أدب الطف الجزء ٩

أدب الطف15%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 363

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 363 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128392 / تحميل: 7874
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ٩

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

١

٢

٣

٤

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة على أفضل من علِم وعلّم سيد الخلق والصادق بالحق وعلى آل الميامين.

بهذا الجزء وهو التاسع من موسوعة ( ادب الطف ) أحسست بأن عملي قد تحقق نجاحه وأن البذرة قد أثمرت وآتت أكلها، فكثيراً ما سألني الادباء والعلماء عن عدد أجزاء هذه الفكرة وعندما يكون الجواب انها عشرة كاملة يستبطئ البعض تحقيق هذا الأمل وصعوبة انجاز العمل ولهم الحق بذلك إذ كثيراً ما نوى الباحثون والمؤلفون القيام بمهام كثيرة كبيرة وعندما واجهوا الحقيقة واصطدموا بالواقع تراجعوا أو وقفوا.

ولكن اليوم وقد أتمت هذه الموسوعة أجزاءها التسعة ورمت عن كاهلها ما كنت تنوء به من أثقال السنين الماضية وأدت رسالتها بأمانة واخلاص ولم يبق لها إلا جزء واحد يختص بالمعاصرين الذين ما زالوا على قيد الحياة فقد أحرزت نجاحها وحققت مستقبلها وبدأ الباحثون يحرصون على اقتنائها والاعتزاز بها والحمد لله أولاً وآخرا.

المؤلف

٥

تقريض سماحة العلامة السيد حسين نجل المغفور له السيد محمد هادي الصدر

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الاخ الكريم الخطيب الكبير البحاثة السيد جواد شُبّر المحترم

تحياتي وأشواقي ودعائي. وبعد فإن أبسط ما تفرضه عليّ أعراف الاخاء الصادق هو أن أبعث اليك بهذه السطور لاهنئك وأُهنئ بك. اهنيك بهذا الجهد الأدبي الضخم الذي بذلته في موسوعتك النفيسة ( أدب الطف ) فجاءت بتوفيق الله وتسديده فريدة الفصول رائعة البنود متكاملة الحلقات، نقية اللون، حلوة البيان، غزيرة المادة، عذبة الاسلوب. وهذا ما تستحق عليه التهنئة.

وإني لأثمّن وأُقدّر ما عانيت في هذا السبيل من متاعب وصعاب لم تثنك عن مواصلة السير حتى قاربت نهاية الشوط بصبر عجيب، وجلد نادر، وعزيمة ماضية، والمهم عندي ان عناءك المتواصل وأتعابك المضنية قد انصبت على موضوع هو في غاية الخطورة والأهمية، وهل هناك شيء أثمن من أن يجنّد المرء طاقاته وإمكاناته ويصل الليل بالنهار ليطلع على الامة بموسوعة جليلة كموسوعتك لا تستهدف إلا خدمة الحسينعليه‌السلام وقضيته ولا تعنى إلا بنفض الغبار المتراكم على تراث ولائي ثمين حجب عن رواد المعرفة والأدب هو في سُداه ولحمته انتصار للحق والفضيلة وتعظيم لأئمة الهدى والرشاد، ودعوة صريحة لانتهاج خط حياتي مشرق يستمد ينابيعه وأصوله من سيرة أبي الأحرار الحسين الشهيدعليه‌السلام ، ولست مبالغاً إذا قلت أن التهنئة لا تصلح إلا على مثل هذا العمل الهادف الجبار.

ثم أن كتابك الفريد هذا صدر من أهله ووقع في محله على حدّ تعبير الفقهاء

٦

وهذا ما يدعونا إلى أن نهنئ بك، فالمكتبة العربية كانت تفتقر إلى كتاب يتسم بلون من الاستيعاب والشمول لتراث شعراء العصور عبر امتداداتها الطويلة وعَبر الركام الهائل من انتاج أبنائها ينتقي اللآلئ من الفرائد والقصائد جاعلاً قضية الطف غرضه الرئيس ومطمحه الوحيد، وحين وفقتَ لذلك فقد ملأت فراغاً كبيراً وأسديت للمعنيين بقضايا الطف يداً لا تنسى تضاف إلى بيض أياديك وخدماتك الدينية المشكورة. وهناك شيء آخر لا بد أن أقف عنده قليلاً، ذلك أنك اخترت ( ادب الطف ) موضوعاً لموسوعتك ومن أولى منك بالنهوض بهذا العبء، فما تملكه من القدرات والامكانات لا يملكه الكثيرون من غيرك لممارستك المنبرية الطويلة وخبرتك العريضة.

وشيء جميل والعصر عصر الاختصاص أن يعكف المختصون من رجالنا كل في حقله وميدانه على موضوعات حيوية نافعة ليخرجوا لنا مثل هذه الروائع، لأن ذلك مما يتناغم مع اختصاصاتهم أولاً ومع روح العصر ثانياً ولا أملك في الختام إلا أن أشكرك جزيل الشكر على هديتك الثمينة ضارعاً اليه سبحانه أن يمدّك بكل ألوان التأييد لا كمال هذه الموسوعة القيمة.

واليك ازجي هذه القصيدة تقديراً لجهودك وجهادك:

( عطاء الجواد )

ضمخت منك بالهدى الابرادُ

وزكت همة وطاب جهاد

ان تكن عدتَ باحثاً ألمعياً

فبعلياك تنطق الاعواد

وتساميت مصدراً ( ادب الطف )

فراق الاصدار والايراد

روضة تزدهي بعطر المروءات

فتندى الاغصان والاوراد

وينابيعك الاصيلة رفّت

فاستقى من معينها الوراد

قد ملكت القلوب بالادب السمح

فباهت بجهدك النقّادُ

إن موسوعة الطفوف عطاءٌ

ليس يقوى عليه إلا ( الجواد )

٧

موّن الدين بالخلود ( حسين )

وبلألائه استنار العباد

فدماء الحسين أرسته صرحاً

وهي من شامخ البناء عماد

وفصول الفداء خطّت مساراً

بفتوحاته انتشت أمجاد

صورٌ تجتلى فتمتلئ النفسُ

رواءً ويستطاب الزاد

وبطولات كربلاء نشيد

كل يوم لحونه تستعاد

لوّن الطف صفحة الدهر ألواناً

وللظالمين منها السواد

* * *

في حنايا التاريخ ألف أُوارٍ

ليس يخبو لجمره إيقاد

محن الطف تستبيح البرايا

فتذوب القلوب والاكباد

وجراح الطفوف تدمي ومنها

عبرة إثر عبرة تستفاد

* * *

للحسين الشهيد في كل عصر

شعراء عن نهجه الحق ذادوا

يُستثارون والملاحم غرّ

ويصوغون والنثار رشاد

ولآلي البيان تلمع كالنجم

وضيئاً ويخلد الانشاد

لم يريقوا دماً زكياً ولكن

قد يصون الدم الزكيّ مداد

ولقد ضمّهم كتاب « جوادٍ »

فغدا حافلاً بما يُستجاد

بغداد - الكرادة الشرقية

٢٩ شوال ١٣٩٧ ه‍.

حسين السيد

محمد هادي الصدر

٨

غزوة القزويني

المتوفاة ١٣٣١

قالت في رثاء الامام سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (ع) من قصيدة:

أيها المدلج في زيافة

قصدت في سائقيها النجفا

إن توصلت إلى حامي الحمى

في الغريين فأبدي الأسفا

قل له إن حسينا قد قضى

في شفار الكفر محزوز القفا

* * *

هناك جملة من النساء النابهات والأديبات الشهيرات اللاتي ترجمت لهن الكاتبة عائشة تيمور في ( طبقات ربات الخدور ) أما اللاتي هنّ في عصرنا أو قريبات من عصرنا ولهن المكانة المرموقة بالأدب والشعر والكتابة من بينهن صاحبة الترجمة العلوية ( غزوة ) المتوفاة سنة ١٣٣١ ه‍. والحاجة هداية بنت العلامة الكبير الشيخ محمد حسن كبّة المتوفى سنة ١٣٣٦ وقد ترجمنا له سابقاً له وذكرنا شهرة هذا البيت الرفيع الذي خدم الأدب والعلم أكثر من قرن، والحاجة هداية هي والدة الشاعرة ( سليمة الملائكة - ام نزار ) المتوفاة سنة ١٣٧٣ ه‍. والمصادف ١٩٥٣ م. وجدة الشاعرة نازك الملائكة، والحاجة هداية تعيش اليوم في بغداد وتنظم الشعر العالي وقد وقفت على باقة فواحة من شعرها مدّ الله في حياة سليلة الأمجاد وسلالة الكرماء الأجواد.

والأديبة المصونة ( آمنة الصدر ) المعروفة ب‍ ( بنت الهدى ) فهي ما زالت

٩

تتحف المكتبة العربية بمؤلفاتها القيّمة وقد طبعت لها ما أنتجه قلمها وبيانها مما يستحق الدراسة.

أما الشاعرة غزوة فهي بنت السيد راضي ابن السيد جواد ابن السيد حسن ابن السيد أحمد القزويني، وجدها السيد جواد هذا هو أخو العلامة الكبير والمجتهد الشهير السيد مهدي الحلي القزويني صاحب التصانيف الكثيرة المتوفى سنة ١٣٠٠ ه‍. وامها العلوية نازي بنت السيد مهدي المذكور.

ولدت في الحلة في حدود سنة ١٢٨٥ ه‍. ونشأت في كنف أخوالها الأعلام وأنكبت على الدراسة فدرست العلوم العربية الفقهية وتتبعت مصادر الأدب والشعر بحكم بيئتها وتربيتها، فكانت تحفظ من أخبار العرب وقصصهم الشيء الكثير وتربّت بتربيتها جملة من نساء الاسرة وما يتعلق بها، وقد اقترنت بابن خالها السيد أحمد بن الميرزا صالح القزويني وهو عالم فاضل وأديب شاعر فوجهها بصورة أعمق وجعلها قابلة لهضم محاوراته العلمية في شتى المجالات.

وغزوة شاعرة مقبولة سريعة البديهة مشهود لها بطرافة الأدب وكان لها بذلك كل الفخر إذ أنها عاشت في عصر أشبه بالعصر الجاهلي وحكمه على المرأة ومما أعتقد أنها لم تشاهد في بلدها ومحيطها مَن تحسن الكتابة والقراءة ولا واحدة، وعزّت الكتابة والقراءة على الرجال آنذاك فما حال النساء.

