السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام20%

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 293

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 293 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 241767 / تحميل: 7915
الحجم الحجم الحجم
السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

السيدة رقية بنت الامام الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

كفر ومن رضى قد شكر». قيل لها : فلِمَ حاربتيه؟ قالت : ما حاربته من ذات نفسي إلّا حملني طلحة والزبير(١) .

الفضل ما شهدت به الأعداء

عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : «من فضّل أحداً من أصحابي على علي فقد كفر»(٢) .

وهذا الحديث صريح الدلالة على أنّ كلّ من يفضّل أحداً على أمير المؤمنين عليه السلام فهو كافر ، فياترى ما هو حال الذين تجاسروا عليه واغتصبوا حقّه جهاراً ولم يرعوا له حرمة أبداً.

عمر يعترف بفضائل الإمام علي عليه السلام

عن عمر بن الخطّاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول : فضل علي بن أبي طالب على هذه الأُمّة كفضل شهر رمضان على سائر الشهور ، وفضل علي هذه الأُمّة كفضل ليلة القدر على سائر الليالي ، وفضل علي على هذه الأُمّة كفضل ليلة الجمعة على سائر الليالي ، فطوبى لمن آمن به وصدّق بولايته والويل كلّ الويل لمن جحده وجحد حقّه ، حقّاً على الله أن يحرمه القيامة شفاعة محمّد صلى الله عليه واله(٣) .

وحقيقة إنّ هذا الحديث من خيرة الأحاديث الدالّة على فضل أميرالمؤمنين عليه السلام وكونه صاحب الولاية بعد رسول الله صلى الله عليه واله وأنّ كلّ من أنكر هذ الولاية في الحياة الدنيا سيحرم يوم القيامة قطعاً من شفاعة رسول الرحمة صلى الله عليه واله. الملفت للانتباه أنّ نفس عمر يروي هذا الحديث بينما يقدّم أبا بكر للخلافة ، ثمّ يتولّى هو الخلافة وقبل أن يرحل يجعلها شورى ولا يرضى أن تصل مقاليد الخلافة لصاحبها الواقعي الذي اعترف هو

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٨ ص ٧ ح ١٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٨ ص ١٤ ح ١٩.

(٣) بحار الأنوار ج ٣٨ ص ١٤ ـ ١٥ ح ٢١.

٨١

شخصياً بفضيلته كما في هذا الحديث فاعتبروا يا أُولي الألباب.

من يشتري سيفي؟

عن أبي حيّان التيمي عن أبيه قال؟ رأيت علي بن أبي طالب عليه السلام على المنبر يقول : من يشتري منّي سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته ، فقام إليه رجل فقال : نسلفك ثمن إزار. قال : قال عبدالرزاق ـ الراوي ـ وكانت بيده الدنيا كلّها إلّا ما كان من الشام(١) .

أوّل من صلّى مع الرسول صلى الله عليه واله

من كلام لسعد بن أبي وقّاص في الإمام علي عليه السلام قال فيه : ألم يكن أوّل من أسلم؟ ألم يكن أوّل من صلّى مع رسول الله صلى الله عليه واله؟ ألم يكن أزهد الناس؟ ألم يكن أعلم الناس(٢) ؟

علي عليه السلام سيّد في الدارين

عن ابن عباس قال : نظر النبي صلى الله عليه واله إلى علي عليه السلام فقال : «أنت سيّد في الدنيا وسيّد في الآخرة ، حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوّك عدوّي ، وعدوّي عدو الله ، والويل لمن أبغضك بعدي»(٣) .

وهنا يحقّ لنا أن نسأل ونقول : إنّ الذين جعلوا أميرالمؤمنين عليه السلام يجلس في داره بعد أن غصبوا حقّه وأحرقوا باب الصدّيقة الزهراء عليها السلام هل كانوا من أحبّاء الإمام علي عليه السلام أم من مبغضيه؟ بلا شكّ كانوا من أعداءه وبالتالي فإنّهم ـ وكما ينصّ الحديث ـ أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه واله ، فكيف يمكن أن يكونوا خلفاءه؟! إنّ هذا لعجباً؟!

__________________

(١) الاستيعاب في هامش الاصابة ج ٢ ص ٤٦٥.

(٢) الفضائل الخمسة ج ٣ ص ٧.

(٣) مستدرك الصحيحين ج ٣ ص ١٢٧.

٨٢

مَن فارق عليّاً

عن أبي ذرّ رضوان الله عليه قال : قال النبي صلى الله عليه واله : «يا علي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني»(١) .

ويحقّ لنا أن نسأل هنا أيضاً ونقول : هل إنّ الذين غصبوا الخلافة من أمير المؤمنين عليه السلام فارقوه أم لا؟

بالطبع أنّهم فارقوه وبذلك فإنّهم فارقوا الله ورسوله صلى الله عليه واله ولا يحقّ لمن يفارق الله ورسوله أن يستلم خلافة المسلمين.

لا فتى إلّا علي عليه السلام

عن أبي جعفر عليه السلام قال : نادى ملك من السماء يوم بدر يقال له رضوان أن لا سيف إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّا علي(٢) .

جبرئيل ينصر الإمام علي عليه السلام

عن سعيد بن المسيّب قال : لقد أصابت علياً عليه السلام يوم أُحد ستّ عشرة ضربة كلّ ضربة تلزمه الأرض فما كان يرفعه إلّا جبرئيل عليه السلام(٣) .

مبارزة علي عليه السلام أفضل من أعمال الأُمّة

عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : «لمبارزة علي بن أبي طالب عليه السلام لعمرو بن ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة»(٤) .

إرادتكم إرادة الله عزّ وجلّ

روي أنّه اختصم رجل وامرأة إليه ـ الإمام علي عليه السلام ـ فعلا صوت الرجل على

__________________

(١) مستدرك الصحيحين ج ٣ ص ١٢٣.

(٢) ذخائر العقبى ص ٧٤ وفي الرياض النضرة ج ٢ ص ١٩٠.

(٣) أُسد الغابة في معرفة الصحابة ج ٤ ص ٢٠.

(٤) مستدرك الصحيحن ج ٣ ص ٣٢ تاريخ بغداد ج ١٣ ص ١٩ ح ٦٩٧٨.

٨٣

المرأة فقال له الإمام علي عليه السلام : اخسأ ـ وكان خارجياً ـ فإذا رأسه رأس كلب ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين صحت بهذا الخارجي فصار رأسه رأس كلب فما يمنعك عن معاوية؟ قال : ويحك لو أشاء أن آتي معاوية إلى ههنا على سريرة لدعوت الله حتّى فعل ، ولكنّا لله خزّان لا على ذهب ولا على فضّة ولا إنكاراً بل على أسرار تدابير الله ، أما تقرأ :( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (١) وفي رواية قال عليه السلام : «إنّما أدعوهم لثبوت الحجّة وكمال المحنة ، ولو أُذن لي في الدعاء بهلاك معاوية لما تأخّر»(٢) .

