أدب الطف الجزء ١٠

أدب الطف18%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 320

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127401 / تحميل: 10688
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لاحظنا طبيعة القوم في أول الدعوة ، والظروف المحيطة بالمنطقة العربية مما كان يستدعي هذا الحث ، وهذا التأكيد.

لقد أطل الاسلام بنوره على الجزيرة العربية والقوم غارقون في ظلمات تقاليدهم الموحشة من الغزو ، والنهب ، وتقديم القوي على الضعيف ليكون هذا طعمة سائغة له فيرزح تحت الضغط الذي يواجهه من الطبقة المتجاوزة.

المنطقة المتكالبة لا عمل لها سوى الغزو ، والنهب والحروب المستعرة تجرها النعرات القبلية لتعيش على أسمال الغنيمة المغتصبة ولذلك كان الضعيف طعمة للقوي فكيف باليتيم ، والذي يأتي في الرعيل الاول من مسيرة الضعفاء والبائسين.

مجتمع قاسٍ لا يرى كرامة الانسان مهما كانت شخصيته ما دام لا يتمكن من حفظ نفسه أمام تيارات القوة والتعدي.

مجتمع يضفي على نفسه شكل مرير من التقوقع القبلي فتتخذ كل قبيلة لها شاعراً يمجد بها ، ويصوغ من غزوها ، ونهبها درراً يشب الصغير على ترتيلها ليكبر ، وتكبر معه روح التجاوز والانتقام.

في هذا الجو المليء بالشجون ، والمآسي يقبع اليتيم يندب حظه العاثر ليخضع لتجاوز الاولياء ، والاقوياء فلم يجد له من يمد له العون ليحفظ له حقوقه ، ويراعي شؤونه ، وقد بقي وحيداً في معركة الحياة ولكن الاسلام :

دين العدل ، والمساواة ، ومبدأ الرحمة ، والعطف جاء ليأخذ بيد الضعفاء فيرفع بهم إلى المستوى الذي يجدون فيه حقوقهم كاملة غير منقوصة مهما كلف الثمن فالقوي عنده ضعيف حتى يأخذ منه الحق ، والضعيف في نظره قوي حتى يأخذ له حقه.

٢١

بهذا المنطق القويم جاء الاسلام ليحل بين ظهراني تلك القبائل المتمردة على العرف الانساني لذلك لا نجد غرابة لو كانت حصة اليتيم وافرة في مقام التشريع فيلقى الاهمية البالغة من جانبه سواءاً في الكتاب المجيد ، أو في السنة على لسان أمناء الوحي النبي الاكرم ، وأهل بيته ومن تبعه على حق.

اليتيم والتقييم التشريعي :

تناولت الموسوعة التشريعية تقييم اليتيم من الجهتين : الاجتماعية والمالية.

فشرعت له في هذين المجالين ما يحقق رعايته كفرد فقد كفيله ، فأصبح إلى من يبادله العطف ، والحنان ، والتربية الصالحة ليكون فرداً صالحاً لا تؤثر على نفسيته حياة اليتيم ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافاً يسقطه عن المستوى الذي يتحلى به بقية الافراد ممن يتنعم بحنان الابوة ، وعطفها.

ومن جهة أخرى أحكمت له حقوقه المالية حيث يكون ـ والحالة هذه ـ عرضة للاستيلاء من جانب الاقوياء.

١ ـ اليتيم وحقوقه الاجتماعية:

لقد تنوع الاسلوب التشريعي في بيان حقوق اليتيم الاجتماعية : ولكنه شرع معه من حين الطفولة المبكرة لما لهذه المرحلة من الاهمية البالغة في احتضان اليتيم ، وإيوائه ليعيش في جو من الحنان الدافىء لينسيه مرارة اليتم ، وليعوض عليه ما فاته من عواطف الابوة.

ولذلك نرى الكتاب الكريم يسلك طريقاً جديداً للوصول إلى بيان

٢٢

حقوق اليتيم الاجتماعية ذلك هو توجيه الخطاب إلى النبي الاكرم متخذاً من الواقع المرير الذي مر به وهو طفل خير درس يوجهه إلى الأفراد لرعاية هذه الزهور الذابلة.

من هذه النقطة سيكون المنطلق لمسيرة الاسلام مع الحملة التوجيهية لليتيم.

لقد مرت هذه الادوار بالرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم فقد أباه وهو طفل فقيض الله له جده عبد المطلب ( شيخ الابطح ) ليقوم برعايته ، وتربيته فقد شاءت الحكمة الإِلهية أن يذوق المنقذ الاول للانسانية مرارة اليتم ، فيفقد الحنان الابوي لولا أن يعوضه الله بمن سد له هذه الخله ليطبق الدرس تطبيقاً عملياً فتسير الامة على هداه ، وتنحو هذا النحو من السلوك الذي تتمخض نتائجه بالتوجيه الصالح للافراد.

١ ـ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ) .

٢ ـ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ ) .

٣ ـ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ) .

٤ ـ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) (١) .

هذه الآيات الكريمة جمعت بين طياتها درساً كاملاً لكل ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية.

فهي الدستور الذي لا بد من تطبيقه للوصول إلى الغاية السامية من رعاية حقوق الضعفاء.

وهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لابد للكبار من اجتيازها للوصول بهذا الانسان إلى الهدف المنشود.

__________________

(١) سورة الضحى : الآيات ( ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ).

٢٣

فالمشاكل التي يواجهها اليتيم في بداية الشوط ثلاث :

ـ المسكن الذي يلجأ إليه.

ـ والتربية الصالحة بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم.

ـ والمال الذي ينفق عليه منه.

١ ـ إيواء اليتيم :

( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ) .

أول ما يحتاجه اليتيم في هذه الحياة هو :

الحضن الذي يضمه.

والصدر الذي يغمره بدفئه.

والبيت الذي يمرح فيه.

فإذا تهيأت هذه الثلاث كان بالامكان أن يحفظ هذا الطفل المهمل ليقوم بالانفاق عليه مادياً ، ومعنوياً.

ومن هنا جاءت فكرة الملاجيء للأيتام ومدى ما تسديه من خدمة للمجتمع في محافظتها على هذه الفئة من الاطفال.

لذلك يبدأ الكتاب المجيد بتذكير المشرع الاعظم بأولى مراحل احتياجاته وهو طفل يتيم فيخاطبه بهذا الاسلوب الهاديء لينقله إلى ذلك الدور الذي مر عليه.

أنت أيها المشرّع أحسست بهذا الشعور يوم ودع أبوك هذه الدنيا وهو في ريعان شبابه فكنت مشتبكاً لهذه الحوادث القاسية فأواك الله ، وعطف عليك قلوب الحواضن ، وإذا بجدك عبد المطلب يحتضنك فيوليك من حنانه ما يعوضك عن حنان الابوة ، ويوصي بك لعمك أبي طالب فيكفلك ويفضلك على أولاده وليكن بعد ذلك خير ساعد لك على دعوتك المقدسة ووسط هذا العطف تنعمت بما أنساك مرارة الوحدة الابوية وذل اليتم.

٢٤

هذا العم الحنون الذي جاهد ، وكافح في سبيل رعاية ابن أخيه في الوقت الذي كانت العرب تنظر إليه كسير الجناح مهيض الجانب يتيماً لا أب له.

ان أبناء الجزيرة ـ كما أسلفنا ـ كانوا قد فقدوا القيم الرفيعة بتكالبهم الوحشي على اغتصاب الآخرين.

لذلك كانت الشريعة المقدسة قد غيرت المفاهيم الخاطئة وأصلحت ما كان منها فاسداً ، فاختارت من بين هذه المجموعة الضعيفة يتيماً كان محطاً للرحمة الإِلهية في تبليغ رسالة السماء إلى أبناء الارض ليعطي صورة واضحة عن القيم ، والاخلاق وليزيل عن الاذهان الصور الخاطئة ، والتي كانت تعبر عن الانحراف الذهني لابناء الجزيرة العربية في عصورها المظلمة.

إذاً فلا بد من المأوى لليتيم ، ولا بد من تهيئة الملجأ لليتيم فبلا مأوىً سيصبح هذا الطفل متسولاً تتلاقفه ارصفة الشوارع ، ومنعطفات الأزقة ، فيكون عالة على بلده ، ويكون هذا التسيب مبدأ مسيرته الاجرامية ، فلا مخدع يؤيه ، ولا رقيب ينتظره يقطع ساعات الليل متسكعاً ليلحقها في نهارة منبوذاً تحتضنه تكايا الرذيلة فاذا به عضو فاسد تخسره الامة ، ويكون وبالاً عليها وعلى أبنائها.

وقد جاء في الخبر عن النبي (ص) قوله « خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه »(١) .

فلماذا هذه الاساءة لطفل لا ذنب له ، ولا دخل له في تحقق اليتم ،

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة تحت رقم (٣٦٧٩).

