أدب الطف الجزء ٩

أدب الطف15%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 363

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128746 / تحميل: 7962
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ٩

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصل العاشر

أم البنين وثورة عاشوراء

١٤١

أم البنين عليها‌السلام

ورحيل الحسين عليه‌السلام عن المدينة

لما دخل الامام الحسين عليه‌السلام على الوليد نعى اليه معاوية فاسترجع الامام.

قال له: لماذا دعوتني؟

قال: دعوتك للبيعة.

فطلب منه الامام تأجيل البيعة قائلاً: إنّ مثلي لا يبايع سراً ولا يجتزىء بها مني سراً، فاذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم كان الأمر واحداً...

لقد أراد الامام أن يعلن رأيه أمام الجماهير في رفضه البيعة ليزيد، وعرف مروان قصده فصاح بالوليد:

ولئن فارقك - يعني الحسين عليه‌السلام - الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبسه فان بايع وإلّا ضربت عنقه.

ووثب أبي الضيم كالأسد فقال للوزغ ابن الوزغ:

يا ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت (1) .

__________________

(1) تاريخ ابن الاثير 3 / 264.

١٤٢

وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفضه الكامل للبيعة ليزيد قائلاً: أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، وقاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحقّ بالخلافة والبيعة... (1) .

وبعد ما أعلن الامام رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب (2) .

روى عبد الله بن سنان الكوفي عن أبيه عن جدّه قال: خرجت بكتاب أهل الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام ، وهو يومئذٍ بالمدينة، فأتيته فقرأه فعرف معناه فقال: انظرني إلى ثلاثة أيام، فبقيت في المدينة، ثم تبعته إلى أن صار عزمه بالتوجه إلى العراق، فقلت في نفسي: أمضي وأنظر إلى ملك الحجاز كيف يركب؟ وكيف جلالته وشأنه؟

فأتيت إلى باب داره فرأيت الخيل مسرجة والرجال واقفين والحسين عليه‌السلام جالس على كرسي وبنو هاشم حافون به، وهو بينهم كأنه البدر ليلة تمامه وكماله، ورأيت نحواً من أربعين محملاً، وقد زينت المحامل بملابس الحرير والديباج.

قال: فعند ذلك أمر الحسين عليه‌السلام بني هاشم بأن يركبوا محارمهم على المحامل، فبينما أنا انظر وإذا بشاب قد خرج من دار الحسين عليه‌السلام وهو طويل القامة ووجهه كالقمر الطالع، وهو يقول: تنحو يا بني هاشم، وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار وهما تجران أذيالهما على الأرض حياءً من الناس، وقد حفت بهما إماؤها، فتقدم ذلك الشاب إلى محمل من المحامل وجثى على ركبتيه وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل.

فسألت بعض الناس عنهما، فقيل: أما أحدهما فزينب والأخرى أم كلثوم بنتا أمير المؤمنين.

__________________

(1) حياة الامام الحسين 2 / 255.

(2) السيدة زينب (للقرشي): 191.

١٤٣

فقلت: ومن هذا الشاب؟

فقيل لي: هو قمر بني هاشم العباس ابن أمير المؤمنين.

ثم رأيت بنتين صغيرتين كأنّ الله - تعالى - لم يخلق مثلهما، فجعل واحدة مع زينب والأخرى مع أم كلثوم، فسألت عنهما، فقيل لي: هما سكينة وفاطمة بنتا الحسين عليه‌السلام .

ثم خرج غلام آخر كأنه البدر الطالع ومعه امرأة وقد حفت بها إماؤها، فأركبها ذلك الغلام المحمل، فسألت عنها وعن الغلام، فقيل لي: أما الغلام فهو علي الأكبر ابن الحسين عليه‌السلام والامرأة أمه ليلى زوجة الحسين عليه‌السلام .

ثم خرج غلام وجهه كفلقة القمر ومعه امرأة، فسألت عنها فقيل لي: أما الغلام فهو القاسم بن الحسن المجتبى والامرأة أمه.

ثم خرج شاب آخر وهو يقول: تنحوا عني يا بني هاشم، تنحو عن حرم أبي عبد الله، فتنحى عنه بنو هاشم، وإذا قد خرجت امرأة من الدار وعليها آثار الملوك وهي تمشي على سكينة ووقار، وقد حفت بها إماؤها، فسألت عنها، فقيل لي: أما الشاب فهو زين العابدين ابن الامام وأمّا الامرأة فهي أمه شاه زنان بنت الملك كسرى زوجة الامام، فأتى بها وأركبها على المحمل.

ثم أركبوا بقية الحرم والأطفال على المحامل، فلما تكاملوا نادى الامام عليه‌السلام :

أين أخي؟ أين كبش كتيبتي؟ أين قمر بني هاشم؟

فأجابه العباس: لبيك لبيك يا سيدي.

ففقال له الامام عليه‌السلام : قدّم لي يا أخي جوادي.

فأتى العباس عليه‌السلام بالجواد اليه، وقد حفت به بنو هاشم، فأخذ العباس بركاب الفرس حتى ركب الامام.

ثم ركب بنو هاشم وركب العباس وحمل الراية أمام الامام.

١٤٤

قال: فصاح أهل المدينة صيحة واحة وعلت أصوات بني هاشم بالبكاء والنحيب وقالوا: الوداع.. الوداع، الفراق.. الفراق.

فقال العباس: هذا والله يوم الفراق والملتقي يوم القيامة.

ثم صاروا قاصدين كربلاء مع عياله وجميع أولاده ذكوراً وإناثاً إلا ابنته فاطمة الصغرى، فانها كانت مريضة (1) .

وكأني بأم البنين عليها‌السلام تشهد هذا الموقف الذي تتألم له صم الصخور، وهي تودع ريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرمه وابناءها البررة، وتوصي أولادها بأخواتهم وسيدهم ومولاهم الحسين عليه‌السلام ، وتقول لهم: كونوا فداءً لسيدكم وكونوا له عيناً ودرعاً، واجعلوا قلوبكم دروعكم للدفاع عنه وعن حرمه، ولا تقصروا في الذبّ عنه، وبيضوا وجهي عند أمه وأبيه وجده وأخيه وعنده.

حوار بين أم البنين عليها‌السلام وبشير:

قال في «اللهوف»: قال الراوي: ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة قال بشير بن حذلم: فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال: يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه؟

فقلت: بلى يا ابن رسول الله، إني لشاعر.

فقال عليه‌السلام : ادخل المدينة وانع أبا عبد الله.

قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء فأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج

والرأس منه على القناة يدار

__________________

(1) معالي السبطين 1 / 221.

١٤٥

قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين عليه‌السلام مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله اليكم أعرفكم مكانه.

قال: فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلّا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخمشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه (1) .

قال بشير: ورأيت امرأة كبيرة تحمل على عاتقها طفلاً وهي تشق الصفوف نحوي، فلمّا وصلت قالت: يا هذا أخبرني عن سيدي الحسين عليه‌السلام ، فعلمت أنها ذاهلة؛ لأني أنادي «قتل الحسين» وهي تسألني عنه، فسألت عنها، فقيل لي: هذه أم البنين عليها‌السلام ، فأشففت عليها وخفت أن أخبرها بأولادها مرة واحدة.

فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عبد الله.

فقالت: ما سألتك عن عبد الله، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قال: فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عثمان.

فقالت: ما سألتك عن عثمان، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر.

قالت: ما سألتك عن جعفر، فانّ ولدي وما أظلته السماء فداءً للحسين عليه‌السلام ، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس.

قال بشير: لقد رأيتها وقد وضعت يديها على خاصرتها وسقط الطفل من على عاتقها وقالت: لقد والله قطعت نياط قلبي، أخبرني عن الحسين.

قال: فقلت لها: عظم الله لك الأجر بمصاب مولانا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام .

__________________

(1) معالي السبطين 2 / 203.

١٤٦

ما أعظم موقفها عليها‌السلام وأعظم مصابها برزية الامام، مما يكشف عن مدى إيمانها ورسوخ اعتقادها وولاءها الوثيق وحبها الذي يوصف للحسين عليه‌السلام ، ولطالما كانت تقول: ليت أولادي جميعاً قتلوا وعاد أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام سالماً.

إنّ شدة حبها للحسين يكشف عن علو مرتبتها في الايمان وقوة معرفتها بمقام الامامة بحيث تستسهل شهادة أولادها الأربعة - وهم لا نظير لهم أبداً - في سبيل الدفاع عن إمام زمانها (1) .

