الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي9%

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 611

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177746 / تحميل: 7843
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

(مالكم تَكَأكَأتم عليَّ كما تَتَكَأكَأون على ذي جِنّة، افرنقعوا عنّي!).

فجعل الناس ينظرون إليه ويقول بعضهم لبعض: دعوه فإنّ شيطانه يتكلّم بالهندية! (1) .

قال: ومنه ما يحتاج إلى أن يُخرّج له وجه بعيد، نحو مُسرّج في قول العجّاج:

ومُقلةً وحاجباً مزجّجا

وفاحماً ومَرسِناً مُسرّجا (2)

لم يُعلم أنّه مأخوذ من السيف السريجي في الدقة والاستواء، أو من السراج في البريق واللمعان.

قال: والوحشي قسمان، غريب حسن وغريب قبيح، فالغريب الحسن هو الذي لا يُعاب استعماله على العرب؛ لأنّه لم يكن وحشياً عندهم، وذلك مثل شرنبث واشمخرّ واقمطرّ (3) وهي في النظم أحسن منه في النثر، ومنه غريب القرآن والحديث.

والغريب القبيح يُعاب استعماله مطلقاً (حتى على العرب) ويُسمّى الوحشيّ الغليظ، وهو أن يكون مع كونه غريب الاستعمال ثقيلاً على السمع كريهاً على الذوق، ويُسمّى المتوعّر أيضاً، وذلك مثل جحيش واطلخمّ الأمر وجفخت (4) وأمثال ذلك (5) .

____________________

(1) المطوّل طبعة اسلامبول: ص18، وراجع الفائق للزمخشري: ج2 ص241. نسب الجاحظ ذلك إلى أبي علقمة، حدّث به ذلك في بعض طرقات البصرة.

والمعنى: مالكم اجتمعتم عليّ كما تجتمعون على مجنون، تفرّقوا عنّي.

(2) المُقلة: حدقة العين، والمزجّج كمعظّم: المدقّق المرقّق، والفاحم: الشعر الأسود، والمَرسن كمجلس: موضع الرسن من أنف الناقة، شاع استعماله في مطلق أنف الإنسان.

(3) الشرنبث كغضنفر: الغليظ الكفّين والرجلين. واشمخرّ: طال. واقمطرّ: اشتدّ.

(4) والجحيش: المُنعزل عن الناس بمعنى الفريد، واطلخمّ الأمر:اشتبك واشتبه، مأخوذ من الطلخوم بمعنى الماء الآجن. وجفخت: تكبّرت.

(5) المطوّل: طبعة اسلامبول ص18.

٢٤١

والخلاصة: القرآن كما يترفع عن الاسترسال العامي المرتذل، كذلك يبتعد عن استعمال غرائب الألفاظ المتوعّرة بمعنى وحشيها غير مأنوسة الاستعمال ولا مألوفة في متعارف أهل اللسان المترفّعين.

قال الخطابي: ليست الغرابة ممّا اشترطت في حدود البلاغة، وإنّما يكثر وحشيّ الغريب في كلام الأوحاش من الناس والأجلاف من جفاة العرب، الذين يذهبون مذاهب (العنهجية) (1) ولا يعرفون تقطيع الكلام وتنزيله والتخيّر له، وليس ذلك معدوداً في النوع الأفضل من أنواعه، وإنّما المختار منه النمط الأقصد الذي جاء به القرآن، وهو الذي جمع البلاغة والفخامة إلى العذوبة والسهولة.

قال: وقد يُعدّ من ألفاظ الغريب في نعوت الطويل (2) نحو من ستين لفظة أكرها بشع شنع، كالعشنّق والعشنّط والعنطنط، والشوقب والشوذب والسلهب، والقوق والقاف، والطوط والطاط... فاصطلح أهل البلاغة على نبذها وترك استعمالها في مرسل الكلام، واستعملوا الطويل، وهذا يدلّك على أنّ البلاغة لا تعبأ بالغرابة ولا تعمل بها شيئاً (3) .

وبعد، فالذي جاء منه في القرآن الشيء الكثير، هو الغريب العذب والوحش السائغ، الذي أصبح بفضل استعماله ألوفاً، وصار من بعد اصطياده خلوباً. دون البعيد الركيك والمتوعّر النفور، الذي لم يأتِ منه في القرآن شيء، ممّا جاء في كلام أمثال ذاك النحوي المتكلّف عيسى بن عمر.

