• البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30679 / تحميل: 6535
الحجم الحجم الحجم
الإمام السجاد جهاد وأمجاد

الإمام السجاد جهاد وأمجاد

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم عدم الوثوق بوعده ووعيده ؛ لأنّه لو جاز منه فعل القبيح لجاز منه الكذب ، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه ، بل ولا ظنّ به ؛ لأنّه لمّا وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم ، كيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد؟! وتنتفي حينئذ فائدة التكليف ، وهو الحذر من العقاب ، والطمع في الثواب.

ومن يجوّز لنفسه أن يقلّد من يعتقد جواز الكذب على الله تعالى ، وأنّه لا جزم بالبعث والنشور ، ولا بالحساب ولا بالثواب ولا بالعقاب؟! وهل هذا إلّا خروج عن الملّة الإسلامية؟!

فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء ، ولا يعتذر بأنّي ما عرفت مذهبهم ، فهذا عين مذهبهم وصريح مقالتهم ، نعوذ بالله منها ومن أمثالها.

ومنها : إنّه يستلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق ، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة ، والعمل بمقتضى العقل ، بل كلّما ازداد المطيع في طاعته وزهده ورفضه للأمور الدنيوية ، والإقبال على الله تعالى بالكلّيّة ، والانقياد إلى امتثال أوامره واجتناب مناهيه ، نسب إلى زيادة الجهل والحمق والسفه! وكلّما ازداد العاصي في عصيانه ، ولجّ في غيّه وطغيانه ، وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرّمة ، واستعمال الملاذّ المزجور عنها

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٧.

٢١

بالشرع ، نسب إلى العقل والأخذ بالحزم

لأنّ الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه تعالى جاز أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي ، فيتعجّل المطيع بالتعب ولا تفيده طاعته إلّا الخسران ، حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد والعقاب المؤبّد ، وجاز أن يثيب العاصي فيحصل بالربح في الدارين ، ويتخلّص من المشقّة في المنزلتين!

ومنها : إنّه تعالى كلّف المحال ؛ لأنّ الآثار كلّها مستندة إليه تعالى ، ولا تأثير لقدرة العبد ألبتّة ، فجميع الأفعال غير مقدورة للعبد ، وقد كلّف ببعضها فيكون قد كلّف ما لا يطاق.

وجوّزوا بهذا الاعتبار ، وباعتبار وقوع القبيح منه تعالى ، أن يكلّف الله تعالى العبد أن يخلق مثله تعالى ومثل نفسه ، وأن يعيد الموتى في الدنيا كآدم ونوح وغيرهما ، وأن يبلع جبل أبي قبيس(١) دفعة ، ويشرب ماء دجلة في جرعة ، وأنّه متى لم يفعل ذلك عذّبه بأنواع العذاب.

فلينظر العاقل في نفسه : هل يجوز له أن ينسب ربّه تعالى وتقدّس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟! وهل ينسب ظالم منّا إلى مثل هذا الظلم؟! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ومنها : إنّه يلزم منه عدم العلم بنبوّة أحد من الأنبياءعليهم‌السلام ؛ لأنّ دليل

__________________

(١) جبل أبي قبيس : هو اسم الجبل المشرف على مكّة المكرّمة ، قيل : سمّي باسم رجل من مذحج كان يكنّى أبا قبيس ، وقيل : كنّاه النبيّ آدمعليه‌السلام بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس ، وكان في الجاهلية يسمّى « الأمين » لأنّ الحجر الأسود كان مستودعا فيه أيّام الطوفان.

انظر : معجم البلدان ١ / ١٠٣ رقم ١٥٩ ، مراصد الاطّلاع ٣ / ١٠٦٦ ، وانظر مادّة « قبس » في : لسان العرب ١١ / ١١ ، تاج العروس ٨ / ٤٠٥.

٢٢

النبوّة هو : أنّ الله تعالى فعل المعجزة عقيب الدعوة لأجل التصديق ، وكلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق ، فإذا صدر القبيح منه لم يتمّ الدليل.

أمّا الصغرى : فجاز أن يخلق المعجزة للإغواء والإضلال.

وأمّا الكبرى : فلجواز أن يصدّق المبطل في دعواه.

ومنها : إنّ القبائح لو صدرت عنه تعالى لوجبت الاستعاذة [ منه ] ؛ لأنّه حينئذ أضرّ [ على البشر ] من إبليس لعنه الله تعالى ، وكان الواجب ـ على قولهم ـ أن يقول المتعوّذ : أعوذ بالشيطان الرجيم من الله تعالى!

وهل يرضى العاقل لنفسه المصير إلى مقالة تؤدّي إلى التعوّذ من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وتخليص إبليس من اللعن والبعد والطرد؟!

نعوذ بالله من اعتقاد المبطلين ، والدخول في زمرة الضالّين ، ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر.

* * *

٢٣

وقال الفضل (١) :

قد عرفت في ما سبق مذهب الأشاعرة في عدم صدور القبيح من الله تعالى ، وأنّ إجماع الملّيّين منعقد على أنّه تعالى لا يفعل القبيح فكلّ ما أقامه من الدلائل قد ذكرنا أنّه إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، فإنّ المدّعى شيء واحد.

وهم يسندونه بالقبح العقلي.

والأشاعرة يسندونه إلى أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه(٢) .

ثمّ إنّ المعتزلة لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنّه يخلق القبائح من أفعال العباد ـ على رأي الأشاعرة ـ فهذا شيء يلزمهم ؛ لأنّ القبائح من الأشياء كما تكون في الأعراض كالأفعال ، تكون في الجواهر والذوات فالخنزير قبيح ، والعقرب والحيّة والحشرات قبائح ، وهم متّفقون أنّ الله يخلقهم.

فكلّ ما يلزم الأشاعرة يلزمهم في خلق القبائح الجوهريّة.

وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم ولا هو معتقدهم كما صرّحنا به مرارا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٠٣.

(٢) انظر الصفحة ٧ من هذا الجزء.

٢٤

وأقول :

قد سبق أنّ قول الأشاعرة بعدم صدور القبيح منه سبحانه ليس بمعنى أنّه لا يوجد القبائح ، بل بمعنى أنّه لا يقبح منه القبيح وإن صدر منه ، كالزنا ، والقيادة ، والكفر ، ونحوها!(١) .

وحينئذ فيرد عليهم كلّ ما ذكره المصنّف ، إذ ليس الإشكال ناشئا من تسمية ما يصدر عنه من القبيح قبيحا ، بل من جهة القول بصدوره عنه وإيجاده له.

فيكون استنادهم في دفع المحالات إلى أنّه لا قبيح منه ، تقريرا للزومها بعبارة ظاهرها مليح وباطنها قبيح.

وأمّا قوله : « وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم » إلى آخره

ففيه ما مرّ من أنّ فعل القبيح وخلقه بمعنى واحد ، وتعدّد الألفاظ لا أثر له ، فإنّ الإشكال ناشئ من قولهم بإيجاد الله سبحانه للقبائح ، ولا لتسميته خلقا لا فعلا(٢) .