٢٥

وإنطباقه عليه. إنه كبقية الاطفال ، وقد شاءت الاقدار أن تخطف منه من يحنو عليه ، فهل يكون ذلك سبباً في تسويغ الاساءة إليه.

إن العطف الانساني ، واللطف ، والرعاية ليدعو كل ذلك إلى تقديم هذا المحروم على بقية الاولاد ممن يضمهم البيت لئلا يشعر اليتيم بذل الوحدة ، ومرارة الوحشة. وإلا فإن البيت الذي لا يجد هذا الصغير فيه المعاملة الحسنة هو شر البيوت كما يحدث عنه الخبر ، وبالعكس إن وجد اليتيم اليد الحانية في ذلك البيت ، والعطف الذي يدغدغ قلبه الكسير كان ذلك البيت خير بيت تحوطه البركة ، وتشمله الرعاية الإِلهية.

٢ ـ الانفاق على اليتيم :

( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ) .

وسواء كان الغنى المقصود هو الانفاق من أبي طالب ، أو الاموال التي صرفتها خديجة على النبي الاكرم فان المال هو العصب الذي يقوم بحفظ حياة الانسان ليحقق له احتياجاته كإنسان يأكل ، ويشرب ، ويلبس.

ان الغنى هو ما يقابل الفقر على كل حال ، ولذلك أخذت الآية الكريمة تذكر نبي الرحمة بهذه النقطة الحساسة لتدفع في نفسه الهمة على مساعدة الضعفاء ممن مروا بهذه المرحلة العسيرة.

فاليتيم وهو فقير بحاجة إلى من يمد له يد العون فيشبع له بطنه ، ويستر له عريه ولذلك تنوعت دعوة القرآن إلى مساعدة الضعفاء ، والاخذ بأيديهم لتأمين احتياجاتهم المعاشية.

ولنستعرض معاً هذه الطرق التي سلكها الكتاب الكريم لحث الناس على الانفاق والعطاء.

٢٦

التجارة مع الله

ومن بين تلك الاساليب التي تجلب الانتباه هو ما يسلكه القرآن في سبيل تشويق الافراد الى الانفاق بجعل عملية العطاء عملية مقايضة بين الانفاق ، والجزاء منه على هذا العمل الانساني.

وبذلك يكون المنفق قد سد خلة اجتماعية بمساعدته لهؤلاء المحتاجين والله لا يحرمه على هذه الاريحية بل يعوضه في الدارين :

في هذه الدنيا بزيادة الربح ، والبركة في ماله. وفي الآخرة بالثواب الجزيل.

وتتوالى الآيات الكريمة لتعطينا صورة واضحة عن هذه الاتفاقية بين العبد ، وربه.

( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) (١) .

( آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (٢) .

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٤) .

__________________

(١) سورة فاطر : آية (٢٩).

(٢) سورة الحديد : آية (٧).

(٣) سورة البقرة : آية (٢٦١).

(٤) سورة البقرة : آية (٢٦٥).

٢٧

ولم تكن هذه الآيات الكريمة هي كل ما تعرض له القرآن الكريم في التشويق على الانفاق ، بل هناك أمثالها تحتوي عليها السور القرآنية ، وهي بمجموعها تصور اسلوباً دقيقاً في الحث على المساعدة ، ودفع الافراد إلى سبيل الخير.

وبهذا الاسلوب كانت الآيات تستنهض همم الاغنياء إلى مساعدة البائسين من الايتام وغيرهم.

ولكن الروعة النفسية تظهر في اختيار هذا النوع من الحث على المساعدة بهذا الاطار الترغيبي المحبب.

فالآيات الكريمة تحرك من الافراد جوانبهم العاطفية فتبدأ معهم بلهجة يلاحظ القارىء فيها آثار الشدة ، وأن الله ليس بمحتاج إلى العبد في ترغيبه إلى هذه المشاريع الخيرية ، بل على العكس من ذلك فان الله يمن على العبد بإرشاده إلى ما فيه خيره ، وصلاحه.

( هَا أَنتُمْ هَٰؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) (١) .

وإذا ما التفت الفرد ، وعرف أنه الفقير إلى تقديم الخير لينتفع بهذا الاحسان ، فيخفف به عما يلحقه من الذنوب رأينا هناك حقيقة أخرى تتكشف له لتدفعه بشكل عنيف إلى اعتناق مبدأ الانفاق ، والاحسان ، وتتجسد في قوله تعالى :

( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) .

أنها ليست مسألة خسارة من جانب المنفقين ، كما وأنها ليست

__________________

(١) سورة محمد : آية (٣٨).

٢٨

عملية كاسدة حينما يجد العبد جزاء ما يقدمه موجوداً عند الله فهو بهذه العملية يتاجر مع الله عز وجل وهي تجارة ـ حتماً ـ رابحة ، ومضمونة تجر لصاحبها الربح الوفير.

ان العمليات التجارية المتضمنة لمبدأ الربح هي الطريقة التي يسير عليها في حياتهم المعاشية لتأمين الكسب ، والنفع ولذلك اختار الاسلوب القرآني هذه الطريقة ليصل إلى النتائج المطلوبة من النافذة التي يطل منها الفرد في حياته اليومية.

وأنها صورة حية مستوحاة من الحياة العملية الدارجة ليلتفت اليها الفرد فيقارن بينها ، وبين ما هو مألوف له فيما يسير عليه كل يوم لئلا تحتاج العملية إلى تصور دقيق وبحث عميق.

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي يمارسها الفرد.

أنها حياة الزراعة ، والنمو.

وحياة الربح ، والاستفادة.

ومن منّا لم يشاهد الزرع ، وكيفية نموه ، والربح المتوخى من وراء الزرع أنها حبة واحدة إذا بارك الله فيها تقدم لزارعها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. والنسبة الحسابية لهذه العملية هي.

واحد في قبال سبعمائة ، وهو ربح وفير مغرٍ يناله الزارع من الارض الميتة ، والانفاق في سبيل الله مثله كمثل الحبة تزرع في الارض.

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢٦١).

٢٩

وليقارن الفرد بين العمليتين الحبة يزرعها في الارض فيجني من وراء هذه النبتة سبعمائة حبة.

والدرهم ينفقه الانسان في سبيل الله يجني من ورائه سبعمائة درهم ، أو بمقدار هذه النسبة من الأجر عند الله.

فما ينفقه الملي لانتشال الضعيف من برائن المرض ، والجهل والفقر يساعده على السير إلى الامام ، ومن ثم تحويله إلى المجتمع عضواً صالحاً تستفيد الامة من مواهبه ينتج له بالاضافة إلى هذه الخدمة التي ترضي ضميره ربحاً من الثواب ينتفع به يوم لا ينفع مال ، ولا بنون ، ومن ثم فلطف الله لم يقف عند حد ورحمته أوسع من أن تقدر بقدر ، وبعد كل هذا الربح المعاوضي.

( وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ) .

وليقدر العبد هذه المضاعفة حيث لم تحدها الآية الكريمة إلى مرة ، أو مرتين بل الله يضاعف ، ولتقر عين العبد إذا كان ربه أحد طرفي هذه العملية ، وليس كأحد التجار يحسب معه الحساب الدقيق ، بل هو كريم بلطفه ، ورحيم بعطفه.

ولربما يستكثر البعض أن يكون هذا العمل الانساني مثمراً بهذه الكثرة كمثل الحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، وبعد كل ذلك فالله يضاعف لمن يشاء.

ويجاب عن ذلك : وهل يحد فضل الله ، وإحسانه ، أو تقف رحمته عند حد أنها العناية الإِلهية هي التي تؤلف بين هذه القلوب الانسانية فتهب الخير ، والثواب ازاء عمل يخدم به مصلحة الآخرين ليكون أداة لتشجيع الباقين.

وتتوالى الصور الحية يعرضها القرآن الكريم ليهيج مشاعر الانسان

٣٠

لتوجيهه نحو عمل الخير ، ومن جملة هذه الصور المعروضة.

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ) .

ويحاول القرآن الكريم أن يعيش مع الافراد ليدخل إلى قلوبهم ، ويعرض عليهم صوراً من الدروس الحية فيمثل لهم أمثلة نابعة من صميم حياتهم اليومية ليكون ذلك أبلغ في الوصول إلى المقصود.

فمرة يمثل الانفاق بالتجارة.

وأخرى يمثله بالزراعة.

وثالثة يعرض أمام القارىء صوراً لحبة على ربوة وإذا بالمطر يغمرها فتقدم نتاجها المضاعف.

كل ذلك ليصل ممن وراء هذه الصور الى القلوب ليغرس فيها حُب الخير بالانفاق الى الضعفاء ، والمعوزين لئلا يبقى فقير جائع بين المجموعة.

وإذا ما أذكى نغم القرآن العذب لهب العزم على الخير في تلك القلوب التي استجابت لنداء الحق ، وقرب إلى أذهانهم نتائج أعمالهم الطيبة كحبة أثمرت سبعمائة حبة ، أو كحبة أتت أكلها ضعفين.

