السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام20%

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 293

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 293 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 241943 / تحميل: 7925
الحجم الحجم الحجم
السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ستّة آلاف عام يقصدها المسلمون والنصارى واليهود للزيارة.

وفي عام ١٣٧٠ ه اقتضت سياسة المستعمر ومن أجل كسب الأصوات أن تقسّم فلسطين إلى قسمين ، فأُعطي القسم الشمالي لليهود والقسم الجنوبي وهو القسم الأكبر من فلسطين للعرب وهي الأردن اليوم وعاصمتها عمّان من أجمل المدن الحديثة في المنطقة ، وتضمّ فلسطين اليهود أُورشليم وهو المعبد الخاصّ لليهود ، بينما تضمّ فلسطين العرب بيت المقدس وبيت لحم ومدينة الخليل وآثار أُخرى.

٢ ـ حِمص : تُنسب هذه المدينة العظيمة إلى حمص بن سام الذي بناها وتقع بين دمشق وحلب ، وفيها إحدى المناطق المقدّسة والمهمّة التي وقف فيها أمير المؤمنين علي عليه السلام وزار قبور الصالحين وأمر أصحابه بزيارتهم وقال لهم إنّ عدداً من الصالحين قد دفن فيها ويُعدّ هذا المكان مزاراً عامّاً في هذه المدينة ، وقال بعضهم : إنّ قبر قنبر مولى الإمام علي عليه السلام فيها ، ولكن الأصحّ أنّ قبره في بغداد(١) وذكر في معجم البلدان أنّ حمص مدينة مشهورة في طرفي دمشق وحلب وسُميّت بإسم حمص بن سام بن نوح عليه السلام ، وفيها قبر خالد بن الوليد وابنه عبد الرحمن ، والعاص بن أعثم ، وبالقرب منها قصر خالد بن الوليد وقبور بعض الصحابة.

وحمص هذه غير حمص الواقعة في اشبيلية وغير حمص الواقعة في مصر وخلخال ، وقدورد في كتاب رحلات ناصر خسرو : إنّ من الشام إلى حمص خمسين فرسخاً.

٣ ـ الأردن : وهو اسم أحد أولاد سام بن نوح عليه السلام فسمّيت المنطقة باسمه ، وكانت الطائف تابعة للأردن وقد عرفت بمائها وهوائها ومناظرها الخلّابة ، وقد كان النبي إبراهيم الخليل عليه السلام قد سكن هذه المنطقة حتّى نزل عليه وحي الرسالة فتركها وسكن في الخليل.

وأمّا الناصرة فهي القرية التي سكنها النبي عيسى عليه السلام وأتباعه الذين أُطلق عليهم

__________________

(١) بستان السياحة وبقاع الأمكنة.

٢١

النصارى نسبة للمنطقة ، وقد كانت الناصرة تابعة لدمشق وهي القرية التي دخلها الخضر والنبي موسى عليه السلام في سفرهما ، وقد أشار القرآن الكريم إليها( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ) (١) .

وهذه الآية تحكي قصّة دخول النبي موسى عليه السلام والخضر عليه السلام إلى قرية ثمّ طلبوا من أهلها الطعام فأبوا أن يطعموها فانطلقا إلى جدار ليتيمين في المدينة مشرف على السقوط ، فعمل الخضر على بنائه وإقامته لحفظ الكنز الذي كان تحته وقد ورثاه من أبيهما الخ.

وهكذا فالأردن تحفل بعدّة قبور مقدّسة للعظماء ، مثل قبر لقمان الحكيم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وقد سميّت سورة كاملة باسمه ، ويقع قبره في مدينة طبرية ، ناهيك عن قبور كلّ من حجر بن عدي وأُويس القرني وبلال الحبشي التي تقع في هذه المنطقة بين الأردن والشام.

٤ ـ بيت المقدس : مدينة تعرف اليوم بالقدس بنيت على يد إيليا بن سام بن نوح ، وقد ورد ذكرها في الروايات على أنّها أرض المحشر ، كما ورد أنّ فيها قبور العديد من الأنبياء والأولياء والعلماء والأوتاد وعباد الله الصلحاء ، وتُعدّ منطقة الخليل من أشهر مناطقها لوجود قبر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وابنه إسحاق ، وكذا قبر النبي زكريا عليه السلام والنبي يحيى عليه السلام.

وقد تمّ بناء بيت المقدس الكبير من الحجر قبل أكثر من ستّة آلاف عام ، وبني بطراز خاصّ وكان فيه قبّة وضريح لقبور الأنبياء ، مضافاً إلى الآثار القديمة فيه ثمّ بنيت أطراف المسجد الأُخرى ممّا أضفى جمالاً آخراً لجمال المدينة المحاطة بالطيور والخضراء ، هذا وقد تولّى بناء بيت المقدس نبي الله سليمان عليه السلام.

__________________

(١) سورة الكهف : ٧٧.

٢٢

كما ويُعدّ المسجد الأقصى من المساجد المحترمة والمعظمّة في العالم فهو ـ كما سلف ـ قبلة المسلمين الأُولى ومسجد ليلة المعراج ومن أكبر المعابد التي يقصدها اليهود والنصارى والمسلمين الذي لم يسمع ولم ير مثله قطّ ، فإنّ الصلاة فيه تعدل ألف صلاة في غيره.

وأمّا قصّة بناء المسجد الأقصى فقد روي أنّ ذرّية إبراهيم الخليل كثرت ببركة الموقف العظيم لولده إسماعيل عليه السلام الذي استمرّ نسله وتكاثروا في فلسطين حتّى انزلق بعضهم عن طريق الهداية ومال إلى الضلال وعصى الربّ سبحانه وتعالى ، فأوحى الله للنبي داود عليه السلام الذي كان آنذاك حجّة الله في الأرض أن يقول للعصاة : إنّ الله تعالى سيبتليهم بثلاثة أنواع من البلاء ، إمّا ثلاث سنين من القحط ، أو ثلاثة أشهر من الحرب ، أو ثلاثة أيّام من الطاعون ، فلمّا أبلغهم بذلك قالوا : لا طاقة لنا بالقحط والحرب ، وأمّا الموت بالطاعون فنحن مستعدّون ، فذهب جماعة من العصاة واغتسلوا غسل التوبة ولبسوا الأكفان وخرجوا مع نسائهم وأطفالهم إلى الصحراء ينتظرون الموت ، بينما بقي القسم الآخر من العصاة في المدينة وهم يستهزؤون بهم فجاءهم الطاعون وقتلهم جميعاً ، بينما كان داود عليه السلام واقفاً على التلّ مع العصاة وقد توجّه إلى الله تعالى بالدعاء والتضرّع أن يغفر لهم حتّى استجاب الله دعائه وصلاته ورفع البلاء عنهم ببركته ثمّ خاطبه أن يبني على هذا التلّ مسجداً بمناسبة هذه الدعوة المستجابة ، «وهو مكان بيت المقدس اليوم ومكان خيمة النبي موسى عليه السلام والصلحاء من بني اسرائيل» فقبل الناس جميعاً بالتعاون لبناء هذا المسجد المقدّس ، إلّا أنّ أحد الصلحاء من بني اسرائيل قال : إنّ المكان ملكي ولا أسمح أن تبنوا عليه مسجداً دون رضاي ، فقالوا له : نعطيك ما تطلب حتّى ترضى ، فأوصلوا الخبر للنبي داود عليه السلام فقال لهم : لابدّ من رضاه ، فقال الرجل : أُريد مئة شاة ومئة بقرة ومئة جمل ، فلمّا كادوا أن يدفعوا له ذلك أبدى عدم رضاه أيضاً وقال : أُريد أن تحوطوا التل بحائط وتقيموا بما يعادله من الفضّة لكي أرضى. ومع ذلك أبدى الناس استعدادهم لارضائه ، فلمّا رأى همّتهم ونيّاتهم صادقة قال : قد رضيت بلا أن تدفعوا لي شيئاً وقد

٢٣

وهبتكم حقّي والأرض لكم وأنا معكم من العاملين ، وبهذا الشكل بدأوا ببناء المسجد الأقصى ، حتّى حمل النبي داود عليه السلام مع الناس الحجارة الكبيرة بنفسه وفي أثناء البناء جاء الخطاب الإلهي لداود عليه السلام : قد انتهى دورك من البناء وما تبقّى يكمله إبنك سليمان فأت بما أُمرت به ، وكان عمر داود عليه السلام آنذاك ـ أي حينما بدأ ببناء المسجد ـ ١٢٧ عاماً ، وتوفّي وعمره ١٤٠ عاماً.

