السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام20%

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 293

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 293 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 241658 / تحميل: 7902
الحجم الحجم الحجم
السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

المحسوسات أصل الاعتقادات

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المسألة الأولى

في الإدراك

وفيه مباحث :

[ المبحث ] الأوّل

[ الإدراك أعرف الأشياء ]

لمّا كان الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها ـ على ما يأتي ـ وبه تعرف الأشياء ، وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة ، وجب البدأة به ، فلهذا قدّمناه.

إعلم أنّ الله تعالى خلق النفس الإنسانية ـ في مبدأ الفطرة ـ خالية عن جميع العلوم بالضرورة ، وقابلة لها [ بالضرورة ] ، وذلك مشاهد في حال الأطفال.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٣٩ ـ ٤٠.

٤١

ثمّ إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك ، وهي القوى الحاسّة ، فيحسّ الطفل ـ في أوّل ولادته ـ بحسّ اللمس ما يدركه من الملموسات.

ويميّز بواسطة الإدراك البصري ـ على سبيل التدرّج ـ بين أبويه وغيرهما.

وكذا يتدرّج في الطعوم ، وباقي المحسوسات ، إلى إدراك ما يتعلّق بتلك الآلات.

ثمّ يزداد تفطّنه فيدرك بواسطة إحساسه بالأمور الجزئية ، الأمور الكلّيّة ، من المشاركة والمباينة(١) ، ويعقل الأمور الكلّيّة الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية.

ثمّ إذا استكمل الاستدلال(٢) ، وتفطّن بمواضع الجدال ، أدرك بواسطة العلوم الضرورية ، العلوم الكسبية.

فقد ظهر من هذا أنّ العلوم الكسبيّة فرع على العلوم الضرورية الكلّيّة ، والعلوم الضرورية الكلّيّة فرع على المحسوسات الجزئية.

فالمحسوسات إذا : هي أصل الاعتقادات ، ولا يصحّ الفرع إلّا بعد

__________________

(١) المشاركة : هي معرفة الأشياء بأمثالها ؛ والمشترك : هو اللفظ الواحد الذي تعدّد معناه وقد وضع للجميع كلّا على حدة ، ككلمة « عين » الموضوعة لحاسّة النظر وينبوع الماء ومعدن الذهب وغيرها.

والمباينة : هي معرفة الأشياء بأضدادها ؛ والتباين : هو أن تكون معاني الألفاظ متكثّرة بتكثّر الألفاظ ، وإن كانت المعاني تلتقي في بعض أفرادها أو كلّها ، مثل « السيف » و« الصارم » فإنّ الصارم خصوص القاطع من السيوف ، فهما متباينان معنى وإن كانا يلتقيان في الأفراد.

انظر : المنطق ١ / ٤١ و ٤٥.

(٢) كان في الأصل : « العلوم » ؛ وما أثبتناه من نهج الحقّ.

٤٢

صحّة أصله ، فالطعن في الأصل طعن في الفرع.

وجماعة الأشاعرة ـ الّذين هم اليوم كلّ الجمهور ، من : الحنفيّة ، والشافعيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ـ إلّا اليسير من فقهاء ما وراء النهر(١) ، أنكروا قضايا محسوسة ـ على ما يأتي بيانه ـ فلزمهم إنكار المعقولات الكلّيّة ـ التي هي فرع المحسوسات ـ ويلزمهم إنكار الكسبيّات ؛ وذلك [ هو ] عين السفسطة.

* * *

__________________

(١) وهم أتباع المتكلّم الأصولي أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي الحنفي ، ولد ب‍ « ماتريد » أحد أحياء سمرقند ، وتوفّي بها سنة ٣٣٣ ه‍ ، له كتب ، منها : تأويلات أهل السنّة ، تأويلات القرآن ، بيان وهم المعتزلة ، الدرر في أصول الدين ، عقيدة الماتريدية ، شرح الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة.

انظر في ترجمته : الجواهر المضيّة ٣ / ٣٦٠ رقم ١٥٣٢ ، تاج التراجم : ٢٤٩ رقم ٢١٧ ، مفتاح السعادة ٢ / ١٣٣ ، كشف الظنون ١ / ٢٦٢ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٦٩٢ رقم ١٥٨٤٩ ، هديّة العارفين ٦ / ٣٦ ، الأعلام ـ للزركلي ـ ٧ / ١٩.

وبين هذه الفرقة وبين بقية الأشاعرة خلاف في عدّة مسائل كلامية.

انظر ذلك في : شرح العقائد النسفية : ١١٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٩ ، المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية : ٨٠ و ٨٣ و ٩٦ و ٩٨.

٤٣

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ هذه المباحث ـ التي صدّر بها كتابه ـ كلّها ترجع إلى بحث الرؤية ، التي وقع فيها الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية وغيرهم ، وذلك في رؤية الله تعالى التي تجوّزها الأشاعرة ، وتنكرها المعتزلة ؛ كما ستراه واضحا إن شاء الله تعالى.

فجعل المسألة الأولى في الإدراك مع إرادة الرؤية ـ التي هي أخصّ من مطلق الإدراك ـ من باب إطلاق العامّ وإرادة الخاصّ ، بلا إرادة المجاز وقيام القرينة ؛ وهذا أوّل أغلاطه.

والدليل على إنّه أراد بهذا الإدراك ـ الذي عنون به المسألة ـ الرؤية :

أنّه قال : « لمّا كان الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها ـ على ما يأتي ـ [ وبه تعرف الأشياء ] ، وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة ، وجب البدأة به ».

وإنّما ظهرت مقالاتهم العجيبة ـ على زعمه ـ في الرؤية ، لا في مطلق الإدراك ؛ كما ستعرف بعد هذا.

فإنّ الأشاعرة لا بحث لهم مع المعتزلة في مطلق الإدراك ، فثبت أنّه أطلق الإدراك وأراد به الرؤية ؛ وهو غلط ، إذ لا دلالة للعامّ على الخاصّ.

ثمّ إنّ قوله : « الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها وبه تعرف الأشياء » كلام غير محصّل المعنى ؛ لأنّه إن أراد أنّ الرؤية التي أراد من

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٧٨ ـ ٨١.

٤٤

الإدراك هي أعرف الأشياء في كونها محقّقة ثابتة ، فلا نسلّم الأعرفية ، فإنّ كثيرا من الأجسام والأعراض معروفة محقّقة الوجود مثل الرؤية.

وإن أراد أنّ الإحساس ـ الذي هو الرؤية ـ أعرف بالنسبة إلى باقي المحسوسات(١) ، ففيه :

إنّ كلّ حاسّة بالنسبة إلى متعلّقها ، حالها كذلك ، فمن أين حصل هذه الأعرفية للرؤية؟!

وبالجملة : هذا الكلام غير محصّل المعنى.

ثمّ قوله : « إنّ الله تعالى خلق النفس الإنسانية ـ في مبدأ الفطرة ـ خالية عن جميع العلوم بالضرورة. وقابلة لها [ بالضرورة ] ، وذلك مشاهد في حال الأطفال »

كلام باطل ، يعلم منه أنّه لم [ يكن ] يعرف شيئا من العلوم العقليّة ، فإنّ الأطفال لهم علوم ضروريّة كثيرة من المحسوسات البصريّة والسمعيّة والذوقيّة ، وكلّ هذه المحسوسات علوم حاصلة من الحسّ.

ولمّا لم يكن هذا الرجل من أهل العلوم العقليّة ، حسب أنّ مبدأ الفطرة الذي يذكره الحكماء ويقولون : « إنّ النفس في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم » هو حال الطفوليّة ؛ وذلك باطل عند من يعرف أدنى شيء من الحكمة ، فإنّ الجنين ـ فضلا عن الطفل ـ له علوم كثيرة.

بل المراد من مبدأ الفطرة : ان تعلّق النفس بالبدن ، فالنفس في تلك الحال خالية عن جميع العلوم إلّا العلم بذاتها.

وهذا تحقيق ذكر في موضعه من الكتب الحكميّة ، ولا يناسب بسطه

__________________

(١) في إحقاق الحقّ : الإحساسات.

٤٥

في هذا المقام ، والغرض أنّه لم يكن من أهل المعقولات حتّى يظنّ أنّه شنّع على الأشاعرة من الطرق العقليّة.

ثمّ في قوله : « وأنكروا قضايا محسوسة ـ على ما يأتي بيانه ـ فلزمهم إنكار المعقولات الكلّيّة ».

أراد به أنّهم أنكروا وجوب تحقّق الرؤية عند شرائطها ، وعدم امتناع الإدراك عند فقد الشرائط ؛ وأنت ستعلم أنّ كلّ ذلك ليس إنكارا للقضايا المحسوسة.

ثمّ إنّ إنكار القضايا المحسوسة ، أراد به أنّهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة ، لوقوع الغلط في المحسوسات ، فلا يعتمد على حكم الحسّ.

وهذا هو مذهب جماعة من العقلاء ، ذكره الأشاعرة وأبطلوه ، وحكموا بأنّ حكم الحسّ معتبر في المحسوسات ، كما اشتهر هذا في كتبهم ومقالاتهم(١) .

ولو فرضنا أنّ هذا مذهبهم ، فليس كلّ من يعتقد بطلان حكم الحسّ يلزمه إنكار كلّ المعقولات ، فإنّ مبادئ البرهان أشياء متعدّدة ، من جملتها المحسوسات ، فمن أين هذه الملازمة؟!

فعلم أنّ ما أراد ـ في هذا المبحث ـ أن يلزم الأشاعرة من السفسطة ، لم يلزمهم ، بل كلامه المشوّش ـ على ما بيّنّا ـ عين الغلط والسفسطة.

