• البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30665 / تحميل: 6517
الحجم الحجم الحجم
الإمام السجاد جهاد وأمجاد

الإمام السجاد جهاد وأمجاد

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

١

٢

الإهداء

إلى الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ..

هذه ورقات متواضعة حبرتها بدم القلب وضوء العين عن حفيدك الإمام السجاد ، بقية السيف من أبناء الحسين ، أبي الشهداء ، الذي تسايرت الركبان بذكره وفضله ، أرفعها إليك وأملي يا سيدي منك القبول.

عبدك

حسين الحاج حسن

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) [ طه : ١١٤ ]

اللهم ساعدني على قول الحق بما يسطره قلمي في هذه الرسالة الخالدة ، رائد الفكر الإنساني ومهد المعرفة والتي تهدي للتي هي أقوم.

« هذا زين العابدين ، قدوة الزاهدين ، وسيد المتقين ، وإمام المؤمنين ، شيمته تشهد له أنه من سلالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمته تثبت مقام قربه من الله زلفى ، ونفثاته تسجل بكثرة صلاته وتهجده ، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها ، درت له أخلاق التقوى فتفوقها ، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدى بها ، وألفته أوراد العبادة فأنس بصحبتها وحالفته وظائف الطاعة فتحلى بحليتها ، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع طريق الآخرة ، وظمأ الهواجر دليلا استرشد به في مفازة المسافرة ، وله الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرة ، وثبت بالآثار المتواترة ، وشهد له أنه من ملوك الآخرة ».

مطالب السّؤول

٥
٦

معالم الحياة العامة في عصر الامام (ع)

عصر الامام (ع) :

مني عصر الإمام زين العابدين (ع) باضطراب سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، لم يشهده عصر من قبل. فقد شحن بالفتن الفظيعة والأحداث الجسام مما جعله يفقد روح الاستقرار والطمأنينة ويعيش في دوامة من القلق والقتل والتشريد والتجويع. لقد أمعن الحكم الأموي في نشر الظلم والاضطهاد ، فأرغم الناس على ما يكرهون حتى بات كل فرد منهم يعيش على أعصابه لما يساوره من الهموم والآلام والمصائب التي ينتظرها في كل حين.

وسوف نوجز القول عن معالم الحياة العامة في عصر الإمامعليه‌السلام والأحداث السياسية التي داهمت المسلمين والتي عانوا منها أمر الفتن وأخطر الخطوب.

كما نتحدث عن معالم الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، ذلك أن معرفة الظروف هذه التي كانت تحيط بالإمام (ع) تعطينا وضوحا كاملا عن مواقف وأهداف وأحداث تعامل معها الإمام في زمنه ، ومع أشخاص عاصرهم سواء كانوا ملوكا أو ولاة أو علماء أو عامة الناس.

إن المعرفة التفصيلية لهذه الأمور تساعدنا كثيرا على فهم شخصية الإمام (ع).

٧

ملوك عصره :

عاصر الإمام (ع) يزيد بن معاوية ، ومعاوية بن يزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك.

ومن الولاة : الحجاج بن يوسف الثقفي ، وعبيد الله بن زياد ، وهشام بن اسماعيل والي المدينة.

الأئمة الذين عاصرهم :

عاصر الإمام علي (ع) وله من العمر سنتان ، والإمام الحسن (ع) عشر سنين ، ومع الإمام الحسين (ع) عشر سنين ، وكان عمره يقارب السبع والخمسين سنة.

وهكذا نرى كيف أن الإمام (ع) فتح عينيه على صراعات المحن والحروب ومكابدة الإمام علي (ع) ضد معاوية الذي تمسك بكرسي الحكم غاصبا معاندا ؛ وكيف تقاعس أهل العراق عن مناصرة الإمام الحسن (ع) حتى عقد الصلح مع معاوية مكرها.

ثم شاهد الإمام بأم عينيه ، وهو في ريعان شبابه مأساة أبيه الحسين (ع) في كربلاء ، وأهل بيته ، ورأى مقتلهم واحدا واحدا ، ورأى سبي النساء إلى دمشق ، وتحمل ثقل القيود ومجابهة يزيد وعبيد الله بن زياد ، والأمة التي خذلتهم وتفرجت على قتلهم ثم عادت فبكت عليهم نادمة تائبة.

الحياة السياسية :

ساد الحياة السياسية في عصر الإمام (ع) ألوان من القلق والاضطراب ، فقد خيم الذعر والخوف على الناس وفقدوا جميع أشكال

٨

الأمن والاستقرار ، مما سبب تفكك المجتمع وشيوع الأزمات السياسية الحادة ، واندلاع الثورات المتلاحقة. والسبب الأول والأخير في كل هذه الأحداث المؤلمة يعود إلى طبيعة الحكم الأموي والفساد الذي استشرى في البلاد من قبل الملوك والولاة. وقد صور هذا الحكم الفاسد أحد الشعراء فقال :

فدع عنك ادّكارك آل سعدى

فنحن الأكثرون حصى ومالا

ونحن المالكون الناس قسرا

نسومهم المذلة والنكالا

ونوردهم حياض الخسف ذلا

وما نألوهم إلا خبالا

لقد سبب الحكم الأموي الكثير من المصائب والخطوب للكثير من المسلمين وأحدث لهم الفتن والمصاعب التي ألقتهم في أدهى الشرور. من هذه المظاهر البارزة لهذا الحكم الظالم :

أ ـ الجور والاستبداد :

لقد استبد الأمويون في حكمهم الشعوب الإسلامية وجاروا كثيرا ، فلم يكن هناك قانون تسير عليه الدولة ، وإنما كان حكما مزاجيا يخضع لمشيئة ملوكهم ورغباتهم ، وأهواء وزرائهم وعواطف ولاتهم. وقد وصفه العلامة الشيخ عبد الله العلايلي فقال : « إن نظام الحكم في عهد ملوك الأمويين لم يكن إلا ما نسميه في لغة العصر بـ ( نظام الأحكام العرفية ) ، هذا النظام الذي يهدر الدماء ، ويرفع التعارف على المنطق القانوني ، ويهدد كل امرىء في وجوده ، وفي هذا العصر إذا كان يتخذ في ظروف استثنائية ، ولحالات خاصة يراد بها الإرهاب ، وإقرار الأمن ، فقد كان في العهد الأموي هذا النظام السائد ، وفي الحق أنه لا يمكننا أن نسمي هذا سلطة قضائية البتة ، بل ننكر بكل قوة أن يكون في العصر الأموي سلطة قضائية بالمعنى الصحيح إلا في فترات لا تلبث حتى يكون التباين طاغيا ، وأكبر الشواهد على هذا أن الخليفة أو حكومته تأتي ما تهوى بدون أن

٩

تتخذ لمآتيها شكليات قانونية على الأقل مما يشعر باحترام السلطة »(١) .

لقد أصبح الاستبداد السياسي الظاهرة البارزة في الحكم الأموي اتخذ فيه الملوك الأمويون ، منهجا خاصا ، انهارت بسببه قواعد العدل السياسي ومبادىء الحرية الاجتماعية.

ب ـ الإرهاب والتجويع :

استخدم معاوية أبشع أنواع القتل والإرهاب فدس السم في العسل وغيره ، كما سمّ الإمام الحسن (ع) وكان يقول : إن لله جنودا من عسل ولا يتوانى عن الفتك والقتل في أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم وأنصارهم.