ثمّ جاء سليمان عليه السلام وله من العمر ١٣ عاماً وجلس في مجلس أبيه وبدأ العمل في إكمال المسجد المقدّس إلّا أنّه إمتاز بكادر عمّالي عجيب وغريب وفريد من نوعه فقد عمل معه الجنّ والإنس سواء ، فكانوا يجلبون له الحجر الأبيض والأخضر والمعادن والأحجار الكبيرة والعريضة حتّى أكمل بناء المسجد وأكمل مدينة القدس التي قسّمها إلى اثنتي عشر قسماً على عدد أسباط بني اسرائيل.

وقد استغرق إنجاز هذا المشروع العملاق أربعين عاماً متواصلة من العمل الدؤوب ، فكان عرمه عليه السلام آنذاك ٥٣ عاماً ، وفي مكان ما كانوا قد صنعوا لسليمان عليه السلام غرفة من الزجاج وكان عليه السلام قد أمر بعدم الدخول عليه إلّا مع أخذ الرخصة والإذن منه ، فوقف يوماً وهو ملكاً على عصاه في هذه الغرفة وفجأة دخل عليه أحدهم فتعجّب سليمان عليه السلام من ذلك وقال له : من أنت؟

فقال : أنا الذي لا أقبل الرشاء ولا أهاب من الملوك ، أنا ملك الموت فقبض روحه وعلى هيئته التي كان عليها.

وتُعدّ اليوم منطقة بيت المقدس والمسجد الأقصى من المناطق الجذّابة في العالم بآثارها وطبيعتها الخلّابة وأشجار الفواكه الشهيرة فيها.

٥ ـ دمشق : وهي اليوم دولة سوريا ومركزها الشام يطلق عليها ـ أي على العاصمة ـ دمشق ، لقد بنيت هذه المنطقة العامرة على يد أحد أولاد سام بن نوح عليه السلام على رأي بعض المؤرخين ، بينما ذهب البعض الآخر أنّ نسبتها إلى غلام إبراهيم الخليل عليه السلام ، وذهب آخرون أنّها لغلام النمرود بن كنعان ، وعلى أي حال فإنّ دمشق تمتاز بهوائها

٢٤

الطيّب ومائها وفواكهها اللذيذة كالزيتون بأنواعه والموز ، إلّا أنّ أهلها عرفوا بالجفاء لآل الله عليهم السلام آل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه واله عندما جاءوا بهم أُسارى من كربلاء. وقد بكى لمصيبة الإمام الحسين عليه السلام كلّ شيء إلّا هؤلاء الجفاة ومن كان على شاكلتهم في الكوفة والبصرة.

فقد روي أنّه ما رفع حجر إلّا وخرج من تحته دم عبيط دلالة على البكاء الكوني والحزن العام في العالم. إلّا هذه المدن الثلاث فقد كانت الكوفة والبصرة تحت سلطة ابن زياد والشام تحت سلطة السكّير يزيد ولهذا فلم تظهر علامات الحزن في هذه المدن بل أُتّخذ يوم عاشوراء يوم فرح وسرور وبركة في بعضها(١) .

ج ـ الشام في العهد القديم :

الشام في عصرنا الحاضر يشمل دولة سوريا ولبنان وأقسام من الأردن وفلسطين ، فكانت هذه الدول تشمل منطقة الشام قديماً وأمّا هذا التجزّأ بين هذه الدول فهو نتيجة السياسة الاستعمارية الفرنسية والبريطانية بعد الحرب العالمية الأُولى.

ففي عام ٦٣ م احتلّ امبراطور الروم سوريا ومنذ ذلك التأريخ دخلت تحت السلطة الرومانية إلى عام ٣٩٥ م التي انقسمت فيها الامبراطورية الرومية إلى قسمين الروم الشرقية والروم الغربية ، فكانت سوريا ضمن الروم الشرقية التي حكمها الملك (بيزانس) الذي ضعفت سلطته بالتدريج على سوريا حتّى تحرّرت من قبضته في القرن السابع على يد المسلمين(٢) .

د ـ الشام في التاريخ الإسلامي :

١ ـ سفر النبي صلى الله عليه واله إلى الشام :

تُعدّ الشام من المناطق التي يرتبط بها العرب ارتباطاً وثيقاً وقديماً وذلك قبل

__________________

(١) راجع كتاب حضرة زينب كبرى عليها السلام فارسي ص ٢٥٧ للكاتب عماد زاده.

(٢) گيتا شناسي كشورها (فارسي) ص ١٨٥ طبع عام ١٣٦٥ ش.

٢٥

تحريرها من الاستعمار الروماني ، فقد كان العرب يقصدونها للتجارة ، وقد سافر إليها النبي صلى الله عليه واله قبل بعثته برفقة عمّه في قصّة مفصّلة مفادها كالتالي :

فقد جرت العادة أن يسافر تجّار قريش إلى الشام كلّ سنة مرّة واحدة ، فعزم أبو طالب أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرّة وقرّر أن يترك ابن أخيه محمّداً صلى الله عليه واله في مكّة في حراسة جماعة من الرجال ولكنّه وجد في ساعة الرحيل من ابن أخيه العزيز ما جعله يغيّر قراره المذكور واصطحب محمّداً صلى الله عليه واله معه وكان عمره الشريف آنذاك (١٢ ـ ١٣) عاماً ، ولمّا وصلت القافلة إلى منطقة (بُصرى) وهي إحدى نواحي الشام توقّفت عند راهب مسيحي وكانت القوافل التجارية إذا مرّت على صومعته توقّفت عنده بعض الوقت.

وعندما انتهوا عنده من الطعام كان الراهب ينظر إلى محمّد صلى الله عليه واله ويتأمّله جيّداً بنظرات فاحصة ثمّ قال : أيّكم وليّه؟ فقالوا : هذا وليّه وقد أشاروا إلى أبي طالب فقال الراهب لأبي طالب : إنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا هذا سيّد العالمين ، هذا رسول ربّ العالمين يبعثه رحمة للعالمين ، إحذر عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنّ قتله ....

ومنذ ذلك الحين صمّم أبو طالب على الرجوع مصطحباً معه ابن أخيه العزيز على قلبه فكرّا راجعين إلى مكّة بعدما رتّب أُمور التجارية مع بقيّة أصحابه في القافلة(١) .

٢ ـ السفرة الثانية :

وقد سافر النبي الأكرم إلى الشام مرّة أُخرى وذلك حينما كان عمره الشريف (٢٥) عاماً إلّا أنّه كان لا يزال في كنف عمّه أبي طالب الذي كان يفكّر في عمل لابن أخيه وكان سبب سفره إلى الشام أنّ السيّدة الجليلة خديجة بنت خويلد التي كانت امرأة تاجرة ذات

__________________

(١) تاريخ الإسلام تأليف المحقّق الكبير آية الله الحاج الشيخ جعفر السبحاني ص ٢٧ (فارسي) ، وانظر السيرة النبوية ج ١ ص ١٨٢.