من قضاء أمير المؤمنين عليه السلام

عن عمّار بن ياسر قال : كنت بين يدي مولانا المؤمنين عليه السلام وإذا بصوت قد أخذ جامع الكوفة فقال : يا عمّار ائت بذي الفقار الباتر للأعمار فجئته بذي الفقار ، فقال : اخرج يا عمّار وامنع عن ظلامة هذه المرأة ، فإن انتهى وإلّا منعته بذي الفقار ، قال : فخرجت وإذا أنا برجل وامرأة قد تعلّقوا بزمام جمل والمرأة تقول : الجمل لي ، والرجل يقول : الجمل لي ، فقالت : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام ينهاك عن ظلم هذه المرأة ، فقال : يشتغل علي بشغله ويغسل يده من دماء المسلمين الذين قتلهم بالبصرة ويريد أن يأخذ جملي ويدفعه إلى هذه المرأة الكاذبة؟! فقال عمّار رضي الله عنه : فرجعت لأخبر مولاي فإذا به قد خرج ولاح الغضب في وجهه وقال : ويلك خلّ جمل المرأة ، فقال : الشاهد الذي لا يكذّبه أحد من الكوفة ، فقال الرجل : إذا شهد شاهد وكان صادقاً سلّمته إلى المرأة ، فقال الإمام علي عليه السلام : تكلّم أيّها الجمل لمن أنت؟ فقال بلسان فصيح : يا أمير المؤمنين وخير الوصيّين أنا لهذه المرأة منذ بضع عشر سنة ، فقال الإمام علي عليه السلام خذي

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٤١ ص ١٩١.

٨٤

جملك ، وعارض الرجل بضربة قسّمه نصفين(١) .

في مدح أمير المؤمنين عليه السلام

ومن خير ما نظم في مدح أمير المؤمنين عليه السلام هو ما نظمه الصاحب بن عبّاد قدّس الله روحه الزكيّة في قصيدته الرائعة التي جاء فيها :

قالت : فمن صاحب الدين الحنيف أجب

فقلت : أحمد خير السّادة الرسلِ

قالت : فمن بعده تُصفي الولاء له؟

قلت : الوصيّ الذي أربى على زُحلِ

قالت : فمن باب من فوق الفراش فدى؟

فقلت : أثبت خلق الله في الوهلِ

قالت : فمن ذا الذي آخاه عن مقةٍ؟

فقلت : من حاز ردّ الشمس في الطفل

قالت : فمن زوّج الزهراء فاطمة؟

فقلت : أفضل من حافٍ ومنتعلِ

قالت : فمن والد السبطين إذ فرعا؟

فقلت : سابق أهل السبق في مهلِ

قالت : فمن فاز في بدر بمعجزها؟

فقلت : أضرب خلق الله في القللِ

قالت : فمن أسد الأحزاب يفرسها؟

فقلت : قاتل عمرو الضغيم البطلِ

قالت : فيوم حنين مَن فرا وبرا؟

فقلت : حاصد أهل الشرك في عجلِ

قالت : فمن ذا دُعي للطير يأكله؟

فقلت : أقرب مرضيٍّ ومنتحلِ

قالت : فمن تلوه يوم الكساء أجب؟

فقلت : أفضل مكسوٍ ومشتملِ

قالت : فمن ساد في يوم «الغدير» أبن؟

فقلت : مَن كان للإسلام خير ولي

قالت : ففي مَن أتى في هل أتى شرفٌ؟

فقلت : أبذل أهل الأرض للنفلِ

قالت : فمن راكع زكّى بخاتمه؟

فقلت : أطعنهم مذ كان بالأُسلِ

قالت : فمن ذا قسيم النار يسهمها؟

فقلت : مَن رأيه أذكى من الشعلِ

قالت : فمن باهل الطهر النبي به؟

فقلت : تاليه في حلٍّ ومرتحل

قالت : فمن شبه هارون لنعرفه؟

فقلت : مَن لم يحل يوماً ولم يزلِ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤١ ص ٢٣٦ ح ٧.

٨٥

قالت : فمن ذا غدا باب المدينة قل؟

فقلت : من سألوه وهو لم يسلِ

قالت : فمن قاتل الأقوام إذ نكثوا؟

فقلت : تفسيره في وقعة الجملِ

قالت : فمن حارب الأرجاس إذ قسطوا؟

فقلت : صفّين تُبدي صفحة العملِ

قالت : فمن قارع الأنجاس إذ مرقوا؟

فقلت : معناه يوم النهروان جَلي

قالت:فمن صاحب الحوض الشريف غداً؟

فقلت : مَن بيته في أشرف الحللِ

قالت : فمن ذا لواء الحمد يحمله؟

فقلت : مَن لم يكن في الرَّوع بالوجلِ

قالت : أكلُّ الذي قد قلت في رجلٍ؟

فقلت : كلُّ الذي قد قلت في رجلِ

قالت : فمن هو هذا الفرد سمّه لنا؟

فقلت : ذاك أمير المؤمنين علي

٨٦

الفصل الخامس

بعد أن وضعت الحرب أوزارها ظهر عاشوراء حيث ارتكب أزلام بنو أُميّة أبشع المآسي وأوجعوا قلب رسول الله صلى الله عليه واله بسفكهم للدماء الزاكية لأهل البيت عليهم السلام أخذوا النساء والأطفال ومعهم الإمام السجّاد عليه السلام الذي كان عليلاً أُسراء إلى الكوفة.

وبعد أن نزل الأُسراء الكوفة بعث ابن زياد اللعين إلى يزيد الطاغية يستأذنه في بعث القافلة إلى الشام ولمّا أذن اللعين قادوا أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام إلى الشام وذلك عبر طريق الموصل.

وقد أمر ابن زياد اللعين كلّ من : زجر بن قيس ، ومحض بن أبي ثعلبة ، وشمر بن ذي الجوشن ، أن يقودوا الأسارى والرؤوس مع خمسة آلاف فارس نحو الشام ، التي دخلها ركب الأُسارى في اليوم الأوّل من شهر صفر المظفّر.

والآن لا بأس أن نذكر المآسي والحوادث المفجعة التي جرت على أهل البيت عليهم السلام خلال هذه المسيرة الطويلة.

١ ـ في جنب الفرات : أمر شمر بن ذي الجوشن الذي كان رئيس القافلة أن يقيّد الإمام السجّاد بالأغلال فوق النياق الهزلة وأن تجعل النساء والأطفال في الأكوار المكشوفة وأن توضع رؤوس الشهداء فوق الرماح العالية. وبعد أن سارت القافلة مسافة من الطريق نزلوا إلى جانب الفرات وجعلوا الرؤوس الشريفة على حائط إحدى الخربات وعمدوا اللعب بالقمار واللهو وشرب الخمر.

وفي ذلك الأثناء رأوا أنّ يداً ظهرت من فوق رأس سيّد الشهداء عليه السلام وكتبت بالدم على الحائط :

أترجوا أُمّة قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب؟!

٨٧

ولمّا أسرع القوم ليلقوا القبض على هذه اليد لم يجدوا شيئاً ، فعادوا إلى مكانهم وانشغلوا بفسادهم ولهوهم تارةً أُخرى ، وبعد لحظات ظهرت اليد مرّة أُخرى وكتبت بالدماء الزاكية :

فلا والله ليس لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

فأسرع القوم من جديد ليأخذوا أمامها إلّا أنّهم لم يجدوا شيئاً ، وحينما عادوا إلى لعبهم سمعوا هاتفاً يقول :

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُمم

بعترتي وبأهلي عند مفتقدي

منهم أُسارى ومنهم ضرّجوا بدم(١)

٢ ـ تكريت : كانت تكريت المنزل الثاني لأهل البيت عليهم السلام ، فلمّا وصلت القافلة قريباً منها بعثوا بعضهم ليخبروا أهل المدينة ويأمروهم كي يأتوا ويستقبلوا الأُسارى ، فأقبل أهل تكريت فرحين ، وكان في تكريت بعض النصارى فتساءلوا من الناس : ما الخبر؟ ومن هؤلاء؟ فقالوا : لقد جيء برأس الحسين مع الأسارى من أهل بيته؟

فقال النصارى : وأي حسين هذا؟

قالوا : الحسين بن فاطمة بنت رسول آخر الزمان.