كتب معاوية إلى عماله كتابا واحدا إلى جميع البلدان : « انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه » ثم أتبع ذلك بنسخة أخرى قال فيها : « من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي (ع) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (ع) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق فلم يبق فيها معروف منهم »(٢) .

ج ـ القضاء على الحريات العامة :

لقد قضي على الحريات العامة في العهود الأموية ولم يعد لها أي

__________________

(١) الإمام الحسين ، ص ٣٣٩.

(٢) ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين / عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص ٧٠ وما بعدها.

١٠

ظل على واقع الحياة ، وبصورة خاصة حرية الرأي والقول ، فبات أي فرد من المواطنين لا يستطيع أن يدلي برأيه ، وبما يفكر به وبالأخص في ما يتعلق بالولاء لأهل البيت (ع) ، فكل من يتظاهر بحبهم والولاء لهم يتهم بالكفر والإلحاد والزندقة. وقد علقت في الساحات العامة في الكوفة مجموعة من جثث رجال الفكر والعلم في الإسلام قد صلبوا أياما على الأعمدة بسبب حبهم للإمام أمير المؤمنين (ع) كميثم التمّار ورشيد الهجري ...

د ـ إحياء النزعة القبلية :

اتبع معاوية سياسة ( فرق تسد ) بين القبائل العربية حفاظا على ملكه وهي السياسة الاستعمارية نفسها ، والتي نفذها ولا يزال ينفذها الاستعمار الغربي في بلادنا. وهدف معاوية من هذه السياسة إلهاء القبائل عن حكمه بالمشاكل الداخلية والخلافات القبلية ، فكان يثير النزاعات بين مضر وربيعة والأزد وكان الأنصار يعارضون حكمه على أساس ديني ويرفضون سياسة الظلم والإرهاب فكان من واجبهم وتكليفهم الشرعي معارضة الأمويين ، فجاء معاوية بشاعر البلاط الأموي الأخطل ، وهو نصراني ، يرد عليهم فهجاهم بقصيدة منها :

ذهبت قريش بالمكارم والعلى

واللؤم تحت عمائم الأنصار

ثم بدأ معاوية بإثارة الضغائن بين الأوس والخزرج القبيلتين العربيتين ، المعروفتين بعدائهما القديم. « وهكذا بث معاوية روح البغضاء والنفرة بين القبائل العربية فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها الحقيقي ـ الحكم الأموي ـ وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الأمويين للوقيعة بأعدائهم القبليين ، وفاز معاوية وخلفاؤه من بعده ، بكونه حكما بين أعداء هو الذي أشعل النيران العدائية بينهم من حيث لا يشعرون ، ووحدهم في طاعته من حيث لا يدرون ، وقد

١١

دفعهم هذا الوضع إلى أن يقفوا دائما مع الحاكمين ضد الثائرين ليحافظوا على الامتيازات الممنوحة لهم ، فكانوا يقفون في وجه كل محاولة تهدف إلى الثورة على النظام القائم وينخذلون عنها بل ويتسابقون في استخدام أقصى ما يملكون من نفوذ ودهاء في هذا السبيل للتأكيد على ولائهم التام للسلطة القائمة »(١) .

وبديهي أن الإسلام حارب العنصرية بلا هوادة وجعلها نوعا من أنواع الجاهلية فقد قال الله تعالى :( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) وقال رسول الله (ص) : « لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، كلكم لآدم وآدم من تراب ».

فكان بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي من الصحابة المقربين جدا لرسول الله (ص) لإخلاصهم في الدين وقربهم من الله تعالى. لكننا نرى أن معاوية أثار الجاهلية من جديد بعد أن خبت ، وأحياها بعدما ماتت في نفوس المؤمنين. فعمل على تعميقها وركز على التفرقة بين العرب والعجم.

« استدعى معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب وقال لهما : إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت وأراها قد قطعت على السلف ، وكأنهم أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق ، وعمارة الطريق. وكان هذا الموقف العدائي من الموالي سببا في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب وفرض الجزية والخراج عليهم وإسقاطهم من العطاء فكان الجنود الموالي يقاتلون من غير عطاء »(٢) .

__________________

(١) ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين ، ص ١٠٠.

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٠٣.

١٢

ه ـ إقصاء الإسلام :

أهمل الملوك الأمويون الشريعة الإسلامية وتنكروا للإسلام فأقصوا جميع نظمه ومبادئه عن المسلمين ، ولم يعد لأحكام القرآن أي وجود في أجهزتهم وإداراتهم. يقول نيكلسون : « كان الأمويون طغاة ، مستبدين ، لانتهاكهم قوانين الإسلام وشرائعه ، وامتهانهم لمثله العليا ، ووطئها بأقدامهم »(١) .

لقد جاهر أكثر ملوكهم بالكفر والإلحاد ودفنوا المبادىء الإسلامية ونظمها ، فشربوا الخمر وعاثوا في الأرض فسادا وانتقصوا النبي الأعظم (ص) وخصوصا يزيد بن معاوية المعروف بفسقه وإلحاده وتنكره للمبادىء الإسلامية النبيلة وهو القائل :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل(٢)

و ـ القضاء على الروح الثورية :

لم يكتف معاوية بأساليب التفرقة والقتل والترغيب والترهيب في القضاء على مناوئيه ، فلإحكام سيطرته على الناس ولإضفاء الطابع الديني على حكمه استغل الجانب الديني استغلالا مشوها ومنحرفا عن هدفه الأصيل ، ومن هذه الأساليب اختلاق الأحاديث والأساطير والبدع الغريبة عن روح الإسلام.

« ذكر شيخنا أبو جعفر الاسكافي : إن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار كاذبة وقبيحة في علي بن أبي طالب (ع) ، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا

__________________

(١) الإمام الحسين ، ص ٦٤.

(٢) من قصيدة لابن الزبعري.

١٣

يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ومنهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير.

روى أبو هريرة ، شيخ المضيرة ، عن رسول الله (ص) : إن الله ائتمن على وحيه ثلاثا : أنا وجبريل ومعاوية ، وإن النبي (ص) ناول معاوية سهما وقال له : خذ هذا حتى تلقاني في الجنة ؛ وحديث آخر زاد في آخره : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها ».

ثم الأحاديث المختلقة التي تجوّر الظلم منها : « من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات إلا ميتة جاهلية »(١) .

ولا ريب أن أبا هريرة من عملاء معاوية المرتزقة فقد انتحل هذا الحديث وانتحل غيره. ومما أضفى عليه من النعوت المختلقة أنه كان كاتبا للوحي. والغريب أنه كيف يأتمن الرسول (ص) على كتابة الوحي من رب العالمين مثل هذا الإنسان الجاهلي البعيد كل البعد عن الإسلام ، والذي لم يلج في ضميره أي بصيص من نور الهداية والحق ، وإنما بقي ملوثا بأفكاره الجاهلية السوداء. وقد سخر المحدثين التجار والمرتزقة من وعاظ السلاطين ليختلقوا له الأحاديث المزورة والمختلقة ليوهم الناس بها. لكن من يقرأ سيرته بإمعان وتجرد يجده إرهابيا محترفا لا علاقة له بالمثل الكريمة والصفات الخيرة ، ولا قرابة بينه وبين الدين الإسلامي.

