السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام20%

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 293

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 293 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 241935 / تحميل: 7924
الحجم الحجم الحجم
السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لهفي لهنّ وقد سلبن معاجراً

شعثاً وقد ركبن فوق رواحل

فدعت بعمّتها الزكيّة فاطم

بنت النبي دعاء حزين ثاكل

يا عمّتاه أين الحسين وما بنا

بين العداة كأنّنا من كابل

قالت بصرت له على عفر الثرى

ومترّب ما منه رجاء الآمل

متخضّباً بدمائه متعفّراً

في القاع بين جوامع وعواسل

قالت ألا يا عمّتاه واحسرتا

لشقاء أيتام له وأرامل

يا عمّتا كان الحسين يحوطنا

وبه نصول على الزمان الصائل

يا عمّتا كان الحسين وسيلة

ترجى وقد قطع الزمان وسائلي

يا عمّتا ماذا نؤمل ومن

يعتادنا بعوارف وفواضل

يا عمّتا ليس الصديق بزائر

أبداً وليس عدوّنا بمجامل

يا عمّتا وا شقوتا من بعده

ضغناً فليس لكلّنا من حامل

١٠١

الفصل السادس

ينقل المؤرخون أنّ يزيد اللعين كان قد أعدّ مجلساً احتفالاً بالنصر الظاهري الذي حقّقه ولكي ينال من أهل البيت عليهم السلام في هذا المجلس إلّا أنّه لم يتمكّن من ذلك وانقلب السحر على الساحر حيث تحوّل هذا المجلس إلى محكمة أُصدر فيها حكم جريمته النكراء.

فقد تحوّل النصر إلى هزيمة وانتصرت المظلومية على الطغيان والديكتاتورية الهوجاء ....

ولعلّ خير حكم صدر في هذه الجلسة هو الذي صدر من قبل زوجة يزيد هند التي عاشت تلك الأحداث وشاهدت وقائعها المؤلمة.

ففي التاريخ أنّها لمّا دخلت المجلس تساءلت من يزيد وقالت : هذا رأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه واله؟ قال : نعم ، فاذهبي وابكي عليه فخرجت من المجلس مذهولة ساخطة عليه ، وفي واقع الأمر أنّ هذا الأمر يعدّ معجزة من معاجز السيّدة زينب عليها السلام.

ونقل أيضاً أنّ أحد صحابة الرسول صلى الله عليه واله اعترض على الطاغية وقال : سوف تأتي أنت وابن زياد يوم القيامة ويختصم رسول الله صلى الله عليه واله منكما بمحضر هذا الرأس الشريف. وليس هؤلاء فقط بل إنّ كلّ أهل ذلك الزمان خاصّة أهل الشام سخطوا على يزيد الطاغية وتبرّءوا من أفعاله القبيحة التي سوّد بها صفحات التاريخ.

وقد أشارت العقيلة زينب عليها السلام إلى هذه المحاكمة وقالت : ولتردنّ على رسول الله صلى الله عليه واله بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ

١٠٢

أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

وكفى بالله حاكماً وبمحمّد صلى الله عليه واله خصيماً وبجبرئيل ظهيراً.

ومن هنا فإنّ اللعين أمر أن يودع أهل البيت عليهم السلام في خرابة لاتقيهم من الحرّ والبرد حتّى تقشّرت جلودهم نعم هكذا كانت ضيافة الطاغية لأهل البيت عليهم السلام فضلاً عن ضيافة أهل الكوفة لهم حيث إنّهم هتكوا بسوء أفعالهم القبيحة حرمة الإسلام وعمدوا إلى طمس معالم الدين الأصيلة ، ولكن ومع ذلك فإن استقامة السيدة زينب عليها السلام في أسرها وتحدّيها للطواغيت أوصل صوت سيّد الشهداء عليه السلام إلى العالم على مرّ الزمان ولم يجعل الهدف السامي الذي ضحّى من أجله ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله بنفسه الزكيّة يذهب سدى(٢) .

أهل البيت عليهم السلام في قصر يزيد

عندما أُدخل الأسارى في قصر يزيد اللعين جئن نساء آل أبي سفيان لاستقبال بنات الرسول صلى الله عليه واله وأخذن يبكين وينحن لما جرى عليهنّ ، بل وأخذن يتبركنّ ببنات الرسالة فضلاً عن عقدهنّ مجلساً لمصاب سيد الشهداء عليه السلام مدّة ثلاثة أيّام.

وقيل : أنّهنّ عندما شاهدن بنات الرسالة وهنّ يرتدين الملابس الرثّة أخرج ملابسهنّ وقدّمنها لهم ، وفي بعض الروايات : أنّه لمّا أُدخل أهل البيت عليهم السلام مجلس يزيد اللعين أمر اللعين في نهاية المجلس أن يحضر رأس سيّد الشهداء عليه السلام ليتفرّج النساء عليه إلّا أنّ نساء يزيد لمّا شاهدنّ حال أهل البيت عليهم السلام انشغلن بالعزاء والبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام فبهت اللعين وذهب بخزي الدنيا وعذاب الآخرة(٣) .

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

(٢) پيشواى شهيدان ، تأليف آية الله السيّد رضا الصدر ص ٢٧٦.

(٣) راجع : أنساب الأشرف ج ٣ ص ٤١٧ ، روضة الواعظين ج ١ ص ١٩١ ، العقد الفريد ج ٥ ص ١٣٢ ، جواهر المطالب ج ٢ ص ٢٧٣ ، الفصول المهمّة ص ١٩٥ ، نور الأبصار ص ١٢ ، تاريخ الطبري ج ٤

١٠٣

شجاعة عمر بن الحسن أمام يزيد

ينقل أنّ يزيد اللعين أحضر الإمام السجّاد عليه السلام وعمر بن الحسن عليه السلام وكان عمره آنذاك إحدى عشر سنة فقال له يزيد : أتقاتل ولدي خالد؟ فقال عمر في جوابه؟ لا ، إنّني غير حاضر لمقاتلته ، وإنّما اعطني وناوله خنجراً وانظر كيف سنتقاتل ، فانشد يزيد اللعين :

شنشنة أعرفها من أخزم

هل تلد الحيّة إلا الحيّة

علماً أنّ هذين المثالين عند العرب تقال لا ستحسان الكلام ونحن نقول في مثل هذا المقام استحساناً لكلام عمر : شبل الأسد كأبيه.

وفي بعض النسخ : أنّ يزيد لمّا قال لعمرو تقاتل خالد؟! أجابه : أعطه خنجراً ، وناولني خنجراً آخراً لنتقاتل.

حديث أُمّ كلثوم مع أُخت يزيد

وفي بعض الروايات : عندما كان أهل البيت عليهم السلام في مجلس يزيد الطاغية جعل رأس سيّد الشهداء عليه السلام كان أمامه لتنظر إليه فاطمة وسكينة ، وقد أمر يزيد اللعين أن تحضر نساءه ويتفرّجن على الأسارى. وفي بعض الأخبار أنّ نساء يزيد لمّا رأين العلويات على تلك الحالة المأساوية قدّمنّ لهنّ الثياب والمقانع إلّا أنّهنّ رفضن قبولهنّ ، وفي خبر آخر أنّ ليزيد أُختاً اسمها هند كانت جاءت عند العلويات وأخذت تتساءل قائلة : من منكنّ أمّ كلثوم أُخت الحسين عليه السلام.

فقالت أُمّ كلثوم : أنا أُمّ كلثوم ابنة الإمام التقي الزكي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت هند : قتلتم ربيعة وأبو جهل وعتبة فانتقم الله منكم وأنزل عليكم هذا البلاء ، فهل نسيتم ماذا صنع أبوكم بآبائنا؟!

__________________

ص ٣٥٣ ، تذكرة الخواص ص ٢٦٥ ، الكامل في التاريخ ج ٤ ص ٨٦ ، مقتل الخوارزمي ج ٢ ص ٧٣ ، البداية والنهاية ج ٨ ص ١٩٧ ، تسلية المجالس ج ٢ ص ٣٩٩ ، البحار ج ٤٥ ص ١٤٢.

١٠٤

فأجابتها السيّدة أُمّ كلثوم قائلة : ايه يا ابنة آكلة الأكباد ، إنّه ليس هناك نساء كنسائكم المشهورات بالفجور ، وليس هناك رجال كرجالكم عبدة الأوثان والأصنام ، ألم يكن أبوك أبو سفيان الذي كان يجيّش الجيوش ضدّ رسول الله صلى الله عليه واله؟!

وألم تكن أُمّك هند التي عرضت نفسها على وحشي ليقتل حمزة سيّد الشهداء ، ولمّا قتله أكلت كبده؟!

وألم يكن والدك معاوية الذي حمل السلاح في وجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟

وأو ليس يزيد اللعين أخيك قاتل سيّد شباب الجنّة وريحانة رسول الله صلى الله عليه واله الذي كان جبرئيل ومكائيل خادميه ظلماً وعدواناً؟!

ولمّا سمعت هذا الكلام الشديد اللهجة من أُمّ كلثوم سكتت وحارت ماذا تجيبها(١) .

كلام السيّدة سكينة لابنة يزيد

وكان ليزيد اللعين ابنة اسمها عاتكة كانت حاضرة في مجلس أبيها وتساءلت من العلويات فقالت : من منكنّ سكينة؟ فقالت السيّدة سكينة عليها السلام : أنا ابنة من قتلتموه انتقاماً لكفّار بدر ، أُف لكم أتهزؤون وتسخرون بنا؟!ٍ

فقالت عاتكة : أنا ابنة يزيد صاحب الرئاسة والعزّة ومقيم الحقّ ، وإذا بالسيّدة سكينة تجيبها قائلة : بمن تفخرين؟! أتفخرين بأبيك قاتل ذرّية الرسول صلى الله عليه واله؟! أم بأُمّك التي مكّنت نفسها من غلام ....

فبأيّهما تفخرين ، ألا لعنك الله ولعن أباك ، ولمّا سمعت ابنة يزيد هذه الشجاعة من السيّدة سكينة أُلقمت حجراً ولم تنبس ببنة شفة(٢) .

