ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام

ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام18%

ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام مؤلف:
المحقق: محمد جعفر الطبسي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 303

ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127775 / تحميل: 6763
الحجم الحجم الحجم
ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام

ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بعد ذلك تبيّن الآية الكريمة دوافع هذا الاستهزاء ، فتذكر أنّ هذه الجماعة إنّما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

* * *

الأذان شعار اسلامي كبير :

إنّ لكل أمّة ـ في أي عصر أو زمان كانت ـ شعار خاص بها تنادي به أفرادها وتستحث به همهم للقيام بواجباتهم الفردية والاجتماعية ، ويشاهد هذا الأمر في عالمنا الحاضر بصورة أوسع.

فالمسيحيون ينادون قومهم ويدعونهم لحضور الصّلاة في الكنائس بدق الناقوس وهذه هي طريقتهم وشعارهم سابقا وحاضرا.

والإسلام جاء بالأذان شعارا لدعوة المسلمين ، حيث يعتبر هذا الشعار أكثر تأثيرا وجاذبية في نفوس الناس قياسا بشعارات الديانات والأمم الأخرى ، فقد ذكر صاحب تفسير (المنار) أنّ بعض المسيحيين المتطرفين حين يستمعون إلى أذان المسلمين لا يجدون بدأ من يعترفوا بتأثيره المعنوي العظيم في نفوس سامعيه ، وينقل صاحب المنار ـ أيضا ـ أنّ بعضهم في إحدى مدن مصر شاهد جماعة من النصارى كانوا قد اجتمعوا أثناء أذان المسلمين للاستماع إلى هذا اللحن السماوي.

فأي شعار أقرب إلى الذوق وآنس إلى الأسماع من شعار يبدأ بذكر اسم الله ويشهد بتوحيده ووحدانيته وبنبوة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدعو إلى الفلاح والعمل الصالح ، وينتهي ـ كذلك ـ بذكر الله!! فبدايته اسم «الله» وختامه اسم (الله) في جمل موزونةمتناغمة ، ذات عبارات قصيرة واضحة المعنى وذات محتوى تربوي بنّاء.

ولذلك أكّدت الرّوايات الإسلامية كثيرا على ضرورة أداء الأذان ، فقد ورد

__________________

أشير إليها سابقا ـ صحة الاحتمالين ، لأنّ المنافقين والكفار كانوا يستهزئون بالآذان والصّلاة معا ، لكن ظاهر الآية يعزز الاحتمال الأوّل ، أي أن الضمير يعود على الصّلاة.

٦١

عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث معروف في هذا المجال ، أنّه قال : المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة(1) وهذا العلو هو نفس علو منزلة القيادة التي تدعو الناس إلى الله وإلى عبادة كالصّلاة.

إنّ صوت الأذان الذي ينطلق في أوقات الصّلاة من مآذن المدن الإسلامية بمثابة نداء الحرية والنسيم الذي يهب الحياة لروح الاستقلال والمجد ، ويدغدغ أذان المسلمين الأبرار ويثير الرعب والخوف في نفوس الأعداء الحاقدين ، ويعتبر رمزا من رموز بقاء الإسلام ، والدليل على هذا الأمر اعتراف أحد رجالات انجلترا المعروفين الذي قال أمام جمع من المسيحيين : ما دام اسم النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفع على المآذن ، وما دامت الكعبة باقية وما دام القرآن يهدي ويوجه المسلمين ، فلا يمكن أن تترسخ قواعد سياسة الإنجليز في الأراضي الإسلامية(2) .

وبالرّغم من ذلك فانّ بعض المسلمين البؤساء أزاحوا مؤخرا هذا الشعار الإسلامي العظيم ـ الذي هو سند ومستمسك حيّ على صمود ومقاومة دينهم وثقافتهم على مر العصور ـ من إذاعاتهم ووضعوا مكانه برامج رخيصة ، نسأل الله أن يهدي هؤلاء للعودة إلى صفوف المسلمين.

ومن الطبيعي أنّ الأذان ـ لفحواه ومحتواه الجميل البديع ـ يحتاج أدائه إلى صوت مقبول ، لكي لا يشوّه الأداء غير المستساغ هذا المحتوى الجميل الجذاب.

نزول الأذان وحيا على النّبي :

وردت في بعض الرّوايات المنقولة من طرق أهل السنة قصص غريبة حول تشريع الأذان لا تتناسب ولا تتلاءم مع المنطق الإسلامي ، وممّا نقلوا في هذا الباب أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن سأله أصحابه عن إيجاد طريقة لمعرفة أوقات الصّلاة ،

__________________

(1) الوسائل : ج 5 ، ص 376 ، باب 2 ، ح 21.

(2) صاحب هذا القول «كلودستون» الذي يعتبر من السياسيين المتفوقين في عصره.

٦٢

استشار الصحابة ، فقدم كل منهم اقتراحا ، ومن ذلك رفع علم خاص في أوقات الصّلاة أو إشعال نار ، أو دق ناقوس ، لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوافق على أي من هذه الاقتراحات ، ثمّ أن عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب ـ رأيا في المنام ـ شخصا يأمرهما بأداء الأذان لإعلان وقت الصّلاة ، وعلمهما كيفية هذا الأذان ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك(1) .

إنّ هذه الرواية المختلقة تعتبر اهانة لمنزلة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرفيعة ، حيث تدّعي أن النّبي ـ بدلا من أن يعتمد على الوحي ـ استند على حلم رآه أفراد من أصحابه في تشريع الأذان.

والصحيح في هذا الباب ما ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام من أن الأذان نزل وحيا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يحدثنا الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان واضعا رأسه في حجر عليعليه‌السلام حين نزل جبرائيل بالأذان والإقامة ، فعلّمهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رفع النّبي رأسه وسأل عليّا إن كان قد سمع صوت أذان جبرائيل ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب ، فسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة ثانية إن كان قد حفظ ذلك ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب أيضا ـ ثمّ طلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عليعليه‌السلام أن ينادي بلالا ـ الذي كان يتمتع بصوت جيد ـ ويعلمه الأذان والإقامة ، فاستدعى عليعليه‌السلام بلالا وعلمه الأذان والإقامة(2) .

وللاستزادة من التفاصيل في هذا الباب يمكن مراجعة كتاب (النص والاجتهاد) للسيد عبد الحسين شرف الدين ـ ص 128.

* * *

__________________

(1) تفسير القرطبي.

(2) الوسائل ، ج 4 ، ص 612.

٦٣

الآيتان

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(60) )

سبب النّزول

نقل عن عبد الله بن عباس أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يشرح لهم معتقداته ، فأخبرهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يؤمن بالله الواحد الأحد ، ويؤمن بأنّ كل ما نزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هو الحقّ ، وأنّه لا يفرق بين أنبياء الله ، فأجابوه بأنّهم لا يعرفون عيسى ولا يؤمنون بنبوّته ، ثمّ قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لا يعرفون دينا أسوأ من دينه! فنزلت هاتان الآيتان ردّا على هؤلاء الحاقدين.

٦٤

التّفسير

في هذه الآية يأمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين ، وهل أنّ الإيمان بالله الواحد الأحد والإعتقاد بما أنزل على نبي الإسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالاعتراض والانتقاد ، حيث تقول الآية :( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ) (1) .

وتشير هذه الآية ـ أيضا ـ إلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود وتطرفهم غير المبرر ، ونظرتهم الضيقة الآحادية الجانب التي دفعت بهم إلى الاستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم ، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون الحقّ باطلا والباطل حقّا.