والسبب في ازدحام غرائب الألفاظ وعرائس الكلمات في القرآن؛ هو ارتفاع سبكه عن مستوى العامّة الهابط، واعتلاء أُسلوبه عن متناول الأجلاف المبتذل.

____________________

(1) العنهج لغة في العمهج بمعنى الإبل الضخم الطويل، والعنهجية: كناية عن سلوك طرائق وَعِرة بعيدة المدى، إما تعسفّاً أو تفنّناً لا لغرض معقول.

(2) أي كل ذلك ينعت به الطويل بمختلف أطواره، كالعشنّق يوصف به الطويل الذي ليس بضخم ولا مثقّل، والعشنّط: الشابّ الظريف الحسن الجسم، والشوذب: الطويل الحسن الخلق... وهكذا.

(3) بيان إعجاز القرآن: ص 37.

٢٤٢

القرآن اختصّ بإحاطته على عوالي الكلمات الفصحى، وغوالي العبارات العليا، لا إعواز في بيانه ولا عجز ولا قصور، الأمر الذي يُنبئك عن علم شامل بأوضاع اللغة وكرائم الألفاظ، دليلاً على أنّه من ربّ العالمين المحيط بكلّ شيء، هذا أوّلاً.

وثانياً: احتواؤه لِما في لغات القبائل من عرائس الغرائب، كانت معهودةً في أقطار اختصّت بوضعها، ومعروفة في أمصار توحّدت في استعمالها؛ ومِن ثَمّ كانت غريبةً في سائر البقاع والبلدان.

وقد استعمل القرآن كلّ هذه اللغات، فتعارفت القبائل بلغات بعضها من بعض، وبذلك توحّدت اللغة، وخلصت من التشتّت والافتراق، وهذا من فضل القرآن على اللغة العربية.

* * *

٢٤٣

2 - طرافة سبكه وغرابة أُسلوبه

جاء القرآن بسبكٍ جديد وأُسلوبٍ فريد، كان غريباً على العرب، لا هو نثر كنثرهم، ولا شعر كشعرهم، ولا فيه شيء من هذر السجّاع، ولا تكلّفات الكهّان، وإن كان قد جمع بين مزايا أنواع الكلام، واشتمل على خصائص أنحاء البيان، فيه طلاقة النثر واسترساله البديع، وأناقة الشعر وسلاسته الرفيع، وجزالة السجع الرصين، وهذا عجيب!

قال الإمام كاشف الغطاء: تلك صورة نظمه العجيب وأُسلوبه الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلّهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر... هكذا اعترف له أفذاذ العرب وفصحاؤهم الأوّلون (1) .

* * *

قال عظيم العرب وفريدها الوليد: يا عجباً لِما يقول ابن أبي كبشة، فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي جنون، وإنّ قوله لمن كلام الله (2) .

____________________

(1) الدين والإسلام: ج2 ص107.

(2) تفسير الطبري: ج29 ص98.

٢٤٤

وقال - ردّاً على مَن زعم أنّه من الشعر -: فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة منّي، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا.

ثُمّ قال: ووالله إنّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنّه ليعلو وما يُعلى... وفي رواية الإصابة زيادة: (وما هذا بقول بشر)، وفي نسخة الغزالي: (وما يقول هذا بشر) (1) .

ولمّا سمع عتبة بن ربيعة - وكان سيّداً في العرب - آياً من مفتتح سورة فصّلت، قرأها عليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وسلّم أتى معشر قريش، فسألوه، ما وراءك؟ قال: ورائي أنّي قد سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة (2) .

وهكذا أنيس به جنادة، لمّا بعثه أبو ذر ليستخبر من حالة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وسلّم وكان من أشعر العرب، فلمّا رجع قال: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر (أي أوزانه) فما يلتئم على لسان أحد بعدي (أي غيري) أنّه شعر، والله إنّه لصادق، وإنّهم لكاذبون (3) .

إلى غيرها من كلمات تنمّ عن رفيع شأن هذا الكلام الإلهي الخالد... وقد مرّت (4) .