__________________

(١) راجع اكسير العبادات في أسرار الشهادات للدربندي ج ٣ ص ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٢) راجع : اكسير العبادات في أسرار الشهادات ج ٣ ص ٤٢٥.

١٠٥

الرأس يقرأ القرآن

عن المنهال بن عمرو قال : والله رأيت رأس الحسين بن علي عليه السلام حين حمل وأنا بدمشق وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتّى بلغ قوله :( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (١) ، قال : فأنطق الرأس بلسان ذرب فقال : أعجب من أصحاب الكهف قتلي حملي(٢) .

يا شيخ أما قرأت القرآن؟

عندما دخل أهل البيت عليهم السلام الشام دخلوها من باب يقال له «توما» ثمّ أُتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يقام السبي ، وإذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم وقال : الحمدلله الذي قتلكم وأهلككم ، وأراح الرجال من سطوتكم ، وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له الإمام علي بن الحسين عليهما السلام : يا شيخ هل قرأت القرآن؟

فقال : نعم قرأته.

قال : فعرفت هذه الآية :( قُلْ لَا أَسْأَلَكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) ؟

قال : قد قرأت ذلك.

فقال علي بن الحسين عليهما السلام فنحن القربى يا شيخ!

قال : فهل قرأت في :( وَآتِ ذَالْقُرْبَى حَقَّهُ ) (٤) ؟

فقال الشيخ : قد قرأت ذلك.

__________________

(١) سورة الكهف : ٩.

(٢) راجع تاريخ دمشق ج ١٧ ص ٢٤٦ ، الخرائج ج ٢ ص ٥٧٧ ، الثاقب في المناقب ص ٣٣٣ ، الخصائص الكبرى ج ٢ ص ١٧٢ ، بحارالأنوار ج ٤٥ ص ١٨٨ ، الصراط المستقيم ج ٢ ص ١٩٦ ، نور الأبصار ص ١٣٥ ، إثبات الهداة ج ٥ ص ١٩٣ ، العوالم ج ١٧ ص ٤١٢.

(٣) سورة الشورى : ٢٣.

(٤) سورة الإسراء : ٢٦.

١٠٦

فقال الإمام عليه السلام : نحن القربى يا شيخ!

ولكن هل قرأت هذه الآية :( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (١) فنحن ذوالقربى يا شيخ.

وهل قرأت هذه الآية :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) ؟

فقال الشيخ : قد قرأت ذلك.

فقال : فنحن أهل البيت الذي خُصصنا بآية الطهارة.

فبقي الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهمّ إنّي تائب إليك تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم ، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد من الجنّ والإنس(٣) .

وقيل : إنّ سبعين رجلاً من مشايخ دمشق أقسموا بالطلاق والعتاق والحجّ أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ رسول الله صلى الله عليه واله راضٍ عن أفعال يزيد ، ولذا كانوا يبكون ويعتذرون من الإمام طالبين منه العفو فعفا عليه السلام عنهم.

يقول هندوشاه النخجواني في كتاب «تجارب السلف» : بلغ الأمر أنّ الشامي كان يقول للإمام السجّاد عليه السلام أُقسم بالله إنّني كنت أعتقد أنّ رسول الله صلى الله عليه واله لم يكن راضٍ عن أحد كرضا يته عن يزيد وأهل بيته.

ولذلك أقبل إلى الإمام السجّاد عليه السلام وهو باكي معتذراً عمّا بدى منهم من اساءة.

شلّت يمينك يا يزيد

قيل إنّ السيّدة سكينة عليها السلام قالت : إنّني لم أر أقسى من يزيد اللعين ، حيث كان

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣

(٣) أمالي الصدوق ص ٢٣٠.

١٠٧

يضرب ثناي والدي أمامنا ، ولذا لم أطق تحمّل هذا العمل الشنيع منه وألقيت بنفسي على الرأس الشريف مخاطبة يزيد : ما ذنب هذا الرأس حتّى تضربه؟! فتعجّب يزيد اللعين من جرأتها وتساءل قائلاً : من أنت؟ فقلت : أنا سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام(١) .

ارفع يدك يا يزيد

عندما أُدخل الأسارى في مجلس يزيد «اللعين وابن اللعين» خاطبه الإمام السجّاد عليه السلام قائلاً : ما ظنّك يا يزيد بجدّي رسول الله صلى الله عليه واله لو رآنا على هذا الحال ماذا تجيبه؟! ولمّا سمع يزيد هذا الكلام من الإمام عليه السلام أمر بفكّ الأغلال والقيود منهم وأشار على النساء أن يجلسن.

وفي بعض الأخبار أنّه لعنه الله أمر بمقراض من حديد وأخذ بيده المشؤومة يقصّ الأغلال التي في عنق الإمام السجّاد عليه السلام ويقول له : لاأُريد أن يمنّ عليك أحد غيري.

ثمّ إنّه أمر يحضروا طشتاً من ذهب ويضعوا رأس سيّد الشهداء ءعليه السلام فيه ، ولمّا شاهدت عقيلة الهاشميين هذا المنظر صاحت بصوت يفتّ الصخر : يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله صلى الله عليه واله ثمّ صاحت ثانية : يا أبا عبدالله ، عزيز عليَّ أن أراك على هذا الحال ، عزيز عليك تنظر حالي اليوم.

وبعد أن فرغت العقيلة زينب عليها السلام من خاطبها احتضنت الرأس الشريف ، وإذا بنور يسطع من نحو السماء أدهش جميع الحاضرين.

وفي بعض الأخبار : أنّ شفتي سيّد الشهداء عليه السلام أخذ يتلو قوله تعالى :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (٢) .

ولذا فإنّ يزيد اللعين أحسّ أنّه سيفتضح فحاول أن يشغل الحاضرين عن هذه

__________________

(١) راجع أمالي الصدوق ص ٢٣٠ ، بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٥٤ ، روضة الواعظين ج ١ ص ١٩١.

(٢) سورة الشعراء : ٢٢٧.

١٠٨

المعجزة فلم يجد مفرّاً من هذه الفضيحة إلّا أن يأخذ عود الخيزران ويضرب ثنايا سيّد الشهداء عليه السلام.

وبينما هو كذلك إذا بـ «أبو برزة الأسلمي» يقف في وجهه ويقول له : ارفع يدك يالعين عن هاتين الشفتين.

ولا يخفى أنّ أبا برزة الأسلمي كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه واله ، وقد سكن الشام سنين عديدة إلّا أنّه كان ملازم لداره لا يخرج منها مع أنّ معاوية السوء حاول كثيراً الالتقاء به إلّا أنّه لم يعبأ به بل لم يكن يقبل هداياه وجوائزه الكثيرة التي كان يبعثها إليه بين الحين والآخر.

ومع ذلك لمّا سمع أنّ أهل البيت عليهم السلام قد أُدخلوا في مجلس يزيد خرج من منزله وجاء إلى قصر الطاغية ليدافع عن حرم الله.

ولذلك عندما شاهد هذا العمل الشنيع من يزيد الطاغية لم يتحمّل السكوت واتّكأ على عصاه وقال : الويل لك يا يزيد ، أتضرب ثنايا أبي عبدالله عليه السلام؟ لطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه واله يقبّلهما ويقول في حقّه وأخيه : «أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، قاتل الله قاتلكما».

وما أن سمع يزيد الطاغية هذا الكلام من أبي برزة استشاط غضباً وأمر جلاوزته بإخراجه ثمّ عاد يضرب ثنايا أبي عبدالله عليه السلام أكثر ، وفيما هو كذلك إذا بغراب يحوم حول قصره وهو ينعق ، فتشاءم اللعين من نعيقه وارتعدت فرائصه واختطف لونه(١) .

وكما في رواية سهل : أنّه لمّا جعل رأس سيّد الشهداء عليه السلام في طشت من ذهب وغطّوه بمنديل وجلس الطاغية أمامه شامتاً نعق الغراب فأنشد يزيد أشعاره الدالّة على كفره بالله تعالى.

وبينما كان يزيد مخطوف اللون شاحب الوجه من نعيق الغراب دخل عليه عالم

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٣٣ مع اختلاف في العبارة.

١٠٩

اليهود رأس الجالوت ، والذي اتّخذه يزيد طبيباً له ، فتساءل منه قائلاً ، رأس من هذا؟ فقال رأس أحد الخوارج ، قال رأس الجالوت : وما اسمه؟ قال : حسين. قال : ولماذا قتلته؟ قال : نازعني في خلافتي وأراد أن يغتصبها منّي. فقال اليهودي بعد أن عرف من هو الإمام الحسين عليه السلام : لقد كان أليق بالخلافة منك ، وأعلم يا يزيد إنّ بيني وبين نبي الله داود واسطة أربعين جدّاً ومع ذلك فإنّ اليهود يعظّموني ويتبرّكون بي ، أمّا أنتم فبالأمس قد كان نبيّكم بينكم واليوم تقتلون أولاده وتنتهكون حرمته ، ثمّ حمل سيفه وهمّ بقتل يزيد إلّا أنّ الحرس حالوا دون ذلك ، ولمّا يأس اليهودي من الظفر بقتل الطاغية انعطف على الرأس الشريف وأخذ يقبّله ويقول : لعن الله قاتليك ، وكان جدّك رسول الله صلى الله عليه واله خصمهم يوم القيامة.

سيّدي عزيز عليَّ أن تقتل ولا أُناصرك وأُستشهد بين يديك.

سيّدي أبلغ سلامي إلى جدّك رسول الله صلى الله عليه واله وأخبره عن إيماني برسالته.

وفيما هو يخاطب الرأس الشريف التفت إليه يزيد وقال : لو لم يكن لي حاجة بمعالجتك لقتلتك شرّ قتلة ، فأجابه اليهودي قائلاً : أُقسم بالله أنّني لن أُعاجلك بعد اليوم أبداً فاستشاط يزيد من كلامه غضباً وأمر الجلّاد أن يضرب عنقه(١) .

أمثل رأسك يضرب بالسياط؟

يقول هلال بن معاوية : رأيت حامل رأس الإمام الحسين عليه السلام يحمل الرأس الشريف والرأس يخاطبه : فرّقت بيني وبين جسدي فرّق الله لحمك وجعلك آية للناس فاغتاظ اللعين ورفع سوطه وجعل يضرب الرأس الشريف حتّى سكت.