والله العالم.

__________________

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٣٧ ، شرح المقاصد ٢ / ٣٠٥ و ٣١٢ ـ ٣١٣ وج ٤ / ١٤٠ ، شرح المواقف ٧ / ٢٠٠ ـ ٢١٠.

٤٦

وأقول :

لا يخفى أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة لا يخصّ الرؤية ـ وإن كان الكلام فيها أوضح ـ ، بل يعمّ مطلق الإدراك بالحواسّ الظاهريّة.

فإنّهم كما أجازوا تحقّق الرؤية بدون شرائطها ، وأجازوا رؤية الكيفيّات النفسانيّة ـ كالعلم ، والإرادة ، ونحوهما ـ ، ورؤية الكيفيّات الملموسة ، والأصوات ، والطعوم

أجازوا سماع المذكورات ، ولمسها ، وشمّها ، وذوقها ؛ لإحالتهم كلّ شيء إلى إرادة القادر المختار ، من دون دخل للأسباب الطبيعيّة ؛ كما سيصرّح به الخصم في المبحث الآتي وغيره.

ولأجل عموم النزاع ، جعل المصنّف ; عنوان المسألة : الإدراك ، وأراد به مطلق الإحساس بالحواسّ الظاهريّة.

ولذا تعرّض في هذا المبحث الأوّل للقوى الظاهريّة ، وتدرّج الطفل فيها ، ثمّ قال : « فالمحسوسات إذا : هي أصول الاعتقادات ، ولا يصحّ الفرع إلّا بعد صحّة أصله ».

وتعرّض في المبحث الثالث والرابع والسادس لما يتعلّق بغير الرؤية.

فحينئذ لا معنى لما زعمه الخصم من أنّ المصنّف أراد بالإدراك خصوص الرؤية.

ولو سلّم ، فلا وجه لإنكار الخصم صحّة إرادة الرؤية من الإدراك ، وقيام القرينة عليها ، فإنّه بعد ما زعم وجود الدليل على إرادتها منه ، فقد أقرّ بثبوت القرينة ، إذ ليست القرينة إلّا ما يدلّ على المراد باللفظ.

٤٧

ثمّ إنّ قول المصنّف ; : « الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها ، وبه تعرف الأشياء » إنّما هو كقولهم : العلم بديهي التصوّر ، وغيره يعرف به ، فلا يحدّ.

فالإدراك حينئذ ـ أعني الإحساس بالحواسّ الظاهريّة ـ بمنزلة العلم الذي هو الإدراك بالقوى الباطنية ، في كونهما معا بديهيّين ، مفهوما ، ووجودا ، وشروطا.

وهذا كلام ظاهر المفهوم ، محصّل المعنى ، لمن له تحصيل!

ثمّ إنّ المصنّف ; أراد بمبدأ الفطرة : ما قبل الولادة ، وهو زمن تعلّق النفس الحيوانية ـ أي قوى الحيوان المدركة والمحرّكة ـ بالبدن ، لقوله :

« فيحسّ الطفل في أوّل ولادته ».

إذ لا يجتمع إثبات الإحساس له مع قوله : « النفس في مبدأ الفطرة خالية من جميع العلوم » لو أراد ب‍ « مبدأ الفطرة » ما هو عند الولادة ، فلا بدّ من اختلاف الزمان ، وأنّه أراد ب‍ « مبدأ الفطرة » ما قبل الولادة.

كما أنّه أراد بالأطفال : مطلق الصغار ـ ولو قبل الولادة ـ لا خصوص المولودين ، ولذا حكم بخلوّهم عن العلوم في مبدأ الفطرة ، حتّى العلم بذواتهم ، إذ لا دليل على استثنائه ـ كما فعله الخصم تقليدا لغيره ـ ، فإنّ الحياة لا تستلزم الشعور والإدراك حتّى للذات.

ولذا ترى من أصابه البنج(١) حيّا لا إدراك له أصلا ، ولا نعرف

__________________

(١) البنج : نبت معروف مسبت مخدّر ، مخبّط للعقل ، مجنّن ، مسكّن لأوجاع الأورام والبثور وأوجاع الأذن ، طلاء وضمادا.

انظر : تاج العروس ٣ / ٣٠٠ ، مجمع البحرين ٢ / ٢٧٩ ، مادّة « بنج » ، وانظر أيضا : ألف باء الأعشاب والنباتات الطبّية ١ / ٣١٣ رقم ١٥٠.

٤٨

أمرا ـ غير الحياة في مبدأ الفطرة ـ يقتضي العلم بالذات ، أو سائر الوجدانيّات.

ولو سلّم ، فتعميم الإدراك للجميع أقرب من تخصيصه بالذات.

ثمّ إنّ المصنّف ; أراد بقوله : « أنكروا قضايا محسوسة » أنّهم أنكروا أصل ثبوتها ، كإنكارهم كون شرائط الرؤية وسائر الإحساسات الظاهريّة ، شرائط واقعيّة لها ، لإحالتهم كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، وقولهم :

« إنّ تلك الشرائط لا دخل لها بالمشروط ، وإنّ الترتّب بينها عاديّ فقط ».

وقد اختلف كلام الخصم هنا.

فمرّة قال : أراد أنّهم أنكروا وجوب تحقّق الرؤية.

ومرّة قال : أراد أنّهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة.

وكلاهما غير مراد للمصنّف ، لكنّه تعرّض لأوّلهما ـ في المباحث الآتية ـ من حيث تفرّعه على إنكار أصل القضايا.

ولعلّه توهّم أنّ المصنّف أشار إلى ثانيهما بقوله : « فالطعن في الأصل طعن في الفرع » وهو خطأ!

فإنّ المصنّف أراد الطعن في القضايا المحسوسة ، من حيث إنكارها ، لا من حيث وقوع الغلط في المحسوسات ، وعدم صحّة الاعتماد عليها ، مع أنّه لا فرق بينهما في أنّ القول بهما موجب لإنكار المعقولات ؛ لتفرّعها عليها.

ولا يرفع الإشكال ما ذكره من أنّ مبادئ البرهان أشياء متعدّدة ؛ لرجوع أكثر غير المحسوسات إليها.

وبالجملة : ليس للإنسان من القوى المدركة إلّا قوى الحواسّ

٤٩

الظاهريّة والباطنيّة والقوّة العاقلة ، ولا شكّ أنّ القوّة العاقلة إنّما تدرك الكلّيّات بواسطة الحواسّ الظاهرية والباطنية ، كما إنّ الباطنيّة إنّما تدرك متعلّقاتها بواسطة الظاهريّة ، فإذا أبطلنا حكم الحسّ الظاهري فقد أبطلنا حكم الحسّ الباطني وحكم العقل ، فلا يعتمد على جميع المعقولات.

٥٠

شرائط الرؤية

قال المصنّف ـ طيّب الله مرقده ـ(١) :

المبحث الثاني

في شرائط الرؤية

أطبق العقلاء بأسرهم ـ عدا الأشاعرة ـ على إنّ الرؤية مشروطة بأمور ثمانية ، ( لا تحصل بدونها )(٢) :

الأوّل : سلامة الحاسّة.

الثاني : المقابلة أو [ ما في ](٣) حكمها ، ( كما )(٤) في الأعراض ، والصور في المرآة ، فلا تبصر شيئا لا يكون مقابلا ، ولا في حكم المقابل.

الثالث : عدم القرب المفرط ، فإنّ الجسم لو التصق بالعين ، لم تمكن رؤيته.

الرابع : عدم البعد المفرط ، فإنّ البعد إذا أفرط لم تمكن رؤيته.

الخامس : عدم الحجاب ، فإنّه مع [ وجود ] الحجاب بين الرائي

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) ما بين القوسين لم يرد في « نهج الحقّ » المطبوع.

(٣) ليست في المصدر ، وقد أضفناها من نسخة إحقاق الحقّ.

(٤) ليست في المصدر.

٥١

والمرئي ، لا تمكن رؤيته.

السادس : عدم الشفّافية ، فإنّ الجسم الشفّاف الذي لا لون له ـ كالهواء ـ لا تمكن رؤيته.

السابع : تعمّد الرائي للرؤية.

الثامن : وقوع الضوء عليه ، فإنّ الجسم الملوّن لا يشاهد في الظلمة.

وحكموا بذلك حكما ضروريا لا يرتابون فيه.

وخالفت الأشاعرة في ذلك جميع العقلاء ـ من المتكلّمين والفلاسفة ـ ولم يجعلوا للرؤية شرطا من هذه الشرائط!(١) .

وهو مكابرة محضة لا يشكّ فيها عاقل!

__________________

(١) انظر : تمهيد الأوائل : ٣١٥ ـ ٣١٦ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٧٨ ، الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٩٧ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

٥٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ شرط الشيء ما يكون وجوده موقوفا عليه ، ويكون خارجا عنه ، فمن قال : شرط الرؤية هذه الأمور ؛ ما ذا يريد من هذا؟!

إن أراد أنّ الرؤية لا يمكن أن تتحقّق عقلا إلّا بتحقّق هذه الأمور ، واستحال عقلا تحقّقه بدون هذه الأمور

فنقول : لا نسلّم الاستحالة العقليّة ، لأنّا وإن نرى في الأسباب الطبيعيّة وجود الرؤية عند تحقّق هذه الشرائط ، وفقدانها عند فقدان شيء منها ، إلّا أنّه لا يلزم بمجرّد ذلك ـ من فرض تحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط ـ محال ، وكلّما كان كذلك لا يكون محالا عقليّا.

