أدب الطف الجزء ٩

أدب الطف15%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 363

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128619 / تحميل: 7921
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ٩

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ونخرج من هذه النقاط بالنتائج التالية :

أوّلاً : أنّ المدرسة المادّية تفترق عن المدرسة الإلهية في ناحية سلبية ، أي : الإنكار لما هو خارج الحقل التجريبي

ثانياً : أنّ المادّية مسئولة عن الاستدلال على النفي ، كما يجب على الإلهية الاستدلال على الإثبات

ثالثاً : أنّ التجربة لا يمكن أن تُعتَبر برهاناً على النفي ؛ لأنّ عدم وجدان السبب الأعلى في ميدان التجربة ، لا يبرهن على عدم وجوده في مجال أعلى لا تمتدّ إليه يد التجربة المباشرة

رابعاً : أنّ الأسلوب الذي تتّخذه المدرسة الإلهية للاستدلال على مفهومها الإلهي ، هو نفس الأسلوب الذي نثبت به علمياً جميع الحقائق والقوانين العلمية

الاتّجاه الديالكتيكي للمفهوم المادّي :

قلنا : إنّ للمادّية اتّجاهين : أحدهما اتّجاه الآلية الميكانيكية ، والآخر اتّجاه المادّية الديالكتيكية.

وقد استعرضنا الاتّجاه الأوّل استعراضاً سريعاً في الجزء الثاني من نظرية المعرفة ، حين تناولنا بالدرس والتمحيص المثالية الفيزيائية التي قامت على

____________________

(*)

الذاتي للمعرفة ، وفي ضوء هذا المذهب وإن كنّا بحاجة إلى ضمّ بعض المعارف العقليّة التي لا مناص عنها إلى التجربة ، كالمعرفة العقليّة القائلة باستحالة اجتماع النقيضين ، ولكن يمكن أن ينتقل الذهن ـ في ضوء المذهب المذكور ـ من استقراء الموضوعات الجزئيّة الخاضعة للتجربة إلى قواعد وقوانين عامّة ، بحيث يكون السير الفكري فيها من الخاصّ إلى العامّ ، ولا حاجة فيها إلى ضمّ المعارف العقليّة القبليّة التي تحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ ، كما يدّعيه أصحاب المذهب العقلي للمعرفة(لجنة التحقيق)

٢٤١

حطام المادّية الميكانيكية

وأمّا الاتّجاه المادّي الآخر الذي يفسّر العالم تفسيراً مادّياً بقوانين الديالكتيك ، فهو الاتّجاه الذي اتّخذته المدرس الماركسية ، فوضعت مفهومها المادّي عن العالم على أساس هذا الاتّجاه

قال ستالين :

(تسير مادّية ماركس الفلسفيّة من المبدأ القائل : إنّ العالم بطبيعته مادّي ، وإنّ حوادث العالم المتعدّدة هي مظاهر مختلفة للمادّة المتحرّكة ، وإنّ العلاقات المتبادلة بين الحوادث وتكييف بعضها بعضاً بصورة متبادلة كما تقرّرها الطريقة الديالكتيكية ، هي قوانين ضرورية لتطوّر المادّة المتحرّكة ، وإنّ العالم يتطوّر تبعاً لقوانين حركة المادّة ، وهو ليس بحاجة لأيّ عقل كلّي)(١)

ويُعتبر المفهوم المادّي (المادّة = الوجود) هو النقطة المركزية في الفلسفة الماركسية ؛ لأنّها التي تحدّد نظرة الماركسية إلى الحياة ، وتنشئ لها فهماً خاصّاً للواقع وقيمه ، ومن دونها لا يمكن أن تقام الأسس المادّية الخالصة للمجتمع والحياة

وقد فرضت هذه النقطة على المذهب الماركسي تسلسلاً فكرياً خاصّاً ، واقتضت منه أن يقيم شتّى جوانبه الفلسفية لصالحها فلأجل أن تملك الماركسية الحقّ في تقرير النقطة المركزية تقريراً نهائياً ، اختارت أن تكون يقينية ، كما عرفنا في نظرية المعرفة ، وأعلنت أنّ لدى الإنسان من الطاقات العلمية ما يتيح له الجزم بفلسفة معيّنة عن الحياة ، واستكناه أسرار

____________________

(١) المادّية الديالكتيكية والمادّية التاريخية : ٢٨

٢٤٢

الوجود والعالم ، ورفضت مذهب الشكّ المطلق ، وحتّى النسبية الجامدة ، وحاولت بذلك أن تعطي صفة قطعية للمحور الرئيسي ، أي : المفهوم المادّي

ووضعت بعد ذلك المقياس العامّ للمعرفة والحقيقة في التجربة ، واستبعدت المعارف العقلية الضرورية ، وأنكرت وجود منطق عقلي مستقلّ عن التجربة ؛ كلّ ذلك حذراً من إمكان محو النقطة المركزية بالمنطق العقلي ، وحدّاً للطاقة البشرية بالميدان التجريبي خاصّة

وواجهت الماركسية في هذه المرحلة مشكلة جديدة ، وهي : أنّ الميزان الفكري للإنسان إذا كان هو الحسّ والتجربة ، فلا بدّ أن تكون المعلومات التي يكوّنها عن طريق الحسّ والتجربة صحيحة دائماً ، ليمكن اعتبارها ميزاناً أوّلياً توزن به الأفكار والمعارف ، فهل نتائج الحسّ العلمي كذلك حقّاً ؟ وهل النظريات القائمة على التجربة مضمونة الصدق أبداً ؟

وهكذا وقعت الماركسية بين خطرين :

فإن اعترفت بأنّ المعلومات القائمة على أساس التجربة ليست معصومة من الخطأ ، فقد سقطت التجربة عن كونها ميزاناً أوّلياً للحقائق والمعارف

وإن ادّعى الماركسيون أنّ النظرية المستمدّة من التجربة والتطبيق فوق الخطأ والاشتباه ، اصطدموا بالواقع الذي لا يسع لأحد إنكاره ، وهو : أنّ كثيراً من النظريات العلمية ، بل القوانين التي توصّل إليها الإنسان عن طريق درس الظواهر المحسوسة ، قد ظهر خطؤها وعدم مطابقتها للواقع ، فسقطت عن عرشها العلمي بعد أن تربّعت عليه مئات السنين

وإذا كانت المفاهيم العلمية التجريبية قد تخطئ ، وكان المنطق العقلي ساقطاً من الحساب ، فكيف يُعلَن عن فلسفة يقينية ؟! أو تشاد مدرسة ذات صفة جزمية في أفكارها ؟!

٢٤٣

وقد أصرّت الماركسية على وضع التجربة مقياساً أعلى ، وتخلّصت من هذا المأزق بوضع قانون الحركة والتطوّر في العلوم والأفكار ؛ نظراً إلى أنّ الفكر جزء من الطبيعة ، وهو بهذا الاعتبار يحقّق قوانين الطبيعة كاملة ، فيتطوّر وينمو كما تتطوّر الطبيعة وليس التطوّر العلمي يعني سقوط المفهوم العلمي السابق ، وإنّما يعبّر عن حركة تكاملية في الحقيقة والمعرفة فالحقيقة والمعرفة هي الحقيقة والمعرفة ، غير أنّها تنمو وتتحرّك وتتصاعد بصورة مستمرّة

وهكذا قضى بذلك على جميع البدهيات والحقائق ؛ لأنّ كلّ فكر سائر في صراط التطوّر والتغيّر ، فليست توجد حقيقة ثابتة في دنيا الفكر مطلقاً ، ولا يؤمن على ما ندركه الآن من البديهيات ـ نظير إدراكنا : أنّ الكلّ أكبر من الجزء ، وأنّ ٢ + ٢ = ٤ ـ أن يكتسب شكلاً آخر في حركته التطوّرية ، فندرك الحقيقة عند ذاك على وجه آخر

ولمّا كانت الحركة التي وضعتها الماركسية كقانون للفكر وللطبيعة بصورة عامّة لا تنبثق إلاّ عن قوّة وسبب ، ولم تكن في العالم حقيقة إلاّ المادّة في زعمها ، فقد قالت : إنّ الحركة حصيلة تناقضات في المحتوى الداخلي للمادّة ، وإنّ هذه المتناقضات تتصارع فتدفع بالمادّة وتطوّرها ؛ ولهذا ألغت الماركسية مبدأ عدم التناقض ، واتّخذت من الديالكتيك طريقة لفهم العالم ، ووضعت مفهومها المادّي في إطاره وهكذا يتّضح : أنّ جميع الجوانب الفلسفية للمادّية الديالكتيكية ، مرتبطة بالنقطة المركزية (المفهوم المادّي) ، وقد صيغت لأجل تركيزها والحفاظ عليها وليس إسقاط البديهيات وجعلها عرضةً للتغيّر ، أو الإيمان بالتناقض واعتباره قانوناً عاماً للطبيعة ، وما إليها من النتائج الغريبة التي انتهت إليها الماركسية ، إلاّ تسلسلاً حتمياً للانطلاق الذي بدأ من المفهوم المادّي الماركسي ، وتبريراً له في المجال الفلسفي

٢٤٤

المفهوم الفلسفي للعالم / ٢

الديالكتيك أو الجدل

١- حركة التطوّر

٢- تناقضات التطوّر

٣- قفزات التطوّر

٤- الارتباط العامّ

٢٤٥

٢٤٦

إنّ الجدل كان يعني في المنطق الكلاسيكي طريقة خاصّة في البحث ، وأسلوباً من أساليب المناظرة التي تطرح فيها المتناقضات الفكرية ووجهات النظر المتعارضة بقصد أن تحاول كلّ واحدة منها أن تظهر ما في نقيضها من نقاط الضعف ومواطن الخطأ على ضوء المعارف المسلّمة والقضايا المعترف بها سلفاً وهكذا يقوم الصراع بين النفي والإثبات في ميدان البحث والجدل حتّى ينتهي إلى نتيجة تتقرّر فيها إحدى وجهات النظر المتصارعة ، أو تنبثق عن الصراع الفكري بين المتناقضات وجهة رأي جديدة توفّق بين الوجهات كلّها ، بعد إسقاط تناقضاتها ، وإفراز نقاط الضعف من كلّ واحدة منها