وإذا بالنصارى يضجرون ويتألّمون لهذا المصاب ويقولون لهم : الويل لكم قتلتم ابن بنت نبيّكم؟!

ثمّ إنّهم ذهبوا إلى كنائسهم وضربوا نواقيسهم وأخذوا يبكون ويبرؤون من هذا العمل ويلعنون أهله.

__________________

(١) راجع مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي ج ٢ ص ١٠٥ ـ ١٠٦ ، ذخائر العقبى ص ١٤٥ ، ورواه ابن المغازلي في المناقب ص ٣٨٨ رقم ٤٤٢ ، وقال محقّق كتاب ابن المغازلي «البهبودي» : أخرجه العلّامة الطبراني في المعجم الكبير ص ١٤٧ ، كفاية الطالب ص ٢٩١ ، مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٩٩ ، تاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ١٣ ، الخصائص الكبرى ج ٢ ص ١٢٧ ، الاتحاف بحبّ الأشرف ص ٢٣ ، نظم درر السمطين ص ٢١٩ ، تاريخ دمشق ج ١٤ ص ٢٤٤ ، نفس المهموم ص ٤٢٢.

٨٨

٣ ـ وادي النخلة : ثمّ إنّ القافلة خرجت من تكريت ووصلت إلى وادي النخلة ، وقد سمعوا في هذا الوادي ضجّة عظيمة ونياحة شديدة إلّا أنّهم لم يكونوا يرون أحداً ، وقد سمعوا شخصاً يقول :

مسح النبي جبينه ولو يريق في الخدود

أبواه من عليا قريش وجدّه خير الجدود

وكان شخص آخر يقول :

ألا ياعين جودي فوق جدّي

فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا

إلى متجبّر بالملك عبدي

٤ ـ المرشاد : ثمّ إنّ القافلة تحرّكت من وادي النخلة ووصلت إلى المرشاد فجاء أهل المحلّة نساءً ورجالاً لاستقبال القافلة ، ولمّا شاهدوا الأسارى اعتلى بكاءهم وأنينهم وصياحهم وحملوا على قتلة سيّد الشهداء.

٥ ـ الحرّان : لمّا وصلت القافلة إلى مشارف الحرّان كان هناك يهودياً اسمه يحيى الخزاعي واقفاً على سطح عالي جدّاً فرأى دخول الأسارى ولذلك نزل ليتفرّج عليهم ويشاهد حالهم ، ولمّا دنا من القافلة شاهد الرأس الشريف يتلو قوله تعالى :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (١) فتعجّب من هذا المنظر المذهل وتساءل قائلاً : هذا الرأس لمن؟

فقالوا له : إنّه رأس الحسين بن علي ، فقال لهم : ومَن أُمّه؟ قالوا : فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه واله.

فقال اليهودي : لو لم يكن دينه حقّ لما بدت منه هذه الكرامة المذهلة ، فأسلم يحيى وخلع عمامته ومزّقها قطعة قطعة ثمّ ناولها للعلويات المخدّرات ، ثمّ بعث ثوباً من الخز كان يرتديها إلى الإمام زين العابدين عليه السلام ومعها الف درهم ليصرفها في حاجته.

فصاح جلاوزة ابن زياد به وقالوا له : أيّها اللعين أتعين أعداء الخليفة؟!

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.

٨٩

ابتعدوا وإلّا قتلناك ، فحمل يحيى السيف وقاتلهم قتال الأبطال ثمّ قتل شهيداً بعد أن قتل منهم خمسة أفراد. وقد دفن يحيى في دروازه حران ومقبرته معروفة اليوم باسم مقبرة الشهيد وهي محلّ لاستجابة الدعاء.

بنفسي رأس الدين ترفع رأسه

رفيع العوالي السمهرية ميد

تخاطبه مقروحة القلب زينب

فتشكو له أحوالها وتعيد

أخي كيف ترضى أن نساق حواسراً

وتسلب أبرادٌ لنا وعقود؟

أخي أترضى أن نساق أذلّة

ويطمع فينا شامت وحسود؟

أخي إنّ قلبي بات للوجد عنده

مواثيق لم تنقض لهنّ عهود

إذا رمت إخفاء الدموع فللجوى

مع الدمع منّي سائق وشهيد

٦ ـ نصيبين : ولمّا وصلت القافلة إلى نصيبين بعث شمر اللعين من يخبر أمير المدينة ليأمر بتزيين المدينة فرحاً بمجيىء أسارى أهل البيت عليهم السلام.

وما أن خرج أمير المدينة المسمّى بـ «المنصور بن الياس» لاستقبال القافلة إذا بصاعقة تنزل وتحرق نصف المدينة وقد احترق كلّ من في هذا النصف من المدينة فاغتمّ أميرها بشدّة وخشي من غضب الله تعالى ولذلك أمر قوّاد القافلة بالخروج فخرجوا من المدينة بسرعة وهم يجرّون أذيال الخزي والعار.

٧ ـ المدينة المجهولة : ثمّ إنّ القافلة وصلت إلى مدينة جديدة لم يذكر المؤرخون اسمها وقد كان اسم واليها سليمان بن يوسف وكان له أخوان : أحدهما قتل في معركة صفّين بيد أميرالمؤمنين عليه السلام والآخر كان شريكه في رئاسة هذه المدينة.

وعلى أيّة حال فقد أمر سليمان بالرؤوس أن تدخل من دروازة الرئيس إلّا أنّ أخيه خالفه في ذلك فاحتدّ النزاع بينهما وآل الأمر إلى المقاتلة ، فقتل سليمان وعمّت الفوضى في المدينة وخاف الشمر وأتباعه من هذه الحالة فخرجوا من المدينة بسرعة.

يا أُمّة السوء لا سقياً لربعكم

يا أُمّة لم تراع جدّنا فينا

لو أنّنا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا؟

٩٠

تسيّرونا على على الأقتاب عارية

كأنّنا لم نشيّد فيكم دينا

تصفّقون علينا كفّكم ضرباً

وأنتم في فجاج الأرض تسبّونا

أليس جدّي رسول الله ويلكم

أهدى البريّة من سبل المضلّينا؟

٨ ـ حلب : يوجد بقرب مدينة حلب جبل يسكنه اليهود كانوا يعيشون في قلعة مهيبة ومحكمة. وقد كانت حرفتهم هي الحياكة علماً أنّ حياكتهم كانت معروفة بالنعومة عند أهل الحجاز والعراق والشام.

وكان في ساحل الجبل والي يدعى عزيز بن هارون كان رئيس اليهود ، قيل أنّهم جاءوا بالقافلة إلى هذه المدينة لترعى النياق من العلف وترتوي من الماء.

عتيقة الإمام الحسين عليه السلام

نقل البعض فقال : عندما نزلت قافلة الأُسارى هذه المدينة وبعد أن أرخى الليل سدوله جاءت إحدى الجواري إلى الأسارى وتعرّفت على مولاة لها في أيّام سيّد الشهداء عليه السلام البعض يقول : إنّ سيّدة الجارية هي شهر بانو ، وكما يبدو أنّ ذلك ليس بصحيح ولعلّها كانت الرباب.