__________________

(١) راجع كلّ من : تذكرة الخواص ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، تهذيب الكمال ج ٦ ص ٤٢٨ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٩٣ ، سير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٣٠٩ ، البداية والنهاية ج ٨ ص ١٩٤ ، أنساب الأشراف ج ٣ ص ٤١٦ ، الملهوف ص ٢١٤ ، مثير الأحزان ص ١٠٠ ، بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٣٢ ، مقتل الخوارزمي ج ٢ ص ٥٢.

١١٠

ونقل العلّامة المقرّم قدس سره : عندما شجب مبعوث ملك الروم جنايات يزيد أمر اللعين بقتله فنظق الرأس الشريف بلسان فصيح وقال : لا حول ولا قوّة إلّا بالله.

ونقل العلّامة المقرّم أيضاً فقال : عندما نصب الرأس الشريف على شجرة اجتمع الناس حوله من كلّ صوب وشاهدوا كيف يسطع النور منه وهو يردّد قائلاً :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (١) .

وقد سمع سلمة بن كهيل الرأس الشريف يقرأ قوله تعالى :( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٢) وهناك الكثير من القصص المشابهة لمثل هذه الوقائع ومنها قصّة يحيى الحراني التي مرّ ذكرها.

نصب الرأس الشريف في الشام

بعد أن تجاسر يزيد الطاغية على رأس سيّد الشهداء عليه السلام وصنع ما صنع أمر أن ينصب في مسجد الجامع في دمشق في نفس المكان الذي نصب فيه رأس نبي الله يحيى ابن زكريا عليهما السلام(٣) .

امرأة تستشهد بعد الحسين عليه السلام

يقول أحد الرواة : كنت عند يزيد ، فدخلت عليه امرأة لم أر مثلها في وقارها وعفّتها وبمجرّد أن رأت المرأة الرأس الشريف موضوعاً أمام يزيد التفتت إليه وقالت : رأس من هذا؟ قال : رأس الحسين بن علي عليهما السلام. فقالت : أُقسم بالله أنّه ليعزّ على جدّه رسول الله صلى الله عليه واله وأُمذه فاطمة ووالده علي بن أبي طالب عليهم السلام أن يرونه على هذا الحال.

والله لقد رأيت البارحة في عالم الرؤيا أنّ أبواب السماء قد فتحت وهبط خمسة

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.

(٢) سورة البقرة : ١٣٧.

(٣) راجع : سيرة أعلام النبلاء ج ٣ ص ٣١٩ ، الاتحاف بحبّ الأشراف ص ٦٩ ، جواهر المطالب ج ٢ ص ٢٩٩ ، بحارالأنوار ج ٤٥ ص ١٤٥.

١١١

من الملائكة في أيديهم من نار وهو يقولون : لقد أمرنا الله عزّوجلّ بحرق دار يزيد.

وما أن سمع اللعين هذا الكلام إذا به يغتاظ وتنتفخ أوداجه ويقول : الويل لك ، فوالله لأقتلنّك شرّ مقتلة.

فقالت المرأة ، وماذا أصنع لتعفو عنّي؟! قال يزيد : تصعدين المنبر وتنالين من علي وأولاده. قالت : لا بأس ، عليك بجمع الناس.

فارتقت المرأة المنبر وخاطبت الناس قائلة : أيُّها الناس إنّ يزيد أمرني أن أنال من علي بن أبي طالب عليهما السلام والحال أنّه ساقي العطاشى يوم المحشر من نهر الكوثر وهو حامل لواء رسول الله صلى الله عليه واله ووالد السبطين الحسن والحسين عليهما السلام سيّدا شباب أهل الجنّة.

أيّها الناس اسمعوا ما أقول لكم : ألا لعنة الله وجميع اللاعنين على يزيد وكلّ من تابع وشايع في قتل سيّد الشهداء عليه السلام وصلّى الله على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى قيام يوم الدين حييت على ذلك وأموت عليه إلى يوم البعث. وإذا بيزيد يمتلأ غيظاً من كلامها ويقول : من هذه المرأة؟! خذوها ، فنهض لعين من أتباعه وشهر سيفه وقتلها.

وفي بعض الأخبار أنّ هذه المرأة كانت زوجة يزيد استيقظت من النوم بعد أن رأت رؤيا عجيبة جعلتها تلطم على وجهها وتشقّ ثيابها الفاخرة وهي تخاطب يزيد ببكاء ونحيب قائلة : دع عنك يايزيد ظلم ذرّية فاطمة عليهم السلام ثمّ قصّت رؤياها التي رأتها في المنام(١) .

وقد نقل أبو مخنف هذه القصّة بشكل آخر فلتراجع.

مصرع حامي الرأس الشريف

يقول منصور بن الياس : بعد أن زيّنت الشام فرحاً بورود السبايا أراد حامل الرأس الشريف الدخول إلى المدينة فلم يطاوعه جواده ، فأمر بجواد آخر فلم يطاوعه هو الآخر

__________________

(١) تذكرة الشهداء ص ٤١٩.

١١٢

فأمر بجواد ثالث وراجع فلم يطاوعه منها أحد حتّى أوشك الرأس الشريف على الوقوع فهبّ إبراهيم الموصلي لحفظ الرأس خشية أن يقع إلّا أنّ أهل الشام اللعناء حملوا عليه وقتلوه انتقاماً منهم لاحترامه الرأس المقدّس(١) .

محادثة بين الرأس والعليل

نقل أبو فراس في «شرح الوافية» فقال : عندما طلب الإمام السجّاد عليه السلام من يزيد أن يريه رأس أبيه كان اللعين يرفض بشدّة وقد غطّى الرأس بمنديل.

وبينما هما على ذلك الحال إذا بالرأس الشريف يخاطب الإمام السجّاد عليه السلام بعد أن ارتفع المنديل جانباً : السلام عليك يا ولدي يا علي ، فأجابه الإمام السجّاد عليه السلام قائلاً : وعليك السلام ورحمة الله يا أبتاه ، لقد أُيتمت على صغر سنّي ، وفرّق بيني وبينك وإنّي ماضٍ إلى حرم جدّنا رسول الله صلى الله عليه واله فأودعك الله(٢) .

الرأس الشريف يصبّر العقيلة

ورد في بعض مقاتل العامّة : أنّ أهل البيت عليهم السلام لمّا دخلوا الشام التفتت العقيلة زينب إلى شمر وقالت : مرّ بنا من الطرق الفارغة إلّا أنّه لم يعتن بها ومرّ بهم من الطرق المزدحمة ، فاغتاظت العقيلة زينب عليها السلام وأمرت الأرض أن تبلعه ، فابتلعت نصف بدنه إلّا أنّ سيّد الشهداء عليه السلام حال دون هلاكه حيث أوصى الرأس الشريف العقيلة بالصبر فقال : أُختاه ، اصبري لقضاء الله ، فأمرت العقيلة عليها السلام الأرض أن تلفظه فلفظته(٣) .

وزينب تدعو بالحسين وقلبها

حزين لفقدان السلو ثكول

أخي يا أخي قد كنت عزّي ومنعتي

فأصبح عزّي فيك وهو ذليل

__________________

(١) كامل البهائي ج ٢ ص ٢٩٢.

(٢) راجع اكسير العبادات في أسرار الشهادات ج ٣ ص ٦١٢ ، مثير الأحزان لابن نما ص ١٠٦ مع اختلاف في النقل.

(٣) شهيد كربلا ج ٢ ص ٣٢٨ نقلاً عن الخصائص الزينبية للجزائري ص ١٢٠.

١١٣

أخي يا أخي لم أُعط سؤلي ولم يكن

لأختك مأمول سواك وسول

أخي لو ترى عيناك ما فعل العدا

بنا لرأت أمراً هناك يهول

ترانا سبايا كالإماء حواسراً

يجدّ بنا نحو الشام رحيل

أخي لاهنتي بعد فقدك عيشتي

ولا طالب لي حتّى الممات مقيل

فإن كنت أزمعت المغيب فقل لنا

أما لك من بعد المغيب قفول

أقول كما قد قال عنّي والدي

وأدمعه بعد البتول همول

أرى علل الدنيا عليَّ كثيرة

وصاحبها حتّى الممات عليل

لكلّ اجتماع من خليلين فرقة

وإنّ بقائي بعدكم لقليل

مَن المنتصر؟

ينقل أنّ إبراهيم بن طلحة بن عبدالله عندماسمع بقدوم الأسارى خرج لاستقبالهم ، وبعد أن رأى الإمام السجّاد عليه السلام قال له مستهزأً : من الذي غلب؟

وكما في بعض الأخبار أنّ الإمام عليه السلام كان مطأطأ رأسه ولمّا سمع كلامه الجارح التفت إليه وقال : إذا أردت أن تعرف من الغالب عليك أن تسمع صوت المؤذّن إذا حان وقت الصلاة ، إشارة إلى أنّ الغالب هو من يهتف باسمه بعد لفظ الجلالة كلّ يوم خمس مرّات ألا وهو جدّ العترة الطاهرة محمّد صلى الله عليه واله.

ولا يخفى أنّ إبراهيم هذا كان من أنصار طلحة والزبير في حرب الجمل ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام.

إنّهم إحياء يرزقون

يقول الحارث بن الوكيدة : كنت فيمن حمل رأس الحسين بن علي عليه السلام ، وفي بعض الطريق سمعته يقرأ سورة الكهف فتحيّرت وبقيت مذهولاً ، وإذا بالرأس الشريف يخاطبني قائلاً : يابن وكيدة ، ألا تعلم أنّنا معشر ـ الأئمّة ـ أحياء عند ربّنا نرزق؟ فقلت في نفسي : أسرق رأسه ، وإذا بالرأس يخاطبني قائلاً : تب إلى الله ، فإنّك لن تصل إلى

١١٤

مرادك(١) ، فإنّ اراقة دمي أعظم من رأسي ، ثمّ تلا قوله تعالى :( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ) (٢) .