٢٦

شرف عظيم ومال كثير تبحث عن رجل أمين تستأجره في مالها أو تضاربها إيّاه بشيء تجعله له منه فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه واله ، بعدما امتنع صلى الله عليه واله من أن يتقدّم هو بطلب العمل معها بسبب إبائه وعلو طبعه ، وحينما حضر عندها النبي صلى الله عليه واله قالت له : إنّي دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أُعطي رجلاً من قومك فوافق النبي صلى الله عليه واله على هذا العرض وانطلق بالقافلة متوجّهاً إلى الشام للتجارة وقد رافقه غلامين لخديجة أحدهما ميسرة فوصلوا إلى الشام وباعوا ما عندهم وربحوا ربحاً كثيراً ثمّ عادوا إلى مكّة وقد اشترى النبي صلى الله عليه واله من سوق «تهامة» متاعاً أتى به إلى مكّة أيضاً(١) .

٣ ـ رسالة الإسلام في الشام :

لقد طرح النبي الأكرم صلى الله عليه واله نفسه منذ اليوم الأوّل لبعثته على أنّه رسول للعالمين كما أشار القرآن الكريم لذلك إذ جاء فيه :( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (٢) وقد عمل بجهده لاقتناص الفرص بل لصناعة الفرص ليعرّف الناس رسالته ونبوّته وأنّه مبعوث للعالم كلّه إلّا أنّ أعداء الإسلام كانوا دائماً في طريق انطلاقته وإعاقته ، ولكن وبعد أن دخل النبي صلى الله عليه واله في معاهدة الصلح التي جرت في الحديبية مع المشركين اطمأنّ من جانبهم قليلاً وأخذ يفكّر في الاتّصال بكبار ملوك الأرض ويعرّفهم نفسه ويلقي عليهم الحجّة وعلى أُممهم عبر الرسائل التي يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وبذلك يكون قد خرج من الدائرة الصغيرة التي كان يتحرّك فيها إلى مساحة عالمية كبيرة فانتخب صلى الله عليه واله ستّة أشخاص من أبرز ما يكونوا ودفع لكلّ واحد منهم رسالة دوّن فيها نبوّته التي ألزم الله سبحانه بها العباد ، ودعاهم إلى دين الله الجديد فانطلق أُلئك الأبطال لكلٍ وجهة هو

__________________

(١) فروغ ابديت للسبحاني ج ١ ص ١٥٦ ومعناه «شمس الأبدية أو الشعاع والنور الأبدي» وانظر البحار ج ١٦ ص ٢٢.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٨.

٢٧

منطلق إليها : ايران ، الروم ، الحبشة ، مصر ، اليمامة ، البحرين ، والحيرة(١) .

ووقتها كان قيصر ملك الروم الشرقية قد عاهد الله تعالى أنّه إذا نصره في صراعه المرير مع ايران فإنّه يقصد زيارة بيت المقدس مشياً على الأقدام من مقرّ حكومته في القسطنطينية إلى فلسطين ، وفعلاً قام بتحقيق عهده عندما نال الظفر والانتصار ، فقصد بيت المقدس. وكان الشخص المؤهّل لحمل رسالة رسول الله صلى الله عليه واله إلى قيصر الروم هو دحية الكلبي وذلك لعدّة اعتبارات توفّرت فيه منها :

أ ـ لأنّه كان قد سافر إلى عدّة مناطق من الشام سابقاً فهو عارف بها.

ب ـ كونه صاحب طلعة بهيّة ووجه جميل وسيرة حسنة تؤهّله للقاء قيصر الروم. وقبل أن ينطق دحية الكلبي إلى القسطنطينية عرف أنّ قيصر الروم عزم إلى بيت المقدس وكان ـ دحية ـ حينها في بُصرى(٢) وهي إحدى نواحي الشام ، فالتقى دحية مع والي بُصرى الحارث بن أبي شمر وأخبره بمهمّته ثمّ دفع إليه رسالة النبي صلى الله عليه واله ، لأنّ الواقدي(٣) روى أنّ النبي صلى الله عليه واله كان قد أمر دحية بدفع الرسالة إلى والي بُصرى والأخير يرفعها إلى قيصر الروم.

ويحتمل أنّ النبي صلى الله عليه واله أمره بذلك لأنّه كان يعلم أنّ قيصراً قد غادر قسطنطينية ، أو لأنّ الدحية لا يمكنه الوصول إليها وعلى كلّ حال فقد أمر الحارث أحد الرجال وهو عدي بن حاتم أن ينطلق مع دحية إلى بيت المقدس ليقدّمه إلى قيصر.

وفعلاً فقد وصل دحية بركب الامبراطور في مدينة حمص ولكن قبل اللقاء به أو عز إليه حاشية السلطان بأن يسجد أمامه معبّراً عن التعظيم والاحترام وإلّا فإنّ

__________________

(١) راجع البحار ج ٢٠ ص ٣٨٢ ح ٨ / المترجم.

(٢) بُصرى : مركز حوران وهي إحدى المستعمرات الرومانية وكان الحارث بن أبي شمر وغيره من ملوك الغساسنة يُنصبون من قبل قيصر وهم يمثّلونه في هذه المناطق.

(٣) الطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٥٩.

٢٨

الامبراطور لا يعتني بك ولا يستقبل رسالتك ، فقال دحية بما معناه : إنّي ما قطعت كلّ هذه المسافات إلّا لأقضى على هذه التقاليد المنحرفة ، ثمّ إنّي لم أُمر بهذا بل أُمرت أن أوصل رسالة النبي محمّد صلى الله عليه واله إلى قيصر يدعوه فيها إلى ترك عبادة البشر ، وأنّه لا معبود إلّا الله تعالى ولا يُسأل الناس إلّا عن عبادته ، بهذا أعتقد وبه أُمرت فكيف تطلبون منّي أن أسجد لغير الله تعالى؟

فأخذ هذا القول الرصين موقعه من قلوب حاشية الملك ونظروا إليه بنظرة الإعجاب والإكبار ، لأنّه يدلّ على استقامته وصلابته في الاعتقاد ثمّ تقدّم إليه أحد الصلحاء من حاشية الملك قائلاً : تستطيع أن تضع كتابك على طاولة الملك هذه لأنّ رسائل الملك لا يطلّع عليها إلّا هو ، وعندما يقرأها سوف يبعث خلفك فامتثل دحية لذلك وشكره على نصيحته وتركه. وعندما جاء قيصر تناول الرسالة وقرأها وكان فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمّد بن عبدالله إلى هرقيل عظيم الروم ، سلام على من اتّبع الهدى.

أمّا بعد : فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم (الاريسين) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإنّ تولّوا فقولوا بأنّا مسلمون. محمّد رسول الله(١) .

٤ ـ نفوذ الإسلام في الشام :

في العام ١٤ ه الموافق للنصف الأوّل من القرن السابع الميلادي التحقت الشام بالبلاد الإسلامية وذلك حينما زحفت الجيوش الإسلامية ـ إبان خلافة أبي بكر ـ نحو الشام لتخوض حرباً مع هرقل «هراكليوس» امبراطور الروم الشرقية ، في الأردن وفلسطين وقد انتصر المسلمون في حروبهم هذه وهزم هرقل ورجع القهقرى إلى دمشق ،

__________________

(١) انظر البحار ج ٢٠ ص ٣٨٦ / المترجم.

