• البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30706 / تحميل: 6544
الحجم الحجم الحجم
الإمام السجاد جهاد وأمجاد

الإمام السجاد جهاد وأمجاد

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

حقوق الأفعال

١٠ ـ حق الصلاة :

« فأما حق الصلاة فأن تعلم أنها وفادة إلى الله ، وأنك قائم بها بين يدي الله ، فإذا علمت ذلك كنت خليقا أن تقوم فيها مقام الذليل ، الراغب ، الراهب ، الخائف ، الراجي ، المسكين ، المتضرع ، المعظم من كان بين يديه ، بالسكون والإطراق وخشوع الأطراف ، ولين الجناح ، وحسن المناجاة له في نفسه ، والطلب إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت به خطيئتك ، واستهلكتها ذنوبك ولا قوة إلا بالله ».

هذه صورة الصلاة كما يريدها الله وكما يحب أن يكون عليها صاحبها ، صورة العبد الكادح إلى ربه ، الوافد عليه ، صورة الإنسان الضعيف الصغير ، يقف بين يدي الله العزيز الكبير. صورة توحي بعظمة الباري عز وجل فيها التوبة والإنابة والخضوع والخشوع. إنها لقاء الشوق والمحبة يعترف المصلي لخالق الكون بالربوبية والإلهية بكل أوصافها : العلم والقوة والرحمة والحكمة والعزة ...

الصلاة هي قربان كل تقي وعمود الدين ووجهة يعرج بها المسلم إلى الله ويسأل عنها يوم القيامة ، فإن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها والإمام زين العابدين (ع) أعطانا لوحة جميلة في التعليم والتوجيه ، يريد أن يصلنا بالله ومن خلال هذه الصلة يعلمنا الأدب مع عزته وجلاله. فعلى المسلم أن يصلي بسكينة ووقار ، خاشع الأطراف ، حسن المناجاة ، لا يشغل فكره بأي شأن من شؤون الدنيا ، وعليه أن يسأل الله العلي القدير لينقذه من التبعات والخطيئات ، وفك رقبته من النار. فعلى المصلي أن يكون راغبا في ثواب الله ، راهبا من عذابه ، متضرعا خاشعا ، خائفا ، فلا يترك لليأس مدخلا إلى قلبه ولا يترك للرجاء أن يقف مانعا عن التوجه إلى الله والازدياد من الأعمال الصالحة.

فعلينا أن نؤدي صلاتنا بشروطها وآدابها وخشوعها وأن نؤديها

٢٢١

بفاعليتها وروحانيتها وسموها لتكون هذه الصلوات محطات من أجل الوصول إلى رضا الله وطاعته.

١١ ـ حق الصوم :

« وأما حق الصوم فأن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار وهكذا جاء في الحديث « الصوم جنّة من النار »(١) فإن سكنت أطرافك في حجبها رجوت أن تكون محجوبا وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب ، فتطلع على ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حد التقية لله ، لم تأمن أن تخرق الحجاب ، وتخرج منه ، ولا قوة إلا بالله ».

الصوم هو من العبادات المهمة في الإسلام ، هو رياضة روحية يتجرد الإنسان فيه من كل شهوات الدنيا ليحلق في أجواء من الصفاء والروحانية.

تتجسد في الصوم المساواة بين جميع المسلمين يجمعهم شهر رمضان المبارك ويوحد نفوسهم ومشاعرهم ، وهو لا يعني الامتناع عن الطعام والشراب فحسب بل هناك وراء ذلك ما هو أعمق وأدق. فعلى الصائم أن يمسك لسانه عن الكذب وقول الباطل ، ويمسك سمعه عن سماع الغيبة ، وفرجه مما لا يحل له ، وبطنه عن تناول الحرام ، وبهذا يكون الصوم « جنة » من النار ومنجى من عذاب الله وعقابه. أما إذا تعدت هذه الجوارح والأعضاء وظائفها الشرعية وانحرفت عن خطها السوي فإنها توصل بصاحبها إلى ما لا تحمد عقباه.

١٢ ـ حق الصدقة :

« وأما حق الصدقة فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك ، ووديعتك التي لا

__________________

(١) جنّة : أي وقاية من النار.

٢٢٢

تحتاج إلى الأشهاد ، فإذا علمت ذلك ، كنت بما استودعته سرا أوثق بما استودعته علانية ، وكنت جديرا أن تكون أسررت إليه أمرا أعلنته وكان الأمر بينك وبينه فيها سرا على كل حال ، ولم تستظهر عليه فيما استودعته منها بأشهاد الأسماع والأبصار عليه بها كأنها أوثق في نفسك لا كأنك لا تثق به في تأدية وديعتك إليه.

ثم لم تمنن بها على أحد لأنها لك فإذا امتننت بها لم تأمن أن تكون مثل تهجين حالك منها إلى من مننت بها عليه لأن ذلك دليلا على أنك لم ترد نفسك بها ولو أردت نفسك بها لم تمتّن بها على أحد ولا قوة إلا بالله ».

لقد رغب الإسلام بكل الصدقات والهبات والتبرعات والمسلم إذا عاش مع الناس بحاجاتهم وقضاياهم وتفاعل معهم عاطفيا وعمليا سوف يتحول إلى عنصر عطاء. والعطاء إذا خرج عن نفس طيبة يتحسس بآلام الناس وينفس عنهم كربتهم ويرفع عنهم عوزهم سوف يتحول العمل إلى عبادة تعادل الصلاة والصوم.

لذلك أكد الإمام على الصدقة واعتبرها ذخرا عند الله للمتصدق وهو إنما يقدمها لنفسه ، فإنه يجدها حاضرة يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون.

كما أكد الإمام (ع) على ضرورة إعطاء الصدقة في السر ، وأن تكون خالية من المن لأن ثوابها يعود على منفقها ولا يضيع عند الله تعالى وهي لا تحتاج إلى الأشهاد ولا إلى الوثائق وكلما كانت سرا كانت أكثر ثوابا وأبعد عن الظهور والكبرياء ، أما إذا أعطيت جهارا وأمام الملأ من الناس فإنها تخرج عن هدفها المحدد لها وهو التوجه نحو الله والتماس رضاه. قال تعالى :( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) .

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٦٢.

٢٢٣

ونظرا لأهمية الصدقة في السر فقد كان الإمام (ع) يعول مائة بيت في يثرب ، وهم لا يعلمون من هو الذي يعيلهم.

١٣ ـ حق الهدي :

« وأما حق الهدي فأن تخلص بها الإرادة إلى ربك والتعرض لرحمته وقبوله ولا تريد عيون الناظرين دونه ، فإذا كنت كذلك لم تكن متكلفا ولا متصنعا وكنت إنما تقصد إلى الله واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير كما أراد بخلقه التيسير ، ولم يرد بهم التعسير ، وكذلك التذلل أولى بك من التدهقن(١) لأن الكلفة والمؤونة في المتدهقنين ، فأما التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما ، ولا مؤونة عليهما ، لأنهما الخلقة ، وهما موجودان في الطبيعة ولا قوة إلا بالله ».

الهدي من فريضة الحج تمتاز بطابعها السياسي العبادي وهو ما يذبحه حجاج بيت الله الحرام من الأنعام في مكة أو في منى وقد أكد الإمام (ع) على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى غير مشفوع بأي سبب آخر ومظاهر فاسدة كالرياء وطلب السمعة. لأن الله تعالى يتقرب إليه باليسير من الأعمال لا بالعسير وبالتذلل لا بالتكبر.

والحاج يهرق دما ضحية تعبيرا عن تتويج تلك الأعمال العبادية المأمور بها بثورة دامية ينفذها المسلم إذا احتاج هذا الدين دماء طاهرة من أجل الجهاد في سبيل الله.

والهدي يرمز إلى العطاء الكريم والفداء العظيم والمسلم على استعداد دائم لهذا العطاء والفداء يقدمه خاليا من كل الشوائب التي تفسد قبوله.

__________________

(١) التدهقن : التكبر والتجبر.

٢٢٤

ثم بيّن لنا الإمام قاعدة إسلامية هامة وهي اليسر استمدها من القرآن الكريم. قال تعالى :( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (١) .

ومن حقوق الأفعال تحدثعليه‌السلام عن حقوق الأئمة.

حقوق الأئمة

١٤ ـ حق الأئمة :

« فأما حق سائسك بالسلطان فأن تعلم أنك جعلت له فتنة ، وأنه ابتلي فيك ، بما جعله الله له عليك من السلطان ، وأن تخلص له في النصيحة ، وأن لا تماحكه(٢) وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه.

وتذلل وتلطف لإعطائه الرضى ما يكفّه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله. ولا تعازه(٣) ولا تعانده فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك(٤) فعرضتها لمكروهه ، وعرضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك ، وشريكا له في ما أتى إليك ، ولا قوة إلا بالله ».

ومن الشؤون الدينية إلى الشؤون السياسية. ففي التشريع الإسلامي الحاكم هو الله جل جلاله ، فهو الذي يملكنا تكوينيا من أنه خلقنا وصورنا وأخرجنا إلى عالم الوجود. قال تعالى :( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) (٥) . وقد اختار سبحانه رسلا كراما حملهم أمانة تبليغ الرسالة الإسلامية ، فهم ينقلون إرادة الله وينفذون أوامره ونواهيه. لقد تولوا المهمتين : التبليغ والتنفيذ. فالرسول الأعظم (ص) قام بإبلاغ الناس بوحي الله المتجسد في

__________________

(١) البقرة ، الآية ١٨٥.

