً ثلاث؛ فأيّ شبق بعد هذا؟!

لم يكن معاوية يجهل حال أمّه هند؛ وهو يرى أنّ عمر بن الخطّاب يوصيه بها خاصّةً ويعرف كثيراً عن حياة هذا الرجل (أبوسفيان) الذي ارتبط بأمّه؛ وجدّة هذا الرجل (حمامة) ذكرناها في مشاهير البغايا من ذوات الرايات. ولـمّا كان من شأن هؤلاء وما اشتهروا به هو الاستلحاق والادّعاء، وقد استلحق ابن هند ابن سميّة زياداً فادّعى إخوّته، وهو مثله ابن زنىً يدعى إلى أربعة وأمّه من ذوات الرايات؛ فليس صعباً على ابن هند أن يمارس الزنا وإن تربّع على منبر المسلمين، فورث يزيد القرود ذلك منه!

المدائني عن محمّد الثقفيّ قال: دعا معاوية بجارية له خراسانيّة فخلا بها، وعرَضتْ له وصيفةٌ مولّدة فترك الخُراسانيّة وخلا بالوصيفة فنال منها وخرج فقال للخراسانيّة: ما اسم الأسد بالفارسيّة؟ فقالت: كَفْتار، فخرج وهو يقول: أنا الكَفْتار، فقيل له: أتدري ما الكفتار؟ قال: نعم الأسد، قالوا: لا ولكنّه الضّبُع العرجاء، فقال: ما لها لله دَرُّها! سرعان ما أدركت بثأرها(٢) .

ومن شابه أُمَّه فما ظلم! فكلاهما سواءٌ شرٌّ.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤: ٩٣.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٦٤.

٢٧٠

سوء تقدير، أم حسن تدبير

لا أظنّ أنّ بيتاً في جاهليّة ولا إسلام ضمّ بين حناياه ما ضمّه البيت الأمويّ من خزايات وعاهات، لا يفتحون ماخُورَهم إلّا لمعْرِقٍ في الغَدْر والكفر والعُهْر ومَن ضُرب في ضياع النسب بسهم وافر!

فكانت خضراء ابن هند بدمشق، وخضراء الحجّاج بواسط، وخضراء المنصور العباسيّ ببغداد؛ وأخيراً خضراء فرعون العصر وأعتى الطواغيت صدّام ببغداد أيضاً، مواخير فسق ومراتع إبليس ومناحر لأطهر وأشرف عباد الله، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

كان لابن هند هيئة استشارية يركن إليها في الملمّات منهم الصحابي الأعور الزنّاء المغيرة بن شعبة، وقد عرفت من قصّة غدره ببني مالك فذبحهم أجمعين، حسداً...، وإحصانه في الإسلام أكثر من ثمانين امرأة، ثمّ كان من فضائله زناه الذي شهد عليه فيه عند حاكم المسلمين عمر بن الخطّاب، وقد ناضل عمر أشدّ النضال في درأ الحدّ عن الصحابيّ حتّى جاء ابن سميّة زياد فأسمعه عمر ما يريده منه! ولذا فلم يشهد مثل سابقيه الّذين أذهبا بشهادتهما ثلثي دين المغيرة، فأبقى على الثالث الآخر فلهو لم يرَ مثلهما أنّه يدخله فيها ويخرجه إدخال الميل في المكحلة، وإنّما رآه متبطّنها جالساً بين فخذيها - ربما يعالجها من مرض! - ولم ير من عورته إلّا خصيته السوداويين؛ ونفساً يعلو؛ ونكص عن الشهادة برؤية ميل المغيرة يولجه في المرأة ويخرجه مثل الميل في المكحلة؛ فكبّر عمر وجلد الشهود...؛ وقد علمتَ مَن هي المرأة.