وتأتي في آخر الآية عبارة تبيّن علّة الجملة السابقة ، حيث تبيّن أن اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه ، ما هو إلّا لأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب ، ولذلك فهم ـ لانحرافهم وتلوثهم بالآثام ـ يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحقّ حيث تؤكّد الآية :( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) .

وبديهي أنّ المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق ، تنقلب ـ أحيانا ـ بحيث يصبح الحقّ باطلا والباطل حقا ، ويصبح العمل الصالح والإعتقاد النزيه شيئا قبيحا مثيرا للاعتراض والانتقاد ، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئا جميلا جديرا بالاستحسان والمديح ، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن الانغماس في الخطايا والذنوب إلى درجة الإدمان.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب ، وواضح أنّها

__________________

(1) إنّ كلمة «تنقمون» مشتقة من المصدر «نقمة» وتعني في الأصل إنكار شيء معين نطقا أو فعلا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.

٦٥

عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم) في العبارة الأخيرة منها.

الآية الثّانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبيّن أي الفريقين يستحق النقد والتقريع ، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في عصبيتهم.

وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل هؤلاء : هل أنّ الإيمان بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والاعتراض ، أم الأعمال الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟

فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء : إن كانوا يريدون التعرف على أناس لهم عند الله أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال ، حيث تقول :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ ) (1) .

ولا شك أنّ الإيمان بالله وكتبه ليس بالأمر غير المحمود ، وأن المقارنة الجارية في هذه الآية بين الإيمان وبين أعمال وأفكار أهل الكتاب ، هي من باب الكناية ، كما ينتقد انسان فاسد إنسانا تقيا فيسأل الإنسان التقي ردا على هذا الفاسد : أيّهما أسوأ الأتقياء أم الفاسدون.

بعد هذا تبادر الآية إلى شرح الموضوع ، فتبيّن أنّ أولئك الذين شملتهم لعنة الله فمسخهم قرودا وخنازير ، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام ، إنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعا أسوأ من هذا الوضع ، لأنّهم ابتعدوا كثيرا عن طريق الحقّ وعن جادة الصواب ، تقول الآية الكريمة :( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ

__________________

(1) إن كلمة (مثوبة) وكذلك كلمة (ثواب) تعنيان ـ في الأصل ـ الرجوع أو العودة إلى الحالة الأولى ، كما تطلقان ـ أيضا ـ لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن ، وأحيانا تستخدم كلمة (الثواب) بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.

٦٦

وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) (1) .

وسنتطرق إلى معنى المسخ الذي يتغير بموجبه شكل الإنسان ، وهل أنّ هذا التغير في الشكل يشمل صورته الجسمية ، أم المراد التغير الفكري والأخلاقي؟

وذلك عند تفسير الآية (163) من سورة الأعراف ، وبصورة مفصلة بإذن الله.

* * *

__________________

(1) إنّ كلمة (سواء) تعني في اللغة (المساواة والاعتدال والتساوي) وان وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية :( سَواءِ السَّبِيلِ ) لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأن طرفيه متساويان وممهدان ، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالاعتدال وتخلو من الانحراف ، ويجب الانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارة( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) عطف على جملة( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ) وكلمة (عبد) فعل ماض وليست صيغة جمع لعبد مثلما احتمله البعض من المفسّرين وإطلاق تسمية( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على أهل الكتاب ، إمّا أن يكون إشارة إلى عبادة العجل من قبل اليهود ، أو إشارة إلى انقياد أهل الكتاب الأعمى لزعمائهم وكبارهم المنحرفين.

٦٧

الآيات

( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) )

التّفسير

الآية الاولى من هذه آيات الثلاث ـ واستكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين ـ تكشف عن ظاهرة الازدواجية النفاقية عند هؤلاء ، وتنبّه المسلمين إلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر ، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم ، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أي أثر يذكر ، تقول الآية الكريمة :( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) ولذلك يجب على المسلمين أن لا ينخدعوا بهؤلاء الذين يتظاهرون بالحقّ والإيمان ،

٦٨

ويبدون القبول لأقوال المسلمين رياء وكذبا.

وتؤكّد الآية أنّ المنافقين مهما تستروا على نفاقهم ، فإنّ الله يعلم ما يكتمون.

ثمّ تبيّن الآية الأخرى علائم من نوع آخر للمنافقين ، فتشير إلى أنّ كثيرا من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام ، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول الآية :( وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) (1) أي أن هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم ، وكأنّهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد ، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ كلمة «إثم» قد وردت بمعنى (الكفر) كما وردت لتعني جميع أنواع الذنوب أيضا ، وبما أنّها اقترنت في هذه الآية بكلمة (العدوان) قال بعض المفسّرين : أنّها تعني الذنوب التي تضرّ صاحبها فقط ، على عكس العدوان الذي يتعدى طوره صاحبه إلى الآخرين ، كما يحتمل أن يكون مجيء كلمة (العدوان) بعد كلمة (الإثم) في هذه الآية ، من باب ما يصطلح عليه بذكر العام قبل الخاص ، وأن مجيء كلمة «السحت» بعدهما هو من قبيل ذكر الأخص.

وعليه فالقرآن قد ذم المنافقين ، أوّلا لكل ذنب اقترفوه ، ثمّ خصص ذنبين كبيرين لما فيهما من خطر ـ وهما الظلم وأكل الأموال المحرمة ، سواء كانت ربا أم رشوة أم غير ذلك.

وخلاصة القول أن القرآن الكريم قد ذم هذه الجماعة من المنافقين من أهل الكتاب ، لوقاحتهم وصلفهم وتعنتهم في ارتكاب أنواع الآثام وبالأخص الظلم

__________________

(1) لقد بيّنا معنى (السحت) في تفسير الآية (42) من هذه السورة ، وشرحنا معنى (يسارعون) في تفسير الآية (41) من هذه السورة أيضا ، في هذا الجزء.

أمّا كلمة (إثم) فقد شرحنا معانيها في تفسير الآية (219) من سورة البقرة ، في المجلد الأوّل.

٦٩

وأكل المال الحرام ، ولكي يؤكّد القرآن قبح هذه الأعمال ، قالت الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وتدل عبارة( كانُوا يَعْمَلُونَ ) على أنّ هذه الذنوب لم تكن تصدر عن هؤلاء صدفة ، بل كانوا يمارسونها دائما مع سبق إصرار.

بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على ارتكاب المعاصي بسكوتهم ، فتقول :( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) .

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ كلمة (ربّانيون) هي صيغة جمع لكلمة (ربّاني) المشتقة من كلمة (رب) وتعني العالم أو المفكر الذي يدعو الناس إلى الله ، لكنّها قد أطلقت في كثير من الحالات على علماء المسيحيين ، أي رجال الدين المسيحي.

أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع لكلمة (حبر) وهي تعني العلماء الذين يخلفون أثارا حسنة في المجتمع ، لكنّها أطلقت في موارد كثيرة على رجال الدين اليهود.

أمّا خلو هذه الآية من كلمة (العدوان) التي وردت في الآية قبلها ، فقد استدل بعضهم من ذلك على أن كلمة (الإثم) الواردة هنا تشمل جميع المعاني التي تدخل في إطار هذه الكلمة ومن ضمنها (العدوان).