ولكنّ الجدل في الديالكتيك الجديد ، أو الجدل الجديد ، لم يعد منهجاً في البحث وأسلوباً لتبادل الآراء ، بل أصبح طريقة لتفسير الواقع ، وقانوناً كونياً عاماً ينطبق على مختلف الحقائق وألوان الوجود فالتناقض ليس بين الآراء ووجهات النظر فحسب ، بل هو ثابت في صميم كلّ واقع وحقيقة ، فما من قضية إلاّ وهي تنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها

وكان (هيجل) أوّل من أشاد منطقاً كاملاً على هذا الأساس ، فكان التناقض الديالكتيكي هو النقطة المركزية في ذلك المنطق ، والقاعدة الأساسية التي يقوم

٢٤٧

عليها فهم جديد للعالم ، وتنشأ [ بها ](١) نظرية جديدة نحوه ، تختلف كلّ الاختلاف عن النظرة الكلاسيكية التي اعتادها البشر منذ قُدّر له أن يدرِك ويفكّر

وليس (هيجل) هو الذي ابتدع أصول الديالكتيك ابتداعاً ، فإنّ لتلك الأصول جذوراً وأعماقاً في عدّة من الأفكار التي كانت تظهر بين حين وآخر على مسرح العقل البشري ، غير أنّها لم تتبلور على أسلوب منطق كامل واضح في تفسيره ونظرته ، محدّد في خططه وقواعده ، إلاّ على يد (هيجل) فقد أنشأ (هيجل) فلسفته المثالية كلّها على أساس هذا الديالكتيك ، وجعله تفسيراً كافياً للمجتمع والتاريخ والدولة وكلّ مظاهر الحياة ، وتبنّاه بعده (ماركس) فوضع فلسفته المادّية في تصميم ديالكتيكي خالص

فالجدل الجديد في زعم الديالكتيكيين قانون للفكر والواقع على السواء ؛ ولذلك فهو طريقة للتفكير ، ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوّره

قال لينين :

(فإذا كان ثمة تناقضات في أفكار الناس ؛ فذلك لأنّ الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات فجدل الأشياء ينتج جدل الأفكار ، وليس العكس)(٢)

وقال ماركس :

(ليست حركة الفكر إلاّ انعكاساً لحركة الواقع ، منقولة ومحوّلة في مخ الإنسان)(٣)

والمنطق (الهيجلي) بما قام عليه من أساس الديالكتيك والتناقض ، يعتبر في النقطة المقابلة للمنطق الكلاسيكي ، أو المنطق البشري العامّ تماماً ؛ ذلك أنّ

____________________

(١) في الطبعة الأُولى : به ، والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه(لجنة التحقيق)

(٢) و (٣) المادّية والمثالية في الفلسفة : ٨٣

٢٤٨

المنطق العام يؤمن بمبدأ عدم التناقض ، ويعتبره المبدأ الأوّل الذي يجب أن تقوم كلّ معرفة على أساسه ، والمبدأ الضروري الذي لا يشذّ عنه شيء في دنيا الوجود ، ولا يمكن أن يبرهن على حقيقة مهما كانت لولاه

ويرفض المنطق (الهيجلي) هذا المبدأ كلّ الرفض ، ولا يكتفي بالتأكيد على إمكان التناقض ، بل يجعل التناقض ـ بدلاً عن سلبه ـ المبدأ الأوّل لكلّ معرفة صحيحة عن العالم ، والقانون العامّ الذي يفسّر الكون كلّه بمجموعة من التناقضات فكلّ قضية في الكون تعتبر إثباتاً ، وتثير نفيها في نفس الوقت ، ويأتلف الإثبات والنفي في إثبات جديد فالنهج المتناقض للديالكتيك أو الجدل الذي يحكم العالم ، يتضمّن ثلاث مراحل تُدعى : الأطروحة ، والطباق ، والتركيب وفي تعبير آخر : الإثبات ، والنفي ، ونفي النفي(١) وبحكم هذا النهج الجدلي يكون كلّ شيء مجتمعاً مع نقيضه ، فهو ثابت ومنفي ، وموجود ومعدوم في وقت واحد

وقد ادّعى المنطق (الهيجلي) أنّه قضى ـ بما زعمه للوجود من جدل ـ على الخطوط الرئيسية للمنطق الكلاسيكي ، وهي ـ في زعمه ـ كما يأتي :

أوّلاً- مبدأ عدم التناقض وهو يعني : أنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يتّصف بصفة وبنقيض تلك الصفة في وقت واحد

ثانياً- مبدأ الهوية وهو المبدأ القائل : إنّ كلّ ماهية فهي ما هي بالضرورة ، ولا يمكن سلب الشيء عن ذاته

ثالثاً- مبدأ السكون والجمود في الطبيعة الذي يرى سلبية الطبيعة وثباتها ، وينفي الديناميكية عن دنيا المادّة

____________________

(١) Thesis ـ Antihesis ـ Synthesis

٢٤٩

فالمبدأ الأوّل لا موضع له في المنطق الجديد ما دام كلّ شيء قائماً في حقيقته على التناقض وإذا ساد التناقض كقانون عام ، فمن الطبيعي أن يسقط المبدأ الثاني للمنطق الكلاسيكي أيضاً ؛ فإنّ كلّ شيء تسلب عنه هويته في لحظة الإثبات بالذات ؛ لأنّه في صيرورة مستمرّة ، وما دام التناقض هو الجذر الأساسي لكلّ حقيقة ، فلا غرو فيما إذا كانت الحقيقة تعني شيئين متناقضين على طول الخطّ ولمّا كان هذا التناقض المركز في صميم كلّ حقيقة مثيراً لصراع دائم في جميع الأشياء ، والصراع يعني : الحركة والاندفاع ، فالطبيعة في نشاط وتطوّر دائم ، وفي اندفاعة وصيرورة مستمرّة

هذه هي الضربات التي زعم المنطق الديالكتيكي أنّه سدّدها إلى المنطق الإنساني العام ، والمفهوم المألوف للعالم الذي ارتكزت عليه الميتافيزيقية آلاف السنين

وتتلخّص الطريقة الجدلية لفهم الوجود في افتراض قضية أُولى ، وجعلها أصلاً ، ثمّ ينقلب هذا الأصل إلى نقيضه بحكم الصراع في المحتوى الداخلي بين المتناقضات ، ثمّ يأتلف النقيضان في وحدة ، وتصبح هذه الوحدة بدورها أصلاً ونقطة انطلاق جديد ، وهكذا يتكرّر هذا التطوّر الثلاثي تطوّراً لا نهاية له ولا حدّ ، يتسلسل مع الوجود ، ويمتدّ ما امتدّت ظواهره وحوادثه

وقد بدأ (هيجل) بالمفاهيم والمقولات العامّة ، فطبّق عليها الديالكتيك ، واستنبطها بطريقة جدلية قائمة على التناقض المتمثّل في الأطروحة ، والطباق ، والتركيب وأشهر ثواليثه في هذا المجال وأوّلها هو : الثالوث الذي يبدأ من أبسط تلك المفاهيم وأعمّها ، وهو : مفهوم الوجود فالوجود موجود ، وهذا هو الإثبات أو الأطروحة ، بيد أنّه ليس شيئاً ؛ لأنّه قابل لأن يكون كلّ شيء فالدائرة وجود ، والمربّع ، والأبيض ، والأسود ، والنبات ، والحجر ، كلّ هذا هو موجود فليس

٢٥٠

- إذن- شيئاً محدّداً ، وهو بالتالي ليس موجوداً ، وهذا هو الطباق الذي أثارته الأطروحة ، وهكذا حصل التناقض في مفهوم الوجود ، ويحلّ هذا التناقض في التركيب بين الوجود واللاوجود الذي ينتج موجوداً لا يوجد على التمام ، أي : صيرورة وحركة ، وهكذا ينتج أنّ الوجود الحقّ هو الصيرورة

هذا مثال سقناه لنوضّح كيف يتسلسل أبو الجدل الحديث في استنباط المفاهيم العامّة من الأعمّ إلى الأخصّ ، ومن الأكثر خواءً وضعفاً ، إلى الأكثر ثراءً والأقرب إلى الواقع الخارجي

وليس هذا الجدل في استنباط المفاهيم عنده إلاّ انعاكساً لجدل الأشياء بذاتها في الواقع ، فإذا استثارت فكرة من الأفكار فكرة مقابلة لها ، فلأنّ الواقع الذي تمثّله هذه الفكرة يتطلّب الواقع المضادّ(١)

ونظرة بسيطة على الأطروحة ، والطباق والتركيب ، في قضية الوجود التي هي أشهر ثواليثه ، تدلّنا بوضوح على أنّ (هيجل) لم يفهم مبدأ عدم التناقض حق الفهم حين ألغاه ، ووضع موضعه مبدأ التناقض ولا أدري كيف يستطيع (هيجل) أن يشرح لنا التناقض ، أو النفي والإثبات المجتمعين في مفهوم الوجود ؟ إنّ مفهوم الوجود مفهوم عام دون شكّ ، وهو لذلك قابل لأن يكون كلّ شيء ، قابل لأن يكون نباتاً أو جماداً ، أبيض أو أسود ، دائرة أو مربّعاً ولكن هل معنى هذا : أنّ هذه الأضداد والأشياء المتقابلة مجتمعة كلّها في هذا المفهوم ، ليكون ملتقىً للنقائض والأضداد ؟ طبعاً لا ؛ فإنّ اجتماع الأمور المتقابلة في موضوع واحد شيء ، وإمكان صدق مفهوم واحد عليها شيء آخر فالوجود مفهوم ليس فيه من نقائض