على أنّه لا وجه لامتناعهم من نسبة الفعل إليه تعالى ، بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين في الأفعال.

وأمّا قوله : « فهذا شيء يلزمهم »

__________________

(١) انظر ج ٢ / ٣٣٢ من هذا الكتاب.

(٢) راجع الصفحة ٩ من هذا الجزء.

٢٥

فمردود بأنّ الخنزير والحشرات ليست قبائح حقيقة ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، بخلاف قبائح الأعمال فإنّها شرور ومفاسد في الكون.

نعم ، لمّا كان الخنزير والحشرات مؤذية ، أو لا تلائم الطباع ، سمّيت شرورا وقبائح عند من يخفى عليه وجه الحكمة في خلقها والمصالح الثابتة فيها ، وإلّا فالله أجلّ من أن يخلق القبيح ، تبارك الله أحسن الخالقين.

* * *

٢٦

إنّه تعالى يفعل لغرض وحكمة

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المطلب الرابع

في أنّ الله تعالى يفعل لغرض وحكمة

قالت الإمامية : إنّ الله تعالى إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ، ونفع يصل إليهم(٢) .

وقالت الأشاعرة : إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض ، ولا لمصلحة ترجع إلى العباد ، ولا لغاية من الغايات(٣) .

ولزمهم من ذلك محالات :

منها : أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا في فعله ، فإنّ العابث ليس إلّا الذي يفعل لا لغرض وحكمة بل مجّانا ، والله تعالى يقول :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٩.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالى ـ : ١١٥ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٩٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٢٧

وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (١) ( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) (٢) .

والفعل الذي لا لغرض للفاعل فيه باطل ولعب ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ١٦.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٩١.

٢٨

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض ، وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة(٢) .

ووافقهم على ذلك جماهير الحكماء وطوائف الإلهيّين.

وذهبت المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية إلى وجوب تعليلها(٣) .

ومن دلائل الأشاعرة : إنّه لو كان فعله تعالى لغرض ، من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ، لكان هو ناقصا لذاته ، مستكملا بتحصيل ذلك الغرض ؛ لأنّه لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه ؛ وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه ، لا يكون باعثا على الفعل ، وسببا لإقدامه عليه بالضرورة.

فكلّ ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه ، وهو معنى الكمال.

فإذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بدونه(٤) ، هذا هو الدليل.

وذكر هذا الرجل أنّه يلزم من هذا المذهب محالات :

منها : أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٢٤.

(٢) راجع ج ٢ / ٣٤٦ من هذا الكتاب.

(٣) المحيط بالتكليف : ٢٦٣ ، وانظر : ج ٢ / ٣٤٥ من هذا الكتاب.

(٤) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٢٩

والجواب الحقيقي : إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع ، وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، راجعة إلى مخلوقاته تعالى ، لكنّها ليست أسبابا باعثة على إقدامه ، وعللا مقتضية لفاعليّته ، فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله تعالى حتّى يلزم استكماله بها ، بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتّبة عليها ، فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله تعالى عبثا خاليا عن الفوائد.

وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى ، فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة(١) .

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٥.

٣٠

وأقول :

لم ينف الحكماء كلّي الغرض ، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال كما يدلّ عليه كلمات بعضهم(١) ، وهذا الدليل الذي ذكره الخصم وأخذه أتباعهم من ظواهر كلماتهم.

وقد أجاب الإمامية عن هذا الدليل بما قاله نصير الدينرحمه‌الله في التجريد : « ولا يلزم عوده إليه »(٢) .

يعني أنّ الغرض لا يلزم عوده إلى الله تعالى ، بل يجوز أن يعود إلى مصلحة العبد أو نظام الموجودات بما تقتضيه الحكمة.

وأشار إليه المصنّفرحمه‌الله بقوله : « إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ».

فقولهم في هذا الدليل : « لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه » ظاهر البطلان ، فإنّ الحكيم المحسن لا يحتاج في داعيه للفعل إلى أكثر من حصول المصلحة لعبده ، أو احتياج النظام إليه ، فيكون الغرض كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ؛ لأنّه يشهد بحكمته وإحسانه ، ولو فعل لا لغرض لكان ناقصا عابثا.

وقد قسّم الأشاعرة قسمة غير عادلة ، حيث اكتفوا لأنفسهم في مقام

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣ ، وقد مرّ ذلك في ج ٢ / ٣٤٧ ه‍ ١.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

٣١

أفعاله تعالى بمجرّد الإرادة بلا غرض أصلا ، ولم يكتفوا منّا بالغرض العائد إلى العبد أو النظام.

وقالوا : إنّ الاكتفاء به خلاف الضرورة كما سمعته في دليلهم(١) .

وما قيل : إنّ الغرض علّة لعلّيّة العلّة الفاعليّة ، فلو كان لفعله تعالى غرض لاحتاج في علّيّته إليه ، والمحتاج إلى الغير مستكمل به.

ففيه : إنّ هذا الاحتياج ليس من استكمال الذات في شيء ، بل هو من باب شرط الفعل أو شرط كماله نظير احتياجه في علّيّته للكائنات إلى إمكانها ، واحتياجه في كونه رازقا إلى وجود من يرزقه ، وفي تعلّق علمه إلى ثبوت المعلومات.

على أنّ الأشاعرة قائلون باحتياجه في أفعاله تعالى إلى صفاته الزائدة على ذاته ، وإنّه مستكمل بها(٢) فما بالهم يستبشعون من استكماله تعالى بالغرض لو فرض به استكمال لذاته؟!

فإن قلت : نرى بعض الأشياء بلا غرض ولا مصلحة كإماتة الأنبياء ، وإبقاء إبليس ، وتخليد الكفّار بالنار.

قلت : لا ريب أنّ موت الأنبياء مصلحة لهم لخلاصهم من مكاره الدنيا ووصولهم إلى الدرجات العليا ، وهو غرض راجح لهم ، كما أنّ بقاء إبليس مصلحة للمؤمنين بمجاهدتهم له الموجبة لفوزهم بالأجر ، مع أنّ به تمييز الخبيث من الطيّب وتمحيص الناس ، فينال كلّ امرئ استحقاقه ، قال

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٩ من هذا الجزء.

(٢) تمهيد الأوائل : ٢٢٧ ، الملل والنحل ١ / ٨١ ـ ٨٢ ، المواقف : ٢٧٩ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.

٣٢

تعالى :( الم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (١) .

كما أنّ بقاء إبليس مصلحة له بطول تمكينه من التوبة الخالصة المخلّصة له من غضب الله وعقابه ، ولا ينافيه إخباره سبحانه بأنّه يدخل النار لإمكان كونه مشروطا بعدم التوبة.

وأمّا تخليد أهل النار ، فمع أنّه فرع حكمة الوعيد ، مشتمل على مصلحة للمؤمنين ، لكونه زيادة في نعيمهم وسرورهم بخلاصهم من مثله وتشفّيهم من أعدائهم ، قال تعالى :( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) (٢) .