توفيت رحمها الله في شعبان ١٣٣١ ه‍. ودفنت في مقبرة الاسرة وأبّنها الشعراء بما يليق بها.

١٠

السيد عيسى الأعرجي

المتوفى ١٣٣٣

السيد عيسى ابن السيد جعفر ابن السيد محمد ابن السيد حسن ابن السيد محسن صاحب المحصول الحسيني الاعرجي الكاظمي، ترجم له في اعيان الشيعة فقال:

توفي في أواخر شوال سنة ١٣٣٣ ه‍. في الكاظمية ودفن بها في بعض حجر الصحن الشريف. كان فاضلاً أديباً شاعراً فمن شعره قوله من قصيدة حسينية طويلة:

إلى كم أُمني بالطلا والغلاصم

عطاشى القنا والمرهفات الصوارم

وحتى متى أطوي على الضيم أضلعاً

وأغضي وفي كفّي رمحي وصارمي

ألست إلى البيت المشيد رواقه

نمتني اباة الضيم من آل هاشم

فإن لم أثب في شزّب الخيل وثبة

مدى الدهر يبقى ذكرها في المواسم

فلست الذي في دوحة المجد والعلى

تفرّع قدماً من علي وفاطم

وإن لم أثرها في العجاج ضوامراً

عليها مثار النقع مثل الغمائم

فلست قديماً بالذي راح ينتمي

لعبد مناف في العلى والمكارم

هم القوم إما ان دعوا لفضيلة

فما لهم في فضلهم من مزاحم

ومهما ترى في الدهر منهم مسالماً

فما لابن حرب فيهم من مسالم

بني هاشم أبناء حرب ببغيها

قد ارتكبت منكم عظيم الجرائم

١١

نسيتم غداة الطف أبناء أحمد

على الأرض صرعى من علي وقاسم

فقوموا غضاباً واشرعوها أسنّة

تلوّى على الاكتاف مثل الاراقم(١)

قال الشيخ السماوي في ( الطليعة ): وهي طويلة وله غيرها، توفي في أواخر شوال سنة الف وثلثمائة وثلاث وثلاثين في الكاظميين ودفن بها عند جده المحسن.

وفي مخطوطنا ( سوانح الافكار في منتخب الأشعار ) جزء ثالث صفحة ٥١ قصيدة في الزهراء فاطمةعليها‌السلام وهي للسيد عيسى الكاظمي، وأولها:

خطب يذيب من الصخور صلابها

ويزيل من شمّ الجبال هضابها

ويقول الشيخ في كتابه ( الطليعة ): انه كان فاضلاً خفيف الروح أديباً، رأيته واجتمعت به فرأيت منه الرجل الحصيف الرأي العالي الهمة المنبسط الوجه واليد وكان شاعراً في الطبقة الوسطى، فمن شعره قوله:

تراءت بليل مشرقات كواكبه

بصبح محياها تجلّت غياهبه

مهفهفة الاعطاف عقرب صدغها

على ملعب القرطين تبدو عجائبه

فبتّ أبث العتب بيني وبينها

وإن هي لا تصغي لما أنا عاتبه

أمخجلة الارام في لفتاتها

سألتك هل أت من العيش ذاهبه

فكم لجّ قلبي يوم بنت بزورة

إذا أفلس المديون لجّ مطالبه

وللشيخ عبد الحسين اسد الله المتوفى ١٣٣٦ ه‍. والآتية ترجمته مؤرخاً وفاة السيد عيسى إبن السيد جعفر الاعرجي الكاظمي قال:

لله طارقة في الدين ما طرقت

سمع امرئ في الورى إلا وقد فزعا

مذ أقبلت رجّت الغبراء زلزلةٌ

منها وكادت بها الخضراء أن تقعا

قالوا قضى نحبه عيسى قفلت لهم

كلا لقد أخطأوا مرأى ومستمعا

ارخته ( بأبي حياً بهيكله

عيسى بن مريم روح الله قد رفعا )

__________________

١ - عن الطليعة من شعراء الشيعة.

١٢

حسين عوني الشمري

المتوفى ١٣٣٤

قال من قصيدة في رثاء الامام الحسينعليه‌السلام :

رزء تصاغرت الرزايا دونه

المجد يندب والمكارم تعول

والمقربات على تنوّع جنسها

تبكي خواشع عينهنّ وتهمل

تالله في صدري من الأحزان ما

عنه الجبال الراسيات تزلزل

* * *

هو الشيخ حسين بن ملا عبد الله بن محمد بن أحمد الشمّري نسبة إلى العشيرة المعروفة ب‍ ( شمّر ) الحنفي المذهب البغدادي المولد.

أديب فاضل له نظم في أغراض متعددة طريفة، وله مؤلفات جليلة في مباحث متفرقة. منها متن في النحو كتبه لولده علاء الدين ووسمه ب‍ ( العلائية ) كما له رسائل في الفقه مختصرة رأيت بعض أوراقها الخطية.

ولد ببغداد سنة ١٢٧٠ ه‍. ونشأ على يد والده المرحوم وكانت له دروس فيما أتقن من المباحث والعلوم يمليها على طلابه، وقد توفي بمسقط رأسه بغداد سنة ١٣٣٤ ودفن في مسجد الشيخ الشبلي في الاعظمية، ومن شعره ما قاله في غرض لطيف:

ذهبنا نبتغي والقوم مالاً

لنقضي للمعالي بعض دين

ففاز القوم في مال كثير

واني عدتُ في خفيّ حنين

وما ذنبي سوى اني ( حسين )

( يزيد ) الدهر ظلماً في ( حسين )

فلا تعجب لأيام رمتني

فأهل الفضل اقذى كل عين(١)

__________________

١ - عن كتاب الرجال، حـ ١ ( المخطوط ) للباحث السيد جودت القزويني.

١٣

الشيخ عبد الحسين أسد الله

المتوفى ١٣٣٦

ما للعيون قد استهلّت بالدم

أفهلّ - لا أهلاً - هلال محرم

حيّا بطلعته الورى نعياً وقد

ردوا عليه تحية بالمأتم

ينعى هلالاً بالطفوف طلوعه

قد حفّ في فلك الوغى بالانجم

يوم به سبط الرسول استرسلت

نحو العراق به ذوات المنسم

أدّى مناسكه وأفرد عمرة

ولعقد نسك الحج لما يحرم

ومن الحطيم وزمزم زمّت به

الأيام وهو ابن الحطيم وزمزم

في فتية بيض الوجوه شعارهم

سمر القنا ودثارهم بالمخذم

يتحجبون ظلال سمرهم إذا

ما الشمس ابيض وجهها للمحرم

يتلمضون تلمض الأفعى متى

نفثت اسنتهم بشهب الانجم

بلغوا بها أوج العلا فكأنها

لصعودهم كانت مراقي سُلّم

متماوجي حلق الدروع كأنها

ماء تزرد بالصبا المتنسم

من كل مفتول الذراع تراه في

وثباته وثباته كالضيغم

جعلوا قسيّ النبل من أطواقهم

وبروا من الاهداب ريش الأسهم

وتسنّموها شمائلاً ما إن بدا

برق تعنّ له ولمّا يعلم

ان أوخدت زفّت زفيف نعامة

واذا خدت سفّت سفيف القشعم

حفوا وهم شهب السماء بسيد

بدر بأنوار الإمامة معلم

حتى اذا ركزوا اللوى في نينوى

وإلى النوى حنّوا حنين متيم

١٤

وحمى الوطيس فأضرموا نار الوغى

وهووا عليها كالطيور الحوّم

وتقلّدوا بيض الضبا هندية

وبغير قرع الهام لم تتثلّم

والى الفنا هزوا قناً خطية

بسوى صدور الشوس لم تتحطّم

فكأن في طرق السنان لسمرهم

سراً بغير قلوبهم لم يكتم

وثنوا خميس الجيش وهو عرمرم

بخميس بأس في النزال عرمرم

حتى ثوت تحت العجاج كأنها الأ

قمار تحجب بالسحاب المظلم

نشوانة بمدام قانية الدما

لغليل أفئدة صواد أوّم

والعالمان تقاسما فرؤوسهم

تنحو السما والارض دامي الاجسم

فثنى ابن حيدرة عنان جواده

طلقا محياه ضحوك المبسم

وسما بعزمته على هام العلا

بسنابك المهر الاغرّ الادهم

ان سلّ متن المشرفي تتابعت

لعداه صاعقة البلاء المبرم

ذا الشبل من ذاك الهزير وإنما

تلد الضياغم كل ليث ضيغم

فسقاهم صاب الردى وسقوه من

راح الدماء عن الفرات المفعم

حتى إذا ما المطمئنة نفسه

بالوحي ناداها الجليل أن اقدمي

أضحى يجود بنفسه، وفؤاده

بمشعّب السهم المحدد قد رُمي

فتناهبوه فللظبا أشلاؤه

وحشا الفؤاد لسمرها والاسهم

ملقى ثلاثاً في الهجير تزوره

الاملاك بين مقبّل ومسلّم

وأجال جري الصافنات رحىً بها

من صدره طحنت دقيق الاعظم

بأبي عقائله الهواتف نوّحاً

ما بين ثاكلة واخرى أيّم

سلبت رداها واللثام أُميط عن

وجه بأنوار الجلال ملثّم

ومن الحديد عن الحليّ استبدلت

طوقاً لجيد أو سوار المعصم

وتصيح يا للمسلمين ألا فتى

يحمي الذمار ولا ترى من مسلم

مسبية مسلوبة مهتوكة

حملت على عجف النياق الرسّم

فتخال أوجهها الشموس وإنما

صبغت بحمر مدامع كالعندم

ومن الطفوف لارض كوفان إلى

نادي دمشق بها المطايا ترتمي

١٥

بأبي رضيع دم الوريد فطامه

في سهم حرملة ولما يفطم

فكأن نبلته محالب امه

وكأن ما درّت لبان من دم

إذ أنس لا أنسى العفرني ثاوياً

حلو الشمائل حول نهر العلقمي

ثاو وعين الشمس لم ترَ شخصه

مذ غاب في صعد القنا المتحطم(١)