* * *

وتوضيحاً لهذا الجانب من إعجاز القرآن البياني - في سبكه وأُسلوبه - نقول: لا شكّ أنّه نثر، لا كنثرهم، أمّا من حيث اللفظ فإنّه رُصّع على أحسن ترصيع، ورُصفت كلماته وجمله وتراكيبه على أجمل ترصيف، فيه جمال الشعر ووقار

____________________

(1) المستدرك للحاكم: ج2 ص507.

(2) ابن هشام: ج1 ص314.

(3) شرح الشفاء للقاري: ج1 ص320.

(4) راجع (المدخل لدراسة الإعجاز) التمهيد: ج4 ص200 - 203.

٢٤٥

النثر وإجادة السجع الرصين، مع قوّة البيان ورشاقة التعبير، من غير أن يعتريه وهن أو ضعف، في طول كلامه وتعدّد بياناته.

وهكذا من حيث المعنى، جاء بمعانٍ جديدة كانت مهجورةً أو مطموسةً، فأحياها من جديد، وأبان من مراميها، وألقى الضوء على فلسفة الوجود وسرّ الحياة في المبدأ والمعاد، فجاء بمعارف جليلة وتعاليم نبيلة، أنار بها درب الحياة بما أذهل القلوب وأبهر العقول وأحار ذوي الألباب.

وفي ذلك يقول العلاّمة محمّد عبد الله درّاز: أًسلوب القرآن لا يعكس نعومة أهل المدينة ولا خشونة أهل البادية، وزن المقاطع في القرآن أكثر ممّا في النثر وأقلّ ممّا في الشعر، وأنّ نثره ينفرد ببعض الخصائص والميزات، فالكلمات فيه مختارة، غير مبتذلة ولا مستهجنة، ولكنّها رفيعة رائعة معبّرة، الجمل فيها ركّبت بشكل رائع، حتى أنّ أقلّ عدد من الكلمات يعبّر عن أوسع المعاني وأغزرها، إنّ تعابيره موجزة، ولكنّها مدهشة في وضوحها، حتى أنّ أقلّ حظّاً من التعلّم يستطيع فهم القرآن دونما صعوبة، وهناك عمق ومرونة في القرآن ممّا يصلح أن يكون أساساً لمبادئ وقوانين العلوم والآداب الإسلامية ومذاهب الفقه وفلسفة الإلهيات (1) .

وفي أُسلوب القرآن نجد أنّه وضع لبعض الألفاظ معاني جديدة، وخاصّة ما اتّصل منها بالفقه الإسلامي، كما استحدث ألفاظاً جديدة وأعرض عن ألفاظ، فمنع استعمال مدلولاتها وأعاض عنها بغيرها، وخاصّة وحشيّ اللفظ....

كذلك أبطل سجع الكهّان وطوابع الوثنية، وأضعف فنون الفخر والاستعلاء والهجاء، وطبع الحوار بطابع السماحة وإقامة الحجّة والبحث عن الدليل، وأحلّ الإيجاز محلّ الإسهاب، والحكمة مكان الإطالة، وترك في الأُسلوب العربي الإسلامي طابعه الوسيط السمح، وأعطاه جزالةً وسلاسةً وعذوبةً ووضوحاً... ذلك

____________________

(1) راجع الفصحى لغة القرآن لأنور الجندي: ص40.

٢٤٦

أنّ القرآن رقّق القلوب وأفسح للعقول مجال النظر والفكر (1) .

* * *

والآن فإليك بعض التوضيح عن قوافي الشعر وأوزانه، والكلام عن تكلّفات الأسجاع القديمة، ممّا تحاشاه القرآن الكريم:

الشعر: كلام ذو وزن وتقفية، قد سُبك على نظام خاصّ، ومتقيّد بقافية خاصّة، على أنواعها الخمسة المعروفة التي ذكرها الخليل (2) .

وهذا النظم تشرحه البحور المقيسة التي هي الأوزان الشعرية التي كانت عليها العرب، إلاّ ما شذّ، وقد أنهاها الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى خمسة عشر بحراً، هي:

(الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتثّ، المتقارب).

ولكلّ بحر أصل وفروع يشرحها علم العروض (3) .

____________________

(1) عن بحث للدكتور عبد المنعم خفاجي في جريدة الدعوة (الفصحى لغة القرآن): ص40.

(2) سنذكرها في الصفحة القادمة.

(3) أصل الطويل: (فعولن. مفاعيلن...) أربع مرّات.

وأصل المديد: (فاعلاتن. فاعلن...) أربع مرّات.