وإن أراد أنّ في العادة جري تحقّق المشروط ـ الذي هو الرؤية ـ عند حصول هذه الشرائط ، ومحال عادة أن تتحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط مع جوازه عقلا فلا نزاع للأشاعرة في هذا.

بل غرضهم إثبات جواز الرؤية عقلا عند فقدان الشرائط.

ومن ثمّة تراهم يقولون : إنّ الرؤية أمر يخلقه الله في الحيّ ، ولا يشترط بضوء ، ولا مقابلة ، ولا غيرهما من الشرائط التي اعتبرها الفلاسفة(٢) ، وغرضهم ـ من نفي الشرطية ـ ما ذكرنا ، لا أنّهم يمنعون جريان العادة.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١١٦.

٥٣

على إنّ تحقّق الرؤية إنّما يكون عند تحقّق هذه الشرائط ، ومن تتبّع قواعدهم علم أنّهم يحيلون كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار وعموم قدرته ، ولا يعتبرون في خلق الأشياء توقّفه على الأسباب الطبيعيّة كالفلاسفة ، ومن يلحس فضلاتهم كالمعتزلة ومن تابعهم.

فحاصل كلامهم : إنّ الله تعالى قادر على أن يخلق الرؤية في حيّ مع فقدان هذه الشرائط ، وإن كان [ هذا ] خرقا للعادة!

فأين هذا من السفسطة ، وإنكار المحسوسات ، والمكابرة ، التي نسب هذا الرجل إليهم؟!

وسيأتي عليك ( في )(١) باقي التحقيقات.

__________________

(١) ليست في إحقاق الحقّ ، والظاهر أنّها زائدة.

٥٤

وأقول :

لا يخفى أنّ الإمكان والامتناع عقلا ربّما يكونان ضروريّين ، وربّما يكونان كسبيّين ، فإذا كانا ضروريّين استغنى مدّعي ثبوتهما عن الدليل ، ولم تصحّ مقابلته بالردّ والتشكيك.

ولذا لا يحتاج مدّعي امتناع جعل العالم ـ على سعته ـ في بيضة على ضيقها ، إلى دليل.

ولا مدّعي امتناع اجتماع الضدّين ، أو النقيضين ، إلى دليل.

ولا ريب أنّ العقلاء يرون وجود الرؤية بدون شرائطها من الممتنعات العقليّة ، كاجتماع الضدّين والنقيضين ، وكرؤية الأعدام.

وكما لا يسوغ عندهم دعوى إمكان هذه الأمور ونحوها ، لا يسوغ مثلها في الرؤية المعروفة الخاصة إذا لم تجتمع شرائطها.

وما ذكره من أنّهم « يحيلون كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، وعموم قدرته ، ولا يعتبرون في خلق الأشياء توقّفه على الأسباب الطبيعيّة » خطأ ظاهر ؛ لاستلزامه جواز تحقّق الرؤية بلا راء ؛ لأنّ الرائي جزء السبب كالشروط.

فلو جاز عقلا وجود المسبّبات بلا أسبابها الطبيعيّة ، لجاز وجود الرؤية بلا راء ، والقيام بلا قائم ، والعرض بلا معروض ، والجسم بلا مكان ؛ وهو خلاف ضرورة العقلاء.

وأمّا عموم القدرة ، فهو لا يقتضي إلّا تأثيرها في المقدور ، لا في الممتنع ، كجعل الشريك له سبحانه ؛ لأنّ الممتنع ليس متعلّقا للقدرة ،

٥٥

ولا محلّا لها ؛ وليس هذا نقصا في القدرة ألبتّة.

وبالجملة : تأثير الأسباب الطبيعية في مسبّباتها ، وتوقّفها عليها عقلا ، ضروريّ عند العقلاء ، بلا نقص في قدرة القادر ؛ لأنّ محلّ القدرة هو المسبّب بسببه ، لا بدونه.

لكنّ الأشاعرة أنكروا سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، وتوقّف المسبّبات عليها عقلا ، وادّعوا تأثّر المسبّبات عن القادر بلا توسّط أسبابها الطبيعيّة واقعا ، فخالفوا ضرورة العقلاء ، ولزمهم أن يمكن وجود الأسباب الطبيعيّة بلا مسبّباتها ، وبالعكس!

ويترتّب عليه عدم الحكم على الجسم بالحدوث ، ولا على المركّب بالإمكان ، وعدم صحّة الاستدلال بالمقدّمات على النتائج.

أمّا الأوّل : فلاستلزام تلك الدعوى جواز وجود الجسم بلا حركة ولا سكون ؛ لأنّهما أثران طبيعيان للجسم ، وإذا جاز وجوده بدونهما لم يثبت حدوثه ؛ لأنّ الدليل على حدوثه هو استلزامه عقلا للحركة والسكون الحادثين.

وأمّا الثاني : فلأنّ أجزاء المركّب سبب طبيعي له ، فلو جاز عقلا تحقّق المسبّب بدون سببه الطبيعي ، لجاز وجود المركّب بغير أجزائه ، فلم يناف التركيب وجوب الوجود ، وجاز أن يكون المركّب واجبا ، والواجب مركّبا ، وهو باطل.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ محاليّة وجود المركّب بلا أجزائه ، من حيث منافاته لحقيقة التركيب ، لا من حيث السببية ، حتّى يضرّ في المدّعى.

وفيه : إنّ المنافاة إنّما نشأت واقعا من جهة السببيّة ، إذ لو لاها لم تحصل المنافاة.

٥٦

وأمّا الثالث : فلأنّ المقدّمات سبب طبيعي للنتيجة ، فلو لم تؤثّر فيها لجاز عقلا تخلّف النتيجة عنها ، ويبطل الاستدلال كما سيذكره المصنّف ; في أوّل مباحث النظر.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ دعوى إمكان الرؤية بلا شرائطها تحتاج إلى دليل ، إذ ليس ذلك ضروريا ، فعليهم إثبات الإمكان.

ولا ينافيه قول الرئيس ابن سينا : « ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ، حتّى يذودك عنه واضح البرهان »(١) .

فإنّ المراد بالإمكان فيه هو الاحتمال ، لا مقابل الامتناع.

وأمّا قول الخصم : « لا يلزم من فرض تحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط محال ».

فإن أراد به أنّ تحقّق الرؤية بدون شرائطها ليس بمحال ؛ فهو عين الدعوى.

وإن أراد به أنّه لا يلزم منه محال آخر فلا يكون محالا

ففيه : إنّ محالية الشيء لا تتوقّف على أن يلزم منه محال آخر ، وإلّا لم يكن اجتماع الضدّين أو النقيضين ـ كأكثر المحالات ـ محالا.

فإن قلت : لعلّهم يريدون بالرؤية ـ التي ينكرون توقّفها عقلا على الشرائط ـ غير الرؤية المعروفة الحاصلة بالانطباع ، أو بخروج الشعاع القائمة بالقوّة المودعة بالآلة الخاصّة.

قلت : لو أرادوا غيرها ـ كالانكشاف العلمي ـ لكان النزاع لفظيا ، وهو خلاف البديهة ، ولما احتاج الخصم إلى ذكر أنّ قاعدتهم إحالة كلّ

__________________

(١) الإشارات والتنبيهات ٣ / ٤١٨ النمط العاشر في أسرار الآيات.

٥٧

شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، بل كان يكفيه أن يقول : الرؤية التي نجوّزها بلا هذه الشرائط هي غير الرؤية المعروفة المخصوصة.

هذا ، ولا يخفى أنّه لا فرق بين دعوى القوم إمكان الرؤية المعروفة بدون شرائطها ، وبين دعوى امتناعها وجواز إيجاد الله تعالى للمحال ، كما زعمه ـ في بعض المحالات ـ ابن حزم في « الملل والنحل » فحكم بأنّ الله تعالى قادر على أن يجعل المرء قائما قاعدا معا في وقت واحد ، وقاعدا لا قاعدا ، وأن يجعل الشيء موجودا معدوما في وقت واحد ، والجسم الواحد في مكانين ، والجسمين في مكان واحد ، بل جوّز أن يتّخذ الله ولدا!(١) تعالى عن ذلك علوّا كبيرا إلى نحوها من الطامّات.

ويظهر من شيخهم الأشعري تجويز مثل تلك الأمور ، فقد نقل السيّد السعيد ; عن « شرح [ جمع ] الجوامع » للفناري(٢) الرومي(٣) أنّه قال : « أمّا المستحيلات فلعدم قابليّتها للوجود لم تصلح أن تكون محلّا لتعلّق الإرادة »

إلى أن قال : « ولم يخالف في ذلك إلّا ابن حزم فقال في ( الملل

__________________

(١) الفصل في الملل والنحل ٢ / ٢١ ـ ٢٢.

(٢) كان هنا في الأصل : « للنفاوي » وكذا في المواضع التالية ، وهو تصحيف ، انظر الهامش التالي.

(٣) هو : شمس الدين محمّد بن حمزة بن محمّد الفناري الرومي ، ولد سنة ٧٥١ ، وتوفّي سنة ٨٣٤ ه‍ ، كان عارفا بالعربية والمعاني والقراءات والمنطق والأصول ، كثير المشاركة في الفنون ، رحل إلى مصر ، ثمّ رجع إلى الروم ، له مصنّفات عديدة ، منها : فصول البدائع في أصول الشرائع ، تفسير سورة الفاتحة ، شرح مفتاح الغيب في التصوّف للقونوي ، أنموذج العلوم.

انظر : مفتاح السعادة ومصباح السيادة ٢ / ١٠٩ ، شذرات الذهب ٧ / ٢٠٩ ، هديّة العارفين ٦ / ١٨٨ ، الأعلام ـ للزركلي ـ ٦ / ١١٠.