آل اسد الله اسرة علمية برز فيها خلال القرنين الأخيرين عدد من رجال العلم والأدب وفي طليعتهم جدهم الاعلى فقيه عصره المعروف الشيخ اسد الله الكاظمي التستري المتوفى سنة ١٢٣٤ ه‍. الذي عرفوا به وانتسبوا اليه. وكان من جملة من اشتهر منهم مترجمنا الفقيه الاديب الشيخ عبد الحسين ابن الشيخ محمد تقي ابن الشيخ حسن ابن الشيخ اسد الله الكاظمي. ولد في النجف الأشرف سنة ١٢٨٣ ه‍. أيام كان أبوه يسكنها للدراسة وطلب العلم وقضى سني الطفولة هناك، ثم حل في الكاظمية - تبعاً لأبيه - وهو في الحادية عشرة من العمر، وبدأ فيها دراسته وتعلّمه على ضوء المنهج الدراسي السائد حينذاك وكان والده العلامة الشيخ محمد تقي هو الاستاذ الأكبر له خلال هذه المرحلة، وبدافع من ذكائه وألمعيته وجد في نفسه القدرة على البحث والتأليف فكتب رسالة في الاستثناء سماها ( المقابيس الغراء ) كما كتب كرّاساً في تفسير حديث ( اتباع النظرة النظرة ) وفي سنة ١٣١٠ ه‍. عاد إلى النجف لغرض الدراسة العليا والتخصص في علوم الدين على يد اعلام الشريعة فدرس على الفقيه الشيخ رضا الهمداني وغيره وكتب خلال مكثه في النجف حاشية على مباحث القطع من كتاب القطع من كتاب الرسائل في اصول الفقه للشيخ مرتضى الانصاري. وعاد إلى الكاظمية بعد إكمال دراسته العالية في سنة ١٣٢٤ ه‍. فاذا به الفقيه البارز والمدرّس المرموق والفاضل المشهود له بالفضيلة، واتجهت به همته بعد عودته فقام بشرح كتاب استاذه الآخوند الخراساني في اصول الفقه شرحاً يقوم بمهمة ايضاح غوامض الكتاب وتبيان دقائقه وتفصيل ما أجمل فيه وفي غرة ربيع الثاني سنة ١٣٣٠ ه‍ أتمّ كتابة الجزء الأول من الشرح المذكور وسماه ( الهداية في شرح

__________________

١ - مجلة البلاغ الكاظمية، السنة الخامسة.

١٦

الكفاية ) ثم عرض مسوّدة الكتاب على فقيه العصر الشيخ محمد تقي الشيرازي إمام الثورة العراقية فاعجب به وكتب له تقريضاَ، وقد تمّ طبع الجزء الأول من الكتاب بمطبعة الآداب ببغداد سنة ١٣٣١ ه‍. وكتب المؤلف على صفحته الاولى هذه الأبيات:

ما انفك يا بن العسكري تمسكي

أبداً بحبلٍ من ولاك متين

أقسمت أن أهدي اليك هدية

ولقد عزمت بأن أبرّ يميني

هذا الكتاب هدية مني لكي

أُعطى كتابي سيدي بيميني

نظم الشعر في مقتبل عمره وعالج أكثر ألوان الشعر من غزل ونسيب ووصف إلى تهان ومدائح ومراث، ومن اجتماعيات واخوانيات إلى اخريات في المناسبات الدينية، ومن قصائد عمودية وموشحة إلى مقطعات مخمّسة ومشطرة، وفي مجموع شعره نماذج رائعة تدل على شاعريته وسلامة ذوقه. ترجم له البحاثة الشيخ محمد حسن آل ياسين في مجلة البلاغ الكاظمية وجمع ما تسنّى له العثور عليه من شعره من غزل ومديح ورثاء وتخاميس وتشاطير وما جاء في أهل البيت وفي الحسين خاصة كما ترجم له الشيخ السماوي في ( الطليعة من شعراء الشيعة ) وذكر قصيدة من غزله واليكم بعض ما جاء في الترجمة، قال الشيخ السماوي:

فاضل أخذ الفضل عن أب فأب وتنقل اليه بالنسب وزانه بالحسب وضمّ اليه الأدب فهو فقيه اصولي صميم غير فضولي له كتب مصنفة في العلمين ومدائح في آل البيت النبوي كثيرة وأكثر منها مراثي الحسين، عاشرته فرأيت منه امرءاً سليم الجانب صافي النية كثير الحافظة متنسكاً تقياً فمن شعره قوله مصدراً ومعجزاً قصيدة في مديح النبي (ص) مهملة.

وله كثير من التصدير والتعجيز في الأئمةعليهم‌السلام وقصائد غرر في مراثي الحسين (ع) ولد سنة الف ومايتين وسبع وثمانين وتوفي في أواسط ربيع الآخر من سنة الف وثلثمائة وستة وثلاثين في الكاظميين ودفن بها مع أبيهرحمه‌الله .

الطليعة ج ٢٣٧ / ١

١٧

السيد مصطفى الكاشاني

المتوفى ١٣٣٦

السيد مصطفى بن الحسين الحسيني الكاشاني الطهراني النجفي. ترجم له الشيخ السماوي في الطليعة فقال: فاضل العصر علماً وبحره فضلاً وطوده حلماً واديب باللسانين نثراً ونظماً، رأيته شيخاً قد حلّ الدهر سبكه وترك له تقاه ونسكه ولكن لم يستطع مقاومة همته العالية فهو اليوم واقف نفسه لقضاء حوائج الاخوان عند السلطان دافع نفسه في مضائق لا يصلها كل انسان، له ديوانا شعر: ديوان بالفارسية وديوان بالعربية كله مديح لأهل بيت النبوةعليهم‌السلام فمنه قوله:

شمت برق الحمى وآنست نارا

فاحبسا العيس كي نحيي الديارا

يا نسيم الحمى أفضت دموعي

وفؤادي رميت فيه شرارا

فذكرت الحمى ومعهد انس

وشذى من نسيمه اسحارا

وزماناً بالرقمتين تقضى

فجرت أدمعي له مدرارا

كم قلوب بليل جعدك ضلّت

وهي فيه مكبلات أسارى

خلّ عنك النسيب يا صاح كم ذا

تذكر الحي والحمى والديارا

وحسن الفخر والعلى بعلي

واقضين في مديحه الاوطارا

انت شرفت زمزماً والمصلى

بل وركن الحطيم والمستجارا

حازت الكعبة التي خارها الله

بميلادك السعيد فخارا

١٨

لو على الارض منك قطرة علم

نزلت عادت القفار بحارا

انت مولى الورى بما نصّ خير

الرسل يوم الغدير فيك جهارا

ايها المرتضى فداؤك كل الكون

لا زلت للورى مستجارا

رمد قد أذلني عند عام

وتداويت فيه منه مرارا

لم يزدني الدواء إلا سقاما

لم يفدني العلاج إلا خسارا

فأعد نورها فانك مولى

قد ملكت الاسماع والابصارا

قال: وهي طويلة اخبرني ولده الفاضل السيد ابو القاسم ان اباه السيد مصطفى رمدت عيناه وعجز الأطباء عنها وأيسوا منها حتى استجار بأمير المؤمنين وولده الحسين فأخذ من تراب قبريهما واكتحل به فبرئتا كما ذكر في شعره وكما رأيته أنا صحيحاً سوياً ومن شعره:

أشمس افق تبدت أم محياك

والمسك قد ضاع لي أم نشر رياك

سريت والليل داج جنح ظلمته

ثم اهتديت ببرق من ثناياك

رميت قلبي بسهم اللحظ فاتكة

اما علمت بأن القلب مثواك

فتكت بالصب من هذا الصدود فمن

بالصد أوصاك او بالفتك افتاك

كذي فقار عليٍّ يوم سلّ على

اصحاب بغي وإلحاد واشراك

مولى الأنام الذي طافت بحضرته

كرام رسل اولي عزم واملاك

معارج المصطفى الافلاك يصعدها

ومنكب المصطفى معراجه الزاكي

وكل قصائده طوال وله غير ذلك من مراث حسينية. ولد سلمه الله في حدود سنة الف ومائتين وستين كما اخبرني به ولده المذكور وقد جاء نعيه إلى النجف وانه توفي بالكاظمين لليلتين بقيتا من شهر رمضان من سنة ١٣٣٢.

أقول: ترجم الكثير من الباحثين وذكروا أن وفاة المترجم له كانت في سنة ١٣٣٦ ه‍. ليلة الثلاثاء ١٩ رمضان وذلك في بلد الكاظمية ولعل الشيخ السماوي اشتبه عليه أو زلّت جرّة القلم، فالسيد ممن خرج في سنة ١٣٣٣ ه‍.

١٩

إلى الجهاد متجهاً البصرة والشعيبة وقد أبلى بلاءاً حسنا هناك كاخوانه أمثال السيد الداماد وشيخ الشريعة والسيد مهدي الحيدري واخوانهم المؤمنين وكان المترجم ممن يؤخذ برأيه وتدبيره وعند رجوعه أقام بالكاظمية وكان الوجه الناصع في البلد تأتم به الناس في صلاته، ترجم له الشيخ حرز الدين في ( معارف الرجال ) فقال: السيد مصطفى ابن السيد حسين بن محمد علي بن محمد رضا الحسيني الكاشاني الطهراني المولود حدود سنة ١٢٦٦ ه‍. في كاشان ونشأ في بيت والده العالم الجليل كما قرأ بعض المقدمات عليه وانتقل إلى أصفهان لطلب العلم ثم إلى طهران ثم بعد اداء فريضة الحج حط رحله في النجف الأشرف وفي اخريات أيامه أصبح مشهوراً بالتحقيق في الاصول وفي نظري أنه اصولي أعمق منه فقيهاً واستقل بالتدريس بالنجف. وكان شاعراً أديباً نظم الشعر العربي الجيد والفارسي في المديح والرثاء للأئمة المعصومين. وكانت داره بالنجف حافلة بالعلماء والوجهاء دمث الأخلاق لين الجانب بعمق وتفكير ودهاء وعلى جانب عظيم من السخاء والمروءة والذوق العربي والسليقة الممدوحة.

أقول: وذكر الشيخ جملة من مؤلفاته.