هذا ، ونقل عن شيخهم الأشعري دليل آخر مضحك ، كما حكاه السيّد السعيد ـ مع ردّه ـ عن السيّد معين الدين الإيجي الشافعي(٣) ، في رسالته التي ألّفها لتحقيق مسألة الكلام

قال : « إعلم أنّه ـ رضي الله عنه ـ قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له ، مع أنّه مناف لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث ، مثل : إنّ أفعال الله تعالى غير معلّلة بغرض ، ودليله كما صرّح به في كتبه أنّه يلزم تأثّر الربّ عن شعوره بخلقه.

__________________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ١ و ٢.

(٢) سورة المطفّفين ٨٣ : ٣٤.

(٣) هو : محمّد بن صفي الدين عبدالرحمن بن محمّد بن عبدالسلام معين الدين الإيجي الصفوي الشيرازي الشافعي ، ولد سنة ٨٣٢ ه‍ وتوفّي سنة ٩٠٦ ه‍ ، له تصانيف عديدة منها : جوامع التبيان في تفسير القرآن ، كتاب تهافت الفلسفة ، حاشية على التلويح للتفتازاني.

انظر : هديّة العارفين ٦ / ٢٢٣ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٤٠١ رقم ١٤٠٠٤.

٣٣

وأنت تعلم أنّه لا يشكّ ذو فكرة(١) أنّ علمه تعالى بالممكنات والغايات المترتّبة عليها صفة ذاتية ، وفعله موقوف على صفة ذاتية ، وكم من الصفات الذاتية موقوفة على صفة مثلها ، وتعالى جدّ ربّنا عن أن يحصل له بواسطة شعوره بغاية شوق وانفعال في ذاته الأقدس كما في الحيوانات »(٢) .

والأولى في ردّه أن يقال : إنّه إن أراد بتأثّره تعالى حصول الانفعال له ، فهو غير لازم من القول بالغرض.

وإن أراد به أنّ الغرض يكون داعيا له إلى الفعل ، فهو المطلوب ، ولا بأس به أصلا.

ثمّ إنّه لا مناص للأشاعرة عن القول بالغرض ؛ لأنّهم قالوا بحجّية القياس(٣) ، وهو لا يتمّ إلّا إذا كانت التكاليف التي هي من أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، إمّا لكون العلّة في القياس غرضا كما في أكثر المقامات ، أو لاستلزامها للغرض ، بلحاظ أنّ سببية الشيء لأن يكلّف سبحانه اختيارا تستدعي وجود غرض له ملازم لتلك العلّة ، وإلّا فكيف صارت علّة لفعل الله وهو التكليف؟!

على أنّ الالتزام بثبوت علّة لفعل من أفعاله تعالى وإن لم تكن علّة غائية ، يستلزم القول بصحّة الأغراض ؛ لأنّ النقص المفروض يأتي أيضا

__________________

(١) في المصدر : « مرّة » ، والمرّة ، القوّة وشدّة العقل ؛ انظر : لسلن العرب ١٣ / ٧٤ مادّة « مرر ».

(٢) إحقاق الحقّ ١ / ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٣) التبصرة في أصول الفقه : ٤١٩ مسألة ٣ ، المستصفى من علم الأصول ٢ / ٢٣٤ ، المحصول في علم أصول الفقه ٢ / ٢٤٥ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ٣ / ١٦٤ وما بعدها ، المواقف : ٣٦.

٣٤

من تلك العلّة ؛ لأنّها تستدعي حاجته في فعله إليها.

فلا بدّ من القول بأنّ الحاجة إلى العلّة لا تستوجب النقص سواء كانت العلّة غائية أم لا.

وأمّا ما ذكره في الجواب عن العبث ؛ فهو عين ما في « شرح المواقف »(١) .

وفيه : إنّ الفعل إذا تجرّد عن الغرض كان عبثا ولعبا وإن اشتمل في نفسه على مصلحة ، ضرورة أنّ من استأجر أجيرا على فعل فيه مصلحة ، ولكن لم يستأجر لغرض المصلحة بل مجّانا وبلا غاية له ولا لغيره ، عدّ عابثا لاعبا.

على أنّ قوله : « أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح » إلى آخره

إنّ أراد به أنّ ذلك أمر لازم ، فهو لا يتمّ على قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء »!

وإن أراد أنّه أمر اتّفاقي ، فكيف يتنزّه الله سبحانه عن اللعب أي الخلق بلا مصلحة ، ويراه عيبا عليه ، والحال أنّه يجوز عليه أن يخلق ما لا مصلحة فيه؟!

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٣٥

قال المصنّف ـ رحمه الله تعالى ـ (١) :

ومنها : إنّه يلزم أن لا يكون الله سبحانه محسنا إلى العباد ، ولا منعما عليهم ، ولا راحما لهم ، ولا كريما في حقّ عباده ، ولا جوادا ، وكلّ هذا ينافي نصوص الكتاب العزيز ، والمتواتر من الأخبار النبوية ، وإجماع الخلق كلّهم من المسلمين وغيرهم ، فإنّهم لا خلاف بينهم في وصف الله تعالى بهذه الصفات على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.

وبيان لزوم ذلك : إنّ الإحسان إنّما يصدق لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلى المنتفع ، فإنّه لو فعله لغير ذلك لم يكن محسنا ؛ ولهذا لا يوصف مطعم الدابّة لتسمن حتّى يذبحها بالإحسان في حقّها ، ولا بالإنعام عليها ، ولا بالرحمة ؛ لأنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه لا لغرض آخر يرجع إليه.

وإنّما يكون كريما وجوادا لو نفع الغير للإحسان وبقصده ، ولو صدر منه النفع لا لغرض لم يكن كريما ولا جوادا ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى العبث في أفعاله ، وأنّه ليس بجواد ولا محسن ولا راحم ولا كريم؟! نعوذ بالله من مزالّ الأقدام ، والانقياد إلى مثل هذه الأوهام.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٩.

٣٦

وقال الفضل (١) :

جوابه : منع الملازمة ؛ لأنّ خلوّ الفعل عن الغرض لا يستدعي كون الفاعل غير محسن ولا راحم ولا منعم.

فإنّ معنى الغرض ما يكون باعثا للفاعل على الفعل ، ويمكن صدور الإحسان والرحمة والإنعام من الفاعل من غير باعث له ، بل للإفاضة الذاتية التي تلزم ذات الفاعل.

نعم ، لو كان خاليا من المصلحة والغاية لكان ذلك الفعل عبثا.

وقد بيّنّا أنّ أفعاله تعالى مشتملة على الحكم والغايات والمصالح ، فلا تكون أفعاله عبثا.

وأمّا قوله : « إنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه »

فإن أراد بالقصد الغرض والعلّة الغائيّة ؛ فممنوع.

وإن أراد الاختيار وإرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه بالتعيين ؛ فذلك في حقّه تعالى ثابت ، وهذا لا يتوقّف على وجود الغرض والعلّة الغائيّة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٤.