وأصل البسيط: (مستفعلن. فاعلن) أربع مرّات.

وأصل الوافر: (مفاعلتن...) ستّ مرّات.

وأصل الكامل: (متفاعلن...) ستّ مرّات.

وأصل الهزج: (مفاعيلن...) ستّ مرّات.

وأصل الرجز: (مستفعلن...) ستّ مرّات.

وأصل الرمل: (فاعلاتن...) ستّ مرّات.

وأصل السريع: (مستفعلن. مستفعلن. مفعولات) مرّتين.

وأصل المنسرح: (مستفعلن. مفعولات. مستفعلن) مرّتين.

وأصل الخفيف: (فاعلاتن. مُس، تفع، لن. فاعلاتن) مرّتين.

٢٤٧

قال السكّاكي: وهذه الأوزان هي التي عليها مدار أشعار العرب، بحكم الاستقراء لا تجد لهم وزناً يشذّ عنها، اللّهمّ إلاّ نادراً (1) .

* * *

والقافية - عند الخليل -: من آخر حرف في البيت، إلى أَوّل ساكن قبله، مع المتحرّك الذي قبل الساكن. مثل (تابا) في قوله: (أقلّي اللومَ عاذِلَ والعِتابا) فيجب أن تجري القصيدة في جميع أبياتها على نفس المنوال.

قال السكّاكي: ولابدّ في القافية - على رأي الخليل وقد رجّحه، لوقوفه على أنواع علوم الأدب نقلاً وتصرفاً واستخراجاً واختراعاً ورعايةً في جميع ذلك حقّ رعايته - أن تشتمل على ساكنين، فيستلزم لذلك خمسة أنواع:

أحدها: أن يكون ساكناها مجتمعين، ويُسمّى: (المترادف).

ثانيها: أن يكون بينهما حرفان متحرّكان، ويُسمّى: (المتواتر).

ثالثها: أن يكون بينهما حرفان متحرّكان، ويُسمّى: (المتدارك).

ورابعها: أن يكون بينهما ثلاثة أحرف متحرّكات، ويُسمّى: (المتراكب).

وخامسها: أن يكون بينهما أربعة أحرف متحرّكات، ويُسمّى (المتكاوس).

ثُمّ ذكر أنّ للمترادف 17 موقعاً، وللمتواتر 21 موقعاً، وللمتدارك 11، وللمتراكب 8 وللمتكاوس موقع واحد، فهذه 58 موقعاً لأنواع القافية الخمسة.

* * *

ثُمّ القافية لاشتمالها على حرف الرويّ - (وهو: الحرف الآخر من حروف

____________________

= وأصل المضارع: (مفاعيلن. فاعلاتن. مفاعلن) مرّتين.

وأصل المقتضب: (مفعولات. مستفعلن. مستفعلن) مرّتين.

وأصل المجتثّ: (مستفعلن. فاعلاتن. فاعلاتن) مرّتين.

وأصل المتقارب: (فعولن...) ثماني مرّات.

(1) راجع مفتاح العلوم للسكّاكي (علم العروض): ص244 - 267. وجامع العلوم للإمام الرازي: ص74 - 82.

٢٤٨

القافية إلاّ ما كان تنويناً أو بدلاً من التنوين أو كان حرفاً إشباعيّاً مجلوباً لبيان الحركة) - تتنوّع إلى ستة أنواع:

الأَوّل: القافية المقيّدة، وهي ما كان رويّها ساكناً، نحو قوله: (وقاتم الأعماق خاوي المخترق)، وحركة ما قبل الرويّ المقيّد يُسمّى: (توجيهاً).

الثاني: القافية المطلقة، وهي ما كان رويّها متحركاً، نحو قوله: (قِفا نبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ)، ويُسمّى حركة الرويّ: (مجرى).

الثالث: القافية المردفة، وهي ما كان قبل رويّها ألفٌ، مثل (عماداً) أو واو أو ياء مدّتين، نحو (عمود) و(عميد)، أو غير مدّتين، مثل (قول) و(قيل)، وتُسمّى كل من هذه الحروف (ردفاً)، وحركة ما قبل الردف (حذواً).