وما أن رأت هذه الجارية مولاتها سابقاً وهي على هذه الحال من الأسر والملابس الرثّة حتّى أخذت تبكي ، فتساءلوا منها : لماذا تبكين؟ قالت : أنا لا أنسى عناية سيّد الشهداء عليه السلام الخاصّة بي وكيف أنّ السيّدة شهر بانو أهدتني إليه لأكون في خدمته إلّا أنّه عليه السلام أعتقني في سبيل الله ، ولمّا رأت السيّدة شهر بانو ذلك من سيّد الشهداء عليه السلام أهدتني خلعة نفيسة جدّاً ، فالتفت إليها سيّد الشهداء عليه السلام قائلاً : لقد أعتقت الكثير من الجواري ولم تصنعي مع إحداهنّ هكذا؟

قالت : أُولئك عتقائي وهذه عتيقتك يا أبا عبدالله ولابدّ أن يكون هناك فرق بين عتقائي وعتقائك.

فدعا لها سيّد الشهداء عليه السلام وبقيت الجارية عند شهربانو مدّة من الزمن إلى اليوم الذي فارقت المدينة واليوم وبعد هذه المدّة الطويلة التقت بالأسارى وشاهدتهم على

٩١

هذه الحالة المأساوية فتذكّرت تلك الأيّام الجميلة ولذلك ذهبت وأعدّت لهم الثياب الجيّدة وجاءت بها ليلاً لتقدّمها لهم.

وحيث إنّ الأسارى كانوا محاصرين فقد استأذنت شيرين أحد رؤوساء القبيلة التي نزلت القافلة عندهم وكان يدعى «عزيز» كي يسمح لها في مساعدة الأُسارى ، وإذا به يستاءل منها قائلاً : أنت شيرين؟ فقالت : نعم ، من أين عرفت اسمي؟

قال : لقد شاهدت في الرؤيا نبي الله موسى ووصيّه هارون عليه السلام حفاة حاسرين باكيان فسلّمت عليهما وتساءلت قائلاً : ما الخطب؟ ولماذا تبكيان هكذا؟ فقالا : لقد قتل الحسين بن علي عليهما السلام واحتزّوا رأسه وطافوا به وعياله البلاد وقد أُودع الرأس الشريف في أحد الجبال.

يقول عزيز : فتساءلت من نبي الله موسى عليه السلام قائلاً : أنت تعتقد بنبوّة محمّد؟! قال : نعم ، إن محمّداً نبي حقّاً وقد أخذ الله تعالى من الأنبياء قاطبة ميثاقاً بأن يعتقدوا به وكلّ من يعرض عنه فنحن منه براء.

يقول عزيز : فطالبت نبي الله موسى عليه السلام ببعض العلائم لأطمئن بما جرى ، فقال : اذهب الآن خلف القلعة ستجد جارية اسمها شيرين عتقها الإمام الحسين عليه السلام استقبلها وأبلغها سلامي وأعلن إسلامك أمامها وهي التي ستأخذك إلى الرأس الشريف. وبالفعل فقد أخذت شيرين الثياب والطعام والطيب وأخذ عزيز الف درهم أعطاها للحرّاس كي لا يمانعوا وصولهم إلى الأسارى.

كما قدّم عزيز الفين درهماً إلى الإمام السجّاد عليه السلام وأسلم على يديه ثمّ دنا من الرأس الشريف وقال : السلام عليك يابن رسول الله ، أشهد إنّني رأيت جدّك خاتم الرسل وإلى جانبه نبي الله موسى وقد أبلغاك سلامهما ، وإذا بالرأس الشريف يجيب السلام بكلّ فصاحة قائلاً : وسلام الله عليّ.

فقال عزيز : سيّدي ارض عنّي واشفع لي عند جدّك رسول الله صلى الله عليه واله ، وإذا بالرأس الشريف يجيب : لقد رضي رسول الله صلى الله عليه واله عنك لإسلامك كما رضي أبي علي وأُمّي

٩٢

فاطمة عليهما السلام عنك لاهتداءك إلى مذهب الحقّ كما إنّي قد رضيت عنك وإنّ سلامك عليَّ كان سبباً لسروري.

وما هي إلّا لحظات وإذا بسيّد الساجدين عليه السلام يعقد عزيز على شيرين وقد آمن كافّة أهل القلعة جرّاء هذه الواقعة.

٩ ـ دير النصراني : ثمّ إنّ القافلة تحرّكت نحو الدير وقد كان مع عسكر القافلة أبو سعيد الشامي وهو الذي نقل القضية التالية فقال : بلغ شمر بن ذي الجوشن خبراً أنّ نصر الحزامي قد أعدّ جيشاً ضخماً وهو يريد أن يسطو عليكم ليلاً ليأخذ الرؤوس المباركة ، ولذا اضطرب رؤساء العسكر وأخذوا يتباحثون حول حلّ هذه المشكلة فصمّموا أن يلوذوا إلى الدير ويحتموا به.

وحينما قرب الشمر وأتباعه من الدير إذا بأحد القساوسة يطلّ عليهم من وراء الجدار ويتساءل منهم عن سبب مجيئهم إلى الدير ، فقال له شمر : إنّنا من عسكر ابن زياد وقد جئنا من العراق إلى الشام ، فتساءل القس قائلاً : ولأي شيء جئتم؟ فقال الشمر : خرج رجل على يزيد فبعث إليه جيشاً جرّاراً ليقاتلوه وقد جئنا الآ برأسه ورؤوس أصحابه وقدنا حرمه كأُسارى إلى يزيد ، فقال القس : دعوني أنظر إلى الرؤوس ، ولمّا جاءوا إليه بها وقع نظره على رأس سيّد الشهداء عليه السلام ورأى النور الساطع من رأسه المبارك فأخذته حالة عجيبة من الهيبة والإجلال لهذا الرأس الطاهر وقال لهم : إنّ هذا الدير لا يسعكم جميعاً ، فإذا كان ولابدّ فأدخلوا الرؤوس والأسارى وابقوا أنتم خلف الجدار لتحرسوا القافلة ، فربما حمل عليكم العدو على حين غفلة وأنتم لا تعلمون ، ولا داعي أن تقلقوا على الأُسارى والرؤوس فإنّهم في حمايتنا وحراستنا.

فاستحسن الشمر هذا الاقتراح وقدّم إليه الرؤوس وسمح للقافلة التي يتقدّمها سيّد الساجدين عليه السلام بالدخول إلى الدير ، ثمّ إنّه جعل الأسارى في مكان مناسب وأودع الرؤوس في حجرة خاصّة ، وفي منتصف الليل مرّ على الرؤوس الشريفة فشاهد نوراً يسطع إلى السماء من رأس سيّد الشهداء عليه السلام وما هي إلّا لحظات إذا بسقف الغرفة ينفلق

٩٣

وتدخل امرأة كانت مجلّلة كانت جالسة على عرش من نور والهاتف يقول : «طرّقوا رؤوسكم ولا تنظروا».

يقول القس : حقّقت النظر وإذا بحواء أُمّ البشر ، وهاجر زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام وأُمّ نبي الله إسماعيل عليه السلام ، وراحيل أُمّ نبي الله يوسف عليه السلام ، وأُمّ موسى عليه السلام ، وآسية زوجة فرعون ، ومريم بنت عمران أُمّ نبي الله عيسى عليه السلام ، وبعض زوجات النبي صلى الله عليه واله قد أقبلن وأخذن الرأس المبارك من الصندوق وهنّ باكيات نائحات فبقين على هذا الحال ساعة ثمّ زرن سيّد الشهداء عليه السلام وأرجعن الرأس إلى الصندوق.