قال السيد محمد كاظم الكفائي:

أم على أشبالها أربع

جاءت لبشر وبه تستعين

وتحمل الطفل على كتفها

تستهدي فيه خبر القادمين

ملهوفة مما بها من أسى

ترى بذاك الجمع شيئاً دفين

فقال يا أم ارجعي للخبا

وابكي بنيك قتلوا أجمعين

فما انئنت وما بكت أمهم

وخاب منه ظنه باليقين

كأنهم الطود وما زلزلت

وحق أن تجري لهم دمع عين

فقال يا أم البنين اعلمي

بأن عباساً قتيلاً طعين

قالت طعنت القلب مني فقل

النفس والدنيا وكل البنين

نمضي جميعاً كلنا للفنا

نكون قرباناً فدىً للحسين

فقال يا أم البنين البسي

ثوب حداد الحزن لا تنزعين (2)

لقاء أم البنين عليها‌السلام مع زينب الكبرى عليها‌السلام :

كانت أم البنين عليها‌السلام من النساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام مخلصة

__________________

(1) أنظر: تنقيح المقال 3 / 70.

(2) أم البنين للسيد الكفائي: 82.

١٤٧

في ولائهم ممحضة في مودتهم، ولها عندهم الجاء الوجيه والمحل الرفيع، وقد زادتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزيها بأولادها الأربعة كما كانت تزورها أيام العيد (1) .

ويقال: لمّا دخل بشير إلى المدينة ناعياً الحسين عليه‌السلام وخرج الرجال والنساء وخرجت من جملتهن أم البنين، فلما سمعت بقتل الحسين عليه‌السلام خرّت مغشياً عليها، وحبى عائلة الحسين عليه‌السلام إلى المنازل، فقالت زينب عليها‌السلام : لا أريد أحداً يدخل عليّ في هذا اليوم إلّا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء، وجلست في منزلها وجعلت فضة على الباب.

فلما أفاقت أم البنين عليها‌السلام من غشيتها سألت عن الحوراء زينب وعن العائلة فأخبروها بذلك، فبينما هنّ في البكاء والعويل وإذا بالباب تطرق.

فقالت فضة: من بالباب فانّ سيدتي زينب لا تريد أحداً يدخل عليها إلّا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء.

فقالت: قولي لسيدتك زينب إنّي شريكتها في هذا العزاء وأريد أن أدخل عليها لأساعدها فاني مثلها في المصاب.

فلما أخبرت فضة زينب قالت: سليها من هي التي تكون مثلي في المصاب، ثم قالت: إن صدق ظني فانها أم البنين عليها‌السلام .

فرجعت فضة وقالت لها: تقول سيدتي من أنت التي مثلها في المصاب؟

قالت: إني الثاكلة أم المصيبة العظمى.

قالت: أوضحي لي؟

قالت: الحزينة صاحبة الفاجعة الكبرى.

قالت: أوضحي لي من تكونين؟

__________________

(1) العباس عليه‌السلام (للمقرم): 72.

١٤٨

قالت: أو ما عرفتني، إنّي أم البنين عليها‌السلام .

فقالت فضة: لقد صدقت سيدتي في ظنها وإنّك - والله - كما تقولين، أم المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى، ثم فتحت لها الباب.

فلمّا دخلت استقبلتها زينب واعتنقتها وبكت وقالت: عظم الله لك الأجر في أولادك الأربعة.

قالت: وأنت عظم الله لك الأجر في الحسين عليه‌السلام وفيهم، وبكت وبكى من كان حاضراً (1) .

أم البنين تندب أبناءها:

روى أحمد بن عيسى عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام مسنداً قال: إنّ زيد بن رقاد الجهني وحكيم بن الطفيل الطائي، قتلا العباس بن علي.

وقال أبو الفرج الاصفهاني: وكانت أم البنين عليها‌السلام أم هؤلاء الأربعة الاخوة القتلى تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرها فيجتمع الناس اليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي (2) (3) .

__________________

(1) مولد العباس لمحمد علي الناصري: 44.

(2) لقد كانت ندبة أم البنين عليها‌السلام مشجية «صم الصخور لهولها تتألم» ولكن ذلك لا يعني أبداً أن يرقّ قلب الوزغ ابن الوزغ مروان ابن الحكم، فقد يستفاد من قول أبي الفرج أن ندبة أم البنين كانت محرقة للقلوب بحيث تأثر بها مروان على قساوته إلّا أن هذا مما لا يمكن تصويره في حق هذا اللعين، وهو الذي حارب أهل البيت عليهم‌السلام ولم يفتر عن حربهم لحظة من عمره المشؤوم، وهو الذي ألّب عليهم وحرض وكاد لهم أحياءً وأمواتاً، وهو المتشفي بقتل الحسين عليه‌السلام وقد أظهر الفرح والشماته بقوله لما نظر إلى رأس الحسين عليه‌السلام :

يا حبذا بردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدين

كأنه بات بعسجدين

شفيت نفسي من دم الحسين

(3) مقاتل الطالبيين: 90 ذيل ترجمة العباس عليه‌السلام .

١٤٩

وقال العلامة السماوي في «إبصار العين»: وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ترثيه وتحمل ولده عبيد الله فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة، وفيهم مروان بن الحكم، فيبكون لشجى الندبة، وكان من قولها عليها‌السلام :

يا من رأى العباس كر

على جماهير النقد

ووراه من أبناء حيدر

كل ليث ذي لبد

انبئت أن ابني أصيب

برأسه مقطوع يد

ولي على شبلي أما

ل برأسه ضرب العمد

ولو كان سيفك في يد

يك لما دنا منه أحد

وقولها عليها‌السلام :

لا تدعوني ويك أم البنين

تذكريني بليوث العرين

كانت بنون لي ادعى بهم

واليوم أصبحت ولا من بنين

أربعة مثل نسور الربى

قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الخرصان أشلائهم

فكلهم أمسى صريعاً طعين

يا ليت شعري أكما أخبروا

بان عباساً قطيع اليمين (1)

أم البنين تحيي ذكرى عاشوراء:

كانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بزمانها والعارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، كما كانت فصيحة لسنة ورعة، وكانت ممن حمى حريم الحسين، وأقامة العزاء عليه لتشارك في حفظ ثورته والوفاء لدمه الذي سكن الخلد، وتشكل حلقة مهمة في امتداد الثورة، وتكون صوتاً للحنجرة المقدسة التي قطعت.

وقد اتخذت من أسلوب الندبة والنياحة سبيلاً للنداء بمظلومية الحسين

__________________

(1) إبصار العين: 31 - 32.

١٥٠

وآل البيت عليهم‌السلام فكانت - كما مر قبل قليل - تحمل عبيد الله بن العباس وتخرج إلى البقيع تقيم المآتم على قتيل العبرات، وتندب أولادها أشجى ندبة، وتتمنى لو كان الحسين حياً وتموت هي وأولادها ومن على الأرض فداءً له، وكانت تتوخى من وراء ذلك:

1 - إقامة المآتم على سيد الشهداء وريحانة الرسول وتعظيم شعائر الله.

2 - تعلن للملأ عن شجاعة الحسين وأولادها ومظلوميتهم وتفخر بهم على التاريخ.

3 - تشرح أحداث كربلاء وما وقع فيها من ظلامات لآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفجائع يخجل منها كل مخلوق، وتصيغ ذلك بأسلوب الندبة العاطفي، وتعلن بذلك عن اعتراضها على الوضع القائم وحكومة الطاغوت.

4 - تفضح الحكام الظلمة الذين تسلطوا على مقدرات الأمة وحاولوا تضليل الناس، وقلب الحقائق على مرّ التاريخ، فكانت أم البنين عليها‌السلام تبين الحق والحقيقة من خلال ذلك.

5 - تحرض الناس ضد بني أمية وأذنابهم وتطالب بدماء الأحراء من آل البيت عليهم‌السلام .

6 - وكانت تخرج إلى البقيع - مع أن قبر العباس وأخوته في كربلاء - ليجتمع الناس هناك ويتذكرون مظالم الحسن وريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصديقة الطاهرة وتعيد لهم ذكرياتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هناك وتذكرهم بمواقف المسلمين في صدر الاسلام في الذبّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ضمتهم الآن هذه المقبرة المقدسة.

7 - وكانت تحمل معها عبيد الله بن العباس - حفيدها - باعتباره كان موجوداً في يوم الطف فهو شاهد عيان ودليل وبرهان حي يروي لهم ولمن سيأتي من الأجيال ويجتمع له أترابه والكبار والصغار....

