ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام

ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام18%

ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام مؤلف:
المحقق: محمد جعفر الطبسي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 303

ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127632 / تحميل: 6754
الحجم الحجم الحجم
ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام

ابصار العين في انصار الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

قاتله؟ قال : نعم ، فبقى عند هاني ، وأصبح عبيد الله فبعث عينا له من مواليه يتوصل إلى مسلم ، وعاد شريك بن الأعور فلم يحب مسلم قتله حتّى ظهر من تلويحات شريك لعبيد الله ، فنهض ومات شريك وأخبره عينه أنّ مسلما عند هاني فبعث على هاني وحبسه ، فجمع مسلم أصحابه وعقد لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال له سر أمامي في الخيل. وعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد وقال : انزل في الرجال ، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وعقد للعبّاس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة ، ثمّ أقبل نحو القصر فأحاطوا به حتّى أمر عبيد الله بسدّ الأبواب ، فأشرف من القصر أشراف الكوفة يخذّلون الناس بالترغيب والترهيب ، فما أمسى المساء إلاّ وقد انفضّ الجمع من حول مسلم ، وخرج شبث بن ربعي ، والقعقاع بن شور الذهلي ، وحجّار بن أبجر العجلي ، وشمر بن ذي الجوشن الكلابي يخذّلون الناس ، وخرج كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي في عدد للقبض على من رآه يريد مسلما ، فقبض على جماعة فحبسهم عبيد الله.

ثمّ إنّ مسلما خرج من المسجد منفردا لا يدري أين يتوجّه ، فمرّ بدار امرأة يقال لها ( طوعة ) كانت تحت الأشعث بن قيس(١) ثمّ تزوّجها أسيد الحضرمي فولدت منه بلالا ومات أسيد عنه(٢) ، فاستسقاها فسقته وشرب فوقف ، فقالت له : ما وقوفك؟ فاستضافها فأضافته وعرفته فأخفته ببيت لها ، فاسترابها بلال ابنها بكثرة الدخول والخروج لذلك البيت فاستخبرها فما كادت تخبره حتّى استحلفته

__________________

(١) قال ابن حجر : الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي ، أبو محمّد الصحابي نزل الكوفة ، مات سنة أربعين أو إحدى وأربعين وهو ابن ثلاث وستين. راجع تقريب التهذيب : ١ / ٨٠ ، الرقم ٦٠٨.

(٢) هكذا في الأصل ، والصحيح : عنها.

٨١

وأخبرته ، فخرج صبحا للقصر ، فرأى ابن زياد وعنده أشراف الناس وهو يتفحص عن مسلم فأسرّ لمحمّد بن الأشعث بخبره ، فقال ابن زياد : وما قال لك؟ فأخبره ، فنخسه بالقضيب في جنبه ثمّ قال : قم فاتني به الساعة. فخرج ومعه عمرو بن عبيد الله بن العبّاس السلمي في جماعة من قيس حتّى أتوا الدار ، فسمع مسلم حوافر الخيل فخرج وبيده سيفه ، فقاتل القوم قتالا شديدا ، وكان أيّدا ، ربما أخذ الرجل ورمى به على السطح ، فجعلوا يوقدون أطنان القصب ويرمونها عليه ويرضخونه بالحجارة من السطوح ، وهو لا يزال يضرب فيهم بسيفه ويقول في خلال ذلك متحمسا :

أقسمت لا أقتل إلاّ حرّا

وإن رأيت الموت شيئا نكرا

كلّ امرئ يوما ملاق شرّا

أو يخلط البارد سخنا مرّا

رد شعاع النفس فاستقرّا

أخاف أن أكذب أو أغرّا

ثمّ اختلف هو وبكير بن حمران الأحمري بضربتين فضرب بكير فمّ مسلم فقطع شفته العليا ، وأسرع السيف في السفلى ، ونصلت لها ثنيتان ، فضربه مسلم ضربة منكرة في رأسه وثنّى بأخرى على حبل عاتقه كادت تأتي على جوفه فاستنقذه أصحابه. وعاد مسلم ينشد شعره ، فقال له محمّد بن الأشعث : لك الأمان يا فتى ، لا تقتل نفسك ، إنّك لا تكذب ولا تخدع ولا تغر ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك ، فلمّا رأى مسلم أنّه قد أثخن بالحجارة وأضرّت به أطنان القصب المحرق وأنّه قد انبهر أسند ظهره إلى جنب تلك الدار فكرّر عليه محمّد الأمان ودنا منه ، فقال : آمن أنا؟ قال : نعم. وصاح القوم : أنت آمن. سوى عمرو بن عبيد الله بن العبّاس السلمي فإنّه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل وتنحّى ، فقال مسلم : أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم. ثمّ أتي ببغلة فحمل عليها وطافوا حوله فانتزعوا سيفه من عنقه ، فكأنّه آيس من نفسه فدمعت عيناه ، وقال : هذا أوّل الغدر ،

٨٢

فقال محمّد : أرجو أن لا يكون عليك بأس ، فقال : ما هو إلاّ الرجاء ، أين أمانكم؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون وبكى ، فقال عمرو السلمي : إنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك ، فقال : إنّي والله ما لنفسي أبكي ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ ، أبكي لحسين وآل حسين. ثمّ قال لمحمّد بن الأشعث : يا عبد الله إنّي أراك ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير؟ أتستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا ، فإنّي لأراه قد خرج إليكم اليوم مقبلا أو هو خارج غدا وأهل بيته معه ، وإن ما ترى من جزعي لذلك ، فيقول : إنّ مسلما بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يرى أن يمسي حتّى يقتل وهو يقول : ارجع بأهل بيتك ولا يغرّك أهل الكوفة فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إنّ أهل الكوفة قد كذّبوك وكذّبوني ، وليس لمكذوب رأي ، فقال محمّد : والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد إنّي قد آمنتك.

قال جعفر بن حذيفة الطائي : فبعث محمّد إياس بن العتل الطائي من بني مالك ابن عمرو بن ثمامة وزوّده وجهّزه ومتّع عياله ، وأرسله للحسين فاستقبله بزبالة(١) لأربع ليال بقين من الشهر ، وكان عبيد الله بن زياد بعث رئيس الشرطة الحصين بن تميم التميمي في نحو من ألفي فارس فأطافوا بالطف ونظموا المسالح ومنعوا الداخل والخارج ، فهم على خط واحد فلم تحصل له فرصة إلاّ ذلك الزمن.

قال أبو مخنف : ثمّ أقبل محمّد بن الأشعث بمسلم إلى باب القصر فاستأذن فأذن له ، فأخبر عبيد الله بخبر مسلم وضرب بكير إيّاه ، فقال : بعدا له ، فأخبره بأمانه ، فقال : ما أرسلناك لتؤمنه إنّما أرسلناك لتأتي به. فسكت. وانتهى مسلم إلى باب القصر وهو عطشان ، وعلى باب القصر أناس ينتظرون الإذن منهم : عمارة بن عقبة بن أبي معيط ،

__________________

(١) زبالة : منزل بطريق مكّة من الكوفة. معجم البلدان : ٣ / ١٢٩.

٨٣

وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو الباهلي ، وكثير بن شهاب ، فاستسقى مسلم وقد رأى قلّة موضوعة على الباب ، فقال مسلم الباهلي : أتراها ما أبردها! لا والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم! فقال له : ويحك من أنت؟ قال : أنا ابن من عرف الحقّ إذ أنكرته ونصح لإمامه إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال : لأمّك الثكل! ما أجفاك وما أفظّك ، وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي ، ثم تساند وجلس إلى الحائط ، فبعث عمرو بن حريث مولاه سليمان فجاءه بقلّة ، وبعث عمارة غلامه قيسا فجاءه بقلّة عليها منديل فصبّ له ماء بقدح ، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دما من فمه ، حتّى إذا كانت الثالثة سقطت ثنيتاه في القدح ، فقال : الحمد لله لو كان من الرزق المقسوم لي لشربته. ثمّ أدخل مسلم فلم يسلّم بالإمرة على عبيد الله ، فاعترضه الحرسي بذلك ، فقال عبيد الله : دعه فإنّه مقتول ، فقال له مسلم : أكذلك؟ قال : نعم ، قال : فدعني أوص إلى بعض قومي. فنظر إلى جلساء عبيد الله فإذا عمر بن سعد فيهم ، فقال : يا عمر ، إنّ بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب عليك نجح حاجتي ، وهو سرّ. فأبى أن يمكّنه من ذكرها ، فقال له عبيد الله : لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك ، فقام معه وجلس بحيث ينظر إليه ابن زياد ، فقال : إنّ عليّ بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم ، فاقضها عنّي ببيع لامتي ، واستوهب جثّتي من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسينعليه‌السلام من يردّه ، فإنّي كتبت إليه أعلمه أنّ الناس معه ، ولا أراه إلاّ مقبلا. فقال عمر لابن زياد : أتدري ما قال لي؟ إنّه قال كذا وكذا ، فقال ابن زياد : ما خانك الأمين ولكن ائتمنت الخائن ، أمّا ماله فهو لك فاصنع به ما شئت ، وأمّا جثّته فلن نبالي إذا قتلناه ما يصنع بها ، أو قال : فلن نشفعك فيها فإنّه ليس بأهل منّا لذلك قد جاهدنا وجهد على هلاكنا ، وأمّا حسين فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا فلن نكفّ عنه ، ثمّ قال : إيه يا بن عقيل أتيت

٨٤

الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة ، لتشتتهم وتحمل بعضهم على بعض؟ قال : كلاّ ، ما أتيت لذلك ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب. قال : وما أنت وذاك يا فاسق ، أو لم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال : أنا أشرب الخمر؟! والله إنّ الله يعلم أنّك غير صادق ، وإنّك قلت بغير علم ، وأنّي لست كما ذكرت ، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي من يلغ في دماء المسلمين ولغا ، فيقتل النفس التي حرّم الله قتلها ، ويقتل النفس بغير النفس ، ويسفك الدم الحرام ، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا. فقال ابن زياد : يا فاسق إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله ، قال : فمن أهله يا ابن زياد؟ قال : أمير المؤمنين يزيد. قال : الحمد لله رضينا بالله حكما بيننا وبينكم. قال : كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئا؟ قال : ما هو الظن ولكنّه اليقين ، قال : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام! قال : أما إنّك أحقّ من أحدث في الإسلام حدثا لم يكن منه ، أما إنّك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أحق بها منك ، فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم عليّا وحسينا وعقيلا ، وأخذ مسلم بالسكوت والإعراض عنه ، فقال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر ، وادعوا بكير بن حمران الأحمري الذي ضربه مسلم ، فصعدوا به ، وأحضر بكير فأمره أن يضرب عنقه ويتبع برأسه جسده من أعلى القصر ، فصاح مسلم بمحمّد بن الأشعث : قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك ، أما والله لو لا أمانك ما استسلمت. فأعرض محمّد ، وجعل مسلم يسبّح الله ويقدسه ويكبّره ويستغفره ، ويصلّي على أنبياء الله وملائكته ويقول : اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وأذلّونا ، فأشرف به من على القصر ، فضربت عنقه واتبع جسده رأسه ، ونزل بكير فقال له ابن زياد : وما كان يقول؟ قال : إنّه كان يسبّح ويستغفر ، فلمّا أدنيته قلت :

٨٥

الحمد لله الذي أقادني منك. وضربته ضربة لم تغن شيئا ، فقال لي : أما ترى في خدش تخدشنيه وفا من دمك أيّها العبد؟ فقال ابن زياد : أو فخرا عند الموت؟ ثمّ قال : إيه. قال : وضربته الثانية فقتلته ، ثمّ أمر ابن زياد فقتل هاني وجملة من المحبوسين ، وجرت جثتا مسلم وهاني بحبلين في الأسواق(١) .