ومن لُجنته وإن شئت سمّيته وزيره: ابن النابغة عمرو الذي ينسب إلى ستّة، وتلونا عليك من أنبائه أنّ أمّه من ذوات الرايات، وما أكثر رايات البغاء والعُهْر والضلال في

٢٧١

هذا البيت! ولـمّا انعقدت نطفته سألوها إلى من تنسبه من هؤلاء الزّناة فاختارت العاص بن وائل السَّهميّ. ذكره ابن حبيب (ت ٢٤٥ هـ) في كتابيه (المحبّر: ١٦١) و (المنَمَّق: ٤٨٧) في (زنادقة قريش) - تعلّموا الزندقة من نصارى الحيرة - وهم: أبو سفيان صخر بن حرب، أظهر الإسلام؛ وعقبة بن أبي معيط، ضربت عنقه يوم بدر، ضربها عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وأبيّ بن خلف الجُمَيّ، قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد، والنَّصر بن كَلَدة من بني عبد الدار، قتله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر؛ ومنبّه، ونبيه ابنا الحجّاج السّهميّان، قتلا يوم بدر كافرين، قتلهما عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام. وقتل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام : العاص بن منبّه السَّهْميّ يوم بدر. وقد ذكرنا الذين قتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام من بني عبد شمس، وبني أميّة وغيرهم مع مصادر ذلك في غير هذا الموضع. وإنّما أردنا أن نشير إلى دواعي انضمام ابن النابغة إلى ابن هند، وكلاهما يعرف بأمّه، سارت بذلك الرّكبان. ولا يستحي عمرو أن ينتمي إلى أمّه موضع فخره! ركبها في يوم واحد، واحد وأربعون رجلاً وعاشرت العبيد بمكّة، ثمّ كانت الليلة المشؤومة التي تراودها فيها ستّة وانعقدت نطفة عمرو؛ فنسبته إلى العاص بن وائل.

قلنا: إنّ ابن حبيب ذكر العاص في الزنادقة؛ وكذلك قد ذكره في المستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وماتوا ميتات مختلفات.

قال: وأمّا سبب موته، فإنّ العاص بن وائل خرج في يوم مطير على راحلته ومعه ابنان له يتنزّه ويتغدّى، فنزل شعباً من تلك الشعاب، فلمّا وضع قدمه على الأرض صاح، فطافوا فلم يروا شيئاً، فانتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق البعير، فمات من لدعة الأرض(١) .

____________________

(١) المحبّر: ١٥٩، المنمّق: ٤٨٦.

٢٧٢

فالعاهة واحدة، وعقدة النسب؛ تؤلّف بين قلبي ابن هند، وابن النابغة وتجعلهما يداً على من حاز دونهما كلّ فخر، وزكى عليهما في طهارة المولد، ومفاخر آبائه وأمّهاته.

وهما مع علمهما أن لا نسب لهما بأبي سفيان صخر بن حرب، والعاص بن وائل السهميّ؛ فهما لم يجدا بدّاً من الرضا بهذا النسب حتّى أشربا إيّاه، يوترهما ما يوتره؛ وقد وتر أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ابن هند بما ذكرناه؛ ووتر ابن النابغة بما ذكرناه؛ فصار هذا سبباً آخر في أن يكونا جبهةً واحدةً.

النابغة: سأل رجل عمرو بن العاص عن أمّة فقال: سلمى بنت حَرمَلة، تُلقَّب النابغة من بني عنزة، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكِهُ بن المغيرة، ثمّ اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثمّ صارت إلى العاص بن وائل، فولدت له، فأنجبت، فإن كان جُعِل لك شيء فخذه(١) .

عمرو، أعرف بأمّه، فهي سبيّ، بيعت في الأسواق كما تباع البضائع، فاشتراها الفاكه بن المغيرة المخزوميّ(٢) ، وبعد أن نال منها وطراً! اشتراها منه عبد الله بن جدعان التيميّ، من قوم طلحة وأبي بكر؛ فأصاب منها دهراً، وأخيراً، برواية ابنها عمرو، صارت إلى العاص بن وائل.

فهو لا يجد حرجاً في الكلام عن أمّه وتقلّبها بين الرجال، إلّا أنّه لم يصرّح كيف صارت إلى العاص بن وائل، هل بالشراء مثل الفاكه، وابن جُدْعان؟

ثمّ خلط الأمور بقوله (فولدت له، فأنجبت)؛ إيحاءً منه بما حدث؛ فأنجبت

____________________

(١) أسد الغابة ٤: ٢٤٤.

(٢) الفاكه بن المغيرة المخزوميّ، ابن عمّ خالد بن الوليد المخزوميّ. والفاكه هو الزوج لهند أمّ معاوية، قتل عنها بالغميصاء؛ ثمّ حفص بن المغيرة، مات؛ ثمّ صخر (أبو سفيان) بن حرب. (المحبّر: ٤٣٧).