وأنهم بذلك يربحون صفقة تجارية رابحة أحد طرفيها ـ الله عز وجل ـ هرع الناس إلى النبي الاكرم يسألونه عن بنود هذه العملية الرابحة ، ويتكشفون منه حقيقة هذا الانفاق الذي يريده الله.

ماذا ولمن ؟.

فنوعية الانفاق ، وكيفيته ، وجنس ما ينفق ، ولمن يكون الانفاق ، وعلى من يلزمهم الصرف ، والعطاء.

٣١

( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (١) .

والسؤال في ظاهر الآية عما ينفق بينما جاء الجواب عمن ينفق عليه ولرفع هذا الالتباس يقول علماء التفسير.

فان قلت : كيف طابق الجواب السؤال في قوله( مَا أَنفَقْتُم ) وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون واجيبوا ببيان المصرف.

قلت : قد تضمن قوله( مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبين الكلام على ما حداهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها »(٢) .

وقال الطبرسي : « السؤال عن الانفاق يتضمن السؤال عن المنفق عمله فانهم قد علموا أن الأمر وقع بإنفاق المال فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة وعلى من ينفق »(٣) .

لقد كان التحضير من الآيات الكريمة السابقة في الترغيب والتشويق الى الانفاق هو الذي دعاهم للسؤال عن كيفية الإِنفاق.

لذلك بدأ القرآن يبين لهم مراحل الإِنفاق بجهتيه :

نوعيته ، ومصرفه.

فعن النوعية لم يحدد لهم شيئاً يفرض فيه الانفاق ، بل ترك ذلك إلى تقديرهم.

فالاطعام خير ، والكساء خير ، والمال خير.

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢١٥).

(٢) الكشاف للزمخشري : في تفسيره لهذه الآية.

(٣) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

٣٢

وهكذا نرى الشارع المقدس يترك الباب مفتوحاً ، فلم يحدد نوعية الانفاق ، بل يصفه بالخير جاء ذلك في آيات عديدة قال تعالى فيها :

( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ ) (١) .

( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) (٢) .

( وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (٣) .

وعن المصرف ، وهو المنفق عليه : بدأ الكتاب الكريم بأسرتي الإِنسان الخاصة ، والعامة ليحيط بره جميع الاطراف التي تضم الانسان.

فالاسرة الخاصة : وتتألف من الابوين العمودين ومن ثم الحواشي ، وهم الاطراف النسبية قال تعالى :

( قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) .

واذا ما تجاوزنا أسرة الانسان الخاصة رأينا القرآن الكريم يلحق بهذه الاسرة المكونة من الوشائج النسبية الاسرة العامة ، وتتألف من :

اليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل.

وهذا التدرج هو الذي تقتضيه طبيعة الاجتماع في هذه الحياة ، وقوانينه.

فالوالدان عمودا الانسان ، ومن ثم حواشيه وهم أطرافه وكلالته على حد تعبير الفقهاء لهم حصة في الميراث حسب التدرج في الطبقات لانهم يحيطون بالرجل كالاكليل الذي يحيط بالرأس.

ومن ثم يتعدى في المراحل إلى الجماعة العامة من أصناف المعوزين.

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) سورة البقرة : الآيات ( ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ).

٣٣

ولا بد للمنفق من السير على هذا الخط الذي رسمته الآية الكريمة فانه من الايحاءات في البيئة المتقاربة ، والتي هي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً كما يقوله الحديث الشريف.

واذا ما عرضنا فقرات الآية الكريمة على هذا النحو من الاجمال فلا بد لنا من الاحاطة بكل فقرة على نحو من التفصيل لنصل من وراء ذلك إلى ما يعطيه هذا التموج التدريجي في التركيب الفني الجميل.

الأسرة الخاصة :

وقد قلنا بانها تتكون من الوالدين ، والاقربين حسبما جاء في الآية الكريمة من قوله تعالى :

( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) (١) .

الوالدان :

الابوة : لفظة بنفسها تعطي ما تحمله هذه الكلمة بين طياتها من الحنان ، والعطف نحو زهرة الحياة ، وبراعم العمر.

والامومة : أنها الشمعة الزاهية باضوائها الحلوة تذيب نفسها لتنير الطريق إلى الآخرين.

ولا يمكن لاي وليدٍ أن يؤدي بعض الحق المفروض عليه تجاه أبويه ، فلطالما سهر الليالي لينعم الوليد بلذة النوم ، ولكم ضمه صدر أم

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢١٥).

٣٤

حنون ليشعر بدفء لذيذ حتى قال الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يخاطب ولده الامام الحسن (ع).

« وجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى لو أن شيئاً أصابك أصابني »(١) .

هذا الانصهار في الكيان بين الوليد ، ووالده ، وهذه الوحدة في الذات هما اللذان أوجبا أن يصور لنا الامام (ع) هذا الانشداد ليبين أن ما يصيب الولد يصيب الوالد لانهما شيء واحد بفارق يميز أحدهما أنه فرع ، والآخر أنه الأصل ، والنبتة التي كانت منشأ ، لذلك الفرع الجميل.

وإنما أولادنا في الورى

أكبادنا تمشي على الارض

وإذا ما أردنا أن نتبع هذه العواطف الجياشة الكامنة في قلب الاب تجاه وليده لوجدنا مشهداً من هذه المشاهد حيث تنعكس على صفحاته آيات الحب ، والعطف الابوي بين وليد يتمتع بنظارة الشباب ، وشيخ أحنت عليه السنون.

ففي خضم من القلق ، والاضطراب يتجه الشيخ الكبير يحمل فوق كتفيه متاعب القرون الماضية ليستعطف ربه بلهجة كلها الرقة ، والكلمات تتكسر بين شفتيه :

( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) .

إنه نوح ( نبي الله ) أبو البشر الثاني كما تعتبر عنه كتب التأريخ والعبد الصالح المجاهد في سبيل الله. دعى قومه إلى عبادة الله والتوحيد به ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً.

__________________

(١) مقطع من وصية الامير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أوصى بها ولده الامام الحسن (ع) قالها عند رجوعه من صفين.

٣٥

وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه فلما يفيق يتجه إلى ربه وبفمٍ تتصاعد منه الحسرات يناجي ربه قائلاً :

« اللهم إهدِ قومي فانهم لا يعلمون ».

وتشاء القدرة الإِلهية أن ينزل العذاب على هؤلاء المعاندين ويكتب لهم الغرق.

( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) .

وانتهى كل شيء وأصبحت السفينة ، وهي سفينة الامان ، جاهزة ووقت اليوم المعلوم لينفذ العذاب في هؤلاء.

( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) .

وكانت هذه العلامة ساعة الصفر. ولندع المفسرين ، وخلافاتهم في هذا التنور أين كان ، وفي أي بقعة من الأرض كان قابعا. المهم أنه كان مصدر نبع الماء ، وإندفعت المياه من السماء ضباباً بلا قطرات ، وتفجرت الأرض عيوناً منهمرة ، وفاضت البحار ، وطفحت الانهار ، وكان نوح قد أمر أن يحمل في سفينته :

( مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

من كل جنس من الحيوان زوجين أي ذكراً ، وأنثى.

( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

أي من سبق الوعد بإهلاكه ، والمقصود بذلك أمرئته الخائنة وأضيف إلى أسرة السفينة من الراكبين فيها.

( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .

٣٦

واقصر ما قيل في عدد من آمن به ثمانين نفر.

وتكامل العدد ، وسارت السفينة وسط دنياً من المياه المنهمرة من كل حدب ، وصوب.

( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ ) .

والرياح العاتية تهبط بالسفينة ، وترفعها ، وكسفت الشمس.

تمر تلك اللحظات ، ويتفقد ربان السفينة ، نبي الله نوح فلم يجد إبنه كنعان من ضمن الراكبين ، وحانت منه التفاتة وإذا بالولد يهرب صوب الجبال التي بعد لم يصل إليها الماء والهلع يأخذ منه مأخذه.

( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) .

يا بني : إنه نداء الابوة الحنون ينبثق من القلب العطوف يرتل هذا النغم الهاديء ليصل إلى مسامع الولد المذهول من هذا المنظر المخيف يطلب إليه أن يلحتق بسفينته لينجو من عذاب الله المحتم.

ولكن الولد المذعور يهرب من هذا النداء الابوي ليطلقها صيحة مدوية تضيع بين زمجرة الامواج العالية.

( قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ ) .

فهو يحاول عبثاً أن يأوي إلى جبلٍ يعصمه من الماء ، ويبعد عنه شبح الموت الذي يتراءى له من بين هذه المياه المتدفقة من جميع الجهات.

وعلى العكس فلم ييأس الشيخ الوقور ، وأعاد الكرة ، وظن أنه سيفلح في إقناع ولده ، فعاد إليه ، والحسرة تأكل قلبه متوسلاً وهو يقول :

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ) .