٥٨

والنحل ) : إنّ الله عزّ وجلّ قادر على أن يتّخذ ولدا ، إذ لو لم يقدر عليه لكان عاجزا »!

ثمّ قال الفناري : « وذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني(١) أنّ أوّل من أخذ منه ذلك : إدريس ٧ ، حيث جاءه إبليس في صورة إنسان ، وهو يخيط ويقول في كلّ دخلة وخرجة : سبحان الله والحمد لله ؛ فجاءه بقشرة وقال : هل الله يقدر أن يجعل الدنيا في هذه القشرة؟ فقال : الله قادر أن يجعل الدنيا في سمّ هذه الإبرة ؛ ونخس(٢) بالإبرة إحدى عينيه ، فصار أعور.

وهذا وإن لم يرو عن رسول الله ٦ فقد اشتهر وظهر ظهورا

__________________

(١) هو : ركن الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني الشافعي ، فقيه متكلّم أصولي ، رحل إلى العراق في طلب العلم ، له مناظرات مع المعتزلة ، وله مصنّفات عديدة ، منها : جامع الجلي والخفي في أصول الدين والردّ على الملحدين ، نور العين في مشهد الحسين ، وأدب الجدل ، ومسائل الدور ، وتعليقة في أصول الفقه ؛ عاش نيّفا وثمانين عاما ، وتوفّي بنيسابور يوم عاشوراء سنة ٤١٨ ه‍ ، وصلّوا عليه في ميدان الحسين ، وحمل إلى إسفرايين فدفن بها.

انظر : الأنساب ـ للسمعاني ـ ١ / ١٤٤ « الإسفراييني ـ بكسر الألف ـ » ، تبيين كذب المفتري : ٢٤٠ ، معجم البلدان ١ / ٢١١ رقم ٦٠١ « أسفرايين ـ بفتح الألف ـ » ، المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور : ١٢٧ رقم ٢٦٩ ، طبقات الفقهاء الشافعية ـ لابن الصلاح ـ ١ / ٣١٢ رقم ٨٧ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ / ١٦٩ رقم ٢٧١ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٨ رقم ٤ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٣٥٣ رقم ٢٢٠ ، طبقات الشافعية الكبرى ـ للسبكي ـ ٤ / ٢٥٦ رقم ٣٥٨ ، طبقات الشافعية ـ للأسنوي ـ ١ / ٤٠ رقم ٣٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٠٩ ، هديّة العارفين ٥ / ٨ ، الأعلام ـ للزركلي ـ ١ / ٦١.

(٢) نخس الدابّة وغيرها ، ينخسها وينخسها وينخسها ، نخسا : غرز جنبها أو مؤخّرها بعود أو نحوه ، وهو النخس ؛ انظر : الصحاح ٣ / ٩٨١ ، لسان العرب ١٤ / ٨٣ ، تاج العروس ٩ / ٧ ، مادّة « نخس ».

٥٩

لا ينكر.

وقد أخذ الأشعري من جواب إدريس ٧ أجوبة في مسائل كثيرة من هذا الجنس »(١) .

فهذا ـ كما ترى ـ دالّ على تجويز الأشعري جعل الدنيا في قشرة ؛ لأنّ الأخذ منه فرع القول به ، ودالّ على تجويزه ما نقلناه عن ابن حزم ، فإنّه من جنس الجواب الذي افتعلوه على إدريس ٧.

وليت شعري ، إذا كان ذلك ثابتا عن إدريس عند الفناري ، فلم لم يلتزم بجواز خلق المستحيلات؟! ولكنّ الغلط غير ممنوع عندهم على الأنبياء!

هذا ، ولا يخفى أنّ جعل بعض شروط الرؤية المذكورة شرطا ، مبنيّ على إنّ عدم المانع ـ كالحجاب ـ شرط ، كما أنّ ذكر حكم المقابلة فضلة ؛ لأنّ المرئيّ حقيقة هو الصورة التي في المرآة ، وهي مقابلة لا ذو الصورة.

واعلم أنّه كما للرؤية شروط ، فلغيرها من الإحساسات الظاهرية شروط ، ولم يعتبرها القوم أيضا بمقتضى إحالتهم كلّ شيء إلى القادر المختار ، وإنّما خصّ المصنّف الكلام هنا بالرؤية ، لأنّها أظهر ما به الكلام ، وأوضح حالا وشروطا من سائر الإحساسات الظاهرية.

__________________

(١) إحقاق الحقّ ١ / ١٠١ ـ ١٠٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ولا وفّق لإصلاح بين اثنين إلّا سجد ، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده فسمّي السجّاد لذلك(١) .

عبيدك ببابك

جاء في كتاب حديقة الشيعة أنّ طاووس اليماني قال : دخلت حجر إسماعيل ليلة فرأيت علي بن الحسين عليهما السلام في السجود وهو يكرّر كلاماً فأصغيت جيّداً فإذا هو يقول : إلهي عبيدك بفنائك مسكينك بفنائك فقيرك بفنائك» فما أصابني بلاء أو مرض أو ألم فصلّيت وسجدت وقلتها إلّا كشف عنّي وفرّج بي.

والفناء في اللغة فضاء البيت أي عبدك ومسكينك والمحتاج إليك واقف ببابك منتظر رحمتك ورأفتك ، فمن قالها بإخلاص رأى أثرها وقضيت حاجته(٢) .

حاله في عبادته

روى الشيخ الصدوق قدس سره عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : كان علي بن الحسين عليهما السلام يصلّي في اليوم والليلة الف ركعة كما كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام ، وكانت له خمس مائة نخلة فكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين ، وكان إذا قام في صلاته عشي لونه لون آخر ، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله عزّوجلّ ، وكان يصلّي صلاة مودّع يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبداً(٣) .

أنت حرّ لوجه الله

روي أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام دعا مملوكه مرّتين فلم يجبه وأجابه في الثالثة ، فقال له : يابني أما سمعت صوتي؟ قال : بلى ، قال : فما لك لم تجبني؟ قال : أمنتك ، قال :

__________________

(١) علل الشرائع ص ٢٣٢ باب ١٦٦ ح ١.

(٢) منتهى الآمال ج ٢ ص ٢٠.

(٣) منتهى الآمال ج ٢ ص ١٣ ـ ١٤.

١٤١

الحمدلله الذي جعل مملوكي يأمنني(١) .

وفي رواية أُخرى : أنّ الإمام عليه السلام كان عنده قوم ضيوف ، فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود منه على رأس بني للإمام عليه السلام تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله ، فقال الإمام السجّاد عليه السلام للغلام : وقد تحيّر واضطرب : أنت حرّ فإنّك لم تتعمّده ثمّ أخذ في جهاز ابنه ودفنه(٢) .

ونقل صاحب المناقب عن المدائني : أنّه لمّا انتسب الإمام السجّاد عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه واله قال يزيد لأحد جلاوزته : أدخله في هذا البستان واقتله وادفنه فيه ، فأدخله البستان وجعل يحفر القبر والإمام السجّاد عليه السلام يصلّي ، فلمّا همّ بقتله ضربته يد من الهواء فخرّ لوجهه وشهق ودهش ، فرآه خالد بن يزيد ، فانقلب إلى أبيه فقصّ عليه الخبر ، فأمر يزيد بدفن الرجل في الحفرة ، قال المدائني : وموضع حبس زين العابدين عليه السلام هو اليوم مسجد(٣) .

وصيّة الإمام السجّاد عليه السلام

روي الإمام الباقر عليه السلام قال : أوصاني أبي فقال : يا بني لا تصحبنّ خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق ، فقلت : جعلت فداك يا أبة وما دونها؟ قال : يطمع فيها ثمّ لا ينالها ، قال : قلت : يا أبة ومن الثاني؟ قال : لا تصحبنّ البخيل فإنّه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه ، قال : فقلت : ومن الثالث؟ قال : لا تصحبنّ كذّاباً فإنّه بمنزلة السراب يبعد منك القريب ويقرّب منك البعيد ، قال : قلت : ومن الرابع؟

قال : لا تصحبنّ أحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك ، قال : قلت : يا أبة من

__________________

(١) كشف الغمّة ج ٢ ص ٢٩٩.

(٢) كشف الغمّة ج ص ٢٩٣.

(٣) المناقب ج ٤ ص ١٧٣.

١٤٢

الخامس؟ قال : لا تصحبنّ قاطع رحم فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله ثلاثة مواضع(١) .

وقال عليه السلام لرجل شكى إليه حاله : مسكين ابن آدم في له كلّ يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهنّ ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا.

فأمّا المصيبة الأُولى فاليوم الذي ينقص من عمره ، قال : وإن ناله نقصان في ماله اغتمّ به ، والدرهم يخلف عنه والعمر لا يردّه شيء.

والثانية : أنّه يستوفي رزقه فإن كان حلالاً حوسب عليه وإن كان حراماً عوقب عليه ، قال : والثالثة أعظم من ذلك ، قيل : وماهي؟ قال : ما من يوم يمسي إلّا وقد دنى من الآخرة مرحلة لا يدري على الجنّة أم على النار(٢) .

أبناء الإمام السجّاد عليه السلام

قال الشيخ المفيد وصاحب الفصول المهمّة : أنّ ولد الإمام علي بن الحسين عليهما السلام خمسة عشر ولداً وهم : محمّد المكنّى بأبي جعفر الباقر عليه السلام أُمّه أُمّ عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، عبدالله ، الحسن ، الحسين ، وأُمّهم أُمّ ولد ، زيد ، عمر ، وهما لأُمّ ولد ، الحسين الأصغر ، عبدالرحمن ، سليمان ، لأمّ ولد ، علي وكان أصغر ولد الإمام السجّاد ، خديجة وأُمّها أُمّ ولد ، محمّد الأصغر ، وأُمّه أُمّ ولد ، فاطمة ، عليّة ، أُمّ كلثوم وأُمّهنّ أُمّ ولد(٣) .