٢٧٣

عمرو؛ إلّا أنّه جعل الأمر وكأنّه بعد أن صارت النابغة إلى العاص وليس عكس ذلك أي: لـمّا واقعها عدّة رجال منهم العاص بن وائل فحملت بعد ذلك، فلمّا وضعت حملها سئلت: بمن يلحقوه؟ فاختارت العاص: فعلى ذلك؛ كان على عمرو أن يقول: إنّ النابغة وقع عليها العاص في رجال...، ويتمّ الخبر كما هو، وكيفما قال عمرو فإنّ النابغة لم تسمّ بذلك إلّا لنبوغها في الزنا، وهي من ذوات الرايات.

فحال عمرو في الانتساب إلى العاص مثل حال انتساب معاوية إلى أبي سفيان. إنّ انتساب عمرو إلى النابغة، هو الثغرة الأولى التي ينفذ منها كلّ من أراد تنقّصه وتوهين أمره؛ فإذا ذكره قال: يا ابن النابغة؛ وأعرض عن كفره وكشف عورته يوم صفّين ووشايته بجعفر وجماعته لدى النجاشيّ، وعدم غيرته وهو يرى رجلاً مع امرأته في فراشه؛ فإنّ النابغة غطّت على كلّ هذه الفضائح وغيرها وقد خاطبه سيّد الصادقين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام، يوم صفّين بذلك، لـمّا وقع الخلاف عند كتابة وثيقة التحكيم، فرفض ابن هند وابن النابغة صيغة الكتاب وامتنعا من تسمية عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام، مثلما كان من مشركي قريش في صلح الحديبيّة، إذ أصرّ مفاوضهم سهيل بن عمرو على محو عبارة (رسول الله) من وثيقة الصلح. وقد أشار أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى ذلك، طاعناً بإسلام عمرو وحزبه، فقال عمرو: سبحان الله! ومثل هذا شبّهتنا بالكفّار ونحن مؤمنون؟ فقال له عليّعليه‌السلام : (يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً، وهل تشبه إلّا أمّك التي وُضعت بك!)(١) .

المعاوية تكشف عورات حرب

قال ابن عبّاس: قدِمت على معاوية وقعد على سريره وجمع أصحابه، ووفودُ العرب

____________________

(١) وقعة صفّين: ٥٠٨.

٢٧٤

عنده، فدخلت وسلمت وقعدت، فقال: مَن الناس يا ابن عباس؟ فقلت: نحن. قال: فإذا غبتم؟ قلت: فلا أحد! قال: ترى أنّي قعدت هذا لا مقعد بكم؟ قلت: نعم، فبمن قعدت؟ قال: قال: بمن كان مثل حرب بن أميّة.

قلت: من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه. قال: فغضب وقال: وارِ شخصك شهراً قد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك. فلمّا خرج ابن عبّاس قال لخاصّته: ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟ إنّه(١) لم يلتق أحد من رؤساء قريش في عقبه أو مضيق مع قوم إلّا لم يتقدّمه أحد حتّى يجوزه، فالتقى حرب بن أميّة مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدّمه التميميّ، فقال حرب: أنا حرب بن أميّة، فلم يلتفت إليه التميميّ وجازه، فقال: موعدك مكّة؛ فبقي التميميّ دهراً، ثم أراد دخول مكّة فقال: من يجيرني من حرب بن أمية؟ فقالوا: عبد المطلب. قال: عبد المطلب أجَلّ قدَراً من أن يُجير على حرب! فأتى ليلا دارَ الزبير بن عبد المطّلب فدقّ عليه، فقال الزبير للغَيْداق(٢) : قد جاءنا رجلٌ إمّا طالب حاجة وإمّا طالب قِرىً وإمّا مستجير، وقد أعطيناه ما أراد.

قال: فخرج إليه الزبير، فقال التميميّ:

لاقَيْتُ حَرْباً في الثَّنِيّةِ مُقْبِلاً

والصبحُ أبْلَجَ ضَوؤُهُ للساري(٣)

فَدَعا بصوتٍ واكتَنَى لِيَرُوعَني(٤)

ودَعا بِدَعْوتِهِ يُريدُ فَخاري

فتركتُه كالكلبِ يَنبَحُ وحدَهُ

وأتيتُ أهلَ معالمٍ وفَخَارِ

____________________

(١) عائدة إلى حرب بن أميّة.