وبينما هم على هذا الحال إذا بضجّة واضطراب تعمّ الحجرة فنزل عرش نوراني آخر وإذا بهاتف يقول : غضّوا أبصاركم فإنّ شفيعة المحشر الصدّيقة الزهراء عليها السلام ستأتي ، لا شعورياً ارتعشت فرائصي وأُغمي عليّ. وبالرغم من ذلك إلّا أنّني كنت أسمع بين تلك الضجّة صوت امرأة حزينة تنادي : السلام عليك يا ولدي أيّها المظلوم ، أيّها الشهيد ، أيّها الغريب ، يا نور عيني ، فداك أُمّك يا أباعبدالله ، ولدي عزيزي سيأتي ذلك اليوم الذي ينتقم فيه لثارك من أعداءك.

ولمّا رجع أكبر القساوسة إلى وعيه تطهّر ولبس أطهر ثيابه واتّخذ من الطيب أحسنه ودخل الغرفة التي فيها الرؤوس الشريفة وأخرج رأس سيّد الشهداء عليه السلام من الصندوق وغسّله بالكافور والمسك والزعفران ثمّ وضعه باتّجاه القبلة ووقف أمامه وقال : أيّها الرأس الشريف ، إنّني أعلم أنّك رأس من مدحهم الله تعالى في التوراة والانجيل إلّا أنّني أُقسم عليك بالله العظيم الذي حباك بهكذا منزلة إلّا ما كلّمتني وعرّفتني على نفسك.

فنطق الرأس الشريف بلسان فصيح قائلاً : أنا المظلوم وأنا المغموم وأنا المهموم ، أنا المقتول بسيف الجفا ، أنا المذبوح من القفا.

ومع ذلك لم يكتف كبير القساوسة بهذا البيان وطلب من الرأس الشريف أن يعرّف نفسه أكثر ، وإذا بالرأس ينطق بكلّ فصاحة : أنا ابن محمّد المصطفى صلى الله عليه واله أنا ابن علي المرتضى عليه السلام أنا ابن فاطمة الزهراء عليها السلام أنا الحسين الشهيد المظلوم بكربلاء.

٩٤

فهاج الحزن بالراهب من هذه الكلمات وضجّ بالبكاء وأخذ الرأس الشريف وقبّله وجعله على وجهه وهو يقول : لن أُفارقك أبداً حتّى تضمن لي الشفاعة يوم القيامة.

وإذا بصوت من الرأس يهتف قائلاً : أوّلاً أُدخل في دين جدّي رسول الله صلى الله عليه واله حتّى أشفع لك ، وإذا بالقس يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه واله. ثمّ أنّه جمع جميع القساوسة وقصّ عليهم قصّته ودعاهم إلى الدخول في الدين الإسلامي فأسلموا جميعاً وكان عددهم سبعين رجلاً وكانوا قد بكوا جميعاً لمصيبة سيّد الشهداء عليه السلام ، ثمّ إنّهم ارتدوا ثياب السواد حزناً على سيّد الشهداء عليه السلام بل إنّهم جاءوا جميعاً إلى الإمام السجّاد ليعزّوه وأعلنوا إسلامهم أمامه بعد أن كسّروا نواقيسهم وطبلوا من الإمام عليه السلام أن يأذن لهم في مقاتلة هؤلاء اللعناء ويطلبوا بثأر أبيه سيّد الشهداء عليه السلام إلّا أنّه عليه السلام لم يأذن لهم وقال : إنّ الله عزّوجلّ سينتقم منهم لا محالة(١) .

١٠ ـ عسقلان : وفي الصباح ـ بعد أن نام شمر بن ذي الجوشن وجماعته خارج الدير ـ تحرّكوا برفقة الأسارى والرؤوس نحو عسقلان وكان أمير هذه المدينة «يعقوب العسقلاني» حاضراً في معركة كربلاء وشارك في جناياتها.

ولذا فإنّه ريثما وصل إلى المدينة أمر بتزيينها وتعطيل الأسواق وأن يجلبوا الملاهي ووسائل الطرب والغناء خارج المدينة فرحاً بهذه المصيبة العظمى ، ثمّ جلس هو وأعوانه مسروراً جذلاً شامتاً بمقتل أهل البيت عليهم السلام وكان الناس يباركون لبعضهم البعض هذا العيد.

ومن سوء الصدف أنّ أحد التجار وهو زرير الخزاعي كان واقفاً يشاهد ما جرى فتساءل من الناس عن الخبر ، فقالوا له : شخص في العراق خرج على يزيد فبعث إليه ابن زياد جيشاً جرّاراً قتلوه وجاءوا برأسه وأهل بيته أُسارى إلى مدينتنا اليوم ويتحرّك

__________________

(١) راجع : تذكرة الخواص لابن الجوزي ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ، مقتل الخوارزمي ج ٢ ص ١١٥ ـ ١١٦ ، مدينة المعاجز ج ٤ ص ١٤٦ ، العوالم ج ١٧ ص ٤١٧ ، البحار ج ٤٥ ص ١٧٢ مع اختلاف يسير معها.

٩٥

قافلتهم غداً نحو الشام.

فتساءل زرير الخزاعي : وهل كان هذا الشخص مسلماً؟ فقالوا : كان من أكابر المسلمين ، ولمّا تساءل عن سبب خروجه قالوا له : كان يدّعي أنّه ابن رسول الله صلى الله عليه واله وأنّه أحقّ بالخلافة من يزيد ، فتساءل زرير قائلاً : ومن أُمّه أبوه؟ فقالوا : اسمه الحسين ، وأخيه الحسن ، وأُمّه فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه واله ، وأبوه علي بن أبي طالب عليه السلام ، وجدّه رسول الله محمّد صلى الله عليه واله.

وما أن سمع زرير هذا الكلام انتفض من مكانه وارتعدت فرائصه وتفايضت عيناه بالدموع ، ثمّ إنّه أوصل نفسه بسرعة ليرى بنفسه الأسارى الذين أدخلوهم المدينة ، وريثما وقعت عيناه على الإمام السجّاد عليه السلام أجهش بالبكاء وارتفعت نياحته وأنينه ، فتساءل منه الإمام السجّاد عليه السلام قائلاً : ممّ بكاءك؟ ألا ترى أهل المدينة فرحين مسرورين؟ فأجابه زرير : سيّدي أنا تاجر غريب في هذه البلاد وقد دخلت المدينة اليوم ، وياليت قدماي قد شلّتا حين دخلتها ، ليت عيناي عميتا قبل أن أراكم على هذه الحالة.

فقال الإمام عليه السلام : كأنّك من محبّينا؟!

قال زرير : سيّدي أنا عبدك مرني فأنا في خدمتك؟

قال الإمام عليه السلام : إذا كان لديك أموال فقدّمها إلى حامل رأس أبي وأمره كي يرفع الرأس الشريف كي ينشغل الناس بالنظر إليه ، فقد خزينا من نظر الخلق إلينا.

فذهب زرير إلى حامل الرأس وأعطاه خمسين أشرفياً فتأخّر عن القافلة وانشغل الناس بالنظر إلى الرأس الشريف.

ثمّ إنّ زرير عاد إلى الإمام عليه السلام ثانية وقال له : سيّدي ألك حاجة أُخرى؟

فقال الإمام عليه السلام : إذا كان لديك شيء من القماش فأتي به لتتستّر بنات محمّد صلى الله عليه واله ، به فذهب مباشرة وجاء بالأخمرة وقدّمها للعائلة وجاء بعمامة للإمام عليه السلام.