٣٧

وأقول :

منع الملازمة مكابرة ظاهرة ، ضرورة أنّ الفعل لا لغاية وغرض ، عبثّ ، والعبث لا يكون إحسانا وإنعاما وكرما ، بل مع قطع النظر عن العبث لا يكون الفعل بنفسه إحسانا بلا قصد الإحسان ، وإلّا لكان كذلك وإن صدر لغاية أخرى ، كما في مثال المصنّف بمطعم الدابّة ؛ وهو خلاف الضرورة.

قال الشاعر :

لا تمدحنّ ابن عبّاد وإن هطلت

كفّاه بالجود سحّا يخجل الدّيما(١)

فإنّها خطرات من وساوسه

يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما(٢)

فإنّه جعل عطاءه الوافر لا لغاية الإحسان والفضل ، ليس من الكرم ، وإن أساء وأجحف في حقّ ابن عبّاد.

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني ، فهو عين القول بالغرض ؛ لأنّ إرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه عبارة عن قصد الداعي ، والداعي هو الغرض.

* * *

__________________

(١) السّحّ : الصّبّ المتتابع الكثير ، وهنا كناية عن العطاء الكثير المتواصل ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ١٨٨ مادّة « سحح ».

والدّيم ، جمع ديمة : المطر الدائم في سكون بلا رعد ولا برق ، وهي هنا على المجاز : العطاء الدائم المستمرّ ؛ انظر : لسان العرب ٤ / ٤٤٦ و ٤٥٨ مادّتي « دوم » و« ديم ».

(٢) البيتان لأبي بكر الخوارزمي في هجاء الوزير الصاحب بن عبّاد ؛ انظر ديوانه : ٤٠٩ ـ ٤١٠ رقم ٢١٤ ، وانظر : مرآة الجنان ٢ / ٣١٤ ، شذرات الذهب ٣ / ١٠٥.

٣٨

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم أن تكون جميع المنافع التي جعلها الله تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة ولا مطلوبة لله تعالى ، بل وضعها وخلقها عبثا.

فلا يكون خلق العين للإبصار ، ولا خلق الأذن للسماع ، ولا اللسان للنطق ، ولا اليد للبطش ، ولا الرجل للمشي ، وكذا جميع الأعضاء التي في الإنسان وغيره من الحيوانات.

ولا خلق الحرارة في النار للإحراق ، ولا الماء للتبريد ، ولا خلق الشمس والقمر والنجوم للإضاءة ، ومعرفة الليل والنهار للحساب.

وكلّ هذا مبطل للأغراض والحكم والمصالح ، ويبطل علم الطبّ بالكلّيّة ، فإنّه لم يخلق الأدوية للإصلاح ، ويبطل علم الهيئة ، وغيرها.

ويلزم العبث في ذلك كلّه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٠ ـ ٩١.

٣٩

وقال الفضل (١) :

إذا قلنا : إنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة ، مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، هي راجعة إلى مخلوقاته ، لا يلزم أن تكون منافع الأشياء غير مقصودة لله تعالى

بل هو الحكيم خلق الأشياء ورتّب عليها المصالح ، وقبل خلق الأشياء قدّرها ودبّرها ، ولكن ليست أفعاله محتاجة إلى علّة غائيّة كأفعالنا [ الاختيارية ]

فإنّا لو فقدنا العلّة الغائيّة لم نقدر على الفعل الاختياري ، وليس هو تعالى كذلك ؛ للزوم النقص والاحتياج

بل الآثار والمصالح تترتّب على أفعاله من غير نقص الاحتياج إلى العلّة الغائية الباعثة للفاعل ، ولولاها لم يتصوّر الفعل الاختياري من الفاعل(٢) .

هذا هو المطلوب من كلام الأشاعرة ، لا نفي منافع الأشياء ، وأنّها لم تكن معلومة لله تعالى وقت خلق الأشياء

مثلا : اقتضت حكمة خلق العالم أن يخلق الشمس مضيئة ، وفي إضاءتها منافع للعباد ، فالله تعالى قبل أن يخلق الشمس كان يعلم هذه المنافع المترتّبة عليها لخلقها ، وترتّب المنافع عليها من غير احتياج إلى

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٢٠٤.

٤٠

سيرة الإمام زين العابدين (ع)

صفحات من نور

النسب :

هو الإمام المعصوم الرابع علي ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. والمعروف بين المحدثين بابن الخيرتين فأبوه : الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه من بنات ملوك الفرس. جاء في ربيع الأبرار للزمخشري « إن لله من عباده خيرتين فخيرته من العرب بنو هاشم. ومن العجم فارس ».

أمه :

اتفقت الروايات على أن أمه من أشراف الفرس ، ولكنها اختلفت في تاريخ الاستيلاء عليها من قبل المسلمين. هي : شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن كسرى. قال فيه أبو الأسود الدؤلي :

وإن غلاما بين كسرى وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم

ولادته :

جاء في بعض الروايات أن ولادة علي بن الحسينعليهما‌السلام يوم

٤١

يوم الجمعة ويقال يوم الخميس(١) بين الخامس والعاشر من شهر شعبان(٢) سنة ثمان وثلاثين أو سبع وثلاثين من الهجرة(٣) .

كنيته :

أبو محمد ويكنى بـ ( أبي الحسن ) أيضا.

ألقابه :

زين العابدين والسجاد وذو الثفنات والبكاء والعابد ومن أشهرها زين العابدين وبه كان يعرف كما يعرف باسمه. جاء في المرويات عن الزهري أنه كان يقول : « ينادي مناد يوم القيامة ليقم سيد العابدين في زمانه فيقوم علي بن الحسين (ع) ولقب بذي الثفنات لأن موضع السجود منه كانت كثفنة البعير من كثرة السجود عليه(٤) .

أما عن تسميته بالبكاء يروي الرواة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنه قال : « بكى علي بن الحسين على أبيه عشرين سنة ما وضع خلالها بين يديه طعام إلا بكى. وقال له بعض مواليه : جعلت فداك يا بن رسول الله ، إني أخاف أن تكون من الهالكين ، فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إني لم أذكر مصرع أبي وإخوتي وبني عمومتي إلا خنقتني العبرة.

وقد روى الرواة كثيرا عن حزنه وبكائه فكان كلما قدم له طعام وشراب يقول : كيف آكل وقد قتل أبو عبد الله جائعا ، وكيف أشرب وقد قتل أبو عبد الله عطشانا. وكان كلما اجتمع إليه جماعة أو وفد يردد عليهم

__________________

(١) إعلام الورى للشيخ الطبرسي ، ص ٢٥٦.

(٢) مطالب المسؤول لمحمد بن طلحة الشافعي ، ص ٢٠٣.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد ، ص ٢٣٧.

(٤) إعلام الورى ، ص ٢٥٦.

٤٢

تلك المأساة ويقص عليهم من أخبارها. وأحيانا يخرج إلى السوق فإذا رأى جزارا يريد أن يذبح شاة أو غيرها يدنو منه ويقول : هل سقيتها الماء؟

فيقول له : نعم يا بن رسول الله إنا لا نذبح حيوانا حتى نسقيه ولو قليلا من الماء ، فيبكي عند ذلك ويقول : لقد ذبح أبو عبد الله عطشانا. كان يحاول في أكثر مواقفه هذه أن يشحن النفوس ويهيئها للثورة على الظالمين الذين استباحوا محارم الله واستهزأوا بالقيم الإنسانية والدعوة الإسلامية من أجل عروشهم وأطماعهم وقد أعطت هذه المواقف المحقة ثمارها وهيأت الجماهير الإسلامية في الحجاز والعراق وغيرها للثورة.