لقد وردت في هذه الآية عبارة( قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ) التي تختلف عمّا ورد في الآية السابقة ، ولعل هذه إشارة إلى أن العلماء مكلفون بردع الناس عن النطق بما يشوبه الذنب من قول ، كما هم مكلّفون بمنع الناس عن ارتكاب العمل السيء ، ولربّما تكون كلمة (قول) الواردة هنا بمعنى (العقيدة) أي أن العلماء الذين يهدفون إلى إصلاح أي مجتمع فاسد ، عليهم أوّلا أن يصلحوا أو يغيروا المعتقدات الفاسدة التي تشيع في هذا المجتمع ، فما لم يحصل التغيير الفكري لا يمكن توقع حصول اصلاحات جذرية في الجوانب العملية ، وبهذه الصورة تبيّن الآية للعلماء أنّ الثورة

٧٠

الفكرية هي الأساس والمنطلق لكل إصلاح يراد تحقيقه في كل مجتمع فاسد.

وفي الختام ، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي اتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين ، فيذم العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقبح صمتهم هذا ، كما تقول الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلون عن مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة وخاصة إن كانوا من العلماء يكون كمصير أصحاب المعاصي ، وهؤلاء في الحقيقة شركاء في الذنب مع العاصين.

ونقل عن ابن عباس المفسّر المعروف قوله : بأنّ هذه الآية أعنف آية وبخت العلماء المتجاهلين لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي.

وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري ، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد ، ذلك لأنّ حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.

وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في إحدى خطبه ، أنّ سبب هلاك الأقوام السابقة هو ارتكابهم للمعاصي وسكوت علمائهم عليهم وامتناعهم عن النهي عن المنكر فكان ينزل عليهم ـ لهذا السبب ـ البلاء والعذاب من الله ، وأن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لكي لا يتورطوا بمصير أولئك الأقوام(1) .

كما ورد بنفس هذا المضمون كلام للإمام عليعليه‌السلام في (نهج البلاغة) في آخر خطبته القاصعة (الخطبة 192) قولهعليه‌السلام : «فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي ...».

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649.

٧١

ويلفت الانتباه هنا أيضا أنّ الآية السابقة حين كانت تتحدث عن سواد الناس جاءت بعبارة (يعملون) بينما حين صار الحديث في هذه الآية عن العلماء جاءت بعبارة (يصنعون) والصنع هو كل عمل استخدمت فيه الدقة والمهارة ، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتى لو كانت خالية من الدقة ، هكذا فإن هذه العبارة (يصنعون) تتضمن بحدّ ذاتها ذما أكبر ، وذلك لأنّ سواد الناس إن ارتكبوا ذنبا يكون ارتكابهم هذا ـ غالبا ـ بسبب جهلهم ، بينما العالم الذي لا يؤدي واجبه فهو يرتكب إثما عن دراية وعلم وتفكير ، ولهذا يكون عقابه أشد وأعنف من عقاب الجاهل.

* * *

٧٢

الآية

( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) )

التّفسير

تبرز هذه الآية واحدا من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوهون بها ، وقد تطرقت الآية السابقة إليها ـ أيضا ـ ولكن على نحو كلي.

ويتحدث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة السلطة والقدرة ، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة ، ويمكن الاستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية ، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإسلام ، فكان إيذانا بأفول الدولة اليهودية ، وبالأخص في الحجاز ، إذ أدى قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية.

٧٣

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية السابقة ، كانوا يقولون استهزاء وسخرية ـ إنّ يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ بالله) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود! ويقال : أنّ المتفوه بهذا الكلام كان الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع ، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض المفسّرين.

وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء ، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم ، كما تقول الآية :( قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم) ، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية.

ولما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده ، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أخرى.

وتفيدنا الكثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية تشير إلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإرادة ، حيث كانوا يذهبون إلى أنّ الله قد عين كل شيء منذ بدء الخليقة ، وأنّ كل ما يجب أن يحصل قد حصل ، وأنّ الله لا يستطيع من الناحية العملية إيجاد تغيير في ذلك(1) .

وبديهي أنّ تتمة الآية التي تتضمن عبارة( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) ـ كما سيأتي شرحه ـ تؤيد المعنى الأوّل ، كما يمكن أن يقترن المعنى الثّاني بالمعنى الأوّل في مسير واحد ، لأنّ اليهود حين أفل نجم سلطانهم ، كانوا يعتقدون أن هذا الأفول هو مصيرهم المقدر ، وأنّ يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شيء أمام هذا المصير.

والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخا وذما لهم ولمعتقدهم هذا بقوله :( غُلَّتْ

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649 ، تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 486.

٧٤

أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ) ثمّ لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فلا إجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوما بالجبر الطبيعي ولا الجبر التّأريخي ، بل أنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.

والملفت للنظر هنا أنّ اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية موضوع البحث ، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنّى كلمة اليد فقال :( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا للموضوع ، هو كناية لطيفة تظهر عظمة جود الله وعفوه ، وذلك لأنّ الكرماء جدّا يهبون ما يشاءون للغير بيدين مبسوطتين ، أضف إلىذلك أنّ ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة ، أو ربّما يكون إشارة إلى النعم المادية والمعنوية ، أو الدنيوية والأخروية.

ثمّ تشير الآية إلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها الايجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطئ حيث تقول الآية الكريمة :( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) .

بعد ذلك تؤكّد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال ، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا ، من خلال تفشي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة ، فتقول الآية الكريمة :( وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة( الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ) الواردة في هذه الآية ، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الاستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر ، ونظرنا إلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد ، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّأريخي الخاص لهؤلاء ، وهو انعدام الاتحاد والإخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي ، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة

٧٥

والصدق فيما بينهم ، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.

وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشيء من التفصيل عند تفسير الآية (14) من نفس هذه السورة.

وتشير الآية ـ في الختام ـ إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب ، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة ، فتقول( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) .

وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب ، بالإضافة إلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة ، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عونا في كل صراع بحيث أن قريشا كانوا يستمدون العون منهم ، وكان الأوس ، والخزرج يسعى كل منهما إلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري ، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة ـ هذه ـ وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة ، بشكل لم يكن متوقعا لديهم ، فاضطر يهود بني النضير وبني قريظة وبني القينقاع إلى ترك ديارهم ، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين ، وحتى أولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إلى الخضوع أمام عظمة الإسلام ، فهم بالإضافة إلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إلى ترك ميدان النزال والصراع.

ثمّ تبيّن الآية ـ أيضا ـ أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول :( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) وتؤكّد أيضا قائلة :( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) .

ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على

٧٦

أساس عنصري مطلقا ، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إليهم ، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة ، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء ، قد ترك باب التوبة مفتوحا أمامهم.

* * *

٧٧

الآيتان

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) )

التّفسير

بعد أن وجهت الآيات السابقة النقد لنهج وأسلوب أهل الكتاب ، جاءت هاتان الآيتان وفقا لما تقتضيه مبادئ التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب ، لكي يعودوا إلى الطريق القويم ، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه ، ولتثمن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنّها لم تواكب الأكثرية في أخطائها ، فتقول الآية الاولى في البدء :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنّة ونعيمها ، إذ قالت :( وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ، وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.

٧٨

ثمّ تشير الآية الثّانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى ـ في الحياة الدنيوية للإنسان ، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبقوا التّوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجا لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربّهم ، سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن ، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض ، فتقول الآية :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) .

وبديهي أنّ المراد من اقامة التّوراة والإنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر ، ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن.

والمراد بجملة( ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) هو كل الكتب السماوية والأحكام الإلهية ، لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإطلاق ، وهي في الحقيقة إشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية ، فليس المهم كون هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا ، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية ، أي أنّ القرآن أراد أن يطفئ ـ ما أمكنه ذلك ـ نار العصبية القومية عند هؤلاء ، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم ، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي : (إليهم ، من ربّهم ، من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلّا لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم ، ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب ، بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم.