* * *

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الموصلة في المسجد الحرام، فلمّا قعدوا وأخذوا مراتبهم ثمّ تكلّم عبد المطّلب وقال: اعلموا إنّي قد دبّرت تدبيراً فقال المشايخ: وما دبرت يا رئيس قريش وكبير بني هاشم؟ فقال: يا قوم إنّكم تحتاجون أنْ تخرجوا معي نحو سيف بن ذي يزن لتهنئته في ولايته وهلاك عدوّه؛ ليكون أرفق بنا وأميَل إلينا، فقالوا له بأجمعهم: نِعمَ ما رأيت ونِعمَ ما دبّرت، ثمّ أمر عبد المطّلب أنْ يستحكموا آلات السفَر ففرغوا من ذلك، قال فخرَج عبد المطّلب ومعه سبعة وعشرون رجلاً على نوقٍ جياد نحو اليمن، فلمّا وصلوا إلى سيف بن ذي يزن بعد أيّام سألوا عن الوصول إليه، قالوا لهم: إنّ الملك في قصر الوادي، وكان من عاداته في أوان الورد أنْ يدخل قصر غمدان ولا يخرج إلاّ بعد نيف وأربعين يوماً، ولا يصل إليه ذو حاجة ولا زائر وأنتم قصدتم الملك في أيّام الورد، فذهب عبد المطّلب إلى باب بستانه وكان لقصر غمدان في وسط البستان أبواب، وكان لهذا البستان باب يفتح إلى البرّية وقد وكّل بذلك الباب بوّاب واحد فقال عبد المطّلب لأصحابه: لعلّنا يتهيّأ لنا الدخول بحيلة ولا يتهيّأ لنا إلاّ بها فقال القوم: صدقت.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ عبد المطّلب نزَل واتجه نحو الباب فنظر إلى البوّاب وسلّم عليه وضحَك في وجهه، ولم يُظهر للبوّاب شيئاً ولم يقعد إلاّ إلى جانبه، ثمّ قال له: يا بوّاب دعني أنْ أدخل البستان، فقال له البوّاب: واعجباً منك ما أقلّ فهمَك وأضعَف رأيك أمصروعٌ أنت؟ فقال له عبد المطّلب: ما رأيت من جنوني؟ فقال له البوّاب: أما علمت أنّ سيف بن ذي يزن في القصر مع جواريه وخدَمِه قاعد، فإنْ أبصرك في بستانه أمر بقتلك وإنّ سفك دمَك عنده أهوَن من شربة ماء، فقال له عبد المطّلب: دعني أدخل ويكون من الملِك إلى ما يكون فقال له البوّاب: يا مغلوب العقل، إنّ الملِك في القصر وعيناه للباب والبوّاب وإنّه قدر ما يرفق أنْ يأمر بقتلك.

فقال عقيل ابن أبي وقّاص: يا أبا الحارث، أما علِمت أنّ المسارج لا تُضيء إلاّ بالدهن، فقال عبد المطّلب: صدقت (قال الواقدي): ثمّ إنّ عبد المطّلب دعا بكيس من أديمٍ فيه ألف دينار وقال بعد أنّ صبّ الكيس

٤١

بين يدَي البوّاب: يا هذا، إنْ تركتني أدخل البستان جعلتُ هذا بِرّي إليك فاقبل صلتي وخلّ سبيلي، فلمّا نظر البوّاب إلى الدراهم خرّ مبهوتاً وقال له البوّاب: يا شيخ، إنْ دخلت ونظَر إليك الملِك وسألك عن كيفية دخولك ما أنت قائل له؟ قال عبد المطّلب: أقول له كان البوّاب نائماً.

وشرَط عليه عبد المطّلب أنْ لا يكذّبه إنْ دعاه الملك للمسائلة فيقول: غفوت وليس لي بدخوله علم، قال: نعم، فقال عبد المطّلب إنْ كذبتني في هذا أصدقت الملك عن الصلة التي وصلتك بها، فقال له البوّاب: ادخل يا شيخ، فدخل عبد المطّلب البستان وكان قصر غمدان في وسَط الميدان والبستان كأنّه جنّة من الجنان، قد حُفّ بالورد والياسمين وأنواع الرياحين والفواكه وفيه أنهارٌ جارية في وسطِه، وإذا سيف بن ذي يزن قد اتكأ على عمود المنظرة من قصره وفي قصره يقول الشاعر:

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً  في رأس غمدان دارا منك محلالا

اشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم    وأسبل اليوم في بُرديك أسبالا

قال: فلمّا نظر سيف بن ذي يزن عبد المطّلب غضِب وقال لغلمانه: مَن ذا الذي دخَل علَيّ بغير إذني ليؤتَ به سريعاً، فسعى إليه الغلمان والخدَم فاختطفوه من البستان، فلمّا دخل عبد المطّلب عليه رأى قصراً مبنياً على حجَر مطلي بطلاء الورد منقّشاً بنقش اللازورد وورداً على أمثال الورد، ورأى عن يمين الملِك وعن شماله وبين يدَيه من الجواري مالا عدد لهنّ، ورأى قريب الملك عموداً من عقيقٍ أحمر وله رأس من ياقوتٍ أزرَق مجوّف محشّى بالمِسك، ورأى عن يساره ثوراً من ذهبٍ أحمر على فخذه سيف نقمته مكتوب عليه بماء الذهب شعر يقول:

رُبّ ليث مدجّج كان يحمي    ألف قرنٍ مغمد الأغماد

وخميس مُلفف بخميسٍ    بدّد الدهر جمعَهم في البلاد

(قال الواقدي): فوقف عبد المطّلب بين يدَي سيف ولم يتكلّم الملِك ولا عبد المطّلب، حتى كرع الملك في النور الذي بين يديه فلمّا فرغ من

٤٢

شربه نظر إليه وكان سيف قد شاهد عبد المطّلب قبل هذا ولكنّه أنكره، حتى استنطقه فقال له الملك: من الرجل؟ فقال أنا عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن مُضَر بن نِزار بن معد بن عدنان، حتى بلغ آدم (عليه السلام)، فقال له الملك: أنت ابن أُختي، فقال: نعم أنا ابن أُختك؛ وذلك أنّ سيف بن ذي يزن كان من آل قحطان وآل قحطان من الأخ وآل إسماعيل من الأُخت فعلِم سيف بن ذي يزن أنّ عبد المطّلب ابن أُخته، فقال سيف بن ذي يزن: أهلاً وسهلاً وناقةً ورَحلاً، ومدّ يده إلى عبد المطّلب وكذلك عبد المطّلب نحو الملك فأمره الملك بالقعود وكنّاه بأبي الحارث وقال: فأنتم معاشر أهل الشام رجال الليل والنهار، وغيوث الجدب والغلاء، وليوث الحرب لضرب الطلى، ثمّ قال: يا أبا الحارث فيم جئت؟

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك السعيد، جده الرفيع، مجده المطاع أمره المحذور، آفته المدرِك رأفته نحن جيران بيت الله الحرام وسدَنة البيت، وقد جئت إليك وأصحابي بالباب لنهنّئك بولايتك وما فوّضه الله تعالى من النصر بك وأجراه على يَدَيك من هلاك عدوّك، فالحمد لله الذي نصَرَك وأقرّ عينيك وأفلَج حجّتك وأقرّ عيوننا بخذلان عدوّك، فأطال الله تعالى في سوابغ نِعَمةِ مدّتك وهنّأك بما منحك ووصلها بالكرامة الأبدية، فلا خيّب دعائي فيك أيّها الملك، ففرح سيف بدعائه وازداد له محبّة بما سمِع من تهنئته، ثمّ أمره أنْ يصير هو ومَن معه بالباب من أصحابه إلى دار الضيافة إلى أنْ يؤمر بإحضارهم بعد هذا اليوم إلى مجلسه، فمضى وحجّابه وخدَمه بين يديه إلى حيث أمرهم وخرج عبد المطّلب واستوى على جمَلِه واتبعه أصحابه، وبين يديه غلمان الملك حوله حتى أنزلوه وأصحابه وبالغوا بالتوصية به وبأصحابه فأمر الملك أنْ يجرى عليهم في كلّ يوم ألف درهم بيض، فبقي عبد المطّلب في دار الضيافة شهرَين حتى تصرّمت أيام الورد، فلمّا كان في اليوم الذي أراد فيه مجلسه للتسليم عليه والنظر في أمره ذكر عبد المطّلب في شطرٍ من ليلته، فأمر بإحضاره وحده فدخل عليه الرسول فأمره

٤٣

وأعلمه بمراد الملك منه، فقام معه إليه فإذا الملك في مجلسه وحده فقال لخدمه: تباعدوا عنّا، فلم يبقَ في المجلس غير الملك وعبد المطّلب وثالثهم ربّ العزّة تبارك وتعالى، فقال له الملك: يا أبا الحارث، إنّ من آرائي أنْ أُفوّض إليك علما كنت كتمته عن غيرك وأُريد أنْ أضعه عندك؛ فإنّك موضع ذلك وأُريد أنْ تطويه وتكتمه إلى أنْ يظهره الله تعالى، فقال عبد المطّلب: السمع والطاعة للملك وكذا الظن بك، فقال الملك، اعلم يا أبا الحارث، أنّ بأرضكم غلاماً حسَن الوجه والبدن، جميل القدّ والقامة، بين كتفيه شامة المبعوث من تهامة، أنبت الله تعالى على رأسه شجرةُ النبوّة، وظلّته الغمامة، صاحب الشفاعة يوم القيامة، مكتوب بخاتم النبوّة على كتفيه سطران: الأوّل لا اله إلاّ الله، والثاني محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والله تعالى توفّى أُمّه وأباه وتكون تربيته على يدَي جدّه وعمّه وأنا وجدت في كتب إسرائيل صفته، أبيَن وأشرَح من القمَر بين الكواكب، وأنّى أراك جدّه فقال عبد المطّلب: أنا جدّه أيّها الملك.