____________________

(١) انظر للتفصيل : زكريا إبراهيم ، هيجل ، أو المثاليّة المطلقة : ١٣٨ ـ ١٧٢ إمام عبد الفتّاح إمام : هيجل / ج ١ (= المنهج الجدلي عند هيجل)

٢٥١

السواد والبياض ، أو النبات والجماد شيء ، وإنّما يصحّ أن يكون هذا أو ذاك ، لا أنّه هو هذا وذاك معاً في وقت واحد(١)

ولندع مقولات هيجل ، لندرس الجدل الماركسي في خطوطه العريضة التي وضع تصميمها الأساسي هيجل نفسه

والخطوط الأساسية أربعة ، وهي : حركة التطوّر ، وتناقضات التطوّر ، وقفزات التطوّر ، والإقرار بالارتباط العام

____________________

(١) أضف إلى ذلك : أنّ هذا التناقض المزعوم في ثالوث الوجود ، يرتكز على خلط آخر بين فكرة الشيء ، والواقع الموضوعي لذلك الشيء ؛ فإنّ مفهوم الوجود ليس إلاّ عبارة عن فكرة الوجود في أذهاننا ، وهي غير الواقع الموضوعي للوجود وإذا ميّزنا بين فكرة الوجود وواقع الوجود زال التناقض ؛ فإنّ واقع الوجود معيّن ومحدود لا يمكن سلب صفة الوجود عنه مطلقاً ، وأمّا فكرتنا عن الوجود فهي ليست وجوداً واقعياً ، وإنّما هي المفهوم الذهني المأخوذ عنه (المؤلّف قدس‌سره )

٢٥٢

١- حركة التطوّر

قال ستالين :

(إنّ الديالكتيك ـ خلافاً للميتافيزية ـ لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود ، حالة ركود واستقرار ، بل يعتبرها حالة حركة وتغيّر دائمين ، حالة تجدّد وتطوّر لا ينقطعان ، ففيها دائماً شيء يولد ويتطوّر وشيء ينحلّ ويضمحلّ ولهذا تريد الطريقة الديالكتيكية أن لا يكتفى بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض ، ومن حيث تكييف بعضها لبعض بصورة متقابلة ، بل أن ينظر إليها ـ أيضاً ـ من حيث حركتها ، من حيث تغيّرها وتطوّرها ، من حيث ظهورها واختفائها)(١)

وقال أنجلز :

(ينبغي لنا ألاّ ننظر إلى العالم وكأنّه مركّب من أشياء ناجزة ، بل ينبغي أن ننظر إليه وكأنّه مركّب في أدمغتنا إنّ هذا المرور ينمّ عن تغيّر لا ينقطع من الصيرورة والانحلال ، حيث يشرق نهار النمو المتقدّم في النهاية رغم جميع الصدف الظاهرة والعودات إلى الوراء)(٢)

____________________

(١) المادّية الديالكتيكية والمادّية التاريخية : ١٦

(٢) هذه هي الديالكتيكية : ٩٧ ـ ٩٨

٢٥٣

فكلّ شيء خاضع لقوانين التطوّر والصيرورة ، وليس لهذا التطوّر أو الصيرورة حدّ يتوقّف عنده ؛ لأنّ الحركة هي المسألة اللامتناهية للوجود كلّه

ويزعم الديالكتيكيون أنّهم وحدهم الذين يعتبرون الطبيعة حالة حركة وتغيّر دائمين وينعون على المنطق الميتافيزيقي والأسلوب التقليدي للتفكير طريقة دراسته للأشياء وفهمها ؛ إذ يفترض الطبيعة في حالة سكون وجمود مطلقين ، فهو لا يعكس الطبيعة على واقعها المتطوّر المتحرّك فالفرق بين المنطق الجدلي الذي يعتقد في الطبيعة حركة دائمة وصاعدة أبداً ، والمنطق الشكلي ـ في زعمهم ـ كالفرق بين شخصين أرادا أن يسبرا أغوار كائن حيّ في شتّى أدواره ، فأجرى كلّ منهما تجاربه عليه ، ثمّ وقف أحدهما يراقب تطوّره وحركته المستمرّة ، ويدرسه على ضوء تطوّراته كلّها ، واكتفى الآخر بالتجربة الأُولى معتقداً أنّ ذلك الكائن جامد في كيانه ، ثابت في هويّته وواقعه فالطبيعة برمّتها شأنها شأن هذا الكائن الحيّ ، من النبات أو الحيوان في تطوّره ونموّه ، فلا يواكبها الفكر إلاّ إذا جاراها في حركتها وتطوّرها

والواقع : أنّ قانون التطوّر الديالكتيكي الذي يعتبره الجدل الحديث من مميّزاته الأساسية ليس شيئاً جديداً في الفكر الإنساني ، وإنّما الجديد طابعه الديالكتيكي الذي يجب نزعه عنه ، كما سنعرف فهو في حدوده الصحيحة ينسجم مع المنطق العامّ ، ولا صلة له بالديالكتيك ، ولا فضل للديالكتيك في اكتشافه ، فليس علينا لأجل أن نقبل هذا القانون ، ونعرف سبق الميتافيزيقا إليه ، إلاّ أن نجرّده عن قالب التناقض ، وأساس الجدل القائم عليه في عرف الديالكتيك

إنّ الميتافيزيقي في زعم الديالكتيكي يعقتد أنّ الطبيعة جامدة يخيّم عليها السكون ، وأنّ كلّ شيء فيها ثابت لا يتغيّر ولا يتبدّل ، كأنّ الميتافيزيقي المسكين قد حُرِم من كلّ ألوان الإدراك ، وسُلِب منه الشعور والحسّ معاً ، فأصبح لا يحسّ

٢٥٤

ولا يشعر بما يشعر به جميع الناس وحتّى الأطفال من ضروب التغيّر والتبدّل في دنيا الطبيعة

ومن الواضح لدى كلّ أحد : أنّ الإيمان بوجود التغيّر في عالم الطبيعة مسألة لا تحتاج إلى دراسات علمية سابقة ، وليست موضعاً لخلاف أو نقاش ، وإنّما الجدير بالدرس هو ماهية هذا التغيّر ، ومدى عمقه وعمومه ؛ فإنّ التغيّر نحوان : أحدهما التعاقب البحت ، والآخر الحركة والتاريخ الفلسفي يروي صراعاً حادّاً لا في مسألة التغيّر بصورة عامّة ، بل في كنهه وتفسيره الفلسفي الدقيق ويدور الصراع حول الجواب عن الأسئلة التالية :

هل التغيّر الذي يطرأ على الجسم حين يطوي مسافةً ما ، عبارة عن وقفات متعدّدة في أماكن متعدّدة تعاقبت بسرعة ، فتكوّنت في الذهن فكرة الحركة ؟ أو أنّ مردّ هذا التغيّر إلى سير واحد متدرّج لا وقوف فيه ولا سكون ؟ وهل التغيّر الذي يطرأ على الماء حين تتضاعف حرارته وتشتدّ ، يعني مجموعة من الحرارات المتعاقبة ، يتلو بعضها بعضاً ؟ أو أنّه يعبّر عن حرارة واحدة تتكامل وتتحرّك وتترقّى درجتها ؟

وهكذا نواجه هذا السؤال في كلّ لون من ألوان التغيّر التي تحتاج إلى شرح فلسفي بأحد الوجهين الذين يقدّمهما السؤال

والتاريخ الإغريقي يحدّث عن بعض المدارس الفلسفية : أنّها أنكرت الحركة ، وأخذت بالتفسير الآخر للتغيّر الذي يردّ التغيّر إلى تعاقب أمور ساكنة ومن رجالات تلك المدرسة (زينون) الذي أكّد على أنّ حركة المسافر من أقصى الأرض إلى أقصاها ليست إلاّ سلسلة من سكنّات متعاقبة فهو لا يتصوّر التدرج في الوجود والتكامل فيه ، بل يرى كلّ ظاهرة ثابتة ، وأنّ التغيّر يحصل بتعاقب الأمور الثابتة ، لا بتطوّر الأمر الواحد وتدرّجه وعلى هذا تكون حركة الإنسان

٢٥٥

في مسافة ما عبارة عن وقوفه في المنطقة الأولى من تلك المسافة ، فوقوفه في النقطة الثانية ، ففي الثالثة ، وهكذا فإذا رأينا شخصين أحدهما واقف في نقطة معيّنة ، والآخر يمشي نحو اتّجاه خاصّ ، فكلاهما في رأي (زينون) واقف ساكن ، غير أنّ الأوّل ساكن في نقطة معيّنة على طول الخطّ ، وأمّا الآخر فله سكنات متعدّدة ؛ لتعدّد النقاط التي يطويها ، وله في كلّ لحظة مكانيّة خاصّة ، وهو في كلّ تلك اللحظات لا يختلف مطلقاً عن الشخص الأوّل الواقف في نقطة معيّنة ، فهما معاً ساكنان ، وإن كان سكون الأوّل مستمرّاً ، وسكون الثاني يتبدّل بسرعة إلى سكون آخر في نقطة أخرى من المسافة فالاختلاف بينهما هو الاختلاف بين سكون قصير الأمد وسكون طويل الأمد

هذا ما كان يحاوله (زينون) وبعض فلاسفة الإغريق وقد برهن على وجهه نظره بالأدلّة الأربعة المشهورة عنه التي لم يقدّر لها النجاح والتوفيق في الميدان الفلسفي ؛ لأنّ مدرسة أرسطو ـ وهي المدرسة الفلسفية الكبرى في العهد الإغريقي ـ آمنت بالحركة ، وردّت على تلك الأدلّة وزيّفتها ، وبرهنت على وجود الحركة والتطوّر في ظواهر الطبيعة وصفاتها ، بمعنى : أنّ الظاهرة الطبيعية قد لا توجد على التمام في لحظة ، بل توجد على التدريج وتستنفذ إمكاناتها شيئاً فشيئاً ، وبذلك يحصل التطوّر ويوجد التكامل فالماء حين تتضاعف حرارته لا يعني ذلك : أنّه في كلّ لحظة يستقبل حرارة بدرجة معيّنة ، توجد على التمام ثمّ تُفنى وتُخلق من جديد حرارة أخرى بدرجة جديدة ، بل محتوى تلك المضاعفة : أنّ حرارة واحدة وجدت في الماء ، ولكنّها لم توجد على التمام ، بمعنى : أنّها لم تستنفذ في لحظتها الأُولى كلّ طاقاتها وإمكاناتها ، ولذلك أخذت تستنفذ إمكاناتها بالتدريج ، وتترقّى بعد ذلك وتتطوّر وبالتعبير الفلسفي : أنّها حركة مستمرّة متصاعدة.