إمامته :

روى الكليني بإسناده عن أبي جعفر (ع) قال : « إن الحسين بن عليعليهما‌السلام لما حضره الذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين (ع) فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة ، وكان علي بن الحسينعليهما‌السلام مبطونا معهم لا يرون إلا أنه لما به فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين (ع) ثم صار ذلك الكتاب إلينا يا زياد! قال : قلت : ما في ذلك الكتاب جعلني الله فداك؟ قال : فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا والله إن فيه الحدود حتى إن فيه أرش الخدش(١) كما روى المجلسي بإسناده عن محمد بن مسلم قال : « سألت الصادق جعفر بن محمد (ع) عن خاتم الحسين بن عليعليهما‌السلام إلى من صار ، وذكرت له إني سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ قال (ع) : ليس كما قالوا ، إن الحسين أوصى إلى ابنه علي بن الحسين (ع) وجعل خاتمه في إصبعه وفوّض إليه أمره كما فعله رسول الله (ص) بأمير المؤمنين (ع) وفعله أمير المؤمنين بالحسنعليهما‌السلام ، وفعله الحسن بالحسينعليهما‌السلام ، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبي بعد

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٢٤١ وما بعدها.

٤٣

أبيه ، ومنه صار إلي فهو عندي ، وإلي لألبسه كل جمعة وأصلي به ، قال محمد بن مسلم : فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي فلما فرغ من الصلاة مد إلي يده فرأيت في إصبعه خاتما نقشه : لا إله إلا الله عدة للقاء الله.

فقال : هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي(١) .

أولاده :

روى الشيخ المفيد أن أولاد علي زين العابدين (ع) خمسة عشر بين ذكر وأنثى. أحد عشر ذكرا وأربع بنات(٢) . أكبرهم سنا وقدرا الإمام محمد بن علي الملقب بـ ( الباقر ). أمه فاطمة بنت الإمام الحسن (ع) أولدت له أربعة هم : الحسن والحسين ومحمد الباقر وعبد الله وبه كانت تكنى.

ومما يبدو أن أكبر أولاده محمد الباقر ولد له سنة سبع وخمسين هجرية وكان له من العمر عندما استشهد جده الحسين (ع) في كربلاء ثلاث سنوات.

وله من الذكور أيضا زيد وعمر وأمهما أم ولد.

والحسين الأصغر. وعبد الرحمن وسليمان أمهما أم ولد.

ومحمد الأصغر وعلي الأصغر وكان أصغر أولاده الذكور.

وخديجة وفاطمة وعليّة وأم كلثوم أمهن أم ولد.

وأما زيد بن علي الشهيد فقد نشأ في بيت الإمام زين العابدين حفيد الإمام علي بن أبي طالب باب مدينة العلم. هذا البيت الذي يعد مهد العلم والحكمة. تعلم فيه القرآن الكريم فحفظه واتجه إلى الحديث الشريف فتلقاه عن أبيه حتى أصبح بعد فترة واسع العلم والمعرفة. وبعد أن تركه

__________________

(١) البحار ، ج ١١ ، ص ٦.

(٢) الإرشاد ، ص ٢٤٤ ، قارن بالفصول المهمة لابن الصباغ والطبقات لابن سعد.

٤٤

والده في حدود الرابعة عشرة من عمره تعهده أخوه الإمام الباقر فزوده بكل ما يحتاج من الفقه والحديث والتفسير حتى أصبح من مشاهير علماء عصره ومرجعا معروفا لرواد العلم والحديث والحكمة والمعرفة. سافر إلى البصرة عدة مرات وناظر علماءها ومنهم واصل بن عطاء رأس المعتزلة يوم ذاك ، ناظره في أصول العقائد.

وقد طلبه هشام بن عبد الملك إلى الشام وكان مجلسه حافلا بأعيان أهل الشام وخاصته ، فقال له : بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة وأنت ابن أمة ، فأجابه زيد بن علي على الفور : ويلك يا هشام أمكان أمي يضعني؟ والله لقد كان اسحق ابن حرة وإسماعيل ابن أمة ولم يمنعه ذلك من أن بعثه الله نبيا وجعل من نسله سيد العرب والعجم محمد بن عبد الله ، إن الأمهات يا هشام لا يقعدن بالرجال عن الغايات. اتق الله في ذرية نبيك.

فغضب هشام وقال : ومثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؟

فرد عليه زيد بقوله : إنه لا يكبر أحد فوق أن يوصى بتقوى الله ولا يصغر دون أن يوصي بتقوى الله.

ومضى زيد في طريقه إلى الكوفة ثم إلى البصرة وأرسل رسائله ورسله إلى المدائن والموصل وغيرهما وانتشرت دعوته في سواد العراق ومدنه ولما بلغ أمره هشام بن عبد الملك أرسل إلى واليه على العراق يوسف بن عمر يأمره بمضايقة زيد ومطاردته وحدثت معركة أصيب فيها زيد فدفنه أصحابه في مجرى ماء حتى لا يصلب أو يحرق ، لكن ذلك لم يفده. أحدث قتله استياء عاما في جميع المناطق الإسلامية وتجدد البكاء على أهل البيت ولف الحزن كل من يحبهم ويسير على خطاهم.

وممن تحدثت عنهم كتب الأنساب من أولاد الإمام علي زين العابدين عبد الله بن علي الملقب بالباهر :

٤٥

كان فاضلا فقيها روى عن آبائه وأجداده أحاديث كثيرة. روى بعضهم قال : سألت أبا جعفر الباقر : أي إخوانك أحب إليك وأفضل؟

فقال : أما عبد الله فيدي التي أبطش بها. وأما عمر فبصري الذي أبصر به.

وأما زيد فلساني الذي أنطق به ، وأما الحسين فحليم يمشي على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وكان عبد الله يلي صدقات رسول الله وصدقات أمير المؤمنين(١) . وأما عمر فقد كان ورعا جليلا وسخيا كريما تولى صدقات جده (ع) واشترط على كل من يبتاع ثمارها أن يثلم في الحائط ثلمة لكي تأكل منها المارة ولا يرد أحدا عنها ، ويروى عنه أنه قال : المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا أنزلونا بالمنزل الذي أنزلنا الله به ولا تقولوا فينا ما ليس بنا إن يعذبنا الله فبذنوبنا وإن يرحمنا فبرحمته وفضله علينا.

وأما الحسين بن علي (ع) فإنه كان فاضلا ورعا يروي عن أبيه علي بن الحسين وعمته فاطمة بنت الحسين (ع) التي أودعها الحسين عند خروجه من المدينة إلى كربلاء وصيته ، كما روى عن أخيه أبي جعفر الباقر. وقد عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر والصادقعليهما‌السلام (٢) .