فقال الملك: مرحباً بك وسهلاً يا أبا الحارث، ثمّ قال له الملك: إنّي أشهد على نفسي يا أبا الحارث، أنّي مؤمنٌ به وبما يأتي به من عند ربّه، ثمّ تأوّه سيف ثلاث مرّات بأنْ يراه فكان ينصره وينظره فيتعجّب منه الطير في الهواء، ثمّ قال: يا أبا الحارث، عليك بكتمان ما ألقيتُ عليك ولا تظهره إلى أنْ يظهره الله تعالى فقال عبد المطّلب: السمع والطاعة للملك، ونظر عبد المطّلب في لحية سيف بن ذي يزن سواداً وبياضاً وخرَج من عنده وقد وعده في الحنّاء في غد ليرحلوا إلى أرض الحرّم إنْ شاء الله تعالى، فلمّا رجع إلى أصحابه رآهم وجِلين خائفين وقد أكثروا الفكر فيه حين دعاه الملِك في مثل ساعته التي دعاه فيها فقالوا له: ما كان يريد الملك منك قال عبد المطّلب يسألني عن رسوم مكّة وآثارهم، ولم يخبِر عبد المطّلب أحداً بما كان بينه وبين الملك، وغدا عليهم رسول الملك من غد يحضرهم مجلسه فتطيّبوا وتزيّنوا ودخلوا القصر وعبد المطّلب يقدمهم، فدخلوا عليه فنظر عبد المطّلب فإذا برأسه ولحيته سواد حالك فقال له عبد المطّلب:

٤٤

إنّي تركتك أبيض اللحية فما هذا؟ فقال له إنّي استعمل الخضاب فقال أصحاب عبد المطّلب: إنْ رأى الملك أنْ يرانا أهلاً لذلك الخضاب فليفعل،قال: فأمر الملك أنْ يؤخذ بهم إلى الحمّام وكان القوم بيض الرؤوس واللحى فخضّبوا هناك فخرجوا ولشعورهم بريق كأسوَد ما يكون من الشعر، ويقال إنّ سيفاً أوّل من خضّب رأسه ولحيته.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ الملك أمر لكلّ واحد ببدرة دراهم بيض، وحمَل كل واحد منهم على دابّة وبغل، وأمر لكل واحد منهم بجاريةٍ وغلام وبتختِ ثياب فاخرة، ووهب لعبد المطّلب ضعفَي ما وهَب لهم ثمّ دعا الملك بفرسه العقاب وبغلته الشهباء وناقته العضباء وقال: يا أبا الحارث، إنّ الذي أسلمه إليك أمانة في عنقك تحفظها إلى أنْ تسلّمها إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) إذا بلغ مبلغ الرجال، فقال له: اعلم أنّي ما طلبت على هذه الفرس شيئاً إلاّ وجدته، وما قصَدَني عدوّ وأنا راكبٌ عليها إلاّ أنجاني الله تعالى منه، وأمّا البغلة فإنّي كنت أقطع بها الدكادك والجبال لحسن سيرها ولا أنزل عنها ليلي ونهاري، فأمره أنْ يتحفّظ ويجعلها لي تذكرة وبلّغه عنّى التحية الكثيرة، فقال عبد المطّلب السمع والطاعة لأمر الملك.

ثمّ ودّعوه وخرجوا نحو الحرَم حتى دخلوا مكّة فوقعت الصيحة في البلَد بقدومهم، فخرَج الناس يستقبلونهم وخرَج أولاد عبد المطّلب، وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على صخرة وقد ألقى كمّه على وجهه لئلاّ تناله الشمس حتى قارب عبد المطّلب، فنظر أولاده إليه وقالوا: يا أبانا، خرجت إلى اليمن شيخاً ورجعت شابّاً قال: نعم أيّها الفتيان سأخبركم بما ذكرتم فأخبرهم، ثمّ قال لهم: أين سيّدي محمّد (صلّى الله عليه وآله) فقالوا له: إنّه في بعض الطريق ينتظركم، ثمّ إنّ عبد المطّلب سار نحوه حتى وصل إليه مع أصحابه فنزل عن مركوبه وعانقه وقبله بين عينيه، وقال له: إنّ هذا الفرَس والبغلة والناقة أهداها إليك سيف بن يزَن ويقرأ عليك التحية الطيبة، ثمّ أمر أنْ يُحمل رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) على الفرس، فلمّا استوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على ظهر الفرَس نشط وصهل صهيلاً شديداً فرحاً

٤٥

برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونسَب هذا الفرس: أنّه عقاب بن تيزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح أمره الله قال: كن فكان بأمره.

(قال الواقدي): وأخذ أبو طالب بلجام فرسه وحفّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمامه فقال (صلّى الله عليه وآله): (خلّوا عنّي فإنّ ربّي يحفظني ويكلأني)، فرقي الفرس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن فمال النبيّ ليسقط فمال الفرس معه لئلاّ يسقط فدخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة على حالته، فشاع خبره في قريش وبني هاشم، فتعجّب من أمره الخلق وبقيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فرحاً مسروراً عند عبد المطّلب.

(قال الواقدي): ودبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودرَج وأتى عليه ثمانِ سنين وثمانية أشهر وثمانية أيّام، فعندها اعتلّ علّةً شديدة عبد المطّلب فأمر أنْ يُحمل سريره إلى عند بيت الله الحرام وينصَب هناك عند أستار الكعبة، وكان لعبد المطّلب سرير من خيزرانٍ أسود ورثه من جدّه عبد مناف، وكان السرير له شبَكات من عاجٍ وآبنوس وصندل وعمود أحسن ما يكون إحكاماً وهيئة، وأمر عبد المطّلب أنْ يزيّن السرير بألوان الفرش والديباج والرقاق، وأمر أنْ يُنصب فوق سريره فسطاط ديباج أحمر ففعل ذلك وحُمل عبد المطّلب إلى بيت الله الحرام ونام على ذلك السرير المزيّن، وقعد حوله أولاده وكان له من البنين عشرة أنفس فمات عبد الله وبقيَ بعده تسعة شجعان يُعَد كلُّ واحد منهم بألف، وقعدوا حوله وحفّوا بعبد المطّلب يبكون ودموعهم تتقاطر على خدودهم كالمطر وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واجتمعت عند عبد المطّلب بطون العرب وكبار قريش مصطفّين، ما منهم أحدٌ إلاّ وعيناه تهملان بالدموع فعند ذلك ظهر أبو لهَب لعنه الله تعالى وأخزاه، وأخذ برأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليحنيه وينحّيه عن عبد المطّلب، فصاح عبد المطّلب وانتهره وقال له: مه يا عبد العزّى، أنت من عداوتك لا تكف من إظهارك لبغضك محمّد (صلّى الله عليه وآله) اقعد مكانك واسكت عنه فقام أبو لهب وقعد عند رجلَي عبد المطّلب خجَلاً

٤٦

برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونسَب هذا الفرس: أنّه عقاب بن تيزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح أمره الله قال: كن فكان بأمره.

(قال الواقدي): وأخذ أبو طالب بلجام فرسه وحفّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمامه فقال (صلّى الله عليه وآله): (خلّوا عنّي فإنّ ربّي يحفظني ويكلأني)، فرقي الفرس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن فمال النبيّ ليسقط فمال الفرس معه لئلاّ يسقط فدخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة على حالته، فشاع خبره في قريش وبني هاشم، فتعجّب من أمره الخلق وبقيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فرحاً مسروراً عند عبد المطّلب.

(قال الواقدي): ودبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودرَج وأتى عليه ثمانِ سنين وثمانية أشهر وثمانية أيّام، فعندها اعتلّ علّةً شديدة عبد المطّلب فأمر أنْ يُحمل سريره إلى عند بيت الله الحرام وينصَب هناك عند أستار الكعبة، وكان لعبد المطّلب سرير من خيزرانٍ أسود ورثه من جدّه عبد مناف، وكان السرير له شبَكات من عاجٍ وآبنوس وصندل وعمود أحسن ما يكون إحكاماً وهيئة، وأمر عبد المطّلب أنْ يزيّن السرير بألوان الفرش والديباج والرقاق، وأمر أنْ يُنصب فوق سريره فسطاط ديباج أحمر ففعل ذلك وحُمل عبد المطّلب إلى بيت الله الحرام ونام على ذلك السرير المزيّن، وقعد حوله أولاده وكان له من البنين عشرة أنفس فمات عبد الله وبقيَ بعده تسعة شجعان يُعَد كلُّ واحد منهم بألف، وقعدوا حوله وحفّوا بعبد المطّلب يبكون ودموعهم تتقاطر على خدودهم كالمطر وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واجتمعت عند عبد المطّلب بطون العرب وكبار قريش مصطفّين، ما منهم أحدٌ إلاّ وعيناه تهملان بالدموع فعند ذلك ظهر أبو لهَب لعنه الله تعالى وأخزاه، وأخذ برأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليحنيه وينحّيه عن عبد المطّلب، فصاح عبد المطّلب وانتهره وقال له: مه يا عبد العزّى، أنت من عداوتك لا تكف من إظهارك لبغضك محمّد (صلّى الله عليه وآله) اقعد مكانك واسكت عنه فقام أبو لهب وقعد عند رجلَي عبد المطّلب خجَلاً

٤٧

فقالوا كلّهم: قد سمعنا منك وأطعناك فيه ثمّ قال لهم عبد المطّلب: إنّ الرئيس عليكم من بعدي الوليد بن المغيرة؛ فإنّه أهلٌ لأنْ يجمعنكم على الخير ويلمّ شملكم فضجّت الخلق بأجمعهم وقالوا: قبلنا أمرك فنعم ما رأيته رئيساً ونِعم ما خلّفته فينا بعدك، وصارت قريش وبنو هاشم تحت ركاب الوليد بن المغيرة لعنه الله تعالى، فعند ذلك تغيّر وجه عبد المطّلب واخضرّت أظافر يديه ورجليه ووقع على وجنتيه غبار الموت وأكثر التقلّب من جانب إلى جانب، ومرّة يقيض رجلاه ومرّة يبسط أخرى والخلائق من قريش وبني هاشم حاضرون، وقد صارت مكّة في ضجّة واحدة وأراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنْ يقوم من عنده ففتح عبد المطّلب عينيه وقال: يا محمّد، تريد أنْ تقوم قال: (نعم) فقال عبد المطّلب: يا ولدي فإنّي وحقّ ربّ السماء لفي راحة مادمت عندي قال: فقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فما كان إلاّ عن قليل حتى قضى نحبه.