٢٩

ولكن مع ذلك فقد حاصره المسلمون الذين جاءهم خبر موت أبي بكر في (٢٢ جمادى الثانية عام ١٣ ه) ذلك الوقت ، فعيّن عمر بن الخطّاب مكانه واستمرّت المواجهة حتّى سقطت دمشق في رجب من عام ١٤ ه على يد المسلمين الذين قادهم خالد بن الوليد حينها وأبو عبيدة فقد طال على صاحب دمشق الأمر ـ أي الحصار ـ فأرسل إلى أبي عبيدة فصالحه وفتح له باب الجابية وألحّ خالد على باب الشرقي لمّا بلغه أنّ أبا عبيدة عزم على أن يصالح القوم ففتحه عنوة وروي أنّ خالد بن الوليد صالحهم أيضاً فأجاز أبو عبيدة ذلك(١) .

يقول المؤرخ اليعقوبي في هذا الصدد : تُعدّ مدينة دمشق من المدن الجميلة والقديمة وكانت مركزاً لجميع مدن الشام في الجاهلية والإسلام وفيها عمران وأنهار وأعظمها نهر «بردا» الذي يمكن القول عنه أنّه لا نظير له ، وقد فتحت هذه المدينة في خلافة عمر بن الخطّاب عام ١٤ ه بعد أن حاصرها أبو عبيدة بن الجرّاح عاماً كاملاً ، ثمّ صالح أهلها من طرف باب الجابية ودخلها فاتحاً بينما قاتلهم خالد بن الوليد من الباب الشرقي ودخلها بدون صلح ، وكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر وأنقذه(٢) .

ومن عوامل انتصار الإسلام هو أنّ أهالي تلك المناطق رغبوا في الإٍسلام قبل كلّ شيء لأنّهم كانوا على علم بتقاليد العرب والمسلمين وآدابهم وأطباعهم وتواضع جيش الإسلام ، وانعدام الضرائب الثقيلة في الاسلام التي أرهقتهم بها الحكومات السابقة ، ومللهم من الآراء المختلفة بين المسيحيين حول الدين المسيحي وتعدّد المدارس الفكرية التي لا طائل منها سوى الاختلاف والضجر والملل من الحكومة الرومانية والدين

__________________

(١) فتوح البلدان ، لأبي الحسن البلاذري ص ١٢٨ ـ ١٣٠ لقد كان خالد بن الوليد في العراق والكن لمّا وصلت الأخبار لأبي بكر بكثرة جيوش الروم بعث خلف خالد وألزمه مهمّة فتح دمشق انظر المصدر أعلاه ص ١١٧.

(٢) البلدان لأحمد بن أبي اليعقوبي (فارسي) ص ١٠٥.

٣٠

المسيحي(١) .

وعلى أي حال فقد عرفت منطقة الشام على أنّها جزءاً من البلاد الإسلامية ، ومنذ عام ٤٠ ه إلى عام ١٣٢ ه ، أي ما بعد استشهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام كانت دمشق عاصمة الدولة الأموية التي بدأ حكمها معاوية ، والتي تعرّضت طيلة هذه الفترة لثورات العبّاسيين الذين وجدوا مناصرة حقيقيّة من قبل الشيعة والايرانيين حتّى سقطت تلك الدولة الظالمة وحلّت محلّها الدولة العبّاسية التي اتّخذت من بغداد عاصمة لها ، ومنذ ذلك اليوم فقدت الشام أهميتها(٢) .

وبعد سقوط دولة بين أُميّة مرّت الشام بأدوار مختلفة يحتاج شرحها إلى كتاب مستقلّ.

__________________

(١) التأريخ التحليلي للإسلام د. سيد جعفر شهيدي ص ١٠٨ / فارسي.

(٢) الشام أرض الذكريات ص ١٩ / فارسي.

٣١

الفصل الثالث

الشجرة الملعونة

قال الله تعالى :( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ) (١) .

ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلى الله عليه واله رأى في منامه قروداً تصعد منبره وتنزل فساءه ذلك واغتمّ به ، وروي أنّ جبرئيل أخبره أنّ هؤلاء هم بنو أُميّة أخبره الله سبحانه بتغلّبهم على بني هاشم وقتلهم ذريته ، فلم يستجمع النبي صلى الله عليه واله بعد ذلك ضاحكاً حتّى مات(٢) فبنوا أُميّة هم الشجرة الملعونة.

ومن جملة الآيات النازلة في ذمّ بني أُميّة ، هي آيات سورة القدر المباركة فإنّ المقصود من قوله تعالى «ألف شهر» هي مدّة حكم بني أُميّة لانّهم حكموا البلاد ألف شهر بعدما حُرموا من البركات الأُخروية لهذه الليلة طيلة سنين حكمهم ، فقد روى الفخر الرازي في تفسيره وابن الأثير في أُسد الغابة عن الإمام المجتبى عليه السلام أنّ رسول الله رأى بني أُميّة في منامه وهم قرود ينزون على منبره فساءه ذلك فأنزل الله تعالى قوله :( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... ) حيث أخبره أنا مدّة ملكهم ألف شهر ، يقول القاسم ـ الراوي ـ : عددنا

__________________

(١) سورة بني اسرائيل : ٦٠ وقد صرّح القمّي في تفسير ج ٢ ص ٢١ طبع النجف ١٣٨٧ ه والعياشي في تفسيره ج ٢ ص ٢٩٨ طبع علمية إسلامية وغيرهما إنّ الشجرة الملعونة هم بنو أُميّة.

(٢) مجمع البيان ج ٣ ص ٤٢٤.

٣٢

السنين فوجدنا أنّ أيّام بني أُميّة كانت ألف شهر(١) .

وقال المسعودي في مروج الذهب : كانت مدّة حكم بني أُميّة إلى زمان انقراضهم ومجيء بنو العبّاس الف شهر بلا زيادة ولا نقيصة.

هل كان بنو أُميّة من قريش؟

هناك كلام كثير في صحّة نسبة بني أُميّة إلى قريش لا سيّما البارزين منهم ، بل صرّح بعدم اتّصالهم بقريش وذلك لأن أُميّة وهو جدّهم الأعلى كان عبداً رومياً لعبد شمس اشتراه في إحدى سفراته وكان العرب أيّام الجاهلية يلحقون الولد بالتبنّي بسيّده فعُرف في الأوساط أنّه ابن عبد شمس وفقاً لتقاليدهم الجاهلية وقد صرّح أمير المؤمنين علي عليه السلام في إحدى رسائله إلى معاوية حيث خاطبه : ليس أُميّة كهاشم ولا حرب كعبد المطّلب ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق»(٢) وصرّح العالم المصري محمّد عبده في شرحه لنهج البلاغة عن كلمة «صريح» وهو كلّ من كان نسبه صحيحاً و «اللصيق» كلّ مَن لم يكن نسبه صحيحاً بل لُصق بغير أصله من القبائل.

وقد عُرف أُميّة بالانحراف فقد كان يتعرّض للنساء ويعمل الفواحش والزنا ، وحينما حُكم عليه بترك مكّة عشرة سنين غادرها إلى الشام وهناك مارس الزنا مع امرأة يهودية متبّعلة من يهودي فحملت منه ـ من أُميّة ـ ثمّ أنجبت ولداً اعتبره أُميّة ولده وأطلق عليه كنية أبو عمرو وسمّاه ذكوان وهو والد أبي معيط وجدّ العقبة ، وعقبة هذا هو والد الوليد بن عقبة أخو عثمان بن عفّان من أُمّه(٣) .

__________________

(١) تتمّة منتهى الآمال للمحدّث القمّي ص ١٠٨ / فارسي.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٦ ص ١١٨.

(٣) قبس من عظمة الإمام الحسين عليه السلام لآية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني ص ٢٣٠ / فارسي ، نقلاً عن شرح نهج البلاغة ج ٣ ص ٢٥٤ وص ٤٦٧.