٢٥٦

ومن الواضح : أنّ التكامل ـ أو الحركة التطوّرية ـ لا يمكن أن يُفهم إلاّ على هذا الأساس ، وأمّا تتابع ظواهر متعدّدة يوجد كلّ واحدة منها بعد الظاهرة السابقة ، وتفسح المجال بفنائها لظاهرة جديدة ، فليس هذا نموّاً وتكاملاً ، وبالتالي ليس حركة ، وإنّما هو لون من التغيّر العامّ

فالحركة سير تدريجي للوجود ، وتطوّر للشيء في الدرجات التي تتّسع لها إمكاناته ؛ ولذلك حدّد المفهوم الفلسفي للحركة بأنّها خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجياً(١)

ويتركز هذا التحديد على الفكرة التي قدّمناها عن الحركة ، فإنّ الحركة ـ كما عرفنا ـ ليست عبارة عن فناء الشيء فناءً مطلقاً ووجود شيء آخر جديد ، وإنّما هي تطوّر الشيء في درجات الوجود فيجب ـ إذن ـ أن تحتوي كلّ حركة على وجود واحد مستمرّ منذ تنطلق إلى أن تتوقّف ، وهذا الوجود هو الذي يتحرّك ، بمعنى : أنّه يتدرّج ويثرى بصورة مستمرّة ، وكلّ درجة تعبّر عن مرحلة من مراحل ذلك الوجود الواحد ، وهذه المراحل إنّما توجد بالحركة ، فالشيء المتحرّك أو الوجود المتطوّر لا يملكها قبل الحركة وإلاّ لما وجدت حركة ، بل هو في لحظة الانطلاق يتمثّل لنا في قوىً وإمكانات ، وبالحركة تستنفذ تلك الإمكانات ، ويُستبدَل في كلّ درجة من درجات الحركة الإمكانُ بالواقع والقوّةُ بالفعليّة

فالماء قبل وضعه على النار لا يملك من الحرارة المحسوسة إلاّ إمكانها ، وهذا الإمكان الذي يملكه ليس إمكاناً لدرجة معيّنة من الحرارة ، بل هي بجميع درجاتها ـ التي تؤدّي إلى الحالة الغازية في النهاية ـ ممكنة للماء ، وحين يبدأ

____________________

(١) القوّة : عبارة عن إمكان الشيء ، والفعل : عبارة عن وجوده حقيقة (المؤلّف قدس‌سره )

٢٥٧

الماء بالانفعال والتأثّر بحرارة النار تبدأ حرارته بالحركة والتطوّر ، بمعنى : أنّ القوى والإمكانات التي كانت تملكها تتبدّل إلى حقيقة ، والماء في كلّ مرحلة من مراحل الحركة يخرج من إمكان إلى فعلية ، ولذلك تكون القوّة والفعلية متشابكتين في جميع أدوار الحركة ، وفي اللحظة التي تستنفذ جميع الإمكانات تقف الحركة

فالحركة ـ إذن ـ في كلّ مرحلة ذات لونين : فهي من ناحية فعلية وواقعية ؛ لأنّ الدرجة التي تسجّلها المرحلة موجودة بصورة واقعية وفعلية ومن ناحية أخرى هي إمكان وقوّة للدرجات الأخرى الصاعدة التي ينتظر من الحركة أن تسجّلها في مراحلها الجديدة فالماء في مثالنا إذا لاحظناه في لحظة معيّنة من الحركة ، نجد أنّه ساخن بالفعل بدرجة ثمانين مثلاً ، ولكنّه في نفس الوقت ينطوي على إمكان تخطّي هذه الدرجة ، وقوّة تطوّر للحرارة إلى أعلى ففعلية كلّ درجة في مرحلتها الخاصّة مقارنة لقوّة فنائها

ولنأخذ مثالاً أعمق للحركة ، وهو الكائن الحيّ الذي يتطوّر بحركة تدريجية ، فهو بويضة ، فنطفة ، فجنين ، فطفل ، فمراهق ، فراشد إنّ هذا الكائن في مرحلة محدودة من حركته هو نطفة بالفعل ، ولكنّه في نفس الوقت شيء آخر مقابل للنطفة وأرقى منها ، فهو جنين بالقوّة ، ومعنى هذا : أنّ الحركة في هذا الكائن قد ازدوجت فيها الفعلية والقوّة معاً فلو لم يكن في الكائن الحيّ قوّة درجة جديدة وإمكاناتها لما وجدت حركة ، ولو لم يكن شيئاً من الأشياء بالفعل لكان عدماً محضاً ، فلا توجد حركة أيضاً فالتطوّر يأتلف دائماً من شيء بالفعل وشيء بالقوّة وهكذا تستمرّ الحركة ما دام الشيء يحتوي على الفعلية والقوّة معاً ، على الوجود والإمكان معاً ، فإذا نفذ الإمكان ، ولم تبقَ في الشيء طاقة على درجة جديدة ، انتهى عمر الحركة

هذا هو معنى خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجاً ، أو تشابك القوّة

٢٥٨

والفعل أو اتّحادهما في الحركة

وهذا هو المفهوم الفلسفي الدقيق الذي تعطيه الفلسفة الميتافيزيقية للحركة ، وقد أخذته المادّية الديالكتيكية فلم تفهمه ولم تتبيّنه على وجهه الصحيح ، فزعمت أنّ الحركة لا تتمّ إلاّ بالتناقض ، التناقض المستمرّ في صميم الأشياء ، كما سوف نعرف عن قريب

وجاء بعد ذلك دور الفلسفة الإسلامية على يد الفيلسوف الإسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي) ، فوضع نظرية الحركة العامّة ، وبرهن فلسفياً على أنّ الحركة بمفهومها الدقيق الذي عرضناه ، لا تمسّ ظواهر الطبيعة وسطحها العرضي فحسب ، بل الحركة في تلك الظواهر ليست إلاّ جانباً من التطوّر يكشف عن جانب أعمق ، وهو التطوّر في صميم الطبيعة وحركتها الجوهرية ؛ ذلك أنّ الحركة السطحية في الظواهر لمّا كان معناها التجدّد والانقضاء ، فيجب لهذا أن تكون علّتها المباشرة أمراً متجدّداً غير ثابت الذات أيضاً ؛ لأنّ علّة الثابت ثابتة ، وعلّة المتغيّر المتجدّد متغيّرة متجدّدة ، فلا يمكن أن يكون السبب المباشر للحركة أمراً ثابتاً ، وإلاّ لم تنعدم أجزاء الحركة ، بل تصبح قراراً وسكوناً(١)

____________________

(١) ويتلخّص الاستدلال الرئيسي على الحركة الجوهرية بالأمرين التاليين :

الأوّل : أنّ العلّة المباشر للحركات العرضية والسطحية في الأجسام ـ من الميكانيكية والطبيعية ـ قوّة خاصّة قائمة بالجسم ، وهذا المعنى صادق حتّى على الحركات الآلية التي يبدو لأوّل وهلة أنّها منبثقة عن قوّة منفصلة ، كما إذا دفعت بجسم في خطّ أُفقي أو عمودي ، فإنّ المفهوم البدائي من هذه الحركة أنّها معلولة للدفعة الخارجية والعامل المنفصل ، ولكنّ الواقع غير هذا ؛ فإنّ العامل الخارجي لم يكن إلاّ شرطاً من شروط الحركة وأمّا المحرّك الحقيقي فهو : القوّة القائمة بالجسم ، ولأجل ذلك كانت الحركة تستمرّ بعد انفصال الجسم

(*)

٢٥٩

.............................................

____________________

(*)

المتحرّك عن الدفعة الخارجية والعامل المنفصل ، وكان الجهاز الميكانيكي المتحرّك يسير مقداراً ما بعد بطلان العامل الآلي المحرّك ، وعلى هذا الأساس وضع الميكانيك الحديث قانون القصور الذاتي القائل : إنّ الجسم إذا حُرِّك استمرّ في حركته ما لم يمنعه شيء خارجي عن مواصلة نشاطه الحركي غير أنّ هذا القانون أسيء استخدامه ؛ إذ اعتبر دليلاً على أنّ الحركة حين تنطلق لا تحتاج بعد ذلك إلى سبب خاصّ وعلّة معيّنة ، واتّخذ أداة للردّ على مبدأ العلّية وقوانينها

ولكنّ الصحيح : أنّ التجارب العلمية في الميكانيك الحديث ، إنّما تدلّ على أنّ العامل الخارجي المنفصل ليس هو العلّة الحقيقية للحركة ، وإلاّ لما استمرّت حركة الجسم بعد انفصال الجسم المتحرّك عن العامل الخارجي المستقلّ ويجب لهذا أن تكون العلّة المباشرة للحركة قوّة قائمة بالجسم ، وأن تكون العوامل الخارجية شرائط ومثيرات لتلك القوّة

الثاني : أنّ المعلول يجب أن يكون مناسباً للعلّة في الثبات والتجدّد ، فإذا كانت العلّة ثابتة كان المعلول ثابتاً ، وإذا كان المعلول متجدّداً ومتطوّراً كانت العلّة متجدّدة ومتطوّرة ومن الضروري على هذا الضوء أن تكون علّة الحركة متحرّكة ومتجدّدة ، طبقاً لتجدّد الحركة وتطوّرها نفسها ؛ إذ لو كانت علّة الحركة ثابتة ومستقرّة ، لكان كلّ ما يصدر منها ثابتاً ومستقرّاً ، فتعود الحركة سكوناً واستقراراً ، وهو يناقض معنى الحركة والتطوّر