من تلك البدع التي اخترعها : مذهب الجبر.

شجع معاوية على نشر هذا المذهب لأن ذلك يساعد على تدعيم ملكه وإضفاء الشرعية عليه إذ أن فكرته تقول : إن كل ما يحدث لنا هو من الله ، وإن الملوك والأمراء منصبون من قبل الله علينا ـ سواء رضينا أم أبينا ـ وإننا مجبورون في أفعالنا ، فكان الرجل منهم يزني ويقول : أنا مجبور على

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١١٢.

١٤

عملي ويسرق ويقول : أنا مجبور على ذلك وهذا ما يعطي تبريرا مزيقا لكل أحكام الظلم والجور والقتل التي كان يستخدمها الملوك الأمويون أمثال معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد ..

ز ـ سياسة التجهيل :

إن جهل الناس للأمور يفقدهم المقاييس التي يقيسون بها الأشياء والأحداث ، وهذا مما يفيد السلطة الغاشمة ، إذ يتيح لها الفرصة بعدم مراقبة الناس لهم ومحاسبتهم على أخطائهم. وهذه السياسة الغاشمة شجعت الأمويين على نشر الجهل ولم يهتموا بنشر العلم بين أفراد الأمة ، ولم يوضحوا أحكام الله كما هي على حقيقتها بل حرفوها واختلقوا الأحاديث الموضوعة كما رأينا فبرز الأدعياء الجاهلون والمرتزقة المحترفون ، وتوارى العلماء والمؤمنون عن الساحة وأصبح الوضع كما قال أبو العلاء المعري :

فواعجبا كم يدعي الفضل ناقص

ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل

ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا

تجاهلت حتى ظن أني جاهل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة

ويا نفس جدي إن دهرك هازل

هذه السياسة قد فعلت فعلها وأثرت تأثيرا كبيرا في الأمة « لذلك نجد أن سوق الكذابين والوضاعين وحتى بعض من أسلم من أهل الكتاب أن سوقهم قد راج وصاروا هم أهل العلم والمعرفة والثقافة للأمة حينما انضووا تحت لواء الحكام ، وأبعد أهل البيت عن الساحة وأجبروهم عن التخلي عنها. حتى لنجد الإمام السجاد يقول في الصحيفة السجادية في دعاء له خاص يوم الجمعة وعرفة :

« اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلا وكتابك منبوذا وفرائضك محرّفة عن

١٥

جهات أشراعك ، وسنن نبيك متروكة »(١) .

كل هذه السياسات الخبيثة والمدبرة فعلت فعلها في المجتمع الإسلامي وضللت قطاعات واسعة من الأمة. حتى التبست أمور كثيرة في أذهان الناس ، واختلط الحق بالباطل وأثمرت سياسة معاوية حسب مخططها وآتت أكلها.

« فقد علّمت سياسة معاوية المالية وأسلوبه الوحشي ، الناس على الدجل والنفاق والسكوت عن الحق ، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصلا إلى دنيا معاوية وتمسكا بروحهم القبلية التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروّ أو تفكير ، وهذا الوضع الشاذ الذي فرض عليهم ، أن يخفوا دوما ما يعتقدونه حقا واقعا ، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم ، ولّد عندهم ازدواج الشخصية ، هذا الازدواج الذي يرجع إليه سر المأساة الدامية الطويلة الأمد التي عاشها الثائرون على حكام الجور من الأمويين والعباسيين ومن تلاهم من الظالمين ، هذا الازدواج في الشخصية صوّره الفرزدق للإمام الحسين (ع) حين لقيه في بعض الطريق فسأله عن أهل الكوفة فقال له : « قلوبهم معك وسيوفهم عليك »(٢) .

الوضع النفسي للأمة :

الحروب المتلاحقة خلال خمس سنوات تقريبا ، حروب الجمل وصفين والنهروان ، والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع الشامية وبين مراكز لحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم ولدت في نفوس أصحاب الإمام علي (ع) حنينا إلى السلم والاستراحة. فقد مرت عليهم سنوات وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلا ليشهروه في حرب أخرى

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١١٢

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٢٤.

١٦

إلى جانب هذا كانوا لا يحاربون جماعات غريبة عنهم ، وإنما يحاربون إخوانهم وعشائرهم وأصحابهم الذين تربطهم بهم مودة ومعرفة. ولا ريب أن مثل هذا الشعور بدأ يظهر بوضوح في آخر عهد الإمام علي إثر إحساسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم ، حيث اكتشف زعماء القبائل ومن إليهم أن سياسة أمير المؤمنين لا يمكن أن تلبي مطامحهم التي تزكيها سياسة معاوية في دفع المال وإقطاع الولايات ، فحاولوا إذكاء هذا الشعور والتأكيد عليه. وقد ساعد على تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الروح القبلية التي استفحلت في عهد عثمان بعد أن أطلقت من عقالها بعد وفاة النبي (ص).

ولا يخفى أن الإنسان القبلي عالمه قبيلته ، ينفعل بانفعالاتها ويطمح بطموحاتها ، ويعادي من يعاديها. فهو كما وصفه أحد الشعراء :

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وقد عبر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السورية التي كانت تغير على الحجاز واليمن وحدود العراق. فلم يستجيبوا للإمام علي حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفين.

ولما استشهد الإمام علي (ع) وبويع للإمام الحسن بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدها ، وخاصة عندما دعاهم الإمام الحسن للتجهيز لحرب الشام ، حيث كانت الاستجابة باردة جدا. ثم جهز جيشا ضخما إلا أنه كتب عليه الهزيمة قبل ملاقاة العدو وذلك بسبب التيارات المتعددة التي كانت تتجاذبه. فقد « خف معه أخلاط من الناس : بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم خوارج يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب حيلة وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكاك وأصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم ». وكان هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية واعدين بأن يسلموه الحسن حيا أو ميتا. وحين خطبهم الإمام الحسن ليختبر مدى إخلاصهم هتفوا من كل جانب « البقية البقية » بينما هاجمته طائفة تريد قتله. وفي

١٧

الوقت نفسه أخذ الزعماء يتسللون تحت جنح الليل بعشائرهم.

ولما رأى الإمام الحسن ، أمام هذا الوضع السيىء ، أن الظروف النفسية والاجتماعية في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزا عن النهوض بتبعات القتال ، ورأى أن الحرب ستكلفه استئصال المخلصين من أتباعه بينما يتمتع معاوية بنصر حاسم ، حينئذ جنح إلى الصلح بشروطها.

هكذا كانت الحال في عهد الإمام الحسن أما حالة الناس أثناء ثورة الإمام الحسين (ع) وفيما بعدها فقد ازدادت سوءا أو أصبح الأمر أكثر حراجة : فالذعر والخوف قد أطبق على الناس ، وقل الديانون كما أشار إلى ذلك الإمام الحسين بقوله : « الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ».