٣٧

وضاعت التوسلات وسط الامواج ، وبعد الشبح ، وذهب الولد هارباً ، وأسدل الستار على الحوار العاطفي.

( وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ ) .

وابتلعت المياه كل شيء ، ولم يبق من مخلوقات الله إلا :

( مَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) .

وهم ركاب السفينة.

وصدرت الأوامر الإِلهية :

( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وتنفس الشيخ الهرم الصعداء ، فلقد أخذت المياه كل أولئك الذين كفروا برسالته ، واذاقوه ألوان العذاب.

ولم تشغل هذه المناظر المرعبة ، والنتائج التي حصل عليها في التغلب على الاعداء من التفكير في ولده بعد أن ضاعت توسلاته بابنه المغرور لذلك اتجه إلى ربه يذكره بوعده بأن أهله من ضمن الناجين من العذاب إلا إمرأته التي خانته في الإِيمان به ، وولده من أهله.

( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) .

أنه بهذا التضرع يعترف من طرف خفي بحقيقة العاطفة الطاغية على مركز النبوة ، والعصمة.

وماتت البسمة ، وانطفأ الأمل ، ومات شبح الابن حينما جاءه النداء :

( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا

٣٨

لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) .

لقد أرخى الشيخ الكبير لعاطفته العنان فتجاوز الحد المرسوم ، وطالب بما ليس له أن يطالب فيه ، وها هو يتلقى التهديد بالترك عما يطلب ، وإذا به يعود إلى لطفه وعطفه فيتضرع من أجل هذا الالحاح قائلاً :

( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (١) .

بماذا تجازى هذه العواطف الجياشة من الآباء.

وما هو الاسلوب الذي يلزمنا تجاه هذا البركان المتفجر من العطف أنه القرآن الكريم حدد لنا ، وتكفل ببيان هذه الكيفية التي لا بد من تطبيقها نحو هذين الملاكين في المجالين التربوي ، والمالي.

( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ،وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (٢) .

درس بليغ في الادب نستوضحه من خلال هذه الآية الكريمة حيث تدرج الشارع المقدس ببيان المراحل السلوكية مع الابوين على النحو التالي :

الاولى :

بيان مكانة الابوين ، وقيمتهما المعنوية ، ويبدو هذا واضحاً في اعتبار الاحسان اليهما بالدرجة التالية مباشرة لعبادة

__________________

(١) الآيات المتقدمة من سورة هود : ( ٣٦ ، ٤٧ ).

(٢) سورة الاسراء آية ( ٣٣ ـ ٣٤ ).

٣٩

الله ، وبذلك نعرف مدى الواجب على الابناء في تقدير الابوين ، وقد جاء مثل هذا الايصاء في آيات أخرى فقد قال تعالى :

( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) (١) .

( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ ) (٢) .

لقد أتى رجل إلى رسول الله (ص) فقال : ( يا رسول الله : أوصني فقال : لا تشرك بالله شيئاً ، وإن حرقت بالنار ، وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالايمان. ووالديك ، فأطعمهما ، وبرهما حيين كانا ، أو ميتين ، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ، ومالك فافعل ، فان ذلك من الايمان »(٣) .

إن هذه الوصية من النبي (ص) تعطينا مدى اهتمام المشرع بالوالدين ، فقد قرن الايصاء بالاحسان إليهما بعبادة الله وعدم الشرك به ، وجعل ذلك من الايمان ، ثم أنه لم يكتف بالايصاء بالبر بهما في حياتهما بل أمر بذلك بعد موتهما. ولما يتسائل عن كيفية البر بالوالدين بعد الموت ذلك لأن الاحسان إنما يكون لمن هو حي يتقبل ما يجود به الانسان عليه ، أما إذا مات الانسان فقد انقطعت عنه الحياة ومات فيه الشعور فكيف يكون الاحسان إليه ؟

لقد أوضح الامام أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) هذه الجهة عندما قال :

« من يمنع الرجل منكم أن يبر بوالديه حيين ، وميتين يصلي عنهما ، ويتصد عنهما ، ويحج عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع

__________________

(١) سورة : آية (٣٦).

(٢) سورة لقمان آية (١٤).

(٣) اصول الكافي : حديث (٢) باب البر بالوالدين.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ووقعت لحني فوق قيثارة الهوى

بانغام صب واله القلب عاشق

ورحت أغني باسم من ملك الحشا

باجفانه لا بالسيوف البوارق

فلولاه ما رقت شعوري ولا جرت

باعذب معنى في الخواطر رائق

وما الشعر الا نظرة وابتسامة

الى النفس تزجيها مشاعر وامق

وما الشعر الا ما يردد لحنه

بكل فم من أعجمي وناطق

وما الشعر الا روضة رقصت بها

بنات الرؤى كالعين بين الحدائق

وما الشعر الا ثورة النفس رتلت

أهازيجها الاجيال بين الخلائق

فما كل طير كالهزار مغرد

ولا كشقيق الورد عطرا لناشق

ولا مثل يوم بالمسرات مشرقا

كيوم بنور السبط بالامس شارق

بمولده طافت مواكب للمنى

تصافح في دنيا الهنا خير صادق

واشرقت الامال فيه ورفرفت

طيور المنى في روضها المتناسق

وبالافق الاعلى تطوف مواكب

من النور تجلو في الدجى كل غاسق

فيالك مولودا بحجر محمد

تغذى بطيب للنبوة عابق

تفرع من زيتونة احمدية

زكا أصلها كالفرع بالمجد باسق

فكم سن نهجا للاباة بعزمه

وحلق في افق من الحزم سامق

وأوضح درس التضحيات لامة

أبت أن تهاب الموت عند الحقائق

بنهضته الكبرى اهتدى كل ثائر

الى الحق في غرب الدنا والمشارق

لقد طاب غرسا مثلما طاب مولدا

ونال من الرحمن أسمى المرافق

ورف على الارضين بالعدل نوره

فطهرها من رجس كل منافق

وبدد شمل الظالمين وهد من

معاقلهم في سيفه كل شاهق

وخلد للاجيال أروع صفحة

تضيء بانوار الهدى كل غاسق

* * *

امام الهدى عفوا فاني ألكن

بمدحك لا اسطيع تعبير ناطق

ولكنني ارجو شفاعتكم غدا

من الله يوم الحشر بين الخلائق

٢٦١

السيد عبّاس شبّر

المتوفى ١٣٩١ ه‍

يا باذلا في سبيل الحق مهجته

وما حقا كل تمويه وتأسيس

ومنقذا شرف الاسلام من فئة

يزيدها البغي تدنيسا لتدنيس

شرعت دستور اخلاص وتضحية

في مجلس للهدى والحق تأسيسي

بعثت في الدين روحا كان أزهقها

جور الطغاة وارهاق الاباليس

ضربت رقما قياسيا يحار له

أهل الحساب واصحاب المقاييس

للمصلحين قواميس مخلدة في

الارض واسمك عنوان القواميس

تقيم نهضتك الدنيا وتقعدها

للحشر ما بين اكبار وتقديس

ناهيك من نهضة غص الزمان بها

لما تضم وتحوي من نواميس

خلدتها فهي للاجيال مدرسة

تناوح المجد في بحث وتدريس

هذا هو الشرف الباقي فما هرم

يعزى لغنج عمون أو رعمسيس

في ذمة الدين ما أرخصت من مهج

للدين سلن على السمر المداعيس

لولاك لاندثرت فينا معالمه

فلم نجد غير ربع منه مطموس

بعدا لقوم يرون الدين قنطرة

لما يسد فراغ البطن والكيس

باتوا يحوطون دنياهم بحيطته

وهم على دخل منه وتدليس

رام ابن ميسون أمرا دونه رصد

أعيى أباه فأودى تحت كابوس

وكم سعى جده مسعاة ذي حنق

وجد لكن لجد منه معكوس

وكيف تطفئ نور الله زعنفة

عار على العيس ان قلنا من العيس

لها فصول من التاريخ قد ملئت

خزيا فكانت هناة في القراطيس

ان انتمت لقريش في أرومتها

فخسة الطبع تنميها لإبليس

يحيى علاك وتخزى نفس مرتطم

في حمأة الشرك والطغيان مركوس

هذا ضريحك كم حج الملوك له

فأين قر الخنا في أي ناووس

صلى عليك الذي أولاك منزلة

دانت لعليائها علياء ادريس

٢٦٢

الفقيه الاديب السيد عباس شبر حسنة من حسنات الدهر ونابغة من نوابغ العصر ووجه ناصع من وجوه الكمال، لازمته بحكم صلة القرابة وامتزجت به روحيا وكان يعظم في عيني كلما ازددت ويسخر من هذه الحياة التي يتطاحن الناس على زبارجها وزخارفها ويبتعد كل الابتعاد عن المطامع والتصنع ويندد بالمرائين والمدلسين وكان البعض يحسبه مترفعا غير مبال بالكرامات، وانما كان يرى لنفسها قيمتها ويحفظ لها كرامتها فما عرف عنه الا الاباء والعزة فاسمعه يقول:

ترفعت عن معروف حي وميت

فكل حطامي منزل لابي وقف

فكم ليلة للغيث بت مسهدا

احاذر أن يهوي على صبيتي السقف

عانى من شظف العيش ومرارة الحياة وآلام المجتمع شيئا كثيرا وهو صلب الارادة قوي العزيمة تتمثل فيه صفة المؤمن الكامل (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) وحتى لو اقتسم الناس الدنيا لما التفت اليهم ومن وقوله:

انا ما استخدمت شعري

في مديح أو خلاعة

لا ولا لوثت بالاطماع

سربال القناعة

أبعد الله أديبا

تخذ الشعر بضاعة

كان عندما يشاهد هذا المجتمع الراكض وراء السفاسف والزخارف وقد بنى كل مقوماته على الدجل استشهد بقول الامام العادل امير المؤمنين علي بن ابي طالب: ان هؤلاء لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا. وكنت عندما اسمعها منه واحدق في وجهه وعينيه البراقتين استغرق ضاحكا ويزداد ارتياحي عندما يفر هذه الكلمة وأن الذي يلبس الفرو مقلوبا فقد استعمله لغير ما وضع له اذ يفقد التدفئة ثم يتراءى شكله كالكبش بمنظر مضحك ثم ينشدني قوله:

يا خليلي كفناني بشعري

واعصرا للتغسيل منه دموعي

واعرضاني للبدر فهو رفيقي

كي يصلي على عند الهزيع

٢٦٣

وارقبا فسوف يبدو عليه

عارض من كابة وخشوع

وامنعا اهل موطني حمل نعشي

فحرام عليهم تشييعي

صور العلامة شبر وابدع بتصويره - لوائح فنية بشعره عن مجتمعه فقد درس الحياة دراسة وافية واتحفنا بروائع جرت مجرى الامثال كقوله:

فالمرء مرآة المحيط وطبعه

كالماء يأخذ شكله من ظرفه

حديثه ملذ معجب فأين ما حل استرسل بالادب الشهي والفوائد العلمية والادبية والكلمات الحكمية فهو أشبه بدائرة معارف ولا يكاد جليسه يمل حديثه، لذلك أعددت نفسي لالتقاط منثوره ومنظومه وقال له احد الادباء: ان حفظك للشعر لا يقوى عليه أحد، فقال كنت ايام شبابي عندما تنتظم حلقة الادباء للتقفية الشعرية التي تبرهن على ملكة الاديب اطلب منهم ان تقتصر التقفية على ديوان واحد من دواوين الشعر كديوان الرضي مثلا، وفي الليلة التي تليها تكون التقفية وتسمى ب‍ (المطارة الشعرية) مقصورة على ديوان المتنبي والبحتري وهكذا. وربما تحبس التقفية وتحصر بدائرة اضيق من ذلك بان تكون بحماسيات الرضي أو حكميات المتنبي او وصفيات ابن الرومي والبحتري أو غزل ابن الاحنف، قال وربما تكون التقفية مقصورة بباب واحد من ابواب الديوان بمعنى تكون المطاردة بميميات المهيار أو همزيات المرتضى أو بائيات الرضي. وعندما تعرف عليه الشاعر السيد محمود الحبوبي أثناء اقامته بالبصرة وساجله ورأى قوة براعته الادبية اذ كان له على كل كلام شاهد أو شواهد شعرية قال له: اهنئك على هذا الشغف فما رأيت اسمى من روحك الادبية وحافظتك القوية، وشاركت في الحديث فقلت: ما مر بأحد من الشعراء الا وقرأ شيئا من شعره، فقال السيد: ما تركت شاعرا من شعراء العرب الا وحفظت أجود ما نظم.

تولى منصب القضاء الشرعي بعد الحاح كثير من عارفيه ومقدري فضله وحتى ألزمه المرجع الديني الاعلى السيد ابو الحسن فتولى القضاء في العمارة أولا ثم في البصرة فبغداد فكان المثال الرائع

٢٦٤

للنزاهة فلم ينتقض له حكم قط طيلة اثنتي عشرة سنة ولم يغير المنصب منه شيئا، ملتزما بأوامر الشرع الشريف متثبتا كل التثبت مراعيا احكام الله والشريعة (المقدسة) وعرف عنه انه يحرص كل الحرص على حل الخصومات صلحية اكثر منها تنفيذية ومن شعره:

لولا شؤون شرحها محزن

تهدد الحر بما يخشى

ما كنت بالمنبر مستبدلا

ما عشت كرسيا ولا عرشا

وقوله:

أبعد الصبر والعزلة

والاخبات والنسك

أولى الحكم بين الناس

هذا المضحك المبكي

لقد ألجأني دهري

الى أمر به هلكي

فللويل على الفعل

وللويل على الترك

لقد ألزم نفسه ان لا يجلس للقضاء بين الناس الا وهو على وضوء داعيا ربه أن يهديه للصواب، قال له زميله الشيخ علي الشرقي - وكان اكثر اخوانه اصرارا عليه بتولي القضاء - قال له على سبيل المداعبة، انك ستجد النشوة الكبرى عندما تجلس وراء منضدتك وتقرر حكمك والناس صامتون مذعنون والمحامون صاغون ترى نفسك كأنك جالس فوق النجوم. وعندما تولى السيد المنصب كتب للشيخ الشرقي: اني وجدت أن تلك الساعة هي أخوف ساعة، فما من مرة وقد هممت باصدار الحكم الا وارتسمت امام عيني الآية من قوله تعالى « ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد ».

كان يقضي شطرا من الليل بالابتهال والدعاء والتضرع والبكاء ويراها احب الساعات الى نفسه ومما أنشدنيه رحمه الله في أواخر حياته وهو آخر ما نظم من رباعيات.

لقد أعرضت عن دنيا

بها لا يرتجى الخير

وأقبلت على اخرى

اليها ينتهي السير

فدنيا أنا فيها الدار

والمسجد لا غير

تحيرت فلا ادري

أدار هي أم دير

وقال:

ولما أن رأيت الناس غرقى

بطوفان الجهالة والغوايه

٢٦٥

فلا قلب يباركه حنان

ولا رأس تتوجه الهداية

وعاد الدين بينهم غريب

واهل الدين هم أهل الجناية

بكيت على الورى ولزمت بيتي

أسير اليأس انتظر النهاية

وأنشدني:

طغى في الناس الحاد بجهل

فماذا قيمة العقل الحصيف

يريد المرء أن يحيى طليقا

برغم العلم والدين الحنيف

يقول لنا المعري منذ ألف

وما أسمى مقال الفيلسوف

اذا ما الحدت امم بجهل

فقابلها بتوحيد السيوف

وكثيرا ما كان يرتجل البيت والبيتين ولكنها تذهب مع الريح كقوله عن البصرة:

هيهات غاضت أبحر (الخليل)

في عصرنا فالجيل غير الجيل

وقال:

أرى الشط شط العرب مرآة أهله

فما فيه فيهم من هدوء ومن بشر

يصارف منه الرافدان بعسجد

لجينا ولكن المحصل للبحر

وكثيرا ما كان عند مطالعته الكتب وتأثره بالكتاب ينظم البيتين والثلاث فيخطها على ظهر الكتاب كقوله عندما طالع ديوان نازك الملائكة(١) .

قلت لليل صامت أنت مثلي

قال اني مصغ للحن الملائك

كم على الليل من شياطين هم

دحرتها عني نيازك نازك

وكقوله الذي كتبه بخطه على كتاب (نظرية التطور) لسلامة موسى:

هبطت الى هذا الوجود فلم أجد

بميدانه المكتض الا مصارعا

أليس محالا أن أعيش مسالما وقد

سن قاضي الكون فيه التنازعا

وقوله وقد كتبه بخطه على مجلة الاماني وهو من المناجاة:

أنقذت نوحا وابراهيم، من غرق

أنجيت هذا وذا من حرق نيران

فها انا غارق بالدمع محترق

(بنار) حزني فأنقذني باحسان

٢٦٦

وفي اثناء مطالعاتي في مكتبته القيمة رأيت ديوان الشاعر بدر شاكر السياب وقد أهداه للشاعر شبر وقد كتب الاهداء بخطه ثم نعته بشاعر الانسانية. وكتب على كتاب (فلسفة اللذة والالم).

أطالت تباريح الحياة تألمي

فطال على الدهر الخؤن تظلمي

ولا عجب للمرء ان عاش شاكيا

فأقدم حس فيه حس التألم

وكتب أيضا بخطه على كتاب (اعرف مذهبك) لمؤلفه مارتين دودج.