وفي كتاب المناقب لابن شهر آشوب : أنّ رأس سيّد الشهداء عليه السلام عندما نصب على شجرة كان يقرأ هذه الآية :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (٣) .

وقال ابن شهر آشوب أيضاً : إنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام في بعض زقاق الكوفة كان يقرأ قوله تعالى :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (٤) .

يزيد يأمر بقتل الإمام السجّاد عليه السلام

ينقل المؤرخون : أنّ يزيد اللعين قال للإمام السجّاد عليه السلام في بعض مجالسه : إنّ أباك قطع رحمي ونازعني ملكي ولم يراعِ فيَّ حقّ فصنع الله به ما صنع.

فأجابه الإمام السجّاد عليه السلام : يابن معاوية وهند! ما زالت النبوّة والملك تحطّ رحالها في بيوتنا وبيوت أجدادنا من قبل أن تولد إلى يومنا هذا.

ألم تكن راية رسول الله صلى الله عليه واله يوم بدر وأُحد والأحزاب في يد جدّي أمير المؤمنين عليه السلام؟!

أو ليس أنّ راية الكفر والضلال كانت في أيادي أجدادك؟!

فالويل لك يا يزيد ، لو كنت تعلم عظيم ما ارتكبه في حقّنا لما هنا لك العيش ولهمت على وجهك في الصحاري ولأفترشت الرمال ولقضيت العمر كلّه في الحسرة والندامة.

__________________

(١) راجع : اكسير العبادات في أسرار الشهادات ج ٣ ص ٢٥٦.

(٢) سورة مؤمن : ٧١.

(٣) سورة الشعراء : ٢٢٧.

(٤) سورة الكهف : ١٣.

١١٥

أما تستحي ، رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وفلذة كبد المصطفى ينصب في بلادك؟! ولما سمع يزيد اللعين هذا الكلام امتلأ غيظاً وتطاير الشرر من عيناه وأومأ إلى أحد جلاوزته أن يأخذ الإمام عليه السلام إلى أحد البساتين ويضرب عنقه ، وبالفعل فقد قاد اللعين الإمام إلى بعض البساتين وأخذ يحفر له قبراً بينما اشتغل الإمام بالصلاة ، وبعد أن فرغ اللعين من تجهيز القبر همّ بقتل الإمام عليه السلام إلّا أنّ يداً من السماء صَفَعَته صفعةً فصاح صيحة شديدة وهوى إلى الأرض ميّتاً.

الملفت للانتباه أنّ خالد بن يزيد كان يشرف على قتل الإمام عليه السلام ، ولمّا شاهد هذه الكرامة هرع إلى والده وقصّ عليه القضيّة فأمر اللعين أن يُدفن الجلّاد في نفس القبر الذي حفره بيديه وأشار على بعض جلاوزته أن يعيدوا الإمام عليه السلام إلى مجلسه(١) .

جد ياجد لو رأيت عليّاً

ناحلاً والسقام قد أضناه

لو تراه بقيد وهو يبكي

بين قوم لا يرحمون بكاه

وإذا ما رأى أُمّ كلثوم نادى

أتعبوني بالقيد يا عمّتاه

فبكت رحمة له أُمّ كلثوم

وأجابت من بعد ذاك نداه

ثمّ قالت له ألا إنّ ذا الحال

عزيز لجدّنا أن يراه

وعزيز لعيه أن لو يرى اليوم

بعينيه بعض ما نلناه

لو يرانا ونحن فوق المطايا

عند رجس نسير في مسراه

وإذا ما وقفن في السير عنه

ساعة لم يكف عنّا أذاه

طالباً للشآم نحو يزيد

جعلت في جهنّم مثواه

ثمّ لمّا أتيته في دمشق

بهت الرجل إذ رأت عيناه

__________________

(١) راجع ارادتهم قتل الإمام السجّاد في كلّ من : المناقب ج ٤ ص ١٧٣ ، تذكرة الخواص ص ٢٥٨ ، إعلام الورى ص ٢٤٧ ، بحار الأنوار ج ٤٥ ص ٢٠٠ ، إثبات الوصيّة ص ١٤٥ ، البداية والنهاية ج ٨ ص ١٩٨ ، تاريخ دمشق ج ١٩ ص ٤٢٠ ، تاريخ الإسلامي للذهبي ج ٣ ص ١٢.

١١٦

رأس سبط النبي فوق قناه

والسبايا يصحن واسنداه

ثمّ قال الزنيم ويل ابن مرجان

على الطاهرين ما أعداه

ويحه ما أشدّه من عتلّ

ويحه في الفعال ما أقساه

كنت أرضى بدون ذا الفعل منه

لكن الأمر ما أراد الله

ودعا الرجس بعد ذاك بالرأس

فأُتي به فلمّا رآه

ساطعاً بالضيا تعجّب منه

ثمّ منه تعجّبت جلساه

وعلا بالقضيب رأس حسين

ثمّ في طست عسجد ألقاه

وانثنى الرجس ثمّ أنشد شعراً

وترنّم وقال في منشاه

ليت أشاخنا تشاهد ذا اليوم

الذي قد أسرّنا لقاه

يا لها اليوم فرحة وسروراً

حيث نال الصديق فيه مناه

فعلى الطاغي اللعين يزيد

لعنة الله دائماً تغشاه

فالعنوه ببكرة وأصيل

فلقد طال في المعاد شقاه

والعنوا ما استطعتم ابن زياد

وابن سعد ومن سعى في رضاه

فلقد باع دينه من يزيد

بالزهيد القليل من دنياه

جدّدوا اللعن ما بقيتم عليه

وأطيلوا مدى الزمان سجاه

فلعنهم من المهيمن لعن

ليس يفنى ولا يزول بقاه

رواية أُخرى

نقل الشيخ المفيد والسيّد ابن طاووس وغيرهما بطرق مختلفة عن فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام أنّها قالت : عندما أدخلونا في مجلس يزيد اللعين رقّ لنا في بادئ الأمر فقام رجل من أهل الشام وقال له : يزيد هب لي هذه الجارية ، فلذت بعمّتي زينب وخاطبتها : عمّة ايتمت واستخدم بعد والدي؟! فقالت : إنّ هذا ليس له ولا لأميره ، فقال يزيد : بل إنّه لي. فقالت عمّتي زينب : إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها. فغضب اللعين وقال : بل خرج من الدين أبوك وأخوك.

١١٧

فقالت العقيلة : بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً. فأجابها يزيد : كذبت يا عدوّة الله ، فعزّ على العقيلة هذا الكلام وآلمها وقالت : أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك ، فاستحى اللعين وسكت.

فأعاد الشامي قوله : يزيد ، هب لي هذه الجارية.

فنهره يزيد وأشار عليه بأن اسكت قاتلك الله.

وفي رواية أُخرى : أنّ أُمّ كلثوم خاطبة الشامي قائلة : اسكت فظّ الله فاك وأخذ الذي فيه عيناك وسقاك حرّ الجحيم ، اتستخدم أولاد الأنبياء وتدّعي أنّك ولد حلال؟!

ولم تفرغ السيّدة أُمّ كلثوم عليها السلام من دعاءها وإذا بالشامي يعجز عن الكلام ويفقد بصره ، فحمدت الله تعالى على إجابة دعوتها وقالت : الله أحمد الذي أراني عقوبة من يتعرّض لأبناء الرسالة في هذه الدنيا.

وفي رواية ابن طاووس : أنّ الشامي سأل من يزيد مرّتين فقال : من هذه؟ فقال : فاطمة ابنة الحسين وهذه عمّتها زينب بنت علي بن أبي طالب ، فقال الشامي : ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب؟ قال يزيد : نعم ، وإذا به يرتعد ويقول : لعنك الله يا يزيد ، تقتل أولاد الرسول صلى الله عليه واله وتأسر ذرّيته؟! والله لقد ظننت أنّهم أُسارى من الافرنج.

فقال يزيد : والله لألحقنّه بالحسين بن علي وأمر الجلّاد أن يضرب عنقه ثمّ أشار على حرسه أن يودعوا أهل البيت عليهم السلام السجن(١) .

__________________

(١) راجع القضية على اختلاف العبارات في كلّ من الإرشاد ج ٢ ص ١٢١ ، مقتل الخوارزمي ج ٢ ص ٦٢ ، روضة الواعظين ج ١ ص ١٩٢ ، مثير الأحزان ص ١٠٠ ، إعلام الورى ص ٢٤٩ ، الاحتجاج ج ٢ ص ١٣١ ، تذكرة الخواص ص ٢٤٦ ، الملهوف ص ٢١٨ ، جواهر المطالب ج ٢ ص ٢٩٥ ، تسلية المجالس ج ٢ ص ٣٨٥.

١١٨

من معاجز الإمام السجّاد عليه السلام

ينقل أنّ أحد الصيّادين وكان يحمل غزالاً صغيراً وإذا به يشاهد الأُسارى والأطفال فوقف هنيئة ليتفرّج عليهم.

ولمّا شاهد الأطفال الغزال الصغير جاءوا إلى الإمام السجّاد عليه السلام وقالوا له : نريد غزالاً ، فقال الإمام عليه السلام للصيّاد : أتبيع هذا الغزال؟! قال : نعم ، ولكن لن أبيعه إلّا ليزيد ، فهو غزال جميل وإذا بعته ليزيد فسيكرمني ويحسن إليّ في عطائه.

فقال الإمام عليه السلام : بعه إليّ وبأيّ ثمن تريد ، فتعجّب الصيّاد وبقى متحيّراً من كلام الإمام عليه السلام ، وبينما هو كذلك إذا بالإمام عليه السلام يأخذ بعض الحجارة الصغيرة وناولها إيّاه ، حقّق الصيّاد فيما أعطاه الإمام عليه السلام فوجدها مجموعة من الجواهر الثمينة فلم يجد بدّاً من أن يقدّم الغزال للإمام عليه السلام ويرحل.

ثمّ إنّ خبر الغزال شاع في الشام ووصل إلى يزيد اللعين ، فطلب الصيّاد وأمره أن يقصّ عليه الحدث.