(٢) الغَيداق بن عبد المطّلب، واسمه نوفل، وأمّه ممتّعة بنت عمرو الخزاعيّة (جمهرة النسب: ٢٩، النسب: ١٩٧، الاشتقاق: ٤٧. وفي نسب قريش: ١٨: الغيداق، واسمه مصعب).

(٣) الثّنيّة: طريق الصعبة. أبلَجَ: أشرق وأضاء.

(٤) يروعني: يفزعني.

٢٧٥

لَيْثاً هِزَبراً يُستجارُ بقُربِه

رَحْبَ المباءةِ مُكِرماً للجارِ(١)

ولقد حلفتُ بزمزمٍ وبمكّةِ

والبيت ذي الأحجار والأستارِ

إنّ الزبير لَمانعي من خوفِه

ما كبَّر الحُجّاجُ في الأمصارِ

قال: تقدّم فإنّا لا نتقدّم من نُجيره. فتقدّم التميميّ فدخل المسجد، فرآه حرب فقام إليه فلطمه، فحمل عليه الزبير بالسيف فعدا حتّى دخل دار عبد المطّلب، فقال: أجرني من الزبير، فأكفأ عليه جفنةً كان عبد المطّلب يطعم فيها الناس، فبقي هناك ساعةً ثمّ قال له: أُخرج. فقال: كيف أخرج وتسعة من ولدك قد احتَبَوا بسيوفهم على الباب؟! فألقى عليه رداء كان كساه إيّاه سيف بن ذي يَزَن، له طرّتان خضراوان. فخرج عليهم فعلموا أنّه قد أجاره، فتفرّقوا عنه(٢) .

مكرمة جديرة بالذكر

من الإنصاف ذكر مكارم الناس وليس الاقتصار على الخوض في مثالبهم مهما كان خمول ذكرهم.

قال محمّد بن كعب: إنّا لجلوس مع البراء في مسجد الكوفة إذ دخل قاصّ، فجلس فقصّ، ثمّ دعا للعامّة والخاصّة، ثمّ دعا للخليفة، ومعاوية يومئذ خليفة!

فقلنا للبراء: يا أبا إبراهيم! دخل هذا فدعا للعامّة والخاصّة، ثمّ دعا لمعاوية فلم نسمعك قلت شيئاً، فقال: إنّا شهدنا وغِبْتُم، وعلما وجهِلْتم، إنّا بينا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحنين إذ أقبلت امرأة فوقفت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: إنّ أبا سفيان ومعاوية أخذا

____________________

(١) هِزَبر: شديد صلب. المباءة: المنزل، المحيط.

(٢) المحاسن والمساوئ، للبيهقيّ: ٨٩ - ٩٠، المحاسن والأضداد، للجاحظ: ٨٦ - ٨٧. وهذا معنى قول ابن عبّاس: (من أكفاً عليه إناءه وأجاره بردائه).

٢٧٦

بعيراً لي فغيّباه عليَّ. فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً إلى أبي سفيان بن حرب ومعاوية: أن ردّا على المرأة بعيرها. فأرسلا: إنّا والله ما أخذناه، وما ندري أين هو. فعاد إليها الرسول فقالا: والله ما أخذناه وما ندري أين هو. فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى رأينا لوجهه ظلالا ثمّ قال: انطلق اليهما فقل لهما: بل والله إنّكما صاحباه، فأديّا إلى المرأة بعيرها. فجاء الرسول إليهما وقد أناخا البعير وعقلاه فقالا: إنّا والله ما أخذناه، ولكن طلبناه حتّى أصبناه. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهبا(١) .

وقفة أخرى مع أميّة

فيما تقدّم، ذكرنا أنّ أميّة عبدُ عبدِ شَمْس، روميّ اشتراه عبد شمس من أرض مصر ثمّ أعتقه واستحلقه فصار يعرف بأميّة بن عبد شمس.