وقد نقل المحدّث القمّي رحمه الله حول عليّة فقال : أنّ عليّة هي التي ذكر اسمها في كتب علماء الرجال ، وقالوا أنّها جمعت كتاباً ينقل زرارة عنه(٤) .

__________________

(١) كشف الغمّة ج ٢ ص ٢٩٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٧٨ ص ١٦٠.

(٣) الإرشاد ص ٢٦١.

(٤) منتهى الآمال ج ٢ ص ٦٥.

١٤٣

الشهادة المؤلمة

اعلم أنّه وقع اختلاف كبير بين العلماء في وفاة الإمام السجّاد عليه السلام والمشهور أنّه استشهد في أحد الأيّام الثلاثة التالية وهي : إمّا الثاني عشر من محرّم أو الثامن عشر أو الخامش والعشرون منه في السنة الخامسة والتسعين أو الرابعة والتسعين للهجرة ، وسمّيت سنة وفاته عليه السلام بـ «سنة الفقهاء» لكثرة موت الفقهاء والعلماء فيها.

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : لمّا كان الليلة التي وعدها علي ابن الحسين عليهما السلام قال لمحمّد : يا بني أبغي وضوءاً ، قال : فقمت فجئت بوضوء ، قال : لا ينبغي هذا فإنّ فيه شيئاً ميّتاً ، قال : فخرجت بالمصباح فإذا فيه فأرة ميتة ، فجئته بوضوء غيره.

قال : فقال : يا بني هذه الليلة التي وعدتها(١) .

وعن الإمام الرضا عليه السلام قال : لمّا حضر علي بن الحسين عليه السلام الوفاة أُغمي عليه ثلاث مرّات فقال في المرّة الأخيرة : الحمدلله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنّة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ، وفي الكافي أضاف على الخبر أنّه عليه السلام قرأ سورة الواقعة وسورة الفتح ثمّ تلا الآية الكريمة(٢) .

ونقل أنّه عليه السلام في ساعات الاحتضار دعا الإمام الباقر عليه السلام وضمّه إلى صدره وأوصاه بوصيّه أبيه الحسين عليه السلام فقال : إيّاك وظلم من لا ناصر له سوى الله(٣) .

وعن الراوندي أنّ علي بن الحسين عليهما السلام كان يقول عند الموت : اللهمّ ارحمني فإنّك كريم ، اللهمّ ارحمني فإنّك رحيم ، فلم يزل يردّدها حتّى توفّي عليه السلام(٤) .

وبعد أن توفّي الإمام عليه السلام حضر الجميع جنازته ما عدا «سعيد بن المسيّب»

__________________

(١) منتهى الآمال ج ٢ ص ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) جلاء العيون ص ٥٠٠.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٢٤٩.

(٤) دعوات الراوندي ص ٢٥٠ ح ٧٠٤.

١٤٤

فشيّعوا جثمانه إلى البقيع ودفنوه إلى جوار جدّه المظلوم الإمام الحسن المجتبى عليه السلام.

وفي الخبر أنّه عليه السلام لمّا وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين.

وكان له عليه السلام ناقبة ذهب بها إلى الحجّ ٢٢ عاماً ومع ذلك لم يضربها سوطاً واحداً ، ولمّا دفن عليه السلام جاءت الناقة إلى قبره الشريف وجلست عنده وأخذت تحنّ وتأنّ وتبكي.

وفي بعض الأخبار أنّ الإمام الباقر عليه السلام أتى إليها وقال لها : اسكتي وارجعي بارك الله فيك ، فعادت إلّا أنّها عادت من بعد مدّة من الزمن وأخذت تبكي وتنوح إلى ثلاثة أيّام وفي اليوم الثالث ماتت(١) .

وكما يستفاد من الأخبار الكثيرة أنّ سبب وفاة الإمام عليه السلام كانت لسقيه السمّ الفتّاك ، فقد ذهب ابن بابوية وجمع آخر أنّ الوليد بن عبدالملك هو الذي دسّ السم إليه ، وقيل هشام بن عبدالملك(٢) .

وقد اختلف في مدّة حياته إلّا أنّ أكثرهم قالوا أنّه عمره المبارك حين وفاته كان ٥٧ سنة(٣) .

ونقل الكليني قدس سره بسند معتبر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : قبض علي بن الحسين عليهما السلام وهو ابن سبع وخمسين سنة ، في عام خمس وتسعين للهجرة ، وقد عاش بعد الإمام الحسين عليه السلام خمساً وثلاثين سنة(٤) .

وقد نسب للإمام عليه السلام بعض الأبيات منها قوله أيّام أسره :

أُقاد ذليلاً في دمشق كأنّني

من الزنج عبد غاب عنه نصيره

__________________

(١) منتهى الآمال ج ٢ ص ٦٠.

(٢) منتهى الآمال ج ٢ ص ٥٧.

(٣) منتهى الآمال ج ٢ ص ٥٧.

(٤) الكافي ج ١ ص ٣٦٠.

١٤٥

وجدّي رسول الله في كلّ موطن

وشيخي أمير المؤمنين وزيره

أبيات الفرزدق

لعلّ خير ما قيل في الإمام زين العابدين عليه السلام هو ما أنشده الفرزدق عندما تساءل هشام عن الإمام عليه السلام فأجابه الفرزدق قائلاً :

يا سائلي أين حلّ الجود والكرم

عندي بيان إذا طلّابه قدموا

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن الخير عباد الله كلّهم

هذا التقيّ النقيّ الطاهر العَلَم

هذا الذي أحمد المختار والده

صلّى عليه إلهي ما جرى القلم

لو يعلم الركن مَن قد جاء يلثمه

لخرّ يلثم منه ما وطى القَدَم

هذا علي رسول الله والده

أمست بنور هداه تهتدي الأُمم

هذا الذي عمّه الطيّار جعفر وا

لمقتول حمزة ليث حبّه قسم

هذا ابن سيّدة النسوان فاطمة

وابن الوصي الذي في سيفه نَقَم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يغضي حياء ويغضى ن مهابته

فما يكلّم إلّا حين يبتسم

ينجاب نور الدجى عن نور غرّته

كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم

بكفّه خيزران ريحه عبق

من كفّ أروع في عرنينه شمم

ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده

لولا التشهّد كانت لاءه نعم

مشتقّة من رسول الله نبعته

طابت عناصره والخيم والشيم

حمّال أثقال أقوام إذا قدحوا

حلو الشمائل تحلو عنده نعم

إن قال قال بما يهوى جميعهم

وإن تكلّم يوماً زانه الكلم

١٤٦

هذا ابن فاطمة إن كانت جاهله

بجدّه أنبياء الله قد ختموا

الله فضله قدماً وشرفه

جرى بذلك له في لوحه القلم

من جدّه دان فضل الأنبياء له

وفضل أُمّته دانت له الأُمم

عمّ البرية بالإحسان وانقشعت

عنها العماية والإملاق والظلم

كلتا يديه غياث عمّ نفعهما

تستوكفان ولا يعروهما عدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره

يزيّنه خصلتان الحلم والكرم

لا يخلف الوعد ميموناً نقيبته

رحب الفناء أريب حين يعترم

من معشر حبّهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبّهم

ويستزاد به الإحسان والنعم

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم

في كلّ فرض ومختوم به الكلم

إن عدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم

أو قيل مَن خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمه أزمت

والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

يأبى لهم أن يحلّ الذمّ ساحتهم

خيم كريم وأيد بالندى هضم

لا يقبض العسر بسطاً من أكفّهم

سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا

إنّ القبائل ليست في رقابهم

لأوّلية هذا أوّله نعم

من يعرف الله يعرف أوّلية ذا

فالدين من بيت هذا ناله الأُمم

بيوتهم في قريش يستضاء بها

في النائبات وعند الحلم إن حلموا

فجدّه من قريش في أزمتها

محمّد وعلي بعده عَلَم

بدر له شاهد والشعب من أحد

والخندقان ويوم الفتح قد علموا

وخيبر وحنين يشهدان له

وفي قريضة يوم صيلم قتم

مواطن قد علت في كلّ نائبة

وعلى الصحابة لم أكتم كما كتموا

١٤٧

الفصل الثامن

انتقام الحقّ

نقل أنّ الأمير قطب الدين تيمور الگورگاني كان في التسلّط والهيمنة كالاسكندر حيث سيطر على الكثير من البلاد وفرض على الكفّار الجزية.

وفي عام ٨٠٣ ذهب إلى الشام وقاتل أُمراءها في حدود حلب فانتصر عليهم وأسر قادتهم ودخل حلب منتصراً ظافراً بأهلها.

ثمّ إنّه جهّز جيشاً عظيماً من حلب وتوجّه نحو الشام وفتحها وقتل أُمرائها حتّى أنّ ملك مصر السلطان فرّخ.

وكما في التاريخ أنّه لمّا فتح الشام كانت الغنائم التي حصّلها لا تعدّ ولا تحصى ، وفي نفس تلك السنة أباح تيمور بغداد لمخالفة أهلها له وأعطى الإذن العامّ في قتلهم.

على كلّ فبعد أن سيطر أمير الدين على الشام ثارت في نفسه الغيرة لمصاب أهل البيت عليهم السلام وما جرى من الصعوبات على المخدّرات في الشام فأراد أن ينتقهم لهم ولثارهم فعمد إلى الخطّة التالية.