وحيث إنّ الصيّاد أصبح من الموالين الخلّص للإمام عليه السلام بعد مشاهدته لكرامته العجيبة فقد نقل القضية وأكّد أمام الملأ على كرامة الإمام السجّاد عليه السلام عند الله تعالى ولذا فإنّ يزيد أمر بقتله وإخفاء أمره حتّى لا يطّلع الناس على هذه الكرامة. ولم تمض سوى أيّام قليلة إذا بخبر قتل الصيّاد يصل إلى الإمام السجّاد عليه السلام ، فجاء إلى قبره وأشار إليه وقال : قم بإذن الله ، فخرج الصيّاد من قبره سالماً كأن لم يكن به شيء أصلاً(١) .

خطبة العقيلة زينب عليها السلام

عندما كان يزيد يهزأ بأهل البيت عليهم السلام ويتغطرس بأنفه شامتاً تصدّت العقيلة زينب عليها السلام إليه بخطبتها الغرّاء وكشفت للعالم بأسره شدّة طغيانه وانحرافه فقالت عليها السلام :

__________________

(١) من الرسول صلى الله عليه واله إلى الإمام زين العابدين عليه السلام تأليف الشيخ علي الفلسفي.

١١٩

«الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين ، صدق الله تعالى إذ يقول( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ ) (١) أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الأُسارى أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأُمور لك متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله تعالى :( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (٢) .

أمن العدل يابن الطلقاء(٣) تخديرك إماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا؟! قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، يحدى بهنّ من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهنّ حميّ. وكيف تُرجى المراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء(٤) ، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!

وكيف لا يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا : يا يزيد لا تشل

منتحياً على ثنايا أبي عبدالله عليه السلام تنكتها بمخصرتك؟

__________________

(١) الروم : ١٠.

(٢) آل عمران : ١٧٨.

(٣) هذه إشارة إلى قول رسول الله صلى الله عليه واله لأبي سفيان جدّ يزيد الذي عفا عنه الرسول صلى الله عليه واله هو وأتباعه فقال صلى الله عليه واله : «إذهبوا فأنتم الطلقاء» ز

(٤) هذه إشارة إلى هند آكلة الأكباد حيث إنّها مثّلث بحمزة سيّد الشهداء عليه السلام فأخرجت كبده وحاولت أن تأكله إلّا أنّها لم تستطع ذلك.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

النفسيّ، وإظهار الطاعة القلبيّة بعمل محسوس.

ثمّ لو كانت ( البيعة ) الطريق الوحيد لانتخاب الحاكم وتعيين القائد، لوجب أن يرد لها ذكر في أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين: ولقد كان الإمام عليّعليه‌السلام هو الخليفة الوحيد الذي انتخب للحكم عن طريق البيعة دون بقيّة الخلفاء، فالاُمّة لم تبايع أيّاً من الخلفاء الأربعة بحقيقة البيعة، سواه أللّهم إلّا في أبي بكر والتي كانت البيعة في مورده بيعةً ناقصةً، أقتصرت على بعض المسلمين لا عامّتهم(١) ، وكانت بمثابة التسليم للأمر الواقع.

وهناك أحاديث غامضة حول البيعة تحتاج إلى الدراسة والتحقيق فلتراجع المصادر التالية :

بحار الأنوار ( الجزء ٢ ) كتاب العلم ( باب ٣٣ ) الأحاديث: ٢١ و ٢٢ و ٢٣ و ٢٨. وبحار الأنوار ( الجزء ٢٧ ) كتاب الإمامة ( الباب ٣ ) الأحاديث: ١ و ٤ و

__________________

(١) كما مرّ عليك سابقاً.

٢٤١
٢٤٢

الفصل الرابع

صفات الحاكم الإسلاميّ

إنّ أهميّة ( القيادة والحكم ) في حياة الاُمّة وخطورتها البالغة وما يترتّب عليها من سعادة وشقاء، تقتضي اعتبار سلسلة من الشروط والصفات في الحاكم، والرئيس لولاها لانحرفت القيادة عن طريق الحقّ، وانتهت بالاُمّة إلى أسوء مصير. ولقد فطن الإسلام إلى ذلك الأمر الخطير والناحية الحسّاسة، فاشترط وجود صفات معينة في الحاكم والرئيس وقد فرض على الاُمّة الإسلاميّة مراعاة هذه الأوصاف والشروط عند انتخاب الحاكم

وها نحن نشير فيما يلي إلى بعض هذه الصفات، مع الإشارة إلى شيء من أدلتها وفلسفتها على نحو الإجمال والاختصار :

١. الإيمان :

وهو الإعتقاد القلبيّ بالإسلام عقيدةً ونظاماً وخلقاً كما في القرآن الكريم والسنّة المطهرة، ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى أنّ الدين الإسلاميّ أفضل المبادئ وخير المناهج، وأنّ العقيدة بالله تعالى، وبشرائعه من مبادئه الأوّليّة فلا يحقّ للكافر بها أن يسود المؤمنين ؛ بحكم العقل ؛ لأنّ ذلك يكون من قبيل تسويد من لا كفاءة له على صاحب

٢٤٣

الكفاءة التامّة ـ قوله سبحانه:( وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ( النساء: ١٤١ ).

وأيّ سبيل أقوى من الولاية والحكومة على المؤمنين.

* * *

٢. حسن الولاية والقدرة على الإدارة :

إنّ صلاحية الشخص للحكم والإدارة منوطة بقدرته على القيام بلوازم الولاية وأعبائها، فحسن الولاية والكفاءة الإدارية شرط أساسيّ لاحتلال مقام الحكومة والرئاسة، إذ التأريخ البشريّ قديماً وحديثاً يشهد بأنّ تصديّ الحكّام غير القادرين على الإدارة وغير الأكّفاء للولاية جرّ على الشعوب والاُمم ـ وخاصّةً الإسلاميّة ـ أسوء المآسي، وأشد الويلات.

إنّ بداهة هذا الشرط وأهميّة هذه الصفة واضحة لكلّ أحد بحيث لا نحتاج إلى إقامة دليل عليها، فالقيادة توجب بذاتها هذا الشرط وتوفّر مثل هذه الصفة في الحاكم والرئيس حتّى إذا لم يقم على ذلك دليل من خارج.

وإلى أهمية هذه الصفة الحيوية في الحاكم يشير الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول: « لا تصلُح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاثُ خصال :

١. ورع يحجزه عن معاصي الله.

٢. وحلم يملكُ به غضبهُ.

٣. وحسنُ الولاية على من يلي حتّى يكون كالوالد ( وفي رواية كالأب ) الرحيم »(١) .

بل ويشترط الإسلام أن يكون الحاكم أكفأ من غيره على الإدارة، وأقدر من غيره

__________________

(١) الكافي ١: ٤٠٧.

٢٤٤

على الولاية والقيادة.

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « أيّها الناسُ إنّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقومهم [ وفي رواية أقواهم ] وأعلمهم بأمر الله فإن شغب شاغب استُعتب وإن أبى قُوتل »(١) .

إنّ أهم ما يشترط في الحاكم في نظر الإسلام هو حسن الولاية على من يلي اُمورهم، والمقدرة الكافية على قيادتهم، إذ بذلك يمكن للحاكم والرئيس أن يلمَّ شعث المسلمين، ويجمع شملهم، ويدفعهم إلى مدارج الكمال والتقدّم، ويجعلهم في المقدّمة من الشعوب والاُمم، وفي القّمة من الحضارة المدنيّة والازدهار، وحسن الولاية، هذا هو ما يسمّيه ويقصده السياسيّون اليوم بالنُضج العقليّ والرُشد السياسيّ.

٣. التفوّق في الدراية السياسيّة :

على أنّ مجرّد المقدرة وحسن الولاية لا يكفي كما عرفت في منطق الإسلام بل يشترط أن يكون الحاكم الإسلاميّ متفوّقاً على غيره في الدراية السياسيّة فيكون أوسع من غيره في الاطّلاع على مصالح الاُمّة، وأعرف من غيره باُمورها وحاجاتها، لكي لايغلب في رأيه، ولا يُخدع في إدارته، ولكي يصل المجتمع الإسلاميّ إلى أفضل أنواع القيادة وأدراها، وأكفأها.

من أجل ذلك يتعين على الحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة أن تبلغ رؤيته السياسيّة والاجتماعيّة درجةً يستطيع معها أن يقود الاُمّة سياسيّاً واجتماعيّاً ويدفع بهم في طريق التقدم جنباً إلى جنب مع الزمن.

وهذا يستلزم أن يكون الحاكم الأعلى للاُمّة مُلماً بالأوضاع السياسيّة وعارفاً بما يجري على الساحة الدوليّة من تطورات سياسيّة لكي يحفظ اُمّته من كلّ ما يمكن أن يتوجّه إليها من أخطار.

يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد: « العالمُ بزمانه لا

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (١٧٢).

٢٤٥

تهجمُ عليه اللوابسُ »(١) .

فإنّ من يسوس الاُمّة ويقودها دون بصيرة بالأحوال والأوضاع المحيطة بها يجرّ إليها الويل والانحراف عن جادّة الحقّ كما قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسَّائر على غير الطَّريق، لا تزيده سرعة السير من الطريق إلّا بُعداً »(٢) .

إنّ تسليم القيادة الجماعة إلى من لا يعرف شؤون السياسة والإدارة، ولا يحسن الولاية والإمرة، يكون كإعطائها إلى الصبيان وهو أمر معلوم العواقب، واضح المخاطر كما يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « يأتي على الناس زمان لا يُقرّب فيه إلّا الماحلُ ( أي الساعي في الناس بالوشاية ) ولا يُظرّف فيه إلّا الفاجر ».

إلى أن قالعليه‌السلام : « فعند ذلك يكون السلطانُ بمشورة النساء، وإمارة الصبيان »(٣) .

ومن المعلوم أنّ المراد من قولهعليه‌السلام من إمارة الصبيان هو الإشارة إلى تفويض الاُمور إلى من لا يتمتع بالرشُد السياسيّ، والخبرة القياديّة، والبصيرة الإداريّة، وليس المراد من الصبيّ ـ في المقام ـ هو غير البالغ شرعاً وذلك بقرينة أنّ الإمام يتحدث عن زمن تضيع فيه المقاييس الصحيحة للسياسة والاجتماع، فبدل أن تسلّم فيه القيادة إلى ذوي الفهم والفكر والكفاءة تُسلّم إلى من لا يملك ذلك.