وقتل مسلم في اليوم الثامن من ذي الحجّة يوم خروج الحسينعليه‌السلام من مكّة.

قال أبو مخنف : وحدّث عبد الله بن سليم والمذريّ بن المشمعل الأسديين قالا : لمّا قضينا حجّنا لم يكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقناه بزرود(٢) ، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين ، قالا : فوقف الحسين كأنّه يريده ، ثمّ تركه ومضى ، فقال أحدنا لصاحبه : امض بنا إليه لنسأله عن خبر الكوفة ، فانتهينا إليه وسلّمنا وانتسبنا ، فإذا هو بكير بن المثعبة الأسدي فاستخبرناه عن الكوفة فقال : ما خرجت حتّى رأيت مسلما وهانيا قتيلين يجرّان بأرجلهما في السوق. ففارقناه ولحقنا بالحسين ، فسلّمنا عليه وسايرناه ، حتّى نزل الثعلبيّة ممسيا فدخلنا عليه وقلنا له : يرحمك الله إنّ عندنا خبرا إن شئت حدّثناك به علانية وإن شئت سرّا. فنظر إلى أصحابه وقال : ما دون هؤلاء سرّ. فقلنا : أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس؟ قال : نعم ، وقد أردت مسألته. فقلنا قد استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته وهو امرؤ من أسد منّا ذو رأي وصدق وفضل وعقل ، وإنّه حدّثنا بكيت وكيت. فاسترجع وقال : رحمة الله عليهما وكررها مرارا. فقلنا ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ، بل نتخوّف أن

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٩١.

(٢) زرود : موضع على طريق حاج الكوفة بين الثعلبيّة والخزيميّة. معجم البلدان : ٣ / ١٣٩.

٨٦

يكونوا عليك فاعترضته بنو عقيل بأننا لا نترك ثأرنا ، فالتفت إلينا الحسين وقال : « لا خير في العيش بعد هؤلاء » ، فعلمنا أنّه عزم على المسير ، فقلنا له : خار الله لك. فدعا لنا ، فقال له أصحابه : إنّك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة كان الناس إليك أسرع(١) .

قال أهل السير : ولمّا ورد الحسين زبالة(٢) أخرج كتابا لأصحابه فقرأه عليهم وفيه : أمّا بعد فقد أتانا خبر فظيع إنّه قتل مسلم وهاني وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام ، فتفرّق الناس عنه يمينا وشمالا إلاّ صفوته(٣) .

وروى بعض المؤرخين : أنّ الحسين لمّا قام من مجلسه بالثعلبيّة(٤) توجّه نحو النساء وانعطف على ابنة لمسلم صغيرة ، فجعل يمسح على رأسها فكأنّها أحسّت ، فقالت ما فعل أبي ، فقال يا بنيّة أنا أبوك ، ودمعت عينه ، فبكت البنت وبكت النساء لذلك.

قال أهل السير : ثمّ إنّ ابن زياد بعث برأسي مسلم وهاني إلى يزيد مع هاني بن أبي حيّة الوادعي والزبير بن الأروح التميمي(٥) ، واستوهبت الناس الجثث فدفنوها عند القصر حيث تزار اليوم ، وقبراهما كلّ على حدة.

وإنّي لأستحسن كثيرا قول السيّد الباقر بن السيّد محمّد الهندي فيه :

سقتك دما يا ابن عمّ الحسين

مدامع شيعتك السافحة

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٠٢ ، راجع الإرشاد : ٢ / ٧٣.

(٢) زبالة : منزل بطريق مكّة من الكوفة. معجم البلدان : ٣ / ١٢٩.

(٣) الإرشاد : ٢ / ٧٥.

(٤) الثعلبيّة : موضع بطريق مكّة.

(٥) راجع الإرشاد : ٢ / ٦٥.

٨٧

ولا برحت هاطلات الدموع

تحييك غادية رائحه

لأنّك لم ترو من شربة

ثناياك فيها غدت طائحه

رموك من القصر إذ أوثقوك

فهل سلمت فيك من جارحه

تجر بأسواقهم في الحبال

ألست أميرهم البارحه

أتقضي ولم تبكك الباكيات

أما لك في المصر من نائحه

لئن تقض نحبا فكم في زرود

عليك العشية من صائحه

ولي في ذلك :

نزفت دموعي ثمّ أسلمني الجوى

لقارعة ما كان فيها بمسلم

أجيل وجوه الفكر كيف تخاذلت

بنو مضر الحمراء عن نصر مسلم

أما كان في الأرباع شخص بمؤمن

وما كان في الأحياء حي بمسلم

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

( عليّة ) : بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء المثناة تحت.

( يتساقط ) : أي يقيم المكان بعد المكان من المرض.

( القعقاع ) : بالقاف المفتوحة والعين المهملة الساكنة والقاف والعين بينهما ألف ، ابن شور بالشين المضمومة والراء المهملة ، له شرف وسمعة ويضرب به المثل في المجالسة ، فيقال جليس القعقاع بن شور ، لأنّه دخل مجلس معاوية وقد ضاق فقام رجل وأعطاه مكانه فجلس فيه ثمّ أمر له معاوية بشيء ، فقال : أين من قام عن مجلسه لي؟ فقال : ها أنا ذا ، فقال : خذ ما نلته بمكانك مكافأة لقيامك.

( أطنان ) : جمع طن وهو : الحزمة من القصب.

( رد شعاع النفس ) : الشعاع المتفرّق من الشيء تفرّقا دقيقا يقال : مارت نفسه شعاعا أي تفرّقت من الخوف.

٨٨

قال الشاعر :

أقول لها وقد طارت شعاعا

من الأبطال ويحك لا تراعي

فالمعنى في الرجز أنّ النفس استقرّت بعد ما تفرّقت ، ويمضى في جملة من الكتب شعاع الشمس وهو غلط وتصحيف ، صحفه من لم يفهم شعاع النفس فرأى أنّ الشعاع بالشمس أليق.

( القلّة ) : بالضم إناء للماء كالكوز الصغير.

( إيه ) : بكسر الهمزة والهاء تنوّن ولا تنوّن فإن نوّنت الهاء كانت كلمة استنطاق وإن سكنت الهاء كانت كلمة استكفاف ، فمعنى الأولى تكلم ومعنى الثانية اسكت.

( لؤم الغلبة ) : إذا غلب اللئيم تبجح وظهر عليه التجبر ، وإذا غلب الكريم استحيا وصغرت له همّته ما فعل ، فلؤم الغلبة التبجح والاستعلاء وكرمها التصاغر والاستحياء.

( مسلم ) : الأوّل اسم فاعل من أسلمه إلى الشيء بمعنى أعطاه إيّاه وخذله ، والثاني العلم المترجم ، والثالث اسم فاعل من أسلم خلاف كفر.

( الأرباع ) : أرباع الكوفة وهي المدينة وكندة ومذحج وتميم ، وتدخل ربيعة مع كندة ، وأسد مع مذحج ، وهمدان مع تميم ، وتنضم غيرهم إليهم في الجميع ، يقال : أرباع الكوفة وأخماس البصرة ، وقد تقدّم ذلك.

عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ( رضوان الله عليهم )

أمّه رقيّة بنت أمير المؤمنين ، وأمّها الصهباء أمّ حبيب بنت عبّاد بن ربيعة بن يحيى العبد بن علقمة التغلبيّة. قيل : بيعت لأمير المؤمنين من سبي اليمامة(١) ، وقيل :

__________________

(١) قال ابن منظور : وهي الصّقع المعروف شرقيّ الحجاز راجع لسان العرب : ١٥ / ٤٥ ، ـ

٨٩

من سبي عين التمر(١) ، فأولدها عليعليه‌السلام عمر الأطرف ورقيّة.

قال السروي : تقدّم عبد الله بن مسلم إلى الحرب فحمل على القوم وهو يقول :

اليوم ألقى مسلما وهو أبي

وعصبة بادوا على دين النبي

حتّى قتل ثمانية وتسعين رجلا بثلاث حملات ، ثمّ رماه عمرو بن صبيح الصدائي بسهم(٢) .

قال حميد بن مسلم : رمى عمرو عبد الله بسهم وهو مقبل عليه ، فأراد جبهته فوضع عبد الله يده على جبهته يتقى بها السهم فسمر السهم يده على جبهته فأراد تحريكها فلم يستطع ثمّ انتحى له بسهم آخر ففلق قلبه فوقع صريعا(٣) .

وكانت قتلته بعد علي بن الحسين فيما ذكره أبو مخنف والمدائني وأبو الفرج دون غيرهم(٤) .

محمّد بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليهم السلام

وأمّه أمّ ولد ، قال أبو جعفر : حمل بنو أبي طالب بعد قتل عبد الله حملة واحدة ، فصاح بهم الحسينعليه‌السلام : صبرا على الموت يا بني عمومتي ، فوقع فيهم محمّد بن

__________________

مراصد الاطلاع : ٣ / ١٤٨٣.

(١) قال الحموي : عين التمر بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة. راجع معجم البلدان : ٤ / ١٩٩.

(٢) المناقب : ٤ / ١٠٥ ، وفيه : قتله عمرو بن صبيح وأسد بن مالك. وفي الأخبار الطوال : عمرو بن صبح. راجع الإرشاد : ٢ / ١٠٧. وعمرو هذا كان ممّن انتدب على جسد الحسينعليه‌السلام ، راجع اللهوف للسيد ابن طاوس : ١٨٢.

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٤٣ ، راجع مقاتل الطالبيين : ٩٨ ، والإرشاد : ٢ / ١٠٧ ، وذكر الدينوري قتله بعد علي بن الحسينعليه‌السلام ، راجع الأخبار الطوال : ٢٥٧.

(٤) الكامل : ٤ / ٧٤.

٩٠

مسلم ، قتله أبو مرهم الأزدي ولقيط بن إياس الجهني(١) .

محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب عليهم السلام

أمّه أمّ ولد. قال أهل السير نقلا عن حميد بن مسلم الأزدي أنّه قال : لمّا صرع الحسين خرج غلام مذعورا يلتفت يمينا وشمالا ، فشدّ عليه فارس فضربه ، فسألت عن الغلام؟ فقيل : محمّد بن أبي سعيد ، وعن الفارس فقيل : لقيط بن إياس الجهني(٢) .