(٢) أي لا تخاصمه.

(٣) لا تعازه : لا تعارضه.

(٤) عققت نفسك : آذيتها والعقوق : نكران الجميل.

(٥) الأنعام ، الآية ٥٧.

٢٢٥

القرآن والسنة وكان الحاكم المطلق الذي نفذ هذه الأحكام فأعلن الحروب وفتح البلاد ونظم الجيش وحكم في الحدود وهكذا كانت السلطة بيده ولا يجوز مخالفته. ولأنه كان يعلم أن الله سبحانه سيختاره إلى جواره كما اختار الأنبياء من قبله أبلغ الأمة عن الخليفة بعده وعينه باسمه وأشار إليه بأوصافه فكان الإمام علي بن أبي طالب (ع) نص عليه صريحا بأمر من الله في حديث المنزلة وحديث الدار. قال تعالى :( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (١) .

وقد تأكد حديث تعيين الإمام علي (ع) في حديث الغدير الذي بلغه النبي (ص) للأمة في حجة الوداع ثم تتابعت السلسلة الطاهرة من أهل البيت فكانوا اثنا عشر إماما مع الإمام عليعليهم‌السلام . آخرهم الإمام الحجة محمد ابن الحسن العسكري الذي شاءت حكمة الله أن يغيب عن الأبصار وإن كان حاضرا في الأمصار. وهناك شروط ومواصفات من اجتمعت فيه كان الحاكم الذي يقوم في تدبير شؤون الأمة الإسلامية. وأهم هذه الشروط :

١ ـ الإيمان : على الحاكم أن يكون مؤمنا يعتقد بالشريعة الإسلامية أصولا وفروعا ، عقائدا وأحكاما.

٢ ـ العدالة : فلا يترك واجبا ولا يرتكب حراما دون عذر شرعي ، لأن الفاسق يجعل نفسه حجة بأيدي الأشرار والفاسقين ، وبهذا يطعن بالشريعة الإسلامية ويقتدي به أصحاب المصالح الشخصية.

٣ ـ العلم : على الحاكم في الإسلام أن يكون أعلم الناس بالشريعة لأن وظيفته القيادية تحتم عليه حفظها وبيانها ، وشرحها لا يكون إلا على أيدي العلماء الفقهاء. قال الإمام علي (ع) : « ألا وإن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ». إن القيادة الشرعية الصالحة التي

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٤٤.

٢٢٦

تهتم بشؤون المسلمين وتحافظ على كرامة الناس وعزتهم هي التي تقلب مفاهيم الناس وتحولهم إلى أعضاء صالحين يتمسكون بالفضيلة وينشدون الخير. فإن كان الحاكم ورعا تقيا صالحا عالما انعكس ذلك على مجتمعه كله فتسود الفضيلة وينتشر العدل ويعم الرفاه. أما إذا كان غاضبا فاسدا فاسقا منحرفا انعكس ذلك على مجتمعه فانتشر الفساد وساد الظلم واضطربت أمور الناس. وما نراه اليوم من مظالم وما نعيشه من نكبات واستغلال واستعباد ، كل ذلك نتيجة للانحراف عن الإسلام.

والإمام زين العابدين (ع) في رسالته المباركة وضع الحاكم أمام واجبه ومسؤولياته ويضع المواطن أمام واجبه أيضا فإذا أخطأ الحاكم الظالم عليك إرشاده بأيسر الطرق بحيث تخرج عن تبعة ما يلحقك من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٥ ـ حق المعلم :

« وأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والإقبال عليه ، والمعونة له على نفسك في ما لا غنى بك عنه ، بأن تفرّغ له عقلك ، وتحضره فهمك ، وتذكي له قلبك ، وتجلي له بصرك ، بترك اللذات ونقص الشهوات ، وأن تعلم أنك في ما ألقى إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم ، ولا تخنه في تأدية رسالته ، والقيام بها عنه إذا تقلدتها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ».

المعلم من أكرم رجال الأرض الذين ساهموا في نشر العلم وفك عقال الجهل ، إنه صانع الفكر والحضارة ، ينير دروب السالكين للوصول إلى الحقيقة وشاطىء السلامة. لقد ارتفع عن الأنانية البغيضة ليفتح قلوب الآخرين المغلقة ويزرع في نفوسهم حب الخير ونداء التقدم وثورة التحرير ، يدفع طلابه نحو الأمجاد العظيمة في كل مجالات العلم والأدب

٢٢٧

والأخلاق. وبالعلم والأخلاق قامت الحضارات الإنسانية. فله أياد بيضاء على الإنسانية عامة ، وعلى المتعلم خاصة. وقد أشاد الإمام (ع) بمكانة المعلم فأثبت له حقوقا على المتعلم وجعله مسؤولا عن رعايتها والقيام بها. وهذه الحقوق هي :

١ ـ احترام المعلم وتعظيمه وتقدير عطائه لما له من عظيم الفضل على المتعلمين في تنوير طريقهم وإنقاذهم من ظلام الجهل وظلم الجاهلين.

٢ ـ توقير مجلسه واعتماد الحشمة والأدب فيه.

٣ ـ حسن الاستماع لمحاضراته والإقبال عليها بجدية واهتمام.

٤ ـ تفريغ العقل وتحضير الفهم وإذكاء القلب وإجلاء البصر ومن الطبيعي أن طالب العلم إذا لم يقبل على معلمه برغبة واهتمام فإنه لا يستفيد في مدرسته أو جامعته.

٥ ـ ترك اللذات والابتعاد عن الشهوات لأنهما شرطان أساسيان في تحصيل العلوم عامة ، والدينية خاصة. فطالب اللذات لا يحصل غالبا على شيء من العلوم.

٦ ـ على المتعلم أن ينشر جميع العلوم والمعارف التي تلقاها عن أستاذه لأن ذلك واجب شرعي عليه في استمرار رسالة العلم ونشره بين جميع الناس.

هذه الأصول التربوية التي دعا إليها الإمام تمثل التربية السليمة التي يجب على طلابنا اليوم الاقتداء بها لأنها تعاليم علمائنا الأبرار الذين قدموا للبشرية كل خير وصلاح وتعاليم الإسلام العظيم الذي دخل إلى القلب والروح فقلب الموازين وغير المفاهيم الجاهلية ونقل الناس من الظلام إلى النور فصاغهم صياغة ربانية خالصة.

٢٢٨

١٦ ـ حق المالك :

« وأما حق سائسك بالملك فنحو من سائسك بالسلطان إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك ، تلزمك طاعته في ما دق وجل منك إلا أن تخرجك من وجوب حق الله ، ويحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق ، فإذا قضيته رجعت إلى حقه ، فتشاغلت به ، ولا قوة إلا بالله ».

اهتم أهل البيتعليهم‌السلام بالرق وعملوا كل ما لديهم على فك رقاب العبيد ، ولو أنهم تولوا قيادة الأمة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة لقضوا على الرق بشتى صوره ولم يبق أي أثر له. والإمام زين العابدين (ع) تمشيا مع خط الإسلام في تحبيذ العتق أعتق الألوف من العبيد.

قال سيد الأهل : « فهو يشتري العبيد لا لحاجة به إليهم ولكن ليعتقهم ، وقالوا : إنه أعتق مائة ألف(١) .

لقد عمل الإمام (ع) على إنقاذ الإنسان من العبودية وعامل الأرقاء كما يعامل أبناءه باللطف والرحمة واللين فلم يجعل الرق يحمل العبودية والذل ، عملا بقول جده أمير المؤمنين : « إن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق ».

وقد تعرض الإمام (ع) إلى حق المالك على رقه ، فأوجب طاعته إلا أن يدعو مولاه إلى معصية الله فلا طاعة له.

١٧ ـ حق الرعية :

« فأما حقوق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم ، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم ، وذلهم ، فما أولى

__________________

(١) زين العابدين لسيد الأهل ، ص ٧.

٢٢٩

من كفافه ضعفه وذله حتى صيره رعية ، وصير حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلا بالله ، بالرحمة والحياطة والأناة(١) ، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضله هذه العزة والقوة التي قهرت بها ، أن تكون لله شاكرا ، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه ولا قوة إلا بالله »(٢) .

نظر الإمام (ع) إلى الحكومات القائمة في عصره فرأى الطواغيت والفراعنة وأنصاف الآلهة الذين توصلوا إلى كرسي الحكم بالقوة والقهر فقتلوا ونهبوا وأجرموا وسجنوا دون وازع من دين أو رادع من ضمير ، لقد تجردوا من إنسانيتهم ولبسوا ثياب الذئاب الكاسرة وحكموا على أشلاء الناس وجماجم البشر فكان فرعون وهامان ويزيد وابن زياد والوليد والحجاج واليوم في عالمنا المعاصر يوجد أمثالهم ممن يسومون الناس بالذل والهوان ويحاسبونهم على التهمة والظن كل ذلك في سبيل الحفاظ على عروشهم ومصالحهم.

هؤلاء الطواغيت يدّعون الحكم باسم الإسلام ، والإسلام منهم بريء كل البراءة ، إنهم عبء على الإسلام والمسلمين ، تولوا عروشهم الدنيئة بمعونة أسيادهم المستعمرين ، والإسلام لا يعترف بشرعية حكمهم ولا يسمح للشعب أن يتقيد بما يأمرون وينهون.

على الحاكم في الإسلام أن يكون كالأب الرحيم على رعيته يرعاهم ويتفقذ شؤونهم ويعيش آمالهم وآلامهم ، عليه أن يتمثل بوصية أمير المؤمنين لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر. جاء في الوصية : « وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ في الدين أو نظير لك في الخلق!