إنّ تأكيد الإسلام على هذا الشرط ـ بهذه الدرجة الكبيرة من التأكيد ـ إنّما هو لصيانة الاُمّة الإسلاميّة من التورّط في المشاكل بسبب ضعف القادة والحكام في السياسة أو غفلتهم عن مقتضيات عصرهم، وجهلهم بمتطلبات زمانهم وضروراته، فبسبب هذا الضعف والجهل والغفلة يمكن أن تقع الاُمّة الإسلاميّة فريسةً للمؤامرات الأجنبيّة الشرسة، وتغدو آلةً طيّعةً بأيدي الأعداء، لتنفيذ أغراضهم، وتحقيق مقاصدهم، وهو أعظم ما تصاب به الأمم والشعوب في حياتها وتاريخها.

__________________

(١ و ٢) الكافي ١: ٢٧، ٤٣.

(٣) نهج البلاغة: الحكم رقم (١٠٢).

٢٤٦

٤. العدالة :

إنّ أهمّ ما يجب أنّ يتحلّى به الحاكم الإسلاميّ والرئيس الأعلى للحكومة الإسلاميّة ـ بعد حسن الولاية ـ هو أن يكون متصفاً بالعدالة، بعيداً عن المعاصي والذنوب فأيّ حاكم يمكن أن يؤتمن على مصير الاُمّة، ومقدّراتها ويكون ملتزماً بالدين، ومخلصاً لواجباته ووفيّاً لمصالح الاُمّة، ما لم يتصف بالعدالة التي هي حالة نفسانيّة تمنعه من ارتكاب الذنوب، وتردعه عن اقتراف المعاصي، التي منها الخيانة، والكذب، والتضليل، والغلول.

ولعلّ أوضح ما يدلّ على لزوم وجود مثل هذه الصفة في الحاكم، وحثّ الناس على اعتبارها وملاحظتها فيه عند اختياره وانتخابه هو قوله تعالى:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) ( هود: ١١٣ ).

وأيّ ركون إلى الظلم أعظم من تسليط الحاكم الفاسق، والقبول بولايته، والانصياع لأوامره وتسليم مقدرات الاُمّة إليه ؟

وقال سبحانه:( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف: ٢٨ ).

وفي آية أُخرى يعتبر طاعة الأسياد الفاسدين الفاسقين موجباً للضلال وينقل عن لسان المضلَّلين بهم وقولهم:( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) ( الأحزاب: ٦٧ ).

وأنت إذا لاحظت الآيات الواردة حول الإطاعة تجد أنّ إطاعة الفاسق أمر محرّم بنص الكتاب فراجع الآيات الواردة بهذا الصدد.

وفي هذا المجال قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تصلُح الإمامةُ إلّا لرجل فيه ثلاثُ خصال: ورع يحجزه عن محارم الله »(١) .

__________________

(١) الكافي ١: ٤٠٧.

٢٤٧

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدِّماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين :

١. البخيل، فتكون في أموالهم نهمتهُ

٢. ولا الجاهل، فيُضلَّهم بجهله

٣. ولا الجافي، فيقطعهم بجفائه

٤. ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم

٥. ولا المُرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ( أي الحدود التي عيّنها الله لها ).

٦. ولا المُعطّل للسّنّة فيهلك الاُمّة »(١) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « من نصب نفسه للنَّاس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلّم النَّاس ومؤدّبهم »(٢) .

قال الإمام عليّعليه‌السلام : « لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلّا بإمام عدل »(٣) .

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوم واحد من سطان عادل خير من مطر أربعين يوماً، وحدّ يقام في الأرض أزكى من عبادة سنة »(٤) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « وعدل السلطان خير من خصب الزَّمان »(٥) .

وقال الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام : « فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الله، الحابس نفسه على ذات الله »(٦) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده.

(٢) نهج البلاغة: الحكم الرقم (٧٣).

(٣) الكافي ١: ٣١٤.

(٤) المستدرك ٣: ٢١٦.

(٥) البحار ٧٨: ١٠.

(٦) روضة الواعظين: ٢٠٦، الإرشاد للمفيد: ٢١٠.

٢٤٨

وقالعليه‌السلام أيضاً: « إنّما الخليفةُ من سار بكتاب الله وسُنّة نبيّه »(١) .

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « ايّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد هؤلاء الفُسّاق »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « اتقوا الله وأطيعوا إمامكم فإنَّ الرَّعيَّة الصَّالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وإنَّ الرَّعيَّة الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر »(٣) .

وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : « طاعة ولاة العدل تمام العزِّ »(٤) .

وكتب الإمام عليّعليه‌السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أرديشرخرة: « أمَّا بعد فإنَّ من أعظم الخيانة خيانة الاُمّة، وأعظم الغشِّ على أهل المصر غشّ الإمام »(٥) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « اتقوا الحكومة إنَّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين كنبيّ أو وصيِّ نبيّ »(٦) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إيّاكُم أن يُحاكم بعضُكُم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلمُ شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلتُهُ قاضياً فتحاكموا إليه »(٧) .

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أحبّ النَّاس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغضُ الناس إلى الله، وأبعدهم منهُ مجلساً إمام جائر »(٨) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرَّحمن وكلتا يديه

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٦: ٤٩.

(٢) التهذيب ٦: ٣٠٣.

(٣) البحار ٨: ٤٨٢.

(٤) تحف العقول: ٢٨٢.

(٥) البحار ٨: ٦١٨.

(٦) وسائل الشيعة ( كتاب القضاء ) ١٨: الباب ٣ الطبعة الجديدة نقلاً عن الكافي ٧: ٤٠٦.

(٧) الوسائل ١٨: أبواب صفات القاضي الباب (١).

(٨) جامع الاُصول ٤: ٥٥ أخرجه الترمذيّ.

٢٤٩

يمين، الَّذين يعدلون في حُكمهم وأهلهم وما ولوا »(١) .

إنّ الحديث الأخير وإن كان حول القضاء والفصل بين الخصومات إلّا أنّ اعتبار هذه الصفة في مقام القيادة والزعامة العليا يكون أقوى بدليل الأولويّة، لأنّ مقام الرئاسة العليا والقيادة أكثر خطورةً وأهميّةً من مقام القضاء، ومسؤوليّة الفصل بين الخصومات ولذلك فهو أكثر حاجة إلى اعتبار وصف العدالة.

أضف إلى ذلك، أنّ من كان يتصدّى للقضاء ـ في تلك العهود ـ كان نفسه يشغل مقام الحكم والإدارة أيضاً

ثمّ إذا كان وصف العدالة مشترطاً في إمام الجماعة الذي يؤم جماعةً من المصلّين وهو عمل محدود ومؤقت، كما نعلم، فمن الأولى أن يكون مشترطاً في الحاكم الإسلاميّ للاُمّة المتربّع علس مسند القيادة العامّة والآخذ بمقدرات الاُمّة، والمتصرف في عامّة شؤونها، والمدبّر لاُمورها في شتى المجالات الحيويّة في خضمِّ الحياة السياسيّة.

* * *

٥. الرجولة :

إذا كان الإسلام يشترط أن يكون الوالي والحاكم والقاضي رجلاً فليس لأجل أنّه يريد الحطّ من كرامة المرأة والتقليل من شأوها وشأنها، أو احتقارها، إنّما يقوم بهذا العمل مراعاةً للظروف والنواحي الطبيعيّة في المرأة والخصائص التكوينيّة التي تقتضي مثل هذا التفاوت في موضوع الرئاسة العليا، كما أنّ مبدأ توزيع المسؤوليات الاجتماعيّة وتقسيم الوظائف حسب الإمكانيات يقتضي من جانب آخر إيكال كلّ مسؤوليّة ووظيفة إلى من يمكنه ـ بحكم طبيعته ـ القيام بها، وأدائها.

وحيث إنّ ( المرأة ) انسانة عاطفية أكثر من الرجل، لذلك، فهي قد اعفيت في ـ منطق الإسلام ـ من المسؤوليّات الشاقة والواجبات الثقيلة، وأوكل كلّ ذلك إلى

__________________

(١) جامع الاُصول ٤: ٥٣ أخرجه مسلم.

٢٥٠

( العنصر الرجاليّ ) باعتباره قادراً ـ بحكم خلقته وصلابة تكوينه ـ على القيام بالأعمال الخشنة والمهمّات الثقيلة العبء، ولذلك أُنيطت إليه الرئاسة العليا للاُمّة والبلاد لكونها أثقل المسؤوليّات الاجتماعيّة وأشدّها وطأةً فيما حظر على المرأة التصدي لها وتحمّلها.

فكما أنّ الرجل لا يصلح للاُمور المحتاجة إلى مزيد من العاطفة كالاُمومة والتربية، فكذلك لا تصلح المرأة للاُمور التي تحتاج إلى مزيد من الصلابة كالقيادة والزعامة.

وهذا أمر أثبتته التجارب فقد دلّت على عدم استعداد المرأة لخوض هذا الميدان بنفسها.

إنّ ( المرأة ) حسب نظر القرآن الكريم إنسانة ظريفةُ الإحساس، لطيفةُ المشاعر ولذلك، فهي تتناسب حسب حكاية القرآن عنها ـ مع الزينة والحليّ، لا مع النواحي الخشنة من الحياة البشريّة، فليس للمرأة في مقام الجدل والمناقشة منطق قويّ، وموقف صلب، لأنّها بحكم طبيعتها ومشاعرها العاطفيّة الطاغية، ميّالة إلى الزينة ميالة إلى العيش فيها إذ يقول:( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ( الزخرف: ١٨ ).

فالآية تستنكر على المشركين جعلهم البنات لله واختيارهم الذكور

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان: ( قوله تعالى:( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ، أي ؛ وجعلوا لله سبحانه من ينشأ في الحلية، أي يتربى في الزينة، وهو في المخاصمة والمحاجّة غير مبين لحجّته، لا يقدر على تقدير دعواه.