وظل الحسين (ع) يقاتل مع قلة من أهل بيته وأصحابه حتى سقط شهيدا مخضبا بدمائه الطاهرة على رمال كربلاء التي شهدت تلك المأساة الدموية التي لم يشهد التاريخ فظاعتها. وحينما استشهد الإمام الحسين (ع) مع أهل بيته وأصحابه تصور الأمويون وعامة الناس أن أهل البيت قد انتهى أمرهم ، وأفل نجمهم ، فلا الأمويون يخافونهم ، ولا غير الأمويين يرجونهم إلى جانب هذا لم يجرأ أحد على الاتصال بهم ، والجهل المطبق بالإسلام ، فكانت الردة عن أهل البيت (ع) عامة وشاملة. هذه هي الوضعية الاجتماعية والسياسية التي كان يعيش في ظلها الإمام زين العابدين (ع). وقد عايشها بوضوح كامل مع عمه الحسن (ع) ومع أبيه الحسين (ع) واستمرت هذه الظروف على أشدها طوال حياته فكيف يتصرف؟ وكيف يتحرك؟ وكيف تعامل مع الملوك والولاة الظالمين؟ هل يترك الأمور على ما هي؟ أم يرفع السيف للحرب؟.

المعروف عن الإمام زين العابدين (ع) أنه لم يرفع السيف في ذلك الوقت ولم يجهز جيشا للقيام بثورة ، إنما اتجه اتجاهات أخرى كانت في نظره أجدى في بناء الأمة وإعدادها للوقوف أمام تلك الانحرافات الخطيرة

١٨

التي حدثت على نطاق الحكم وفي داخل المجتمع. فما هي الأسباب التي دفعت الإمام (ع) إلى الامتناع عن القيام بالثورة في ذلك الوقت.

أ ـ الوضع السياسي والاجتماعي للأمة :

لقد وصلت الأمة إلى حالة من الإنهماك النفسي والجسدي بحيث لا يمكنها القيام بثورة شاملة. رأينا موقف المقاتلين المأساوي من الإمام الحسن (ع). كما رأينا كيف فعلت رشاوي معاوية فعلها بين رؤساء القبائل ، أضف إلى ذلك : التضليل الديني والسياسي وإحياء النزعات القبلية الجاهلية ، أمام هذه الأسباب وصلت الأمة إلى حالة من القعود والاسترخاء بحيث أصبحت غير مؤهلة لحمل الرسالة وأداء الأمانة ، فكيف سيكون موقف الإمام (ع) لو دعا إلى الثورة؟

ستكون النتيجة حتما الخذلان والفشل.

ب ـ عدم وجود قوة كافية ومؤهلة للثورة :

لم تكن هناك قوة كافية ناصرة ومؤيدة واعية لأهداف الثورة التي على الإمام القيام بها. وقد أكدعليه‌السلام على ذلك مرارا ، « روى النهدي قال : سمعت علي بن الحسين (ع) يقول : ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا »(١) . والحب الذي يعنيه الإمام هو الحب المقرون بالاتباع والإخلاص لأهل البيت ـعليهم‌السلام ـ فكيف يمكن للإمام أن يثور بشلة قليلة أمام جيش أموي كبير؟ لا يمكن تصور ذلك أبدا. علما أن الإمام السجاد (ع) كان واقعيا جدا في تصرفاته الحكيمة والدقيقة. إن الصفات الإسلامية المطلوبة في الثائرين غير موجودة. وفي الرواية التالية يبين لنا الإمام (ع)

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤٦ ، ص ١٤٣.

١٩

رأيه بوضوح « عن أبي عبد الله (ع) قال : لقي عباد البصري علي بن الحسين في طريق مكة فقال له : يا علي بن الحسين تركت الجهاد بصعوبته وأقبلت على الحج ولينته ، إن الله عز وجل يقول :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ * يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ * وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) . فقال لهعليه‌السلام :

أتم الآية ، فقال :( التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحج »(٣) .

فإذا وجد الثوار المتمثلة فيهم هذه الصفات بحيث تجري في دمائهم وهي جزء لا يتجزأ من كيانهم فإنه يقدم والله تعالى سينصرهم حتما وسينتصر بهم : « التائبون ، العابدون هؤلاء هم أنصار الله وأحباؤه وليس المراؤون المخادعون الكذابون المراوغون. ذلك أن الله مع الذين اتقوا والذين هم صادقون وقد وجد هؤلاء في عهد الرسول (ص) وانتصر بهم انتصارا باهرا بإذن الله فانتشروا في بقاع الأرض ونشروا معهم الرسالة الإسلامية ثمرة من ثمار إخلاصهم للدين الحنيف فوصلوا إلى الدرجات الرفيعة والصفات السامية النابعة من روح الإسلام العظيم.

ج ـ الاستفادة من التجارب السابقة :

لقد تجرع الإمام الكثير من الآلام بسبب ما أصابه من غم وهم

__________________

(١) التوبة ، الآية ١١١.

(٢) التوبة ، الآية ١١٢.

(٣) الكافي الكليني ، ج ٥ ، ص ٢٦.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

القذارة المعنوية، فأذهب الله عنها الرجس وطهَّرها تطهيراً.

وهاك طائفة من الأحاديث الصحيحة التي تصرّح بهذا المعنى:

1 - روى القندوزي في ينابيع المودّة ص260 عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما سمِّيت فاطمةُ البتول لأنّها تبتَّلت في الحيض والنفاس.

2 - روى محمد صالح الكشفي الحنفي في (المناقب) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: وسُمّيت فاطمة بتولاً لأنّها تبتّلت وتقطَّعت عمّا هو معتاد العورات في كل شهر.

3 - روى الأمرتسري في (أرجح المطالب): أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سُئل عن بتول وقيل: إنَّا سمعناك - يا رسول الله - تقول: مريم بتول وفاطمة بتول؟ فقال: البتول التي لم تر حمرة قط، أي لم تحض، فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء. أخرجه الحاكم.

4 - وروى الحافظ أبو بكر الشافعي في (تاريخ بغداد ج13 ص331) عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ابنتي حوراء آدميّة لم تحض ولم تطمث... الخ ورواه النسائي أيضاً.

5 - وروى ابن عساكر في (التاريخ الكبير ج1 ص391) عن أنس بن مالك عن أم سليم قالت: لم تر فاطمةرضي‌الله‌عنها دماً في حيض ولا في نفاس.

6 - الحافظ السيوطي: ومن خصائص فاطمةرضي‌الله‌عنها أنّها كانت لا تحيض، وكانت إذا ولدت طهرت من نفاسها بعد ساعة حتى لا تفوتها صلاة.

7 - وروى الرافعي في التدوين عن أم سلمةرضي‌الله‌عنها قالت: ما رأت فاطمةرضي‌الله‌عنها في نفاسها دماً ولا حيضاً.

١٠١

8 - روى الطبري في (ذخائر العقبى) عن أسماء بنت عُميس قالت: قبلت (أي ولدت) فاطمة بالحسن فلم أر لها دماً في حيض ولا نفاس، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أما علمت أنّ ابنتي طاهرة مطهّرة، لا يُرى لها دمٌ في طمث ولا ولادة.

ورواه الصفوري في (نزهة المجالس) ص227.

9 - عن أبي بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: حرَّم الله عزّ وجل على علي النساء ما دامت فاطمة حيَّة (في قيد الحياة) قلت: وكيف؟ قال: لأنّها طاهرة لا تحيض.

قال شيخنا المجلسي: هذا التعليل يحتمل وجهين:

الأول: أن يكون المراد أنّها لما كانت لا تحيض حتى يكون له عذر في مباشرة غيرها؛ فلذا حرَّم الله عليه غيرها رعاية لحرمتها.