وفيما هم كذلك إذا بضجّة ترتفع من بين الناس وكان شمر اللعين يهلهل والناس

٩٦

يهلهلون خلفه ، فذهب زرير إليه ونال منه وقال : شمر! أما تخشى من الله ، هذا رأس ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله على القنا وهذه بنات فاطمة وعلي عليهما السلام أُسارى وأنت تهلهل فرحاً مسروراً.

وإذا باللعين يغضب ويأمر جلاوزته بأخذه فأخذوه وضربوه بشدّة حتّى أُغمي عليه فتصوّروا أنّه قد مات فتركوه.

وفي منتصف الليل استيقظ زرير وأوصل نفسه إلى قبر نبي الله سليمان عليه السلام فوجد جماعة من محبّي أهل البيت عليهم السلام حفاة حاسري الرؤوس قد جلسوا للعزاء على سيّد الشهداء عليه السلام.

أيعلى على السنان سنان

الرجس رأس الحسين بين الأنام

ثمّ يسري به يأمّ السبايا

قاصداً بالمسير نحوا الشآم

لعن الله آل حرب الكفر

والغدر عابد الأصنام

ويزيد اللعين نسل اللعين

عصبة الكفر والخنا والحرام

وزياداً ونسل آل زياد

وابن سعد اللعين ثمّ حبتر والدلام

زادهم ربّنا إلى لعناً لعناً

سرمديّاً مخلّداً بالدوام

١١ ـ بعلبك : ثمّ إنّ قافلة الأُسارى تحرّكت من عسقلان نحو بعلبك ، وكما في المدن السابقة فقد أرسل شمر بعض أعوانه ليأمروا الناس بالخروج بآلات اللهو والطرب لاستقبال القافلة فهبّ الجميع بما فيهم الشيوخ والأطفال وهم يضربون الدفوف فرحين مستبشرين بقدوم القافلة وذلك على بعد ما يقارب ستّة فراسخ خارج المدينة.

والحال أنّ أهل بيت الرسالة عليهم السلام ينظرون إليهم ويتألّمون من أفعالهم بحيث لم تتحمّل السيّدة أُمّ كلثوم عليها السلام هذا المنظر فرفعت يديها بالدعاء وقالت : فرّق الله جمعكم

٩٧

وسلّط عليكم من يقتلكم جميعاً(١) .

ونقل عما الدين الطبري في كامل البهائي ج ٢ ص ٢٩٢ فقال : إنّ حملة رأس سيّد الشهداء عليه السلام عندما خرجوا من الكوفة كانوا خائفين من قبائل العرب فلربما جاءوا وأخذوا الرأس منهم ، ولذا فإنّهم غيّروا مسارهم من العراق واتّخذوا طريقاً آخراً ، وفي أثناء الطريق نزلوا عند إحدى القبائل وطلبوا منها علفاً لدوابهم وأخبروهم أنّ الرؤوس التي معهم هي رؤوس بعض الخوارج ، وقد استمرّوا على هذا النهج حتّى وصلوا إلى بعلبك.

وعلى كلّ فإنّ القاسم بن ربيع والي بعلبك أمر بتزيين المدينة وأمر الناس أن يخرجوا وهم يضربون المزامير والطنابير والدفوف فرحين مستبشرين بقتل سيّد الشهداء عليه السلام وقد استقبلوا الأسارى على هذه الحال وقادوهم إلى المدينة.

ولم تمض سوى سويعات وإذا بالخبر يصل إلى الناس أنّ الرأس الشريف هو رأس سيّد الشهداء عليه السلام فخرج أكثرهم خارج المدينة وأحرقوا الزينة وقد اضطربت المدينة عدّة أيّام جرّاء هذ الفاجعة المؤلمة.

ولمّا رأى حملة الرؤوس اضطراب الأوضاع في بعلبك خرجوا إلى «مرزين» وهي أوّل مدينة من مدن الشام وإذا بنصر بن عتبة اللعين والي يزيد على هذه المدينة يحتفل بهذه المناسبة وينصب الزينة فرحاً ثمّ قضى الليل كلّه بالطرب واللهو فرحاً بمقتل سيّد الشهداء عليه السلام إلّا أنّ فرحته لم تتمّ إذ أنّ صاعقة من السماء نزلت على زينتهم هذه فأحرقتها فاضطرّوا أن يدخلوا الأُسارى إلى الشام.

ورود الأُسارى إلى الشام

يقول الشيخ أبو الحقّ : بينما كان جلاوزة يزيد يطوفون برأس سيّد الشهداء عليه السلام

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٢٦ ـ ١٢٧.

٩٨

في زقاق الشام سقط الرأس الشريف فجأة وإذا بالحائط ينحني ويحتضنه بحيث إنّه لم يصل إلى الأرض ، وقد شيّد في نفس هذا المكان مسجداً ما زال إلى اليوم موجوداً.

وقال أبو الحق أيضاً : ازدحم أهل الشام وتجمّعوا من كلّ حدب وصوب ليتفرّجوا على السبايا من بنات الرسول صلى الله عليه واله يقدمهم الإمام السجّاد عليه السلام الذي كان مقيّداً بالحبال القيود ومن أمامهم الرؤوس الشريفة تتقدّم القافلة ، فوالله ما شاهد أهل الشام أُناس أكثر نورانية ولا أشرف من هؤلاء الأُسارى ثمّ أنّهم أدخلوا القافلة إلى قصر يزيد الطاغية الذي كان ينتظر قدومهم.

وقبل أن يدخلوا القافلة على يزيد أخّروهم على حسب بعض الروايات ثلاث ساعات حتّى أذن لهم الطاغية اللعين بالدخول إلى قصره فأدخلهم خولّه عليه(١) .

وقد نقل عماد الدين الطبري عن دخول الأسارى فقال : ما يقارب على خمسمائة رجل وامرأة خرجوا لاستقبال الأسارى وهم يضربون بالدفوف الطبول بينما كان الكثير من الناس يرقصون فرحاً فضلاً عن الذين اءوا ليتفرّجوا على السبايا(٢) .

آه من الشام

ورد في الخبر الشريف أنّ أحدهم سأل من الإمام السجّاد عليه السلام فقال : أي المصائب كانت أشدّ عليكم؟ وإذا بالإمام عليه السلام يجيب ثلاثاً : الشام الشام الشام. أو أنّه قال : آه من الشام قالها ثلاثاً. وفي خبر آخر أنّ الإمام عليه السلام قال للمنذر بن النعمان ما مضمونه : لقد نزلت علينا في الشام سبع مصائب لم نر مثلها من قبل أصلاً منها :

١ ـ أنّ قادة العسكر كانوا يقدوننا في الشام وهم شاهرون سيوفهم حاملون الرماح وكانوا بين الحين والآخر يتجاسرون علينا بكعب الرماح والناس محدقين بنا من كلّ جانب وهم يضربون بالدفوف ويرقصون فرحاً بما يجري علينا.

__________________

(١) تذكرة الشهداء للكاشاني ص ٤١٤.

(٢) كامل البهائي ج ٢ ص ٢٩٢.

٩٩

٢ ـ إنّهم مرّوا بالرؤوس الشريفة بين هوادج المخدّرات وجعلوا رأس عمّي العبّاس عليه السلام مقابل عمّاتي زينب وأُمّ كلثوم ، كما يجعلوا رأس علي الأكبر والقاسم قبال عيني سكينة وفاطمة أُختي ، وكانوا يلعبون بالرؤوس تهوي على الأرض أحياناً وتصبح موطأ لأقدام الخيول.

٣ ـ كانت النساء الشاميات فوق السطوح ترمينا بالماء والنار حتّى احترقت عمّاتي وحيث إنّني مقيّد لم أستطع إخماد النيران فوصلت النار إلى رأسي واحترق بألسنة النار.