وإنّما ذكر هذان الوصفان لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفةً، وشفقةً، وأضعف تعقّلاً بالقياس إلى الرجل، وهو بالعكس، ومن أوضح مظاهر قوّة عواطفها ؛ تعلّقها الشديد بالحلية والزينة وضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل )(١) .

إنّ الأدلّة الإسلاميّة ( سنّةً وسيرةً وإجماعاً ) تقتضي بأنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصدّى

__________________

(١) الميزان ١٨: ٩٣.

٢٥١

لفصل الخصومات والقضاء وهو شعبة صغيرة من شُعب الإمارة، وما ذلك إلّا لعدم قدرتها على الاستقامة والثَّبات أمام المؤثّرات القويّة التي تعترض القضاة غالباً، وعجزها عن التزام جانب الحقّ بعيداً عن العاطفة، والتأثير العاطفيّ. فعن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « يا عليّ ليس على النساء ولا تولي القضاء »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في وصية لابنه الحسنعليه‌السلام كتبها له بحاضرين: « ولا تملكُ المرأةُ ما جاوز نفسها فإنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة »(٢) .

ومن المعلوم ؛ أنّ القضاء هو أحد الاُمور الخارجة عن شؤونها الخارجة عن حيطة قدرتها

وأمّا السيرة العمليّة فلم يعهد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة حياته أن أعطى امرأة منصب القضاء، ونصب منهنّ قاضيةً تفصل بين الخصومات(٣) .

رغم وجود طائفة من النساء ذوات علوم ومحاسن أخلاق.

بل لم يفعل ذلك حتّى الأمويّون والعباسيّون الذين ولُوا أمر الاُمّة الإسلاميّة أكثر من خمسمائة سنة رغم أنّهم ولّوا كثيراً من عبيدهم وغلمانهم وقلّدوهم المناصب الرفيعة(٤) .

وأمّا إجماع العلماء فهو أوضح من أن يخفى على أحد، فقد أجمع علماء الإماميّة كلّهم على عدم انعقاد القضاء للمرأة وإن استكملت جميع الشرائط الاُخرى، ووافقهم على ذلك طائفة من علماء الطوائف الإسلاميّة الاُخرى كالشافعي(٥) .

قال ابن قُدامة في المغني: ( إنّ المرأة لا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يولّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأةً قضاءاً ولا ولاية

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٦ ( كتاب القضاء ).

(٢) نهج البلاغة: الرسائل الرقم (٣١).

(٣) تفسير الميزان ٥: ٣٤٧.

(٤) راجع كتاب: رسالة بديعة في تفسير آية( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة ٧٠ ـ ٧٦ وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.

(٥) راجع كتاب: رسالة بديعة في تفسير آية( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة ٧٠ ـ ٧٦ وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.

٢٥٢

بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً )(١) .

وقال الشيخ الطوسيّ في « الخلاف »: لا يجوز أن تكون امرأة قاضيةً في شيء من الأحكام وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن تكون شاهدةً فيه، وهو جميع الأحكام إلّا الحدود والقصاص، وقال ابن جرير: يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه، لأنّها تُعدّ من أهل الاجتهاد.

ثمّ استدل على المنع بقوله: إنّ جواز ذلك يحتاج إلى دليل لأنّ القضاء حكم شرعيّ، فمن يصلح له يحتاج إلى دليل شرعيّ وروي عن النبيّ أنّه قال: « لا يفلح قوم وليتهم امرأة »(٢) .

فإذا كان تولّي القضاء محظوراً على المرأة وهو ليس إلّا شعبةً محدودةً من شعب الزعامة والولاية، كان حظر تولّي الرئاسة العليا للبلاد والتي يأخذ الرئيس والحاكم الأعلى بموجبها بمقادير الاُمّة ؛ بطريق أولى.

وقد دلّت على حظر تولّي الولاية والحكم على المرأة أحاديث كثيرة منها :

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: « لا يفلح قوم وليتهم امرأة »(٣) .

ورواه الترمذيّ بنحو آخر هو: « لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة »(٤) .

كما رواه ابن حزم بكيفيّة أُخرى هي: « لا يُفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة »(٥) .

وذكره ابن الأثير في النهاية « ما أفلح قوم قيّمهم امراة »(٦) .

__________________

(١) المغني لابن قدامة ١٠: ١٢٧.

(٢) الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) ٢: ٢٣٠ المسألة (٦).

(٣) الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) ٢: ٢٣٠ المسألة (٦).

(٤) أخرجه الترمذيّ كما في جامع الاُصول ٤: ٤٩ والنسائيّ أيضاً في سُننه: ٨ ( كتاب آداب القضاء ).

(٥) الملل والأهواء ٤: ٦٦، ٦٧، ورواه في كنز العمال ٦: ١١ وأسنده إلى البخاريّ وابن ماجة وأحمد بن حنبل، وفي لفظهم ( لن يُفلح ) بدل ( لا يُفلحُ ).

(٦) النهاية ٤: ١٣٥.

٢٥٣

وفي المستند: « لا يصلُح قوم وليتُهُم امرأة »(١) .

وعن أبي هريرة عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إذا كان أُمراؤُكُم شراركُم، وأغنياؤكم بخلاءكم، واُموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهورها »(٢) .

وهذا وقد جمع الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام الحظر عن الأمرين ( القضاء والحكومة ) في حديث واحد إذ قال: « ليس على النساء أذان ولا إقامة ».

إلى أن قال: « ولا تولَّى المرأة القضاء ولا تولَّى الإمارة »(٣) .

إلى غيرها من الأحاديث والروايات المتضافرة مضافاً إلى السيرة العمليّة. بل وروح الشريعة الإسلاميّة المتمثّلة في الحفاظ على شرف المرأة وكرامتها ومكانتها الحقيقية الطبيعيّة، ومضافاً إلى سعي الشريعة الإسلاميّة للحفاظ على الأخلاق الاجتماعيّة وسلامة أمر الاُمّة بإشاعة جوّ التقوى ؛ وذلك يستلزم بأن تُصان المرأة من الظهور على المسرح السياسيّ في أعلى مستوياته لما في ذلك من أخطار لا تخفى.

ولابدّ في الأخير من الإشارة إلى أمرين هامّين :

الأوّل: أنّ عدم السماح للمرأة بتولّي القضاء والولاية ليس بخساً لحقّها، أو حطّها من كرامتها أو حرماناً لها من حقّها، بل رفع لمسؤوليّة ثقيلة جداً عن كاهلها، ووضعها في الموضع الصحيح لها في تركيبة الحياة الاجتماعيّة المستقيمة السويّة، وفي الحقيقة إيكال ما هو مناسب لها إليها، ممّا يكون متناسباً مع تركيبتها العاطفيّة الرقيقة ألا وهو تربية الأولاد وتثقيفهم، وتعليمهم مالهم وما عليهم من الشؤون والوظائف الاجتماعيّة، كما لها أن تقوم بما هو دون الولاية من قبيل التصدّي للتعليم والتمريض والخياطة والطبابة وما سواها من الشؤون والأعمال الاجتماعيّة.

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان: ( وأمّا غيرها ( أي الولاية والقيادة ) من

__________________

(١) المستند ٢ ( كتاب القضاء ): ٥١٩.

(٢) الترمذيّ في سننه ٤ ( كتاب الفتن ): ٥٢٩ و ٥٣٠.

(٣) الخصال٢: ٣٧٣، البحار ١٠٣: ٢٥٤، الحديث ١.

٢٥٤

الجهات كجهات التعلّم والتعليم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها ممّا لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهنّ السنّة، والسيرة النبويّة تُمضي كثيراً منها، والكتاب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقّهنّ، فإنّ ذلك لازم ما أُعطين من الحريّة والإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة )(١) .

ثمّ في الجوّ الإسلاميّ الذي يوجده الإسلام بتعاليمه ونظامه يتّخذ أعمال المسلم والمسلمة صفة العبادة الشرعيّة ويتحلّى بقداسة لا يماثلها شيء في غير المجتمع الإسلاميّ. ولذلك فإنّ ما أُعطيت المرأة من المسؤوليّة تتّخذ صفة العبادة والقداسة، وهذا يعني أنّ الإسلام أبدل عملاً بعمل آخر مع الاحتفاظ بالقيمة الشرعيّة فإذا أسقط عن المرأة الجهاد مثلاً، جعل حسن تبعّلها جهاداً كالجهاد في سوح الحرب. فلا فضل لعمل على عمل مادام الهدف واحداً هو تحقيق أمر الله وإرادته وإطاعته فيما أراد.

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان: ( انّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن يكون قد تداركها، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية، كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلاً جهاداً للمرأة(٢) وهذه الاُمور التي هي مفاخر في نظر الإسلام أوشكت أن لا يكون لها عندنا ـ في ظرفنا الفاسد ـ قدر، لكن الظرف الإسلاميّ الذي يقوّم الاُمور بقيمها الحقيقية، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضية عند الله سبحانه، وهو يقدّرها حقّ قدرها، يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الذي ندبه إليه، وللزومه الطريق الذي خطّ له ؛ من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة، وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج ـ على ما فيه من الفضل ـ، على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيويّ، ولا لقاض يتكئ على مسند القضاء وهما منصبان ليس للمتقلِّد

__________________

(١) تفسير الميزان ٥: ٣٤٧.

(٢) لاحظ نهج البلاغة: الحكم (١٣٦) قال الإمام عليّ: « وجهاد المرأة حسن التَّبعّل ».

٢٥٥

ـ بهما في الدنيا ـ لو عمل فيما عمل، بالحقّ وجرى فيما جرى على الحقّ ـ إلّا تحمّل أثقال الولاية والقضاء، والتعرّض لمهالك ومخاطر تهدّدهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلّا ربّ العالمين فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين من الورود موردهما، وخطّ له خطّاً آخر، وأشار إليه بلزومه وسلوكه

وخلاصة القول: أنّه ليس من المستبعد أن يُعظِّم الإسلام اُموراً نستحقرها، أو يُحقّر اُموراً نستعظمها ونتنافس فيها )(١) .