الثاني: أنّ جلالتها منعت من ذلك، وعبَّر عن ذلك ببعض ما يلزمه من الصفات التي اختصت بها.

أقول: ونزاهة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام عن هذه الدماء تُعتبر من مصاديق آية التطهير التي تُصرِّح بإذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيراً.

١٠٢

العَذْرَاء

لقد مرّ عليك أنّ من جملة أسمائها: العذراء أي أنّها كانت عذراء دائماً، وقد مرّت عليك أحاديث كثيرة تصرِّح بأنَّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام خُلقت من طعام الجنّة، وصرَّح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّها حوراء إنسيّة، وليس في هذا التعبير شيء من المجاز أو الغلوّ، بل هي الحقيقة والحق، ونجد إلى جانب تلك الأحاديث قوله تعالى:( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ) ومعنى ذلك أنَّ الحور العين أبكار دائماً، وفي مجمع البيان في تفسير الآية: لا يأتيهنّ أزواجهن إلاّ وجدوهنّ أبكاراً.

وهذا حديث يفسِّر الموضوع تفسيراً كاملاً، فقد سأل رجل من الإمام الصادقعليه‌السلام في ضمن مسائل - قال: فكيف تكون الحوراء في كل ما أتاها زوجها - عذراء؟ قال: لأنّها خُلقت من الطيب، لا يعتريها عاهة ولا تخالط جسمها آفة... ولا يدنسها حيض، فالرحم ملتزقة... إلى آخره(1) .

____________________

(1) البرهان في تفسير القرآن ج 4 / 281.

١٠٣

حَيَاتها وَنَشْأَتُهَا

لقد فتحت السيدة فاطمة الزهراء عينها في وجه الحياة، وفي وجه أبيها الرسول ترتضع من أمِّها السيدة خديجة اللبن المزيج بالفضائل والكمال.

وكانت تنمو في بيت الوحي نموًّا متزايداً، وتنبت في مهبط الرسالة نباتاً حسناً، يزقّها أبوها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله العلوم الإلهيّة، ويفيض عليها المعارف الربّانية، ويعلّمها أحسن دروس التوحيد، وأرقى علوم الإيمان وأجمل حقائق الإسلام.

ويربّيها أفضل تربية وأحسنها؛ إذ وجد الرسول في ابنته المثالية كامل الاستعداد لقبول العلوم ووعيها، ووجد في نفسها الشريفة الطيّبة كل الروحانية والنورانية، والتهيّؤ لصعود مدارج الكمال.

إلى جانب هذا شاءت الحكمة الإلهيّة للسيّدة فاطمة الزهراء أن تكون حياتها ممزوجة بالمكاره، مشفوعة بالآلام والمآسي منذ صغر سنّها، فإنّها فتحت عينها في وجه الحياة وإذا بها ترى أباها خائفاً، يحاربه الأقربون والأبعدون ويناوئه الكفّار والمشركون.

فربّما حضرت فاطمة في المسجد الحرام فرأت أباها جالساً في حِجر إسماعيلعليه‌السلام يتلو القرآن، وترى بعض المشركين يوصلون إليه أنواع الأذى، ويحاربونه محاربة نفسيّة.

وحضرت يوماً فنظرت إلى بعض المشركين وهو يُفرغ سلا الناقة(1)

____________________

(1) هو الكيس الذي يتكوّن فيه الجنين.

١٠٤

على ظهر أبيها الرسول وهو ساجد.

كانت الزهراء تشاهد ذلك المنظر المؤلم، وتمسح ذلك عن ظهر أبيها وثيابه وتوسعهم سبّاً وشتماً، وهم يضحكون من سبابها وشتائمها، شأن السفلة الأوباش.

وعن ابن عباس: إنّ قريشاً اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزّى ومناة: لو رأينا محمداً لقمنا مقام رجل واحد، ولنقتلنّه، فدخلت فاطمةعليها‌السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باكية، وحكت مقالهم... إلى آخر كلامه.

واشتدّت الأزمة وزادت المحنة حتى اضطرّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يختفي في شعب أبي طالب، ورافقته عائلته، وآل أبي طالب إلى ذلك المكان، وكانوا يعيشون في جوٍّ من الإرهاب والإرعاب. ففي كل ليلة يتوقّعون هجوم المشركين عليهم وخاصة بعد أن كتب المشركون الصحيفة القاطعة، وحاصروا بني هاشم حصاراً اقتصادياً فلا يَدَعونهم يبيعون ولا يشترون شيئاً حتى المواد الغذائية، بل ومنعوا إيصال الطعام إليهم، فاستولى الجوع عليهم، وأثَّر في الأطفال أكثر وأكثر، فلا عجب إذا كانت أصوات بكاء الأطفال تصل إلى مسامع أهل مكّة، فبين شامت بهم مسرور، وبين متألِّم حزين.

وطالت المدّة ثلاث سنين وشهوراً، وكانت السيدة فاطمة من الذين شملتهم هذه المأساة.

وهذه المآسي أيقظت في السيدة فاطمة روح الجهاد والاستقامة والمثابرة، وكأنّها كانت فترة التمرين والتدريب للمستقبل القريب.

وممّا كان يهوِّن الخطب، ويجبر خاطر السيّدة فاطمة الزهراء، ويقرّ عينها أنّها كانت ترى البطل الشهم أبا طالب يقف ذلك الموقف المشرِّف في نصرة أبيها الرسول؛ فكان تارة يحمل سيفه ويرافقه أخوه حمزة ويمشيان

١٠٥

خلف الرسول نحو المسجد الحرام ليعلن مؤازرته ومناصرته للرسول، وكأنّهما جنديان مسلّحان في حالة الإنذار، وربّما انضمّ إلى أبي طالب بعض عبيده ومواليه يمشون خلف الرسول وكأنّهم مفرزة عسكرية أو سَرِيّة جيش.

وتارة أخرى كان يصرّح بتجاوبه وانحيازه إلى الرسول، فكان يعلن إسلامه إظهاراً للحقيقة، فينظم القصائد التي كان لها أحسن أثر في ذلك اليوم في دعم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنها:

ما رواه الطبري بإسناده أنّ رؤساء قريش لما رأوا دفاع أبي طالب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعوا إليه، وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالاً وجوداً وشهامة: عمارة بن الوليد، ندفعه إليك وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرّق جماعتنا، وسفّه أحلامنا فنقتله!!