وقال هشام الكلبي : حدّث هاني بن ثبيت الحضرمي قال : كنت ممّن شهد قتل الحسينعليه‌السلام ، فو الله إنّي لواقف عاشر عشرة ليس منّا رجل إلاّ على فرس ، وقد جالت الخيل وتضعضعت إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية عليه إزار وقميص ، وهو مذعور ، يتلفّت يمينا وشمالا ، فكأنّي أنظر إلى درّتين في أذنيه يتذبذبان كلّما التفت ، إذ أقبل رجل يركض حتّى إذا دنا منه مال عن فرسه ، ثمّ اقتصد الغلام فقطعه بالسيف.

قال هشام الكلبي : هاني بن ثبيت الحضرمي هو صاحب الغلام ، وكنّى عن نفسه استحياء أو خوفا(٣) .

عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب عليهم السلام

امّه أم ولد. قال ابن شهرآشوب : تقدّم في حملة آل أبي طالب بعد الأنصار وهو

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٧.

(٢) راجع بحار الأنوار : ٤٥ / ٣٣.

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ٣٣٢ بتفاوت ، لاحظ مقاتل الطالبيين : ١٨٨.

٩١

يقول :

أبي عقيل فاعرفوا مكاني

من هاشم وهاشم إخواني

فقاتل حتّى قتل سبعة عشر فارسا ، ثمّ احتوشوه فتولّى قتله عثمان بن خالد بن أشيم الجهني ، وبشر بن حوط الهمداني ثمّ القابضي بطن منهم(١) .

جعفر بن عقيل بن أبي طالب عليهم السلام

امّه الحوصاء بنت عمرو المعروف بالثغر بن عامر بن الهصان بن كعب بن عبد بن أبي بكر بن كلاب العامري ، وأمّها أودة بنت حنظلة بن خالد بن كعب بن عبد بن أبي بكر المذكور ، وأمّها ريطة بنت عبد بن أبي بكر المذكور ، وأمّها أمّ البنين بنت معاوية ابن خالد بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وأمّها حميدة بنت عتبة بن سمرة بن عتبة ابن عامر(٢) .

قال السروي : تقدّم إلى القتال فجالد القوم يضرب فيهم بسيفه قدما وهو يقول :

أنا الغلام الأبطحي الطالبي

من معشر في هاشم من غالب

ونحن حقا سادة الذوائب

فقتل خمسة عشر رجلا ، ثمّ قتله بشر بن حوط قاتل أخيه عبد الرحمن(٣) .

__________________

(١) المناقب : ٤ / ١٠٦ ، وليس فيه بشر بن حوط الهمداني. راجع الإرشاد : ٢ / ١٠٧ ، ومقاتل الطالبيين : ٩٦.

(٢) قال أبو الفرج : وجعفر بن عقيل بن أبي طالب ، وأمّه أم الثغر بنت عامر بنت الهصان العامري من بني كلاب. قتله عروة بن عبد الله الخثعمي فيما رويناه عن أبي جعفر محمّد بن علي ابن الحسين ، وعن حميد بن مسلم. ويقال : أمّه الخوصاء بنت الثغرية ، واسمه عمرو بن عامر بن الهصان بن كعب بن عبد بن أبي بكر بن كلاب العامري. راجع مقاتل الطالبيين : ٩٧.

(٣) المناقب : ٤ / ١٠٥ ، وفيه : بشر بن سوط الهمداني.

٩٢

عبد الله بن يقطر الحميري ( رضيع الحسين عليه السلام )

كانت أمّه حاضنة للحسين كأمّ قيس بن ذريح للحسن ، ولم يكن رضع عندها ولكنّه يسمّى رضيعا له لحضانة أمّه له. وأمّ الفضل بن العبّاس لبابة كانت مربية للحسينعليه‌السلام ولم ترضعه أيضا كما صحّ في الأخبار أنّه لم يرضع من غير ثدي أمّه فاطمة ( صلوات الله عليها ) وإبهام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) تارة ، وريقه تارة أخرى.

قال ابن حجر في الإصابة : إنّه كان صحابيّا لأنّه لدة الحسينعليه‌السلام (٢) .

وقال أهل السير : إنّه سرحه الحسينعليه‌السلام إلى مسلم بن عقيل بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلم إلى الحسينعليه‌السلام يسأله القدوم ويخبره باجتماع الناس ، فقبض عليه الحصين بن تميم(٣) بالقادسيّة(٤) وأرسله إلى عبيد الله بن زياد فسأله عن حاله فلم يخبره ، فقال له : اصعد القصر والعن الكذّاب بن الكذّاب ثمّ انزل حتّى أرى فيك رأيي ، فصعد القصر فلمّا أشرف على الناس قال : أيّها الناس ، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليكم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ ابن الدعيّ ، فأمر به عبيد الله فألقي من فوق القصر إلى الأرض فتكسرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه عبد الملك بن عمير اللخمي ( قاضي الكوفة وفقيهها ) فذبحه بمدية ، فلمّا عيب عليه ، قال : إنّي أردت أن أريحه(٥) .

__________________

(١) راجع الكافي : ١ / ٤٦٥ ، ح ٤ ، البحار : ٤٤ / ١٩٨ ، ح ١٤ ، وفي ٢٣٣ ذيل حديث ١٧ عن كامل الزيارات : ٥٧ ، ح ٤.

(٢) الإصابة : ٤ / ٥٩ ، وفيه : عبد الله بن يقظة ، والظاهر أنّه تصحيف في طبعات الإصابة الجديدة.

(٣) في الإرشاد والأخبار الطوال : الحصين بن نمير. وكان من أشدّ الناس في قتال عليعليه‌السلام . راجع الكامل : ٢ / ٤٥٢.

(٤) القادسيّة : قرية قريبة من الكوفة من جهة البر. راجع معجم البلدان : ٤ / ٢١٩.

(٥) الإرشاد : ٢ / ٧١ ، تاريخ الطبري : ٣ / ٣٠٣.

٩٣

قالوا : ولمّا ورد خبره وخبر مسلم وهاني إلى الحسينعليه‌السلام بزبالة(١) نعاه إلى أصحابه وقال : « أمّا بعد ، فقد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا » إلى آخر ما ذكرناه آنفا(٢) .

وقال ابن قتيبة وابن مسكويه : إنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مسهّر كما يأتي ، وإنّ عبد الله بن يقطر بعثه الحسينعليه‌السلام مع مسلم ، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتم عليه ما تمّ بعث عبد الله إلى الحسين يخبره بالأمر الذي انتهى ، فقبض عليه الحصين وصار ما صار عليه من الأمر الذي ذكرناه.

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

( يقطر ) : بالياء المثنّاة تحت والقاف والطاء والراء المهملتين. وضبطه الجزري في الكامل بالباء الموحدة(٣) . لكن مشيختنا ضبطوه بالياء المثناة تحت.

( لدة ) : اللدّة الذي ولد مع الإنسان في زمن واحد.

( مدية ) : بضم الميم السكين والجمع مدى.

سليمان بن رزين مولى الحسين بن علي بن أبي طالب

كان سليمان هذا من موالي الحسينعليه‌السلام أرسله بكتب إلى رؤساء الأخماس بالبصرة حين كان بمكّة.

__________________

(١) زبالة : منزل بطريق مكّة من الكوفة. راجع معجم البلدان : ٣ / ١٢٩.

(٢) راجع الإرشاد : ٢ / ٧٥.

(٣) الكامل : ٤ / ٤٢. وكذا في الطبري : ٣ / ٣٠٣.

٩٤

قال الطبري : كتب الحسينعليه‌السلام إلى رؤساء الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف كمالك بن مسمع البكري ، والأحنف بن قيس التميمي ، والمنذر بن الجارود العبدي ، ومسعود بن عمرو الأزدي ، وقيس بن الهيثم ، وعمرو بن عبيد الله(١) بن معمر ، فجاء الكتاب بنسخة واحدة « أمّا بعد : فإنّ الله اصطفى محمّدا على خلقه وأكرمه بنبوّته ، واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده ، وبلّغ ما أرسل فيه ، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك ، فرضينا وكرهنا الفرقة ، وأحببنا لكم العافية ، ونحن نعلم أنّا أحق بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه ، وقد بعثت إليكم رسولي بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإنّ السنّة قد أميتت وإنّ البدعة قد أحييت ، فإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد »(٢) . فكتم بعض الخبر وأجاب بالاعتذار أو بالطاعة والوعد ، وظنّ المنذر بن الجارود أنّه دسيس من عبيد الله ، وكان صهره فإنّ بحريّة بنت الجارود تحت عبيد الله ، فأخذ الكتاب والرسول فقدّمهما إلى عبيد الله بن زياد في العشيّة التي عزم على السفر إلى الكوفة صبيحتها ، فلمّا قرأ الكتاب قدّم الرسول سليمان وضرب عنقه ، وصعد المنبر صباحا وتوعد الناس وتهدّدهم ، ثمّ خرج إلى الكوفة ليسبق الحسينعليه‌السلام .

أسلم بن عمرو مولى الحسين بن علي عليه السلام

كان أسلم من موالي الحسين ، وكان أبوه تركيا ، وكان ولده أسلم كاتبا.

قال بعض أهل السير والمقاتل : إنّه خرج إلى القتال وهو يقول :

__________________

(١) في الكامل : عمر بن عبد الله.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٨٠ ، بتفاوت وسقط في بعض الكلمات.

٩٥

أميري حسين ونعم الأمير

سرور فؤاد البشير النذير

فقاتل حتّى قتل ، فلمّا صرع مشى إليه الحسينعليه‌السلام فرآه وبه رمق يومي إلى الحسينعليه‌السلام ، فاعتنقه الحسين ووضع خدّه على خدّه ، فتبسّم وقال : من مثلي وابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واضع خدّه على خدّي ، ثمّ فاضت نفسه ( رضوان الله عليه ).

قارب بن عبد الله الدئلي مولى الحسين بن علي عليهما السّلام

أمّه جارية للحسينعليه‌السلام تزوّجها عبد الله الدئلي فولدت منه قاربا هذا ، فهو مولى للحسينعليه‌السلام ، خرج معه من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى كربلا ، وقتل في الحملة الأولى التي هي قبل الظهر بساعة.

منجح بن سهم مولى الحسن بن علي عليهما السّلام

كان منجح من موالي الحسنعليه‌السلام ، خرج من المدينة مع ولد الحسنعليه‌السلام في صحبة الحسينعليه‌السلام فأنجح سهمه بالسعادة وفاز بالشهادة ، ولمّا تبارز الفريقان في كربلا قاتل القوم قتال الأبطال.

قال صاحب الحديقة الورديّة : فعطف عليه حسّان بن بكر الحنظلي فقتله ، وذلك في أوائل القتال(١) .

سعد بن الحرث مولى علي بن أبي طالب عليه السلام

كان سعد مولى لعليعليه‌السلام فانضمّ بعده إلى الحسنعليه‌السلام ثمّ إلى الحسينعليه‌السلام ، فلمّا خرج من المدينة خرج معه إلى مكّة ثمّ إلى كربلا فقتل بها في الحملة الأولى ، ذكره

__________________

(١) الحديقة الورديّة : ١٢١.

٩٦

ابن شهرآشوب في المناقب وغيره من المؤرخين(١) .