٢٤٩

3 - عذوبة ألفاظه وسلاسة عباراته

قد أجمل الكلام في ذلك الجرجانيّ والسكاكيّ وغيرهما من أعلام البيان من المتقدّمين، (وتقدّم بعض كلامهم)، وأكمله النُقّاد من المتأخّرين المعاصرين، قالوا:

لو تدبّرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها، ولن تجدها إلاّ مؤتلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى أنّ الحركة ربّما كانت ثقيلة فلا تعذب ولا تُساغ في نفسها، فإذا هي استُعملت في القرآن رأيت لها شأناً عجيباً، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقاً في اللسان واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي، حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقّه، وكانت متمكّنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أَولى الحركات بالخفّة والروعة.

من ذلك لفظة (النُذُر) جمع نذير، فإنّ الضمّة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً، فضلاً عن جَسأة هذا الحرف ونبوّه في اللسان، وخاصة إذا جاءت فاصلة للكلام.

ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى ( وَلَقَدْ

٢٥٠

أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ) (1) فتأمّل هذا التركيب، وأنعِم ثُمّ أنعِم على تأمّله، وتذوّق مواقع الحروف، واجرِ حركاتها في حسّ السمع، وتأمّل مواضع القلقلة في دال (لقد)، وفي الطاء من (بطشتنا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تماروا) مع الفصل بالمدّ كأنّها تثقيل، لخفّة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان؛ ليكون ثقل الضمّة عليه مستخفاً بعد، ولكون هذه الضمّة قد أصابت موضعها، كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثُمّ ردّد نظرك في الراء من (تماروا) فإنّها ما جاءت إلاّ مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجفو عليه، ولا تغلظ ولا تنبو فيه. ثُمّ اعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها، وللغنّة الأُخرى التي سبقت الذال في (النُذُر).

وما من حرف أو حركة في الآية إلاّ وأنت مصيب من كلّ ذلك عجباً في موقعه والقصد به، حتى ما تشكّ أنّ الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلاّ ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدّم فيه النظر وأحكمته الرويّة ومن بين الكلمات، وأين هذا ونحوه عند تعاطيه! ومن أيّ وجه يلتمس! وعلى أيّ جهة يستطاع!

وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع ممّا يكون مستثقلاً بطبيعة وضعه أو تركيبه، ولكنّها بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجاً سرياً، فكانت من أخصر الألفاظ حلاوةً وأعذبها منطقاً وأخفّها تركيباً؛ إذ تراه قد هيّأ لها أسباباً عجيبةً من تكرار الحروف وتنوّع الحركات، فلم يُجرِها في نظمه إلاّ وقد وجد ذلك فيها، كقوله تعالى: ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ ) (2) فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوّع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنّها بذلك صارت في النطق كأنّها أربع

____________________

(1) القمر: 36.

(2) النور: 55.

٢٥١

كلمات؛ إذ تنطق على أربعة مقاطع.

وقوله: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ) (1) فإنّها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع، وقد تكرّرت فيها لا الياء والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المدّ (في) الذي هو سرّ الفصاحة في الكلمة كلّها.

واللفظة إذا كانت خماسية الأُصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء؛ لأنّه ممّا لا وجه للعذوبة فيه، إلاّ ما كان من اسم عُرّب ولم يكن عربيّاً: كإبراهيم، وإسماعيل، وطالوت، وجالوت، ونحوها، ولا يجيء به مع ذلك إلاّ أن يتخلّله المدّ كما ترى، فتخرج الكلمة وكأنّها كلمتان.

وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسُنت في كلام قطّ إلاّ في موقعها من القرآن بالذات، وهي كلمة ( ضِيزَى ) من قوله تعالى: ( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ) (2) ، ومع ذلك فإنّ حسنها في نظم الكلام هنا من أغرب الحسن وأعجبه، وإذا أدرت اللغة عليها ما صلُح لهذا الموضع غيرها.

فإنّ السورة التي هي منها - وهي سورة النجم - مفصّلة كلّها على الياء، فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثُمّ هي في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنّهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات لله مع وأدهم البنات (3) فقال تعالى: ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ، فكانت غرابة اللفظ أشدّ الأشياء ملائمة لغرابة هذه القِسمة التي أنكرها عليهم، وكانت الجملة كلّها كأنّها تصوّر في هيئة النطق بها، الإنكار في الأُولى والتهكّم في الأُخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصّة في اللفظ الغريبة التي تمكّنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكّم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدّين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كلّ ذلك غرابة

____________________

(1) البقرة: 137.