٣٣

أُسرة أبي سفيان :

من بين الذين صدّوا دعوة الإسلام ووقفوا منها موقفاً سلبيّاً تمثّل في العناد واللجاج والمقاومة والحرب هو أبو سفيان الذي كان أكثرهم عناداً ، فقد عمل على إطفاء نور الإسلام في معركة بدر وأُحد والخندق التي قاد فيها المشركين ، بل كان زعيمهم وقائدهم في أُحد والخندق.

فكان أبو سفيان وزوجته وأولاده في طليعة الذين عملوا على إيذاء رسول الله صلى الله عليه واله وصدّه ومنعه ، والعمل على حماية المشركين والدفاع عنهم ، فقد اشترك فيم عركة بدر مع أولاده معاوية وحنظلة وعمرو فقتل الإمام علي عليه السلام حنظلة منهم وأسر عمرو ولاذ معاوية بالفرار من الحرب الضروس وانطلق إلى مكّة هارباً ولمّا وصلها كانت قدماء قد ورمتا(١) .

هند آكلة الكبد :

عرفت هند أُمّ معاوية بهذا الاسم «آكلة الأكباد» لأنّها مثّلت بحمزة سيّد الشهداء عمّ النبي صلى الله عليه واله بعد حرب أُحد بسبب حقدها وكرهها له ثمّ استخرجت كبده وقطعته ولاكته في فيها ثمّ استخرجته وعملت منه ثلادة حول عنقها وهذا دليل كفرها وشدّة بغضها للإسلام فهي كأبي سفيان لا تختلف عنه في عدائها للرسول صلى الله عليه واله وللإسلام بل كانت أكثرهم عداوة.

عداء أبي سفيان :

لقد كان أبو سفيان في كفره وعدائه للإسلام أوضح بكثير من كفر إبليس منذ بدايات البعثة وإلى ىخر يوم توفّي فيه النبي صلى الله عليه واله ، فقد كان من قادة المشركين في عداوة النبي صلى الله عليه واله ، وتولّى بنفسه التصدّي لرفع راية الكفر والشرك وصدّ الشباب الذين يعتنقون الإسلام ، فقد كانت له في مكّة شباك وخداع ومكر يتصيّد بها هؤلاء ويمنعهم من الدين الجديد ، وحتّى لمّا هاجر النبي صلى الله عليه واله إلى المدينة عمل أبو سفيان على صدّه ومنعه من نشر

__________________

(١) المصدر السابق ص ٢٣٧ / فارسي.

٣٤

الدين فأوجد له الحرب تلو الأُخرى كلّ ذلك دفاعاً منه عن الشرك وعبادة الأصنام والاطاحة بالرسالة الإلهية وبثّ التحلّل الأخلاقي مقابل الدعوات الأخلاقية التي كان النبي صلى الله عليه واله يعمل النشرها بين الناس(١) .

فقد ذكر الزمخشري وهو أحد أعلام أهل السنّة قائلاً :

كان أبو سفيان رجلاً قصير القامة قبيح المنظر وزوجته هند ، وكانت له أجيرة وعاملة تعمل له اسمها صباح (ذات جمال وطراوة في قمّة أُنوثتها) فكانت هند تنظر لها على أنّها أجيرة وأمة إلّا أنّ الأُمور لم تدم هكذا بل اندفع أبو سفيان إلى صباح ليشكّل معها علاقة غير مشروعة في الخفاء ، حتّى اعتقد بعض المؤرخين أنّ عتبة ـ فضلاً عن معاوية ـ ابن أبي سفيان من صباح وليسا من هند ، ولهذا كانت هند غيرسعيدة بهذا الولد الجديد بعدما فضلت صباح أن تضعه بعيداً عن بيت أبي سفيان بل اختارت أن تضعه في الصحراء وهكذا كانت ولادة عتبة(٢) .

أُسرة بني أُميّة :

قال رسول الله صلى الله عليه واله : «بنو أُميّة عائلة مطرودة ومكروهة ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار ، حصلوا على ثروات المسلمين بالغارات والمكر والتظاهر بالدين واستعبدوهم»(٣) .

وخلال فترة حكم بني أُميّة لم يكن منهم شيء يذكر سوى الرجوع إلى عصر الجاهلية والكفر والإلحاد(٤) .

وكان أبو سفيان يقول : اللهمّ أرجع إلينا أيّام الجاهلية لنحمي فيها حكمنا ،

__________________

(١) فلسفة ثورة الحسين عليه السلام ص ٨٠ / فارسي.

(٢) ربيع الأبرار.

(٣) الف شهر أسود ص ٨٤ / فارسي.

(٤) المصدر السابق ص ٧٦ / وقد ترجمت النصوص بالمعنى.

٣٥

واستقلالنا(١) .

وقال أيضاً : أقسم بالله إنّي إن بقيت حيّاً لانتزعت الحكم من بني هاشم(٢) .

وقال معاوية ابنه بعد ما صالح الإمام الحسن عليه السلام : إنّي لم أُحاربكم لتصوموا وتصلّوا بل قاتلتكم لأتأمّر عليكم(٣) .

وحينما وصلت الخلافة لعثمان ودخل عليه أبو سفيان قال لمن كان عند عثمان من بني أُميّة : تلقّفوها تلقّف الكرة فوالذي يقسم به أبو سفيان لا جنّة ولا نار(٤) .

لقد حكم معاوية بلاد الشام طيلة اثنين وأربعين عاماً من بعد رحيل النبي صلى الله عليه واله ، (أي من بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام عشرين عاماً وعشرة سنين من بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام) إلى أن توفّي عام ستين للهجرة في النصف من رجب.

فقد حكم الشام خمس سنوات من قبل عمر بن الخطّاب ، وبقي حاكماً فيها أيّام عثمان بن عفّان ، وخمس سنوات (أو أقل) في زمان خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام وستّة أشهر في خلافة الإمام الحسن عليه السلام وخلال هذه السنين كان في صراع مرير مع أمير المؤمنين علي والحسن صلوات الله عليهما وخاض ضدّهما الحروب ، ثمّ حكم الشام بعدهما عشرون عاماً ، وامتازت فترة حكمه هذه بالحروب الظالمة وفي نهاية عمره أخذ البيعة لابنه يزيد الطاغية من المسلمين.

وبُعّد عثمان بن عفّان ومعاوية في طليعة الحكّام الأربعة عشر المنحدرين من السلالة السفيانية والمروانية الأموية الذين حكموا المسلمين من عام ٤١ ه وإلى عام ١٣٢ ه بما يعادل الف شهر(٥) .

__________________

(١) المصدر السابق ص ٦٣ / وقد ترجمت النصوص بالمعنى.

(٢) الإمام علي عليه السلام ص ٢١٢.

(٣) عائشة في عهد معاوية للعلّامة السيّد مرتضى العسكري ص ١٢٥.

(٤) فلسفة ثورة الحسين ص ٢٨.

(٥) بررسي تاريخ عاشوراء ص ٤٧ (دراسة تاريخ عاشوراء) للدكتور أيتي بيرجندي / فارسي.

٣٦

وأمّا عن جرائم معاوية فهي كثيرة جدّاً منها أنّه نقض عهده مع الإمام الحسن عليه السلام حينما صالحه على شروط ، ووضعه لعهوده وتعهّداته تحت قدميه بالنسبة لشيعة علي عليه السلام ولذلك فإنّه أسرف في قتلهم وشدّد عليهم ولاحقهم في كلّ مكان ، وكان من جملة الذين قتلهم الزاهد المعروف حجر بن عدي وستّة أشخاص من أصحابه وبلغ الأمر بمعاوية أنّه كان يفعل ما يشاء!!