١٥١

لقد ساهمت أم البنين عليها‌السلام في إبلاغ خطاب عاشوراء إلى المجتمع المعاصر لها وأبلغت مسامع الايام ليتردد صوتها إلى جانب صوت أم المصائب زينب عليها‌السلام حينما وقفت كالطود الشامخ لا تحركه العواصف لتحمي ثورة الحسين عليه‌السلام ، وتحفظ الحق ورسالة التوحيد على طول خط التاريخ.

* * *

١٥٢

الفصل

الحادي عشر

التوسل بأم البنين عليها‌السلام

١٥٣

التوسل بأم البنين عليها‌السلام

من سنن الله الجارية في أوليائه ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) (1) إكرامهم باظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه، وذلك غير ما ادخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة، تقديراً لعملهم واصحاراً بحقيقة أمرهم ومبلغ نفوسهم من القوة وحثاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة، ومهما كان العبد يخفى الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الاخفاء باشهار فضله، كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبرّه المتواصل، وأنّه جلت آلاؤه يظهر الجميل من أفعال العباد ويزوي القبيح رأفة منه وحناناً عليهم.

ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المقربين وقباب المستشهدين في سبيل الله من آثار العظمة وآيات الجلال من إنجاح المتوسل بهم اليه - تعالى شأنه - وإجابة الدعوات تحت قبابهم المقدسة، وإزالة المثلات ببركاتهم، وتتأكد الحالة إذا كان المشهد لأحد المنتسبين للبيت النبوي؛ لأنه جلت حكمته ذرأ العالمين لأجلهم؛ ولان يعرفوا مكانتهم فيحتذوا أمثالهم في الأحاكم والأخلاق، فكان من المحتم في باب لطفه وكرمه - عظمت نعمه - أن يصحر الناس بفضلهم الظاهر.

__________________

(1) سورة فاطر: 43.

١٥٤

ومن المنتسبين إلى ذلك البيت الطاهر الذي أذن الله أن يرفع فيه اسمه «أم البنين عليها‌السلام »، فانها في الطليعة من أولئك الذين بذلوا في الله ما عزّ لديهم وهان حتى اتصلت النوبة إلى أولادها وفلذة كبدها، بل أذهبت نفسها في زفراتها الحارة على الحسين وآله عليهم‌السلام ، فكان ذلك كلّه نصب عينه - تعالى ذكره - فأجرى الله سنته الجارية في الصديقين فيها بأجلى مظاهرها؛ ولذلك تجد المؤمنين في أصقاع الأرض يتوسلون بها إلى الله، ويستشفعون بها في حاجاتهم في آناء الليل وأطراف النهار، ويجعلونها باباً من أبواب رحمة الله، فيطرقه أرباب الحوائج من عاف يستمنحه بره، إلى حمى أمنه، إلى أنواع من أهل المقاصد المتنوعة، فينكفأ فلج الفؤاد بنجح طلبيته، قرير العين بكفاية أمره، إلى منتجز باعطاء سؤله، كلّ هذا ليس على الله بعزيز، ولا من المقربين من عباده ببعيد.

توسلوا بأمي أم البنين عليها‌السلام :

يقول المؤلف: حدّث العالم الفقيه آية الله الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس‌سره في تاريخ 27 ذي الحجة الحرام سنة (1416) ضمن حديثه عن عظمة شخصية أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

رأى أحد العلماء في عالم المكاشفة قمر بني هاشم أبا الفضل العباس عليه‌السلام وقال له: سيدي إن لي حاجة فبمن أتوسل حتى تقضي حاجتي؟

فأجابه عليه‌السلام : توسل بأمي أم البنين عليها‌السلام .

ونحن نذكر هنا بعض الختومات وآداب التوسل بتلك السيدة المباركة من المجربات التي رويت عن بعض الأساطين:

١٥٥

1 - إهداء الصلوات:

قال المرحوم آية الله الحاج السيد محمود الحسيني الشاهرودي المتوفي في 17 شعبان (394 هـ):

إني أصلّي على محمد وآل محمد مائة مرة وأهديها إلى أم البنين عليها‌السلام فتقضي حاجتي.

2 - نذر الاطعام:

أن ينذر لأم البنين عليها‌السلام ويطعم الفقراء باسم أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، وهو من المجربات في قضاء الحوائج.

3 - ختم سورة «يس»:

قراءة سورة «يس» عشرة مرات في أربع أسابيع كالتالي، وهو مؤثر إن شاء الله تعالى:

يقرأها في ليلة الجمعة من الأسبوع الأول ثلاث مرات، وفي ليلة الجمعة من الأسبوع الثاني يقرأ ثلاث، وفي ليلة الجمعة من الأسبوع الثالث يقرأ ثلاث أيضاً، وفي ليلة الجمعة الأخيرة في الأسبوع الرابع يقرأها مرة واحدة ويهديها لأم البنين عليها‌السلام نيابة عن أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، فانه ستقضى حاجته إن شاء الله على أتم وجه.

4 - تجهيز من يزور كربلاء نيابة عن أم البنين عليها‌السلام :

حدثني الحاج الشيخ محمود الخليلي في شوال المكرم سنة (1418 هـ) في منزل آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي قدس‌سره قال:

إنّ آية الله الحاج السيد محمد الروحاني قدس‌سره كان يتوسل في المهمات والمشاكل المعضلة بأم البنين عليها‌السلام ، وكان توسّله بتلك المخدرة المجللة أن ينذر لله أن

١٥٦

يقضي حاجته ويكشف كربته على أن يبعث إلى كربلاء من يزور هناك نيابة عن أم البنين عليها‌السلام ، ويتحمّل كافة مصروفات سفره.

وأتذكر جيداً أني حظيت في سنة (1383 هـ) بشرف زيارة كربلاء نيابة عن السيدة أم البنين من قبل السيد قدس‌سره فدفع لي مبلغ «نصف دينار» ما يعادل عشرة دراهم، وكانت الأجرة يومها ذهاباً وإياباً تتراوح بين ثلاثة أو أربعة دراهم.

قال أيضاً: ابتلي آية الله الروحاني ذات مرة بألم شديد في سنّه، وكن ألماً مبرحاً لا يطاق، فراجع طبيبه الدكتور الطريحي فلم يجده، فلما اشتد الألم اشتداداً مروعاً نذر لله إن نجّاه من هذا الألم أن يستأجر من يزور كربلاء نيابة عن أم البنين عليها‌السلام في ليلة الجمعة القادمة، فلم تمض لحظات حتى سكن الألم وكأن لم يكن شيئاً، وفي عصر اليوم التالي عاد الالم مجدداً فقال السيد: يبدو أن الطبيب قد حضر، فراجعه فوجده في مطبه، فقلع سنه وارتاح من بلائه، كلّ ذلك ببركة أم البنين عليها‌السلام .

وأضاف الشيخ الخليلي: إنّي علّمت هذا التوسل بهذه الطريقة لكثير من ذوي الحاجات فكان نافعاً في قضاء حوائجهم وكشف كربهم.

5 - إهداء الصلوات للمعصومين وقراءة دعاء التوسل:

ختم مذكور في كتاب «مجموعة علم جعفر» ووقته بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العشاء، والأفضل أن يشرع به في أول الشهر وهو كالتالي:

في اليوم الأول: ألف مرة «اللهم صلّ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم» ويهديخا إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي اليوم الثاني: أيضاً ألف مرة على النحو المذكور لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

١٥٧

وفي اليوم الثالث: لسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها‌السلام .

وفي اليوم الرابع: للامام المجتبى ريحانة الرسول الحسن المظلوم عليه‌السلام .

وهكذا على عدد المعصومين عليهم‌السلام حتى يصل إلى صاحب الأمر والزمان - أرواح العالمين له الفداء -.

وفي اليوم الخامس عشر: أيضاً ألف مرة على النحو المذكور لأبي الفضل العباس عليه‌السلام .

وفي اليوم السادس عشر: لأم البنين عليها‌السلام

وفي اليوم السابع عشر: لزينب الكبرى عليها‌السلام .

وفي اليوم الأخير: بعد أن ينتهي من الصلوات يقرأ الدعاء المعروف المذكور في مفاتيح الجنان وأوله «اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة...».

قال في الكتاب المذكور: نقل لي من أثق به أنّ جماعة التزموا هذا الختم وأدوه جماعة، فلمّا انتهوا منه تشرفوا بزيارة العباس عليه‌السلام فقال لهم: «حاجتكم مقضية».