نصر بن أبي نيزر مولى علي بن أبي طالب عليه السلام

كان أبو نيزر من ولد بعض ملوك العجم أو من ولد النجاشي. قال المبرّد في الكامل : صحّ عندي أنّه من ولد النجاشي ، رغب في الإسلام صغيرا فأتي به رسول الله فأسلم وربّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا توفي صار مع فاطمة وولدها(٢) . وقال غيره : إنّه من أبناء ملوك العجم أهدي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ صار إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان يعمل له في نخله ، وهو صاحب الحديث المشهور الذي ينقله عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في استخراج العين ووقفها أو حبسها ، كما ذكره المبرد في الكامل وملخصه : أنّ أبا نيزر قال : جاءني عليعليه‌السلام وأنا أقوم بالضيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة ، فقال لي : هل عندك من طعام؟ فقلت : طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة. فقال : عليّ به ، فقام إلى الربيع [ وهو جدول ] فغسل يده وأصاب منه ثمّ رجع إلى الربيع وغسل يديه بالرمل حتّى نقّاهما ثمّ مسح على بطنه ، وقال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثمّ أخذ المعول وانحدر في العين وجعل يضرب فأبطأ الماء ، فخرج وقد عرق جبينه فانتكفه ، ثمّ عاد وجعل يهمهم فانثالت عين كأنّها عنق جزور ، فخرج مسرعا فقال : أشهد الله أنّها صدقة ، ثمّ كتب : « هذا ما تصدّق به عبد الله علي أمير المؤمنين ، تصدّق بالضيعتين على فقراء المدينة ، إلاّ أن يحتاج إليهما

__________________

(١) لم أعثر عليه في المناقب. وفي مستدركات علم رجال الحديث ٤ / ٢٧ : سعد بن حارث الخزاعي مولى أمير المؤمنينعليه‌السلام من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن شرطة الخميس مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان واليا من قبله على آذربيجان ثمّ انضمّ إلى الحسن ثمّ إلى الحسينعليهما‌السلام ، وخرج معه إلى مكّة ثمّ إلى كربلاء واستشهد بين يديه يوم عاشوراء.

(٢) الكامل : ٣ / ٢٠٧ ، راجع معجم البلدان : ٤ / ١٧٥.

٩٧

الحسنان فهما طلق لهما دون غيرهما »(١) . انتهى ملخصا.

ونصر هذا ولده انضمّ إلى الحسينعليه‌السلام بعد علي والحسنعليهما‌السلام ثمّ خرج معه من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى كربلاء فقتل بها. وكان فارسا فعقرت فرسه ثمّ قتل في الحملة الأولىرضي‌الله‌عنه .

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

( نيزر ) : بالنون والياء المثناة تحت والزاء المعجمة والراء المهملة على وزن صيقل.

( انتكفه ) : أي نحّاه باصبعه.

الحرث بن نبهان مولى حمزة بن عبد المطلب عليهم السلام

كان نبهان عبدا لحمزة شجاعا فارسا. قال صاحب الحديقة الورديّة : والحرث ابنه انضمّ إلى الحسينعليه‌السلام بعد انضمامه إلى علي بن أبي طالب والحسنعليهم‌السلام فجاء معه إلى كربلا ، وقتل بها في الحملة الأولى(٢) .

فهؤلاء تسعة عشر من آل أبي طالب ، الحسينعليه‌السلام وطفله الرضيع ، وسبعة عشر نفرا ، وثمانية من الموالي : عبد الله بن يقطر ، وسبعة نفر صحّ لي قتلهم في كربلا وفي الكوفة وفي البصرة. وذكر جماعة غيره لم يصح لي قتلهم ، وهناك جماعة أخرى من الموالي لم يذكر أحد أسماءهم ولم يعرفوا مقدارا.

__________________

(١) الكامل : ٣ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) الحديقة الورديّة : ١٢١.

٩٨

المقصد الثاني

في بني أسد بن خزيمة ومواليهم

من أنصار الحسينعليه‌السلام

أنس بن الحرث بن نبيه بن كاهل بن عمرو بن صعب بن أسد بن خزيمة

أنس بن الحرث بن نبيه بن كاهل بن عمرو بن صعب بن أسد بن خزيمة الأسدي الكاهلي ، كان صحابيّا كبيرا ممّن رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع حديثه. وكان فيما سمع منه وحدّث به ما رواه جمّ غفير من العامّة والخاصّة عنه أنّه قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول والحسين بن علي في حجره : « إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق ألا فمن شهده فلينصره ». ذكر ذلك الجزري في أسد الغابة(١) وابن حجر في الإصابة(٢) وغيرهما(٣) . ولمّا رآه في العراق وشهده ، نصره وقتل معه.

قال الجزري : وعداده في الكوفيين ، وكان جاء إلى الحسينعليه‌السلام عند نزوله كربلا والتقى معه ليلا فيمن أدركته السعادة(٤) .

__________________

(١) أسد الغابة : ١ / ١٢٣.

(٢) الإصابة : ١ / ٦٨.

(٣) راجع ذخائر العقبى : ١٤٦.

(٤) أسد الغابة : ١ / ١٢٣.

٩٩

روى أهل السير : أنّه لمّا جاءت نوبته استأذن الحسينعليه‌السلام في القتال فأذن له ـ وكان شيخا كبيرا ـ فبرز وهو يقول :

قد علمت كاهلها ودودان

والخندفيون وقيس عيلان

بأنّ قومي آفة للأقران

ثمّ قاتل حتّى قتلرضي‌الله‌عنه .

وفي حبيب وفيه يقول الكميت بن زيد الأسدي :

سوى عصبة فيهم حبيب معفّر

قضى نحبه والكاهليّ مرمّل(١)

( ضبط الغريب )

ممّا وقع في هذه الترجمة :

( كاهل ) : بطن من أسد بن خزيمة.

( دودان ) : بالدال المهملة المضمومة والواو والدال المهملة أيضا والألف والنون بطن من أسد بن خزيمة أيضا ، وستأتي بطون أخر.

حبيب بن مظهّر

هو حبيب بن مظهّر بن رئاب بن الأشتر بن جخوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قيس بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ، أبو القاسم الأسدي الفقعسي. كان صحابيّا رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذكره ابن الكلبي(٢) ، وكان ابن عم ربيعة بن حوط بن رئاب المكنّى أبا ثور الشاعر الفارس.

__________________

(١) راجع البحار : ٤٥ / ٢٥.

(٢) جمهرة النسب : ١ / ٢٤١.

١٠٠

وَيَعْقُوبَ ) واحتجاج ابن عباس في توريث الجد دون الأخوة وإنزاله منزلة الأب في الميراث عند فقده يقتضى جواز الاحتجاج بظاهر قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) في استحقاقه الثلثين دون الأخوة كما يستحق الأب دونهم إذا كان باقيا ودل ذلك على أن إطلاق اسم الأب يتناول الجد فاقتضى ذلك أن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث إذا لم يكن أب وهو مذهب أبى بكر الصديق في آخرين من الصحابة قال عثمان قضى أبو بكر أن الجد أب وأطلق اسم الأبوة عليه وهو قول أبى حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعى بقول زيد بن ثابت في الجد أنه بمنزلة الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث فيعطى الثلث ولم ينقص منه شيئا وقال ابن أبى ليلى بقول على بن أبى طالب عليه السلام في الجد أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فيعطى السدس ولم ينقص منه شيئا وقد ذكرنا اختلاف الصحابة فيه في شرح مختصر الطحاوي والحجاج للفرق المختلفين فيه إلا أن الحجاج بالآية فيه من وجهين أحدهما ظاهر تسمية الله تعالى إياه أبا والثاني احتجاج ابن عباس بذلك وإطلاقه أن الجد أب وكذلك أبو بكر الصديق لأنهما من أهل اللسان لا يخفى عليهما حكم الأسماء من طريق اللغة وإن كانا أطلقاه من جهة الشرع فحجته ثابتة إذ كانت أسماء الشرع طريقها التوقيف ومن يدفع الاحتجاج بهذا الظاهر يقول إن الله تعالى قد سمى العم أبا في الآية لذكره إسماعيل فيها وهو عمه ولا يقوم مقام الأب وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ردوا على أبى يعنى العباس وهو عمه * قال أبو بكر ويعترض عليه من جهة أن الجد إنما سمى أبا على وجه المجاز لجواز انتفاء اسم الأب عنه لأنك لو قلت للجد إنه ليس بأب لكان ذلك نفيا صحيحا وأسماء الحقائق لا تنتفى عن مسمياتها بحال ومن جهة أخرى أن الجد إنما سمى أبا بتقييد والإطلاق لا يتناوله فلا يصح الاحتجاج فيه بعموم لفظ الأبوين في الآية ومن جهة أخرى أن الأب الأدنى في قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ) مراد بالآية فلا جائز أن يراد به الجد لأنه مجاز ولا يتناول الإطلاق للحقيقة والمجاز في لفظ واحد* قال أبو بكر فأما دفع الاحتجاج بعموم لفظ الأب في إثبات الجد أبا من حيث سمى العم أبا في الآية مع اتفاق الجميع على أنه لا يقوم مقام الأب بحال فإنه مما لا يعتمد لأن إطلاق اسم الأب إن كان يتناول الجد والعم في اللغة والشرع فجائز اعتبار عمومه في سائر ما أطلق فيه فإن خص العم بحكم

١٠١

دون الجد لا يمنع ذلك بقاء حكم العموم في الجد ويختلفان أيضا في المعنى من قبل أن الأب إنما سمى بهذا الإسم لأن الإبن منسوب إليه بالولاد وهذا المعنى موجود في الجد وإن كانا يختلفان من جهة أخرى أن بينه وبين الجد واسطة وهو الأب ولا واسطة بينه وبين الأب والعم ليست له هذه المنزلة إذ لا نسبة بينه وبينه من طريق الولاد ألا ترى أن الجد وإن بعد في المعنى بمعنى من قرب في إطلاق الإسم وفي الحكم جميعا إذا لم يكن من هو أقرب منه فكان للجد هذا الضرب من الإختصاص فجائز أن يتناوله إطلاق اسم الأب ولما لم يكن للعم هذه المزية لم يسم به مطلقا ولا يعقل منه أيضا إلا بتقيد والجد مساو للأب في معنى الولاد فجائز أن يتناوله اسم الأب وأن يكون حكمه عند فقده حكمه وأما من دفع ذلك من جهة أن تسمية الجد باسم الأب مجاز وأن الأب الأدنى مراد بالآية فغير جائز إرادة الجد به لانتفاء أن يكون اسم واحد مجازا حقيقة فغير واجب من قبل أنه جائز أن يقال إن المعنى الذي من أجله سمى الأب بهذا الإسم وهو النسبة إليه من طريق الولاد موجود في الجد ولم يختلف المعنى الذي من أجله قد سمى كل واحد منهما فجاز إطلاق الإسم عليهما وإن كان أحدهما أخص به من الآخر كالأخوة يتناول جميعهم هذا الاسم لأب كانوا أو لأب وأم ويكون الذي للأب والأم أولى بالميراث وسائر أحكام الأخوة من الذين للأب والاسم فيهما جميعا حقيقة وليس يمتنع أن يكون الاسم حقيقة في معنيين وإن كان الإطلاق إنما يتناول أحدهما دون الآخر ألا ترى أن اسم النجم يقع على كل واحد من نجوم السماء حقيقة والإطلاق عند العرب يتناول النجم الذي هو الثريا يقول القائل منهم فعلت كذا وكذا والنجم على قمة الرأس يعنى الثريا ولا تعقل العرب بقولها طلع النجم عند الإطلاق غير الثريا وقد سموا هذا الإسم لسائر نجوم السماء على الحقيقة فكذلك اسم الأب لا يمتنع عند المحتج بما وصفنا أن يتناول الأب والجد على الحقيقة وإن اختص الأب به في بعض الأحوال ولا يكون في استعمال اسم الأب في الأب الأدنى والجد إيجاب كون لفظة واحدة حقيقة مجازا فإن قيل لو كان اسم الأب مختصا بالنسبة من طريق الولاد للحق الأم هذا الإسم لوجود الولاد فيها فكان الواجب أن تسمى الأم أبا وكانت الأم أولى بذلك من الأب والجد لوجود الولادة حقيقة منها قيل له لا يجب ذلك لأنهم قد خصوا الأم باسم دونه ليفرقوا بينها وبينه وإن كان