مذاهب ليس لها غاية

الا جدال وأضاليل

والحق مقصور على واحد

لاحمد أوحاه جبريل

وكتب على ديوان ابي الطيب المتنبي.

أمة الشعر آمني بنبي

شكلت معجزاته ديوانا

ما ادعى أحمد النبوة حتى

عاد في الشعر قوله فرقانا

وارتجل مرة عدما استمع الى خطيب الذكرى الحسينية في احدى المجالس:

هتفت لك الاملاك والـ

ـعلياء تصفق باليدين

ذهبت سفر الحق من

دمك المقدس يا حسين

نشرت له امهات المجلات ادبا كثيرا منها مجلة الاعتدال والهاتف والغري والبيان وكتب عنه الاستاذ الخليلي في (هكذا عرفتهم) كما كتب عنه الحوماني في (وحي الرافدين). كانت ولادته سنة ١٣٢٢ ه‍ بالبصرة ليلة الجمعة ١٩ ذي الحجة الحرام والمصادف ٢٤ شباط ١٩٠٥ م وكانت وفاته ليلة الجمعة ٨ شوال ١٣٩١ وقد شيع في كل من البصرة والعمارة ميسان والكاظمية وكربلاء والنجف مثواه الاخير في احدى حجر الصحن الشريف وهي الحجرة المجاورة لباب القبلة عن يمين الداخل واقيمت له الفاتحة الكبرى في مسجده الذي يقيم فيه صلاة الجماعة بالبصرة كما اقيمت له الفاتحة في المدرسة الشبرية بالنجف واستمرت الفواتح بنواحي البصرة وسائر العراق حتى يوم اربعينه الذي أقيم في مسجده وشارك العلماء والادباء نظما ونثرا.

٢٦٧

الشيخ محمد سعيد مانع

المتوفى ١٣٩٢

حياة الناس في لهو ولعب

ونحن حياتنا ذكرى الحسين

لعمرك اننا فيه سنجزى

نعيما دائما في النشأتين

وللراثي جزاء ليس يحصى

ويسكن في الجنان قرير عين

الشيخ محمد سعيد ابن الشيخ سلمان آل مانع. ولد سنة ١٣٣٩ ه‍ اديب لبيب وظريف لطيف، شاعر باللغتين الفصحى والدارجة خدم المنبر الحسيني برهة من الزمن درس ونال رتبة عالية فكان احد أساتذة منتدى النشر يوم افتتح مدرسته، اشتركت معه في تحقيق (جامع السعادات) للنراقي وفي تأليف كتاب (لسان الصدق) وله (أنيس الجليس في التشطير والتخميس) ما زلت احتفظ به بخطه يتحلى بالعفة والحياء وصلابة المبدأ وقوة العقيدة الى جنب رقة الطبع والظرف فهو في الوقت الذي الف كتابا مختصرا في الدعاء وفوائده واختار جملة من الادعية المجربة اقول بهذا الوقت كان قد جمع مجموعة من الاغاني الرقيقة في الحب الطاهر والجمال الباهر والمعاني البديعة التي يشتاقها كل ذي ذوق وحس عالي، مهما وقعت عينه على الازهار والرياض والورود والرياحين راح يتغنى بصوته الرقيق بما قاله الشعراء في الشعر الروضي. ولا يكاد يطلع عليه الفجر الا وانتبه لطاغة ربه وردد الاوراد وهو شاب مملوء حيوية وايمانا ووجدانا وذكاء وفطنة، زاملته ولازمته اكثر من عشر سنين وهو اكثر من صاحبته فلا اعرف شخصا اتصلت به روحيا اكثر منه، درسنا سويا في مدرسة منتدى النشر وحزنا على شهادة التخرج وتدارسنا كثيرا من الكتب فقد حققنا كتاب جامع السعادات للنراقي وعلقنا عليه وهو لم يزل موجودا عندي وعندما حققت اللجنة التي

٢٦٨

قامت بطبع الكتاب كان ما حققناه من جملة المصادر. كان الاستاذ المانع يمتهن الخطابة ثم تفرغ للدراسة والتدريس في مدرسة منتدى النشر، وكنا في اوقات الفراغ نتدارس كتاب (الكامل) للمبرد ونطالع على انفراد كتب الاخلاق ونختار منها حتى كان منها كتاب (الاخلاق في قصة) فاذا نظم جاء بالشيء المعجب وما زلت احتفظ بمجموعة من مراسلاته وخواطره منها اني كتبت له من لبنان سنة ١٣٦٥ ه‍ رسالة وفيها قطعة شعرية منها:

حاشاك تمنع وصلنا

حاشا وفاءك يا ابن مانع

انساك - لا انساك -

يا قلبي ومثواك الاضالع

هل عهدنا (الماضي) أرى

يوما لعودته (مضارع)

تلك السويعات العذاب

أريجها كالمسك ضائع

عودي فقد حن الفؤاد

لطيب هاتيك المرابع

قفص الاضالع عاقه

فأناب مرسلة المدامع

قد هام حولا بالكنائس

ثم حن الى (الجوامع)

يا صاحب الخلق الاغر

وجامع الشيم الروائع

هذي البراقع خلفها

- الله ما خلف البراقع -

وجه تناسق بالروائع

مثل ما يهوى المطالع

فأجابني بقطعة أذكر منها قوله:

بكم نجاة محب

وجدكم خير شافع

منعت ودي سواكم

لذاك لقبت مانع

لبنان طابت فسرتم

لها وخلفتموني

سببتم الهجر انتم

ففيه لا تتهموني

بالعيد هنأتموني

هل يعرف العيد مضنى

وصالكم لي عيد

بغيره لست أهنا

توفي ليلة ٢٢ شوال - ليلة الاربعاء سنة ١٣٩٢ ه‍ المصادف ٢٨ / ١١ / ١٩٧٢ ومن مؤلفاته كتاب (الرفيق في الطريق) يضم النوادر الادبية والنتف الاخلاقية والمقاطيع الشعرية وجملة من شعره ومراسلاته لاصدقائه واخوانه امثال السيد محمد تقي الحكيم وصادق القاموسي من اعضاء منتدى النشر ومن موشحاته رائعته التي عنوانها (انشودة الفجر).

٢٦٩

الدكتور زكي المحاسني

المتوفى ١٣٩٢

الملحمة العربية الكبرى للدكتور زكي المحاسني وتنفرد بنشرها مجلة (قافلة الزيت) السعودية وقد بلغ بهذه الملحمة حتى الآن النشيد السابع.

قالت مجلة العرفان اللبنانية عدد ٤ م ٥٩: وندعو الله ونحن في ارض الوحي ان يمد له بعمره، وهو اليوم في الخمسين منه، ليتم هذه الملحمة الفريدة التي ينتظرها العالم العربي الحديث ويرصدها، لتكون له بين ملاحم الامم في آدابها العالمية ملحمته المثلى.