فقد خطب ابنة ملك الشام وكانت من المحتشمات وأمر أن تزيّن المدينة ويحتفل الناس بهذا الزفاف ، ثمّ إنّه بعثها إلى الماشطات ليزيّنها ويأخذوها إلى الحمّام ، ولمّا أخذوها أمر أن يأتوا بها على ناقة هزيلة عارية ليس فيها هودج ويطوفوا بها مكشوفة أمام الناس. وما أن رأى أهل الشام هذه الحالة اعترض كبيرهم وصغيرهم على ظلم تيمور وشجبوا عمله ، فنظر إليه الأمير تيمور والحسرة تتكسّر في قلبه وقال : ما هذه الضجّة؟ ولماذا تعترضون؟

أنا لم أرد ظلم أي أحد بل ظننت أنّ رسمكم هكذا تطوفون بأبناء العظماء في

١٤٨

بلادكم حواسر.

فاندهش أهل الشام وقالوا : واي فاسق يرضى أن يعمل بأعراض المسلمين هكذا؟

فتأوّه الأمير تيمور وانحدرت دموعه على خدّيه وقال : لا دين لكم ، أما تستحون؟! فأي أبناء الملوك أقدس من ذريّة رسول الله صلى الله عليه واله؟! ومن أعظم من ابنة الصدّيقة الزهراء عليها السلام حتّى تقودها على النياق الهزلة وتطوفون بها حاسرة في الأسواق بعد أن حرقتم قيامها وسبيتم بنات الرسول صلى الله عليه واله من بلد إلى آخر.

ثمّ أنّه قال لهم : لا غيرة لكم ، أما تستحون ، تعلمون بتقل ذرية الرسول صلى الله عليه واله ظلماً وعدواناً ثمّ تعيّدون بدخول بناته في بلادكم أُسارى؟!

فوا أسفاه ، ثمّ وا أسفاه ، فلو إنّني كنت في ذلك اليوم لأنتقمت من أُلئك الظلمة ولمحوتهم من الوجود ، فوالله يا أهل الشام لا أنسى كيف أُدخل أهل البيت عليهم السلام مجلس يزيد الطاغية مقيّدين كأنّهم عبيد من الروم أو الفرنج دون أن ينبس احد ببنت شفة بينما يغار ذلك الفرنجي(١) على عيال الرسول صلى الله عليه واله وأطفاله. ألا لعنة الله على آبائكم وأجدادكم.

فبقي الشاميون حائرين ماذا يجيبونه.

ولمّا وجد أن لا جواب لهم التفت إليهم ثانية وقال : يا أعداء الله وأعداء رسوله ، لقد عزّ عليكم أن تأسر امرأة من أهل الشام ولا يعزّ على رسول الله صلى الله عليه واله أن يطاف ببنات فاطمة عليها السلام في بلادكم؟! ثمّ أنّه أمر قادة جيشه أن يفتكوا بهم ويبيحوا دمهم ويضرموا النيران في بلادهم فبقت الشام على ذلك الحال إلى العصور الأخيرة حيث عمّرها بعض السلاطين وأعادوا بناءها(٢) .

__________________

(١) هذه إشارة إلى مبعوث ملك الروم مع يزيد وقصّته مشهورة في الكتب.

(٢) قصص التاريخ لحجّة الإسلام غلام حسين عابدي ج ١ ص ١٨٧.

١٤٩

الفصل التاسع

١ ـ الشجرة الطيّبة

إحدى المقامات المعروفة والشمهورة في دمشق ، هو مقام ومرقد السيّدة رقيّة يتيمة الإمام الحسين عليه السلام التي استشهدت في السادس من سفر المظفّر عام ٦١ ه في إحدى خرابات الشام من شدّة الفراق والشوق إلى والدها سيّد الشهداء عليه السلام.

أبناء الإمام الحسين عليه السلام

إنّ الذي يراجع الكتب والأقوال المختلفة يجد أنّ البنات التي نسبن إلى سيّد الشهداء عليه السلام ثمانية وهم : فاطمة الصغرى ، زبيدة ، زينب ، سكينة ـ وهي التي توفّيت في خرابة الشام ، وقد قال البعض أنّ اسمها زبيدة بينما ذهب البعض الآخر أنّ اسمها رقيّة ـ وأُمّ كلثوم وصفية.

كما نسب للإمام الحسين عليه السلام من الذكور ثمانية أولاد وهم : ١ ـ علي الأكبر ، ٢ ـ علي الأوسط ، ٣ ـ على الاصغر ، ٤ ـ محمّد ، ٥ ـ جعفر ، ٦ ـ القاسم ، ٧ ـ عبدالله ، ٨ ـ المحسن ، ٩ ـ إبراهيم ، ١٠ ـ الحمزة ، ١١ ـ عمر ، ١٢ ـ زيد ، ١٣ ـ عمران بن الحسين عليه السلام ، وقد نقل أنّ عدد الأولاد الذكور لسيّد الشهداء عليه السلام أكثر من ذلك وهو قول ضعيف جدّاً.

فمن كلام لآية الله الحاج ميرزا حبيب الله الكاشاني بعد تعرّضه إلى أولاد سيّد الشهداء عليه السلام قال فيه : باعتقادي على تقدير صحّة ما ذكر ، أنّ التعدّد كان في الأسماء وليس في المسمّين ، إذ أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان معروفاً بقلّة الأولاد ، ولذا نستطيع القول إنّ هذه أسماء متعدّد لأشخاص معدودين بحيث يكون لكلّ ولد من أولاد سيّد الشهداء عليه السلام أكثر من اسم ، أو أنّ هذه أسماء لذرّية الإمام الحسين عليه السلام.

١٥٠

ويحتمل أن يكون بعض هؤلاء ينسبون إلى سيّد الشهداء عليه السلام عن طريق بني هاشم إذ أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان أبو الأيتام وكافلهم(١) ، وقال آية الله الميرزا حبيب الله أيضاً حول يتيمة الشام التي توفّيت في الخرابة : ربما كان اسمها رقية وقد كانت من بنات سيّد الشهداء عليه السلام إذ أنّ المزار العظيم الذي هو في خرابات الشام ينسب إليها وهو معروف بمزار السيّدة رقيّة(٢) .

تحقيق مختصر حول السيّدة رقيّة

إنّ كلمة رقيّة في الأصل مأخوذة من الارتقاء بمعنى الصعود إلى الأعلى والترقّي. وقد كان هذا الاسم قبل الإسلام موجوداً أيضاً ، ففي التاريخ أنّ اسم إحدى بنات هاشم –جدّ الرسول ـ كان رقيّة ، وهي عمّة والد النبي صلى الله عليه واله(٣) والمرأة الثانية التي كان اسمها رقيّة هي ربيبة النبي صلى الله عليه واله من السيّدة خديجة بنت خويلد ، ناهيك عن بنات الأئمّة عليهم السلام اللواتي سمّين برقيّة ومنهنّ ابنة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام(٤) وابنتين للإمام الكاظم عليه السلام وهما رقيّة ورقيّة الصغرى.

وينبغي الاشارة أنّ أكثر المحدّثين أشاروا أنّ السيّد الشهداء ابنتين هما فاطمة والسيّدة سكينة إلّا أنّ ابن شهر آشوب ومحمّد بن جرير الطبري الشيعي أشارا أنّ للإمام الحسين عليه السلام ثلاث بنات وهنّ : سكينة ، وفاطمة وزينب.

ومن المحدّثين القدماء فقط علي بن حسين الإربلي صاحب كتاب «كشف الغمّة في معرفة الأئمّة» والذي ألّفه عام ٦٨٧ ه نقل عن «كمال الدين» فقال : إنّ للإمام

__________________

(١) تذكرة الشهداء آية الله الملّا حبيب الكاشاني ص ١٩٣.

(٢) منتخب التواريخ ص ٢٩٩.

(٣) بحار الأنوار ج ١٥ ص ٣٩.

(٤) ترجمة الإرشاد للمفيد ج ٢ ص ١٦.

١٥١

الحسين عليه السلام ستّة أولاد ذكور وأربعة أُناث إلّا أنّه أيضاً عند ذكره لأسمائهنّ ذكر ثلاثة وهنّ : زينب وسكينة ، وفاطمة ولم يتطرّق إلى اسم الرابعة أبداً.

ومن المحتمل أن يقال أنّ ابنة سيّد الشهداء عليه السلام الرابعة هي السيّدة رقيّة عليها السلام ، فمن كلام للعلّامة الحائري في كتابه «معالي السبطين» قال : كتب محمّد بن طلحة الشافعي وغيره من علماء الشيعة والسنّة أنّ للإمام الحسين عليه السلام ستّة أولاد وأربعة بنات.

ثمّ تطرّق إلى أسماء البنات فقال : أمّا البنات فهنّ : سكينة ، فاطمة الصغرى ، فاطمة الكبرى ، ورقيّة عليهم السلام.

وأضاف أيضاً فقال : أمّا السيّدة رقية عليها السلام فكان عمرها خمس أو سبع سنوات وقد توفّت في الشام وأُمّها «الشاه زنان» ابنة يزدجر ، وبهذا تكون السيّدة رقيّة عليها السلام أُخت الإمام السجّاد عليه السلام(١) .