والإمام محمد بن علي زين العابدين المعروف بالباقر عاش سبعة وخمسين عاما أدرك فيها جده الحسين (ع) ولزمه نحوا من أربع سنوات ، وعاش مع أبيه السجاد بعد جده خمسا وثلاثين سنة وفي طفولته كانت المحنة الكبرى التي حلت بأهل البيت في كربلاء واستشهد فيها جده الحسين ومن معه من إخوته وبني عمه وأصحابه (ع) جميعا وتجرع هو

__________________

(١) الإرشاد للمفيد.

(٢) المصدر نفسه.

٤٦

مرارتها وشاهد بعدها جميع الرزايا والمصائب التي توالت على أهل بيته من قبل الحكام الطغاة الذين تنكروا للقيم والأخلاق وجميع المبادىء الإسلامية وعاثوا فسادا في البلاد ولم يتركوا رذيلة واحدة إلا مارسوها بشتى أشكالها ومظاهرها ، في قصورهم الفخمة الأنيقة ونواديهم القذرة الفاجرة.

في هذا الجو المشحون بالظلم والقهر والفساد وجد الإمام الباقر (ع) وقد علمته الأحداث الماضية مع آبائه وأجداده خذلان الناس لهم في ساعات المحنة أن ينصرف عن السياسة ومشاكل السياسيين ومؤامراتهم إلى خدمة الإسلام ورعاية شؤون المسلمين عن طريق الدفاع عن أصول الدين الحنيف ونشر تعاليمه وأحكامه فناظر الفرق التي انحرفت في تفكيرها واتجاهاتها عن الخط الإسلامي الصحيح كمسألة الجبر والإرجاء التي روّجها الحكام لمصالحهم الشخصية. لقد فرضت عليه مصلحة الإسلام العليا أن ينصرف إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية فالتف حوله العديد من العلماء والكثير من طلاب العلم والحديث من الشيعة وغيرهم.

كان عالما عابدا تقيا ثقة عند جميع المسلمين ، روى عنه أبو حنيفة وغيره من أئمة المذاهب المعروفة(١) .

جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال : لقد أخبرني رسول الله بأني سأبقى حتى أرى رجلا من ولده أشبه الناس به وأمرني أن أقرأه السلام واسمه محمد يبقر العلم بقرا ، ويقول الرواة إن جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله ، وفي آخر أيامه كان يصيح في مسجد رسول الله يا باقر علم آل بيت محمد ، فلما رآه وقع عليه يقبل يديه وأبلغه تحية رسول الله (ص)(٢) .

__________________

(١) راجع طبقات ابن سعد.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر ، ص ١٩٨.

٤٧

وقال فيه محمد بن طلحة القرشي الشافعي : محمد بن علي الباقر هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورفعه ، صفا قلبه وزكا عمله وطهرت نفسه وشرفت أخلاقه وعمرت بطاعة الله أوقاته ورسخت في مقام التقوى قدمه ، فالمناقب تسبق إليه والصفات تشرف به له ألقاب ثلاثة : باقر العلم ، والشاكر والهادي وأشهرها الباقر وسمي كذلك لتبقره العلم وتوسعه فيه.

إخوته :

كان للإمام علي بن الحسينعليهما‌السلام أخوان علي الأكبر ، وعبد الله الرضيع. وقد قتل علي الأكبر مع أبيه في كربلاء ، ولا بقية له ، وأمه كانت آمنة بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وأمها بنت أبي سفيان بن حرب.

أما عبد الله الرضيع فأمه الرباب بنت امرىء القيس وقد قتل أيضا مع أبيه وأخيه يوم الطف(١) .

أخواته :

وكان له أختان أيضا : سكينة وفاطمة ، فسكينة أمها الرباب بنت امرىء القيس ، وأما فاطمة فأمها أم اسحاق بن طلحة بن عبيد الله.

فيكفي في جلالتها كلام الامام الحسينعليه‌السلام مع ابن اخيه

__________________

(١) وقد حمله الحسين (ع) نحو جماعة عمر بن سعد قائلا لهم : لم يبق لي سوى هذا الطفل الرضيع فاسقوه ، فقد جف اللبن من ثدي أمه ، فاختلف الجند فيما بينهم ، منهم من قال : اسقوه ، ومنهم من قال : لا تسقوه فقال ابن سعد لحرملة بن كاهل الأسدي : إقطع نزاع القوم ، فرماه حرملة بسهم في نحره فذبحه ، فبسط الحسين سيد الشهداء كفه تحت نحر الطفل ، فلما امتلأت دما رمى به نحو السماء وقال : رب هون علي ما نزل بي أنه بعين الله. اللهم لا يكن عليك أهون من فصيل ناقة صالح. ثم عاد به إلى المخيم وقيل طرحه بين القتلى من أهل بيته.

٤٨

الحسن بن الامام الحسنعليه‌السلام لما جاء اليه خاطبا إحدى ابنتيه : أما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله ، فلا تصلح لرجل(١) كانت وفاتها في المدينة سنة ١١٧ ه‍.

امّا اختها فاطمة فيكفي في فضلها كلام الامام الحسينعليه‌السلام مع ابن اخيه الحسن بن الامام الحسن : أختار لك فاطمة فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار(٢) وفاتها في المدينة سنة ١١٧ ه‍ عن أكثر من سبعين سنة.

* * *

__________________

(١) اسعاف الراغبين : ٢١.

(٢) ادب الطف ١ / ١٦٤.

٤٩
٥٠

إلى جنة المأوى

لقد أجهد الإمام نفسه إجهادا كبيرا وحملها من أمره رهقا من كثرة عبادته وعظيم طاعته. أجمع المؤرخون أنه (ع) قد قضى معظم حياته صائما نهاره ، قائما ليله حتى وصل بعبادته وتهجده وتخضعه إلى درجة الفناء الكامل في الله ...

في الوقت نفسه كانت تلاحقه ذكريات كربلاء المؤلمة ، وما جرى لأبيه سيد الشهداء (ع) ولأهل البيت من النكبات الكبيرة والخطوب المريرة. وهل بإمكانه أن ينسى كلما نظر إلى عماته وأخواته فيتذكر فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ، ومنادي القوم ينادي : أحرقوا البيوت. كل هذه الذكريات الأليمة تثير أشد الحزن في نفسه فيحزن ويذرف الدموع الحارة.

لقد بكى على أبيه عشرين سنة حتى قال له مولاه : إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. فقال (ع) : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة(١) .

ومن الطبيعي أن لذلك كله أثرا مباشرا على صحته التي أذابتها هذه

__________________

(١) زين العابدين للمقرم ، ص ٣٦٣. عن الخصال ، ج ١ ، ص ١٣١.

٥١

المآسي القاسية. فكان كلما تقدم سن الإمام ازداد ضعفا وذبولا.

اغتياله بالسم :

احتل الإمام زين العابدين قلوب الناس وعواطفهم فتحدث الناس بإعجاب عن علمه وفقهه وسائر ملكاته ، وكان السعيد من تشرف بمقابلته والاستماع إلى حديثه لذلك نراه قد تمتع بشعبية هائلة في عصره.