فقال أبو طالب: ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم فأغذوه، وأعطيكم ابني فتقتلونه؟ بل، فليأت كل امرئ بولده فأقتله، وقال:

منعنا الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ كلمع البروق

أذود وأحمي رسول المليك

حماية حامٍ عليه شفيق

وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة لا تُحصى، فمن ذلك قوله:

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً

نبيّاً كموسى خطَّ في أوّل الكتبِ؟

أليس أبونا هاشم شدَّ أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالحربِ؟

وقوله من قصيدة:

وقالوا لأحمد: أنت امرؤ

خلوف اللسان ضعيف السبب

ألا إنّ أحمد قد جاءهم

بحقٍّ، ولم يأتهم بالكذب

وقوله في حديث الصحيفة، وهو من معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

١٠٦

وقد كان أمر الصحيفة عبرة

متى ما يخبِّر غائب القوم يعجبِ

محا الله منها كفرهم وعقوقهم

وما نقموا من ناطق الحقّ معربِ

وأمسى ابن عبد الله فينا مصدِّقاً

على ساخطٍ من قومنا غير معتبِ

وقوله من قصيدة يخصّ أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته:

صبراً أبا يعلى على دين أحمدٍ

وكن مظهراً للدين وُفّقت صابرا

فقد سرني إذ قلت إنّك مؤمن

فكن لرسول الله في الله ناصرا

وقوله يحض النجاشي (ملك الحبشة) على نصر النبي:

تعلَّم(1) مليك الحبش أنّ محمداً

نبيٌّ كموسى والمسيح ابن مريمِ

أتى بهدىً مثل الذي أتيا به

وكلٌّ بأمر الله يهدي ويعصمِ

وإنّكمُ تتلونه في كتابكم

بصدق حديث، لا حديث المرجّمِ

فلا تجعلوا لله نداً، وأسلموا

وإنّ طريق الحق ليس بمظلمِ

وقال أيضاً:

لقد أكرم الله النبيَّ محمّداً

فأكرم خلق الله في الناس أحمد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود، وهذا محمد(2)

وقال أيضاً:

كذبتم وبيتِ الله نبزي محمّداً

ولما نطاعن دونه ونناضلِ

ونُسلمه حتى نُصرَّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائلِ

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأراملِ

يلوذ به الهلاّك من آل هاشم

فهم عنده في رحمةٍ وفواضلِ

____________________

(1) تعلَّم أي إعلم.

(2) وقد ضمنّ حسان بن ثابت هذا البيت في قصيدته في مدح الرسول.

١٠٧

ألم تعلموا أنّ ابننا لا مكذَّبٌ

لدينا، ولا نعبأ بقول الأباطلِ

فأيَّده ربُّ العباد بنصره

وأظهر ديناً حقّه غير باطلِ

أُقيمُ على نصر النبيّ محمّدٍ

أُقاتل عنه بالقنا والقنابلِ(1)

إلى غير ذلك من مواقفه وتصريحاته ومساندته للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ولولا إيمانه بالله واعتقاده بالإسلام لما وقف تلك المواقف، ولما غامَرَ بنفسه وبأولاده في سبيل نصرة النبي وتقوية دينه.

ولم يكن ذلك التفادي والمخاطرة بدافع القرابة، فلقد كان للرسول ثمانية أعمام (غير أبي طالب) فلماذا لم يسجِّل التاريخ لهم تلك المواقف المشرِّفة، بل سجّل التاريخ عن بعض أعمام النبي مواقف مخزية كمواقف عمِّه أبي لهب.

____________________

(1) القنابل: جمع قنبلة - الطائفة من الناس أو الخيل - وفي الاصطلاح الحديث هي القذيفة المحشوّة بمواد متفجّرة أو حارقة.

١٠٨

وَفَاةُ السيِّدَة خَديجَة الكُبْرى

كانت الأعوام تَمرّ، والسنوات تنقضي، وحياة الزهراء مشفوعة بالحوادث والمآسي، وقد بلغت السابعة من عمرها أو قاربت الثامنة وإذا بفاجعة تطلُّ على حياتها، وتخيِّم الهموم وتتراكم الأحزان على قلبها، وهي وفاة أُمّها السيدة خديجة، تلك الأُمّ البارَّة الحنون التي كانت تنظر إلى ابنتها الصغيرة فاطمة العزيزة نظرة حزن وتألّم وتأثّر؛ لأنّها تعلم أنّ الزهراء ستفجع بأُمّها العطوفة الرؤوفة.

كانت السيدة خديجة طريحة الفراش، وقد خيَّم عليها شبح الموت، فدخل عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تعالج سكرات الموت فقال لها: بالرغم منَّا ما نرى بك يا خديجة، فإذا قدمت على ضرائرك فاقرئيهنّ السلام! قالت: مَن هنَّ يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : مريم بنت عمران، وكلثم أُخت موسى، وآسية امرأة فرعون. فقالت: بالرفاء يا رسول الله(1) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: أُمرت أن أُبشِّر خديجة ببيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب(2) .

قال ابن الأثير في (النهاية): القصب - في هذا الحديث -: لؤلؤ

____________________

(1) البحار ج 19 / 24 عن من لا يحضره الفقيه.

(2) مسند أحمد.

١٠٩

مجوَّف واسع كالقصر المنيف. والصخب: الضجّة واضطراب الأصوات للخصام.

كانت السيدة خديجة تتأوّه وتبكي فقالت لها أسماء بنت عميس: أتبكين وأنت سيّدة نساء العالمين؟ وأنت زوجة النبي؟ مبشَّرة على لسانه بالجنّة؟ فقالت: ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لا بدَّ لها من امرأة تفضي إليها بسرِّها وتستعين بها على حوائجها، وفاطمة حديثة عهد بصبا، وأخاف أن لا يكون لها مَن يتولّى أمرها حينئذ!

فقالت أسماء: يا سيّدتي لك عهد الله إن بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر.. إلخ.

وفارقت السيدة خديجة الحياة، وعمرها ثلاث وستون سنة (على قول) فكانت وفاتها ضربة مؤلمة على قلب الرسول، وخاصةً وأنّ النبي قد فُجع بعمِّه أبي طالب بعد أيام أو شهور من وفاة السيدة خديجة فازداد حزناً، حتى سمَّى تلك السنة (عام الحزن)؛ لأنّه أُصيب بمصيبتين عظيمتين على قلبه البار:

مصيبة زوجته خديجة، لا لأنّها زوجته فقط، بل لأنّها أَول مَن صدَّقته بالنبوّة، ولأنّها كانت زوجة ومعاضدة ومساعدة ومحامية لزوجها، لأنّها وهبت الآلاف المؤلّفة من أموالها في سبيل الإسلام، ولأنّها كانت تحمل شخصية فريدة من نوعها في مكّة، بل في نساء العرب.

ودُفنت في الحَجون، فنزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبرها. وكانت السيدة فاطمةعليها‌السلام تلوذ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدور حوله وتسأله: يا رسول الله أين أُمي؟ فجعل النبي لا يجيبها، وهي تدور على مَن تسأله، فهبط عليه جبرئيل فقال: إنّ ربّك

١١٠

يأمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها: أُمّك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وأعمدته من ياقوت أحمر، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران.

فقالت فاطمة: إنّ الله هو السلام ومنه السلام، وإليه يعود السلام.

والمصيبة الأخرى مصيبة عمِّه أبي طالب الذي كفل النبي من يوم وفاة جدّه عبد المطلب، وهو ابن ثمان سنوات، واستمرّت الكفالة حتى بلغ النبي من العمر ثلاثاً وخمسين سنة، وهي السنة التي مات فيها أبو طالب.