وعلى أساس هذين الأمرين نستنتج :

أوّلاً : أنّ القوّة القائمة بالجسم والمحرّكة له ، قوّة متحرّكة ومتطوّرة ، فهذه القوّة بسبب تطوّرها تكون علّة للحركات العرضية والسطحية جميعاً ، وهي قوّة جوهرية ؛ إذ لا بدّ أن تنتهي إلى قوّة جوهرية ؛ لأنّ العرض يتقوّم بالجوهر وهكذا ثبتت الحركة الجوهرية في الطبيعة

ثانياً : أنّ الجسم يأتلف دائماً من مادّة تعرضها الحركات ، وقوّة جوهرية متطوّرة ،

٢٦٠

تحمل بالرغم على وجهها

عقاربا ليست بلساعه

جاهلة بالوقت كم عرّفت

أثلاثه الوقت وأرباعه

وان تكن تحملها ساعة

يسألك الناس عن الساعه

وله مساجلات شعرية ومراسلات أدبية مع الشاعر الشهير السيد جعفر الحلي والشيخ جواد الشبيبي والسيد ابراهيم الطباطبائي والشيخ هادي كاشف الغطاء وغيرهم ومن روائعه وبدائع غزله قوله:

قلبي بشرع الهوى تنصر

شوقاً إلى خصره المزنر

كنيسة تلك أم كناس

وغلمة أم قطيع جؤدر

وكم بهم من مليك حسن

جار على الناس إذ تأمر

له بأجفانه جنود

تظفر بالفتح حين تكسر

ورب وعد بلثم خد

جاد به بعدما تعذر

سقاه ماء الشباب حتى

أينع نبت العذار وأخضر

عرّفه لام عارضيه

عليّ لم بعدها تنكّر

هويت أحوى اللثاث ألمي

أهيف ساجي الجفون أحور

كالليث والظبي حين يسطو

وحين يعطو وحين ينظر

عناي منه ومن عذولٍ

يهجر هذا وذاك يهجر

هل ريقه الشهد قلت أحلى

أو وجهه البدر قلت أنور

صغّره عاذلي ولما

شاهد ذاك الجمال كبّر

والقصيدة كلها على هذا الروي والرقة. وقال في فتاة اسمها ( شريعة ).

هذي شريعة في تدللها

ظنّت على العشاق في قُبله

يا ليت شعري أين قولهم

إن الشريعة سمحة سهله

وله مداعباً بعض الشيوخ:

تزوج الشيخ على سنّة

جاريةً عذراء تحكي الهلال

قلت له دعني افتضّها

ما يفتح الباب سوى ابن الحلال

٢٦١

وقال ملغزاً باسم أمين:

وبمهجتي من قد تسلّم مهجتي

نقداً وألوى بالوصال ديوني

عجباً لقلبي كيف ضاع وإنني

أودعته في الحب عند ( أمين )

ومن نوادره:

تولّى أصفهان أمير جور

ولم يعزله إكثار الشكاية

فأظهر في الولاية كل جور

إلهي لا تمته على الولايه

وله غير هذا كثير وقد كتب بقلمه ترجمته بطلب من العلامة الشيخ محمد علي الأورد بادي وفصّل فيها مراحل حياته بصورة مقتضبة وذكر فيها أنه سيفرد كتاب عن حياته وذكرياته بعنوان: أنا والأيام.

٢٦٢

الشيخ عبد الله معتوق

المتوفى ١٣٦٢

غليل فؤادي لا يبردُ

ونار الجوى منه لا تخمدُ

وقلبي من الوجد لا يستريح

وعيشي ما عشت لا يرغد

لذكرى مصاب رمى العالمين

بحزن مدى الدهر لا ينفد

مصاب الحسين ابن بنت النبي

ومن هو في العالم المرشد

مصاب اصيبت به المكرمات

أصيب به المجد والسؤدد

أصيب به الدين دين الاله

اصيب به المصطفى أحمد

اصيب به المرتضى حيدر

وفاطم والحسن والامجد

اصيب به الأنبياء الكرام

قديماً فحزنهم سرمد

فمن سائل دمعه بغتة

ومن واجدٍ قلبه مكمد

الشيخ عبدالله بن معتوق القطيفي، هو العلامة الحجة المتولد في بلاد آبائه وأجداده ( تاروت ) حدود سنة ١٢٧٤ ه‍. من قرى القطيف. تتلمذ على والده ثم هاجر إلى النجف الأشرف سنة ١٢٩٥ ه‍. فدرس على فطاحل العلم حتى حصل على اجازة اجتهاد من الحجة السيد الكبير السيد أبو تراب وهناك اجازات من علماء آخرين.

كانت بلاد القطيف طوال رحلته إلى النجف تنتظره بفارغ الصبر ليكون المرشد والموجّه فطلع عليها كطلعة الهلال فساسها بخلقه وسماحة نفسه وأصبح

٢٦٣

الأب الروحي لذلك القطر عنده تحل المشاكل وعلى يده تنتهي المنازعات ثم هو القدوة لهم في الأخلاق والآداب والكمالات وعلى درجة عالية من العبادة والتقوى. ترجم له في شعراء القطيف وذكر نماذج من أشعاره.

آثاره العلمية، كتب في الفقه حاشية على العروة الوثقى، ورسالة في علم الهيئة. كانت وفاته غرة جمادى الاولى ليلة الخميس سنة الثانية والستين بعد الثلثمائة والألف من الهجرة عن عمر قارب التسعين عاماً. اقيمت له الفواتح وأبّنه الشعراء والخطباء.

جاء في أنوار البدرين: ومن شعراء القطيف العالم الفاضل التقي الصدوق الأواه الشيخ عبدالله ابن المرحوم معتوق التاروتي، من الأتقياء الورعين الأزكياء، زاهداً عابداً تقياً ذكياً، قرأ رحمه الله في القطيف عند الفقير لله صاحب الكتاب علمي النحو والصرف، كما قرأ عند شيخنا العلامة ثم سافر إلى النجف الأشرف للاشتغال في العلوم وبقي فيها مدة من الزمان ثم انتقل إلى كربلاء واستقل بها وهو من العلوم ملآن إلى هذا الآن، له بعض التصانيف، على ما سمعت - ومن جملتها رسالة في الشك اسمها ( سفينة المساكين ) وهو كثير المكاتبة والمراسلة لنا كل آن، وقد اجازه كثير من علماء النجف الأشرف وغيرها من العرب والعجم، أدام الله توفيقه وسلامته وأفاض عليه أمداده ورعايته، ومن شعره في الرثاء:

لا مرحباً بك يا محرم مقبلا

بك يا محرم مقبلا لا مرحبا

فلقد فجعت المصطفى وأسأت

قلب المرتضى والمجتبى بالمجتبى

وتركت في قلب الزكية فاطم

ناراً تزيد مدى الزمان تلهبا

لله يومك يا محرم أنه

أبكى الملائك في السماء وأرعبا

وأماط أثواب الهنا من آدم

فغدا بابراد الأسى متجلببا

حيث الحسين به استقل بكربلا

فرداً تناهبه الأسنة والظبا

من عصبة قدماً دعته لنصره

فعدت عليه عداوة وتعصبا

فهناك جاد بفتية جادت بأ

نفسها وجالدت العدى لن تذهبا

٢٦٤

فترى إذا حمى الوطيس قلوبها

أقسى من الصخر الأصم وأصلبا

فالوعد أعرب عن طراد عرابها

والبرق عن لمع البوارق أعربا

وغدت تنثر من امية أرؤساً

ولها السما رعباً تنثر أشهبا

وتعانق البيض الصفاح ولم ترد

منها سوى ورد المنية مطلبا

حتى إذا حان القضاء وغودرت

صرعى على تلك المفاوز والربى

أمسى الحسين بلا نصير بعدها

والقوم قد سدوا عليه المذهبا

ساموه ان يرد المنية او بأن

يعطي الدنية والابي بذا ابى

فغدا يريهم في النزال مواقفاً

من حيدر بمهند ماضي الشبا

لله صارمه لعمرك أنه

ما كل يوماً في الكفاح ولا نبا

من ضربه عجبت ملائكة السماء

من فوقه ويحق أن تتعجبا

بالله لو بالشم همّ تهايلت

دكاً وصيرها بهمته هبا(١)

ومن شعره في الرثاء:

يا ذوي العزم والحمية حزما

لخطوب دهاكم أدهاها

فلقد أصبحت أميمة سوء

ثوبها البغي والرداء رداها

جدعت منكم الانوف جهاراً

فاشتفت إذ بذاك كان شفاها

فانهضوا من ثراكم واملأوا الأر

ض جياد العتاق تطوي فلاها

وأبعثوا السابحات تسحب ذيلا

من دلاصٍ لكم برحب فضاها

وامتطوا قُبّها ليوم نزال

وانتضوا من سيوفكم أمضاها

لستُ أدري لمَ القعود وبالطف

حسينٌ أقام في مثواها

ألجبنِ عراكم أم لذلٍ

أم لخوفٍ من الحروب لقاها

لا وحاشاكم وأنتم إذا ما

ازدحمت في النزال قطب رحاها

إن زجرتم بأرضها العرب غضباً

أعربت عن زجير رعد سماها

أو تشاؤن خسفها لجعلتم

بالمواضي علوّها أدناها

__________________

١ - عن الديوان المطبوع في النجف الأشرف.