وقد شق ذلك على الأمويين وأقضى مضاجعهم وكان من أكبر الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك.

روى الزهري أنه قال : « لا راحة لي ، وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا »(١) .

وقد صمم هذا الخبيث المجرم على اغتيال الإمام (ع) بأي طريقة ، ولما آل إليه الملك والسلطان بعث سما قاتلا إلى عامله على يثرب ، وأمره أن يدسه للإمام ونفذ عامله ذلك(٢) ، وقد تفاعل السم في بدن الإمام ، فأخذ يعاني أشد الآلام وأقساها ، وبقي على فراش الموت عدة أيام يشكو بلواه إلى الله تعالى ، ويدعو لنفسه بالمغفرة والرضوان ، وقد تزاحم الناس لتفقده وعيادته ، وهوعليه‌السلام يحمد الله ويثني عليه أفضل الثناء على ما رزقه من الشهادة على يد شر البرية الظالمين الطغاة الذين كان همهم الدنيا الفانية ومباهجها البراقة الزائفة.

وصيته لولده الإمام الباقر :

عهد الإمام زين العابدين إلى ولده محمد الباقرعليهما‌السلام بالإمامة ، كما عهد إليه أيضا بهذه الوصية القيمة فقال له : « يا بني أوصيك

__________________

(١) حياة الإمام الباقر ، ج ١ ، ص ٥١.

(٢) الصواعق المحرقة ، ص ٥٣.

٥٢

بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة فقد قال لي : يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله »(١) .

وأوصاه أيضا بناقته ، فقال له : إني حججت على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط ، فإذا أنفقت فادفنها ، لا تأكل لحمها السباع ، فإن رسول الله (ص) قال : ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة ، وبارك في نسله » ونفذ الإمام الوصية(٢) .

والوصية الأخيرة قال فيها (ع) : « أن يتولى بنفسه غسله وتكفينه وسائر شؤونه حتى يواريه في مقره الأخير ».

إلى جوار جده (ع) :

اشتد المرض على الإمام (ع) وثقل حاله من تفاعل السم في جسده الطاهر ، وأخذ يعاني آلاما مرهقة ، فأخبر الإمام أهله في غلس الليل أن سوف ينتقل إلى الفردوس الأعلى ، وأغمي عليه ثلاث مرات ، فلما أفاق قرأ سورة ( الفاتحة ) وسورة ( إنا فتحنا ) ثم قال (ع) : « الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين »(٣) .

وانتقلت روحه الطاهرة إلى خالقها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين ، تحفها بإجلال وإكبار ملائكة الله ، وألطافه تعالى لقد ارتفعت تلك الروح العظيمة إلى خالقها بعد كفاح مرير وسمت بألطاف الله وتحيته تاركة إضاءات منيرة على مفارق كل الدروب في هذه الدنيا بعلومها ومعارفها وعبادتها وتجردها من كل نزعات الميول الشخصية.

لقد عمل الإمام (ع) طول حياته في سبيل الله فأحب في الله وأبغض

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ٤٢١.

(٢) زين العابدين للقرشي ، ص ٤٢١.

(٣) زين العابدين للقرشي ، ص ٤٢٢ ، عن روضة الكافي.

٥٣

في الله وجاهد من أجل رفع كلمة الله بكل ما أوتي من قوة مباركة وعطاء خير.

تجهيزهعليه‌السلام :

نفذ الإمام الباقر الوصية (ع) بتجهيز جثمان أبيه ، فغسل جسده الطاهر ورأى مواضع سجوده كأنها مبارك الإبل من كثرة سجوده لله تعالى ، ونظر إلى عاتقه فكأنه مبارك الإبل أيضا من أثر الجراب الذي كان يحمله على عاتقه ويوزعه على الفقراء والمحرومين(١) وبعد الفراغ من غسله أدرجه في أكفانه وصلى عليه الصلاة المكتوبة.

تشييعهعليه‌السلام :

جرى للإمام تشييع حافل لم تشهد يثرب له نظيرا ، فقد شيعه جميع الناس من قريب وبعيد ، التفت الجماهير حول النعش الكريم جازعين في البكاء والعويل بكل خشوع وإحساس عميق بالخسارة الكبرى. لقد فقدوا بموته عبقرية كبرى وخيرا عميما ، فقدوا تلك الروحانية الشفافة التي لم يخلق لها مثيل. ازدحم أهالي يثرب على الجثمان المقدس فالسعيد من يحظى بحمله ، وهذا أحد الفقهاء السبعة في المدينة سعيد بن المسيب لم يفز بتشييع الإمام والصلاة عليه. وقد أنكر عليه ذلك حشرم مولى أشجع ، فأجابه سعيد : أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح(٢) . وما نراه أنه اعتذار مهلهل ذلك أن حضور تشييع جنازة الإمامعليه‌السلام الذي يحمل هدى الأنبياء وكرامة الأوصياء من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله تعالى.

__________________

(١) حياة الإمام محمد الباقر ، ج ١ ، ص ٥٤.

(٢) حياة زين العابدين ، ص ٤٢٣.

٥٤

في المقر الأخير ..

وصل الجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد وسط هالة من التكبير والتحميد ، فحفروا له قبرا بجوار قبر عمه الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله (ص) والذي استشهد بالطريقة نفسها على يد معاوية بن أبي سفيان ، صاحب القول المأثور « إن لله جنودا من عسل ».

وأنزل الإمام الباقر جثمان أبيه إلى المقر الأخير وأنزل معه كنوز العلم والبر والتقوى ، وروحانية أجداده المتقين عليهم أفضل الصلاة والسلام.

وبعد الفراغ من دفن الإمام زين العابدين (ع) هرع الناس نحو الإمام الباقر يعزونه ويشاركونه في لوعته وأساه والإمام مع إخوته وسائر بني هاشم يشكرون الجموع الغفيرة المعزية على مشاركتهم في الخطب الجلل والمصاب العظيم الذي حل بهم. إنا لله وإنا إليه راجعون.( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .

* * *

٥٥

عبادة الإمام علي زين العابدين (ع)

قلنا إنه من أشهر ألقاب الإمام علي بن الحسينعليهما‌السلام السجاد وذي الثفنات. فالسجاد على وزن فعّال تعني كثرة السجود لأنه كان يقضي معظم أوقاته في الصلاة التي قال عنها جده النبي المصطفى (ص) إنها قرة عينه.

وأما تسميته بذي الثفنات ، كما جاء في الكافي للكليني ، إن الإمام الباقر (ع) قال : كان لأبي في موضع سجوده آثار ثابتة يقطعها في كل سنة من طول سجوده وكثرته. وفي رواية الصدوق أنه كان يقطعها ويجمها وأوصى أن تدفن معه في قبره.

جاء في مصادر عدة أنهعليه‌السلام كان إذا توضأ للصلاة يصفر لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول : تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟

وإذا قام إلى الصلاة أخذته الرعدة ، ويقول : أريد أن أقوم بين يدي ربي وأناجيه فلهذا تأخذني الرعدة.