ولا شك أنّ المراد باقامة التّوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما ، لأنّ جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا ـ التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا ـ واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل ، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة

٧٩

لأحكام وردت في شريعة سابقة.

* * *

ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء ، ليس لأعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب ، بل أنّ لها ـ أيضا ـ انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان ، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها ، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والاستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم ، وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة ، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة ، حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم ـ إذا أمعنا النظر جيدا ـ إن لم تكن أكثر حجما من الثروات التي تنفق في سبيل البناء ، فهي ليست بأقلّ منها.

إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية ، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية ، إنّما تشكل جزءا مهما من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته ، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذابا لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟

وجدير بالانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارتي( مِنْ فَوْقِهِمْ ) و( مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) الواردتان في الآية الأخيرة ، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين ، ما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم : (إنّ فلانا غرق في النعمة من قمة رأسه حتى

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قال أهل السير : إنّ حبيبا نزل الكوفة ، وصحب عليّاعليه‌السلام في حروبه كلّها ، وكان من خاصّته وحملة علومه.

وروى الكشي عن فضيل بن الزبير(١) قال : مرّ ميثم التمّار على فرس له فاستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد فتحادثا حتّى اختلف عنقا فرسيهما ، ثمّ قال حبيب : لكأنّي بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق ، قد صلب في حب أهل بيت نبيّه ، فتبقر بطنه على الخشبة. فقال ميثم : وإنّي لأعرف رجلا أحمر له ضفيرتان ، يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه فيقتل ويجال برأسه في الكوفة. ثمّ افترقا ، فقال أهل المجلس : ما رأينا أكذب من هذين. قال : فلم يفترق المجلس حتّى أقبل رشيد الهجريّ فطلبهما ، فقالوا : افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا. فقال رشيد :

رحم الله ميثما نسي ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم. ثمّ أدبر ، فقال القوم : هذا والله أكذبهم. قال : فما ذهبت الأيّام والليالي حتّى رأينا ميثما مصلوبا على باب عمرو بن حريث. وجيء برأس حبيب قد قتل مع الحسينعليه‌السلام ، ورأينا كلّما قالوا(٢) .

وذكر أهل السير : أنّ حبيبا كان ممّن كاتب الحسينعليه‌السلام (٣) .

قالوا : ولمّا ورد مسلم بن عقيل إلى الكوفة ونزل دار المختار وأخذت الشيعة تختلف(٤) إليه ، قام فيهم جماعة من الخطباء تقدمهم عابس الشاكري ، وثنّاه حبيب

__________________

(١) عدّه الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام . راجع رجال الشيخ : ١٤٣ ، الرقم ١٥٤٦ و ٢٦٩ الرقم ٣٨٧٥.

(٢) رجال الكشي : ٧٨ ، الرقم ١٣٣. راجع منتهى المقال في أحوال الرجال ٢ / ٣٢٨.

(٣) راجع الإرشاد : ٢ / ٣٧ ، والكامل : ٤ / ٢٠.

(٤) راجع الإرشاد : ٢ / ٤١ ، واللهوف : ١٠٨ ، والكامل : ٤ / ٢٢ ، والأخبار الطوال : ٢٣١. وفي مقاتل الطالبيين ، ١٠٠ : نزل مسلم دار هاني بن عروة المرادي.

١٠١

فقام وقال لعابس بعد خطبته : رحمك الله لقد قضيت ما في نفسك بواجز من القول وأنا والله الذي لا إله إلاّ هو لعلى مثل ما أنت عليه.

قالوا : وجعل حبيب ومسلم(١) يأخذان البيعة للحسينعليه‌السلام في الكوفة حتّى إذا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة وخذّل أهلها عن مسلم وفرّ أنصاره حبسهما عشائرهما وأخفياهما ، فلمّا ورد الحسين كربلا خرجا إليه مختفيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتّى وصلا إليه.

وروى ابن أبي طالب أنّ حبيبا لمّا وصل إلى الحسينعليه‌السلام ورأى قلّة أنصاره وكثرة محاربيه ، قال للحسين : إنّ هاهنا حيّا من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك ، لعلّ الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك. فأذن له الحسينعليه‌السلام فسار إليهم حتّى وافاهم فجلس في ناديهم ووعظهم ، وقال في كلامه : يا بني أسد ، قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه ، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين ، وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه ، فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ، فو الله لئن نصرتموه ليعطينّكم الله شرف الدنيا والآخرة ، وقد خصصتكم بهذه المكرمة ، لأنّكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس منّي رحما. فقام عبد الله بن بشير الأسدي وقال : شكر الله سعيك يا أبا القاسم ، فو الله لجئتنا بمكرمة يستأثر بها المرء الأحب فالأحب ، أمّا أنا فأوّل من أجاب ، وأجاب جماعة بنحو جوابه فنهدوا مع حبيب ، وانسلّ منهم رجل فأخبر ابن سعد ، فأرسل الأزرق في خمسمائة فارس فعارضهم ليلا ومانعهم فلم يمتنعوا فقاتلهم ، فلمّا علموا أن لا طاقة لهم بهم تراجعوا في ظلام الليل وتحمّلوا عن منازلهم. وعاد حبيب إلى الحسينعليه‌السلام فأخبره بما كان. فقالعليه‌السلام :( وَما

__________________

(١) المقصود هنا هو : مسلم بن عوسجةرحمه‌الله .

١٠٢

تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله(١) .

وذكر الطبري : أنّ عمر بن سعد لمّا أرسل إلى الحسينعليه‌السلام كثير بن عبد الله الشعبي وعرفه أبو ثمامة الصائدي فأعاده أرسل بعده ( قرّة بن قيس الحنظلي )(٢) فلمّا رأه الحسينعليه‌السلام مقبلا قال : أتعرفون هذا؟ فقال له حبيب : نعم ، هذا رجل تميمي من حنظلة وهو ابن أختنا ، وقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد ، قال : فجاء حتّى سلّم على الحسينعليه‌السلام وأبلغه رسالة عمر ، فأجابه الحسينعليه‌السلام ، قال : ثمّ قال له حبيب : ويحك يا قرّة أين ترجع ، إلى القوم الظالمين؟ انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيّدك الله بالكرامة وإيّانا معك ، فقال له قرّة : أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي(٣) .

وذكر الطبري أيضا قال : لمّا نهد القوم إلى قتال الحسينعليه‌السلام قال له العبّاس : يا أخي أتاك القوم ، قال : اذهب إليهم وقل لهم ما بدا لكم؟ فركب العبّاس وتبعه جماعة من أصحابه فيهم حبيب بن مظهّر ، وزهير بن القين ، فسألهم العبّاس فقالوا : جاء أمر الأمير بالنزول على حكمه أو المنازلة ، فقال لهم : لا تعجلوا حتّى أخبر أبا عبد الله ثمّ ألقاكم. فذهب إلى الحسينعليه‌السلام ووقف أصحابه ، فقال حبيب لزهير : كلّم القوم إذا شئت. فقال له زهير : أنت بدأت بهذا فكلّمهم أنت. فقال لهم حبيب : معاشر القوم إنّه والله لبئس القوم عند الله غدا قوم يقدمون على الله ، وقد قتلوا ذريّة نبيّه ، وعترته وأهل بيته ، وعباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار ، والذاكرين الله كثيرا. فقال له

__________________

(١) تسلية المجالس : ٢ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، راجع البحار : ٤٤ / ٣٨٦ ، الباب ٣٧. والآية في سورة الإنسان / ٢٩.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٣١١.