الشجرة المدعو عليها :

قال رسول الله صلى الله عليه واله : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»(١) .

وذات مرّة أرسل النبي صلى الله عليه واله ابن عبّاس خلف معاوية ، فلمّا ذهب إليه وجده مشغولاً بالأكل فلمّا عاد أخبر النبي بذلك فقال صلى الله عليه واله : «لا أشبع الله بطنه»(٢) ، وبالنتيجة فقد استجاب الله دعاء النبي صلى الله عليه واله في حقّ معاوية ، فكان كلّما جلس على طعام لا يقوم منه وكان يقول عن نفسه : ما تركت الطعام عن شبع وإنّما تركته عن ملالة!! وكان يشرب الخمر ويحكم الناس باسم الإسلام(٣) !

بين جارية ومعاوية :

في عهد معاوية كان أحد رؤوساء عشائر العرب اسمه جارية وهو بمعنى : الحيّة من جنس الأفعى كما قال به صاحب كتاب أقرب الموارد في اللغة ، وكان جارية رجلاً قويّاً صريحاً ذو شخصية مهيبة ، وكان قد أعرب من عدم رضاه من حكم معاوية ومن كان معه بل كان يكرهه ويعاديه ، فقرّر معاوية ذات يوم أن يهينه أمام الناس من خلال اسمه ولمّا حانت الفرصة الجيّدة والتقى به قال له : ما أقلّ قدرك وحقارتك عند قومك

__________________

(١) الغدير ج ١٠ ص ١٤٢ لآية الله الشيخ عبد الحسين الأميني طبع بيروت ، وفضائل الخمسة ج ٣ ص ٢٤٣ لآية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي ، وميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ ص ٧ و ١٢٩.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٦٨٣ للمحدّث المرحوم عبّاس القمّي.

(٣) الغدير ج ١٠ ص ٨٣.

٣٧

حين سمّوك أفعى ، فأجابه جارية على البداهة : وما أقلّ قدرتك وحقارتك في قومك حين سمّوك معاوية (وهي أُنثى الكلب) فغضب معاوية لمّا سمع ذلك منه وقال له : اسكت لا أُمّ لك ، فقال جارية : إنّ لي أُمّاً أنجبتني ، أُقسم بالله أنّ القلوب التي أبغضناك بها ما تزال في صدورنا ، والسيوف التي قاتلناك بها ما تزال بأيدينا ، وإنّك لعاجز عن حكمنا واهلاكنا بالقوّة ، فإنّك قد عاهدتنا في ملكك ونحن موفون بعهدنا معك على الطاعة وعدم الخروج عليك ، فإن وفيت بعهدك معنا وفينا لك بالطاعة ، وإن نقضت عهدك فاعلم أنّ خلفنا رجال أشدّاء ورماح قاطعة ، فلمّا سمع معاوية ذلك منه ورأى انكساره أمامه قال : لاكثّر الله من أمثالك.

شريك بن الأعور ومعاوية :

كان شريك بن الأعور رئيس قومه المطاع في زمان معاوية ، وكان ذو شكل قبيح ، علاوة على اسمه واسم أبيه ، وكان شريك من جملة الذين حاول معاوية الاستهزاء بهم وإذلالهم أمام الناس كعادته الحقيرة ، فقال له معاوية يوماً حينما دخل عليه وهو ـ معاوية ـ في أوج قدرته : اسمك شريك وليس لله شريك ، وأنت بن الأعور والصحيح أحسن منه ، ولك وجه قبيح والجميل أفضل منه ، كيف مع كلّ ذلك ولّاك قومك أمرهم؟!

فقال شريك : أقسم الله إنّك معاوية وهي الكلبة العوّاء فكأنّي بك تعوي حتّى سمّاك أهلك معاوية ، وأنت ابن حرب وصخر ، والأرض الصافية خير من الأرض الصخرية ، ومع كلّ هذا كيف ولّاك المسلمون زمام أمرهم؟!

فغضب معاوية وانكسر امام اتباعه فأقسم على شريك أن لا يخرج من مجلسه(١) .

سياستان متضادّتان :

من كلام للإمام علي عليه السلام وجّهه إلى جيشه : لا تريقوا دماً بغير حقّ على الأرض وإن قلّ.

__________________

(١) الطفل بين الوراثة والتربية ج ٢ ص ٢٣٢ فلسفي / فارسي.

٣٨

بينما قال معاوية لجيشه : لا تتركوا النساء والأطفال من دون قتلٍ(١) .

وبالمقابل فإنّ معاوية لمّا استتبّت له الأُمور أوصى جلاوزته أن يبحثوا عن أتباع الإمام علي عليه السلام ويقتلوهم تحت كلّ حجر ومدر.

أين قبر معاوية اليوم؟

ينقل أنّ السيّد محمّد صادق الطباطبائي وهو رجل معروف في ايران كان في عصر المشروطة في عهد الپهلوي نائباً لرئيس مجلس الشورى الوطنوي ، وقد سافر في عام ١٩٥٧ م إلى سوريا ، وهناك فكّر في نفسه في أن يرى قبر معاوية ، فأخذ يسأل الناس عن ذلك ولكن كلّ مَن سأله رأى عليه آثار النفور والفرار من الجواب ، فبقي يواصل البحث والسؤال إلى أن انتهى به الأمر إلى محلّ خارج المدينة فالتقى بصاحبه وعرض عليه السؤال مع مبلغ من المال ، فوافق الأخير إلّا أنّه اشترط عليه أن يدلّه من خارج المدينة وعن بعد ثمّ يتركه ويعود ماشياً ليبقى الأمر على السيّد الطباطبائي ، فوافق السيّد ومضيا معاً إلى قبر معاوية. والآن لنترك السيّد نفسه يصف الموقف حيث قال : لم تكن المسافة بعيدة كثيراً إلى أن وصلت إلى منزل خرب فدخلتُ فيه وكان وسطه باحة حقيرة وخربة وكان فيه غرفتان صغيرتان في حدود ٢٠ متراً فتقدّمت إلى أن وصلت إلى سلّم صغير من ثلاث درجات نزلت منها إلى باحة الدار الذي كان يتوسّطه حوض فيه ماء غضّ راكد تسبيح فيه بطّتين ، وفي جانب من الدار هناك امرأة عجوز طاعنة في السنّ بيدها مغزل وأمامها قليل من الصوف فلمّا رأتني قالت : ماذا تعمل هنا؟ فقلت لها : جئت لأرى قبر معاوية ، فقالت : أنت من العراق أليس كذلك؟ وذلك لأنّ أهل الشام لا يأتون هذا المكان أبداً ، فأشارت بيدها إلى إحدى الغرفتين العتيقتين فذهبت إليها وكانت بابها من الخشب ففتحتها ودخلت وكانت غرفة تبلغ مساحتها ١٢ متراً تقريباً في وسطها قبرين على أحدهما خرقة خضراء مندرسة وشمعدان فضّي قديم فوقفت عليه لحظات متظاهراً

__________________

(١) عائشة في عصر معاوية ص ١٢٠ / فارسي.

٣٩

بقراءة سورة فاتحة إلّا أنّني لعنته وبني أُميّة معه ثمّ خرجت(١) .

جواز لعن معاوية :

روي عن كتاب «عين الأئمّة» عشرة أدلّة لجواز لعن معاوية وهي :

١ ـ خروجه عن طاعة أمير المؤمنين علي عليه السلام.

٢ ـ محاربته بالسيف لخليفة المسلمين وأمير المؤمنين علي عليه السلام.

٣ ـ غصبه لخلافته عليه السلام.

٤ ـ التنكّر لأهل البيت عليهم السلام وإنكار منزلتهم.