* * *

الثاني: انّنا لا ننكر وجود نساء معدودات تمتَّعن بالقدرة على الإمرة، وتحلَّين بالمنطق القويّ، والفكر المتفوّق إلّا أنّ وجود هؤلاء النسوة المعدودات لا يدلّ على قدرة العنصر النسويّ بعمومه على الإدارة والولاية، والتحلّي بهذه الخصيصة وهل يمكن خرق القاعدة العامّة لعدة موارد شاذّة ؟ ونحن نعلم أنّ المقنّين يراعون عند وضع القوانين، الأكثريّة الساحقة، فهي الملاك في الخطابات القانونية وهي الملاك أيضاً في الخطابات الشرعيّة لا الأقليّة النادرة والأفراد المعدودون.

* * *

٦. العلم بالقانون اجتهاداً أو تقليداً :

لمّا كانت الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ على الناس لزم أن يكون الحاكم المجري له في مجالات الحكم والإدارة عالماً به، وإلاّ عادت حكومةً استبداديّةً ينبع القانون فيها من إرادة الحاكم وهواه. وفي هذا المجال يقول الإمام الخمينيّ :

( بما أنّ الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون ـ كما ورد في الحديث ـ وكلّ من يشغل منصباً أو يقوم بوظيفة معينة فإنّه يجب عليه أن يعلم في حدود اختصاصه وبمقدار حاجته ). إلى أن قال: ( انّ الحاكم

__________________

(١) تفسير الميزان ٥: ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٢٥٦

ينبغي أن يتحلّى بالعلم بالقانون وعنده ملكة العدالة مع سلامة الاعتقاد وحسن الأخلاق وهذا ما يقتضيه العقل السليم، خاصّة ونحن نعرف أنّ الحكومة الإسلاميّة تجسيد عمليّ للقانون وليست ركوب هوى فالجاهل بالقوانين لا أهليّة فيه للحكم )(١) .

ثمّ على القول بأنّ الولاية ـ عند عدم التمكن من الإمام المعصوم ـ من شؤون الفقيه العدل، يلزم أنّ يكون الحاكم هو الفقيه، بيد أنّه لا يلزم أن يتصدّى الفقيه بنفسه إدارة البلاد، بل يمكن له أن يُوكل شخصاً آخر ـ ترتضيه الاُمّة وتختاره ـ ويكون عارفاً بالقانون عن طريق الاجتهاد، وتجتمع فيه سائر الصفات والمؤهّلات.

ولأجل ذلك قلنا: اجتهاداً أو تقليداً ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت قول الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام : « مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله والامناء على حلاله وحرامه »(٢) .

وقولهعليه‌السلام : « والله ما الإمام إلّا القائم بالقسط، الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله »(٣) .

ومن المعلوم أنّ القيام بالقسط والحكم على طبق الكتاب لا ينفكّ عن العلم بالقانون الإسلاميّ اجتهاداً، أو تقليداً.

* * *

٧. الحريّة :

يختلف نظام الرقِّ في الإسلام عمّا هو عليه في سائر الأنظمة البشريّة، فإنّ النظم البشريّة ترى جواز استعباد الانسان واسترقاقه لأخيه الإنسان بحجّة أنّه أقلّ ثقافةً أو لأنّه يعيش في بلد متأخّر، أو لأنّه يجري في عروقه دم وضيع، أو لأنّه لا ينتمي إلى حزب !!

غير أنّ الإسلام الذي حرّم على الناس التفاضل بهذه الخرافات، انقذهم من سيادة بعضهم على بعض بتلك الحجج الواهية السخيفة، ولم يجز لأحد أن يسلب حريّة

__________________

(١) الحكومة الإسلاميّة: ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

(٣) روضة الواعظين: ٢٠٦.

٢٥٧

غيره لتلك الحجج والمعاذير فقال القرآن الكريم:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلّا نَعْبُدَ إلّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) ( آل عمران: ٦٤ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : « بعث الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ليُخرج عبادهُ من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عُهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته »(١) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « ولا تكُن عبد غيرك وقد جعلك الله حُراً »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : « أيّها الناسُ إنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمة. وإنّ الناس كلهم أحرار ولكنَّ الله خوّل بعضكم بعضاً »(٣) .

وقد وجّه الإسلام دعوته الشاملة إلى كلّ اُمم الأرض، ودعاها إلى التحرّر من العبوديات الباطلة والانضواء تحت لواء واحد هو لواء الإسلام لله تعالى والتسليم لأوامره في جوّ من المساواة الكاملة والوحدة الشاملة يوم لم يسمع العالم عن الاُمميّة الحديثة شيئاً.

منذ ذلك اليوم دعا الإسلام إلى صيانة الحريّات الطبيعيّة المعقولة، وحارب بشدة من يحاول إغفالها وتجاهلها.

إنّ تحرير الإنسان من وطأة استعباد الآخرين له ممّا جوز القرآن أن تراق من أجله الدماء إذ قال سبحانه:( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ) ( النساء: ٧٥ ).

ولذلك فإنّ الإسلام لا يُقرّ بالرقّيّة والاسترقاق الذي تقول به الأنظمة البشريّة، نعم ؛ للإسلام نظام للرقّ بشكل آخر، وهو موقف يتخذه الإسلام الحنيف كعمل اضطراري لمعالجة حالة شاذّة.

__________________

(١) الوافي ٣ ج ١٤٢: ٢٢.

(٢) نهج البلاغة: الرسائل ( الرسالة ٣١ ).

(٣) روضة الكافي: ٦٩.

٢٥٨

فإنّ أعداء الإسلام وأعداء الحريّة إذا هاجموا المسلمين وعرّضوا حياتهم للخطر كان جزاء المعتدين أن يُقتلوا أينما ثُقفوا ما لم تضع الحرب أوزارها(١) ، فإذا وضعت الحرب أوزارها استؤسروا ثمّ وضعوا تحت ولاية حكيمة تعلمهم ما هو جزاء المعتدين على حقوق الآخرين وحرياتهم وتعطي لهم ولأمثالهم درساً عملياً تُفهمهم أنّ الذي يريد أن يستعبد الناس فهو يستعبد جزاءً وفاقاً، وستظل هذه الولاية ريثما ينشأ نشأةً أُخرى يفهم في ضوئها قيمة الحريّة المخوّلة إليه، والسبيل الذي يجب أن تصرف فيه فإذا عرف ذلك ردّت إليه حريته، ويعيش معه في راحة وأمان قال الله سبحانه:( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور: ٣٣ ).

وهذه الآية تفيد ؛ أنّ تعريض العبد للحريّة والخروج من حالة الرقيّة أمر مرغوب فيه في الإسلام بشرط أن يُعلم منه الخير، ولا يكون تحريره مضرّاً بالإسلام والمسلمين.

وبهذا تظهر العلّة في عدم سماح الإسلام للعبيد بأن يتصدّروا مسند القيادة ويسلّم إليهم المجتمع الإسلاميّ زمام إدارتهم وحكومتهم.

فإنّ الذي استُرقّ لسوء ماضيه ولإرادته العدوان على نفوس المسلمين وحرياتهم وأموالهم وأعراضهم، لا يجوز أن يعطى إليه زمام قيادتهم إذ لا يؤمن على أموال المسلمين وحريّاتهم ونفوسهم وأعراضهم، وهو الذي سبق له الاعتداء عليها.

وخلاصة القول: نعلم من هذا الموقف الإسلاميّ اتّجاه العبد ؛ بأنّ الإسلام إنّما سلب عنهم الصلاحيّة للقيادة لأنّهم كانوا من الذين يريدون أن يسلبوا حريّة الناس، فلا يمكن لمن يحمل هذه النزعة الخطيرة، ولو في أمد من الزمان ـ أن سيود على المسلمين، ويُسلَّط على شؤونهم.

* * *

هذا مضافاً إلى أنّ حرمان العبد من الارتفاع إلى مستوى القيادة نوع من النكال

__________________

(١) سيأتي مفصّل القول في هذا المجال عند البحث عن أحكام الجهاد.

٢٥٩

والتبكيت للعبد، ولكلّ من يريد ما أراد من العدوان والتجاوز على حرمة المسلمين وبلادهم.

ثمّ كيف يصلح العبد للولاية وهو بدوره مولّىً عليه فهل يجوز أن يرفع إلى مستوى قيادة الأحرار ؟

يبقى أن يعرف القارئ الكريم أنّ الإسلام كما قلنا لم يعمد الاسترقاق إلّا للضرورة ؛ إذ لم يكن أمام الإسلام اتّجاه المعتدين بعد السيطرة عليهم إلّا خمس خيارات :

١. أن يقتلهم جميعاً ويسفك دمائهم عن آخرهم وهي قسوة تتنافى مع روح الإسلام الرحيمة المحبّة للسلام.

٢. أن يسجنهم جميعاً وذلك يكلف الدولة تكاليف باهضةً وميزانيةً ضخمةً مضافاً إلى أنّ السجن ممّا يعقّد السجين، ويزيده اندفاعاً في الشرور والفساد.

٣. أن يتركهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين، وهذا رجوع إلى المؤامرة والاحتشاد والعدوان مرّة اُخرى.

٤. أن يتركهم ليسرحوا في بلاد الإسلام وهذا يعني تعريضهم لسفك دمائهم على أيدي المسلمين، انتقاماً منهم.

ولـمـّا لم يكن اختيار شيء من هذه الطرق اختياراً عقلائيّاً يبقى أمام الإسلام طريق خامس وهو :

٥. استرقاقهم، بمعنى جعلهم تحت ولاية المسلمين ليراقبوا بشدة تصرفاتهم، وليتسنّى لهم من خلال العيش في ظل الحياة الإسلاميّة أن يقفوا على تعاليم الدين وينشأوا نشأةً إسلاميّةً ويكون الإسلام بهذا قد حافظ على حياتهم، ومنع من سفك دمهم، لأنّ مالكهم سوف يحرص عليهم أشدّ الحرص ويحافظ على حياتهم أشد المحافظة بخلاف من لا يملكهم، ولا يرجوا منهم نفعاً.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293