أقسم الرجل المذكور أيماناً مغلظة قائلاً: كنّا جماعة وقد قضى الله حوائجنا جميعاً والحمد لله (1) .

6 - قراءة الفاتحة لام البنين عليها‌السلام :

مما اشتهر بين الناس سيما من يعرف منهم مقام أم البنين عليها‌السلام ومنزلتها أنّه إذا فقد حاجة وضاعت منه وأراد أن يبحث عنها فانّه يقرأ سورة الفاتحة ويصلي على محمد وآل محمد ويهديها لأم البنين عليها‌السلام ، فانّه يجد ضالته باذن الله، وقد جرب ذلك مراراً.

__________________

(1) استفدنا ذلك من مذكرات السيد مرتضى المجتهدي السيستاني.

١٥٨

7 - إهداء ختمة قرآن لأم البنين عليها‌السلام :

بعث الحاج الشيخ محمد علي إسلامي رسالة إلى «انتشارات مكتب الحسين عليه السالم» بتاريخ ذي الحجة الحرام (1419 هـ) وقال فيها:

«.. إنّي المدعو «محمد علي بن أحمد الاسلامي» حدثت لي معضلة لا يمكن حلّها عادة، وكانت متعلقة بعدة دوائر رسمية، وقد سدّت جميع الأبواب في وجهي، ولم أجد أي حيلة أو سبيل لحلّها، فتوسلت بالسيدة أم البنين عليها‌السلام وقلت لها: سيدتي أُم البنين.. إنّ لك عند الله جاهاً عريضاً وأنا سأختم القرآن الكريم وأهدي ثوابه لروحك المقدسة وفي المقابل توسلي أنت إلى الله في حلّ مشكلتي.

أجل؛ هكذا نذرت وشرعت في تلاوة القرآن الكريم وقبل إتمام الختمة تيسر أُموري كلّها وقضيت حاجتي، فكنت إذا راجعت أي دائرة من الدوائر وجدت السبيل مفتوحة والأُمور ميسرة والوجوه طلقة، وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

هكذا هي هذه الأُسرة الجليلة شفيعتنا في الدنيا والآخرة.

8 - إهداء زيارة عاشوراء لأم البنين عليها‌السلام :

السيد محمد حسين جعفر زاده عقيد متقاعد يسكن في منطقة «عظيمية» في كرج من ضواحي طهران العاصمة.. أرسل رسالة إلى «مكتب الحسين عليه‌السلام » ذكر فيها كرامة لقمر العشيرة أبي الفضل العباس عليه‌السلام وضمّنها توسلين بأُم البنين عليها‌السلام فقال:

1 - قضيت ثلاثين سنة من عمري في خدمة الجيش في الجمهورية الإسلامية، ومن ثم أحلت على التقاعد، فقدمت لي دعوة من «منظمة الاعلام الاسلامي» أولاً، ومن ثُمَّ من إحدى المراكز الناشطة في المدينة «كرج» لأقوم بتدريس فن قراءة المراثي وإقامة العزاء «ما يسمى عند الناس بالرادود» فقبلت الدعوة وشرعت بالتدريس على بركة الله، وقد كتبت - لحد الآن - أربعة كتب في هذا الفن وقدمتها لخدام المنبر الحسيني.

١٥٩

وفي ذات يوم - وكان اليوم جمعة - كنت مشغولاً بالتدريس وقت الحصر إذ دخل أحد التلاميذ ذاهلاً فاستأذن وقال: إنّ أبي الآن يعالج الموت، وقد تركته في سكراته محتضراً ووجهته إلى القبلة، وجئت لأعتذر اليك عن التأخير وأعود اليه.

فقلت له: اسمع مني سأروي لك حديثاً عن سيدتي فاطمة الزهراء عليها‌السلام فانها قالت: سألت أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أي ساعة أفضل لاستجابة الدعاء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عند الغروب يوم الجمعة.

فنحن ندعو ولكن الأفضل أن تنذر أنت أيضاً نذراً قال: إنّي الآن في حالة من الاضطراب وتشتت البال بحيث لا أدري ماذا أفعل وماذا أنذر، أرجوا أن تنصحني وتعلمني وترشدني إلى ما أفعل؟

فقلت له: إنذر الآن أن تقرأ زيارة عاشوراء عشرة مرات وتهديها لأم البنين عليها‌السلام بقصد شفاء والدك.

فقال: أفعل، ورجع إلى البيت مسرعاً، فلمّا دخل البيت بلغ به العجب غايته، إذ رأى أباه واقفاً في ساحة الدار مشتغلاً بالوضوء والاستعداد لصلاة المغرب، فسأل عن ذلك، فأخبروه أنّه منذ نصف ساعة تقريباً انقطعت عنه الحمى فجأة وأخذ يتماثل إلى الشفاء وبدأت أعراض المرض تزول منه حتى قام قائماً على قدميه.

قال العقيد جعفر زاده:

وها هو ذا الأب حفظه الله يشتغل بالقرب منا يزاول عمله سالماً غانماً.

2 - في يوم 22 رمضان سنة 1420 قالت لي زوجتي: إنّ تحت ابطي غدة بحجم «بيضة»، وبقيت على هذه الحال إلى أن انتهى الشهر الكريم، فراجعنا الطبيب الجراح فأخذ نموذجاً من الغدة وأرسلها إلى ال مختبر لتجرى عليها زراعة وتحليل لتشخيصها، إلّا أنّه لوّح لنا في كلامه إلى أنّها غدة خبيثة، وكانت نظرات العاملين في المختبر تحكى ذلك أيضاً. فتوجهت إلى الأئمة الأطهار وتوسلت بهم

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

السيد جواد القزويني

المتوفى ١٣٥٨

هلا تعود بوادي لعلع وقبا

مرابع ذكرها في القلب قد وقبا

أيام لهو مضت فيمن أحب وقد

أبقت معنى إلى تلك العهود صبا

تعذبت مهجتي يوم الرحيل بهم

كأن طعم عذابي عندهم عذبا

لا تحسبوا أعيني تجري مدامعها

عليك بل لآل المصطفى النجبا

أبكيهم يوم حلّوا بالطفوف ضحى

وشيدوا في محافي كربلا الطنبا

وأقبلت آل حرب في كتائبها

تجرّ حرباً لرحب السبط واخربا

ساموه إما كؤوس الحتف يجرعها

أو أن يذل ولكن الاباء أبى

نفسي الفداء لظامي القلب منفرداً

وغير صارمة في الحرب ما صحبا

لهفي له مذ أحاطت فيه محدقة

أهل الضلال وفيه نالت الإربا

رموه في سهم حقد من عداوتهم

مثلثاً في شظايا قلبه نشبا

من بعده هجمت خيل الضلال على

خدر النبوة بالله فانتهبا

أبدوا عقائل آل الوحي حاسرة

لم يتركوا فوقها ستراً ولا حجبا

الله كم قطعت لابن النبي حشى

في كربلاء وكم رحل بها نهبا

وكم دم قد أراقوا فوق تربتها

وكم يتيم بكعب الرمح قد ضربا

سروا بهن على الأقتاب حاسرة

إلى ابن هند تقاسي الوخد والنصبا

١٨١

الجواد بن الهادي ابن السيد ميرزا صالح ابن الحجة الكبير السيد مهدي القزويني:

هداة اباة في سما المجد أشرقت

وحسبك من هادٍ بشير إلى هادي

ولد سنة ١٢٩٧ ه‍. في قضاء الهندية قبل وفاة جده الكبير بثلاث سنوات نشأ على حب العلم والكمال ودرس مبادئ العلوم على عمه السيد أحمد ثم أرسله أبوه إلى النجف وألحقه بأخويه: السيد محيي والسيد باقر وهما أصغر منه سناً فنالوا قسطاً كبيراً من الفقه على جملة من اعلام النجف كالحاج ميرزا حسين الحاج خليل والشيخ مهدي المازندراني وآية الله الخراساني والملا كاظم إلى أن حدثت الحرب العالمية الاولى سنة ١٣٣٢ ه‍. عاد المترجم له إلى الهندية مزوّداً بجملة من شهادات مشايخه الاعلام التي تخوله نشر الأحكام. وكانت أيام العطل الصيفية هي مواسم المطارحات الأدبية والمبارات الشعرية مضافاً إلى ولعه الشديد بمطالعة كتب الأدب والشعر والأخبار وسيرة أهل البيت حتى ألّف من ذلك مجاميع تضم النوادر والفوائد والشواهد. رأيت بخط الخطيب الشهير الشيخ محمد علي قسام جملة من الرسائل الأدبية والمقاطيع الشعرية والذوق الأدبي، أبرق للسيد محمد علي القزويني بمناسبة تعيينه عضواً في مجلس الأعيان:

تفرست الملوك بك المعالي

وقد أحرزتها بعلوّ شان

فلا عجب إذا أصبحت ( عينا )

لأنك عين انسان الزمان

وله مفردات ومقاطيع قالها في مناسبات شتى وقصائد رثى بها سيد الشهداء أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام منها قصيدة التي مطلعها:

هلا دروا بمحبٍّ عندما ذهبوا

تجري مدامعه دمعاً وتنسكب

١٨٢

واخرى أولها:

أحباي لا أصغي للومة لائم

ولا انثني عن ودكم باللوائم

وقوله:

ما للأحبة لا يأوون خلانا

هلا دروا أننا حانت منايانا

وديوانه المخطوط معظمه في الإمام الشهيد كما كتبَ وخلّف من الآثار كتاب ( لواعج الزفرة لمصائب العترة ) يقع في ثلثمائة صفحة استعاره بعض المتأدبين ولم يُرجعه، وكتاب « الفوادح الملمة في مصائب الأئمة » حققه حفيده السيد جودت القزويني، توفي السيد جواد أوائل شعبان سنة ١٣٥٨ ه‍. في الهندية وحمل نعشه على الأعناق مسافة أميال ثم حمل إلى النجف حيث دفن في مقبرة آبائه الخاصة بالاسرة ورثاه فريق من الشعراء كالشيخ قاسم الملا والسيد محمد رضا الخطيب والشيخ عبد الحسين الحويزي وغيرهم.

١٨٣

الشيخ عبد الغنى الحر

المتوفى ١٣٥٨

أنختُ بباب باب الله رحلي

محط رحال كل رجا وسؤلِ

وقد يممت بحر ندى وجود

ومعروفاً بمعروف وفضل

ولذت بظل كهف حمى حسين

لجى اللاجين في حرم وحِلّ

بنائله الظما يروى وروداً

وغيث نداه منهل كوبل

وفدت عليك يحدوني اشتياقي

وأحشائي بنار جواي تغلي

رجاءً أن تحط الثقل عني

فأنت القصد في تخفيف ثقلي

وغوثك فيه يكشف كل خطب

وغيثك فيه يخصب كل محل

وغفران الذنوب وكل وزر

بدا مني بقولٍ أو بفعلِ

ونصري يا ملاذ على الأعادي

وإعزازي على ما رام ذلّي(١)

الشيخ عبد الغني الحر المتوفى سنة ١٣٥٨ ه‍. ترجم له البحاثة الطهراني في نقباء البشر فقال: هو الشيخ عبد الغني ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ علي بن أحمد بن محمد بن محمود بن محمد الحر العاملي.

عالم فاضل وأديب شاعر. كان في النجف الأشرف من أهل العلم والفضلاء

__________________

١ - عن مجموع خطي يحتوي على اربعين قصيدة كلها في رثاء الامام الحسين وأخيه العباس ابن عليعليهم‌السلام وهي بخط الناظم.

١٨٤

الأجلاء وكان على طريقة الاخيارية، وهو شاعر مكثر لا سيما في مدح أهل البيت ورثائهم وهو سريع البديهة جداً وشعره متوسط، طبع له ( منتظم الدرر في مدح الإمام المنتظر ) طبع بالمطبع الحيدرية بالنجف سنة ١٣٣٩ ه‍. يحتوي على ٧٢ صفحة. توفي يوم الثلاثاء منتصف محرم الحرام سنة ١٣٥٨ ه‍. ودفن في الايوان الذهبي في الصحن العلوي الشريف. وله شعر كثير وله تخميس التائية الشهيرة لدعبل بن علي الخزاعي والتي أولها:

تجاوبن بالأرنان والزفرات

نوائح عجم اللفظ والنطقات

وله تخميس قصيدة السيد جعفر كمال الدين الحلي والتي أولها:

يا قمر التمّ إلى مَ السرار

ذاب محبّوك من الانتظار

ومن ذكرياتي عن المترجم له أني كنت أجتمع بجملة من اللبنانيين الأفاضل ورجال العلم في الاسبوع مرة في دار العلامة المرحوم الشيخ عبد الكريم الحر وهو صهر الشيخ المترجم له فكنا نقضي ساعات من الليل في الاستماع إلى شعره الذي كان يحفظه ويردده بانشودته ونبراته ولا أنسى أن كل ما ينظم ويقرأ هو في مدح حجة آل محمد صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن سلام الله عليهما. أمّا ما رواه لي ولده العلامة الشيخ محمد الحر سلمه الله عن سيرة والده رحمه الله قال: كان لا يمرّ يوم من الأيام إلا ونظم من الشعر عشرات الأبيات وقد ألزم نفسه بنظم كل يوم قصيدة كاملة وملكته الشعرية وحافظته القوية وسرعة البديهة مضرب المثل، يقول ما كنت أسمع بديوان شعر إلا واقتنيته وحفظت أكثره عنه أخدانه ومعاصروه كنا نقرأ عليه القصيدة الكاملة مرة واحدة فيحفظها ويقول ولده سلمه الله: أما الذي أدركته منه في أواخر عمره فقد قرأتُ عليه قصيدة تتكون من ستين بيتاً وهو يرغب أن يحفظها قال: إقرأ عليّ منها ثلاثين بيتاً فقط، فقرأتُ فأعادها عليّ حفظاً، ثم قرأت عليه ثلاثين بيتاً بعدها فأعادها عليّ حفظاً، ويقول ولده ان مجموع ما نظمه لا يقل عن أربعة آلاف قصيدة وأكثرها في صاحب الأمر حجة آل

١٨٥

محمد وحدّث العلامة الجليل السيد عبد الرؤوف فضل الله أنه قد سمع من المرجع الديني الورع السيد عبد الهادي الشيرازيرحمه‌الله كان يتحدث عن المترجم له ويقول: إن ولاء الشيخ عبد الغني الحر وحبّه لآل محمد لو وزّع على جميع أهل البلد لما دخل أحد منهم النار.

وحدّث أحد تلاميذه عن سرعة البديهة وقوة الحافظة عند الشيخ الغني فقال: كان يدرّسنا رسائل الشيخ الأنصاري عن ظهر غيب وحفظ العبارة بنصّها، كما كان يحفظ أحاديث الكتب الأربعة ويستظهرها تماماً كما كان يحفظ القرآن الكريم ونهج البلاغة ومقامات الحريري ومقامات بديع الزمان الهمداني. وعندما يتلو بعض الفصول يهتز لها إعجاباً بها، واذكر صوته الجهوري مضافاً إلى بسطته في العلم والجسم ونقل لي ولده بعض الاكتشافات والتجليات والكرامات التي تدل على روحانيته وشدة ولائه وعقيدته ومنها يظهر إيمانه الراسخ بالفكرة والمبدأ.

١٨٦

السيد ناصر الاحسائي

المتوفى ١٣٥٨

هذي مضاجع فهر أم مغانيها

أم السماء تجلت في معانيها

فحط رحل السرى فيها وحي بما

يجري من العين دانيها وقاصيها

ودع قلوصك فيها غير موثقة

وخلّ عنها عساها أن تحييها

ولا تلمها إذا ألوت معاطفها

يوماً لتقبيل باديها وخافيها

فما دهاك دهاها من أسى وجوى

وما دعاك لسكب الدمع داعيها

كلا كما ذو فؤاد بالهوى كلف

وأنتما شركا في ودّ مَن فيها

قوم على هامة العلياء قد بنيت

لهم بيوت تعالى الله بانيها

ومعشر للمعاني الغر قد شرعوا

طرقاً بأخلاقهم ما ضلّ ساريها

وأسره قد سمت كل الورى شرفاً

فلم يكن أحد فيه يدانيها

لووا عن العيش أعطافاً أبين لهم

مسّ الدنية تكريماً وتنزيها

فقاربت بين آجال لهم شيم

إذ المنايا طلاب العز يدنيها

رأوا حياتهم في بذل أنفسهم

في موقف فيه حفظ العز يحييها

ولا يعاب امرؤ يحمي مكارمه

بنفسه فهو حر حيث يحميها

في الهام أمست تغني بيضهم طرباً

وسمرهم تتثنى في الحشا تيها

والخيل من تحتهم فلك جرى بهم

في موج بحر دم والله مجريها

والنقع قام سماءً فوق أرؤسهم

آفاقها أظلمت منه نواحيها

لكن أجرامهم قامت بها شهباً

لولا ضياء شباها ضل ساريها

١٨٧

ترمي العدى بشواظ من صواعقها

فلا ترى مهرباً منه أعاديها

رووا بماء الطلا بيض الظبى ولهم

أحشاء ما ذاق طعم الماء ظاميها

حتى إذا ما أقام الدين واتضحت

آياته وسمت فيهم معانيها

وشيدوا للهدى ركناً به أمنت

أهل الرشاد فلا لافى مساعيها

وشاء أن يجزي الباري فعالهم

من الجزاء بأوفى ما يجازيها

دعاهم فاستجابوا إذ قضوا ظمأ

بأنفس لم تفارق أمر باريها

فصرعوا في الوغى يتلو مآثرهم

في كل آن مدى الأيام تاليها(١)