١٠٢

الولد منسوبا إلى كل واحد منهما بالولاد وقد سمى الله تعالى الأم أبا حين جمعها مع الأب فقال تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) ومما يحتج لأبى بكر الصديق وللقائلين بقوله إن الجد يجتمع له الاستحقاق بالنسبة والتعصيب معا ألا ترى أنه لو تركا بنتا وجدا كان للبنت النصف وللجد السدس وما بقي بالنسبة والتعصيب كما لو ترك بنتا وأبا يستحق بالنسبة والتعصيب معا في حال واحدة فوجب أن يكون بمنزلته في استحقاق الميراث دون الأخوة والأخوات ووجه آخر وهو أن الجد يستحق بالتعصيب من طريق الولاد فوجب أن يكون بمنزلة الأب في نفى مشاركة الأخوة إذ كانت الأخوة إنما تستحقه بالتعصيب منفردا عن الولاد ووجه آخر في نفى الشركة بينه وبين الأخوة على وجه المقاسمة وهو أن الجد يستحق السدس مع الابن كما يستحقه الأب معه فلما لم يستحق الأخوة مع الأب بهذه العلة وجب أن لا يجب لهم ذلك مع الجد* فإن قيل الأم تستحق السدس* مع الإبن ولم ينتف بذلك توريث الأخوة معها* قيل له إنما نصف بهذه العلة لنفى الشركة بينه وبين الأخوة على وجه المقاسمة وإذا انتفت الشركة بينهم وبينه في المقاسمة إذا انفردوا معه سقط الميراث لأن كل من ورثهم معه يوجب القسمة بينه وبينهم إذا لم يكن غيرهم على اعتبار منهم في الثلث أو السدس وأما الأم فلا تقع بينها وبين الأخوة مقاسمة بحال ونفى القسمة لا ينفى ميراثهم ونفى مقاسمة الأخوة للجد إذا انفردوا يوجب إسقاط ميراثهم معه إذ كان من يورثهم معه إنما يورثهم بالمقاسمة وإيجاب الشركة بينهم وبينه فلما سقطت المقاسمة ما وصفنا سقط ميراثهم معه إذ ليس فيه إلا قولان قول من يسقط معه ميراثهم رأسا وقول من يوجب المقاسمة فلما بطلت المقاسمة بما وصفنا ثبت سقوط ميراثهم معه فإن قال قائل إن الجد يدلى بابنه وهو أبو الميت والأخ يدلى بأبيه فوجبت الشركة بينهما كمن ترك أباه وابنه قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أنه لو صح هذا الإعتبار لما وجبت المقاسمة بين الجد والأخ بل كان الواجب أن يكون للجد السدس وللأخ ما بقي كمن ترك أبا وابنا للأب السدس والباقي للابن والوجه الآخر أنه يوجب أن يكون الميت إذا ترك جد أب وعما أن يقاسمه العم لأن جد لأب يدلى بالجد الأدنى والعم أيضا يدلى به لأنه ابنه فلما اتفق الجميع على سقوط ميراث العم مع جد الأب مع وجود العلة التي وصفت دل ذلك على انتفاضها وفسادها ويلزمه أيضا على هذا الاعتلال أن ابن

١٠٣

الأخ يشارك الجد في الميراث لأنه يقول أن ابن ابن الأب والجد أب الأب ولو ترك أبا وابن ابن كان للأب السدس وما بقي لابن الإبن* قوله تعالى( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) يدل على ثلاثة معان أحدها أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء ولا يعذبون على ذنوبهم وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين بذنوب الآباء ويبطل مذهب من يزعم من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم بصلاح آبائهم وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات نحو قوله تعالى( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وقال( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) وقد بين ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لأبى رمثة ورآه مع ابنه أهو ابنك فقال نعم قال أما أنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا بنى هاشم لا تأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم فأقول لا أغنى عنكم من الله شيا وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) قوله تعالى( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إخبار بكفاية الله تعالى لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أعدائه فكفاه مع كثرة عددهم وحرصهم فوجد مخبره على ما أخبر به وهو نحو قوله تعالى( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فعصمه منهم وحرسه من غوائلهم وكيدهم وهو دلالة على صحة نبوته إذ غير جائز اتفاق وجود مخبره على ما أخبر به في جميع أحواله إلا وهو من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة إذ غير جائز وجود مخبر أخبار المتخرصين والكاذبين على حسب ما يخبرون بل أكثر أخبارهم كذب وزور يظهر بطلانه لسامعيه وإنما يتفق لهم ذلك في الشاذ النادر إن اتفق قوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) قال أبو بكر لم يختلف المسلمون أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بمكة إلى بيت المقدس وبعد الهجرة مدة من الزمان فقال ابن عباس والبراء بن عازب كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لسبعة عشر شهرا وقال قتادة لستة عشر وروى عن أنس بن مالك أنه تسعة أشهر وعشرة أشهر ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة وقد نص الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ثم حولها إليها بقوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) الآية وقوله تعالى( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) وقوله تعالى*( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) فهذه الآيات كلها

١٠٤

دالة على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يصلى إلى غير الكعبة وبعد ذلك حوله إليها وهذا يبطل قول من يقول ليس في شريعة النبي ناسخ ولا منسوخ ثم اختلف في توجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره أو كان مخيرا في توجهه إليها وإلى غيرها فقال الربيع ابن أنس كان مخيرا في ذلك وقال ابن عباس كان الفرض التوجه إليه بلا تخيير وأى الوجهين كان فقد كان التوجه فرضا لمن يفعله لأن التخيير لا يخرجه من أن يكون فرضا ككفارة اليمين أيها كفر به فهو الفرض وكفعل الصلاة في أول الوقت وأوسطه وآخره وحدثنا جعفر بن محمد اليمان قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود بذلك فاستقبله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ويدعو الله تعالى وينظر إلى السماء فأنزل الله( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) الآية وذكر القصة فأخبر ابن عباس أن الفرض كان التوجه إلى بيت المقدس وأنه نسخ بهذه الآية وهذا لا دلالة فيه على قول من يقول إن الفرض كان التوجه إليه بلا تخيير ولأنه جائز أن يكون كان الفرض على وجه التخيير وورد النسخ على التخيير وقصروا على التوجه إلى الكعبة بلا تخيير وقد روى أن النفر الذين قصدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة كان فيهم البراء بن معرور فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوجه إلى بيت المقدس فلما قدموا مكة سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقالوا له فقال قد كنت على قبلة يعنى بيت المقدس لو ثبت عليها أجزك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم كانوا مخيرين وإن كان اختار التوجه إلى بيت المقدس فإن قيل له جائز أن يكون المراد من القرآن المنسوخ التلاوة وجائز أن يكون قوله( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) وكان نزول ذلك قبل النسخ وفيه أخبار بأنهم على قبلة غيرها وجائز أن يريد أول ما نسخ من القرآن فيكون مراده الناسخ من القرآن دون المنسوخ وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة قال الله تعالى( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

١٠٥

اللهِ ) ثم أنزل الله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) إلى قوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما أنهم كانوا مخيرين في التوجه إلى حيث شاءوا والثاني أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه الآية بقوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وقوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ) قيل فيه أنه أراد بذكر السفهاء هاهنا اليهود وأنهم الذين عابوا تحويل القبلة وروى ذلك عن ابن عباس والبراء بن عازب وأرادوا به إنكار النسخ لأن قوما منهم لا يرون النسخ وقيل أنهم قالوا يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك وإنما أرادوا فتنته فكان إنكار اليهود لتحويله عن القبلة الأولى إلى الثانية على أحد هذين الوجهين وقال الحسن لما حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة من بيت المقدس قال مشركوا العرب يا محمد رغبت من ملة آبائك ثم رجعت إليها آنفا والله لترجعن إلى دينهم وقد بين الله تعالى المعنى الذي من أجله نقلهم الله تعالى عن القبلة الأولى إلى الثانية بقوله تعالى( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) وقيل أنهم كانوا أمروا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة فلما هاجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة كانت اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس فنقلوا إلى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما تميزوا من المشركين بمكة باختلاف القبلتين فاحتج الله تعالى على اليهود في إنكارها النسخ بقوله تعالى( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وجه الاحتجاج به أنه إذا كان المشرق والمغرب لله فالتوجه إليهما سواء لا فرق بينهما في العقول والله تعالى يخص بذلك أى الجهات شاء على وجه المصلحة في الدين والهداية إلى الطريق المستقيم ومن جهة أخرى أن اليهود زعمت أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها لأنها من مواطن الأنبياء عليهم السلام وقد شرفها تعالى وعظمها فلا وجه للتولى عنها فأبطل الله قولهم ذلك بأن المواطن من المشرق والمغرب لله تعالى يخص منها ما يشاء في كل زمان على حسب ما يعلم من المصلحة فيه للعباد إذ كانت المواطن بأنفسها لا تستحق التفضيل وإنما توصف بذلك على حسب ما يوجب الله تعالى تعظيمها لتفضيل الأعمال فيها قال أبو بكر هذه الآية يحتج بها من يجوز نسخ السنة بالقرآن لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى إلى بيت المقدس