ومرة وقع حريق في البيت الذي هو فيه وكان ساجدا في صلاته فجعلوا يقولون : يابن رسول الله النار ، النار ، فما رفع رأسه من سجوده حتى أطفئت ، فقيل له : ما الذي ألهاك عنها؟ فقال : نار الآخرة.

٥٦

أجمع الرواة عن كثرة عبادته وصلاته فجاء عن الكليني في الكافي قال : كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة حتى مات ولقب بزين العابدين لكثرة عبادته وحسنها(١) .

وعن خشوعه وتقاه. قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : « كان أبي يقول : كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلا ما حركه الريح منه ».

ومن نظر إليه وهو يصلي يخاله شبيها بأبيه الإمام الحسين (ع) وبجديه علي بن أبي طالب والنبي محمد الرسول الأكرم (ص). قال أبو حمزة الثمالي : « رأيت علي بن الحسينعليهما‌السلام يصلي فسقط رداؤه عن أحد منكبه ، قال : فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته قال : فسألته عن ذلك. فقال : ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه »(٢) .

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « كان علي بن الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة ، وكانت له خمسمائة نخلة وكان يصلي عند كل نخلة ركعتين ، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر ، وقيامه في صلاته قيام عبد ذليل بين يدي الملك الجليل ، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله ، وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبدا ».(٣)

وجاء في المصدر نفسه قال :

« كان للإمام السجاد خريطة فيها تربة الحسين إذا قام في الصلاة تغير

__________________

(١) باب الخشوع في الصلاة ، ص ٣٠٠.

(٢) علل الشرائع للشيخ الصدوق ، ج ١ ، ص ٢٣١.

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ، ج ٤ ، ص ١٥٠.

٥٧

لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقا »(١) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام :

« ولقد دخل أبو جعفر على أبيه (ع) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد وقد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته من السجود وورمت قدماه من القيام في الصلاة. قال : فقال أبو جعفر : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال من البكاء فبكيت رحمة له وإذا هو يفكر فالتفت إلي بعد هنيهة من دخولي فقال : يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي ( أمير المؤمنين ) فأعطيته فقرأ فيها يسيرا ثم تركها من يده تضجرا وقال : من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب »(٢) .

قال الزهري : « كان علي بن الحسين (ع) إذا قرأ ( ملك يوم الدين ) يكررها حتى يكاد يموت »(٣) .

وكان الإمام السجاد يسجد على تربة الحسين (ع) لأن السجود عليها يخرق الحجب السبع ويقبل الله صلاة من سجد عليها ما لم يقبله من غيرها(٤) .

ذلك أن الله تعالى فضل تربة سيد الشهداء على سائر البقاع حتى بيته المعظم. جاء في الحديث : إن أرض الكعبة افتخرت بنسبتها إليه جل شأنه فأوحى إليها الجليل تعالى أني خلقت أرضا لولاها ما خلقتك ولولا ما تضمنته ما خلقت البيت الذي افتخرت به »(٥) :

فاسجد على تربته القدسية

فإن فيها الفضل والمزية

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٤ ، ص ٨١٣ ، باب تكرار الآية.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ٢٥١. ومصباح التهجد للشيخ الطوسي ، ص ٥١٠. ومستدرك النوري ، ج ١ ، ص ٢٤٨.

(٥) عن كامل الزيارة ، ص ٢٦٨.

٥٨

فنورها يخرق سبع الحجب

يفوق نور نيرات الشهب

ما سجد الصادق مهما صلى

إلا عليها وكفانا فضلا(١)

ولما شاهدته عمته فاطمة بنت علي بن أبي طالب ما ناء به من الجهد في العبادة خافت عليه من أذية نفسه وهلاكها وهو بقية السلف وحمى الأمن ومعقد الآمال ومفزع المستجير فاتت جابر بن عبد الله الأنصاري ، وهو خاصتهم وصاحب جدهم رسول الله (ص). فلعله يستطيع أن يخفف العناء والجهد عن الإمام السجاد. فقالت له : يا صاحب رسول الله (ص) إن لنا عليكم حقوقا ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا تذكرونه الله تعالى وتدعونه إلى البقيا على نفسه. وهذا علي بن الحسين قد انخرم أنفه وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه إذ آبا منه لنفسه في العبادة.

فأتى جابر باب علي بن الحسين فرأى على الباب أبا جعفر الباقر (ع) فاستأذنه في الدخول على أبيه. فدخل جابر على الإمام السجاد (ع) وهو في محرابه قد أنضته العبادة فنهض إليه الإمام وسأله عن حاله وأجلسه إلى جنبه. فقال له جابر : يابن رسول الله أما علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبكم ، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم؟ فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ فقال علي بن الحسين : يا صاحب رسول الله : أما علمت أن رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يدع الاجتهاد له وتعبد بأبي هو وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم. فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.

فقال (ص) : أفلا أكون عبدا شكورا. فلما نظر جابر إلى علي بن الحسين لا يقبل قول من يستميله عن الجهد في القصد ، قال له يابن رسول الله : البقيا على نفسك فإنك لمن أسرة بهم يستدفع البلاء ويستكشف

__________________

(١) المقبولة الحسينية للشيخ هادي كاشف الغطاء ، ص ٨٩.

٥٩

اللأواء وبهم تستمطر السماء.

فقال (ع) يا جابر لا أزال على منهاج أبوي متأسيا بهما صلوات الله عليهما حتى ألقاهما. فأقبل جابر على من حضر وقال : والله ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب. والله لذرية الحسين (ع) أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب وإن منهم لمن يملأ عدلا كما ملئت جورا(١) .

قد نرى أن مثل هذه العبادة غريبة على الناس العاديين لكنها ليست بغريبة أبدا على مثل أهل البيت العابدين الزاهدين والطاهرين المنتجبين.

والإمام زين العابدين ليس بحاجة إلى الإطراء بكثرة صلاته في اليوم والليلة ألف ركعة(٢) ، ولا بمتابعة صيامه الذي قالت عنه مولاته : « ما فرشت له فراشا بليل قط ولا أتيته بطعام في نهار قط »(٣) . وإنما ما يجب معرفته أنهعليه‌السلام كان يقوم بهذه الأعمال العبادية بحق اليقين سواء من ناحية النية المقصورة على تأهل المولى سبحانه للعبادة ، لا من الخوف أو الرجاء كما سلف مثله عن جده أمير المؤمنين وسيد التقيين (ع) الذي يقول : « إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ».

فالإمام السجاد يعبد الله تعالى كما يعبده أهل بيته كأنه يراه ، ويخافه كأنه ينظر إليه وجلال المهيمن وعظمته متجلية لديه في كل الأحوال.

فلا غرو إذا ما تتحدث به الرواة من الرهبة والخشية التي تلفه عند المثول أمام المولى عز شأنه لأداء فريضة الصلاة فتضطرب أعضاؤه ويصفر

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي ، ص ٤٧. وبشارة المصطفى ، ص ٨٠.

(٢) الخصال ، ج ٢ ، ص ١٠١.

(٣) علل الشرائع ، ص ٨٨.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274