حجة الإسلام السيد ناصر الاحسائي، مولده في الاحساء سنة ١٢٩١ ه‍. ووفاته سنة ١٣٥٨ ه‍. نشأ نشأة صالحة وتربى على يد أبيه الفقيه الكبير، وبعد وفاة أبيه هاجر إلى النجف الأشرف موطن العلم والعلماء وأكبر جامعة في الفقه فدرس على المرحوم الشيخ محمد طه نجف والشيخ محمود ذهب والشيخ هادي الطهراني ثم عاد إلى الاحساء مرشداً عالماً تقياً ورعاً ثم عاد إلى النجف مرة ثانية فدرس على الشيخ ملا كاظم الأخوند وشيخ الشريعة الأصفهاني والسيد أبو تراب ولما كثر الطلب عليه من أهالي الاحساء لحاجتهم اليه وجعلوا مراجع الطائفة وسائط له عاد ومكث بينهم يفيض من معارفه ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم حتى وافاه الأجل ليلة الاربعاء ثالث شهر شوال سنة ١٣٥٨ ه‍.

تشرفت برؤية محياه الأنور واستمعت إلى حديثه الشهي وتزودت من نصائحه ومعارفه، صباحته ونور أساريره يشهدان له بأنه من ذرية الرسول ومن حَمَلة علومهم، مثالاً للورع والتقى والعبادة والزهادة كنتُ كلما ارتقيت الأعواد أصغى إلى بكله ويستجيد ويستحسن فضائل أهل البيت ومآثرهم ويرتاح لسماع مناقبهم، يعظم الكبير والصغير ولا يستخف بأحد وأذكر أني فرغتُ

__________________

١ - عن الذكرى التي قام بتأليفها الخطيب السيد محمد حسن الشخص.

١٨٨

من خطابي مرةً فجلست - وكان حديثي عن سيرة الإمام الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام . فقال السيدرحمه‌الله ما نصه:

ومن أقوال الإمام الصادقعليه‌السلام : العاقل لا يستخف بأحد وأحق من لا يستخف به ثلاثة: العالم والسلطان والإخوان فمن استخف بالعالم أفسد دينه، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروأته. وكان موضع تجلّة واحترام من جميع الطبقات وكان لوفاته رنة حزن وأسف وقد أبّنته بقصيدة نشرت في ( الذكرى ) التي قام بطبعها وتحقيقها الخطيب الجرئ السيد محمد حسن الشخص سلمه الله وكان مطلع قصيدتي في رثائه:

نعى البرق رمز التقى والهدى

فقلنا لقد طاح ركن الهدى

ومن رثائه للامام الحسين (ع):

كم قد تؤمل نفسي نيل منيتها

من المعالي وما ترجو من الاربِ

كما تؤمل أن تحظى برؤية من

يزيح عنها عظيم الضر والكرب

ويملأ الأرض عدلاً مثل ما ملئت

بالظلم والجور والابداع والكذب

يا غائباً لم تغب عنا عنايته

كالشمس يسترها داج من السحب

حتى مَ تقعد والإسلام قد نقضت

عهوده بسيوف الشرك والنصب

ويرتجيك القنا العسال تورده

من العداء دماءً فهو ذو سغب

والبيض تغمدها أعناق طائفة

منهم مواليك نالوا أعظم العطب

وتوعد الخيل يوماً فيه عثيرها

سحائب برقها من بارق القضب

تهمى بماء الطلا من كل ناحية

حتى تروي منه عاطش الثوب

فانهض فديتك ما في الصبر من ظفر

فقد يفوت به المطلوب ذا الطلب

أما أتاك حديث الطف إن به

آباءك الغر قاسوا أعظم النوب

غداة رامت أمي أن يروح لها

طوع اليمين أبيٌ واضح الحسب

ويركب الضيم مطبوع على همم

أمضى من السيف مطبوعاً من اللهب

١٨٩

فأقبلت بجنود لا عداد لها

تترى كسيل جرى من شامخ الهضب

من كل وغدٍ لئيم الأصل قد حملت

به العواهر لا ينمى إلى نسب

وكل رجس خبيث قد نماه إلى

شر الخلائق والأنساب شرأب

حتى تضايق منها الطف وامتلأت

رحابه بجيوش الشرك والنصب

فشمرت للوغى إذ ذاك طائفة

لم تدر غير المواضي والقنا الرطب

قوم هم القوم لم تفلل عزائمهم

في موقف فل فيه عزم كل أبي

من كل قرم كأن الشمس غرته

لو لم يحل بها خسف ولم تغب

وكل طود إذا ما هاج يوم وغى

فالوحش في فرح والموت في نصب

وكل ليث شرى لم ينج منه إذا

ما صال قرم باقدام ولا هرب

مشوا إلى الحرب من شوق لغايتها

مشي الظماة لورد البارد العذب

فأضرموها على الأعداء نار وغى

تأتي على كل من تلقاه بالعطب

وأرسلوها بميدان الوغى عرباً

كالبرق تختطف الأرواح بالرهب

وجردوها من الأغماد بيض ضباً

تطوي الجموع كطي السجل للكتب

وأشرعوها رماحاً ليس مركزها

سوى الصدور من الأعداء واللبب

صالوا فرادى على جمع العدى فغدت

صحاحه ذات كسر غير منأرب

وعاد ليلهم يمحونه بضبى

لا يتقى حدها بالبيض واليلب

حتى إذا ما قضوا حق العلا ووفوا

عهد الولى وحموا عن دين خير نبي

وجاهدوا في رضى الباري بأنفسهم

جهاد ملتمس للأجر محتسب

دعاهم القدر الجاري لما لهم

أعد من منزل في أشرف الرتب

فغودروا في الوغى ما بين منعفر

دامى ومنجدل بالبيض منتهب

ظامين من دمهم بيض الضبى نهلت

من بعد ما أنهلوها من دم النصب

لهفي لهم بالعرى أضحى يكفنهم

غادى الرياح بما يسفى من الترب

وفوق أطراف منصوب القنا لهم

مرفوعة أرؤس تعلو على الشهب

ونسوة المصطفى مذ عدن بعدهم

بين الملا قد بدت أسرى من الحجب

وسيّرت ثكلا أسرى تقاذفها

الأمصار تهدى على المهزول والنقب

١٩٠

ان تبكي اخوتها فالسوط واعظها

وفي كعوب القنا إن تدعهم تجب

وبينها السيد السجاد قد وثقت

رجلاه بالقيد يشكو نهشة القتب

يبكي على ما بها قد حلّ من نوب

وتبكي مما عليه حلّ من كرب

واحر قلباه أن تدعُ عشيرتها

غوث الصريخ وكهف الخائف السغب

تدع الأولى لم يحلّ الضيم ساحتهم

من لم يضع بينهم ندب لمنتدب

تدعوهم بفؤاد صيرته لظى الأحزان

ناراً فأذكى شعلة العتب

تقول ما لكم نمتم وقد شهرت

نساؤكم حسراً تدعو بخير أب

حتى متى في عناق الضيم همتكم

وللمواضي عناق الماجد الحسب

ونومكم في ظلال العز عن دمكم

والنوم تحت القنا أولى بكل أبي

ما أنتم أنتم إن لم يضق بكم

رحب الفضاء على المهرية العرب

وتوقدوها على الأعداء لاهبة

حتى يكون بها من أضعف الحطب

فكم لكم في قفار الأرض من فئة

صرعى ومن نسوة أسرى على القتب(١)

__________________

١ - عن ذكرى السيد الاحسائي.