٤ ـ أوقفونا منذ طلوع الشمس إلى قريب الغروب بين المغنّين وأهل اللهو فأصبحنا فرجة للناس الذين كانوا يأتون من كلّ مكان ليتفرّجوا علينا ، وكان أزلام يزيد يقولون لهم : إنّ هؤلاء الناس لا احترام لهم في الإسلام أصلاً.

٥ ـ قيّدونا بالحبال ومرّوا بنا إلى جانب منازل اليهود والنصارى وقالوا لهم : هؤلاء الذين قتلوا أبوهم آباءكم في معركة خيبر فهلمّوا وخذوا بثاراتكم منهم. وقد قال الإمام السجّاد عليه السلام أيضاً : يا نعمان فما بقي أحد منهم إلّا وقد ألقى علينا ما أراد من التراب والأحجار والأخشاب.

٦ ـ أخذونا إلى سوق النخاسين وأرادوا أن يبيعونا كما يبيعوا العبيد والجواري لو لا أنّ الله عزّوجلّ حال دون ذلك.

٧ ـ جعلونا في دار لم يكن لها سقف ، فكانت لا تقينا من الحرّ والبرد(١) .

لهفي لرأس ابن النبي هديّة

لابن الدعي على سنان العامل

لهفي لزين العابدين مكتّفاً

يكبو له يقتاد بين عقائل

لهفي على حرم الحسين يسقن في

ذلّ السبا وما لها من كافل

لهفي لهنّ وقد برزن حواسراً

من بعد قصم أساور وخلاخل

__________________

(١) سوگنامه آل محمّد صلى الله عليه واله نقلاً عن تذكرة الشهداء للملّا حبيب الله الكاشاني ص ٤١٢.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٢ ـ( هَلْ كُنتُ إلّا بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلّا بإذنه سبحانه، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر، وإن كنتم تطلبون مني بما أنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى:( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / ١١١ ).

والمراد من قوله:( إلّاأَن يَشَاءَ اللهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة(١) .

* * *

٤ ـ طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقال: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ) (٢) .

__________________

(١) لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز، لاحظ: ص ٩٥ ـ ١٥٤ من ذلك الجزء.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ٣٠٥.

١٨١

قال ابن هشام: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب وعمّار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصّهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ *وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / ٥٢ ـ ٥٤ )(١) .

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / ٢٨ ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة، وإليك النص الدال على ذلك:

روى السيوطي في الدر المنثور: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنّا نحب أن تجعل

__________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام: ج ١ ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

١٨٢

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول الله الصحيفة من يده، فأتيناه وهو يقول:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال: فكان رسول الله يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣ ص ١٣، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.

(٢) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٣

ويضيف قائلاً: « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى الله سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّتهعليه‌السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى:( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / ٢٧ و ٢٩ و ٣٠ )(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٤

د ـ تعذيب النبيّ وأصحابه

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك:

١ ـ نزل الوحي مسلّياً بقوله:( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / ٣٤ ) وقوله:( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / ١٢٧ ).

٢ ـ ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / ٣٥ ).

٣ ـ وثالثة داعياً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفويض الأمر إلى الله والتريّث حتى يأتي موعده بقوله:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

٤ ـ ورابعاً مروّضا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبال ما يكال إليه من

١٨٥

صنوف الايذاء بقوله:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / ١٠ ).

٥ ـ وخامساً منبّهاً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه:( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / ٤٨ ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول: إصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة فيمر بهم رسول الله فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة(١) .

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٨٦

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون، فقال: صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد: أوّل من أظهر الإسلام سبعة، فعدّ منهم عمّار وسميّة ـ اُمّ عمّار ـ.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل ـ لعنه الله ـ ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم(١) .

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول الله فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية: أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا: أكفر بمحمّد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي، فقال النبي: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإن عادوا فعد، فنزل قوله سبحانه:( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / ١٠٦ ).

فأخبر الله سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب أليم، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم(٢) .

__________________

(١) حلية الأولياء: ج ١ ص ١٤٠.

(٢) تفسير الطبري: الجزء ١٤، ص ١٢٢.

١٨٧

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر، فقال النبي: إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال: ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام(١) .

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لـمّا أضحت فاشلة، إضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر، وأنّ له لحلاوة وأنّ عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه(٢) .

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / ٢٦ ). حتى يصدّوا بذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة، راجع مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٨٧، والسيرة النبويّة: ج ٥ ص ٣٨٢.

١٨٨

من اَراد استماعه، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً(١) . فأوعدهم الله سبحانه بقوله:( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر، فنالوا جزاء أعمالهم، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه:( ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / ٢٧ و ٢٨ ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام، فقالوا: لو اعتنقنا دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفضنا الأصنام والأوثان، لثار الجميع علينا، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) ( القصص / ٥٧ ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حقٌّ ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم(٢) .

فردّه الوحي بأنّ الله سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين الله يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى الله سبحانه من حالة الكفر، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين، وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ٢٤ ص ٧٢.

(٢) التخطّف: أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

١٨٩

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / ٥٧ ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (١) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥٨ ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ، غير أنّ هذه القصة لـمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك‍ « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٣٤، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلّا من أخذته العصبية العمياء فإنّها داء لا علاج له، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال، والرجل

__________________

(١) البطر: الطغيان عن النعمة.

١٩٠

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار، وإليك القصّة على وجه الإجمال:

« جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) فقرأه رسول الله حتى إذا بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) ألقى عليه الشيطان كلمتين:

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيباً، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ): فلمّا أمسى أتاه جبرئيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إفتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل !! فأوحى الله عليه:( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ )، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة: إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما يلقي الشيطان »(١) .

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ١٧، ص ١٣١.

١٩١

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين:

الأوّل: إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

من أمثال:

١ ـ محمد بن كعب القرظي ٢ ـ محمد بن قيس ٣ ـ أبو العالية ٤ ـ سعيد بن جبير ٥ ـ الضحّاك ٦ ـ ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم:

الف ـ محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر: قال العجلي: مدني تابعي ...، وقال البخاري: إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده، هو أبوه، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة ١٠٨ ه‍ ق وقيل: ١١٧ ه‍ ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وجاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق أنّه قال: يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة: فكنّا نقول: هو محمد بن كعب، والكاهنان قريظة والنضير ـ إلى أن يقول ـ:

١٩٢

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة معه(١) .

ب ـ محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز، روى عن أبي هريرة وجابر، ويقال: مرسل، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر ـ قال ابن معين: ليس بشيء لا يروى عنه(٢) .

ج ـ ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري ـ كان يدلّس في النادر ـ وهو أحد التابعين بالمدينة، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ابن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين(٣) .

د ـ أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر حتى قيل: إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه(٤) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٢١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤١٤.

(٣) ميزان الإعتدال: ج ٤ ص ٤٠، وتقريب التهذيب: ج ٢ ص ٢٠٧، ووفيات الاعلام: ج ٤ برقم ٥٦٣.

(٤) تهذيب التهذيب: ج ٣ ص ٣٨٤.

١٩٣

ه‍ ـ سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره، قتله الحجّاج صبراً سنة ٩٥(١) .

و ـ الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين(٢) .

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ـ مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني: إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ١١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ٤٤٧.