١٠٦

وليس في القرآن ذكر ذلك ثم نسخ بهذه الآية ومن يأبى ذلك يقول ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة* قال أبو بكر وقوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ليس بمنسوخ عندنا بل هو مستعمل الحكم في المجتهد إذا صلّى إلى غير جهة الكعبة وفي الخائف وفي الصلاة على الراحلة وقد روى ابن عمر وعامر بن ربيعة أنها نزلت في المجتهد إذا تبين أنه صلّى إلى غير جهة الكعبة وعن ابن عمر أيضا أنه فيمن صلّى على راحلته ومتى أمكننا استعمال الآية من غير إيجاب نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخها وقد تكلمنا في هذه المسألة في الأصول بما يغنى ويكفى* وفي هذه الآية حكم آخر وهو ما روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى نحو البيت المقدس فنزلت( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فنادى منادى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمرتم أن توجهوا وجوهكم شطر المسجد الحرام فحولت بنو سلمة وجوهها نحو البيت وهم ركوع وقد روى عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم رجل فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها فاستداروا كهيئتهم إلى الكعبة وكان وجه الناس إلى الشام وروى إسرائيل عن أبى إسحاق عن البراء قال لما صرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة بعد نزول قوله تعالى( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) مر رجل صلّى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفر من الأنصار وهم يصلون نحو بيت المقدس فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى إلى الكعبة فانحرفوا قبل أن يركعوا وهم في صلاتهم* قال أبو بكر وهذا خبر صحيح مستفيض في أيدى أهل العلم قد تلقوه بالقبول فصار في حيز التواتر الموجب للعلم وهو أصل في المجتهد إذا تبين له جهة القبلة في الصلاة أنه يتوجه إليها ولا يستقبلها وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبنى وهو أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين لأن الأنصار قبلت خبر الواحد المخبر لهم بذلك فاستداروا إلى الكعبة بالنداء في تحويل القبلة ومن جهة أخرى أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المنادى بالنداء وجه ولا فائدة* فإن قال قائل من أصلكم أن ما يثبت من طريق يوجب العلم لا يجوز قبول خبر الواحد في رفعه وقد كان القوم متوجهين إلى بيت المقدس بتوقيف من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم عليه ثم تركوه إلى غيره بخبر الواحد* قيل له لأنهم لم يكونوا على يقين

١٠٧

من بقاء الحكم الأول بعد غيبتهم عن حضرته لتجويزهم ورود النسخ فكانوا في بقاء الحكم الأول على غالب الظن دون اليقين فلذلك قبلوا خبر الواحد في رفعه* فإن قال قائل هلا* أجزتم للمتيمم البناء على صلاته إذا وجد الماء كما بنى هؤلاء عليها بعد تحويل القبلة* قيل له هو مفارق لما ذكرت من قبل أن تجويز البناء للمتيمم لا يوجب عليه الوضوء ويجيز له البناء بالتيمم مع وجود الماء والقوم حين بلغهم تحويل القبلة استداروا إليها ولم يبقوا على الجهة التي كانوا متوجهين إليها فنظير القبلة أن يؤمر المتيمم بالوضوء والبناء ولا خلاف أن المتيمم إذا لزمه الوضوء لم يجز البناء عليه ومن جهة أخرى أن أصل الفرض للمتيمم إنما هو الطهارة بالماء والتراب بدل منه فإذا وجد الماء عاد إلى أصل فرضه كالماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه فلا يبنى فكذلك المتيمم ولم يكن أصل فرض المصلين إلى بيت المقدس حين دخلوا فيها الصلاة إلى الكعبة وإنما ذلك فرض لزمهم في الحال وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة لم يكن عليها قبل ذلك فرض الستر وإنما هو فرض لزمها في الحال فأشبهت الأنصار حين علمت بتحويل القبلة وكذلك المجتهد فرضه التوجه إلى الجهة التي أداه إليها اجتهاده لا فرض عليه غير ذلك بقوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فإنما انتقل من فرض إلى فرض ولم ينتقل من بدل إلى أصل الفرض وفي الآية حكم آخر وهو أن فعل الأنصار في ذلك على ما وصفنا أصل في أن الأوامر والزواجر إنما يتعلق أحكامها بالعلم ومن أجل ذلك قال أصحابنا فيمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن عليه صلاة ثم خرج إلى دار الإسلام أنه لا قضاء عليه فيما ترك لأن ذلك يلزم من طريق السمع وما لم يعلمه لا يتعلق عليه حكمه كما لم يتعلق حكم التحويل على الأنصار قبل بلوغهم الخبر وهو أصل في أن الوكالات والمضاربات ونحوهما من أوامر العباد لا ينسخ شيء منها إذا فسخها من له الفسخ إلا من بعد علم الآخر بها وكذلك لا يتعلق حكم الأمر بها على من لم يبلغه ولذلك قالوا لا يجوز تصرف الوكيل قبل العلم بالقبلة بالوكالة والله أعلم بالصواب.

باب القول في صحة الإجماع

قوله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) قال أهل اللغة الوسط العدل وهو الذي بين المقصر والغالي وقيل هو الخيار والمعنى واحد لأن العدل هو الخيار* قال زهير :

١٠٨

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا طرقت إحدى الليالى بمعظم

وقوله تعالى( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) معناه كي تكونوا ولأن تكونوا كذلك وقيل في الشهداء أنهم يشهدون على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها في الدنيا والآخرة كقوله تعالى( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ) وقيل فيه أنهم يشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم المكذبين بأنهم قد بلغوهم لإعلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم* وقيل لتكونوا حجة فيما* تشهدون كما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيد بمعنى حجة دون كل واحد منها* قال أبو بكر وكل هذه المعاني يحتملها اللفظ وجائز أن يكون بأجمعها مراد الله تعالى فيشهدون على الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة ويشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتكذيب لإخبار الله تعالى إياهم بذلك وهم مع ذلك حجة على من جاء بعدهم في نقل الشريعة وفيما حكموا به واعتقدوه من أحكام الله تعالى وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجهين أحدهما وصفه إياها بالعدالة وأنها خيار وذلك يقتضى تصديقها والحكم بصحة قولها وناف لإجماعها على الضلال والوجه الآخر قوله( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) بمعنى الحجة عليهم كما أن الرسول لما كان حجة عليهم وصفه بأنه شهيد عليهم ولما جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم فقد حكم لهم بالعدالة وقبول القول لأن شهداء الله تعالى لا يكونون كفارا ولا ضلالا فاقتضت الآية أن يكونوا شهداء في الآخرة على من شاهدوا في كل عصر بأعمالهم دون من مات قبل زمنهم كما جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا على من كان في عصره هذا إذا أريد بالشهادة عليهم بأعمالهم في الآخرة فأما إذا أريد بالشهادة الحجة فذلك حجة على من شاهد وهم من أهل العصر الثاني وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة على جميع الأمة أولها وآخرها ولأن حجة الله إذا ثبتت في وقت فهي ثابتة أبدا ويدلك على فرق ما بين الشهادة على الأعمال في الآخرة والشهادة التي هي الحجة قوله تعالى( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) لما أراد الشهادة على أعمالهم خص أهل عصره ومن شاهده بها وكما قال تعالى حاكيا عن عيسى صلوات الله عليه( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فتبين أن الشهادة بالأعمال إنما هي مخصوصة بحال الشهادة وأما الشهادة التي هي الحجة فلا تختص بها أول الأمة وآخرها في كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة عليهم كذلك أهل كل عصر لما كانوا شهداء الله من

١٠٩

طريق الحجة وجب أن يكونوا حجة على أهل عصرهم الداخلين معهم في إجماعهم وعلى من بعدهم من سائر أهل الأعصار فهو يدل على أن أهل عصر إذا أجمعوا على شيء ثم خرج بعضهم عن إجماعهم أنه محجوج بالإجماع المتقدم لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد شهد لهذه الجماعة بصحة قولها وجعلها حجة ودليلا فالخارج عنها بعد ذلك تارك لحكم دليله وحجته إذ غير جائز وجود دليل الله تعالى عاريا عن مدلوله ويستحيل وجود النسخ بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيترك حكمه من طريق النسخ فدل ذلك على أن الإجماع في أى حال حصل من الأمة فهو حجة الله عز وجل غير سائغ لأحد تركه ولا الخروج عنه ومن حيث دلت الآية على صحة إجماع الصدر الأول فهي دالة على صحة إجماع أهل الأعصار إذ لم يخصص بذلك أهل عصر دون عصر ولو جاز الاقتصار بحكم الآية على إجماع الصدر الأول دون أهل سائر الأعصار لجاز الاقتصار به على إجماع أهل سائر الأعصار دون الصدر الأول* فإن قال قائل لما قال( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) فوجه الخطاب إلى الموجودين في حال نزوله دل ذلك على أنهم هم المخصوصون به دون غيرهم فلا يدخلون في حكمهم إلا بدلالة* قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) هو خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها من كان منهم موجودا في وقت نزول الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة كما أن قوله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وقوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ) ونحو ذلك من الآي خطاب لجميع الأمة كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى جميعها من كان منهم موجودا في عصره ومن جاء بعده قال الله تعالى( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) وقال تعالى( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) وما أحسب مسلما يستجيز إطلاق القول بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن مبعوثا إلى جميع الأمة أولها وآخرها وأنه لم يكن حجة عليها وشاهدا وأنه لم يكن رحمة لكافتها فإن قال قائل لما قال الله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) واسم الأمة يتناول الموجودين في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتها بالعدالة وقبول الشهادة وليس فيه حكم لأهل عصر واحد بالعدالة وقبول الشهادة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم قيل له لما جعل من حكم له بالعدالة حجة على غيره فيما يخبر به أو يعتقده من أحكام الله تعالى وكان معلوما أن ذلك صفة قد حصلت له في الدنيا وأخبر

١١٠

تعالى بأنهم شهداء على الناس فلو اعتبر أول الأمة وآخرها في كونها حجة له عليهم لعلمنا أن المراد أهل كل عصر لأن أهل كل عصر يجوز أن يسموا أمة إذ كانت الأمة اسما للجماعة التي تؤم جهة واحدة وأهل كل عصر على حيالهم يتناولهم هذا الإسم وليس يمنع إطلاق لفظ الأمة والمراد أهل عصر ألا ترى أنك تقول أجمعت الأمة على تحريم الله تعالى الأمهات والأخوات ونقلت الأمة والقرآن ويكون ذلك إطلاقا صحيحا قيل إن يوجد آخر القوم فثبت بذلك أن مراد الله تعالى بذلك أهل كل عصر وأيضا فإنما قال الله تعالى( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) فعبر عنهم بلفظ منكر حين وصفهم بهذه الصفة وجعلهم حجة وهذا يقتضى أهل كل عصر إذ كان قوله جعلناكم خطابا للجميع والصفة لاحقة بكل أمة من المخاطبين ألا ترى إلى قوله( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ ) وجميع قوم موسى أمة له وسمى بعضهم على الإنفراد أمة لما وصفهم بما وصفهم به فثبت بذلك أن أهل كل عصر جائز أن يسمو أمة وإن كان الإسم قد يلحق أول الأمة وآخرها وفي الآية دلالة على أن من ظهر كفره نحو المشبهة ومن صرح بالجبر وعرف ذلك منه لا يعتد به في الإجماع وكذلك من ظهر فسقه لا يعتد به في الإجماع من نحو الخوارج والروافض وسواء من فسق من طريق الفعل أو من طريق الإعتقاد لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخير وهذه الصفة لا تلحق الكفار ولا الفساق ولا يختلف في ذلك حكم من فسق أو كفر بالتأويل أو برد النص إذ الجميع شملهم صفة الذم ولا يلحقهم صفة العدالة بحال والله أعلم.