١٩١

السيد مهدي الأعرجي

المتوفى ١٣٥٩

سقت ربعاً بسلع فالغميم

غوادي الدمع لا الغيث العميم

وقفتُ به أُجيل الطرف فيه

على تلك المعالم والرسوم

أُكلّمه وليس يردّ قولاً

فأصدر عنه في قلب كليم

فكم لي فيه من زمن تقضّى

بشرب سلافة وعناق ريم

بحيث العيش للأحباب رغدٌ

ووجه الأرض مخضرّ الأديم

وشمس الراح في يمنى هلال

يطوف بها على مثل النجوم

رشاً رقّت محاسنه فأضحى

يؤلم خدّه مرّ النسيم

فكم من ليلة مرّت علينا

إلى الاصباح وهو بها نديمي

أريه الدمع منثوراً إذا ما

أراني درّ مبسمه النظيم

أرخّم دمع عيني إذ أراه

كحيل الطرف كالظبي الرخيم

فياربع الأحبة طبت ربعاً

وطاب ثراكِ يا دار النعيم

محاك الدهر يا ربع التصابي

وخانك حادث الزمن المشوم

وفيك الدهر لم يحفظ ذمامي

لحاه الله من دهر ذميم

كما لم يرع للهادي ذماماً

بأهليه ذوي الشرف القديم

رماهم بالخطوب فمن شريد

نأى عمّن يحب ومن سميم

ومقتول بجنب النهر ظام

سليب الثوب مسبيّ الحريم

١٩٢

تساق نساه أسرى من ظلوم

على عجف النياق إلى ظلوم

تحفّ بها العداة فمن لئيم

يعنّفها وأفّاكٍ أثيم

وإن يبكي اليتيم أباه شجواً

مسحن سياطهم رأس اليتيم

وليس لها حميّ يوم سارت

يلاحظها سوى مضنى سقيم

براه السقم حتى صار مما

به سقماً يميل مع النسيم

ورأس ابن النبي على قناةٍ

يرتّلُ آي أصحاب الرقيم

وينذر في النهار القوم وعظاً

ويهدي الركب في الليل البهيم

فلم أرَ قبله بدراً تجلّى

له برج من الرمح القويم

وأعظم ما تسحّ له المآقي

بدمع دونه وكف الغيوم

وقوف بنات خير الخلق طراً

أمام طليقها الرجس الزنيم

السيد مهدي الأعرجي ابن السيد راضي ابن السيد حسين ابن السيد علي الحسيني الأعرجي البغدادي. ولد السيد مهدي في النجف الأشرف سنة ١٣٢٢ ه‍. درس فن الخطابة على خاله الخطيب الشهير الشيخ قاسم الحلي زاول نظم الشعر وعمره أربعة عشر سنة. وأول قصيدة نظمها هي قصيدته في رثاء الإمام الحسن السبط (ع).

قضى الزكي فنوحوا يا محبيه

وابكوا عليه فذى الأملاك تبكيه

درس العربية والعروض على العلامة الكبير شيخ الأدب السيد رضا الهنديرحمه‌الله . توفي السيد مهدي سنة ١٣٥٩ ه‍. غريقاً بشطّ الفرات في الحلة يوم الخامس من شهر رجب. جمع ديوانه شقيقه الخطيب السيد حبيب وتزيد صفحاته على الثلثمائة وله مخطوطات كتبها بيده وخطه الجميل في المراسلات والتواريخ وغيرها وأرجوزة في تواريخ المعصومين أكبر من أرجوزة الشيخ الحر العاملي، أصيب بانحلال في الأعصاب تعتريه غفوات مع سكتة لكنه يقظ

١٩٣

حي الشعور، فطن يقوم بواجبه أحسن قيام متدين ورع لم يعبأ بالعسر الذي لازمه وألح عليه ومن شعره في ذلك:

وكأن دهري سيبويه فكم له

بالعالمين تحرك وسكون

وكأنني إسم مضاف دائماً

ودراهمي بين الورى تنوين

أتصوره جيداً وأتمثله نصب عيني، طيب القلب إلى أبعد حدود الطيب ولم يك في البشر ممن رآه ولم يهواه ويحبه لصفائه إذ هو لا يستخف بأحد ولا يحقد على مخلوق مازحته مرة وأكثرت فتألم وتبرّم وفي لقاء آخر إعتذرت اليه فأجابني: أنا راضي بن راضي. لأن أباه هو السيد راضي الأعرجي، وداعبه الشيخ ضياء الدخيلي فاستاء منه وارتجل:

طبعي يقول بأني

أمجّ كل ثقيل

وقد يهون ثقيل

إلا ضياء الدخيل

كانت محافل الأدب مستمرة في النجف فلا يكاد يقترن أحد الادباء إلا وتقام له المحافل الشعرية كل يوم عصراً لمدة ربما استمرت شهراً واحداً أو أكثر لذا تجد الكثير من الأدباء يحتفظ بمجموع أدبي شعري وكان الأعرجي خصب القريحة يشارك في أكثر الحلبات مجلٍّ في مواقفه ومن مميزاته سرعة البديهة والقدرة على نظم الشعر بسرعة فإذا طالبته بنظم قصيدة إعتزل ساعة ثم أخذ يطبق جفنيه ويفتحهما ويكتب، وكثيراً ما يسبق شعوره قلمه. لقد رويت للأخ الخاقاني مرة عن نبوغ هذا الشاعر وسجّل ما رويت له في شعراء الغري.

ذلك أن جلس مرة في الصحن العلوي وجلس إليه الشاعر محمود الحبوبي وجواد قسّام ومَن لا يحضرني اسمه وذلك في فصل الربيع ففاجأتنا غمامة بعزاليها فالتجأنا إلى إحدى غرف الصحن فاقترح أحدهم أن يشترك الجميع بنظم قطعة بوصف الغيث وقال: هطل السحاب على الربى ملثانا فأجازه السيد الأعرجي بقوله: فغدت حبال المحل منه رثاثا

١٩٤

وقال أحدهم: أنظر إلى لطف الكريم ومنّه

فقال: يوليك غيثاها جلاً وغياثا

وقالوا: الأرض تبسم والزهو تضاحكت

فقال: فكأن ذي عطشى وتلك غراثا

وهكذا استمرّ حتى تضاحكوا وشهدوا له بالتفوق. وحضرت معه في مجلس وكان يقرأ احد الحاضرين موضوعاً للمنفلوطي مصطفى في كتابه ( النظرات ) وعنوان المقال ( الغد ) وعندما فرغ أخذ السيد الأعرجي مضمون المقال وحوّله إلى شعر فقال:

يا ناسج الرداء أنت آمنٌ

من أن يكون كفناً لك الردا

ولابس الثوب لتختال به

قل لي متى أمنتَ نزعه غدا

...

يا صاح إن المرء لا يعلم ما

يجيء فيه غده كأمسه

من داره يخرج لا يدرى إلى

العتبة أم إلى شفير رمسه(١)

ويغرس البستان لا علم له

أن لا يكون آكلاً من غرسه

ويجمع المال ولكن كله

يكون بعده لزوج عرسه

...

كانني بالغد وهو رابضٌ

ينظر بالهزء إلى آمالنا

يرى على الدنيا تكالباً لنا

فينثني يضحك من أحوالنا

ثم يرانا لم نزل في غفلة

ليس نفيق قط من إغفالنا

فينثني يصفق راح كفه

تعجباً للسوء من أفعالنا

__________________

١ - إذ أن من قول المنفلوطي: لقد غمض الغد عن العقول حتى لو أن انساناً رفع قدمه ليضعها في خروجه من باب قصره لا يدري أيضعها على عتبة القصر أم على حافة القبر.