__________________

(١) الحياطة : الحماية والصيانة.

(٢) الأصح : مما أنعم عليه.

٢٣٠

تفرض منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك ».

والإمام زين العابدين (ع) يوصي الحكام برعاية الشعوب والرحمة بها ، والحياطة لشؤونها ، والأناة في التصرف في أحوالها ، وقد وضعهم وجها لوجه أمام الله كي يقوموا بأداء شكر هذه النعمة التي استطاعوا من خلالها أن ينفذوا حكم الله وإرادته ويجعلوا كلمته هي العليا.

١٨ ـ حق المتعلمين :

« وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم في ما آتاك من العلم ، وولاك من خزانة الحكمة فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك ، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبده ، الصابر المحتسب الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه ، كنت راشدا ، وكنت لذلك آملا معتقدا ، وإلا كنت له خائنا ولخلقه ظالما ، ولسلبه عزه متعرضا ».

حث الإسلام على العلم ودعا إليه وأمر بطلبه ولو كان في أبعد البلاد وأقصاها. وقد رفع الله المؤمنين والمتعلمين درجات. قال تعالى :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : « ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ». فنشر العلم أمر ضروري وواجب على المعلمين وذلك حتى يقضى على الجهل وتمنع البدع

__________________

(١) المجادلة ، الآية ١١.

٢٣١

وتستقيم الأمور في الحياة. وكما أخذ الله على الجاهل أن يتعلم أخذ على العالم أن يبذل علمه.

والإمام زين العابدين (ع) يوجه حديثه إلى المعلم فيقول له : إن الله سبحانه وتعالى بما أعطاك من العلم جعلك محط حاجة طلابه فإن أحسنت فيما توليت وقمت بما يدعوك إليه الواجب من نشر العلم وبذله للمتعلمين ، فالله تعالى فيما رزق العلماء من العلم والحكمة ، قد جعلهم خزنة عليها ، فإن بذلوه إلى الناس فقد قاموا بواجبهم وأدوا رسالتهم وإلا كانوا خائنين وظالمين وتعرضوا لنقمة الله وسخطه.

١٩ ـ حق المملوكة أو حق رعيتك بملك النكاح :

« وأما حق رعيتك بملك النكاح فأن تعلم أن الله جعلها سكنا ومستراحا ، وكذلك كل واحد منكم يجب أن يحمد الله على صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ، ويكرمها ويرفق بها ، وإن كان حقك عليها أغلظ ، وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت ، ما لم تكن معصية ، فإن لها حق الرحمة ، والمؤانسة ، وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لا بد من قضائها ، وذلك عظيم ولا قوة إلا بالله ».

أوصى الإسلام بالزواج الشرعي وحدد مواصفات المرأة ومواصفات الرجل كي يستمر الزواج ويعطي ثماره التي يرغبها. ففي مقام الدعوة إليه قال تعالى :( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

وقال تعالى أيضا :( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ

__________________

(١) النور ، الآية

٢٣٢

يَتَفَكَّرُونَ ) (١) . فالمرأة سكن للرجل وهدوء وراحة ضمير من هنا قول الإمام زين العابدين (ع)عليهم‌السلام « فأن تعلم أن الله جعلها سكنا ومستراحا وأنسا وواقية ».

وقال تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) .

فالمرأة تستر عيوب الرجل وعوراته كما تسترها الثياب ، وكما أن الإنسان يختار من الثياب المناسب واللائق به وهذه نعمة يجب على كل منهما أن يؤدي شكرها. يقول الإمام زين العابدين (ع) : « وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها ». هذه المعاشرة الحسنة تتجسد في مسيرة المرأة المسلمة والرجل المسلم على حد سواء ولكل منهما الأجر والفضل وعلى الزوجة أن تطيع زوجها وتحافظ على شؤونه وما ملكت يداه ولا تعصي له أمرا إلا إذا كان فيه معصية لله فعندها تسقط طاعته. « إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ».

٢٠ ـ حق رعيتك بملك اليمين :

« وأما حق رعيتك بملك اليمين فأن تعلم أنه خلق ربك ولحمك ودمك وأنك تملكه لا أنت صنعته دون الله ، ولا خلقت له سمعا ولا بصرا ، ولا أجريت له رزقا ، ولكن الله كفاك ذلك بمن سخره لك ، وائتمنك عليه ، واستودعك إياه لتحفظه فيه ، وتسير فيه بسيرته فتطعمه مما تأكل ، وتلبسه مما تلبس ، ولا تكلفه مما لا يطيق ، فإن كرهته خرجت إلى الله منه ، واستبدلت به ، ولم تعذب خلق الله ، ولا قوة إلا بالله ».

ملك اليمين هم العبيد والإماء الذين تحت يد إخوانهم من بني البشر ، وقد جهد الإسلام منذ يومه الأول في سبيل تحريرهم وإخراجهم من ذل الرق والعبودية إلى عز الانطلاق والحرية.

__________________

(١) الروم ، الآية ٢١.

٢٣٣

وهذا الإمام زين العابدين ما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان الكثير من العبيد. وهذه الوصية منه (ع) تمثل موقفا رائعا من مواقفه.

لقد نظر الإمام (ع) إلى المملوك نظرة رحيمة مستمدة من جوهر الإسلام وواقعه ، فالمملوك كالحر هو من صنع الله ، خلق له السمع والبصر ، وأجرى له الرزق كما صنع ذلك للحر ، فليس للمالك أن يتكبر عليه ، أو يحمله فوق طاقته. وليعلم المالك أن الله سبحانه سخره له وائتمنه عليه واستودعه إياه فحق له أن يحفظ الأمانة والوديعة فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يعذب خلق الله. وهذه لفتة كريمة من الإمام كي يعود المالك إلى ضميره وعقله.

حقوق الرحم

وفي استعراضه للحقوق وجه الإمام (ع) نظرة صائبة نحو الأرحام وأدلى بحقوقهم.

٢١ ـ حق الأم :

« فحق أمك أن تعلم أنها حملتك ، حيث لا يحمل أحد أحدا ، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحدا ، وأنها وقتك بسمعها وبصرها ، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها ، وجميع جوارحها ، مستبشرة بذلك ، فرحة موبلة(١) محتملة لما فيه مكروهها ، وألمها ، وثقلها وغمها حتى دفعتها عنك يد القدرة ، وأخرجتك إلى الأرض ، فرضيت أن تشبع وتجوع هي ، وتكسوك وتعرى ، وترويك وتظمأ ، وتظلك وتضحي وتنعمك ببؤسها ، وتلذذك بالنوم بأرقها ، وكان بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء(٢)

__________________

(١) موبلة : مواظبة ومستمرة.

(٢) الحواء : ما يحتوي الشيء ويحيط به.

٢٣٤

وثديها لك سقاء ، ونفسها لك وقاء ، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك ، فتشكرها على قدر ذلك ، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه ».

الأم : هذه الكلمة العذبة ، الطيبة التي تفيض عطفا وحنانا ، وحبا وإخلاصا ، وتضحية وإيثارا. إنها تمثل العطاء بمدلوله الإسلامي الإنساني فيها تتجسد كل معاني الخير ، ومن نفسها تقدم أعلى ما عندها راغبة في العطاء ، تقدم سعادتها وراحتها وقلبها ونفسها وكل ما تطاله يدها دون منّ ولا جزاء.

حملت وليدها وهنا على وهن وأطعمته من ثمرة قلبها وروته من صدرها ، فكانت تضعف ليقوى وتبذل ليشتد. لقد أشغلت سمعها وبصرها ويدها ورجلها وبشرها وجميع جوارحها ، كل ذلك قدمته راغبة لئلا يتأذى أو يتضرر وليدها.

وبعد الحمل والخروج إلى عالم النور لم تكتف الأم الحنون عن تقديم عطاياها بل سلكت مسلك الإيثار بأجمل صوره وأجلها ، فبذلت جميع طاقاتها للحفاظ عليه والسهر على راحته إلى أن يكبر ويأخذ طريقه في الحياة والإمام زين العابدين في رسالته الكريمة شرح واقع الحال عندها ودفع الولد إلى شكرها على ما قدمته من جميل وهذه كانت وصية الله في كتابه الكريم. قال تعالى :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) (١) .

ما أعجز الإنسان عن أداء حقوق أمه ، وإذا قدم لها جميع الخدمات والمبرات لما أدى أبسط شيء من حقوقها « فيا رضا الله ورضا الوالدين ».

٢٢ ـ حق الأب :

« وأما حق أبيك فتعلم أنه أصلك ، وأنك فرعه ، وأنك لولاه لم تكن

__________________

(١) لقمان ، الآية ١٤.

٢٣٥

فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه ، واحمد الله واشكره على قدر ذلك ، ولا قوة إلا بالله ».

أولى الإسلام ركنا الأسرة اهتماما كبيرا ، وأما حق الأب على الولد فهو كبير أيضا كحق الأم. فالأب يسعى في تحصيل لقمة العيش له ولأسرته فيبذل جهدا كبيرا ويتحمل مشقات كثيرة من أجل إسعاد أولاده.

الأب يمثل الأصل والابن يمثل الفرع ، ولا وجود للفرع دون الأصل لأنه السبب في وجوده ونموه وازدهاره.