باب استقبال القبلة

قال الله تعالى( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) قيل أن التقلب هو التحول وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان يقلب وجهه في السماء لأنه كان وعد بالتحويل إلى الكعبة فكان منتظرا لنزول الوحى به وكان يسأل الله ذلك فأذن الله تعالى له فيه لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يسئلون الله بعد الإذن لأنهم لا يأمنون أن لا يكون فيه صلاح ولا يجيبهم الله فيكون فتنة على قومه فهذا هو معنى تقلب وجهه في السماء* وقد قيل فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب أن يحوله الله تعالى إلى الكعبة مخالفة لليهود وتميزا منهم ويروى ذلك عن مجاهد وقال ابن عباس أحب ذلك لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام

١١١

وقيل أنه أحب ذلك استدعاء للعرب إلى الإيمان وهو معنى قوله( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) وقوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فإن أهل اللغة قد قالوا إن الشطر اسم مشترك يقع على معنيين أحدهما النصف يقال شطرت الشيء أى جعلته نصفين ويقولون في مثل لهم أحلب حلبا لك شطره أى نصفه والثاني نحوه وتلقاؤه ولا خلاف أن مراد الآية هو المعنى الثاني قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس ولا يجوز أن يكون المراد المعنى الأول إذ ليس من قول أحد أن عليه استقبال نصف المسجد الحرام* واتفق المسلمون لو أنه صلى إلى جانب منه أجزأه وفيه دلالة على أنه لو أتى ناحية من البيت فتوجه إليها في صلاته أجزأه لأنه متوجه شطره ونحوه وإنما ذكر الله تعالى التوجه إلى ناحية المسجد الحرام ومراده البيت نفسه لأنه لا خلاف أنه من كان بمكة فتوجه في صلاته نحو المسجد أنه لا يجزيه إذا لم يكن محاذيا للبيت* وقوله تعالى( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ولمن كان غائبا عنها النحو الذي هو عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنه لأنه معلوم أنه لم يكلف إصابة العين إذ لا سبيل له إليها وقال تعالى( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) فمن لم يجد سبيلا إلى إصابة عين الكعبة لم يكلفها فعلمنا أنه إنما هو مكلف ما هو في غالب ظنه أنه جهتها ونحوها دون المغيب عند الله تعالى وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد في أحكام الحوادث وأن كل واحد من المجتهدين فإنما كلف ما يؤديه إليه اجتهاده ويستولى على ظنه ويدل أيضا على أن للمشتبه من الحوادث حقيقة مطلوبة كما أن القبلة حقيقة مطلوبة بالاجتهاد والتحري ولذلك صح تكليف الاجتهاد في طلبها كما صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة لو لم يكن هناك قبلة رأسا لما صح تكليفنا طلبها* قوله تعالى( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) الوجهة قيل فيها قبلة روى ذلك عن مجاهد وقال الحسن طريقة وهو ما شرع الله تعالى من الإسلام وروى عن ابن عباس ومجاهد والسدى لأهل كل ملة من اليهود والنصارى وجهة وقال الحسن لكل نبي فالوجهة واحدة وهي الإسلام وإن اختلفت الأحكام كقوله تعالى( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) قال قتادة هو صلاتهم إلى البيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة وقيل فيه لكل قوم من المسلمين من أهل سائر الآفاق التي جهات الكعبة وراءها أو قدامها أو عن

١١٢

يمينها أو عن شمالها كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها وقد روى أن عبد الله بن عمر كان جالسا بإزاء الميزاب فتلا قوله تعالى( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) قال هذه القبلة فمن الناس من يظن عنى الميزاب وليس كذلك لأنه إنما أشار إلى الكعبة ولم يرد به تخصيص جهة الميزاب دون غيرها وكيف يكون ذلك مع قوله تعالى( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) وقوله تعالى( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) مع اتفاق المسلمين على أن سائر جهات الكعبة قبلة لموليها وقوله تعالى( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) يدل على أن الذي كلف به من غاب عن حضرة الكعبة إنما هو التوجه إلى جهتها في غالب ظنه لا إصابة محاذاتها غير زائل عنها إذ لا سبيل له إلى ذلك وإذ غير جائز أن يكون جميع من غاب عن حضرتها محاذيا لها* وقوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) يعنى والله أعلم المبادرة والمسارعة إلى الطاعات وهذا يحتج به في أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها ما لم تقم الدلالة على فضيلة التأخير نحو تعجيل الصلوات في أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحج وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود سببها ويحتج به بأن الأمر على الفور وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة وذلك أن الأمر إذا كان غير موقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات فوجب بمضمون قوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) إيجاب تعجيله لأنه أمر يقتضى الوجوب* قوله تعالى( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) من الناس من يحتج به في الاستثناء من غير جنسه وقد اختلف أهل اللغة في معناه فقال بعضهم هو استثناء منقطع ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعون موضع الحجة وهو كقوله تعالى( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ ) معناه لكن اتباع الظن* قال النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

معناه لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب وقيل فيه أنه أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل وقال أبو عبيدة إلا هاهنا بمعنى الواو وكأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا وأنكر ذلك الفراء وأكثر أهل اللغة قال الفراء لا تجيء إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كقول الشاعر :

١١٣

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروان

كأنه قال بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان وقال قطرب معناه لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا وأنكر هذا بعض النجاة.

باب وجوب ذكر الله تعالى

قوله تعالى( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) قد تضمن الأمر بذكر الله تعالى وذكرنا إياه على وجوه وقد روى فيه أقاويل عن السلف قيل فيه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي وقيل فيه اذكروني بالثناء بالنعمة أذكركم بالثناء بالطاعة وقيل اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب وقيل فيه اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة واللفظ محتمل لهذه المعاني وجميعها مراد الله تعالى لشمول اللفظ واحتماله إياه* فإن قيل لا يجوز أن يكون الجميع مراد الله* تعالى بلفظ واحد لأنه لفظ مشترك لمعان مختلفة* قيل له ليس كذلك لأن جميع وجوه الذكر على اختلافها راجعة إلى معنى واحد فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذكر والأخوة تتناول الأخوة المتفرقين وكذلك الشركة ونحوها وإن وقع على معان مختلفة فإن الوجه الذي سمى به الجميع معنى واحد وكذلك ذكر الله تعالى لما كان المعنى فيه طاعته والطاعة تارة بالذكر باللسان وتارة بالعمل بالجوارح وتارة باعتقاد القلب وتارة بالفكر في دلائله وحججه وتارة في عظمته وتارة بدعائه ومسألته جاز إرادة الجميع بلفظ واحد كلفظ الطاعة نفسها جاز أن يراد بها جميع الطاعات على اختلافها إذا ورد الأمر بها مطلقا نحو قوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النهى فقوله فاذكروني قد تضمن الأمر بسائر وجوه الذكر منها سائر وجوه طاعته وهو أعم الذكر ومنها ذكره باللسان على وجه التعظيم والثناء عليه والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه ومنها ذكره بدعاء الناس إليه والتنبيه على دلائله وحججه ووحدانيته وحكمته وذكره بالفكر في دلائله وآياته وقدرته وعظمته وهذا أفضل الذكر وسائر وجوه الذكر مبنية عليه وتابعة له وبه يصح معناها لأن اليقين والطمأنينة به تكون قال الله تعالى( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) يعنى والله أعلم ذكر القلب الذي هو الفكر في دلائل الله تعالى وحججه وآياته وبيناته وكلما ازددت فيها فكرا ازددت طمأنينة وسكونا وهذا هو أفضل الذكر لأن سائر الأذكار إنما يصح ويثبت حكمها بثبوته وقد

١١٤

روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (خير الذكر الخفى) حدثنا ابن قانع قال حدثنا عبد الملك بن محمد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن أسامة بن زيد عن محمد عن عبد الرحمن عن سعد بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (خير الذكر الخفى وخير الرزق ما يكفى) قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) عقيب قوله( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) يدل على أن الصبر وفعل الصلاة لطف في التمسك بما في العقول من لزوم ذكر الله تعالى الذي هو الفكر في دلائله وحججه وقدرته وعظمته وهو مثل قوله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ثم عقبه بقوله( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) والله أعلم أن ذكر الله تعالى بقلوبكم وهو التفكر في دلائله أكبر من فعل الصلاة وإنما هو معونة ولطف في التمسك بهذا الذكر وإدامته* قوله تعالى( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) فيه اخبار بإحياء الله تعالى الشهداء بعد موتهم ولا يجوز أن يكون المراد أنهم سيحيون يوم القيامة لأنه لو كان هذا مراده لما قال ولكن لا تشعرون لأن قوله( وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) أخبار بفقد علمنا بحياتهم بعد الموت ولو كان المراد الحياة يوم القيامة لكان المؤمنون قد شعروا به وعرفوه قبل ذلك فثبت أن المراد الحياة الحادثة بعد موتهم قبل يوم القيامة وإذا جاز أن يكون المؤمنون قد أحيوا في قبورهم قبل يوم القيامة وهم منعمون فيها جاز أن يحيا الكفار في قبورهم فليعذبوا وهذا يبطل قول من ينكر عذاب القبر* فإن قيل لما كان المؤمنون كلهم منعمين بعد الموت فكيف خص المقتولين في* سبيل الله* قيل له جائز أن يكون اختصهم بالذكر تشريفا لهم على جهة تقديم البشارة بذكر حالهم ثم بين بعد ذلك ما يختصون به في آية أخرى وهو قوله تعالى( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) فإن قيل كيف يجوز أن يكونوا أحياء ونحن نراهم رميما في القبور بعد مرور الأزمان عليهم قيل له الناس في هذا على قولين* منهم من يجعل الإنسان هو* الروح وهو جسم لطيف والنعيم والبؤس إنما هما له دون الجثة* ومنهم من يقول إن الإنسان هذا الجسم الكثيف المشاهد فهو يقول إن الله تعالى يلطف أجزاء منه بمقدار ما تقوم به البنية الحيوانية ويوصل النعيم إليه وتكون تلك الأجزاء اللطيفة بحيث يشاء الله تعالى أن تكون تعذب أو تنعم على حسب ما يستحقه ثم يفنيه الله تعالى كما يفنى سائر الخلق قبل يوم القيامة ثم يحيه يوم القيامة للحشر وقد حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد

١١٥

ابن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن يحيى بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن كعب بن مالك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (نسمة المسلم طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها إلى جسده) قوله تعالى( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ـ إلى قوله تعالى ـوَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) روى عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة* قال أبو بكر جائز والله أعلم أن يكون قدم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم في الله من هذه البلايا والشدائد المعنيين أحدهما ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود والثاني ما يتعجلون به من ثواب توطن النفس قوله تعالى( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) يعنى والله أعلم على ما قدم ذكره من الشدائد وقوله تعالى( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) يعنى إقرارهم في تلك الحال بالعبودية والملك له وأن له أن يبتليهم بما يشاء تعريضا منه لثواب الصبر واستصلاحا لهم لما هو أعلم به إذ هو تعالى غير متهم في فعل الخير والصلاح إذ كانت أفعاله كلها حكمة ففي إقرارهم بالعبودية تفويض الأمر إليه ورضى بقضائه فيما يبتليهم به إذ لا يقضى إلا بالحق كما قال تعالى( وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) وقال عبد الله بن مسعود لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن* وقوله تعالى( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) إقرار بالبعث والنشور واعتراف بأن الله تعالى سيجازى الصابرين على قدر استحقاقهم فلا يضيع عنده أجر المحسنين* ثم أخبر بما لهم عند الله تعالى عند الصبر على هذه الشدائد في طاعة الله تعالى فقال( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) يعنى الثناء الجميل والبركات والرحمة وهي النعمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله تعالى كقوله في آية أخرى( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) ومن المصائب والشدائد المذكورة في الآية ما هو من فعل المشركين بهم ومنها ما هو من فعل الله تعالى فأما ما كان من فعل المشركين فهو أن العرب كلها كانت قد اجتمعت على عداوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير ما كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار وكان خوفهم من قبل هؤلاء لقلة المسلمين وكثرتهم* وأما الجوع فلقلة ذات اليد والفقر الذي نالهم* وجائز أن يكون الفقر تارة من الله تعالى