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ٣١٤.

١٠٣

عزرة بن قيس : إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت(١) . فأجابه زهير بما يأتي.

وروى أبو مخنف : أنّ الحسينعليه‌السلام لمّا وعظ القوم بخطبته التي يقول فيها : « أمّا بعد ، فانسبوني من أنا وانظروا » إلى آخر ما قال. اعترضه شمر بن ذي الجوشن فقال :

هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول ، فقال حبيب : أشهد أنّك تعبد الله على سبعين حرفا ، وأنّك لا تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك ، ثمّ عاد الحسينعليه‌السلام إلى خطبته(٢) .

وذكر الطبري(٣) وغيره(٤) أنّ حبيبا كان على ميسرة الحسينعليه‌السلام وزهيرا على الميمنة وأنّه كان خفيف الإجابة لدعوة المبارز ، طلب سالم مولى زياد ويسار مولى ابنه عبيد الله مبارزين وكان يسار مستنتل أمام سالم فخفّ إليه حبيب وبرير فأجلسهما الحسين. وقام عبد الله بن عمير الكلبي فأذن له كما سيأتي.

قالوا : ولمّا صرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الحسينعليه‌السلام ومعه حبيب ، فقال حبيب عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة. فقال له مسلم قولا ضعيفا : بشّرك الله بخير. فقال حبيب : لو لا أنّي أعلم أنّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصي إليّ بكلّ ما أهمّك حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت له أهل من الدين والقرابة. فقال له : بلى أوصيك بهذا رحمك الله ، وأومأ بيديه إلى الحسينعليه‌السلام أن تموت دونه ، فقال حبيب : أفعل وربّ الكعبة(٥) .

قالوا : ولمّا استأذن الحسينعليه‌السلام لصلاة الظهر وطلب منهم المهلة لأداء الصلاة قال

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٣١٤.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٣١٩ بتفاوت في النقل ، راجع الإرشاد : ٢ / ٩٨.

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ٣١٩.

(٤) راجع الإرشاد : ٢ / ٩٥ ، والأخبار الطوال : ٢٥٦.

(٥) الإرشاد : ٢ / ١٠٣ ، اللهوف : ١٦٢ ، الكامل : ٤ / ٦٨.

١٠٤

له الحصين بن تميم : إنّها لا تقبل منك! فقال له حبيب : زعمت لا تقبل الصلاة من آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقبل منك يا حمار! فحمل الحصين وحمل عليه حبيب ، فضرب حبيب وجه فرس الحصين بالسيف فشبّ به الفرس ووقع عنه فحمله أصحابه واستنقذوه(١) .

وجعل حبيب يحمل فيهم ليختطفه منهم وهو يقول :

أقسم لو كنّا لكم أعدادا

أو شطركم ولّيتم أكتادا

يا شرّ قوم حسبا وآدا

ثمّ قاتل القوم فأخذ يحمل فيهم ويضرب بسيفه وهو يقول :

أنا حبيب وأبي مظهّر

فارس هيجاء وحرب تسعر

أنتم أعد عدّة وأكثر

ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حجّة وأظهر

حقّا وأتقى منكم وأعذر

ولم يزل يقولها حتّى قتل من القوم مقتلة عظيمة ، فحمل عليه بديل بن صريم العقفاني فضربه بسيفه ، وحمل عليه آخر من تميم فطعنه برمحه فوقع ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فسقط ، فنزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه ، فقال له الحصين : إنّي شريكك في قتله. فقال الآخر : والله ما قتله غيري. فقال الحصين : أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي كيما يراه الناس ويعلموا أنّي شركت في قتله ، ثمّ خذه أنت فامض به إلى عبيد الله بن زياد فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إيّاه ، فأبى عليه فأصلح قومهما فيما بينهما على ذلك ، فدفع إليه رأس حبيب فجال به في العسكر قد علّقه بعنق فرسه ، ثمّ دفعه بعد ذلك إليه فأخذه فعلّقه في لبان فرسه ، ثمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر فبصر به ابن حبيب القاسم وهو يومئذ قد راهق ، فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلّما دخل القصر دخل معه ، وإذا خرج خرج معه

__________________

(١) الكامل : ٤ / ٧٠.

١٠٥

فارتاب به ، فقال : ما لك يا بنيّ تتبعني؟ قال : لا شيء ، قال : بلى يا بني فأخبرني ، قال : إنّ هذا رأس أبي أفتعطينيه حتّى أدفنه؟ قال : يا بني لا يرضى الأمير أن يدفن ، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا. فقال القاسم : لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب ، أم والله لقد قتلته خيرا منك ، وبكى ثمّ فارقه ، ومكث القاسم حتّى إذا أدرك لم تكن له همّة إلاّ اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه ، فلمّا كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجميرا دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه ، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرّته ، فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتّى برد(١) .

وروى أبو مخنف : أنّه لمّا قتل حبيب بن مظهّر هدّ ذلك الحسينعليه‌السلام وقال : « عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي »(٢) .

وفي ذلك أقول :

إن يهدّ الحسين قتل حبيب

فلقد هدّ قتله كلّ ركن

بطل قد لقى جبال الأعادي

من حديد فردّها كالعهن

لا يبالي بالجمع حيث توخّى

فهو ينصبّ كانصباب المزن

أخذ الثأر قبل أن يقتلوه

سلفا من منية دون منّ

قتلوا منه للحسين حبيبا

جامعا في فعاله كلّ حسن

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

( مظهّر ) : بضم الميم وفتح الظاء المعجمة بزنة محمّد على الأشهر ، ويضبط بالطاء

__________________

(١) الكامل : ٤ / ٧١.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٢٧ ، راجع الكامل : ٤ / ٧١.

١٠٦

المهملة في بعض الأصول ، ويمضى على الألسن وفي الكتب مظاهر ، وهو خلاف المضبوط قديما.

( نهد ) : نهض. ( ظهرانيكم ) : يقال : هو بين ظهرانيكم وبين ظهريكم وبين أظهركم ، فالأولى بفتح النون ولا تكسر ، والثانية بصورة التثنية كالأولى ، والثالثة بصورة الجمع ، كلّ ذلك بمعنى في وسطكم وبين معظمكم.

( مستنتل ) : بالميم والسين والنون بين التائين المثنّاتين فوق بمعنى متقدّم عليه.

( أكتادا ) : جمع كتد وهو : مجتمع الكتفين من الإنسان وغيره.

( آد ) : في قوله : ( حسبا وآدا ) : بمعنى القوة.

( العقفاني ) : بالعين المهملة والقاف والفاء نسبة إلى عقفان بضم العين حي من خزاعة.

( باجميرا ) : بالباء المفردة والجيم المضمومة والميم المفتوحة والياء المثنّاة تحت والراء المهملة والألف المقصورة ، موضع من أرض الموصل كان مصعب بن الزبير يعسكر به في محاربة عبد الملك بن مروان حين يقصده من الشام أيّام منازعتهما في الخلافة.

مسلم بن عوسجة الأسدي (١)

هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة ، أبو حجل الأسدي السعدي ، كان رجلا شريفا سريا عابدا متنسكا.

__________________

(١) عدّه الشيخ الطوسي في أصحاب الحسينعليه‌السلام . راجع رجال الشيخ : ١٠٥.

١٠٧

قال ابن سعد في طبقاته(١) : وكان صحابيّا ممّن رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وروى عنه الشعبي. وكان فارسا شجاعا ، له ذكر في المغازي والفتوح الإسلاميّة ، وسيأتي قول شبث فيه.