وإذا وقع شكّ في عبوديّة نسب أميّة؛ فلا شكّ في عبوديّة السبب! وقبل الحديث عن هذه باختصار نقول: لم يكن لأميّة في نفسه ميزة أو خليقة ترفعه إلى شرف ونُبْل. ولو افترضنا نسبته إلى عبد شمس، فلم يكن لهذا في نفسه ميزة كذلك؛ إنّما يذكر بأبيه وبأخيه هاشم الذي كان يكفل عيشه ويسدّ مسغبته(٢) .

ثمّ إنّ أميّة إنّما صار شيئاً مذكوراً ببنيه(٣) الذين إنّما أحيا ذكرهم ما قرنهم ببني هاشم، إذ صاروا خصوماً ألدّاء لهاشم وبنيه فلا يذكر الهاشميين ذاكر إلّا ذكر معهم الأمويّين مهما كانت المناسبة والذكر.

وذكره المقريزي أيضاً فقال: (ولم يكن أمية هناك...، وكان مضعوفاً وكان صاحب عهار)(٤) .

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٧٢ - ٧٣.

(٢) انظر: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٤٦٦.

(٣) النزاع والتخاصم، للمقريزي: ٢١.

(٤) نفس المصدر السابق: ٤١.

٢٧٧

ونورد نصّين نستجلي منهما حقيقةً مهمّة في أميّة:

في كتاب كتبه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى ابن هند، عقد فيه موازنة بين هاشم وأميّة وبين حرب وعبد المطّلب وبين نفر من آل هاشم ونفر من آل أميّة؛ وفيه: (وليس المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق)(١) .

ويقول أبوطالب من أبيات أنشأها حين تظاهر عليه وعلى رسول الله، بنو عبد شمس، ونوفل.

توالى علينا موالينا كلاهما

وإذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمر ولكن تراجما

كما ارتجمت من رأس ذي القلع الصخر

أخصّ خصوصاً عبد شمس ونوفلا

هما نبذانا مثل ما نبذ الخمر

قديماً أبوهم كان عبداً لجدّنا(٢)

بني أَمَة شهلاء جاش بها البحر

فهاتان شهادتان صادرتان من رجلين برَّيْن تقيّين يتحرّجان القولَ من غير علم، ويأنفان أن تأخذهما الحميّة فيتعمّد الهجاء؛ وإذا أخبرنا؛ لم يصدرا إلّا عن صدق وإنصاف.

ففي قول أمير المؤمنين إذ يخاطب ابن هند فيصفه بـ (اللصيق)؛ فليس أدلّ في اللغة العربيّة على انتحال أميّة نسبه إلى عبد شمس.

وفي قول أبي طالب زيادة في الدلالة وتفصيلاً لـِما أجمله ولده أمير المؤمنينعليهما‌السلام.

فقد نصب (بني) - في آخر بيت - بإضمار فعل يخصّص من كان أبوهم عبداً لجدّ الطالبيّين، فالمعنيّون في البيت: بنو أميّة بقرينة نصب (بني) بفعل (أعني أو أخصّ) وبهذا التقدير يتّسق البيت ويتّضح معناه.

____________________

(١) من كتاب لهعليه‌السلام جواباً على كتاب معاوية إليه، وهو في نهج البلاغة - باب الكتب رقم ١٧.

(٢) إشارة إلى واقعة استبعد فيها عبد المطلب أميّة عشر سنين، يأتي خبرها.

٢٧٨

والملفت أنّه أنّث الموصوف (أمة) وأتبع ذلك بتأنيث الصفة (شهلاء) وتأنيث الضمير (بها). أنّث كلّ ذلك باعتبار اللفظ ثمّ أنّثه قاصداً إلى تأنيثه استصغاراً له وتعويضاً عن تصغير لفظه الذي لا يستقيم معه الوزن لو جاء بلفظ (أميّة) فكأنّه حين أراد المصغر ولم يُواتِه الوزن، جاء بمُكبَّرهِ (أمَة) ثمّ دلّ على ما يريده منه بتوهين أمره واستصغار شأنه بهذا التأنيث المطّرد وبهذا الوصف الزريّ.

والبيت صريح بأنّ أميّة ممّا قذفه البحر إلى الحجاز مع هذه التجارة التي كانت ترد إلى مكّة من الروم وغيرها.