١١٦

بأن يفقرهم بتلف أموالهم* وجائز أن يكون من قبل العدو بأن يغلبوا عليه فيتلف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يحتمل الوجهين جميعا لأن النقص من الأموال جائز أن يكون سببه العدو* وكذلك الثمرات لشغلهم إياهم بقتالهم عن عمارة أراضيهم* وجائز أن يكون من فعل الله تعالى بالجوانح التي تصيب الأموال والثمار* ونقص الأنفس جائز أن يكون المراد به من يقتل منهم في الحرب وأن يريد به من يميته الله منهم من غير قتل* فأما الصبرا على ما كان من فعل الله فهو التسليم والرضا بما فعله والعلم بأنه لا يفعل إلا الصلاح والحسن وما هو خير لهم وأنه ما منعهم إلا ليعطيهم وأن منعه إياهم إعطاء منه لهم* وأما ما كان من فعل العدو فإن المراد به الصبر على جهادهم وعلى الثبات على دين الله تعالى ولا ينكلون عن الحرب ولا يزولون عن طاعة الله بما يصيبهم من ذلك ولا يجوز أن يريد بالابتلاء ما كان منهم من فعل المشركين لأن الله تعالى لا يبتلى أحدا بالظلم والكفر ولا يريده ولا يوجب الرضا به ولو كان الله تعالى يبتلى بالظلم والكفر لوجب الرضا به كما رضيه بزعمهم حين فعله والله يتعالى عن ذلك* وقد تضمنت الآية مدح الصابرين على شدائد الدنيا وعلى مصائبها على الوجوه التي ذكر والوعد بالثواب والثناء الجميل والنفع العظيم لهم في الدنيا والدين فأما في الدنيا فما يحصل له به من الثناء الجميل والمحل الجليل في نفوس المؤمنين لائتماره لأمر الله تعالى ولأن في الفكر في ذلك تسلية عن الهم ونفى الجزع الذي ربما أدى إلى ضرر في النفس وإلى إتلافها في حال ما يعقبه ذلك في الدنيا من محمود العاقبة وأما في الآخرة فهو الثواب الجزيل الذي لا يعلم مقداره إلا الله قال أبو بكر وقد اشتملت هذه الآية على حكمين فرض ونفل فأما الفرض فهو التسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله والصبر على أداء فرائضه لا يثنيه عنها مصائب الدنيا ولا شدائدها وأما النفل فإظهار القول بإنا الله وإنا إليه راجعون فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها فعل ما ندب الله إليه ووعده الثواب عليه ومنها أن غيره يقتدى به إذا سمعه ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته ومجاهدة أعدائه ويحكى عن دواد الطائي قال الزاهد في الدنيا لا يحب البقاء فيها وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن للمصيبة لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثوابا والله تعالى أعلم بالصواب.

١١٧

باب السعى بين الصفا والمروة

قال الله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) روى عن ابن عيينة عن الزهري عن عروة قال قرأت عند عائشة رضى الله تعالى عنها( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) فقلت لا أبالى أن لا أفعل قالت بئسما قلت يا ابن أختى قد طاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاف المسلمون فكانت سنة إنما كان من أهل لمناة الطاغية لا يطوف بهما فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بهما حتى نزلت هذه الآية فطاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت سنة قال فذكرت ذلك لأبى بكر بن عبد الرحمن فقال إن هذا العلم ولقد كان رجال من أهل العلم يقولون إنما سأل عن هذا الرجال الذين كانوا يطوفون بين الصفا والمروة فأحسبها نزلت في الفريقين وروى عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) قال كان على الصفا تماثيل وأصنام وكان المسلمون لا يطوفون عليها لأجل الأصنام والتماثيل فأنزل الله تعالى( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) قال أبو بكر كان السبب في نزول هذه الآية عند عائشة سؤال من كان لا يطوف بهما في الجاهلية لأجل إهلاله لمناة وعلى ما ذكر ابن عباس وأبو بكر بن عبد الرحمن أن ذلك كان لسؤال من كان يطوف بين الصفا والمروة وقد كان عليهما الأصنام فتجنب الناس الطواف بهما بعد الإسلام وجائز أن يكون سبب نزول هذه الآية سؤال الفريقين وقد اختلف في السعى بينهما فروى هشام بن عروة عن أبيه وأيوب عن ابن أبى مليكة جميعا عن عائشة قالت ما أتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرئ حجة ولا عمرة ما لم يطف بين الصفا والمروة وذكر أبو الطفيل عن ابن عباس أن السعى بينهما سنة وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله وروى عاصم الأحول عن أنس قال كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية والطواف بينهما تطوع وروى عن عطاء عن ابن الزبير قال من شاء لم يطف بين الصفا والمروة وروى عن عطاء ومجاهد أن من تركه فلا شيء عليه وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أصحابنا والثوري ومالك أنه واجب في الحج والعمرة وتركه يجزى عنه الدم وقال الشافعى لا يجزى عنه الدم إذا تركه وعليه أن يرجع فيطوف قال أبو بكر هو عند أصحابنا من توابع الحج يجزى عنه الدم لمن رجع إلى أهله مثل الوقوف بالمزدلفة ورمى الجمار وطواف الصدر والدليل على أنه ليس من فروضه قوله عليه السلام

١١٨

في حديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمزدلفة فقلت يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلّى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه فهذا القول منهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفى كون السعى بين الصفا والمروة فرضا في الحج من وجهين أحدهما أخباره بتمام حجته وليس فيه السعى بينهما والثاني أن ذلك لو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله بالحكم* فإن قيل لم يذكر طواف الزيارة مع* كونه من فروضه قيل له ظاهر اللفظ يقتضى ذلك وإنما أثبتناه فرضا بدلالة* فإن قيل فهذا يوجب أن لا يكون مسنونا ويكون تطوعا كما روى عن أنس وابن الزبير قيل له كذلك يقتضى ظاهر اللفظ وإنما أثبتناه مسنونا في توابع الحج بدلالة ومما يحتج به لوجوبه أن فرض الحج مجمل في كتاب الله لأن الحج في اللغة القصد قال الشاعر يحج مأمومة في قعرها لجف يعنى أنه يقصد ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يكن اسما موضوعا لها في اللغة وهو مجمل مفتقر إلى البيان فمهما ورد من فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو بيان للمراد بالجملة وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب فلما سعى بينهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك دلالة الوجوب حتى تقوم دلالة الندب ومن جهة أخرى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (خذوا عنى مناسككم) وذلك أمر يقتضى إيجاب الاقتداء به في سائر أفعال المناسك فوجب الاقتداء به في السعى بينهما وقد روى طارق بن شهاب عن أبى موسى قال قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالبطحاء فقال بم أهللت فقلت أهللت بإهلال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحسنت طف بالبيت والصفا والمروة ثم أحل فأمره بالسعي بينها وهذا أمر يقتضى الإيجاب وقد روى فيه حديث مضطرب السند والمتن جميعا مجهول الراوي وهو ما رواه معمر عن واصل مولى أبى عيينة عن موسى ابن أبى عبيد عن صفية بنت شيبة عن امرأة سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصفا والمروة(يقول كتب عليكم السعى فاسعوا) فذكرت في هذا الحديث أنها سمعته يقول ذلك بين الصفا والمروة ولم تذكر اسم الرواية وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبى رباح قال حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبى تجزءة قالت دخلت دار أبى حسين ومعى نسوة من قريش والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف بالبيت حتى أن ثوبه ليدور به وهو يقول لأصحابه (اسعوا فإن الله تعالى قد كتب عليكم السعى)

١١٩

فذكر في هذا الحديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو في الطواف فظاهر ذلك يقتضى أن يكون مراده السعى في الطواف وهو الرمل والطواف نفسه لأن المشي يسمى سعيا قال الله تعالى( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) وليس المراد إسراع المشي وإنما هو المصير إليه والخبر الأول الذي ذكر فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو يسعى بين الصفا والمروة لا دلالة فيه على أنه أراد السعى بينهما إذ جائز أن يكون مراد الطواف بالبيت والرمل فيه وهو سعى لأنه إسراع المشي وأيضا فإن ظاهره يقتضى جواز أى سعى كان وهو إذا رمل فقد سعى ووجوب التكرار لا دلالة عليه فالأخبار الأول التي ذكرناها دالة على وجوب السعى لأنه سنة لا ينبغي تركها ولا دلالة فيها على أن من تركها لا ينوب عنه دم والدليل على أن الدم ينوب عنه لمن تركه حتى يرجع إلى أهله اتفاق السلف على جواز السعى بعد الإحلال من جميع الإحرام كما يصح الرمي وطواف الصدر فوجب أن ينوب عنه الدم كما ناب عن الرمي وطواف الصدر فإن قيل طواف الزيارة يفعل بعد الإحلال ولا ينوب عنه الدم قيل له ليس كذلك لأن بقاء طواف الزيارة يوجب كونه محرما عن النساء وإذا طاف فقد حل له كل شيء بلا خلاف بين الفقهاء وليس لبقاء السعى تأثير في بقاء شيء من الإحرام كالرمى وطواف الصدر فإن قال قائل فإن الشافعى يقول إذا طاف للزيارة لم يحل من النساء وكان حراما حتى يسعى بالصفا والمروة قيل له قد اتفق الصدر الأول من التابعين والسلف بعدهم أنه يحل بالطواف بالبيت لأنهم على ثلاثة أقاويل بعد الحلق فقال قائلون هو محرم من اللباس والصيد والطيب حتى يطوف بالبيت وقال عمر بن الخطاب هو محرم من النساء والطيب وقال ابن عمر وغيره هو محرم من النساء حتى يطوف فقد اتفق السلف على أنه يحل من النساء بالطواف بالبيت دون السعى بين الصفا والمروة وأيضا فإن السعى بينهما لا يفعل إلا تبعا للطواف ألا ترى أن من لا طواف عليه لا سعى عليه وأنه لا يتطوع بالسعي بينهما كما لا يتطوع بالرمي فدل على أنه من توابع الحج والعمرة فإن قيل الوقوف بعرفة لا يفعل إلا بعد الإحرام وطواف الزيارة لا يفعل إلا بعد الوقوف وهما من فروض الحج* قيل له لم نقل أن من لا يفعل إلا بعد غيره فهو تبع فيلزمنا ما ذكرت وإنما قلنا ما لا يفعل إلا على وجه التبع لأفعال الحج أو العمرة فهو تابع ليس بفرض فأما الوقوف بعرفة فإنه غير مفعول على وجه التبع لغيره بل يفعل منفردا

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303