وما نراه اليوم أن الفرع قد يطغى على الأصل ، فيرى الابن نفسه أكبر من أبيه وأكثر فهما وتطورا فيتطاول على الوالدين وينال من كرامتهما ناسيا أنه من تربية أيديهما ونتاج فضلهما وثمرة لوجودهما.

هذا النوع من الأبناء هو إنسان عاق منحرف ابتعد عن الصواب وغفل عن وصية الله له التي تحث الأولاد على طاعة الوالدين واحترامهما. قال تعالى :( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) (١) .

والإسلام دعا إلى تمتين روابط الرحم بين أفراد الأسرة الواحدة فالولد البار يقوم بأداء حق الوالدين ويطيعهما ويوفر لهما كل أسباب الرضا فلا يفحش في الكلام لهم ولا يغلظ وإنما المعاملة بالعطف والرقة وخفض الجناح والكلام الطيب ولئن كانت الكلمة الطيبة صدقة فإنها في حق الوالدين أكبر من الصدقة وأنبل. ورد في أحكام القرآن لأبي بكر ابن عربي الأندلسي ج ٢ ص ٣٥ ، أن شيخا قال أبياتا يعتب فيها على ولده قرأها على النبي (ص) وهي :

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٢٤.

٢٣٦

غذوتك مولودا وقد كنت يافعا

تعل بما أحنى عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت

لسقمك إلا ساهرا أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي

طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنها

لتعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي

إليك مدى ما فيك كنت أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة

كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي

فعلت كما الجار المجاور يفعل

فلما سمع النبي (ص) هذه الأبيات قال للولد : « أنت ومالك لأبيك ».

٢٣ ـ حق الولد :

« وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ، ومضاف إليك ، في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب ، والدلالة على ربه ، والمعونة على طاعته فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ، ومعاقب ، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذور إلى ربه في ما بينه وبينه بحسن القيام عليه ، والأخذ له منه ولا قوة إلا بالله ».

الولد قطعة من الكبد بل هو الكبد كله. قال أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسنعليهما‌السلام : « ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي » والولد هو امتداد لحياة أبيه ، واستمرار لوجوده هو بعضه بل هو كله. من هذا المنطلق يبادر الأب إلى الحفاظ على أولاده فيقوم بإعالتهم من مأكل ومطعم وكساء. وهذا العمل هو جزء كبير من الواجبات المطلوبة من الوالد. ولم يقتصر واجبه عند هذا الحد من الواجبات المادية بل عليه واجب أكبر في تربية أولاده تربية إسلامية فاضلة ، فيغرس في أعماقه النزعات الكريمة ، ويعوده على العادات الحسنة

٢٣٧

ويجنبه الرذائل ويقيم له الأدلة على الخالق العظيم الذي يملك كل شيء وبذلك يكون قد أدى واجبه نحو أسرته ونحو مجتمعه فالأسرة الصالحة لبنة في بناء مجتمع صالح وإن أخفق فهو مسؤول أمام الله تعالى ، ومعاقب على ذلك.

والإمام زين العابدين يبين أن القضية ليست نتاج فحسب بل هي مسؤولية وحساب فالولد يعيد وجود أبيه فإن كان صالحا برا تقيا نسب إلى أبيه ، وإن كان شقيا طالحا نسب إليه أيضا فالإمام (ع) يستثير في الوالد مكامن العز ويحرك في نفسه حب الاستمرارية في الحياة فإن أحسن تربيته يكون قد حقق لنفسه السمعة الطيبة والأحدوثة الحسنة ، من هنا كان القول المأثور : « الولد سر أبيه ».

٢٤ ـ حق الأخ :

« وأما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجىء إليه ، وعزك الذي تعتمد عليه ، وقوتك التي تصول بها فلا تتخذه سلاحا على معصيته ، ولا عدة للظلم بحق الله(١) ، ولا تدع نصرته على نفسه ، ومعونته على عدوه ، والحول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة إليه ، والإقبال عليه في الله ، فإن انقاد لربه وأحسن الإجابة له ، وإلا فليكن الله آثر عندك(٢) ، وأكرم عليك منه ».

الإسلام كدين إنساني اجتماعي جاء ليشد أواصر القربى ويقوي العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ، فشرع قانون الأخوة الإسلامية ، الأخوة في الله ، فمهما تباعدت البلاد ونأت الديار نجد المسلم العربي يفرح للقاء أخيه الهندي أو الإيراني أو المصري أو السوري أو العراقي أو

__________________

(١) ورد في نسخة أخرى : « للظلم لخلق الله ».

(٢) أثر عندك : أفضل وأولى.

٢٣٨

الجزائري أو أي أخ من بلد عربي مسلم آخر. وذلك تحت ظلال الأخوة الإسلامية « إنما المؤمنون إخوة ».

هذه الأخوة تتوثق أكثر إذا انضمت إليها أخوة النسب فإنهما تتآلفان وتتساندان في طريق الحق والإيمان ، لكن أخوة النسب لا يقيم لها الإسلام وزنا إذا لم تكن ضمن الخط الإسلامي وفي طريق تقوى الله.

والإمام زين العابدين (ع) يلقننا درسا من دروس الإسلام في التربية الاجتماعية فبلغت أنظارنا أن الأخ يد لأخيه وعز ومنعة وقوة له ، هو سنده في الملمات وشريكه في السراء والضراء وله من الحقوق ما يلي :

١ ـ أن لا يتخذه سلاحا على المعاصي( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) ولا يستعين به على ظلم الناس والاعتداء عليهم بغير حق.

٢ ـ أن يرشده إلى سبل الخير ويهديه إلى طريق الرشاد.

٣ ـ أن يعينه على ( الوسواس الخناس ) ويحذره منه ، ويخوفه من عقاب الله تعالى ، يوم لا ينفع لا مال ولا بنون إلا ما أتى الله بقلب سليم.

٤ ـ أن ينصحه في أمور آخرته ودنياه ، فإن أطاعه وانقاد للحق فذاك ، وإلا فليعرض عنه ، ولا يتصل به لأنه عصى الله وليكن سبحانه وتعالى أكرم عليك منه وآثر لديك.

٢٥ ـ حق المنعم عليك بالولاء :

« وأما حق المنعم عليك بالولاء فتعلم أنه أنفق فيك ماله ، وأخرجك من ذل حق الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها ، وأطلقك من أسر الملكة وفك عنك حلق العبودية ، وأوجدك رائحة العز ، وأخرجك من سجن القهر ، ودفع عنك العسر ، وبسط لك لسان الإنصاف ، وأباحك الدنيا ، فملكك نفسك ، وحل أسرك ، وفرغك لعبادة ربك ، واحتمل بذلك التقصير في ماله ، فتعلم أنه أولى الخلق بك بعد أولي رحمك في حياتك وموتك ،

٢٣٩

وأحق الخلق بنصرك ومعونتك ومكافأتك في ذات الله فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك ».

كان الرق سائدا في المجتمع الجاهلي ولما جاء الإسلام عمد إلى ترغيب الناس في تحرير العبيد وتخليصهم من نير الاستعباد ، وقد شجع النبي الأكرم والأئمة الأطهار من بعده على تحرير الرقيق بشتى صوره وأشكاله. فتسابقوا جميعهم (ع) إلى عتق العبيد فالإمام علي بن أبي طالب (ع) أعتق ألف مملوك من كد يمينه وعرق جبينه ، وحفيده الإمام زين العابدين (ع) كانت إحدى خصائصه عتقه للعبيد حيث كان يشتريهم ويقوم بتعليمهم وتهذيبهم ثم يحررهم لوجه الله ، فكان العبد عنده لا يستقر أكثر من ستة أشهر إلى سنة.

إن هذا التصرف العظيم ينطلق من قاعدة أساسية وهي إرادة الحرية لجميع الناس وينسجم مع نظرة الإسلام إلى كون الناس أحرارا والرق حالة طارئة يجب أن تزول ، وقد جعل تحرير العبيد كفارة لبعض الذنوب.

فعلى الإنسان الذي عادت إليه حريته أن يشعر بهذه النعمة الكبيرة التي تمت على يد هذا المنعم الذي أطلق سراحه وأعتق رقبته. وليعلم أن تحريره نعمة تفرض عليه الشعور بأن هذا المنعم هو أولى الناس به بعد أهله وأرحامه في حياته وموته ، لأنه أطلقك من سجن العبودية وملكك نفسك وفرغك بعبادة ربك واحتمل ذلك التقصير في ماله لذلك لا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك.

٢٦ ـ حق المولى :

« وأما حق مولاك ، الجارية عليه نعمتك ، فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه ، وواقية وناصرا ، ومعقلا ، وجعله لك وسيلة ، وسببا بينك وبينه ، فالحري أن يحجبك عن النار فيكون في ذلك ثواب منه في الآجل ويحكم لك بميراثه في العاجل إذا لم يكن له رحم مكافأة لما أنفقته من

٢٤٠

مالك عليه وقمت به من حقه بعد إنفاق مالك ، فإن لم تخفه خيف عليك أن لا يطيب لك ميراثه ، ولا قوة إلا بالله ».

دعا الإمام (ع) المسلمين إلى مراعاة حقوق أرقائهم فإن الله قد جعلهم عليهم وكلاء ، فاللازم عليهم مراعاة حقوقهم ، ومعاملتهم معاملة كريمة ، والإحسان إليهم بكل ما يمكن إحسانه ، فإن فعلوا ذلك وقاموا به فإن الله يجازيهم على ذلك ويجعل إحسانهم إليهم وقاية لهم من النار في الآخرة لما يحققونه من أجر وثواب.