٢٦٥

أفيهنا الرقاد يوماً اليكم

وامي أتت بظلم تناها

فلعمر الورى لقد جرّعتكم

كربلا كأس كربها وبلاها

يوم أمسى زعيمكم مستضاماً

يصفق الكف حائراً بفلاها

حوله فتية تخال المنايا

دونه كالرحيق أُذبلّ فاها

وترى الحرب حين تدعى عروساً

خطبتها الصفاح ممن دعاها

ولها الروس إذ تناثر مهر

وخضاب الأكف سيل دماها

ما ثنت عطفها مخافة موت

لا ولا استسلمت إلى أعداها

لم تزل هكذا إلى أن دعتها

حكمة شاء ربّها أمضاها

فثوت كالبدور يتبع بعضاً

بعضها أُفلا فغاب ضياها

وبقي مفرداً يكابد ضرباً

بعدها من أمية شبل طاها

بأبي علة الوجود وحيداً

يصطلي في الحروب نار لظاها

إن غدا في العدا يكر تخال

الموت يسعى أمامه ووراها

حالف المشرفيّ أن لا يراه

في سوى الروس مغمداً إذ يراها

وحمى دينه فلما أتته

دعوة الحق طائعاً لبّاها

فرماه الضلال سهماً ولكن

حل في أعين الهدى فعماها

فهوت مذ هوى سماء المعالي

وجبال المهاد هدّ ذراها

أد لهمّ النهار وانخسف البدر

ونال الكسوف شمس ضحاها

بأبي ثاويا على الأرض قد ظلّ

لهيب الفؤاد في رمضاها

ما له ساتر سوى الريح منها

قد كساه دبورها وصباها

وبنفسي حرائراً ادهشت من

هجمة الخيل بعد فقد حماها

برزت والفؤاد يخفق شجواً

حسرها بعد خدرها وخباها

بيدٍ وجهها تغطيّه صوناً

وبأخرى تروم دفع عداها(١)

__________________

١ - رياض المدح والرثاء.

٢٦٦

الشيخ جواد الشبيبي

المتوفى ١٣٦٣

قال يرثي الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأوائل الأبيات على حروف الهجاء:

أما آن أن تجري الجياد السوابق

فتندك منها الراسيات الشواهق

بعيدات مهوى اللجم يحملن فتية

عليهم لواء النصر بالفتح خافق

تطلّع فيها قائم بشروطها

إذا عارضتها بالوشيج الفيالق

ثوابت يجريها شوارق بالدما

وكيف تسير الثابتات الشوارق

جرى الأمر أن تبقى لأمر حبائساً

إلى أمدٍ إن يقض فهي طلائق

حرام عليها السبق إن هي أزمنت

رباطاً وصدر الدهر بالجور ضائق

خفاءً وليّ الأمر ما إن موقف

تسلّ به منك السيوف البوارق

دع البيض تُنشي الموت اسود في الوغى

بها من دم القتلى المراق طرائق

ذوابح إلا أنهن أهلّة

صوائح إلا أنهن صواعق

رقاق تعلّقن الطلى فكأنما

لها عند أعناق الكماة علائق

زهت ظلمات الحرب منها بأنجم

يشق بها فجر من الضرب صادق

سقت شفق الهيجاء أحمر أمرعت

به من رؤوس الناكثين شقائق

٢٦٧

شقائقها في منبر الهام أفصحت

وما أفصحت عند الهدير الشقاشق

صِل النصل بالنصل المذرب مدركاً

تراثٍ لها بيضاً تعود المفارق

ضحى وقعة بالطف جلّت ودكدكت

مغاربها من هولها والمشارق

طوائحها قد طوّحت بملمةٍ

على مثلها تقذى العيون الروامق

ظلام مثار النقع فيها سحابة

دجت وحراب السمهريات بارق

عفت صاحب الخطب الطروق منازلاً

لآل عليٍّ لم تطأها الطوارق

غدت ابن حرب شبّ حرباً تسجّرت

به حرمات الوحي وهي حدائق

فجاء بها تستمطر الصخر عبرة

ومن وقعها يلوي الشباب الغرانق

قضى ظمأ فيها الحسين وسيفه

بدا بارق منه وأرسل وادق

كفى الطير أن ترتاد طعماً وكفّها

بأسرابها أنى استدار خوافق

له الصعدة السمرا فقل قلم القض‍

جرى بالمنايا والصدور المهارق

مضى ومضى أصحابه عاطري الثنا

ومصرعهم بالحمد لا الندّ عابق

نحو وجهة الموت الزؤام بأوجه

وضاحٍ لها تصبو النبال الرواشق

هموا مذ قضوا عادت بنات محمد

قلائدها مبتزّةً والمناطق

ينُحنَ ولا حامٍ ويعطفن هتّفاً

بكل محام فيه تحمى الحقائق

الشيخ جواد الشبيبي شيخ الأدب ومفخرة العرب الشاعر الخالد وجامع الشوارد، الشيخ جواد ابن الشيخ محمد بن شبيب بن ابراهيم بن صقر البطايحي الشهير بالشبيبي الكبير من أفذاذ الزمان في أدبه وكماله وظرفه وأريحيته.

ولد ببغداد في شهر شعبان عام ١٢٨٤ هـ(١) وتوفي أبوه وعمره اسبوع وكان والده من الشخصيات المرموقة ببغداد، فانتقلت امه بمولودها إلى النجف بجنب الاسرة وهي بنت الشيخ صادق أطيمش وهو من المشهورين بالفضل والعلم وله ضياع في قضاء الشطرة ويقضي أكثر أيامه هناك فكان ينتقل بسبطه

__________________

١ - ويقول الشيخ السماوي في الطليعة انه ولد سنة ١٢٨٠ ه‍. كما أخبره المترجم له نفسه.

٢٦٨

إلى هناك في كل سفراته ويحدب عليه ويغذيه، وساعدته مواهبه الفياظة فبرع بالشعر والأدب ومختلف العلوم العربية والإسلامية إلى أن توفي جده عام ١٢٩٦ ه‍. وقد قارب المائة عام في العمر فعاد المترجم له إلى النجف وواصل دراسته وتميز بالإنشاء والكتابة حتى عدّه البعض بأنه أكتب عصره قال عنه الشيخ السماوي في ( الطليعة ) فقال: قبلة الأدب التي تحج وريحانته التي تشم ولا تزج، وجواده السابق في مضماري النثر والنظم، عاشرته فوجدته حسن العِشرة مليح النادرة صافي النية حلو الفكاهة قوي العارضة مع تمسك بالدين والتزام بالشرع، وذكره صاحب ( الحصون المنيعة ) فقال: عالم فاضل وأديب كامل، شاعر ماهر فصيح بليغ لغوي مؤرخ حسن المحاورة جيد المحاظرة، فطن ذكي ذو ذهن وقاد وفكر نقاد، وألّف كتاباً في المراسلات بينه وبين أحبابه سماه ( اللؤلؤ المنثور ) وديوان شعره، وهو مكثر من الشعر والنثر سريع البديهة في كليهما وترجم له كل من كتب عن الشعر والأدب في العراق إذ أن الكثير من المتأدبين تخرجوا على مدرسته وما زالت النوادي تتندّر علمه وأدبه وقد عمّر طويلاً فأدرك الدورين: التركي والوطني وشعره مقبول في الدورين وكأنه يتجدد مع الزمن ففي رسائله ومقاماته يجاري مقامات الهمداني والخوارزمي وبشعره السياسي ونقده اللاذع كشاب يحس بمتطلبات البلاد واستقلالها والعجيب أنه مكثر في الشعر ومجيد في كل ما يقول، وقد داعب جماعة من أعضاء ندوته منهم الشيخ ابراهيم أطيمش لما تزوج زوجة بالإضافة إلى زوجاته السالفات وكان في السبعين من عمره، بعث الشيخ له قصيدة أولها:

صواهل ما بلغن مدى الرهان

فدى لك أولٌ منها وثان

وتلاه الحجة الكبرى السيد أبو الحسن الأصفهاني الموسوي حيث قد تزوج وهو ابن السبعين وتلاهما زعيم النجف الديني الشيخ جواد الجواهري ثم الشيخ جواد عليوي وكلهم قد تجاوزوا السبعين في أعمارهم فكتب المترجم له إلى الأخير منهم وقال:

٢٦٩

( جوادك ) من بعد الثمانين صاهل

فمن ذا يجاريه ومن ذا يطاول

وسائلة ماذا تحاول نفسه

فقلتُ لها فتح الحصون تحاول

فقالت أبا السيف الذي هو حامل

وما سيفه في الروع إلا حمائل

ثقيل حديد العضب تبكى لضعفه

حراب العوالي والحداد المناصل

ومن عجب أن الصياقل لم تكن

تعالجه بل عالجته الصيادل

وعند اقتران الثاني من هؤلاء الاعلام كتب لسماحة الشيخ عبد الرضا آل راضي:

أتاك الصاهل الثاني

يباري الصاهل الأول

كلا الطِرفين لم يعثر

وإن خبّ على الجندل

ولكن طرفنا استعصى

على السائس فاسترسل

أردنا منه إمهالاً

عن الوثبة فاستعجل

وقال يداعب الآخر منهم:

أُهنّي الشرع والشارع

بهذا الصاهل الرابع

ثلاثون لتسعين

فأين القدر الجامع

ومن مداعباته لأحد زملائه وكان في رأسه قرع وهو الشيخ عبد الحسين الجواهري والد محمد مهدي الجواهري قال:

لك رأس مرضع ومدبّج

دوحة الجسم أنبتت فيه بستج

روضة تنبت الشقائق فيها

جلناراً وسوسناً وبنفسج

قد قرأنا حديثه من قديم

فوجدناه عن جعود مخرّج

خطّ ياقوت فيه جدول تبر

نقطوه من قيحه بزبردج

فوق كافوره من الشعر مسك

كل من شمّ نشره يتبنّج

فيه بحر للقار من ظلمات

ضرب الشف يمّة فتموج

أرضه عسجد وحصباه درٌ

لو أُزيلت أصدافه لتدحرج

٢٧٠

كم بموسى الحجام عاد كليما

صعقاً خرّ بالدماء مضرج

لو على ابن الهموم ضاق خناق

وكشفنا عنه لقلنا تفرج

عمموه بلؤلؤ وعقيق

فهو ملك معمم ومتوّج

وهو وادي العقيق كم جمرات

عنه ترمى معصومة ساعة الحج

موقد شعلة كعلوة عمرو

من سناها نار البروق تأجج

ذو بيان لو خاصم الجمر فيه

لانطفا حرّه وباخ وأثلج

وأديب لا بابلي ولكن

فمه في فم المقبّل قد مج

أنا ضام ولم أرد نهر فيه

حيث فيه من العوارض كوسج

وسمعت الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء يتحدث عن شاعرية الشبيبي الكبير ويقول كنا بصحبة والدي الهادي في شريعة الكوفة واتخذنا المسجد مقراً لنا فزارنا الشيخ الجواد وكان نازلاً على النهر فشكونا عدم وجود حليب البقر، والطبيب يوصي باستعماله فقال الشيخ: إنه متوفر بالقرب منا وأخذ يرسل لنا كل يوم زجاجة مملوءة وكان يختم رأسها ببطاقة فيها قصيدة من نظمه.