وقال أهل السير : إنّه ممّن كاتب الحسينعليه‌السلام من الكوفة ووفى له ، وممّن أخذ البيعة له عند مجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة.

قالوا : ولمّا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة وسمع به مسلم خرج إليه ليحاربه ، فعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد ، ولأبي ثمامة على ربع تميم وهمدان ، ولعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وللعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة ، فنهدوا إليه حتّى حبسوه في قصره ، ثمّ إنّه فرّق الناس بالتخذيل عنه فخرج مسلم من دار المختار التي كان نزلها إلى دار هاني بن عروة ، وكان فيها شريك بن الأعور كما قدّمنا ذلك ، فأراد عبيد الله أن يعلم بموضع مسلم فبعث معقلا مولاه وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يستدلّ بها على مسلم ، فدخل الجامع وأتى إلى مسلم بن عوسجة فرآه يصلّي إلى زاوية فانتظره حتّى انفتل من صلاته فسلّم عليه ثمّ قال : يا عبد الله إنّي امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع وقد منّ الله عليّ بحب هذا البيت وحبّ من أحبّهم فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنّه قدم الكوفة يبايع لابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يدلّني أحد عليه ، فإنّي لجالس آنفا في المسجد إذ سمعت نفرا يقولون : هذا رجل له علم بأهل هذا البيت ، فأتيتك لتقبض هذا المال وتدلّني على صاحبك فأبايعه وإن شئت أخذت البيعة له قبل لقائه ، فقال له مسلم بن عوسجة : أحمد الله على لقائك إيّاي فقد سرّني

__________________

(١) لم أعثر عليه في الطبقات الكبرى ، وأورده الجزري في أسد الغابة : ٤ / ٢٦٤ بعنوان مسلم أبو عوسجة ، وابن حجر في الإصابة : ٦ / ٩٦ ، الرقم ٧٩٧٨.

١٠٨

ذلك لتنال ما تحبّ ولينصر الله بك أهل بيت نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقد ساءتني معرفتك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته. ثمّ إنّه أخذ بيعته قبل أن يبرح وحلّفه بالأيمان المغلّظة ليناصحنّ وليكتمن فأعطاه ما رضي ، ثمّ قال له : اختلف إليّ أيّاما حتّى أطلب لك الإذن ، فاختلف إليه ثمّ أذن له فدخل ، ودلّ عبيد الله على موضعه ، وذلك بعد موت شريك(١) .

قالوا : ثمّ إنّ مسلم بن عوسجة بعد أن قبض على مسلم وهاني وقتلا اختفى مدّة ثمّ فرّ بأهله إلى الحسين فوافاه بكربلاء وفداه بنفسه.

وروى أبو مخنف عن الضحّاك بن عبد الله الهمداني المشرقي : أنّ الحسين خطب أصحابه فقال في خطبته : « إنّ القوم يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا ، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي » فقال له أهله وتقدّمهم العبّاس بالكلام : لم نفعل ذلك!؟ لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبدا. ثمّ قام مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلّي عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقّك!؟ أم والله لا أبرح حتّى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولا أفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك ، ثمّ تكلّم أصحابه على نهجه(٢) .

قال الشيخ المفيد : ولمّا أضرم الحسينعليه‌السلام القصب في الخندق الذي عمله خلف البيوت مرّ الشمر فنادى : يا حسين أتعجّلت بالنار قبل يوم القيامة؟ فقال له الحسين :

« يا ابن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليّا » ، فرام مسلم بن عوسجة أن يرميه فمنعه الحسينعليه‌السلام عن ذلك ، فقال له مسلم : إنّ الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارين ،

__________________

(١) راجع الأخبار الطوال : ٢٣٥ ، الكامل : ٤ / ٢٥ ، الإرشاد : ٢ / ٤٥ ، مقاتل الطالبيين : ص ١٠٠.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٣١٥ ، الكامل : ٤ / ٥٨ ، الإرشاد : ٢ / ٩٢.

١٠٩

وقد أمكن الله منه ، فقال الحسينعليه‌السلام : « لا ترمه فإنّي أكره أن أبدأهم في القتال »(١) .

وقال أبو مخنف : لمّا التحم القتال حملت ميمنة ابن سعد على ميسرة الحسين ، وفي ميمنة بن سعد عمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وفي ميسرة الحسين زهير بن القين ، وكانت حملتهم من نحو الفرات فاضطربوا ساعة ، وكان مسلم بن عوسجة في الميسرة ، فقاتل قتالا شديدا لم يسمع بمثله ، فكان يحمل على القوم وسيفه مصلت بيمينه فيقول :

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

وإنّ بيتي في ذرى بني أسد

فمن بغاني حائد عن الرشد

وكافر بدين جبّار صمد

ولم يزل يضرب فيهم بسيفه حتّى عطف عليه مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي ، فاشتركا في قتله ، ووقعت لشدّة الجلاد غبرة عظيمة ، فلمّا انجلت إذا هم بمسلم بن عوسجة صريعا ، فمشى إليه الحسينعليه‌السلام فإذا به رمق ، فقال له الحسينعليه‌السلام : « رحمك الله يا مسلم( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (٢) ، ثمّ دنا منه فقال له حبيب ما ذكرناه في ترجمته.

قال : فما كان بأسرع من أن فاظ بين أيديهم ، فصاحت جارية له : وا سيّداه يا ابن عوسجتاه فتباشر أصحاب عمر بذلك ، فقال لهم شبث بن ربعي : ثكلتكم أمهاتكم إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّون أنفسكم لغيركم ، أتفرحون أن يقتل مثل مسلم ابن عوسجة؟ أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم سلق آذربايجان قتل ستة من المشركين قبل أن تتام خيول المسلمين ،

__________________

(١) الإرشاد : ٢ / ٩٦ بتفاوت في بعض الكلمات.

(٢) سورة الأحزاب : ٢٣.

١١٠

أفيقتل منكم مثله وتفرحون(١)

وفي مسلم بن عوسجة يقول الكميت بن زيد الأسدي :

وإنّ أبا حجل قتيل مجحل

وأقول أنا :

إنّ امرأ يمشي لمصرعه

سبط النبي لفاقد التّرب

أوصى حبيبا أن يجود له

بالنفس من مقة ومن حب

أعزز علينا يا ابن عوسجة

من أن تفارق ساحة الحرب

عانقت بيضهم وسمرهم

ورجعت بعد معانق التّرب

أبكي عليك وما يفيد بكا

عيني وقد أكل الأسى قلبي

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

( فاظ ) : بالظاء المعجمة مات ، فإذا قلت فاضت نفسه فبالضاد وأجازوا الظاء.

( سلق آذربايجان ) : السلق بالتحريك الأرض الصفصف ، وآذربايجان قطر معروف قاعدته أولا أردبيل ، فتحه حذيفة بن اليمان(٢) سنة عشرين من الهجرة ، وكان معه مسلم بن عوسجة.

( مجحل ) : بالجيم قبل الحاء المهملة المشدّدة ، أي صريع.

( الترب ) : لدة الإنسان ونظيره.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٢٥ ، الكامل : ٤ / ٦٨.

(٢) راجع ترجمته في تهذيب الكمال : ٥ / ٤٩٥.

١١١

قيس بن مسهّر الصيداوي

هو قيس بن مسهّر بن خالد بن جندب بن منقذ بن عمرو بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي الصيداوي. وصيدا بطن من أسد. كان قيس رجلا شريفا في بني الصيدا شجاعا مخلصا في محبّة أهل البيتعليهم‌السلام .