27 ـ حق صاحب المعروف :

« وأما حق ذي المعروف عليك ، فأن تشكره وتذكر معروفه وتنشر له المقالة الحسنة وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه ، فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا وعلانية. ثم إن أمكن مكافأته بالفعل كافأته وإلا كنت مرصدا له موطنا نفسك عليها »(1) .

فاعل المعروف رجل خيّر طابت نفسه وسخت كفه حتى أصبح فعل الخير سجية من سجاياه ، يبادر إلى فعله عندما يعلم به دون سؤال ولا التماس طلب. يقوم بعمله هذا وهو يشعر بلذة وارتياح نفسي.

وحسن هذا المعروف أن يبقى طي الكتمان لا يعرف به إلا صاحبه أما إذا أراد صاحب المعروف أن يكسب شهرة بمعروفه طمعا بتحقيق مصالح شخصية ومآرب خاصة فإنه لا يستحق المدح ولا الثناء ويذهب معروفه باطلا مهما كان كبيرا. قال تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً

__________________

(1) الضمير في عليها عائد إلى المكافأة.

٢٤١

لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ) (1) .

أما إذا كانت نفوس أهل الخير طاهرة تريد الخير لوجه الله تعالى فعلى المحسن إليه تقديم الشكر لهم ونشره بين أفراد المجتمع حتى يتسابق أهل الخير إلى الخيرات فيما بينهم.

ثم من واجب المحسن إليه أيضا المبادرة بالدعاء إلى من أحسن إليه اعترافا منه بالجميل ثم يترقب الفرص المناسبة ليرد لهم إحسانهم وجميلهم عند استطاعته.

28 ـ حق المؤذن :

« وأما حق المؤذن فأن تعلم أنه مذكرك بربك ، وداعيك إلى حظك ، وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك ، فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك وإن كنت في بيتك متهما لذلك ، لم تكن لله متهما في أمره ، وعلمت أنه نعمة من الله عليك ، لا شك فيها فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها على كل حال ، ولا قوة إلا بالله ».

الله اكبر نشيد من أناشيد السماء يرتله المؤمنون على هذه الأرض المباركة فينعش قلوبهم المفعمة بالإيمان ويحرك فيها الصلة بالله تعالى.

بهذا النشيد الرباني تحطمت عروش السلاطين الظالمين وزالت دول الجبارين الفاسدين إلى غير رجعة.

بهذا النشيد السماوي نشط المجاهدون الأبطال وأحرزوا الانتصارات الباهرة ، وفتحوا الفتوحات الزاهرة ، وأرشدوا الناس إلى الحياة الحرة الكريمة.

( أشهد أن لا إله إلا الله ) شهادة وجدانية تتجسد في رفض كل الآلهة

__________________

(1) البقرة ، الآية 264.

٢٤٢

البشرية ما عدا الله الواحد الأحد وله الحكم والمحيي والمميت.

وأشهد أن محمدا رسول الله : شهادة إقرار أن محمدا رسول من الله المبلغ لكلامه المتلقي منه الوحي والبيان. إنه المبلغ عن الله أحكامه ولا يجوز التوجه إليه عن الطرق الأخرى المخالفة له.

حي على الصلاة : الصلاة التي ترفع بالمصلي إلى أرقى درجات الكمال والفضيلة ، وهي التي تنهي عن الفحشاء والمنكر وتبني الإنسان ليعيش عزيزا كريما عظيما.

حي على الفلاح : يريد الله لعباده المؤمنين أن يتسلموا مقاليد الحياة ويقودوا العالم نحو الخير والصلاح.

حي على خير العمل : تجعل المسلم يتفاعل مع أحكام الله وتشد عزيمته إلى المسيرة الحياتية الكريمة.

والرافع لهذا النشيد السماوي هو المؤذن المذكر بالله تعالى والمحرك لهذا الإنسان نحو الصلاة فحق له أن يشكر ويحسن إليه هذه هي وصية الإمام (ع) إلى المسلمين ليحسنوا إلى الذي يعلمهم بدخول وقت الصلاة وهي من أهم الفرائض الدينية في الإسلام.

29 ـ حق إمام الجماعة :

« وأما حق إمامك في صلاتك فأن تعلم أنه تقلد السفارة في ما بينك وبين الله ، والوفادة إلى ربك ، وتكلم عنك ولم تتكلم عنه ، ودعا لك ولم تدع له ، وطلب فيك ولم تطلب فيه ، وكفاك هم المقام بين يدي الله ، والمسألة له فيك ، ولم تكفه ذلك ، فإن كان في شيء من ذلك تقصير كان به دونك ، وإن كان آثما لم تكن شريكه فيه ، ولم يكن لك عليه فضل ، فوقى نفسك بنفسه ، ووقى صلاتك بصلاته فتشكر له على ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ».

٢٤٣

صلاة الجماعة فيها أجر كبير وسر دقيق وبالخصوص إذا كانت خلف إمام اكتملت فيه شروط الإمامة.

وصلاة الجماعة لها دلائل عدة منها : المساواة بين المسلمين فلا يفضل شخص على آخر مهما كان مركزه وظروفه ، فمن سبق إلى المكان يكون أحق به.

وتدل أيضا على وحدة المسلمين في الكلمة والموقف ، فالجميع ينضمون تحت لواء التوحيد لله والطاعة لرسول الله (ص) كما أنها تدل على حسن النظام في الإسلام ، فالصفوف كلها خلف إمام واحد ينوب عنهم في قراءة الفاتحة والسورة ويبلغ مرادهم. والجميع يثقون بعدالته وتقواه والتزامه بمنهج الإسلام.

ولإمام الجماعة فضل كبير على المؤتمين به ، وذلك لما يترتب من الثواب الجزيل على الجماعة. وقد تضافرت الأخبار باستحباب صلاة الجماعة وأنه كلما ازداد عدد المصلين جماعة ازداد ثوابهم وتضاعف أجرهم. ومن المعلوم أن ما يظفر به المأموم من الثواب الجزيل إنما هو بسبب إمام الجماعة الذي تقلد السفارة في ما بين المأموم وبين الله تعالى فهو مندوب عن المصلين يحمل أفكارهم ومشاعرهم بين يدي الله يخاطبه عنهم. وبذلك فقد تحمل الإمام عنهم أعباء القراءة في حين أن المأموم لم ينب عنه بشيء. ولهذه الجهة وغيرها فحق له الشكر وهذا ما أشار إليه الإمام زين العابدين (ع) في رسالته الكريمة هذه ذلك إن قصّر أثم هو دونك ولحقته جريرة ذنبه دونك فبصلاته وقى صلاتك وبنفسه وقى نفسك من النار فهو المسؤول والمحاسب عنك فحق له الشكر والثناء.

30 ـ حق الجليس :

« وأما حق الجليس فأن تلين له كنفك وتطيب له جانبك وتنصفه في مجاراة اللفظ ولا تغرقه في نزع اللحظ إذ لحظت وتقصد في اللفظ إلى

٢٤٤

إفهامه إذا نطقت ، وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار ، وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ، ولا تقوم إلا بإذنه ولا قوة إلا بالله ».

راعى الإسلام جميع الآداب الاجتماعية ومنها أدب المجالس فمن أدب الجالسين أن يفسحوا للقادم إليهم مهما كان ضيق المكان ليشعروه بالتقدير والاحترام عملا بقول الله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) (1) .

ومن أدب الداخل إلى المجلس أن يجلس حيث يجد فراغا ملائما طبقا لقول الرسول (ص) : « إجلس حيث انتهى بك المجلس » ومن أدب الجالسين بعضهم مع بعض أن يشعروا أنفسهم باحترام بعضهم البعض فلا يتكلم أحدهم بخشن الكلام أو وهو غير ملتفت إلى مخاطبه أو بعبارات نابية. لأن المجالس في الإسلام لها آدابها واحترامها ، والإمام زين العابدين يتحفنا من هذه الآداب بما يلي :

1 ـ أن يلين الجليس جانبه لجليسه ولا يتلفظ بكلام فيه غلظة وشدة تنفر منها الطباع.

2 ـ أن يطيب له جانبه وذلك بتقديره وتكريمه.

3 ـ أن ينصفه إذا خاض معه الحديث ولا يظهر الاستعلاء عليه.

4 ـ أن لا يبالغ كثيرا في أمره.

5 ـ أن يقتصد بإفهامه عندما يوجه إليه الكلام.

6 ـ إذا جاء قبله فعليه الاستئذان منه إذا أراد القيام وإذا جاء بعده فهو بالخيار في المقام. قال الإمام (ع) : « وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ولا تقوم إلا بإذنه ».

ما نلفت إليه أن هذه الآداب لو طبقها المسلمون على واقع حياتهم

__________________

(1) المجادلة ، الآية 11.

٢٤٥

لسادت المحبة والوئام في ما بينهم وزالت الحزازات التي تفرق بينهم وتباعد بين جماعاتهم.

31 ـ حق الجار :

« وأما حق الجار فحفظه غائبا ، وكرامته شاهدا ، ونصرته ومعونته في الحالين جميعا ، لا تتبع له عورة ، ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها ، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولا تكلف ، كنت لما علمت حصنا حصينا ، وسترا ستيرا ، لو بحثت الألسنة عنه لم تتصل إليه لانطوائه عليك. لا تستمع إليه من حيث لا يعلم ، لا تسلمه عند شديدة ، ولا تحسده عند نعمة. تقيل عثرته وتغفر زلته ، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلما له ، ترد عنه الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ».