ولا يجيش البحر بسلع آدميّة إلّا الرقيق والإماء! وليس عبثاً انتقاء أبي طالب كلمة (شهلاء)، فهي صفة لا تعرف بها العين العربيّة التي هي في الأغلب سوداء؛ والشّهلة دون الزرقة، وهي صفة عرفت بها العين الروميّة، أو ربّما كثرت هذه الصفة في عيون الروم.

ويؤيّد ذلك، ما ذكرناه من نقيضته التي ناقض عصره ومحيطه الاجتماعيّ بها؛ المتمثّلة في استلحقاه عبده (ذكوان) وتسميته (أبو عمرو) ثمّ تزويجه امرأته في حياته، فهو بهذه الإباحيّة والتردّي في أخلاق ليست من أخلاق العرب في جاهليّتهم من شيء، وإنّما تناقضها تماماً إذ كانت الحميّة تطبع العصر الجاهليّ وتدمغ العفاف بسنّة قاسية غشوم تلك هي سنّة الوَأْد هرباً من خيال العار! وحرصاً على المرأة من تلك المهاوي الوقاح.

وربّما صلح هذا الأسلوب من أساليب الفسق الذي لا يعرفه العرب في الدلالة على الشكّ في نسبه وأيّد القول بعروضه على مكّة من وراء البحر حيث تشيع أمثال هذا المجون الذي يأنفه العرب وينكرونه(١) .

____________________

(١) نذكّر بما ذكرناه: فهو أميّة؛ تصغير أمَة؛ وهو عبد روميّ مُتبنّى؛ وتبنّى عبده (ذكوان) فسمّاه (أبو عمرو)؛ وزوّجه من امرأته.

٢٧٩

ومن هذا شأنه، فهو منبت كلّ سوء، ولذا تجد فيه الحسد لمن طار صيته في الآفاق ونطق بمجده الصغير والكبير؛ وورث هذا الحسد بنوه أصالةً أو بالاستلحاق مع مصاهرة على امرأته!! فهم يتنسمون الزندقة والإباحيّة والدياثة..؛ وبغض هاشم وبنيه، كلٌّ بغَضَه بوُسع حاله، فمنهم من نافرَه فنفرَه القمرُ الباهر فنفاه عن مكّة إلى الشأم عشرَ سنين.

وعاد اللصيق من منفاه في الشأم وكانّه ذهب في تجارة استغرقت منه عشر سنين في الذهاب والإياب والمتاجرة بماذا؟! وعاد إلى مكّة لم يفد من نفيه إلّا إلحاحاً على العناد وإسرافاً في الفساد ومضيّاً في الحسد وإيغالاً في العداوة؛ وكأنّ ابتعاده إلى تلك الأراضي قرّبه من أنفاس أبناء جلدته؛ ولـمّا وجد هاشماً قد أودع مكارمه (شيبة الحمد) وارتحل؛ فظنّ واهماً أن يصيب بعض الفوز مع عبد المطّلب بعد أن أخفق مع هاشم؛ إلّا أنّ اللصيق مضى يستفزّ عبد المطّلب ويلحّ إلى أن اضطرّ عبد المطّلب إلى قبول منافرة اللصيق ومراهنته؛ إلّا أنّه جعلها مناسبة للقضاء على معنويّة أمويّة وتحقيره وإهانته بما هو أهل له. ولم يكن رهاناً، إنّما امتحاناً صعباً لولا الروحيّة العظيمة وقدس الذات وصفاء النفس الّتي كان عليها عبد المطّلب، لـما أقدم على أمر يتساوى في عقباه مع أميّة؛ إذ طلب إجراء فرسين واحد له والآخر لأميّة، وشرط على المغلوب مائة من الإبل وعشرة من الأعبد، ومثلها من الإماء، واستعباد سنة، وجزّ الناصية وهو علامة على الاستعباد، يشقّ على من عوقب به تحمّله.

فهل مثل عبد المطّلب يضع مثل هذه الشروط وهو لا يدري أنّ فرس أميّة تجري مجرى فرسه وأنّ كلاّ منهما عرضة للكبوة؛ فكيف يكون أمره لو فاز أميّة في هذا الامتحان؟! فلتذهب الإبل وغيرها، أمّا أن يصبح عبد المطّلب - حاشا له! - عبداً

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328