ولأبي طالب حقوق وخدمات ومواقف تجاه النبي طيلة هذه السنوات تعتبر في قمّة فضائله وفواضله، ولولاه لمات الدين الإسلامي وهو في المهد:

ولولا أبو طالبٍ وابنه

لَما مَثُل الدين شخصاً فقاما

فهذا بمكّة آوى وحام

وهذا بيثرب جسَّ الحِماما

ولله ذا فاتحاً للهدى

ولله ذا للمعالي ختاما

وكان لهاتين الفاجعتين أكبر الأثر في حياة الرسول وتغيير مجراها، لولا موت أبي طالب لما هاجر من مكّة؛ لأنَّه حينذاك شعر بفقدان الناصر والكفيل والمحامي ولم يكن في أعمامه مَن يقوم مقام أبي طالب حتى عمّه حمزة يومذاك.

وقد رثاه ابنه الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام بأبيات:

أبا طالبٍ عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظُّلَم

لقد هدَّ فقدك أهل الحفاظ

فصلَّى عليك ولي النعم

ولقَّاك ربّك رضوانه

فقد كنت للطهر من خير عم (1)

____________________

(1) كتاب الكنى والألقاب للقمّي.

١١١

فَاطِمَةُ الزّهْرَاءعليها‌السلام والهِجْرَة

ولمّا أُصيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوفاة السيدة خديجة وعمّه أبي طالب عزم على الهجرة من مكّة، وأمر عليّاً أن يبيت على فراشه تلك الليلة، وسُمّيت تلك الليلة: (ليلة المبيت) وهي الليلة التي اجتمع فيها حوالي أربعين أو أربعة عشر رجلاً من المشركين، وطوَّقوا بيت الرسول، وهم يريدون الهجوم على النبي ليقتلوه في بيته، فخرج النبي إلى الغار، وبقيت السيدة فاطمة في البيت، وهي تتوقّع هجوم الأعداء على دارها في كل ساعة وتستمع إلى هتافات الكفر والإلحاد ضد الرسول، ويعلم الله مدى الخوف والقلق المسيطر عليها طيلة تلك الليلة، وهي تعلم خشونة طباع المشركين وقساوة قلوبهم، فيكون أسوأ الاحتمالات عندها أقرب الاحتمالات.

وإلى أن أصبح الصباح من تلك الليلة، وهجم القوم في الدار شاهرين سيوفهم كأنّهم ذئاب ضارية أو كلاب مستسبعة تطلب فريستها، وقصدوا نحو فراش النبي فلم يجدوه بل وجودوا عليّاًعليه‌السلام راقداً في فراش النبي، ملتحفاً بردة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخابت ظنونهم، وخرجوا من الدار فاشلين، وكادوا أن يتفجَّروا حقداً وغيظاً وغضباً.

فكانت تلك الساعات من أحرج الساعات وأكثرها خوفاً وفزعاً على قلب السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

ويا ليت الأمر كان ينتهي هنا، ولكنّ أحقاد الكفر كانت كامنة في

١١٢

الصدور كأنّها جمرة تحت رماد.

ولمّا خرج أمير المؤمنينعليه‌السلام بالفواطم من مكّة وهُنَّ: فاطمة الزهراء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة بنت أسد (أُمّ أمير المؤمنين) وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، فلحقهم العدو، واعترضهم في أثناء الطريق للحيلولة دون الهجرة، وكان الموقف حرجاً، واستولى الرعب والفزع على قلوب الفواطم من الأعداء، وكادت أن تقع هناك كارثة أو كوارث لولا حفظ الله وعنايته، ثم بسالة الإمام علي وبطولته المشهورة، وكفاهم الله شرّ الأعداء، ونجا علي والفواطم بقدرة الله تعالى.

وصلت الفواطم إلى المدينة، وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد سبقهم إليها، وكان ينتظرهم، ولمّا وصلوا دخل النبي المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، والتحقت به ابنته فاطمة الزهراء، ونزلت على أُمّ أبي أيوب الأنصاري.

كانت السيدة الزهراء تعيش تحت ظل والدها الرسول في المدينة بعد أن مرَّت بها عواصف شديدة وحوادث مؤلمة: من موت أُمّها خديجة، وهجرة أبيها الرسول من وطنه ومسقط رأْسه، وهجوم الأعداء على الدار، وهجرتها من مكّة إلى المدينة، ومطاردة الأعداء لها

فهل انتهت تلك الحوادث والمصائب؟

كلاّ، بل كانت تلك القضايا بداية مآسي أخرى، وكوارث متسلسلة متعاقبة، إذ ما مضت سنة واحدة على الهجرة وإذا بالمشركين يجتمعون في مكّة ويقصدون التوجّه إلى المدينة لمحاربة الرسول والمسلمين.

فنزل جبرئيل وأخبر النبي بالمؤامرة، فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين من أهل المدينة وبمَن التحق به من المهاجرين من أهل مكّة، خرج بهم ليستقبل العدو في أثناء الطريق قبل وصولهم المدينة، فوصلوا

١١٣

إلى منطقة بين المدينة ومكّة يُقال لها: (بدر).

وهناك التقوا بالمشركين، وكان عدد المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، ولكن كانت الغلبة والانتصار للمسلمين والهزيمة والاندحار للمشركين، فرجع النبي إلى المدينة مظفَّراً منصوراً.

١١٤

فَاطِمَةُ الزّهْرَاءُعليها‌السلام يَوْم أُحُد

وبعد سنة واحدة وشهر وقعت غزوة أُحد، وقُتل فيها من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبعون رجلاً كانوا هم الصفوة والزبدة من أصحابه، وفي طليعتهم عمّه سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وأُصيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحجر انكسرت منه جبهته الشريفة، وحجر أصاب فمه الطاهر وانكسرت منه ثناياه، وتخثَّر الدم على لحيته كأنّه حنّاء أو خضاب.

وفي تلك الآونة صاح إبليس صيحة سمعها المسلمون في أُحد، وسمعها أهل المدينة، صاح: (قُتل محمد).

اضطربت القلوب في جبهة القتال، وانهزم المنهزمون، وثبت المؤمنون حقّاً، ولم يكن اضطراب العوائل في المدينة بأقل من اضطراب المسلمين في ساحة القتال.

وقد خرجت صفية بنت عبد المطلب (عمّة النبي) وفاطمة الزهراء إلى أحد، فصاحت فاطمة، ووضعت يدها على رأسها، وخرجت تصرخ، وخرجت كل هاشمية وقرشية، واضعة يدها على رأسها.

وكان وصول فاطمة الزهراء وصفية إلى أُحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أن قُتل مَن قُتِل، وجُرحَ مَن جُرح، وكان النبي يتفقّد القتلى ويبحث عن المفقودين من أصحابه.

وهو إذ ذاك قد وصل إلى مصرع حمزة، فوجده بحالة لا تُوصف،

١١٥

فقد مثّلوا به أقبح وأبشع مُثلة، فقد قطعوا أصابع يديه ورجليه، وجدعوا أنفه وأذنيه وشقّوا بطنه، وأخرجوا كبده، وقطعوا عورته، وتركوه بهذه الحالة.

كان هذا المنظر المشوَّه مؤلماً ومخدشاً لقلب الرسول، إذ هو نكاية وتنكيل من المشركين لعمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وناصره والمدافع عنه.

كان الحزن والغيظ قد أخذ من الرسول كل مأْخذ، فبينما هو كذلك وإذا به يرى عمَّته صفية وابنته فاطمة قد توجَّهتا نحو تلك المنطقة، فغطى الرسول جثمان حمزة بردائه، وستَرَه من القرن إلى القدم كي لا يُرى شيء من مواضع المثلة.