اهتم الإسلام بالجار اهتماما بالغا وجعل له حقوقا كثيرة تنطلق من حب التعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان. والله تعالى أوصى بالإحسان إلى الجار. قال تعالى :( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ ) (1) .

وقد تضافرت الأخبار عن أئمة الهدى (ع) بالوصاية والعناية في أمور الجار وذلك لإيجاد التضامن الاجتماعي بين المسلمين. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) : « وأوصانا رسول الله (ص) بالجار حتى ظننا أنه سيورثه » وحتى لو كان الجار كافرا فرض له الإسلام حقوقا. قال رسول الله (ص) : الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد.

فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام.

__________________

(1) النساء ، الآية 36.

٢٤٦

والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار.

والجار الذي له حق واحد ، الكافر له حق الجوار.

ولهذا يتوجه الإمام زين العابدين (ع) في رسالته ليلقي الأضواء الكاشفة على حقوق الجار. وهي :

1 ـ أن يحفظ الجار جاره في حال غيابه ، فلا يستغل غيابه للنيل منه والاعتداء على كرامته.

2 ـ أن يكرمه في حال حضوره وينصره ويعينه في حال غيابه.

3 ـ أن لا يتتبع أي عورة أو منقصة له ولا يبحث له عن سوءة وعليه أن يحفظ له حريمه ومعايبه وإن عرف بشيء من ذلك ستره ضمن أسراره.

4 ـ أن لا يستمع لحديثه اختيارا بدون علمه ولا يجوز له أن يسترق السمع ليأخذ منه ما لا يرضى ، لأن الإسلام يريد من الجار أن يمتنع عن كل ما يعكر صفو الود والوفاق ويلقي المسلم مع المسلم بقلب طاهر ووجه باسم دون أن يكون هناك أي حذر يسيء الظن. لأن ذلك يفرق بين الناس والإسلام يدعو إلى الإلفة والتضامن ورص الصفوف.

5 ـ ومن حق الجار أن لا يسلم جاره عندما تنزل به شدة أو تلم به مصيبة بل عليه أن يعينه بنفسه وما له وما ملكت يداه وإذا حصلت له نعمة فليفرح معه ولا يحسده عليها.

6 ـ الحلم عنه إذا بدرت منه بادرة سوء ، وعدم مقابلته بالمثل.

7 ـ صد من يشتمه أو يذكره بسوء.

8 ـ يعيش معه بترفع وإباء فيصفح عنه إذا زل أو أخطأ ويحلم عليه حتى يرجع إلى رشده ، ولا يصدق أية وشاية أو كلمة سوء ممن يريد أن يلقي بينهما العداوة والبغضاء.

لقد دعانا الإمام زين العابدين لنتمسك بتعاليم الدين الإسلامي

٢٤٧

العظيم وشريعته الكريمة حيث لا نجد دعوة في العالم تتبنى ما تبناه الإسلام في حق الجار ولا نظن أن هناك شريعة أعطت للجار من الحقوق ما أعطاه الإسلام.

32 ـ حق الصاحب :

« وأما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلا وإلا فلا أقل من الإنصاف ، وأن تكرمه كما يكرمك ، وتحفظه كما يحفظك ، ولا يسبقك في ما بينك وبينه إلى مكرمة ، فإن سبقك كافأته ، ولا تقصر به عما يستحق من المودة تلزم نفسك نصيحته وحياطته ، ومعاضدته على طاعة ربه ومعونته على نفسه في ما لا يهم به من معصية ربه ثم تكون عليه رحمة ، ولا تكون عليه عذابا ، ولا قوة إلا بالله ».

ليست الصحبة في الإسلام تعارفا عابرا وجانبيا بل لها حقوقها التي يجب مراعاتها على كل صاحب تجاه صاحبه. فالصاحب يكتسب من صاحبه عاداته وأخلاقه ، وتقاليده وأفكاره ، وكما قال المثل : قل لي من تعاشر أقل لك من أنت.

وقد أمر الإسلام باختيار الأصحاب الذين يقربونه من الله ويعينونه عند الضيق. وعلى الإنسان أن يتمهل في اتخاذ الصديق كما عليه أن يتمهل في تركه. قال أمير المؤمنين (ع) : « لا تصحب إلا عاقلا تقيا ولا تخالط إلا عالما زكيا ولا تودع سرك إلا مؤمنا وفيا ».

وقد حدد الإمام زين العابدين حقوق الصاحب على صاحبه وهي :

1 ـ أن تكون المصاحبة على الفضل والمعروف وليس لغايات خاصة.

2 ـ أن يحفظ كل منهما صاحبه في حضوره وفي غيابه.

3 ـ أن تقوم المصاحبة على المودة الصادقة والإخاء الصافي والمحبة الخالصة.

٢٤٨

4 ـ أن يقدم كل صاحب لصاحبه النصيحة ولا يقصر به عما يستحق من المساعدة.

5 ـ أن يعضد كل منهما صاحبه على طاعة الله تعالى والتجنب عن معاصيه فيعينه في دنياه وفي آخرته.

6 ـ أن تكون الصداقة نعمة ورحمة فلا يغير على صاحبك سلطة تسلمها أو مال حصل عليه.

33 ـ حق الشريك :

« أما حق الشريك فإن غاب كفيته ، وإن حضر ساويته ، ولا تعزم على حكمك دون حكمه ، ولا تعمل برأيك دون مناظرته ، وتحفظ عليه ماله ، وتنفي عنه خيانته في ما عز وهان فإنه بلغنا إن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا ، ولا قوة إلا بالله ».

لقد أباح الإسلام الشركة في العقود وعمل بها المسلمون وقد حدد الفقهاء شروطها وذكروا موانعها.

واختيار الشريك أمر هام ذلك أن العاقل يعرف كيف يختار الشريك الأمين التقي ، الورع الذي يخاف الله فإذا كان الشريك بهذه المواصفات من الأمانة والعفة والنزاهة عندئذ يأتي دور التربية الإسلامية التي تنبه الشريك كيف يجب أن يعامل شريكه. والإمام زين العابدين (ع) تحدث عن صفات الشريك وواجباته تجاه الشريك الآخر منها :

1 ـ إذا غاب عليه أن يكفيه في عمله وينوب عنه في أداء حقه وإذا حضر معه عليه أن يساويه بنفسه فلا يتميز عنه.

2 ـ فلا يمضي رأيا دون رأيه ولا ينفذ ما يريده دون علمه ، بل عليه مشاورته وأخذ رأيه فيما يقدم عليه من عمل يكون مشتركا بينهما حتى يتحمل مسؤولية كاملة نحو ما له.

٢٤٩

3 ـ على الشريك أن ينفي تهمة الخيانة عن شريكه فلا يتهمه بعد أن كان مصدر ثقة ولا يتصرف إلا ضمن موازين الشرع والحق. ذلك أن نفي الخيانة هي مرحلة مهمة للود والصفاء بين الشركاء. فالثقة أهم شرط في دوام الشركة ، وما نجده من الاختلاف بين الشركاء إنما كان في أكثر الأحيان نتيجة عدم التكافؤ بين الشريكين ، ففي حين يكون أحدهما مؤمنا يكون الآخر مستهترا أو فاسقا ، أو أنه مستبد برأيه فلا يعطي لشريكه الفرصة للتعبير عن رأيه. ولو عمل الشركاء بنصائح الإمام زين العابدين (ع) لما وقع الخلاف بينهم ولنجحوا في شركتهم وحققوا هدفهم.

34 ـ حق المال :

« وأما حق المال فأن لا تأخذه إلا من حله ، ولا تنفقه إلا في حله ، ولا تحرفه عن مواضعه ، ولا تصرفه عن حقائقه ، ولا تجعله إذا كان من الله إلا إليه ، وسببا إلى الله ، ولا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك ، وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركتك ولا يعمل فيه بطاعة ربك ، فتكون معينا له على ذلك ، وبما أحدث في مالك ، أحسن نظرا لنفسه فيعمل بطاعة ربه فيذهب بالغنيمة ، وتبوء بالإثم والحسرة والندامة مع التبعة ، ولا قوة إلا بالله ».

لا يخفى ما للمال من دور هام في ترفيه الإنسان وسعادته. هو وسيلة لقضاء حاجات الإنسان وليس هدفا مقصودا بذاته والإسلام لا يدعو الناس إلى الابتعاد عن لذات الحياة ولا يحارب المال ، فالله جعله والبنين زينة حياة الإنسان.( الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا. )

كما أنه يكره الفقر والمسكنة ويجعل اليد العليا خير من اليد السفلى التي تمتد لتأخذ. لكن المال سلاح ذو حدين ويعود نفعه أو ضرره لجهة استعماله. فصاحبه يمكن أن يسعد به ويمد الإنسانية بأروع المشاريع ، كما يمكنه أن يحول هذا المال إلى سيف قاطع يحول سعادة الإنسان إلى شقاء

٢٥٠

ودمار. وما نراه اليوم من أكثر المتمولين الذين أمدهم الله بالمال ، يحولون هذا المال إلى معصية الله ، حيث يستعملونه في سائر المحرمات كالخمر والقمار والربا وحفلات اللهو وغير ذلك من الأعمال المنكرة التي مجها الإسلام وعاقب عليها.

والإسلام يشجع على إنفاق المال في سبيل الله ، فيصرف على الفقراء والمحتاجين ويتصدق به على المعوزين من أخواننا المسلمين وغير المسلمين. وذلك عملا بقول الله عز وجل :( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) (1) .