قال أبو مخنف : اجتمعت الشيعة بعد موت معاوية في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فكتبوا للحسين بن عليعليه‌السلام كتبا يدعونه فيها للبيعة وسرّحوها إليه مع عبد الله بن سبع وعبد الله بن وال ، ثمّ لبثوا يومين فكتبوا إليه مع قيس بن مسهّر الصّيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي ، ثمّ لبثوا يومين فكتبوا إليه مع سعيد بن عبد الله وهاني بن هاني ، وصورة الكتب : « للحسين بن عليعليه‌السلام من شيعة المؤمنين : أمّا بعد ، فحيهّلا ، فإنّ الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم في غيرك ، فالعجل العجل ، والسلام ».

فدعا الحسينعليه‌السلام مسلم بن عقيل وأرسله إلى الكوفة ، وأرسل معه قيس بن مسهّر ، وعبد الرحمن الأرحبي ، فلمّا وصلوا إلى المضيق من بطن خبت كما قدّمنا جار دليلاهم فضلّوا وعطشوا ، ثمّ سقطوا على الطريق فبعث مسلم قيسا بكتاب إلى الحسينعليه‌السلام يخبره بما كان ، فلمّا وصل قيس إلى الحسين بالكتاب أعاد الجواب لمسلم مع قيس وسار معه إلى الكوفة.

قال : ولمّا رأى مسلم اجتماع الناس على البيعة في الكوفة للحسين كتب إلى الحسينعليه‌السلام بذلك وسرّح الكتاب مع قيس وأصحبه عابس الشاكري ، وشوذبا مولاهم فأتوه إلى مكّة ولازموه ، ثمّ جاءوا معه(١) .

قال أبو مخنف : ثمّ إنّ الحسين لمّا وصل إلى الحاجر من بطن الرمّة كتب كتابا إلى مسلم وإلى الشيعة بالكوفة وبعثه مع قيس ، فقبض عليه الحصين بن تميم ، وكان

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٧٧ ، راجع الكامل : ٢٠.

١١٢

ذلك بعد قتل مسلم ، وكان عبيد الله نظّم الخيل ما بين خفان إلى القادسيّة وإلى القطقطانة وإلى لعلع وجعل عليها الحصين ، وكانت صورة الكتاب : « من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين : سلام عليكم. فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا ، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أحسن الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ، فإذا قدم رسولي عليكم فانكمشوا في أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ». قال : فلمّا قبض الحصين على قيس بعث به إلى عبيد الله ، فسأله عبيد الله عن الكتاب ، فقال :

خرقته ، قال : ولم؟ قال : لئلاّ تعلم ما فيه. قال : إلى من؟ قال : إلى قوم لا أعرف أسماءهم. قال : إن لم تخبرني فاصعد المنبر وسبّ الكذاب ابن الكذّاب. يعني به الحسينعليه‌السلام . فصعد المنبر فقال : أيّها الناس ، إنّ الحسين بن علي خير خلق الله ، وابن فاطمة بنت رسول الله ، وأنا رسوله إليكم ، وقد فارقته بالحاجر ، فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، وصلّى على أمير المؤمنين ، فأمر به ابن زياد فأصعد القصر ورمي به من أعلاه ، فتقطّع ومات(١) .

وقال الطبري : لمّا بلغ الحسينعليه‌السلام إلى عذيب الهجانات في ممانعة الحرّ جاءه أربعة نفر ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي الطائي وهم يجنبون فرس نافع المرادي ، فسألهم الحسينعليه‌السلام عن الناس وعن رسوله ، فأجابوه عن الناس ، وقالوا له : رسولك من هو؟ قال : قيس. فقال مجمع العائذي : أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد فأمره أن يلعنك وأباك ، فصلّى عليك وعلى أبيك ، ولعن ابن زياد وأباه ، ودعانا إلى نصرتك

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٠١.

١١٣

وأخبرنا بقدومك ، فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر ، فماترضي‌الله‌عنه . فترقرقت عينا الحسينعليه‌السلام ، وقال : «( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) اللهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة منزلا ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك ، ورغائب مذخور ثوابك »(١) .

وفي قيس يقول الكميت الأسدي :

وشيخ بني الصيداء قد فاظ قبلهم

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

( خفان ) : بالخاء المعجمة والفاء المشدّدة والألف والنون موضع فوق الكوفة قرب القادسيّة.

( القطقطانة ) : بضم القاف وسكون الطاء موضع فوق القادسيّة في طريق من يريد الشام من الكوفة ثمّ يرتحل منها إلى عين التمر.

( لعلع ) : بفتح اللام وسكون العين جبل فوق الكوفة بينه وبين السلمان(٢) عشرون ميلا.

عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي أبو خالد

كان عمرو شريفا في الكوفة ، مخلص الولاء لأهل البيت ، قام مع مسلم حتّى إذا

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٠٨.

(٢) قال الحموي : وهو فوق الكوفة ، وكان من مياه بكر بن وائل راجع معجم البلدان : ٣ / ٢٧١. وقال البغدادي : قيل : جبل. وقيل : منزل بين عين صيد وواقصة والعقبة. والسّلمان : ماء قديم جاهلي ، وهو طريق إلى تهامة في الجاهليّة من العراق وللعرب يوم سلمان. راجع مراصد الاطلاع : ٢ / ٧٣٠.

١١٤

خانته أهل الكوفة لم يسعه إلاّ الاختفاء ، فلمّا سمع بقتل قيس بن مسهّر وأنّه أخبر أنّ الحسينعليه‌السلام صار بالحاجر خرج إليه ، ومعه مولاه سعد ، ومجمع العائذي وابنه ، وجنادة بن الحرث السلماني ، واتبعهم غلام لنافع البجلي بفرسه المدعو الكامل فجنبوه وأخذوا دليلا لهم الطرماح بن عدي الطائي ، وكان جاء إلى الكوفة يمتار لأهله طعاما ، فخرج بهم على طريق متنكبة ، وسار سيرا عنيفا من الخوف لأنّهم علموا أنّ الطريق مرصود ، حتّى إذا قاربوا الحسينعليه‌السلام حدا بهم الطرماح بن عدي فقال :

يا ناقتي لا تذعري من زجري

وشمّري قبل طلوع الفجر

بخير ركبان وخير سفر

حتّى تحلّي بكريم النجر

الماجد الحرّ رحيب الصدر

أتى به الله لخير أمر

ثمة أبقاه بقاء الدهر

فانتهوا إلى الحسينعليه‌السلام وهو بعذيب الهجانات ، فسلّموا عليه وأنشدوه الأبيات. فقالعليه‌السلام : « أم والله إنّي لأرجو أن يكون خيرا ما أراد الله بنا ، قتلنا أو ظفرنا ».

قال أبو مخنف : ولمّا رآهم الحرّ قال للحسين : إنّ هؤلاء النفر من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك ، وأنا حابسهم أو رادّهم ، فقال له الحسين : « لأمنعنّهم ممّا أمنع منه نفسي ، إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني ، وقد كنت أعطيتني ألاّ تعرض لي بشيء حتّى يأتيك كتاب ابن زياد ». فقال : أجل ، لكن لم يأتوا معك ، فقال : « هم أصحابي ، وهم بمنزلة من جاء معي ، فإن تممت عليّ ما كان بيني وبينك ، وإلاّ ناجزتك » ، فكفّ عنهم الحرّ(١) .