الملحمة العربية

النشيد المحزون

الحسين

عاطني دمعا وخذ مني عينا

واحسينا واحسينا واحسينا

انا في الشام وتيار حناني

ينتحي من ذكرك المحزون حينا

يسأل الريح اذا هبت رخاء

في البوادي عن هوى قد كان دينا

يا مهادا في العراقين أجيبي

أين مثوى ذلك المحبوب أينا

كربلاء لفحة قهرية

حملت في صفحة التاريخ شينا

هي لا ذنب لها من بلدة

من دعا الاحجار ان تلبس زينا

وقعة فيها على عثيرها

هزت الدهر لذكراها أوينا

لكأني أبصر المرج دنا

بخيول بالردى الباغي سرينا

يا لها من طحمة كان خصيم

سامها العرب وبلواها جنينا

تلك همدان أتت في مذحج

وتميم وبأقدار رمينا

٢٧٠

ذا عدى حصن دين وتقى

قتلوه قطعوا منه ردينا

فانبرى الصحب على عرض الملا

شيعة الثأر يصيحون افتدينا

فتن عجت مدى الجيل كما

تلفح النيران لا تدري الهوينا

هب يطفيها على طغيانها

بطل اعداؤه نادوا: الينا

ناصح قال له يابن مطيع

لا تكن كبشا على المنحر هينا

فأبى وهو ينادي رهطه

لن يصيب العرب من بعدي أينا

فأتاه الجمع في وثب الفدا

يا حسيناه للقياك أتينا

أم وهب فيهمو مقدامة

زوجها الكلبي نادى: ما اختشينا

بأبي أنت وأمي تلك روح

غير ما نفديك فيها ما اقتنينا

خذ أبا الحمد فهذي طعنة

بعدو الله طغواها ورينا

وهتاف قد علا تهداره

نحن أنصارك انا قد حمينا

فيهمو عمرو أخو قرظة من

يصدق الموت ولا يعرف مينا

ولديهم سالم ذو عوسج

وحبيب قال للحتف اقتفينا

وزهير فارس الفتكة ان

قيل ياابن القين لم تعرفه قينا

ورمى الكندي يفدي خدنه

بكماة مثل جن قد هوينا

يا لابطال تدانوا في الوغى

اشهدوا الله وقالوا ما اعتدينا

وأتى الخصم بجمع حاشد

يا رواة الحرب انا قد روينا

قد بكى التاريخ خجلان ولو

أظلم التاريخ فينا ما اهتدينا

يا أبا المجد ويا زين الملا

لك في حرب المناجيد بنينا

مشهدا في ملحمات حمحمت

قد طوين البيد والعمر طوينا

نحن ألجمنا الى الحشر الذي

قد فرى قلبك ذكراه فرينا

وسفحنا بعدك الدمع على

بطل ما مثله فيك بكينا

عطشا غبت عن الدنيا فيا

ليتنا حزنا بماء ما ارتوينا

نشرب الكأس بلا طعم وما

ساغ أنا بعد ظمآن استقينا

ليس يرثيك سوى روح على

النجف الاشرف عنها ما انثنينا

حملت سر (البلاغات) ولو

سكبت شعرا لمرثى ما رثينا

يا حبيبي لك في الشام ندى

في مطل الزهر قد رف علينا

كم ركبنا الشوق نسري عمره

خلف آماد الهوى فيه جرينا

دمشق الدكتور زكي المحاسني

ولد الدكتور زكي المحاسني سنة ١٣٢٩ ه‍ ١٩١١ م وكان ابوه من كتاب المحكمة الشرعية بدمشق، قال: لم يلبث أن توفي وعمري

٢٧١

سنتان ولم يترك لي صورة أراه فيها فعشت يتيما ترعاني أمي الحنون، وحين نلت الشهادة من كلية الحقوق بدمشق وعمري يومذاك اثنتان وعشرون سنة توفيت امي فعشت بعدها باكيا عليها في شعري وكانت حنونا رؤوما ولن استطيع ان انساها حتى اموت.

الدكتور زكي المحاسني له شهرته الادبية والعلمية، شاعر رقيق متين الاسلوب واستاذ لامع في مجال التربية والتعليم ومحام قدير وكاتب واديب كبير نشر مقالاته في امهات الصحف والمجلات الشرقية والمهجرية منها:

الرسالة، الهلال، المجلة، الكتاب، الاديب يحمل شهادة دكتوراه الدولة من جامعة القاهرة من الادب العربي منذ سنة ١٩٤٧ م مع اجازة (الليسانس) منذ سنة ١٩٣٠ في الحقوق والآداب من الجامعة السورية سنة ١٩٣٢ م درس فقه اللغة العربية وعلومها والادب العباسي في كلية الآداب العربية، عين ملحقا ثقافيا بالسفارة السورية في القاهرة ١٩٥٦ م.

كان عضوا في لجنة التربية والتعليم بدمشق ١٩٥٦.

كان مديرا ثقافيا لتخطيط التعليم الجامعي بوزارة التربية والتعليم المركزية بالقاهرة سنة ١٩٥٨ - ١٩٦١ ثم مديرا لوزارة التربية السورية.

آثاره ومؤلفاته: (ابو العلاء ناقد المجتمع) (دراسات في الادب والنقد) وكثير من الدروس الادبية وتغنى بشعره وذكر ثورة العشرين وامجاد العرب ووصف بغداد فكانت حياته حافلة بالعلم والادب والآثار الخالدة حتى تجاوز عمره الستين عاما وفي اليوم ٢٣ من الشهر ٣ من عام ١٩٧٢ م ١٣٩٢ ه‍ رحل رحلته الابدية الى عالمه الثاني. كتب عنه الدكتور محسن جمال الدين في كتابه (العراق في الشعر العربي) وكتب عنه الاستاذ جمال الهنداوي في مجلة العرفان مجلد ٦١ وفي مجلة البلاغ العراقية السنة السابعة.

٢٧٢

الشيخ عبد الكريم صادق

المتوفى ١٣٩٢

الشيخ عبد الكريم صادق علم من الاعلام وائمة الشرع الكرام وسامته تنبيك عن ايمانه وورعه واساريره تقرأ عليها تقواه وطيب سريرته، عاش في النجف ولبنان مصلحا مرشدا وافنى جل عمره بالصلاح والاصلاح ولا عجب فالاسرة اسرة علم وتقى فهو ابن البطل الكبير الشيخ عبد الحسين صادق واخو الشيخ محمد تقي صادق والشيخ حسن صادق، دوحة تنفح بالعطر الطيب، كان محل ثقة الجميع في عفافه وتقاه وزهده في الدنيا وانصرافه عنها ويحتل في النبطية صدر البلد ازدانت به واحتضنته معتزة به فخورة بفضله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.

أعن الابا يرضى الحسين عدولا

والخسف هل يرضى عليه نزولا

وهو الذي أنف الدنية قائلا

انا ما خلقت لان أعيش ذليلا

وانا ابن أعراق الثرى من هاشم

وأعز من تحت السماء قبيلا

فاذا تحداني وهاجم منعتي

عات شهرت الصارم المصقولا

ودفعت نفسي للمهالك قائلا

لا عز الا أن تموت قتيلا

لست الحسين وليس حيدرة أبي

ان لم أشق الى الكفاح سبيلا

وأخض غمار الموت يتبع بعضها

بعضا وتعتر السيول سيولا

أأهون والشرف الاصيل يلفني

بردا ويعصب مفرقي اكليلا

وابي علي من تردي بردة

للفخر تلثمها النجوم ذيولا

والام فاطمة التي في القرط من

عرش المهيمن كانت القنديلا

وأنا الذي هز الملائك مهده

ولظهر احمد كم غدا محمولا

٢٧٣

ولكم تنشق وفرتي ريحانة

طه وقبل مبسمي تقبيلا

أحسين للدين الحنيف وللابا

وكلاهما لك قد غدا مكفولا

جردت عزمك ثائرا وشحذته

سيف أغر وساعدا مفتولا

فوقفت اذ عبس الفوارس باسما

وتهز فيها الصارم المصقولا

لله وقفتك التي كم للورى

أدهشت البابا بها وعقولا

وله من قصيدة نبوية قال في أولها:

صفاك ربك واصطفاك نذيرا

يا من بطلعتك الوجود أنيرا

هي دفقة للنور من بحر السنا

رحب الفضاء بها غدا مغمورا

هي قبسة ممن تجلى نوره

للطور من سينا فدك الطورا

ولدتك آمنة الفخار مباركا

ومطيبا ومطهرا تطهيرا

وحواك منها حجر أكرم حرة

واذا النساء كرمن طبن حجورا

وله أيضا في مدح الرسول الأعظم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بالكتاب المنير أحمد جاءا

معجزا مفحما به البلغاءا

فيه تبيان كل شيء واحصت

آية كل حكمة احصاءا

ولما في الصدور فيه شفاء

حينما جهلها يكون الداءا

جاءنا بالهدى رسول أمين

خاتما رسل ربه الامناءا

جاء كالبدر جاء والليل داج

يتجلى فمزق الظلماءا

وله أيضا في مدح أمير المؤمنين عليعليه‌السلام

مضى طه وقام وصي له

مديرا من شريعته رحاها

وفوق منصة الاحكام منها

علي قد تربع واعتلاها

ففاضت ثم فاضت ثم فاضت

ركي الفضل طافحة دلاها

فلو وردته عطشى الخلق طرا

لروى من منابعه ظماها

له من فوق منبره سلوني

سلوني هل بها الاه فاها

وله أيضا في مدح أمير المؤمنين عليعليه‌السلام

ولاؤك حصني يا علي وجنتي

اذا قصرت يوم القيامة حجتي

أفي النار ترضى أن يزج معذبا

وليك لا يشتم روحا لجنة

٢٧٤

وحبك منه خامر اللحم وهو في

غشا الرحم في دور اختباء الاجنة

واذ ألقمتني ثديها الام في اللبا

تذوقته منه لاول رشفة

ببابك حط الرحل مولاك عالما

بأنك يا مولى الورى باب حطة

وله أيضا في مدح أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :

هي بيعة لك يا علي اقامها

خير الانام بمشهد الاملاء

يوم الغدير اذ الحجيج معرس

فيما أحاط به من الصحراء

وله أقيم من الحلائج منبر

يحنو عليه الدوح بالافناء

حيث الهواجر قد ذكت نيرانها

والرمل متقد بحر ذكاء

فعلاه خير المرسلين محمد

وأتى بتلك الخطبة العصماء

فصل في الالهيات ارجوزة له ايضا تشتمل على مأة واربع وعشرين بيتا

المبدأ الفياض رب الجود

هو القديم الواجب الوجود

شاء فكان عالم التكوين

مسخرا لكافه والنون

أبدع ما أبدع من صنيعه

فجاءت الدهشة من جميعه

هذي السما تبنى على غير عمد

وهذه الارض على الريح تمد

وهذه الشمس وهذا القمر

كلاهما في سيره مسخر

وله ايضا

بك آمنت يا قديم الوجود

يا من الكون منه رشحة جود

منك فاض الشعور في كل حي

وتمشى النمو في كل عود

منك زهر النجوم شعت ضياء

وبدا الصبح ضاربا بعمود

وتجلت ذكاء ناشرة النو

ر على الارض سهلها والنجود

أنت سخرتها طلوعا أفولا

كلما أدبرت لها قلت عودي

وله ايضا

يا واهب الكون منه أجمل الصور

ويا منوره بالشمس والقمر

ويا مرصع آفاق السماء بما

يبدو خلال الدجى من أنجم زهر

٢٧٥

يا من أدار بها الافلاك دائبة

ولو أراد لها التعطيل لم تدر

يا من بنى فوقنا السبع العلى ودحى

من تحتنا الارض مرساة بلا جذر

يا مرسل الريح يجريها مسخرة

بأمره فهي مهما سيرت تسر

وله أيضا في العقل

هو العقل للانسان أشرف ما فيه

سراج هدى في حالك الجهل يهديه

له الصدر بيت والفؤاد زجاجة

اذا ما صفت شع السنا من نواحيه

يزيد بنور العلم نورا وتستقي

ذبالته من زيته ما يغذيه

هو العلم معراج السعادة للفتى

تبلغه أسمى الكمال مراقيه

به يكبر الانسان روعة كونه

وما من جمال فيه أودع منشيه

وله أيضا

يا واهب العقل هذا العقل برهان

عليك أن طلب البرهان حيران

عداه عما يرى في الكون من نظم

تمت فما ان عراها قط نقصان

هذي السماوات والافلاك دائرة

فيها فليس لها يختل ميزان

تجري كواكبها فيها على نسق

فكل جار له في جريه شان

كل له منزل يأبى تعديه

الى سواه وفوق الكل سلطان

وله ايضا

أتخفى وهذا النور يا رب سافر

لوجهك عنا لا يواريه ساتر

لان كنت بالابصار ربي لا ترى

فما قصرت عن أن تراك البصائر

فأنت الذي عين الشهود خفاؤه

وأنت الهي في بطونك ظاهر

كم الفيلسوف استفرغ الوسع

طالبا لذاتك تحليلا اذا هو قاصر

أتى حائما حول الحمى كي ينيله

ولوجا وأنهى عمره وهو حائر

وله أيضا

العلم حيث يكون علما نافعا

هو ما يقارن صالح الاعمال

واذا هما افترقا فأعلم عالم

متبحر هو أجهل الجهال

٢٧٦

ولكم نرى من عالم فاق الورى

بالجاه أصبح مغرما بالمال

يسعى وراءهما واكبر مدهش

ولع المريض بدائه القتال

يا حامل المشعال كي يهدي الورى

اتغض طرفك عن سنا المشعال

وله ايضا في المواعظ

عظ منك نفسك قبل ان تعظ الورى

أولا فخل لمن سواك المنبرا

اتقول سيروا للأمام وأنت من

يمشي ويرجع للوراء القهقرى

والماء اما لوثته نجاسة

فمن النجاسة هل يكون مطهرا

فتحر أول أن تكون محررا

وهنا يحق بأن تقوم محررا

أهواك تعبد ثم عن أن يعبدوا

أهواءهم لهموا تجيء محذرا

وله أيضا

حاسب النفس قبل يوم الحساب

وتأهب لرحلة واغتراب

سفر شاسع ومرمى بعيد

وهبوط الى محل خراب

وسؤال من منكر ونكير

أفهل أنت ناهض بالجواب

وكتاب في الحشر تلقاه منثو

را فماذا أنت صانع بالكتاب

حين تبدو لك الصحائف سودا

اكسبتها الذنوب لون الغراب

وله أيضا ارجوزة

على بني العلم اتباع الرسل

في صالح القول وحسن العمل

وفي الرياضات لهذي الانفس

كيما تفوز بالثمين الانفس

من جوهر القدس ومن در الصفا

وحسبها ذانك حليا وكفى

بذاك ترقى سلم السعادة

وتبلغ الاوج من السيادة

اذ انهم كنخسة عنهم بدل

أو مثل أقرب شيء من مثل

قال يذكر المخدرة زينب بنت أمير المؤمنين علي ومحنتها بعد قتل أخيها الحسين

يا ربة الخدر ما لاقيت من خجل

عصر الطفوف وما عانيت من وجل

اذ الكفيل مضى والرحل صيح به

نهبا وجردت من حلي ومن حلل

٢٧٧

ماذا دهاك ابنة الزهرا فانت على

ذعر تراكضت في البيدا على عجل

وما عداك وقار من أبي حسن

ولا شمائل طاها سيد الرسل

دهاك والله ان الخيل ضابحة

جاست خلال الحمى من سائر السبل

وغودرت جنبات الربع خالية

من كل ذي نجدة يحميك بالاسل

٢٧٨

أنور العطّار

المتوفى ١٣٩٢

انت في العين دمعة الكبرياء

يا علاءا أزرى بكل علاء

لا أناجيك بالمدامع تهمى

انت أسمى من الاسى والبكاء

ما غناء الدموع في موقف جل

عن النوح والشجى والرثاء

لست في مأتم تغص به الار

ض فتبكي له عيون السماء

لست في الهم عاصفا يذر

الانفس مرعى مهدودة الاشلاء

انما أنت فكرة ومثال

للعلى والمروءة السمحاء

نسجت حولك البطولة رمزا

وارتوت منك دوحة الشهداء

أي معنى سكبت في اذن

الخلد فظلت تعج بالاصداء

مطمح انت في العلاء بعيد

واباء أعظم به من اباء

تمتطي الهول مركبا غير هيا

ب صروف الدجنة السوداء

السجايا الوضاء فيك ابتداع

واحنيني الى السجايا الوضاء

ضمنت منك مهجة تسع الخير

ونفسا تموج بالاضواء

وعزوفا عن الدنايا وكبرا

ومضاءا ما بعده مضاء

وثباتا على العقيدة وقفا

لم يزل آية على الآناء

وهي النفس ان تثر تركب

الصعب وتزحم مناكب الجوزاء

يا مثال الجهاد يا صورة البأس

ويا غاية الندى والسخاء

لذ في ذكرك السني قريضي

وحلا باسمك الحبيب ندائي

يا رجائي يا باني المثل العليا

بناء ما مثله من بناء

أيها الموقظ النفوس من الظلم

ومردي جحافل البغضاء

انفح الكون بالعظائم تترى

فالعظيمات نفحة العظماء

علم العرب كيف يستسهل الموت

ذيادا عن فكرة علياء

علم العرب كيف يقضى على

البغي دفاعا عن عزة قعساء

علم العرب كيف يرتخص البذل

ويحلو الفداء اثر الفداء

علم العرب كيف يحمى حمى

الحق ويرعى بمائج من دماء

٢٧٩

يا رفاتا تضوع المسك منه

فسرى الطيب في مدى الارجاء

عبقت منه جنة الخلد حتى

فغم العطر عالم السعداء

التقيون من شذاه نشاوى

والنبيون منه في ايحاء

يا طرازا من المروءة سمحا

فاض بالمكرمات والآلاء

صورة انت للعلى وكتاب

ليس يبلى، وعالم من ثناء

رددته الاحقاب جيلا فجيلا

وروته قيثارة الانباء

وتغنت به الليالي هياما

فهي منه في رفعة وازدهاء

بابي انت يا حسين وأمي

يا نشيدي على المدى وغنائي

منك صغت الشعور لحنا جديدا

وتفردت في بديع أدائي(١)

كان يسمى بشاعر الشباب متأثر بالديباجة البحترية والمدرسة الشامية في الشعر قال يصف خواطره في مقدمة ديوانه (ظلال الايام).

غفلت عني المنون فغنيت

ولحن الحياة لحن قصير

وبنفسي قيثارة تتشكى

وانا الدمع والاسى والشعور

قصد العراق استاذا في معاهدها العلمية واحتضنته ظلال الرافدين كما احتضنت غيره من أبناء العروبة يوم ان كانت نيران الاستعمار الفرنسي تلهب سماء دمشق نارا وسجنا وتعذيبا ونفيا. حل في بغداد عام ١٩٣٦ شاعر الشباب السوري انور العطار منتدبا من وزارة المعارف العراقية ليكون استاذا في معاهدها لتدريس الادب العربي، وأوحت له بغداد ودجلتها الكثير من القصائد الرقيقة ومنها قصيدته (دجلة في الليل) ذات الوزن الرقيق والتصوير اللطيف، تبدو فيها اللوحات الخيالية قال فيها:

اسكب النور يا قمر

واغمر النهر بالصور

وأذع فرحة الهوى

وأشع لذة السمر

يتصباني النخيل

ويغريني النهر

في ثناياه صورة

حلوة كلها سير

__________________

١ - ذكرى أبي الشهداء.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320