(قال الواقدي): ثمّ قاموا في تغسليه فغسّلوه وحنّطوه وكفّنوه وجعلوه في أعواد المنايا، وحملوه إلى ذيل الصفا وما بقي في مكّة شيخ وشاب ولا حرّ ولا عبد من الرجال والنساء إلاّ وقد ذهبوا في جنازته وعظّموها ودفنوه، ورجَع الخلق من جنازته باكين عليه لفقده من مكّة فقالت عاتكة بنت عبد المطّلب ترثي أباها:

ألا يا عين ويحك أسعديني

بدمع وأكفّ هطل غزيرِ

على رجلٍ أجلّ الناس أصلاً

وفرعاً في المعالي والظهورِ

طويل الباع أروَع شيظَمي

أغرّ كغرّة القمَر المنيرِ

وأبكى هاشماً وبني أبيه

فقد فارقَت ذا كرمٍ وخيرِ

وغيثاً للقرى في كل أرضٍ

إذا ضنّ الغنى على الفقيرِ

فقدنا من قريش في البرايا

سحاب الناس في السنَة النرورِ

وقالت صفية ترثي أباها:

أعينَيّ جَودا بالدموع السواكب

على خيرِ شخصٍ من لؤي بن غالب

أعينَيّ لا تستحسرا من بكاكما

على ماجدِ الأعراق عفّ المكاسب

٤٨

أعينَيّ جودا عبرةً بعد عبرةٍ

على الأسدِ الضرغام محضِ الضرائبِ

أبي الحارثِ الفيّاض ذي الحلم والبها

وذي الباع والماعون زين المناسبِ

وذي المجدِ والعزّ الرفيع وذي الندا

وذي العون عند المعضلات التوائبِ

فإنْ تبكياه تبكيا ذا مهابةٍ

كريم المساعي حلمه غير ذاهبِ

وقالت برّة بنت عبد المطّلب تبكي أباها وترثيه:

أعينَي جودا بالدموع الهواطل

على النحرِ منّي مثل فيض الجداول

ولا تسئما أنْ تبكيا كلّ ليلةٍ

ويومٍ على مولىً كريم الشمائل

أعينَيّ لا يُغني وجيع بكاكما

على خيرٍ حافٍ من معد وناعلِ

على رجلٍ لم يورث اللوم جدّه

أتمّ طويل الساعدين حلاحلِ

أخي ثقة ماضي العزيمة ماجد

له بيت مجدٍ ثابت غير فاصلِ

بي الحارث الفياض ذي الباع والندا

رئيس قريش كلها في القبائل

فسقى مليك الناس موضع قبره

بتو الثريا ديمة بعد وابل

وقالت أروى بنت عبد المطّلب ترثي أباها:

ألا يا عين ويحك أسعديني

بوبل واكف من بعد وبلِ

بدمعٍ من دموعك ذي غروب

فقد فارقت ذا كرم ونبلِ

طويل الباع أروع ذي المعالي

أبيك الخير وارث كلّ فضلِ

وقالت آمنة بنت عبد المطلب تبكي أباها وترثيه:

بكت عيني وحقّ لها البكاء

على سمحٍ سجيته الحياء

على سمح الخليفة ابطحي

كريم الخيم ينميه العلاء

على الفيّاض شبيه ذي المعالي

أبيك الخير ليس له كفاء

اقب الكشح أروع ذي أُصول

له المجد المقدّم والثناء

وكان هو الفتى كرماً وجوداً

وبأساً حين تنسكب الدماء

إذا هاب الكماة الموت

حتى كأنّ قلوب أكثرهم هواء

مضى قدماً بذي شطب خشيب

عليه حين تبصره بهاء

٤٩

(قال الواقدي): ثمّ إنّ الوليد بن المغيرة ترأّس من بعد عبد المطّلب واستقام أمره، وكان لعنه الله معانداً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان أبو طالب يحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) محبّةً لم يُرَ مثلها، وكان ينوّمه بجنبه ويوسّده يمينه، ويدثّره يساره، وإذا قام بالليل قام معه وإذا أراد أنْ ينام ينزعه ثيابه ويعرّيه ويأخذه في فراشه، وكان يحبّ أنْ يلتزق جلده بجلده لمحبّته له وليُرضي الله تعالى بذلك، وكان إذا دخل جوف الفراش لا يصير بينه وبين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حاجز حتى يختلط بدنه ببدنه، فعند ذلك رمدَت عين النبيّ رمداً شديداً وأصابه منه وجَع حتى إنّه كان يأخذ خرقة سوداء ويضعها على عينيه، ولا يقدر أنْ يفتح بصره لما كان به من الأذى والألم فعالجوه فتمادَت به العلّة وطالت به فدخل على أبي طالب من ذلك غمٌّ شديد، وأحضر الأطبّاء فما ازداد إلاّ ألمَاً فأشارت إليه قريش وبنو هاشم إلى أنْ يحمله إلى عند حبيب الراهب، ليدعوا له ربّه بالعافية والرحمة، وكان ذلك لهم باباً فقال أبو طالب: نِعم ما دبّرتم ثمّ جاء إلى منزله فأخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك، فقال له: الرأي رأيك.

(قال الواقدي): فلمّا كان في اليوم الثاني غسَل رأس النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وزيّن لباسه وجمّله بأحسن زينة وأركبه ناقةً جليلة، وكان حبيب على ثلاث مراحل من مكّة في صومعته على طريق الطائف، فأخرج أبو طالب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالليل عن وهَج الشمس، فلمّا بلغ الصومعة نادى الغلام: يا حبيب، فأجابه فقال: إنّ أبا طالب بن عبد المطّلب بالباب، فأمر أنْ يدخلا فدخلا وقعد أبو طالب إلى جنب حبيب ولم يتكلّم حبيب حتى سكنا جميعاً، ثمّ قال أبو طالب: يا سيّدي إنّ هذا ابن أخي (النبيّ) محمّد (صلّى الله عليه وآله) به رمَد، وقد داويناه بكلّ دواء فلَم ينتفع ولم يبرَأ رمدُه، وقد جئتك لتدعوا له ربّ السماء أنْ يعافيه ممّا به فقال له حبيب: تعال إلى عندي يا محمّد فقال له محمّد (صلّى الله عليه وآله): (تعال أنت إلى عندي) فقال أبو طالب: وا عجباً منك يا سيّدي أنت الشاكي، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (بل حبيب الشاكي)، فغضِب حبيب وقال: يا محمّد، فما أشكو؟ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):

٥٠

(أنت تشكو البرَص الذي على جسَدِك، وقد دعوَت ربّ السماء ثلاثين سنة أنْ يعافيك فلَم يُجبك)، فقال حبيب: وكيف علِمت يا محمّد، وأنت صبيّ صغير؟ فقال: (رأيته في النوم)، فقال: يا محمّد، تفضّل علَيّ وادع لي بالعافية فكشَف عن وجهه (صلّى الله عليه وآله)، فبرق من وجهه برق حتى أضاء‌ت الصومعة من النور، وشقّ سقف الصومعة ومرّ كالعمود حتى التزق إلى عنان السماء، وإذا بهاتف يهتِف ويقول: يا أهل الديرانية، ويا أهل الرهبانية، ويا أصحاب الكتاب، آمنوا بالله وبرسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، قال: فوثب حبيب من صومعته وتعلّق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقال: أُشهدك يا محمّد على نفسي أنّي مؤمنٌ بما تأتي به من عند ربّك، صغيراً وكبيراً قديماً وحديثاً، فاعتبَر الخلق بذلك ممّا عاينوه وسمِعوه، ثمّ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (يا حبيب ارفع ثيابك لتنظر الخلائق ما قلت ويكون صدقاً لكلامي)، فنظر الخلائق بعد ما رفَع أذياله إلى ذلك البرَص الأبيض كالدرهم وعليه نقطة سوداء، فدعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بدعَوَات مستجابات ومسَح يدَه عليه فذهبت العلامة بإذن الله تعالى وبدعاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ قال: (يا عم، لو أحببتُ أنْ يعافيني الله تعالى لدَعَوت الله سُبحانه وتعالى أنْ يعافيني ولم أجئ إلى هاهنا، ولكن قلت يا عم، حتى تدري أنّي عند الله أجلّ مِن مثلك ومِن مثل حبيب وغيره من أهل الأرض جميعاً)، ثمّ دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لنفسه فبرِئ من وقته من رمَدِه فصارت عيناه أحسن ما يكون بمشيئة الله تعالى، فقال حبيب: يا أبا طالب، احتفظ على هذا الغلام الذي وجدنا اسمه في التوراة لأشهَر من القمَر في كبد السماء، وكذلك اسمه في الإنجيل في سورة يُقال لها المُبرهنة لأنوَر وأبهى مِن كوكب الصبح، وأنّ لهذا الغلام شأناً عظيماً وسترى أمره عن قريب وتفرَح به يا أبا طالب أشدّ ما يكون من الفرَح، واعلم أنّه طوبى لِمَن آمن به، والويل لمَن كفَر به وردّ عليه حرفاً ممّا يأتي به؛ فإنّ له من الأعداء عدَد نجوم السماء مع أنّ له حافضاً يحفظه وناصراً ينصره فطب نفساً وقر عيناً فإنّك تفرَح به، ثمّ قام أبو طالب من عند حبيب واستوى على الناقة فكتَم أبو طالب ذلك ولم

٥١

يُخبِر به أحداً وقد رجعَت عينا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى حال العافية.

قصّة مفتاح الكعبة

(قال عمر بن الخطّاب): سألت أبي وقلت له: يا أبَتي وكيف صار مفتاح بيت الله الحرام إلى بني شيبة، قال: اعلم أنّ إبراهيم الخليل لمّا فرع من بنائه حفَر وهدةً صغيرة في جوف هذا البيت - يعني الكعبة عن يمين الباب - وقال: (إنّي حكمت على كلّ مَن يدخل جوف بيت الله الحرام أنْ يطرح في هذه الوهدة شيئاً من الدراهم والدنانير، وغير ذلك من صنوف الأموال؛ ليكون ذلك برّاً لسدَنة البيت ولخدَمَته من درهم إلى ما كان، ولم يكن بهذا الرسم لأحد من الملوك والفراعنة نصيب، وكان مفتاح بيت الله الحرام بين يدَي بني أُميّة يرثون إمساك المفتاح عقباً بعد عقب، فلَم يزالوا على عهده حتى وصل مفتاح بيت الله الحرام إلى أبى العاص بن أُمية بن عبد شمس، وكان يفتح بيده وكان لهم بذلك عزٌّ وشرف ونُبل، ثم إنّ أبا العاص بن أُميّة اتخذ دعوةً جلية وضيافةً خطيرة واتخذ الدعوة في بيت الخمار، وكثيراً ممّا كان بنو أُمية ينفقون في دار الخمار ويأكلون ويشربون فيها، فلمّا اتخذ أبو العاص الضيافة وأكَل الناس الطعام وغسَلوا أيديهم وشربوا حتى فُنيَ شرابهم، ولم تكن لهم حيلة في ابتياع الشراب ولم يكن معهم شيء من الدراهم والدنانير ولا من الرهون، فرهنوا مفتاح بيت الله الحرام عند الخمّار وأخذوا الخمر وشربوا وسكَر القوم وناموا، فسمِع بذلك عامر بن شيبة فحمَل زِقّاً من خمْر وردّها إلى الخمّار واسترجع المفتاح من الخمّار، وذهب به إلى بيته وغسَلَه بماء الكافور وطلاه بالغالية المتّخذة من مسكٍ أذفَر فلفّه في خرقة الديباج، وكان المفتاح من ذهبٍ أحمر وهكذا كان حقّه؛ لأنّه مفتاح بيت الله الحرام.