وقال أبو مخنف أيضا : ولمّا التحم القتال بين الحسينعليه‌السلام وأهل الكوفة ، شدّ

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٠٨.

١١٥

هؤلاء مقدمين بأسيافهم في أوّل القتال على الناس ، فلمّا وغلوا عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم ، وقطعوهم من أصحابهم ، فلمّا نظر الحسين إلى ذلك ندب إليهم أخاه العبّاس ، فنهد إليهم وحمل على القوم وحده يضرب فيهم بسيفه قدما ، حتّى خلص إليهم واستنقذهم فجاءوا وقد جرحوا ، فلمّا كانوا في أثناء الطريق ، والعبّاس يسوقهم رأوا القوم تدانوا إليهم ليقطعوا عليهم الطريق فانسلّوا من العبّاس ، وشدّوا على القوم بأسيافهم شدّة واحدة على ما بهم من الجراحات ، وقاتلوا حتّى قتلوا في مكان واحد(١) . فتركهم العبّاس ورجع إلى الحسينعليه‌السلام فأخبره بذلك ، فترحم عليهم الحسين ، وجعل يكرّر ذلك.

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

( الطرماح ) : بزنة سنمار الطويل. وهو هنا علم لرجل طائي وليس بابن عدي بن حاتم المعروف بالجود ، فإنّ ولد عدي الطرفات قتلوا مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في حروبه ، ومات عدي بعدهم ولا ولد له ، وكان يعيّر بذلك فيقال له : اذهب على الطرفات. فيقول : وددت أنّ لي ألفا مثلهم لأقدّمهم بين يدي عليّ إلى الجنّة! والطرفات : طرفة وطريف ومطرف.

( السفر ) : بوزان ركب كثير السفر ، يقال : رجل سفر وقوم سفر.

( النجر ) : بالنون والجيم بزنة البحر الأصل.

( عذيب الهجانات ) : موضع فوق الكوفة عن القادسيّة أربعة أميال وهو حدّ السواد ، وأضيف إلى الهجانات لأنّ النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يجعل فيه إبله ، ولهم عذيب القوادس وهو غربي عذيب الهجانات فيما أفهمه من حديث سعد

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٣٠.

١١٦

ابن أبي وقّاص.

سعد مولى عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي

كان هذا المولى سيّدا شريف النفس والهمّة ، تبع مولاه عمرا في المسير إلى الحسين والقتال بين يديه حتّى قتل شهيدا(١) . وقد ذكرنا خبره مع مولاه وكيف جاء معه وكيف قتل في كربلا ، فلا حاجة بنا إلى الإعادة مع قربه.

الموقّع بن ثمامة الأسدي الصيداوي أبو موسى

كان الموقّع ممّن جاء إلى الحسين في الطف ، وخلص إليه ليلا مع من خلص.

قال أبو مخنف : إنّ الموقع صرع فاستنقذوه قومه وأتوا به إلى الكوفة فأخفوه ، وبلغ ابن زياد خبره فأرسل عليه ليقتله ، فشفع فيه جماعة من بني أسد ، فلم يقتله ولكن كبّله بالحديد ونفاه إلى الزارة(٢) . وكان مريضا من الجراحات التي به فبقي في الزارة مريضا مكبلا حتّى مات بعد سنة.

وفيه يقول الكميت الأسدي :

وإنّ أبا موسى أسير مكبل

يعني به الموقّع.

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

__________________

(١) راجع تاريخ الطبري : ٣ / ٣٣٠.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٣٥ ، وفيه : المرقع. راجع الكامل : ٤ / ٨٠.

١١٧

( الموقّع ) : بالواو وتشديد القاف وبعدها العين المهملة بزنة المعظم ، وهو في الأصل بمعنى المبتلى بالمحن.

( ثمامة ) : بالثاء المضمومة والميم المخففة.

( الزارة ) : موضع بعمان كان ينفي إليه زياد وابنه من شاء من أهل البصرة والكوفة.

١١٨

المقصد الثالث

في آل همدان ومواليهم

من أنصار الحسينعليه‌السلام

أبو ثمامة عمرو الصائدي (١)

هو عمرو بن عبد الله بن كعب الصائد بن شرحبيل بن شراحيل بن عمرو بن جشم بن حاشد بن جشم بن حيزون بن عوف بن همدان ، أبو ثمامة الهمداني الصائدي ، كان أبو ثمامه تابعيا ، وكان من فرسان العرب ووجوه الشيعة ، ومن أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام الذين شهدوا معه مشاهده ، ثمّ صحب الحسنعليه‌السلام بعده ، وبقي في الكوفة ، فلمّا توفي معاوية كاتب الحسينعليه‌السلام ، ولمّا جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قام معه وصار يقبض الأموال من الشيعة بأمر مسلم فيشتري بها السلاح ، وكان بصيرا بذلك ، ولمّا دخل عبيد الله الكوفة وثار الشيعة بوجهه ، وجّهه مسلم فيمن وجّهه ، وعقد له على ربع تميم وهمدان كما قدّمناه. فحصروا عبيد الله في قصره ، ولمّا تفرّق عن مسلم الناس بالتخذيل اختفى أبو ثمامة فاشتدّ طلب ابن زياد له ، فخرج

__________________

(١) عدّه الشيخ في أصحاب الحسينعليه‌السلام وقال : عمرو بن عبد الله الأنصاري يكنّى أبا ثمامة. رجال الشيخ : ١٠٣ ، الرقم ١٠١٦.

١١٩

إلى الحسينعليه‌السلام ومعه نافع بن هلال الجملي ، فلقياه في الطريق وأتيا معه(١) .

قال الطبري : ولمّا نزل الحسين كربلاء ونزلها عمر بن سعد ، بعث إلى الحسينعليه‌السلام كثير بن عبد الله الشعبي ـ وكان فاتكا ـ فقال له : اذهب إلى الحسين وسله ما الذي جاء به؟ قال : أسأله ، فإن شئت فتكت به ، فقال : ما أريد أن تفتك به ، ولكن أريد أن تسأله ، فأقبل إلى الحسين ، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين : أصلحك الله أبا عبد الله! قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرأهم على دم وأفتكهم ، ثمّ قام إليه وقال : ضع سيفك ، قال : لا والله ولا كرامة ، إنّما أنا رسول فإن سمعتم منّي أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، وإن أبيتم انصرفت عنكم. فقال له أبو ثمامة : فإنّي آخذ بقائم سيفك ، ثمّ تكلّم بحاجتك. قال : لا والله ولا تمسّه. فقال له : فأخبرني بما ذا جئت؟ وأنا أبلغه عنك ، ولا أدعك تدنو منه ، فإنّك فاجر. قال : فاستبّا ، ثمّ رجع كثير إلى عمر فأخبره الخبر ، فأرسل قرّة بن قيس التميمي الحنظلي مكانه فكلّم الحسينعليه‌السلام (٢) .

وروى أبو مخنف : أنّ أبا ثمامة لمّا رأى الشمس يوم عاشوراء زالت وأنّ الحرب قائمة قال للحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، نفسي لنفسك الفداء! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتّى أقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن ألقى الله ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها ؛ فرفع الحسين رأسه ثمّ قال : « ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم ، هذا أوّل وقتها » ؛ ثمّ قال : « سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي » ، فسألوهم ، فقال الحصين بن تميم : إنّها لا تقبل منكم ، فردّ عليه حبيب بما ذكرناه في ترجمته(٣) .

__________________

(١) راجع الإرشاد : ٢ / ٤٦ ، الأخبار الطوال : ٢٣٨.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٣١١ ، راجع الإرشاد : ٢ / ٨٥.

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٢٦.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303