والذي ينفق المال بهذه الطريقة في سبيل الله لا منا ولا أذى يكسب رضا الله وتعود الفائدة عليه. قال تعالى :( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) (2) .

ولا يخفى أن صلة الناس بالمال والتصدق عليهم من أبرز مصاديق الإحسان الذي يتبرع به الإنسان على الفقراء ، من هنا سأل سائل الإمام الصادقعليه‌السلام فقال : إنا لنحب الدنيا ونحب أن نؤتاها.

فقال الإمام (ع) : تصنع بها ماذا؟

قال : أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأحج وأعتمر.

قال الإمام : ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة ..

فإن صلة الناس بالمال والتصدق عليهم أبرز مصاديق الإحسان المحض الذي يتبرع به الإنسان على الفقراء والمحتاجين.

والإسلام يريد أن يكون المال الذي يجنيه الإنسان من الطرق الشرعية

__________________

(1) البقرة ، الآية 262.

(2) البقرة ، الآية 272.

٢٥١

المحللة ، لذلك وضع طرقا لاكتساب المال إذا تجاوزها الإنسان لم يكن المال شرعيا. من هنا يوضح الإمام زين العابدين (ع) حيث يقول : ( وأما حق هذا المال فأن لا تأخذه إلا من حله ) ينفق في الوسائل المحللة والمشاريع الخيرية التي يثاب عليها كإنشاء المستشفيات ومعاهد التعليم وتأسيس المكتبات العامة وما شابه ذلك من المشاريع التي تفيد كافة الناس.

أما إذا جمعه صاحبه وادخره لورثته ، فإن أنفقوه في طاعة الله فقد كسبوا رضى الله دونه وذهبوا بالغنيمة وإن أنفقوه في معصية الله فإثمه عليه لإعانته إياهم على المعاصي والحرام ، وباء هو بالحسرة والخسران.

من هنا قال الإمام زين العابدين (ع) : « ولا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركك ولا يعمل فيه بطاعة ربك فتكون معينا له على ذلك »(1) .

35 ـ حق الغريم :

« وأما حق الغريم المطالب لك فإن كنت موسرا أوفيته وكفيته ، ولم ترده ، وتمطله ، فإن رسول الله (ص) قال : « مطل الغني ظلم » وإن كنت معسرا أرضيته بحسن القول ، وطلبت منه طلبا جميلا ، ورددته عن نفسك ردا لطيفا ، ولم تجمع عليه ذهاب ما له ، وسوء معاملته ، فإن ذلك لؤم ، ولا قوة إلا بالله ».

جاء الإسلام ونظم كل ما يحتاجه الإنسان في حياته الدنيا تنظيما شاملا ليكون جسر عبور سليم له إلى الآخرة. هذا التنظيم شمل جميع المعاملات واستوعب جميع ما يجري في الحياة من أبواب التجارة كالبيع والشراء ، وأبواب الزراعة والجعالة ، وأبواب الإجارة والسبق والرماية ،

__________________

(1) راجع نهج البلاغة لأمير المؤمنين هناك بحث عن المال في طرق كسبه وطرق إنفاقه.

٢٥٢

وأبواب الشركة والمضاربة والوديعة ، إلى آخر أبواب المعاملات.

هذه المعاملات نظمها الإسلام حسب الأصول هادفا منها تمتين العلاقات بين المسلمين وتوثيق الروابط الاجتماعية من هذه المعاملات كان القرض وهو من الأمور المستحبة التي نادى بها الإسلام بعد أن حرم الربا وكل ما يسلب الفقير ماله. والقرض قربة إلى الله تعالى يوطد الصلة بين الأخوة ويزرع المحبة في قلوبهم لأنه يفك أسر المحتاج وينقذه من ضيق يضنيه ويغنيه عن أرباب المال المستغلين. والقارض أعطى للمستقرض فرصة واسعة حتى يؤدي دينه فلم يحصره بأجل معين أو يضغط عليه في الوفاء. بل عليه أن يرد المعروف لصاحبه ولا يسوف في الأداء. أما إذا لم يتوفر مال القرض فعلى أربابه أن يراعوا أحوال المستقرض حتى تتيسر الأمور. قال تعالى :( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (1) .

وقد أشار الإمام زين العابدين أن على المستدين أن يتلطف إلى أرباب المال ويقابلهم بالكلمة الطيبة ويردهم ردا جميلا ( فإن كنت موسرا أوفيته وكفيته ولم ترده وتمطله ) ثم يتابع الوجه الآخر : ( وإن كنت معسرا أرضيته بحسن القول ) إن لم ترضه بأداء الدين. وإذا لم يسلك الدائن هذا السبيل فإن ذلك لؤم.

36 ـ حق الخليط :

« وأما حق الخليط فأن لا تغره ولا تغشه ولا تكذبه ولا تغفله ولا تخدعه ولا تعمل في انتقاصه عمل العدو الذي لا يبقى على صاحبه وإن اطمأن إليك استقصيت على نفسك وعلمت أن غبن المسترسل ربا ، ولا قوة إلا بالله ».

الخليط كالشريك والجليس وليس عابر سبيل فعليك أن تحافظ عليه

__________________

(1) البقرة ، الآية 280.

٢٥٣

ولا تغشه عملا بقول الرسول الأعظم « من غشنا فليس منا » فالغش لعامة الناس أمر سيء ومرذول فكيف به للخليط كما لا يجوز لك تكذيبه لأن ذلك يعد من الطعن فيه وعدم الثقة. ومن شروط المخالطة أن يكون الخليط قوي الإيمان ، صادق اللهجة محبا للحق ملتزما بأوامر الله تعالى ؛ وإلا كان الخليط منحرفا عن الحق سيئا لا يقيم وزنا لدين أو إيمان ، فالبعد عنه خير من الاقتران به ، لأن من يكون مسلكه كذلك فإنه يضل صاحبه ويحرفه عن جادة الاستقامة والقرآن الكريم للذين يتخذون خليلا غير صالح. قال تعالى :( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً ) (1) .

والإمام زين العابدين (ع) يحذرنا من اتخاذ المغفل والمخادع خليلا ويطلب إلينا أن لا نعيبه ولا ننقصه لأن ذلك ليس من فعل الخلطاء بل هو من فعل الأعداء ، لأن العدو هو الذي يتحين الفرص للنيل من عدوه.

37 ـ حق الخصم :

« وأما حق الخصم المدعي عليك فإن كان ما يدعيه عليك حقا لم تتفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود فإن ذلك حق الله عليك وإن كان ما يدعيه باطلا رفقت به وردعته وناشدته بدينه وكسرت حدته عنك بذكر الله وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك بل تبوء بإثمه وبه يشحد عليك سيف عداوته لأن لفظة السوء تبعث الشر والخير مقمعة للشر ولا حول ولا قوة إلا بالله ».

النظم الإسلامية من أرقى ما جاءت به الشرائع في العالم فأين هي

__________________

(1) الفرقان ، الآية 27.

٢٥٤

القوانين الوضعية المنحرفة من القوانين الإلهية المنزهة؟ وقد تعرّض الأئمة الصالحين والفقهاء العالمين للقضاء فحللوا مسائله وحددوا مواصفات القاضي وآدابه وبينوا المنهج الذي يكون عليه القضاء. والإمام زين العابدين يريد في رسالته هذه أن يدخل إلى أعماق النفس ليحررها من الشذوذ ويعود بها إلى طاعة الله ورسوله. فيذكر الإنسان الذي أقيمت عليه الدعوة. فإن كانت صادقة من صاحبها فعليه أن لا يبطلها ويبطل الحق الذي تعلق بها ، فيرده إلى أهله. كما عليه أن يحاسب نفسه في هذا الموقع فيخاصمها إن جنحت به عن الحق فيحكم بالحق دون أن ينظر إلى الشهداء كي يدلوا بشهاداتهم عليه ، لأن ذلك هو حق الله ولا يجوز للمسلم أن ينقض حقا من حقوق الله. أما إذا أراد أن يأخذ أموال الناس بالباطل من خلال فصاحة لسانه فإنه سيحاسب على فعله الشنيع ويعاقب على تصرفه الضال. ذلك أن كل حق يأخذه من الناس في غير موضعه إنما هو قطعة من النار تحرقه يوم القيامة. إن من يأكل أموال الناس بالباطل إنما يجني على نفسه لأنه سوف يقف أمام حاكم عادل لا يحتاج إلى بينة أو شهود ، لأنه يعلم ما في السرائر وما تكنه الصدور أما إذا كانت الدعوى الموجهة ضدك باطلة فالإسلام يأمر أن يرده بالرفق والموعظة الحسنة التي ترده إلى دينه وتحرك فيه إيمانه الذي يربطه بخالقه ، ولا يجب أن نستعمل اللغط واللجاج لأن ذلك لا ينفع ولا يقطع الدعوى من مجاريها بل ربما يجني على الشريف الشر والغم.

38 ـ حق المدعى عليه :

« وأما حق الخصم المدعى عليه ، فإن كان ما تدعيه حقا أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى ، فإن للدعوى غلظة في سمع المدعى عليه ، وقصدت قصد حجتك بالرفق وأمهل المهلة وأبين البيان وألطف اللطف ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال فتذهب عنك حجتك ولا يكون لك في ذلك درك ، ولا قوة إلا بالله ».

٢٥٥

لقد شدد الإسلام على منع الترافع إلى الظلمة الذين انحرفوا عن العدل والحق وسلكوا طرقا فاسدة يتبرأ منها الدين. وعن الإمام الصادق (ع) قال : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه حكما بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه ».