(قال الواقدي): فأفاق القوم من سكرهم فقام أبو العاص وذهب نحو الخمّار ليسترجع المفتاح وقد استرجعه عامر بن شيبة، فغضِب أبو العاص وذهَب بجماعة من أهل بيته إلى باب دار عامر، فضربوه واعتدَوا عليه واسترجعوا منه المفتاح على الكره فانصرف أبو العاص فرِحاً مسروراً فغضب عامر وذهَب إلى مقام إبراهيم

٥٢

الخليل (عليه السلام) ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا ربّ البيت العتيق، والركن الوثيق والحجَر الغريق وزمزم الدقيق، أنتَ تعلم أنّ أبا العاص رهَن المفتاح في ثمَن الشراب، واستخفّ ببيتك ولم يعرِف حقّ بيتك وأنا استرجعته وغسلته وفعلتُ به ما فعلت، اللهم إني أسألك أنْ تسلب هذا العزّ عن أبي العاص ومن أهل بيته، ثمّ رجع إلى منزله

(قال الواقدي): فأصبح أهل مكّة يوم الثاني وكان في الحرَم واجتمع الخلق بباب بيت الله الحرام يزورونه، فما كان إلاّ هُنيئة حتى جاء أبو العاص ومعه المفتاح، والناس يتأخّرون عن طريقه تعظيماً له إذ كان هو صاحب مفتاح بيت الله الحرام، فدنا أبو العاص إلى فتح الباب فأدخَل المفتاح في مجرى القفل فلَم يدخل فيه المفتاح، فاحتال أبو العاص كلّ حيلة أنْ ينبعث المفتاح في القفل فلَم يدخل فيه بأمر الله وقدرته، فانتفخت يد أبي العاص من مداومة نفسه من الشدّة فوقَعَت الصيحة في العرَب، إنّ باب بيت الله الحرام قد انغلق حتى ما عاد أنْ ينفتح فتعجّب الخلق من ذلك وبقى الباب مغلوقاً، والناس في مصيبةٍ عظيمةٍ من أمره، فلمّا أتى على الناس شهر اجتمع بمكّة زهاء ألف رجل على أنْ يزوروا بيت الله الحرام وقد نالهم الضجر لتطاول الأمر عليهم.

فلمّا أصبحوا يوم الاثنين هتَف بهم هاتف يقول: إنّ باب بيت الله لا ينفتح على يدِ مَن يرهن المفتاح عند الخمّار، وليس لكم حيلة دون أنْ تصدّوا كلّكم إلى عامر بن شيبة وتدفعوا إليه المفتاح، فإنّ الله قد سلَب من بني أُميّة هذا العز، فصار الناس كلّهم إلى عامر بن شيبة وأخبروه بما كان من قول الهاتف، فسمِع عامر منهم ذلك فسار إلى باب بيت الحرام ومعه المفتاح، فقال: بسم الله ربّ السماء وأدخَل المفتاح في مجرى القفل فانفتح بأمر الله تعالى فدخل الخلق إلى بيت الله الحرام، وسلب الله تعالى من بني أُميّة عزّهم وجعله إلى عامر بن شيبة وجعله عقباً بعد عقب، ثمّ إنّه لا ينفتح إلى الساعة إلاّ على يدَي عامر وأولاده فبقى عنده المفتاح إلى يوم فتح مكّة، فلمّا فتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مكّة وكان في أيّام الحج فجعل غزوه سببا لحجّه، فلمّا

٥٣

دخلها ذهَب إلى مكّة بيت الله الحرام وإذا الباب مغلق وكان عامر قد توارى مع المفتاح، فبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في طلبه فوقَع به عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: يا عامر، أين المفتاح فقال: هو ليس معي ففتّشه فلَم يكن معه فذهب إلى امرأته وقال لها: ويلَك أين المفتاح فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واقف، قالت: يا ابن أبي طالب، مالي به عِلم فعلا بسيفه وأراد ضربها فرفَعت المرأة يدها لتتّقي السيف فسقط من تحت ذيلها المفتاح، فوثب عامر بن شيبة وأخذه وقال: يا علي، أنا أسير به معك فذهَب عامر بالمفتاح إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّي قادر على فتحه دون المفتاح غير أنّي أحببت أنْ أفتحه به)، فأخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) المفتاح وفتحه، وقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يُريد الدخول وكان يُريد أنْ ينزع هذا الشرف من عامر فاغتمّ لذلك عامر، فأنزل الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ، فردّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المفتاح إلى عامر بن شيبة وبقي ذلك في يده وبيد عقِبه إلى الآن.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ المفتاح بقيَ عند عامر إلى أيّام بني هاشم، فلمّا كان في أيّامهم زار الخلق بيت الله الحرام وطرحوا في تلك الوهدة من العجائب من ذهَب وفضّة ودرّ ومرجان وزبرجَد، فلمّا مرّ خَزَنَة البيت همّوا بغلقه فعمِد رجلٌ منهم إلى البيت فقبض على ما اجتمع في الوهدة وسرَق منه، ولم يعلَمْ به أحد وغلقوا الباب وفرّ السارق بالمال فأخفاه من أصحابه.

قال: فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني اجتمعت خَزَنَة البيت واعترفوا على أخذ باقي المال ليتقاسموه بينهم، ففتحوا الباب فإذا بحيّةٍ قد جمَعت نفسها في الوهدة وهي حمراء كأنّها قطعةُ دم ولها رأسان رأسٌ عند ذنبها ورأسٌ عند عنقها، وهي تنفخ وتصفر فنظر الخَزَنَة فلم يجسِر أحدٌ أنْ يتقدّم إلى الوهدة لصولتها وهيبتها، وكانت منطوية في الوهدة مدورة فبقيَ الخلق متعجّبين منها وممّا عاينوا منها، فقالوا: يا قوم، مَن كان منكم أذنَب فليتب إلى ربّه وليقرّ بذنبه فما ظهَرَت هذه الحيّة في بيت الله الحرام إلاّ لأحدٍ قد أحدَث خطيئة.

(قال الواقدي): فجاء‌هم الرجل السارق فأقرّ بما فعَل، فقالوا كلّهم: ويلَك أما علِمتَ أنّ

٥٤

بيت الله الحرام لا يحتمِل الغشّ والخيانة، فأمروه بردّ ما سرَق جميع ذلك، فأخذه القوم ثمّ قالت الحيّة: أيّها العرَب وجيران بيت الله الحرام، إيّاكم والغش والخيانة فإنّ الله تعالى لا يرضى بذلك، وتأخّرت الحيّة إلى عند الميزاب وغابت في الأرض إلى الساعة، وقال محمّد بن اسحق: بل جاء‌ت حمامة طائرة ودخَلَت بيت الله الحرام وهي عظيمة الحلْق وأخذت الحيّة بمنقارها، وخرجت نحو سكّة الحنّاطين فغابت وما ظهَرَت بعد ذلك إلى أيّام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو بعد ثلاثين سنة وهذا ما وجدناه من الخبر بالتمام والكمال.

٥٥

مولد الإمام عليّ (عليه السلام)

أخبَرنا الشيخ الإمام العالم الورِع الناقل، ضياء الدين، شيخ الإسلام أبو العلاء الحسَن بن أحمد بن يحيى العطّار الهمَدَاني (رحمه الله)، في همَدَان في مسجده، في الثاني والعشرين من شعبان، سنة ثلاث ثلاثين وستّمِئة، قال: حدّثنا الإمام ركن الدين أحمد بن محمّد بن إسماعيل الفارسي قال: حدّثنا عُمَر بن روق الخطابي قال: حدّثنا الحجّاج بن منهال، عن الحسن بن عمران، عن شاذان بن العلاء قال: حدّثنا عبد العزيز، عن عبد الصمد عن سالم، عن خالد بن السري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن ميلاد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال:

(آه آه، سألت عجَبَاً يا جابر، عن خيرِ مولود ولِد بعدِي على سنة المسيح، إنّ الله تعالى خلَقه نوراً من نوري وخلقني نوراً من نوره، وكلانا من نورٍ واحد، وخلقنا من قَبل أنْ يخلق سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحية، ولا كان طول ولا عرض ولا ظلمة ولا ضياء، ولا بحر ولا هواء بخمسين ألف عام، ثمّ إنّ الله عزّ وجل سبّح نفسه فسبّحناه وقدّس ذاته فقدّسناه ومجّد عظَمَتَه فمجّدناه، فشَكَر الله تعالى ذلك لنا فخلق من تسبيحي السماء فمسَكَها والأرض فبطَحَها والبحار فعمّقها، وخلق من تسبيح عليّ الملائكة المقرّبين فجميع ما سبّحت الملائكة لعليّ وشيعته، يا جابر، إنّ الله تعالى عزّ وجل نسَلَنا فقذَف بنا في صلب آدم (عليه السلام)، فأمّا أنا فاستقررت في جانبه الأيمن، وأمّا علي فاستقرّ في جانبه الأيسر، ثمّ إنّ الله عزّ وجل نقلنا من صلب آدم (عليه السلام) في الأصلاب الطاهرة، فما نقَلَني من صلبٍ إلاّ نقَل عليّاً معي فلَم نزَل كذلك حتى

٥٦

أطلعنا الله تعالى من ظهرٍ طاهر، وهو ظهر عبد المطّلب، ثمّ نقلني من ظهرٍ طاهر وهو ظهر عبد الله واستودعني خير رحِم وهي آمنة فلمّا ظهَرَت ارتجّت الملائكة وضجّت وقالت: إلهنا وسيّدنا ما بال وليك عليّ لا نراه مع النور الأزهر؟ - يعنون بذلك محمّداً - فقال الله عزّ وجل: إنّي أعلم بولّيي وأشفَق عليه منكم، فأطلَع الله عزّ وجل عليّاً من ظهرٍ طاهر من بني هاشم فمِن قَبْل أنْ يصير في الرحِم، كان رجلٌ في ذلك الزمان وكان زاهداً عابداً يقال له المثرم بن زغيب الشيقبان، وكان من أحد العبّاد قد عَبَدَ الله تعالى مِتين وسبعين سنَة لم يسأله حاجة إلاّ أجابه، إنّ الله عزّ وجل أسكَن في قلبه الحكمة وألهَمَه بحُسن طاعته لربّه، فسأل الله تعالى أنْ يُريه وليّاً له فبَعث الله تعالى أبا طالب فلمّا بصَر به المثرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بيَن يدَيه، ثمّ قال له: مَن أنت يرحمك الله تعالى؟