سؤال وجواب

الكثير من الناس يتساءلون قائلين : الكثير من المصنّفات القديمة مثل الإرشاد للشيخ المفيد ، وأعلام الورى للطبرسي ، وكشف الغمّة للإربلي ، ودلائل الإمامة للطبري لا يوجد فيها ذكر للسيّدة رقيّة أصلاً وهذا خير دليل على عدم وجودها؟

وفي جواب مثل هذا السؤال نقول :

١ ـ في تلك العصور التي كانت الإمكانات قليلة جدّاً ، وكثرة أولاد الأئمّة عليهم السلام من جانب آخر وشدّة مضايقة حكّام بني أُميّة للكتّاب وتتبّعهم لما يكتبون فضلاً من عدم الاهتمام الزائد بضبط وتدوين كلّ صغيرة وكبيرة من حياة الأئمّة عليهم السلام ضيّع علينا الكثير من حياة الأئمّة وأخفى على البشرية الكثير من الحقائق ، ولهذا يمكن أن يقال : إنّ عدم ذكر أمثال العلماء الأعلام مع التوجّه إلى ما ذكرنا لا يكون دليلاً على عدم وجود السيّدة رقيّة عليها السلام.

__________________

(١) سرگذشت جانسوز حضرة رقيه عليها السلام ص ٩ نقلاً عن معالي السبطين ج ٢ ص ٢١٤.

١٥٢

٢ ـ لعلّ الكتّاب في تلك العصور مع قلّة الإمكانات ووجود أكثر من ظفلة آنذاك باسم رقيّة عاقهم عن التطرّق إلى هذه السيّدة الجليلة.

٣ ـ قد يكون لبعض بنات سيّد الشهداء عليه السلام اسمين ، فمثلاً هناك الكثير من القرائن القويّة الدالّة على أنّ السيّدة رقيّة عليها السلام هي نفسها فاطمة الصغيرة وربما كان هذا هو السبب الرئيسي للغفلة عن اسم السيّدة رقيّة عليها السلام.

٤ ـ ذكرنا قبلاً أنّ بعض العلماء الأعلام من القدماء ذكروا أنّ هناك طفلة لسيّد الشهداء باسم السيّدة رقية كانت قد استشهدت في خرابة الشام.

ومن تعرّض هؤلاء البعض للسيّدة رقيّة عليها السلام يتّضح أنّه كانت في أيديهم دلائل اعتمدوا عليها في ذكرهم للسيّدة رقية عليها السلام ولم تصل ـ هذه الدلائل ـ إلى أيادي الغير حتّى يومنا هذا.

وعلى أيّة حال فإنّ عدم ذكر بعض القدماء للسيّدة رقيّة عليها السلام في مصنّفاتهم لا يكون دليلاً على عدم وجودها.

فكما أنّ عدم ذكر الكثير من الأحداث ووقائع عاشوراء وما جرى على أهل البيت عليهم السلام في طريقهم عندما كانوا في الأسر لا يكون دليلاً على عدم وجودها ، كذلك الحال بالنسبة إلى قضية السيّدة رقيّة عليها السلام(١) .

والد السيّدة رقيّة

إنّ والد السيّدة رقيّة عليها السلام هو سيّد الشهداء عليه السلام ولايحتاج أن نعرّفه لأحد فما عساني أنا القاصر أن أُعرّف عظيماً مثل الإمام الحسين عليه السلام.

والدة السيّدة رقيّة

إنّ اسم والدة السيّدة رقيّة عليها السلام حسب نقل البعض هو «أُمّ إسحاق» وكانت زوجة للإمام الحسن عليه السلام ثمّ أوصى سلام الله عليه أخيه سيّد الشهداء عليه السلام عند شهادته أن

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٣.

١٥٣

يتزوّجها. وقد ذكر لها الكثير من الفضائل والمناقب.

وقيل أنّ والدتها هي «أُمّ جعفر القضاعية» إلّا أنّه لا دليل على هذا القول(١) .

علماً أنّ الشيخ المفيد رضوان الله عليه أشار في «الإرشاد» أنّ والدة فاطمة بنت الحسين عليه السلام هي أُمّ إسحاق بنت طلحة(٢) .

عمرها المبارك

كان عمر السيّدة رقيّة عليها السلام حين شهادتها حسب بعض الروايات ثلاث سنين ، وفي البعض الآخر أنّ عمرها كان أربع سنين ، ونقل في بعض الأخبار أنّ عمرها كان خمس سنين وفي بعضها سبع سنين.

وقد ذكر في كتاب «وقائع الأيّام والشهور» للعلّامة البيرجندي : أنّ طفلة صغيرة للإمام الحسين عليه السلام توفّيت في الخامس من شهر صفر سنة ٦١ ه ، كما نُقل نفس هذا المطلب في كتاب «رياض القدس».

٢ ـ السيّدة رقيّة في عاشوراء

نقل في بعض الأخبار : أنّ السيّدة سكينة عليها السلام قالت لإحدى خواتها ـ ويحتمل أن تكون هي السيّدة رقيّة ـ يوم عاشوراء : هلمّي نأخذ برداء والدي ونحول بينه وبين الذهاب إلى الميدان.

وعندما سمع سيّد الشهداء عليه السلام صوتهنّ بكى كثيراً ، وإذا بالسيّدة رقيّة تناديه قائلة : أبتاه! لن أحول دون ذهابك إلى الميدان ولكن قف لي هنيئة لأراك وأتزوّد منك.

فأخذها سيّد الشهداء عليه السلام في حضنه وجعل يقبّلها ويصبّرها وإذا بها تقول له : أبتاه ، العطش العطش ، فإنّ الظمأ قد آلمني.

فأشار عليها الإمام الحسين عليه السلام أن تدخل الخيمة ليذهب إلى الميدان ويطلب لها

__________________

(١) السيّدة رقيّة عليها السلام تأليف عامر الحلو ص ٤٢.

(٢) ترجمة الإرشاد ج ٢ ص ١٣٧.

١٥٤

ماءً وما أن أراد سيّد الشهداء عليه السلام الذهاب إلى ميدان إذا بالسيّدة رقية عليها السلام تأخذ بأذياله من جديد وهي تقول : أبتاه أين تمضي عنّا؟

فأخذها الإمام الحسين عليه السلام في حضنه ثانية وطيّب خاطرها وهدّأ من روعها ثمّ ودّعها بقلب حزين(١) .

وا إماما إذ يودّع أهليه

ويرمي بطرفه للخيام

زينب أُخته تنوح بشجو

ثمّ تدعو لواحد العلّام

وتناديه يا أخي يابن أُمّي

أظلمت بعد فقدكم أيّامي

يا أخي هذه سكينة تبكي

قد أهلّت دموعها بالسجام

تستجير العدا بطرف كليل

وفؤاد مؤله مستهام

يا أخي فاطم تدور وترتاع

لما نالها من الآلام

خانها دهرها فأضحت بذلّ

بعد عزّ ونعمة واحتشام

يا أخي هذه بناتك بالذلّ

أُسارى وما لهنّ محامي

يا أخي هذه الأسارى حيارى

ساترات الوجوه بالأكمام

كم حسان وكم ربيبة خدر

صرن من غير برقع ولثام

يا أخي لو ترى علياً بقيد

ناكس الرأس ذلّة للرغام

يا أخي هدّ حزن فقدك ركني

وكساني النحول ثوب سقام

يا أخي خانني الزمان بصبري

وجفا عن جفون عيني منام

يا أخي أظلم الزمان علينا

بعدما كان ضاحكاً بابتسام

اللقاء الأخير

على الرغم أنّ كلّ وقائع وداع سيّد الشهداء عليه السلام مع أهل بيته عليهم السلام مؤلمة ومحزنة إلّا أنّ الوداع الأخير وهو وداعه مع عزيزة قلبه الصغيرة السيّدة رقيّة عليها السلام أكثر حزناً وأشدّ

__________________

(١) وقائع عاشوراء للسيّد محمّد تقي مقدّم ص ٤٥٥ ، حضرة رقية للشيخ علي الفلسفي ص ٥٥٠.

١٥٥

إيلاماً على قلوب المؤمنين.

فمن كلام لهلال بن نافع الذي كان في جيش عمر بن سعد قال فيه : كنت واقفاً خلف صفوف العسكر فرأيت الإمام يتقدّم نحو الميدان بعد أن ودّع عياله وأهل بيته ، وفي ذلك الأثناء شاهدت طفلة خرجت من الخيمة ورجلاها ترجفان فأخذت تعدو خلف الإمام الحسين عليه السلام حتّى وصلت إليه وتشبّثت بأذياله وهي تقول : أبتاه انظر إليّ فإنّي عطشانة.

وما أن سمع سيّد الشهداء عليه السلام هذه الكلمات المشجية من عزيزة قلبه رقيّة عليها السلام إذا به ينقلب حاله ويجهش بالبكاء فخاطبها بدموع جارية وقال : الله يسقيك فإنّه وكيلي عليكم.

يقول هلال بن نافع : سألت من هذه الطفلة؟ وما هي علاقتها بالإمام الحسين عليه السلام؟ فقالوا لي : إنّها السيّدة رقيّة صغيرة الإمام الحسين عليه السلام(١) .

مواساة السيّدة رقيّة لعطش الإمام الحسين عليه السلام

عندما حمل أزلام يزيد وجلاوزته على حرم الرسول صلى الله عليه واله وأخذوا يحرقون الخيام وجدوا ما يقارب ٢٣ طفلاً كلّهم يصيحون واعطشاه ، فأخبروا عمر بن سعد بالأمر وقالوا له : إذا أردت حفظ هؤلاء الأطفال من الموت فابعث الماء لنسقيهم.

وبالفعل فقد أذن عمر بن سعد لهم أن يسقوهم الماء فجاءوا إليهم بالماء وجعلوا يسقونهم واحداً بعد الآخر.

ولمّا وصل الساقي إلى السيّدة رقيّة عليها السلام وناولها قدح الماء أخذته وهرولت نحو الميدان ، فتساءل منها الرجل وقال : إلى أين تذهبين؟ فقالت : أمضي إلى والدي لأسقيه الماء.