وأقبلت صفية وفاطمة تعدُوان، وجلستا عند مصرع حمزة، وشرعتا بالبكاء والنحيب، ورسول الله يساعدهما على البكاء، ويشاركهما في الأنين والنحيب، ثم نظرت فاطمة إلى جراحة جبهة الرسول، وإلى الدماء المتخثّرة على وجهه الطاهر ولحيته الشريفة، فصاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتدّ غضب الله على مَن أَدمى وجه رسول الله.

فغسلت الدماء عن وجه أبيها، وكان علي يصبّ الماء بالمجنّ(1) .

فلمّا رأت فاطمة أنَّ الماء لا يزيد الدم إلاَّ كثرة عمدت إلى قطعة حصيرة فأحرقتها، وجعلت رمادها ضماداً على جبهة أبيها، وألزمته الجرح، فاستمسك الدم.

أترى كيف انقضت تلك الساعات على قلب فاطمة؟ فقد تداخلها الحزن العظيم والخوف الشديد وهي البنت البارَّة بأبيها، العارفة بحقّه.

ولمّا رجع عليعليه‌السلام من أُحد ناولَ فاطمة سيفه، وقال:

____________________

(1) المجنّ: التُرس.

١١٦

خذي هذا السيف، فلقد صدقني اليوم، وأنشأ يقول:

أفاطم هاكِ السيف غير ذميمِ

فلستُ برعديدٍ، ولا بلئيمِ

لعمري لقد أعذرتُ في نصر أحمدٍ

وطاعة ربٍّ بالعباد عليمِ

أُريد ثواب الله لا شيء غيره

ورضوانه في جنّة ونعيمِ

وكنتُ امرأً يسمو إذ الحرب شمُّرت

وقامت على ساقٍ بغير مليمِ

أممت بن عبد الدار حتى جرحته

بذي رونقٍ يفري العظام صميمِ

فغادرته بالقاع فارفضَّ جمعه

عباديد ممّا قانط وكليمِ

وسيفي بكفّي كالشهاب أهزُّه

أحزُّ به من عاتقٍ وصميمِ

فما زلت حتى فضَّ ربي جموعهم

وأشفيت منهم صدر كل حليمِ

أَميطي دماء القوم عنه فإنّه

سقى آل عبد الدار كأْس حميمِ

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : خذيه يا فاطمة فقد أدَّى بعلك ما عليه، قتل الله صناديد قريش بيديه(1) .

لقد مرَّ عليك أنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام حضرت في أُحد، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ولمّا نظرت إلى جراحة أبيها غسلت الدماء بالماء، وأحرقت قطعة حصيرة وجعلت رمادها على جبهة أبيها الرسول.

هذه الواقعة كما ذكرها المؤرّخون، ولكن في زماننا - هذا - جاءت طائفة من الناس، واعتبروا هذه الواقعة ساحة لمسرحياتهم الشاذة، فكتبوا بكل إصرار وإلحاح وتكرار أنّ فاطمة كانت تحضر جبهات القتال وتضمِّد الجرحى، وتداويهم وتسعفهم!!!

أنا ما أدري ما يقصد هؤلاء الشواذ من اختلاق هذه الأكذوبة؟

إذا قامت سيّدة بتضميد جراحة أبيها فقط وفقط في العمر مرة واحدة بعد انتهاء القتال هل يقال عنها: إنّها كانت تحضر جبهات القتال وتضمِّد

١١٧

الجرحى وتداويهم؟؟

أنا ما أدري ما هدف هؤلاء من ترويج هذا الباطل وإشاعة هذا الافتراء؟

هل يريدون المسَّ بقدسيَّة السيدة فاطمة الزهراء ونزاهتها؟

أم يريدون فتح الطريق للاختلاط بين الجنسين؟

ولنفرض أنّ نسيبة بنت كعب حضرت يوم أُحد لتضميد الجرحى، فهل معنى ذلك أن نعتبر السيدة فاطمة الزهراء، وهي سيّدة نساء العالمين في العفاف والحياء والحشمة والنزاهة والعصمة، نعتبرها كالموظفات في المستشفيات والمستوصفات ومؤسَّسات الإسعاف الدولية؟؟

أنا ما أدري ولعلّهم يدرون ويعرفون ما يبرِّر لهم هذه الأكذوبة!.

١١٨

مَشَاكِلُ السيّدَة فَاطِمَة في دَارِ أبيها

ومن المشاكل التي عكَّرت - على السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام - حياتها أنّها ابتليت ببعض زوجات أبيها الرسول، من اللواتي قد تكوَّنت عندهنَّ عقدة نفسية، فكنَّ يحسدن السيدة فاطمة الزهراء على مواهبها وفضائلها، وخاصة وأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغمر السيدة فاطمة بألطافه ويمطر عليها عواطفه، ويحبّها حبّاً عجيباً يهيِّج في قلوب بعض نسائه الحسد الكامن.

فقد روى شيخنا المجلسي (عليه الرحمة) في السادس من البحار، عن كتاب الخصال، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منزله، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها، وهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترين إلا أنّ لأُمُّك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا؟ وما هي إلاَّ كبعضنا!!

فسمع النبي مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بكت، فقال: ما يبكيك يا بنت محمد؟

قالت: ذكرت عائشة أُمّي فنقّصتها فبكيتُ.

فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال: مَه يا حميراء! فإنّ الله تبارك وتعالى باركَ في الودود الولود وإن خديجة (رحمها الله) ولدت منّي طاهراً (وهو عبد الله) وهو المطهّر، ووَلدت مني القاسم ورقية وأُمّ كلثوم وزينب، وأنت ممّن أعقم الله رَحِمها. فلم تلدي شيئاً (1) .

____________________

(1) الخصال للشيخ الصدوق.

١١٩

ولعائشة مواقف غير مشكورة تجاه السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تدل على جانب كبير من انحرافها العميق العريق المتواصل، بحيث لم يُعهد تلك المواقف المتطرّفة من بقيّة زوجات الرسول تجاه سيّدة العالمين.

فمنها: ما ستقرأه - عند البحث عن فدك - بأنّ عائشة شهدت عند أبيها أبي بكر أنّ الأنبياء لا يورِّثون؛ وذلك لكي تحرم السيدة فاطمةعليها‌السلام عن إرث أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومنها: لما بلغ عائشة خبرُ وفاة الزهراءعليها‌السلام تبسّمت!!

وسوف تقرأ أنّ السيدة فاطمة أوصت أسماء بنت عميس بعدم السماح لعائشة أن تحضر عند جنازتها ساعة الوفاة، وهذا يدلّ على سخطها على عائشة وعدم رضاها عنها، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها).

هذا... وفي هذا الحديث الأول تصريح بأنّ بنات السيدة خديجة الكبرى كلهنّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا من زوج آخر، وليس هذا الحديث هو الدليل الوحيد على ذلك بل توجد أدلَّة وبراهين قطعيّة على أنَّهن كنَّ بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حقيقة، ومن صلبه، إلاّ أنّ المجال - في هذا الكتاب - لا يسع للشرح والتفصيل أكثر من هذا، ولعلّنا نلتقي - إن شاء الله - بالقرّاء في غير هذا الكتاب حول هذا الموضوع، ونؤدّي بعض ما يتطلّبه البحث والتحقيق.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274