فقام رجلٌ من تهامة - قال: أي نهامة، فقال: مِن عبد مناف، ثمّ قال: من هاشم فوثَب العابد وقبّل رأسه ثانيةً وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني وليّه ثمّ قال: أبشر يا هذا فإنّ العليّ الأعلى ألهَمَني إلهاماً فيه بشارتك، فقال أبو طالب: وما هو؟ قال ولَد يُولد من ظهرِك هو وليّ الله عزّ وجل إمام المتّقين ووصيّ رسول ربِّ العالمين، فإنْ أنتَ أدركت ذلك الولد من ظهرِك فاقرأه منّي السلام، وقل له: إنّ المثرم يقرأ عليك السلام ويقول: أشهَدُ أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) به تتمّ النبوّة، وبعليّ تتمّ الوصيّة، قال: فبكى أبو طالب وقال: ما اسم هذا المولود؟ قال: اسمه عليّ، قال أبو طالب: إنّي لا أعلم حقيقةَ ما تقول إلاّ ببرهان مبينٍ ودلالةٍ واضحة قال المثرم: ما تريد؟ قال: أُريد أنْ أعلم ما تقوله حقٌّ من ربِّ العالمين ألهمك ذلك، قال: فما تريد أنْ اسأل لك الله تعالى أنْ يطعمك في مكانك هذا؟ قال أبو طالب أُريد طعاماً من الجنّة في وقتي هذا، قال: فدعا الراهب ربّه قال جابر قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فما استتمّ المثرم دعاءه حتى أُوتي بطبقٍ عليه فاكهةٍ من الجنّة وعذق رطَبٍ وعِنَب ورمّان، فجاء به المثرم إلى أبي طالب فتناول منه رمّانة

٥٧

ثمّ نهض من ساعته إلى فاطمة بنت أسد (رضي الله عنه) فلمّا استودعها النور، ارتجّت الأرض وتزلزلت بهم سبعة أيّام حتى أصاب قريشاً من ذلك شدّة ففزعوا، فقالوا: مروا بآلهتكم إلى ذروة جبَل أبي قُبيس حتى نسألهم يُسكنون لنا ما نزَل بنا وحل بساحتنا، قال: فلمّا اجتمعوا على جبَل أبي قُبيس وهو يرتجّ ارتجاجاً ويضطرب اضطراباً، فتساقطت الآلهة على وجهها فلمّا نظروا ذلك قالوا: لا طاقة لنا ثمّ صعَد أبو طالب الجبَل وقال لهم: (أيّها ألناس، اعلموا أنّ الله تعالى عزّ وجل قد أحدَث في هذه الليلة حادثاً وخلق فيها خلقاً، فإنْ لم تطيعوه وتقرّوا له بالطاعة وتشهدوا له بالإمامة المستحقّة، وإلاّ لم يسكن ما بكم، حتى لا يكون بتهامة سكَن قالوا: يا أبا طالب، إنّا نقول بمقالتك، فبكى ورفَع يدَيه وقال، إلهي وسيّدي أسألك بالمحمّدية المحمودة والعلويّة العالية والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة.

قال جابر: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فوالله الذي خلق الحبّة وبرَأ النسَمة قد كانت العرَب تكتب هذه الكلمات، فيدعون بها عند شدائدهم في الجاهلية وهي لا تعلمها ولا تعرف حقيقتها، متى ولد عليّ بن أبى طالب (عليه السلام)، فلمّا كان في الليلة التي ولِد فيها (عليه السلام) أشرقت الأرض و تضاعَفَت النجوم، فأبصرت من ذلك عجباً فصاح بعضهم في بعض وقالوا: إنّه قد حدَث في السماء حادث، إلا ترون إشراق السماء وضياء‌ها وتضاعف النجوم بها، قال: فخرج أبو طالب وهو يتخلّل سكك مكّة ومواقعها وأسواقها وهو يقول لهم: أيّها الناس ولِد الليلة في الكعبة حجّة الله تعالى ووليّ الله فبقيَ الناس يسألونه عن علّة ما يرون من إشراق السماء، فقال: لهم أبشروا فقَد ولِد في هذه الليلة وليٌّ مِن أولياء الله عزّ وجل، يختم به جميع الشر ويتجنّب الشرك والشبُهات، ولم يزل يذكر هذه الألفاظ حتى أصبح فدخل الكعبة وهو يقول: هذه الأبيات:

يا ربّ ربّ الغسَق الدجي

والقمَر المـُنبلِج المـُضي

بيّن لنا مِن حُكمك الـمَقضي

ماذا ترى لي في اسم ذا الصبي

٥٨

فسمع هاتفاً يقول:

خُصِصتما بالولدِ الزكيّ

والطاهر المطهّر المرضي

إنّ اسمه مِن شامخٍ عليّ

علِيٌّ اشتق من العلي

فلمّا سمِع هذا خرَج من الكعبة وغاب عن قومه أربعين صباحاً. قال جابر: فقلت يا رسول الله، عليك السلام أين غاب؟ قال: (مضى إلى المثرم ليبشّره بمولد عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) في جبَل لكام، فإنْ وجده حيّاً بشّره وإنْ وجده ميّتاً أنذره)، فقال جابر: يا رسول الله، فكيف يعرف قبره وكيف ينذره؟ فقال: يا جابر، اكتم ما تسمع فإنّه مِن سرائر الله تعالى المكنونة، وعلومه المخزونة، إنّ المثرم كان قد وصَف لأبي طالب كهفاً في جبَل لكام وقال له: إنّك تجدني هناك حيّاً او ميّتاً، فلمّا أنْ مضى أبو طالب إلى ذلك الكهف ودخله، فإذا هو بالمثرم ميّتاً جسده ملفوف في مدرعتين مسجّى بهما وإذا بحيّتين إحداهما أشدّ بياضاً من القمَر، والأُخرى أشدّ سواداً من الليل المظلم وهما يدفعان عنه الأذى فلمّا أبصرتا أبا طالب غابتا في الكهف، فدخل أبو طالب وقال:

السلام عليك يا وليّ الله ورحمة الله وبركاته، فأحيى الله تعالى بقدرته المثرم فقام قائماً وهو يمسح وجهه وهو يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنّ عليّاً وليَّ الله وهو الإمام من بعده، ثمّ قال له المثرم: بشّرني يا أبا طالب، فقد كان قلبي متعلّقا حتى مَنّ الله تعالى عليّ بك وبقدومك، فقال له أبو طالب: أبشر فإنّ عليّاً طلَع إلى الأرض قال: فما كان علامة الليلة التي ولِد فيها؟ حدّثني بأتمّ ما رأيت في تلك الليلة.

قال أبو طالب: نعم أُخبرك بما شاهدته لمّا مرّ من الليل الثُلث أخذ فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ما يأخذ النساء عند ولادتها، فقرأت عليها الأسماء التي فيها النجاة فسكَن بإذن الله تعالى فقلت لها: أنا آتيك بنسوة من أحبّائك ليعينوك على أمرك قالت: الرأي لك فاجتمعن النسوة عندها فإذا بهاتف يهتف مِن وراء البيت: (امسك عنهنّ يا أبا طالب فإنّ وليّ الله لا تمسّه إلاّ يدٌ مطهّرة) فلَم يتمّ الهاتف كلامه حتى أتى محمّد بن عبد الله ابن أخي فطرد

٥٩

تلك النسوة وأخرجهن من البيت، وإذا أنا بأربع نسوة قد دخلْن عليها وعليهن ثيابٌ من حرير بيض، وإذا روايحهن أطيب من المسك الأذفر فقلن: السلام عليك يا وليّة الله، فأجابتهن بذلك، فجلسن بين يديها ومعهنّ جونة من فضّة فما كان إلاّ قليلاً حتى ولِد أمير المؤمنين (عليه السلام) فلمّا أنْ ولِد بينهنّ فإذا به قد طلّع (عليه السلام) فسجَد على الأرض وهو يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وحدة لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً رسول الله تُختَم به النبوّة وتُختَم بي الوصيّة).

فأخذته إحداهن من الأرض ووضعته في حِجرها فلمّا حمَلته نظر إلى وجهها ونادى بلسانٍ طلِق يقول: (السلام عليك يا أُمّاه)، فقالت: وعليك السلام يا بني، فقال: (كيف والدي؟) قالت: في نِعَم الله عزّ وجل، فلمّا أنْ سمِعْت ذلك لم أتمالك أنْ قلت: يا بنيّ أو لستُ أنا أباك فقال: (بلى ولكن أنا وأنت مِن صلبِ آدم فهذه أُمّي حوّاء)، فلمّا سمعت ذلك غضضت وجهي ورأسي وغطّيته بردائي وألقيت نفسي حياءً منها (عليها السلام) ثمّ دنت أُخرى ومعها جونة مملوء‌ة من المسك فأخذت عليّاً (عليه السلام) فلمّا نظَر إلى وجهها قال: (السلام عليك يا أُختي)، فقالت: وعليك السلام يا أخي فقال: (ما خبَر عمّي؟) قالت: بخير فهو يقرأ عليك السلام، فقلت: يا بنيّ، مَن هذي ومَن عمّك؟

فقال: (هذه مريم ابنة عمران (عليها السلام) وعمّي عيسى (عليه السلام)) فضمّخته بطيبٍ كان معها من الجنّة ثمّ أخذته أخرى فأدرجته في ثوبٍ كان معها فقال أبو طالب: لو طهّرناه كان أخفّ عليه وذلك إنّ العرب تطهّر مواليدها في يوم ولادتهم فقلن: أنّه ولِد طاهراً مطهّراً؛ لأنّه لا يذيقه الله حرّ الحديد إلاّ على يدَي رجلٍ يبغضه الله تعالى وملائكته والسموات والأرض والجبال، وهو أشقى الأشقياء فقلت لهن، مَن هو؟ قلن هو عبد الله بن ملجم لعنه الله تعالى وهو قاتله بالكوفة سنة ثلاثين من وفاة محمّد (صلّى الله عليه وآله) قال أبو طالب: فأنا كنت استمع قولهنّ ثمّ أخذه محمّد بن عبد الله أخي من أيديهن ووضَع يدَه في يده وتكلّم معه وسأله عن كلّ شيء فخاطب محمّد (صلّى الله عليه وآله) عليّاً وخاطب عليٌّ محمداً بأسرار

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363