وكتب للعالم الجليل الشيخ أحمد كاشف الغطاء على سبيل المداعبة:

يمن لذاتك بيت من علاً سمكا

صيّر غداي غداة الاربعا سمكا

وخصّني فيه فرداً لا يشاركني

سواك، فالنفس تأبى الشرك والشُركا

أما اعتبرتَ بهم يوم الهريسة مذ

ألقوا أناملهم من فوقها شَبَكا

قالوا لنا سرر البُنيّ نقسمها

ما بيننا والبقايا والجلود لكا

وسمك ( البُنيّ ) هو المفضّل من الأسماك في شط الفرات وموضع السُرّة منه أطيب المواضع.

وفي مجلس ضمّ نخبة من الادباء العلماء وهم الشيخ الشبيبي والشيخ آغا رضا الأصبهاني والشيخ هادي آل كاشف الغطاء والسيد جعفر الحلي صاحب ديوان ( سحر بابل ) وفي يد أحدهم كتاب ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه إذ مرّت

٢٧١

فقرة من كلام العرب وهي: نظرت بعيني شادنٍ ظمأن. فاقترح أحدهم أن يشترك الجميع في جعل هذه الفقرة مطلع قصيدة، فاستهلها لسماحة الشيخ الهادي بقوله:

نظرت بعيني شادن ظمأن

ظمياء بالتلعات من نعمان

فقال سماحة الشيخ الشبيبي:

وتمايلت أعطافها كغصونها

ما أشبه الأعطاف بالأغصان

وقال السيد جعفر الحلي:

وشدا بذاك الربع جرس حلّيها

فتمايلت طرباً غصون البان

وتبعهم سماحة الشيخ الأصفهاني بقوله:

هيفاء غانية لها من طرفها

أسياف غنج فقن كل يمان

وإذا هي قصيدة عامرة في ٥٦ بيتاً مثبتة بكاملها في ديوان سحر بابل.

وقال:

لا أكثر الله من قومي ولا عددي

إن لم يكونوا لدى دفع الخطوب يدي

لي قاتلٌ فوق خدّيه دمي وله

حُكمٌ يُخوّله أنّ القتيل يدي

وخادعٍ جاء فتّاناً بنغمته

حتى استقرّ فكانت زأرةُ الأسد

مُصفدي بقيود لا فكاكَ لها

واضيعةَ النفس بين القيد والصَفد

حسا البحارَ وفي أحشائه طمعٌ

إلى امتصاص بقايا النزرِ والثمد

واستوعبَ الماء لا من غُلةٍ وظماً

وصاحب الماء ظمآن الفؤاد صدي

* * *

البس لخصمك - إن لاقاك مفترساً-

مطروقةَ الصبر لا منسوجةَ الزرد

فها هي النثرةُ الحصداء تخرقها

يد القوي التي تعي عن الجلد

وقل لشعبك يجمع شمله لعلاً

فلا تُنال العلا في شمله البدد

٢٧٢

ولينتفض من غبار الموت متحداً

فالموتُ أولى بشعب غير متحد

سرّ التقدم أن القومَ سعيهم

لغاية وحدوها سعيَ منفرد

إجعل لنفسك من معقولها عُدداً

فعُدة العقل كم تأتي على العدد

قد ضعّف الحق مَن تُطوى طويته

على البغيضين، سوء الخُلق والحسد

ركّن مقرّك تأمن كل قارعة

إن العواصفَ لا تقوى على أحد

وذُمّ كل فرار من مبارزةٍ

إلا فرارك من غيٍّ إلى رشد

لا تقرب الحشد مرفوعاً به زجلٌ

إن لم يكن لصلاح الشعب والبلد

أحلى الحديث حديثٌ قال سامعُه

لمجتليه اسقني مشمولَه وزِد

شتان بين خطيبي أمةٍ خَطبا

سارٍ على القصد أو ناءٍ على الصدد

هذا يجيء بزُبد القولِ ممتخضاً

وذاك يجمعُه من ذاهب الزَبَد

* * *

يا من يسودُ قبيلا وهو سؤدده

أسدد طريقَ العلا من هظمه وسُد

واختر رجال المساعي الغر مدخراً

منهم بيومك هذا معقِلا لغد

وارصُد بهم من كنوز السر أثمنها

فقد تباح إذا أمست بلا رصد

إن الرجال دنانيرٌ وأخلصها

من كذّب السبكُ فيه قول منتقد

ولا يغرنّك من تحت الردا جسدٌ

فالمرء قيمتُه بالروح لا الجسد

لا يكسب الطوق حسناً جيد لابسه

وإنما حسنه الذاتيّ بالجيد

والناس كالنبتِ منه عرفجٌ وكباً

والشعر كالناس منه جيّدٌ وردي

والشعر كالسحر في مهد الخيال معاً

تجاذباً حلمةً واستمسكا بثدي

لكنما السحر مطبوعٌ على عُقَد

والشعر مطبوعه الخالي عن العُقَد

* * *

كان الضعيف إذا مدّ القوي يداً

لظِلمه ردّها مدفوعةً بيد

واليوم ظلّ ضعيف القوم مضطهداً

وارحمتاه لمظلومٍ ومضطهد

كم شجّة أوضحته وهو معتدلٌ

كما تعاقبَ طُرّاق على وَتد

ببيت مضطرباً في موطن قلق

كأنه زئبقٌ في كفّ مرتعد

٢٧٣

وقال أيضاً:

بكّر على صيدك فالوقت فرص

ولا تجئ في أُخريات مَن قنص

وابتدع الآثار يُقفى نهجها

فخير آثار الفتى ما يُستقص

واجعل لهذي النفس منك قوةً

يمكنها الصبر على صاب الغصص

ولا تقل كان أبي فإنما

حديثه الماضي أساطير قصص

إعمل فما بعد الصبا من عمل

والبدر إما بلغ التمّ نقص

إذا تكاسلت فما تربح سوى

ما تترك الموسى بعارض الأحص

وطامع لم تكفه جفنته

وكم ذبيح في حواشيها فحص

تطاحنت محالك الدنيا له

وقسّمت من أجله تلك الحصص

فهل تراه قانعاً أم أنه

يثرد قرص الشمس مع تلك القرص

فلا يلومنّ سوى لهاته

من جاوز المقدار في المضغ فغص

ما أجهل الإنسان اما تستوي

بلاجة الوجه لديه والبرص

* * *

مَن لي من الفتيان بابن حرةٍ

ما نكّس البند ولا يوماً نكص

يفتح للقتام عينَ أجدل

كأنما العثير كحل للرمص

إن تدعه لبّاك منه ناشيء

قد نشر الوفرة بعد ما عقص

يقطع بالرأي وريد خصمه

وقوله في موقف الأحكام نص

يا ربة الفسطاط:

تسافل الصدق بأرقى العصور

واحتجب الحق بعهد السفور

وانتشر الرعب بهذا الفضا

فكل يوم هو يوم النشور

واشتمل الدهر حداد الأسى

مذ عوفي الحزن ومات السرور

فوادح عمّت فأضحت لها

جداول تعمى وعين تغور

وصوّحت أرياف هذي الدنا

فأين - لا أين - رياض الزهور

وانتبه الفاجرُ من نومه

إلى الدعارات ونام الغيور

٢٧٤

وباغت الخلق انعكاس ولا

يعتدل العيش بعكس الامور

صدور قوم أصبحت في القفا

وأظهر حلّت محلّ الصدور

لا يفخر الداني إذا ما علا

إن اللباب المحض تحت القشور

* * *

آلفة القبة أين الخبا،

وربة الفسطاط أين الخدور

طبعك طبع الريم لو أنه

دام على عادته في النفور

لكنما نسمةُ هذا الهوى

ما قويت إلا لرفع الستور

لا ترفعي الرُقع في موكب

وجهك فيه يا ابنة العرب ( نور )

ولا تزوري في الدجى جارة

ففي غواشي الليل إفك وزور

بلادك:

بلادك إنها خير البقاع

فقم ثبّت بها قدم الدفاع

بلادك أرضعتك العز فاحفظ

لها حق الامومة والرضاع

بلادك أصبحت لحماً غريضاً

تمطق فيه أشداق السباع

فقل للضاريات ألا اقذفيه

ففي أوصاله سمّ الأفاعي

أرى ضرماً وليس له لهيب

وهل نار تكون بلا شعاع

وأنسمة يسبل السمنُ منها

توزع بين أفواه جياع

وقطعانا تلاوذ وهي سغب

وتمنع عن مداناة المراعي

فما زالت على فزع ورعب

تفرّ من الذئاب إلى الضباع

نظرنا في السياسة فاجتهدنا

وخضنا في القياس وفي السماع

فألفينا بحيرتها سَراباً

يحوم الوهم منه على التماع

إذا كالت فقيراط بصاع

أو اكتالت فقنطار بصاع

٢٧٥

ومن روائعه قوله:

يا ما طل الوعد ما هذي الأساطيرُ

زادت على السمع هاتيك المعاذير

العدل منك سمعناه ولم نره

والجور منك أمام العين منظور

إن قلت عصري عصر النور مفتخراً

فظلمة الظلم ما في فجرها نور

وهل يفيد جمال الوجه ناظره

والبرقع الدكن فيه الحسن مستور

أفراد قومك عاشوا عيشة رغداً

وما دروا أنها ماتت جماهير

بيوتهم من بيوت الشعب مدخلها

ومن عمايره تلك المقاصير

تمسي سواءً لو أن الحال أنصفها

لكنما هي مهدوم ومعمور

أقول للغرف اللاتي ستائرها

لها بمسح جبين الشمس تأثير

تواضعي واعرفي قدر البُناة فمن

صنايع الشعب رصتك المقادير

فأين ما ثبت البانون من أُطم

وأين ما شاده كسرى وسابور

هذا الخورنق مطموس بلا أثر

وذي المدائن لا بهوٌ ولا سور

يا حارث الأرض والساقي وباذرها

قتّر إذا نفع المحروم تقتير

إذا أتاك رجال الخرص فألقهم

بطلعة برقت منها الأسارير

إن باغتوك بنار شبّها غضب

وسعّرتها من العسف الأعاصير

فأحفظ بقايا حبوب منهم سقطت

فللبقايا ببغداد مناقير

طارت من الغرب والأطماع أجنحة

والغاية الشرق واللقط الدنانير

ألا نكيرَ على أعلام حاضرة

قضت بتعريفهم تلك المناكير

كالعبد صبغته السوداء ثابتةٌ

على المسمى بها والاسم كافور

تقدموا فانتظر يوماً تأخرهم

والدهر يومان تقديم وتأخير

لا تعجبن إذا راجت لهم صور

فالعصر رائجة فيه التصاوير

ولا تخل أنهم حرّاس مملكة

فطالما تسرق الكرم النواطير

من الغرائب أن الهرّ في وطني

ليثٌ يدلُّ وان الليث سنّور

٢٧٦

جرياً على العكس كم وجه يكون قفاً

وكم قفاً وله وجهٌ وتصدير

يا لانقلابٍ به العصفور صقر ربى

والصقر ذو المخلب المعوج عصفور

تبدل الناس والأرض الفضاء على

أديمها لاح تبديل وتغيير

يا من رأى الدير والخابور من قدم

لا الدير ديرٌ ولا الخابور خابور

خوفي على الوطن المحبوب ألجمني

فلم يذع لي منظومٌ ومنثور

كأنني مذ غدا حتماً على شفتي

ليث يكظ على أشداقه الزير(١)

أفحص فؤادي يا دهر تجد حجراً

صلداً ولكنه بالخطب منقور

يُرمى البرئ نزيه النفس طاهرها

بالموبقات وذنب اللص مغفور

مثل البغية يطوي العهر رايتها

وبندُها فوق ذات الخدر منشور

فيا سيوفاً قيون الغدر تشهرها

ما هكذا تفعل البيض المشاهير

نحرتم وطعنتم قلبَ موطنكم

حتى يقال مطاعين مناحير

لا تستهينوا بضعف في جوارحنا

فكم دم قد أسالته الأظافير

كبرتم الأنفس اللاتي مشاعرها

لها وان طال فيها العمر تقصير

زجاجة الخط ان أمست تكبّرها

فالذرّ ليس له في العين تكبير

مطاول الفلك الأعلى قصرت يداً

فالآن أيسر ما حاولت ميسور

ما في يديك خسوف البدر مكتملاً

وليس فيها لقرص الشمس تكوير

انظر إلى القبة الزرقاء عالية

وسقفها بنجوم الزهر مسمور

واستغرق الفكر في مجرى مجرّتها

فذاك بحرٌ يفيض اللطف مسجور

موج من النور عال لا يسكّنه

إلا الذي من سناه ذلك النور

كأنه والنجوم الزهر طالعة

سجنجل نبتت فيها الأزاهير

يا طائرين على بيض مجنحة

حطوا على الوكنات الجوّ أو طيروا

__________________

١ - الزير: الدن.

٢٧٧

ما هذه الأرض تبقى وكر طيركم

ولا الوقوف لها في الجور مقدور

لقد أمنتم على خفّاقها خطراً

وكم تجيءُ من الأمن المخاطير

هوى من الجهة العليا لهوتها

والصور منحطمٌ والظهر مكسور

رحى تدور لهذا القطر طاحنة

ومن مطاعمها الديار والدور

الشرق يبكي وسنّ الغرب ضاحكة

لصوتها أهو رعد أم مزامير

يا ربة الخدر عن نظارك احتجبي

إن الحجاب لمنصوصٌ ومأثور

وطهّر النفس بالأخلاق فاضلة

فانها لك تنزيه وتطهير

شُذّي أزارك ممدوداً فكم نظري

على الخيانة أضحى وهو مقصور

ومن شعره أيضاً:

هذه خيلنا الجياد الصفوافن

أنفت أن تقاد في يد راسن

لا تسسها فكم بها ذات متن

يدرك الحس من يمينك ماين

نفرت عن منابت الهون مرعىً

ويداها ما خاضتا الماء آجن

أن تفض في الرمال فهي سيول

أو تخض في الدماء فهي سفائن

تطحن الشوس في رحاها دقيقاً

والدم الماء والنسور العواجن

لست أدري مطاعم من كرام

الطير للوحش في الوغى أم مطاعن

كيف تظمى والبيض مثل السواقي

مائجات يفعمن غدر الجواشن

عبرت لجة المنايا وجازت

ساحليها مياسراً وميامن

ورأت من صنايع البيض فيها

بأكف الجرحى الرماح محاجن

يا له موقف اختلاط فسهم

في قراب وانصل في كنائن

ومخاليب أجدل في سييبٍ

ونواصي طمرةٍ في براثن

أين لا أينها أخافت فأمسى

سبّها في الوكون ليس بآمن

باعدت مشرع الفراتين طوعاً

وعلى الكره تحتسي النزر آسن

ما ظننا أن السوابق منها

ملحقات بما اقتناه المراهن

ما أراها هانت فذلّت ولكن

درست حال شعبها المتهاون

٢٧٨

فبكته الآمال دوح خلاف

لم يقم تحت ظله متضامن

أي دوح في أصله عذل لاحٍ

وعلى فرعه ترنّم لاحن

ضعفت أنفسٌ ترى في دواها

وهو الداء حفظها بمعاون

وإذا صارع المريض المنايتا

والطبيب العدو فالموت حاين

كيف يرجى إشفاق أعدى طبيب

حرّك الداء طبعه وهو ساكن

يصف الهدم للجسوم علاجاً

فكأن البناء نقض المساكن

ناعم البال ليس تزهو بشيء

نعمة لا يذبّ عنها مخاشن

إن من بات فوق لين الحشايا

غير موف عهداً عليه لخاين

قد يعين العِدا عليه برأي

وبسيف مصالح ومهادن

ظهرت للعيان منك خفايا

ومن الستر إن يكنّ كوامن

قلت اني للمحسنين مساو

والمساوي تقول أنت مباين

يا دريس الآثار جدد حديثاً

مرسلاً عنك لا حديث العناعن

أحزم الناس ناهض بعظام

من مساعيه لا عظام الدفائن

كم ركبنا ليستظل ابن فجّ

من هجير الضحى ويعصم راكن

كم صروح تبلّطت برخام

طحنتها رحى الخطوب الطواحن

قل لأهل السواد لا جاورتهم

في البوادي شقايق وسواسن

ضربتكم أيديكم فافترقتم

وخلا معبد وفارق سادن

وضيع قضي عليها ضياع

وكنوز تحوّلت لخزائن

فلقتكم فواحصٌ مذ رأتكم

هضباً قد ركدن فوق معادن

وبي ألمٌ:

طبيبي ما عرفتَ عياء دائي

وأنت معالج الداء العياء

أنا أدري بدائي فهو ضعف

السواعد عن صراع الأقوياء

وبي ألمٌ يؤرقني فتعي

يميني فيه عن جذب الرداء

وحمّى خالطت عرقاً بجسمي

فباتا مزمعين على اصطلائي

٢٧٩

وكنتُ خلقتُ من ماء وطين

فها أنا صرتُ من نارٍ وماء

مللت العائدين وقد أمالوا

إليّ رقابَ إخوان الصفاء

وقالوا: إن صحته ترقّت

فقلت: أرى انحطاطي بارتقائي

وقالوا: قد شفيت فقلت كفوا

فمن عللي تعاليل الشفاء

أرى شبحاً يسير أمامَ عيني

لغايته فأحسبه ورائي

وآخر عن مظالمه تنحّى

وأكره في مغادرة الشقاء

تبكّيه المواعظ لا اختياراً

فأين الضحك في زمن العناء

مشى في غير عادته الهوينى

ولكن لا يسابق بالرياء

وقد ألف السكينة لا صلاحاً

كلصٍ تاب أيام الوباء

فيا كبراء هذا العصر كونوا

يداً تطوي لباس الكبرياء

وسيروا في تواضعكم بشعب

تواضعكم له درج ارتقاء

وأنقى ربوة في الأرض قلب

أعدّ لغرس فسلان الأخاء

ولا مثل القناعة كنز عزٍ

يدوم وكل كنز للفناء

ويا عصر الحديد أوثق وصفّد

وكهرب يا زمان الكهرباء

ويا مطر القذائف كم شواظٍ

لو دقك في نفوس الأبرياء

وأذيال المعاسير الحيارى

بها كم لاذ أرباب الثراء

وعقبى الظلم ان حانت نزولاً

جرى منها العقاب على السواء

فلا الكاسي تحصّنه دروعٌ

ولا العاري يلاحظ للعراء

حياة المرء أطيبها حياء

فلا تطب الحياة بلا حياء

وأنفس ما يخلّف معجزات

يرتل آيها دانٍ ونائي

ومَن غالى وأغرق في مديح

وفرط حين أفرط في الثناء

كمدخرٍ جواهره الغوالي

لشدته فبيعت في الرخاء

وربّ ممدّح إفكاً وزوراً

أتاه المدح من باب الهجاء

وما بنت القوافي بيت مجد

لمن قد بات منقضّ البناء

وما أثر الفتى بالشعر يبقى

ولكن بالعفاف وبالاباء

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363