والإمام زين العابدين (ع) يعطينا درسا مفيدا في كيفية الترافع وكيف نقدم حجتنا. فإذا كان المدعي على حق في دعواه ، فأوصاه أن يتجنب الكلمات النابية مع خصمه ، بل يقابله بالبيان الواضح والحجة الظاهرة والكلمة الطيبة ، كما عليه تجنب القيل والقال لأنهما لا يجديان شيئا ، ولا يرجعان حقا بل ربما يذهب ذلك بالحق ويضيع ويخرج عن الهدف الرئيسي الذي من أجله كانت الدعوة.

39 ـ حق المستشير :

« وأما حق المستشير فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة وأشرت عليه بما تعلم أنك لو كنت مكانه عملت به وذلك ليكن منك في رحمة ولين فإن اللين يؤنس الوحشة وإن الغلظ يوحش موضع الأنس. وإن لم يحضرك له رأي ، وعرفت له من يثق برأيه ، وترضى به لنفسك دللته عليه ، وأرشدته إليه فكنت لم تأله(1) خيرا ولم تدخره نصحا ولا حول ولا قوة إلا بالله ».

ورد عن النبي (ص) وعن الأئمة المعصومين الحث على الاستشارة وعدم الاستقلالية في الرأي. فعلى المستشير أن يقف على عقول الآخرين ليدرك وجوه الحسن والقبح فيها.

ورد عن النبي (ص) : « ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ».

__________________

(1) لم تأله : أي لم تقصر.

٢٥٦

وقال الإمام علي بن أبي طالب (ع) : « من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها ».

فالاستشارة يجب أن تكون من رجل اجتمعت فيه شروط أهلته لذلك أولها وأهمها : العقل ، يعقل الأمور ويحلها بروية بعيدا عن الميل والهوى.

والشرط الثاني : الالتزام الديني ، أن يكون ملتزما إسلاميا ، ورعا تقيا حتى لا يقوده انحرافه إلى مخالفة الحق والصواب.

والشرط الثالث : المعرفة والخبرة.

فإذا اجتمعت فيه هذه الشروط حق له أن يستشار وحق للناس أن يسمعوا له. أما إذا فقدت هذه الشروط فإن الاستشارة قد تسبب الضرر.

والإمام زين العابدين (ع) يطلب من المستشير على المشير أن يؤدي نصيحته له بلطف ولين لا شدة فيه ، لأن الشدة تنفر منها الطباع وتستوحش منها القلوب ، وإن عرف من يثق برأيه فليدله عليه ، ويرشده له وبهذا يكون قد أدى واجبه اتجاهه وأسدى إليه خيرا ومعروفا.

40 ـ حق المشير :

« وأما حق المشير عليك فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه ، فأما تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة ولا تدع شكره على ما بدا لك من أشخاص رأيه وحسن وجه مشورته ، فإذا وافقك حمدت الله ، وقبلت ذلك من أخيك بالشكر ، والإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك ، ولا قوة إلا بالله ».

من الآداب الإسلامية التي يعلمها الإسلام لاتباعه ، أدب المشاورة والوقوف على آراء الآخرين في القضايا التي يبغي حلها ، فالإسلام في الوقت الذي يجعل للإنسان الاستقلالية في الرأي والاعتداد بالنفس يأمره

٢٥٧

أن يقرن رأيه برأي غيره ثم يوازن بين كل هذه الآراء ليرى وجه الصواب.

والعاقل يختار أسلم الطرق وأنفعها وهذا ما يحصل عند الذين يملكون التجارب في الحياة والممارسة في حل مشاكل الناس عامة. أما حق المشير على المستشير فلا يتهمه في رأيه ولا يزهد في نصيحته وإذا اتهمه في رأيه فإنه غير ملزم بالأخذ به وإذا تطابق الرأيان فيجب أن يحمد الله ويقبل رأيه مقرونا بالشكر ، كما عليه أن يرد هذا الموقف بموقف مماثل له فتشير عليه إذا فزع إليك.

41 ـ حق المستنصح :

« وأما حق المستنصح فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترى له أنه يحمل ، ويخرج المخرج الذي يلين على مسامعه ، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله ، فإن لكل عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجتنبه ، وليكن مذهبك الرحمة ، ولا قوة إلا بالله ».

يريد الإمام زين العابدين أن يعطي درسا للمستنصح كيف يكون الأسلوب الذي تصاغ به النصيحة؟ وكيف يكون الحديث؟ فيطلب إلينا أن نقابل المستنصح بمر الحق والصراحة القاسية إذا لزم الأمر ولا نسايره بما يتفق مع حاجاته ورغباته وكل شخص وله أسلوبه الذي يجب أن نتعامل معه ، فالعالم له أسلوبه الخاص به والجاهل له أسلوبه والعامل له أسلوبه والأمي له أسلوبه والأستاذ له أسلوبه والتلميذ له أسلوبه فكل واحد من هؤلاء له خطابه الخاص يخاطب به.

ثم إن من حق طالب النصيحة أن تؤدى إليه بما يستطيع حمله وتقبله. وكما قال الرسول الأعظم : خاطبوا الناس على قدر عقولهم.

والنصيحة يجب أن تقدم بأسلوب مرن وسلس لئلا يشق على المستنصح ذلك فيرفض النصيحة. وكم من نصيحة رفضت لأنها لم تستوف شروطها الموضوعية وكم من رجل صالح مخلص أصيب بخيبة أمل في رد النصائح

٢٥٨

التي أسدى بها إلى الآخرين وذلك لقساوته وعدم دراسته لحالة الطرف الآخر فتذهب عندها نصيحته أدراج الرياح.

42 ـ حق الناصح :

« وأما حق الناصح فأن تلين له جناحك ، ثم تشرئب له قلبك(1) ، وتفتح له سمعك ، حتى تفهم عنه نصيحته ، ثم تنظر فيها ، فإن وفق فيها للصواب حمدت الله على ذلك وقبلت منه ، وعرفت له نصيحته ، وإن لم يكن وفق لها فيها رحمته ، ولم تتهمه ، وعلمت أنه لم يألك نصحا إلا أنه أخطأ إلا أن يكون عندك مستحقا للتهمة ، فلا تعبأ بشيء من أمره على كل حال. ولا قوة إلا بالله ».

الناصح هو إنسان حكيم صقلت فكره التجارب وأكسبته الأيام خبرة واسعة أما لتجربة قام بها بنفسه أو لخبرة اكتسبها من ناصحين مخلصين.

فمن حقه على السامع أن يصغي إليه لأنه يحمل له الإخلاص ويلقنه لباب الود الذي فيه نجابة. ومن حق الناصح أيضا على المستنصح أن يكون معه لين الجانب متواضعا ، فيتوجه إليه بقلب متفتح يستمع الحديث ويحلله بوعي ودقة فلا يحوج الناصح إلى الإعادة والتكرار. وبعد الاستماع الجيد بالسمع والقلب ينظر فيما يعرض عليه من النصيحة فيقومها بإمعان ويحللها بموضوعية ، فإن رأى وجه الصواب قد اكتمل فيه معالم الصحة فذلك توفيق من الله تعالى ، يجب أن يحمده عليه ويقبله منه ثم يقبل النصيحة ويحفظها.

وأما إذا عرضها على نفسه وحللها ولم يجدها موافقة للصواب فإن كان ممن يتهم عنه أما لدينه أو أمانته وإخلاصه له فيجب عندها أن يرحمه ويستر عليه ، ذلك أنه لم يقصر اتجاهك وإنما قد أخطأ عن غير عمد ففسر

__________________

(1) الأصح : بقلبك.

٢٥٩

الأمر تفسيرا مخالفا للواقع.

أما إذا كان متهما عندك لأنه لم يستقص كل جوانب الموضوع أو أنه لا يريد لك الخير والفلاح فعليك أن تهمله ولا تعبأ بشيء من أمره بل تكله إلى الله فهو الذي يتولى الحساب.

43 ـ حق الكبير :

« وأما حق الكبير فإن حقه توقير سنه ، وإجلال إسلامه. إذا كان من أهل الفضل في الإسلام بتقديمه فيه ، وترك مقابلته عند الخصام ولا تسبقه إلى طريق ، ولا تؤمه في طريق(1) ولا تستجهله ، وإن جهل عليك تحملت وأكرمته بحق إسلامه مع سنه ، فإنما هي حق السن بقدر الإسلام ، ولا قوة إلا بالله ».

لقد سن الإسلام آدابا اجتماعية رائعة لا تقاس ولا من أي وجه بالآداب التي أفرزتها الحضارة المادية. وذلك من أجل بناء مجتمع أصيل تسود فيه المحبة والاحترام والتقدير فاحترام الشيخ الكبير واجب احترامه إذا كان من أهل الفضل والسابقة في الإسلام. أما مظاهر تكريمه فقد عرضها علينا الإمامعليه‌السلام وهي :

1 ـ ترك مقابلته عند الخصام وفي المسائل التي توجب الجدل.

2 ـ إذا سار معه في طريق فلا يسبقه أو يتقدم عليه.

3 ـ إذا خفي على الشيخ بعض المسائل فلا يظهر جهله فيها.

4 ـ وإذا اعتدى عليه الشيخ فليتحمله ويكرمه من أجل إسلامه وكبر سنه.

هذه الآداب التي دعا إليها الإسلام ونفذها أئمة الهدى (ع) توطد

__________________

(1) لا تؤمه في طريق : أي لا تتقدمه.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274