فأجابها اللعين : دعي عنك هذا واشربي الماء فقد قتل أباك ظمآناً.

__________________

(١) سرگذشت جانسوز حضرة رقيّه ص ٢٢ نقلاً عن الوقائع والحوادث لمحمّد باقر مليوبي ج ٣ ص ١٩٢.

١٥٦

وبمجرّد أن سمعت منه هذا الكلام التفت إليه بدموع جارية وقالت : إذن لن أشرب الماء أبداً(١) .

وفاطمة الصغرى تعانق أُختها

سكينة خوف السبي وهو مكيد

وزينب ما بين النساء وقلبها

قريح وبالأحزان فهو كميد

تقول وللأحزان في القلب مبدع

ومبد لأسرار الهموم معيد

أخي بابن أُمّي يا شقيقي وسيّدي

ومن لي من دون الأنام عميد

عليك جفوني الذاريات ذوارف

وأمّا دموعي المرسلات تجود

أخي مهجة الإسلام مقضي كآبة

ومتن الهدى قد قدّ وهو عميد

أخي شلّ عرش الدين وانهدّ ركنه

وعطل منه إذا أصبت حدود

أخي من يلئم الشمل بعد شتاته

ومن لبناء المكرمات يشيد

أخي من ترى للجود والندى

إذا سار وفد أو أقام وفود

فأنت لمن يبغي الوفادة والجدي

بأنفس ما يسخو المفيد تفيد

وإن أجدبت أرض فأنت ربيعها

وإن ضنّ صوب المزن أنت مجيد

وكلّ مصاب جاء بعدك هيّن

وما هان في هذا المصاب شديد

فياشيعة المختار نوحوا لمصرع

الشهيد وبالدمع الغزير فجودوا

تطأه خيول المجريات تجبّراً

ويسفي عليه بعد ذاك صعيد

وآل رسول الله يشهرن في الملأ

وآل ابن هند في الخدور رقود

يسار بآل المصطفى فوق ضمر

وترفعهم بيد وتخفض بيد

ورأس إمام السبط في رأس ذابل

طويل على رأس السنان يميد

وينكثه بالخيزران شماتة

به وسروراً كافر وعنيد

ويؤتى بزين العابدين مصفّداً

وفي قدميه للحديد حدود

__________________

(١) سرگذشت جانسوز حضرة رقيه عليها السلام ص ٢٩ نقلاً عن ثمرات الحياة ج ٢ ص ٣٨.

١٥٧

فقوموا بأعباء العزاء فإنّه

جليل وأمّا غيره فزهيد

لأي مصاب يذرف الشأن ماءه

وتقضى نفوس أو تفت كبود

لأعظم من هذا المصاب وخطبه

عظيم على أهل السماء شديد

مصاب له في كلّ قلب مصيبة

سهام لحبّات القلوب تبيد

وللهم هم والرزايا رزية

وللحزن حزن زائد ويزيد

إليكم يابني الزهراء يامن سمت بهم

إلى المجد آباءهم لهم وجدود

ونقل ابن الجوزي في كتابه «مفاتيح الغيب» أنّ صالح بن عبدالله قال : عندما أحرقوا الخيام وفرّ أهل البيت عليهم السلام في كلّ مكان رأيت طفلة قد أخذت النيران بأطرافها وهي تبكي وتفرّ من الأعداء فرّق قلبي لها ودنوت منها لأخمد النيران ، ولمّا سمعت صهيل فرسي اشتدّ خوفها وارتاعت أكثر فقلت لها : لا بأس عليك بنيّة لا تخافي إنّما هي النيران قد علقت بأطرافك وأردت أن أخمدها.

وبينما كنت أطفأ النيران في أذيالها التفت إليّ وقالت : يا شيخ أنا عطشانة ، فهل إلى شربة من الماء سبيل؟ فرقّ قلبي لها وناولتها قدحاً من الماء.

فأخذت القدح وجعلت تتمعّن وتحقّق النظر فيه وهي تتحسّر ، ثمّ أنّها تركتني وجدّت في السير ، فتساءلت منها وقلت : إلى أين تريدين؟ فقالت : إنّ أُختي الصغيرة هي أشدّ منّي عطشاً.

فقلت لها : لا تخافي ، فلن يمنعوكم من الماء بعد اليوم ، وريثما أخبرتها بذلك التفت إليّ والحزن والألم بادي على وجهها وقالت : أسألك يا شيخ ، لقد كان والدي عطشاناً حينما ذهب إلى الميدان ، فهل سقوه ماءً؟

فقلت لها : بنيّة والله لقد سمعته إلى اللحظات الأخيرة وهو ينادي : اسقوني شربة من الماء ، فلم يسقه أحد حتّى قضى عطشاناً.

فانتحبت لعطش والدها وامتنعت عن شرب الماء.

١٥٨

وقد نقل بعض الفضلاء أنّ هذه الطفلة كانت السيّدة رقيّة عليها السلام.(١) .

مأساة تمضّ القلوب

نقل البعض عن كتاب «سرور المؤمنين» فقال : إنّ السيّدة رقيّة عليها السلام كانت كلّ يوم في أوقات الصلاة تفرش سجّادة سيّد الشهداء عليه السلام ليصلّي عليها.

وفي يوم عاشوراء لمّا حان وقت صلاة الظهر جاءت وفرشت السجّادة وجلست تنتظر والدها ليأتي ويصلّي ، وفيما هي على ذلك الحال إذا بشمر اللعين يدخل الخيمة فتساءلت منه السيّدة رقيّة وقالت : ألم تر والدي؟ فلم يجيبها اللعين إلّا أنّه أمر غلام له أن يأتي ويضربها فامتنع الغلام فجاء اللعين بنفسه ولطمها على وجهها لطمة علم الله ماذا صنعت هذه اللطمة بأهل السماء(٢) .

في ليلة الحادي عشر

وجدت في كتاب «مبكي العيون» أنّ السيّدة زينب عليها السلام في ليلة الحادي عشر من محرّم جمعت العيال في خيمة قد احترق نصفها ، وبقيت تحرس النساء والأطفال طيلة تلك الليلة وبينما هي كذلك أخذتها غفوة فرأت والدتها الصدّيقة الزهراء عليها السلام وقالت لها : أُمّاه أما تدرين بما جرى علينا؟

فأجابتها الصدّيقة الزهراء عليها السلام : لا تحرقي قلبي بعتابك يابنية ، قالت العقيلة زينب : إذن لمن أشكو شجوني؟

فتأوّهت الصدّيقة الزهراء عليها السلام وقالت : لقد كنت حاضرة عندما حزّ اللعين رأس ولدي وفصل رأسه عن بدنه ، ثمّ أنّها عليها السلام قالت : والآن ابحثي عن عزيزة الحسين رقيّة.

فاستيقظت السيّدة زينب عليها السلام من النوم وأخذت تدعو السيّدة رقيّة عليها السلام فلم تجبها ، فخرجت مع السيّدة أُمّ كلثوم تبكيان يبحثن عنها ، وبينما هما كذلك صوت السيّدة

__________________

(١) حضرة رقيّة عليها السلام للشيخ علي الفلسفي ص ١٣.

(٢) سرگذشت جانسوز حضرة رقيّه عليها السلام ص ٢٦ نقلاً عن حضرت رقيّة تأليف الشيخ علي الفلسفي ص ٧.

١٥٩

رقيّة عليها السلام بين القتلى.

فتوجّهنا نحو القتلى وإذا بالسيّدة رقيّة عليها السلام قد ألقت بنفسها على جسد أبيها وهي تشكو إليه ما جرى عليهم.

فهدّأتها السيّدة زينب عليها السلام ورفعتها عن جسد والدها.

ولم تمض لحظات إذا بالسيّدة سكينة تأتي فرجعوا معاً ، وفي أثناء الطريق التفت السيّدة سكينة إلى السيّدة رقيّة عليها السلام وقالت : كيف وجدت جسد أبي؟ فأجابتها السيّدة رقية : بينما كنت أصيح في البيداء أبتاه أبتاه إذا بصوت والدي يتهادى إلى سمعي قائلاً : بنيّة إليّ إليّ(١) .

رأت زينب صدر الحسين مرضضاً

فصاحت ونار الحزن في القلب تضرم

وصكّت من الضرب المبرح وجهها

ولم تر صبراً من جوى الثكل يعصم

تقول أخي قد كنت نوراً لشملنا

فياسورنا لِمَ أنت فينا مهدم

أخي يا أخي قد كنت كنزاً لفقرنا

فها أنت في أيدي العدى تتقسّم

أخي يا أخي قد كنت كهفاً لعزّنا

ألم ترنا بالذلّ نسبى ونشتم

أخي زوّد الأطفال وعداً وأوبة

فليس سوى الباري وإيّاك يرحم

أخي زوّد الولهى سكينة نظرة

فمهجتها حرّى وعبرتها دم

أخي تهتوي التقبيل منك سكينة

وشمر لها بالسوط ضرباً يؤلم

أخي فاطم الصغرى تحبّ التفاتة

وحقّك هذا قلبها فيك مغرم

أخي بنتك الأُخرى رقيّة ضمّها

إليك فأحشاها من الوجد تضرم

تقولا هلمّي يا سكينة نرتمي

على والدي دعنا من الموت نسلم

وإلّا فقومي ودعيه فإنّه

يروم ارتحالاً بعده ليس يقدم

ولم أنس وجداً أُمّ كلثوم تشتكي

إلى جدّها يا جدّ لو كنت تعلم

__________________

(١) سرگذشت جانسوز حضرة رقيّه عليها السلام ص ٢٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293