٥ ـ اعتقاده بأحقّيته للإمامة.

٦ ـ كتمان فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.

٧ ـ لعنه لأمير المؤمنين علي عليه السلام على المنبر.

٨ ـ تحميله قتل عثمان للإمام علي عليه السلام بهتاناً.

٩ ـ اعطاءه الولاية بعده ليزيد الكافر.

١٠ ـ قتله للإمام الحسن عليه السلام ووصيّته لمن بعده بقتل الحسين عليه السلام ولذلك فهو يستحقّ اللعن من دون أي شرط أو محذور(٢) .

المحامي الأوحد عن الإسلام :

لقد عمل معاوية لعنه الله طيلة أيّام حكمه ـ عشرون عاماً ـ على تقوية أساس الحكم لمن سيأتي بعده وهو ابنه الحقير يزيد ، رأس الفساد والثمرة المشؤومة من الشجرة الأموية الملعونة ، فبعد أن هلك معاوية جاء الطاغية يزيد إلى السلطة وهو يحمل كرهاً وحقداً شديدين للنبي صلى الله عليه واله وكان ينظر إلى حروبه ـ بدر وأُحد والأحزاب وغيرها ـ بنظره المخالف الكاره ، وهكذا صارت زمام الإسلام وهو الدين الذي يُراد منه انقاذ الإنسان من

__________________

(١) الف شهر أسود ص ١٦٧ نقلاً عن مجلّة المطالعة العدد ١٣١ / فارسي.

(٢) كامل البهائي ج ٢ ص ٢١٠ / فارسي.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وابتلاء ، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة ، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان الغنى والفقر ، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة ، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه ، أم لا؟

ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود ، أو المشركين في مكّة ، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة ، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوما عامّا يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان ، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور ، وهي قولهم : إذا كان الله هو الرازق إذا لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلما ذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئا ، ويوجب نظام التشريع شيئا غيره.

فنظام التكوين ـ بإرادة الله ـ أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر ، وأن يعطي البشر حريّة انتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم ، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.

ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس ، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق ، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والاستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض ، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق ، فبالزكاة تطهر النفوس ، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب ، ويتحقّق التكافؤ ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.

وذلك تماما كما يقول شخص : لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله

٢٠١

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع ، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل(١) ؟

جملة( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر ، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير ، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!

ولسان حال المؤمنين بقولهم :( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام ، ويا لهم من بخلاء أولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!

أمّا جملة :( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فلتفسيرها توجد احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.

الثاني : أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.

الثالث : أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب ، لأنّه يتّصل مباشرة بحديث الكفّار السابق ، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.

* * *

__________________

(١) بعض المفسّرين احتمل التّفسير التالي وهو : أنّ العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان ، وما كانوا يمتنعون عن الإنفاق ، وكان هدف الكفّار هو الاستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والأمور جميعها إلى المشيئة الإلهية ، فكانوا يقولون لهم : إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان ، وتفسير القرطبي ، وروح المعاني).

٢٠٢

الآيات

( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) )

التّفسير

صيحة النشور!

بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة ، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن استهزائهم بالقيامة ، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافا إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

٢٠٣

تقول الآية الكريمة الاولى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة ، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم ، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى :( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) .

فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم ، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب ، ليتخلّف وراءها صمت مطبق ، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.

وفي حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم»(١) .

جملة «ما ينظرون» هنا بمعنى «ما ينتظرون» ، فكما يقول (الراغب) في مفرداته «النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمّل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، وهو الرويّة ، والنظر الانتظار».

«صيحة» صاح : رفع الصوت ، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت ، وصيح الثوب كذلك ، ويقال : بأرض فلان شجر قد صاح ، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله ، ودلّ على نفسه بصوته.

«يخصّمون» من مادّة «خصم» بمعنى النزاع.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٢٧. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير «القرطبي» و «روح المعاني» وغيرهما.

٢٠٤

أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك ، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والأمور المعيشية الاخرى ، ولكن البعض يرى : إنّه تخاصم في أمر «المعاد» ، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو ، وإن كان اعتبار شمول الآية لكلا المعنيين ، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد ، ويستهزئون بذلك بقولهم : متى تقوم الساعة؟

ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء ، بل نوعهم «نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد» لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبدا «تأمّل بدقّة»!!

على كلّ حال ، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع ، وهذا أوّلا. وأمّا ثانيا فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه ، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.

لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا :( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) .

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله ، يحاول جاهدا أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله ، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الأمور المعلّقة ، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الأمور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضا فهل بقي أحد حيّا ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع امّهم على سرير الأب ـ مثلا ـ ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبدا ، فلا إمكان لأي من هذه

٢٠٥

الأمور.

وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضا.

ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اخرى ، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) .

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد ، وتنتفض من القبر بشرا سويّا ، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة ، وكما أنّهم ماتوا جميعا بصيحة واحدة ، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد ، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، ولا حياتهم كذلك ، تماما كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش ، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعا من فرشهم ويخرجون من خيمهم ، ويقفون في صفّ واحد ، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.

«أجداث» جمع «جدث» وهو القبر ، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية ، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديدا من نفس المواد السابقة.

واستخدام صيغة الماضي في الفعل «نفخ» إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر ، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.

«ينسلون» من مادّة «نسل» والنسل الانفصال عن الشيء ـ كما يقول الراغب في المفردات ويضيف ـ يقال : نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان ، و ومنه نسل إذا عدا ، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.

وقوله تعالى :( رَبِّهِمْ ) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

وعلى كلّ حال ، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية

٢٠٦

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة ، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (٦٨) من سورة الزمر إن شاء الله.

تضيف الآية التالية :( قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) .

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّا من الاعتراف الواضح الصريح بالحقائق ، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ففي البدء يستغربون انبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين ، وعدوهم بمثل هذا اليوم ، فيجيبون أنفسهم قائلين:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزئ بكلّ ذلك!

! وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث ، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين ، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية ، ولا داعي ولا ضرورة له ، لأنّ اعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية ، ففي الآية (٩٧) من سورة الأنبياء( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ التعبير بـ «مرقد»(١) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق ، وكما ذكرنا في تفسير الآية (١٠٠) من سورة «المؤمنون» ، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم ، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات

__________________

(١) يأتي تارة بمعنى اسم مكان ، واخرى اسم للنوم ، أي مصدر ميمي.

٢٠٧

الرفيعة ، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم ، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.

احتمل بعضهم أيضا أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.

ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة :( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) .

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت ، كما كان الأمر عند هلاكهم ، فالصيحة الاولى للموت ، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

واستخدام تعبير «الصيحة» والتأكيد عليها بـ «واحدة» وكذلك التعبير بـ «إذا» في مثل هذه الموارد ، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع ، والتعبير بـ( هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) بصيغة الجملة الاسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.

واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب ، وكأن هذه الصيحة تقول : يا أيّها الناس النائمون ، أيّتها الأتربة المتناثرة ، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء فما أجمل الآيات القرآنية ، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!

* * *

٢٠٨

الآيات

( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) )

التّفسير

أصحاب الجنّة فاكهون!

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر ، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين ، فتقول الآية الكريمة الاولى :( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) .

فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئا ، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئا ، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو اضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.

ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّا عليها فتقول :( وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

إنّ ظاهر الآية ـ ومن دون تقدير مضمر ـ يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعا

٢٠٩

هو نفس أعمالكم ، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!

وبعبارة اخرى : فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضا ، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة ، في المحشر وبعد نهاية الحساب.

فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟

وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟

ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساسا في مشهد يوم القيامة ، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حينا ويقع الظلم أحيانا كثيرة ، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.

جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقابا على قدر أعمالهم ، دون أن تشمل المؤمنين ، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.

ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الاشتباه ، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الاستحقاق ، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله ، فهذه مسألة «تفضل» وتلك مسألة «استحقاق».

ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة ، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول :( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) .

«شغل» : ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه ، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن ، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك ، يمكن استنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه

٢١٠

والمنصرف تماما عن التفكير في أي قلق أو ترقّب ، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه ، وحتّى أنّه ينسى تماما هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية ، تلك المواقف التي لو لا نسيانها فإنّها حتما ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب ، وبناء على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على انشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر(١) .

وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى ، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى :( هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ) (٢) .

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة ، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى «النظائر» كما في الآية ـ ٢٢ سورة الصافات( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ) الآية فيبدو بعيدا. خصوصا أنّ (أرائك) جمع «أريكة» وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة(٣) .

التعبير بـ «ظلال» إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة ، أو إشارة إلى ظلال قصورهم ، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك ، ولكنّها ليست شمسا مؤذية ، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سرورا ونشاطا عظيمين.

__________________

(١) يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه ، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح ، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.

(٢) هناك احتمالات عديدة في إعراب الجملة ، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ ، و «متكئون» خبر ، و «على الأرائك» متعلّق به ، و «في ظلال» متعلّق به أيضا أو متعلّق بمحذوف.

(٣) لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اخرى.

٢١١

إضافة إلى ذلك فإنّ( لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ) .

يستفاد من آيات القرآن الاخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط ، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة ـ وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيرا عن فاكهة الدنيا ـ هي أعلى غذاء لهم ، كما أنّ الفاكهة في الدنيا ـ كما يقول المتخصّصون ـ أفضل وأعلى غذاء للإنسان.

«يدعون» أي يطلبون ، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه ، فما يتمنّوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.

يقول العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان : العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي ، فيقول : «ادع عليّ ما شئت» أي تمنّ عليّ ما شئت

وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ ، والله عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كلّ ذلك ، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) (١) .

هذا النداء الذي تخفّ له الروح ، فيملؤها بالنشاط ، هذا النداء المملوء بمحبّة الله ، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب ، النداء الندي بالمحبّة ، المعطّر باللطف ، يغمر سكّان الجنّة بالحبور الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا ، بل ويفيض عليه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنّة ، وذلك قول الله تعالى :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه

__________________

(١) اختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو اعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».

٢١٢

فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم»(١) .

نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب ، ورؤية لطفه ، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة ، بل بالعالم أجمع ، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم ، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام «لو حجبت عنه ساعة لمتّ»(٢) .

الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة ، هو سلام مستقيم بلا واسطة ، سلام منه تعالى ، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه ، ويا لها من نعمة عظيمة!!

* * *

ملاحظة

أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة

الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (٢٥) من سورة يونس حيث نقرأ :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك ، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٣) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، مجلّد ٢٣ ، صفحة ٣٥.

(٢) روح البيان ، مجلّد ٧ ، صفحة ٤١٦.

(٣) الرعد ، ٢٤.

٢١٣

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) .(١)

وعند ما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.

وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(٢) ويسلّم بعضهم على بعض( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) .(٣)

وأخيرا ، أسمى وأعظم سلام هو سلام اللهعزوجل ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) .

الخلاصة :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) .(٤)

والسلام ليس لفظا فحسب ، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة ، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٤٦.

(٢) النحل ، ٣٢.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) الواقعة ، ٢٦.

٢١٤

الآيات

( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) )

التّفسير

لماذا عبدتم الشيطان؟!

مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنّة ، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلا : يخاطبون في ذلك اليوم خطابا تحقيريا( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارة ، واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم ، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

هذا في الحقيقة هو تحقّق للوعد الإلهي الوارد في الآية (٢٨) من سورة ص حيث يقول الباريعزوجل :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ

٢١٥

فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .

وعلى كلّ حال ، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين ، وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل احتمالات اخرى من جملتها : تفريق صفوف المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم ، أو انفصال المجرمين عن شفعائهم ومعبوداتهم ، أو انفصال المجرمين كلّ واحد عن الآخر ، بحيث يكون ذلك العذاب الناتج عن الفراق مضافا على عذاب الحريق في جهنّم.

ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين ، ومحتوى جملة «وامتازوا» تقوّي المعنى الأوّل الذي أشرنا إليه.

الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا العهد الإلهي أخذ على الإنسان من طرق مختلفة ، وكرّر على مسمعه مرّات ومرّات :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (١)

جرى هذا التحذير وبشكل متكرّر على لسان الأنبياء والرسل :( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (٢) .

وكذلك في الآية (١٦٨) من سورة البقرة نقرأ :( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد أخذ على الإنسان في عالم التكوين ، وبلسان إعطاء العقل له ، إذ أنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنّة ، وأقسم على إغواء

__________________

(١) الأعراف ، ٢٧.

(٢) الزخرف ، ٦٢.

٢١٦

أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد أخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهيّة للناس على التوحيد ، وانحصار الطاعة في الله سبحانه ، وبهذا لم تتحقّق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد ، بل بعدّة ألسنة وأساليب ، وامضى هذا العهد والميثاق.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «العبادة» الواردة الإشارة إليها في جملة( لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) بمعنى «الطاعة» ، لأنّ العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع والسجود فقط ، بل إنّ من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (٤٧) من سورة «المؤمنون»( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) وفي الآية (٣١) من التوبة نقرأ :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ) .

والجميل أنّه ورد في رواية عن الصادقعليه‌السلام تعليقا على الآية بقوله : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(١) .

وعن الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه قال : «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده»(٢) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(٣) .

الآية التالية تأكيد أشدّ وبيان لوظيفة بني آدم ، تقول الآية الكريمة :( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

أخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان ، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل ، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه!؟ هذا من جانب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٨٩ ، حديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩١ ، حديث ٨ و ٩.

(٣) المصدر السابق.

٢١٧

ومن جانب آخر ، أخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى ، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم ، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر ، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ لو كان في وسط صحراء قاحلة محرقة ، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر قطّاع الطرق والضواري ، فأهمّ ما يفكّر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن الذي يؤدّي إلى المقصد ، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمنا بأنّ الدنيا ليست بدار القرار ، إذ أنّ الطريق لا يرسم لأحد إلّا لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى :( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) .

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم ، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها واضحة لكلّ من يمتلك القليل من التعقّل والتفكّر.

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتّخذونه صديقا بل قائدا ووليّا وإماما!!

«الجبلّ» الجماعة تشبيها بالجبل في العظم (كما يقول الراغب في مفرداته).

و «كثيرا» للتأكيد على كثرة من اتّبع الشيطان من كافّة المستويات الاجتماعية في كلّ مجتمع.

ذكر بعضهم أنّ «الجبلّ» بحدود عشرة آلاف نفر ، أو أكثر ، وما دون ذلك لا يكون جبلّا(١) ، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام(٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدوّ

__________________

(١) انظر روح المعاني والفخر الرازي.

(٢) المصدر السابق.

٢١٨

خطر كهذا ، لا يتورّع عن أي شيء ، ولا يرحم أي إنسان أبدا ، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى ، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبدا ، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام :

«فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله ، أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، وأغرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال : ربّ بما أغويتني لازينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٢ (القاصعة).

٢١٩

الآيات

( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) )

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة ، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضا.

نعم ، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده ، والآية تشير إلى ذلك فتقول :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293