١٩٥

كم مُمتلٍ من الغنى في يومه

أصبح في غد فقيرا مملقا

وكم وضيع لم يكد يعرف في

الناس إلى أوج الثريا حلّقا

وكم أناس جمع اليوم لهم

شملاً فأضحى في غد مفترقا

هذا هو الدهر تراه تارةً

مغرّباً وتارةً مشرقا

وفي حفلة أدبية بمناسبة قران أحد الأدباء تقدم الاستاذ ابراهيم الوائلي في داره الواقعة في النجف محلة الحويش ينشدنا عصراً قصيدته التي يتحامل بها على القديم وتقاليد الآباء ويسخر من اللحية فيقول:

قالوا اللحى قلت احلقوها إنها

هي للمدلّس صرام وسنانُ

وفي اليوم الثاني يطلع السيد الأعرجي بقصيدته التي أولها:

كم بالتمدن تملأ الأشداق

ولدى الحقيقة ما له مصداق

قد أجحفوا بحقوق شعبهم كما

بلحاهُم قد أجحف الحلاق

ويشفعها برائعته المطربة وينشدها الخطيب خضر القزويني وأولها:

في ذمة التمدن الكاذب

حلقك للحية والشارب

وللسيد الأعرجي ظرف وخفة روح بالرغم من الجهمة التي لا تفارق محياه فلا تكاد تفوته النادرة والنكتة، فقد دار الحديث مرة عن البلهاء والمغفلين فروى لنا أن أحدهم كان يدير بمسبحته ويذكر الله ويريد أن يقول في الجزء الأول الله أكبر، وفي الجزء الثاني: سبحان الله، وفي الجزء الثالث: الحمد لله ولكنه غفل في الجزء الثاني وضلّ يردد سبحان الله ثم انتبه فأراد أن يسترجع الزائد فجعل يقول: لا سبحان الله، لا سبحان الله ولنستمع إلى ترانيمه المطربة وغزله الرقيق من قصيدة:

بات على غنا الهزار في السحر

يصفق النهر ويرقص الشجر

وبات ثغر الاقحوان باسماً

والنرجس الغض يحدّه النظر

والليل بحر والهلال زورق

والنجم قد طفى عليه كالدرر

أو أنه ملك من الزنج أتى

وعرشه الجوّ وتاجه القمر

١٩٦

وقال يداعب الخطيب خضر القزويني:

يا خضر أنت خليلي في الأنام كما

أنت المؤمل للمعروف من بعدي

تُرى معي كل آن في ملازمة

والخضر ليس يرى إلا مع المهدي

وكتب للحجة الكبير الشيخ هادي ابن الشيخ عباس كاشف الغطاء يطلب منه ( سبيلا ) وهو ما يشرب به التبغ:

يا بن عباس همومي كثرت

في الحشى حتى غدا القلب عليلا

فأنا التائه في سبل الهوى

فاهدني - يا هادي الناس - سبيلا

وكتب للأديب العلامة السيد أحمد السيد رضا الهندي:

أأحمد يا ابن خير الخلق طراً

ومن كان الحريّ بكل مجد

لئن لُقّبتَ بالهندي فينا

فإن السيف يقطع وهو هندي

فأجابه:

أَمهديَّ الورى أطريت وصفي

فكنتَ به جدير الذكر عندي

لئن ضلّ الورى سنن المعالي

فإنك يا ابن خير الخلق مهدي

وقال في وردة بيد صديق:

وزهرة طيبها من طيب صاحبها

تفوح كالعنبر المسحوق بالطيب

من طبعه اكتسبت نشراً لصحبته

والطبع مكتسب من كل مصحوب

ولأن الأعرجي لا يرتضي من الشعر إلا ما كان منبعثاً عن الشعور، فيندفع قائلاً:

ما الشعر إلا شعور

تجيش فيه العواطف

وخيره ما تراه

عن الحقيقة كاشف

ومن ألطف ما أروي له تاريخ وفاة الخطيب المحبوب الشيخ محمد حسين الفيخراني وقد توفاه الله ببغداد على أثر عملية جراحية.

١٩٧

مات في الكرخ حسين

نائي الدار كئيب

فابكه واندب وأرخ

واحسين واغريب

وأرخ عام سحب الماء للنجف على نفقة معين التجار وصديقه رئيس التجار سنة ١٣٤٣ ه‍.

أجرى المعين من الرئيس عليهما

كل الثنا ماء الفرات إلى الغري

فأقام طير البشر فيه مؤرخاً

ان المعين له معين الكوثرِ

وإلى جنب إعجابي به فإن لي عليه مؤاخذات لا أودّ ذكرها ومن تلك المؤاخذات قوله كما رواه الخاقاني في شعراء الغري:

زار يختال كغصن

في الصَبا إذ يتحرك

فافتضحنا بسناه

يا جميل الستر سترك

والمعنى للشيخ البهائي كما روى الشيخ علي كاشف الغطاء في الجزء الرابع من مخطوطه ( سمير الحاظر وأنيس المسافر ) ص ٣٠٨:

زارني ليلاً فبتنا

في ظلام ليس يدرك

وأدرنا الكاس حتى

كادت الحشمة تترك

فأتى الواشي فقلنا

يا جميل الستر سترك

أما ولاؤه لأهل البيت وتفانيه في حبّهم فهو من ألمع ميزاته ولا زلت أتمثله في المآتم الحسينية يجهش بالبكاء وقد أفنى عمره في خدمة المنبر الحسيني وهذه روائعه ومراثيه تذيب الصخر إذ أنها تنصبّ من منبع الألم والثكل وقلب مكلوم.

ومقتول بجنب النهر ظام

سليب الثوب مسبيّ الحريم

تساق نساه أسرى من ظلوم

على عجف النياق إلى ظلوم

وإن يبكي اليتيم أباه شجواً

مسحن سياطهم رأس اليتيم

١٩٨

وإلى جانب هذه الموهبة بالفصحى فهو ذا ملكة قوية بالنظم باللغة الدارجة متفنن فيها ففي الموال والأبوذية والشعر الدارج لا يُجارى وهناك ميزة يتفرّد بها وهي قدرته على نظم الهزل فكان في شهر ربيع الأول يوم الرابع عشر منه وهو يوم هلاك يزيد بن معاوية يسمعنا من نظمه ما يضحك الثكلى فهناك اصطلاحات تختص بها الأقطار والأمصار والبلدان وترى البعض ينتقد البعض ويضحك منها فهو ينظمها ثم ينوّع القصيدة فبيت بالفارسية وآخر بالتركية وثالث بالكردية ورابع بالهندية ومصطلحات الشرقي والغربي وهكذا، وهذا مما يكاد ينفرد به:

ومن حسينياته:

ما بال فهر أغفلت أوتارها

هلا تثير وغى فتدرك ثارها

أغفت على الضيم الجفون وضيعت

يا للحمية عزها وفخارها

عجباً لها هدأت وتلك أمية

قتلت سراة قبيلها وخيارها

عجباً لها هدأت وتلك نساؤها

بالطف قد هتك العدى أستارها

من كل ثاكلة تناهب قلبها

كف الأسى ويد العدو خمارها

لهفي لها بعد التحجب أصبحت

حسرى تقاسي ذلها وصغارها

تدعو أمير المؤمنين بمهجة

فيها الرزية أنشبت أظفارها

أبتاه يا مردي الفوارس في الوغى

ومبيد جحفلها ومخمد نارها

قم وانظر ابنك في العراء وجسمه

جعلته خيل أمية مضمارها

ثار تغسله الدماء بفيضها

عار تكفنه الرياح غبارها

وخيول حرب منه رضت أضلعاً

فيها النبوة أودعت أسرارها

وبيوت قدس من جلالة قدرها

كانت ملائكة السما زوّارها

يقف الأمين ببابها مستأذناً

ومقبلاً أعتابها وجدارها

أضحت عليها آل حرب عنوة

في يوم عاشورا تشن مغارها

١٩٩

كم طفلة ذعرت وكم محجوبة

برزت وقد سلب العدو أزارها

ويتيمة صاغ القطيع لها سواراً

عندما بز العدو سوارها

أين الكماة الصيد من عمرو العلي

عنها فترخص دونها أعمارها

أين الكماة الصيد من عمرو العلي

لتثير للحرب العوان غبارها

وله من التخاميس والتشاطير شيء كثير وقد أثبتّ في مؤلفي ( سوانح الأفكار ) جملة من ذلك، حتى أنه خمّس بعض القصائد بكاملها ومنها قصيدة السيد جعفر الحلي الحسينية وأولها:

وجه الصباح عليّ ليلٌ مظلم

وربيع أيامي عليّ محرم

وهي ٧٥ بيتاً. كما روي لي من نظمه تخميس ميمية السيد حيدر الحلي التي أولها:

إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم

فلا مشت بي في طرق العلا قدم

وروي لي من نظمه تخميسه بيتين للسيد رضا الهندي في وداع زينب الكبرى لجثة أخيها الحسين (ع):

مرّت بهم زينب لما نووا سفرا

بها العدى فأطالت منهم نظرا

ومذ رأت صنوها في الترب منعفرا

همّت لتقضيَ من توديعه وطرا

وقد أبى سوط شمر أن تودعه

إذا دنت منه سوط الشمر أرجعها

ورمح زجر متى تبكيه قنّعها

فلم تودّع محاميها ومفزعها

ففارقته ولكن رأسه معها

وغاب عنها ولكن قلبها معه

ومن روائعه في الولاء قوله في الشهيد مسلم بن عقيل:

يكفيك يا ابن عقيل فخراً في الورى

فيه سموت إلى السماك الأعزل

إذ في رسالته الحسين لك ارتضى

حيث الرسول يكون عقل المرسل

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363