١٩٤

أمّا الأوّل فهو مشترك بين ١٩ شخصاً لم يرو واحد منهم عن النبي فالجلّ لولا الكل تابعون(١) .

وأمّا الثاني فهو أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ولد في خلافة عمر(٢) .

وأمّا الثالث فهو محمد بن مروان تابعي. قال ابن معين: ليس بثقه، قال ابن نمير: ليس بشيء وكان كذّاباً(٣) .

نعم رواه أيضاً عن سعيد بن جبير وابن عباس وقد عرفت حالهما، ورواه عن السدي وهو أيضاً تابعي.

مضافاً إلى إشتمال الإسناد على رجال ضعاف، وأمّا ما ذكره السيوطي من أنّه أخرج الطبراني والبزاز وابن مردويه والضياء في المختار بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ المرسل والمقطوع لا يوصفان بالصحة على الإطلاق ولو وصفا بالصحّة فالمراد هو الصحّة النسبية، فلا يحتج بها.

إنّ علماء الإسلام وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد أشبعوا هذه الرواية نقضاً وردّاً وإبراماً فوصفها السيد مرتضى: بأنّها خرافة وضعوها(٤) .

وقال النسفي عند القول بها: غير مرضي. وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متّصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٥) .

__________________

(١) راجع تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣٣.

(٣) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٣٦ برقم ٧١٩.

(٤) تنزيه الأنبياء: ص ١٠٩.

(٥) الهدى إلى دين المصطفى: ج ١ ص ١٣٠.

١٩٥

وقال القاضي عياض: إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسنده سليم متصل، وإنّما أولع به المفسّرون، والمؤرّخون، المولعون بكل غريب، والمتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلا المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلّق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته(١) .

وقال أمين الإسلام الطبرسي: أمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعّفة عند أصحاب الحديث، وقد تضمّنت ما ينزّه الرسل عنه، فكيف يجوز ذلك على النبي وقد قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقال:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ) .

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) علمت قريش من عادته أنّه كان يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين: ( تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى ) فظنّ الجهّال أن ذلك من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وقال السيّد الطباطبائي: إنّ الأدلّة القطعيّة على عصمته تكذّب متنها، وإن فرضت صحّة سندها، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة، مضافاً إلى أنّ الرواية تنسب إليه أشنع الجهل وأقبحه فقد تلا « تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى » وجهل أنّه ليس من كلام الله، ولانزل به جبرئيل، وجهل أنّه كفر صريح يوجب الإرتداد، ودام على جهله، حتى سجد وسجدوا في آخر السورة، ولم يتنبّه ثمّ دام على جهله حتى نزل عليه جبرئيل، وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو مصرّ على جهله، حتى أنكره عليه جبرئيل، ثمّ أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفاضحة لجميع الأنبياء

__________________

(١) الشفاء: ج ٢ ص ١٢٦.

(٢) الطبرسي مجمع البيان: ج ٤ ص ٦١ و ٦٢.

١٩٦

والمرسلين وهي قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) .

لو جاز مثل هذا التصرّف من الشيطان في لسانه بالقائه جملة أو جملتين، في ثنايا الوحي، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي، فكان من الجائز حينئذ أن تكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان فيلقي نفس هذه الآية( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) فيضعه في لسان النبي وذكره، فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبرئيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك ـ إلى أن قال ـ وبذلك يرتفع الإعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهة، وتلغى الرسالة والدعوة النبويّة بالكليّة جلّت ساحة الحق من ذلك(١) .

هذا كلّه راجع إلى اسناد الرواية وكلمات العلماء بشأنه، وأمّا ما يرجع إلى متنها فنشير إلى أمرين كل واحد كاف لإبطال الرواية:

تحليل متن الرواية

١ ـ إنّ هذه الروايات أجمعت على أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ سورة والنجم فلمّا بلغ إلى قوله( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) وسوس إليه الشيطان بهاتين الجملتين ثمّ مضى في التلاوة حتى إذا بلغ آية السجدة في آخر السورة، سجد وسجد معه المشكرون.

فنقول: إنّ الذين كانوا في المسجد كانوا على قدر من الوعي والدراية فكيف يعقل منهم أنّهم سمعوا هاتين الجملتين، اللتين تتضمّنان مدح أصنامهم وأوثانهم، وغاب عن سمعهم ما يتضمّن التنديد والازراء بشأن آلهتهم، فإنّه قد جاء بعد هاتين الجملتين المدّعيتين قوله سبحانه:( إِنْ هِيَ إلّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن

__________________

(١) الطباطبائي، الميزان: ج ١٤ ص ٤٣٥ و ٤٣٦.

١٩٧

رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ ) ( النجم / ٢٣ ).

فهل يتعقّل أن ينسب إلى أوتاد الفصاحة والبلاغة أنّهم أقنعوا بهاتين الجملتين، وفاتهم ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي أعقبتها.

فهذه حجة بالغة على أنّ واضع القصة كان غافلاً عن تلك الآيات التي ترد على هاتين الجملتين بصلابة.

٢ ـ إنّ وجود التناقض في طيّات الرواية من جهات شتّى دليل واضح على كونها مختلقة حاكتها أيدي القصّاصين.

وأمّا بيان ذلك التناقض فمن وجوه:

أ ـ تروي الروايات أنّ النبي والمسلمين والمشركين سجدوا إلّا الوليد ابن المغيرة فإنّه لم يتمكّن من السجود لشيخوخته، وقيل: مكانه سعيد بن العاص، وقيل: كلاهما، وقيل: اُميّة بن خلف، وقيل: أبو لهب، وقيل: المطّلب.

ب ـ تضمّن بعضها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها وهو قائم يصلّي، وتضمّن البعض الآخر أنّه قرأها بينما هو جالس في نادي قومه.

ج ـ يقول بعضها: حدّث بها نفسه، وآخر: جرت على لسانه.

د ـ يقول بعضها: انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تنبّه لها حين تلاوتها، والآخر: انّه لم يتنبّه إلى المساء حتى جاء إليه جبرئيل فعرضها عليه ثمّ تبيّن له الخطأ، إلى غير ذلك من وجوه التناقض التي يقف عليها المتتبع عند التأمّل وامعان النظر في متون الروايات المختلفة التي جمعها ابن جرير والسيوطي في تفسيرهما.

فحصيلة الكلام: إنّ الرواية بشتّى طرقها وصورها لا تصحّ الإحتجاج بها لكون إسنادها مراسيل ومقاطيع من جانب، وكونها متضاربة المضمون من جانب آخر، والذي يسقط الرواية عن الحجّية أنّها تنتهي إلى قصّاصين نظير محمد بن كعب

١٩٨

القرظي ومحمد بن قيس، وهما مولعان بذكر كل صحيح وسقيم في أنديتهم ومجالسهم، لأنّ لكل غريب لذّة، ليس في غيره، خصوصاً أنّ محمد بن كعب ابن بيت يهودي أباد النبي قبيلته، ولم يبق منه إلّا نفراً قليلاً، فمن المحتمل جداً أنّه حاكها على نول الوضع لينتقم من النبي الأكرم وليشوِّه عصمته، والآفة كل الآفة من هؤلاء المستسلمين مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه.

ثمّ إنّ الآية التي زعمت الرواية أنّها نزلت في تلك الواقعة أعني قوله سبحانه:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ ). وقد فرغنا من تفسيره في هذه الموسوعة عند البحث عن عصمة الأنبياء فلا نعيد(١) .

__________________

(١) مفاهيم القرآن: ج ٤ ص ٣٤٨ ـ ٤٥٠.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293