(2) النجم: 22. والضيز: الجَور، أي فهي قِسمة جائرة.

(3) أي دفنهنّ على الحياة كما كان من عادتهم.

٢٥٢

الإنكار بغرابتها اللفظية.

وإن تعجب فعاجِب لنظم هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مدّ ثقيل: والآخر مدّ خفيف، وقد جاءت عقب غنّتين في (إذا ً) و(قِسمة) إحداهما خفيفة حادّة، والأُخرى ثقيلة متفشّية، فكأنّها بذلك ليست إلاّ مجاورة صوتية لتقطيع موسيقي.

ثُمّ الكلمات التي يُظنّ أنّها زائدة في القرآن - كما يقوله بعض النحاة - فإنّ فيه من ذلك أحرفاً، كقوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) (1) وقوله: ( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (2) .

قالوا: إنّ (ما) في الآية الأُولى و(أن) في الثانية، زائدتان، أي في الإعراب، فيَظنّ مَن لا بصر له أنّهما كذلك في النظم ويقيس عليه!

مع أنّ في هذه الزيادة لوناً من التصوير، لو حُذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته، فإنّ المراد بالآية الأُولى تصوير لِين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لقومه، وأنّ ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المدّ في (ما) وصفاً لفظياً يُؤكّد معنى اللين ويُفخّمه، وفوق ذلك فإنّ لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثمّ كان الفصل بين الباء الجارّة ومجرورها - وهو لفظ (رحمة) - ممّا يُلفت النفس إلى تدبّر المعنى ويُنبّه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كلّه طبعي في بلاغة الآية كما ترى.

والمراد بالثانية تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه؛ لبُعد ما كان بين يوسف وأبيه (عليهما السلام) وأنّ ذلك كأنّه كان منتظراً بقلق واضطراب (3) تُؤكّدهما وتصف الطرب لمَقدمه واستقراره غنّةُ هذه النون في الكلمة الفاصلة، وهي: (أن) في قوله (أن جاء...).

____________________

(1) آل عمران: 159.

(2) يوسف: 96.

(3) يُنبه على ذلك قوله تعالى قبل ذلك عن لسان يعقوب: ( إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) (يوسف: 94).

٢٥٣

وعلى هذا يجري كل ما ظُنّ أنّه في القرآن مزيد، فإنّ اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها إنّما هو نقص يجلّ القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلاّ رجل يعتسف الكلام ويقضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره... فما في القرآن حرف واحد إلاّ ومعه رأي يسنح في البلاغة - من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره - بحيث يستحيل البتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء ممّا تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أيّ أبواب الكلام إن وسعها منه باب.

وممّا يدلّ على أنّ نظم القرآن مادة فوق الصنعة ومن وراء الفكر، ولا يسعه طوق إنسان في نظم الكلام البليغ الجمع ولم يستعمل بصيغة الإفراد، فإذا احتيج إلى صيغة المفرد استعمل مرادفها، كلفظة (اللبّ) لم ترد إلاّ مجموعة ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ِلأَوْلِي الأَلْبَابِ ) ، ( لِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) ونحوهما (1) ولم تجئ فيه مفردة، بل جاء مكانها (القلب) (2) أو (الفؤاد) (3) .

وذلك لأنّ لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدّة إلاّ من اللام الشديدة المسترخية، فلمّا لم يكن ثَمّ فصل بين الحرفين ليتهيّأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدّة فتحسن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها، نصباً أو رفعاً أو جرّاً؛ ولذلك أسقطها القرآن من نظمه تبّةً، على سعة ما بين أَوّله وآخره.

ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، كما في لفظة (الجبّ) وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدّة في الجيم المضمومة.

وكذلك لفظة (الكوب) استعملت فيه مجموعة ولم يأتِ بها مفردة؛ لأنّه لم

____________________

(1) في ستة عشر موضعاً من القرآن جاءت اللفظة بصيغة الجمع فقط، ولم تأتي إفراداً أبداً.

(2) في تسعة عشر موضعاً إمّا مقطوعاً أو مضافاً.

(3) في خمسة مواضع مقطوعاً ومضافاً.

٢٥٤

يتهيّأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقّة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ (الأكواب) الذي هو جمع.

و(الأرجاء) لم يَستعمل القرآن لفظها إلاّ مجموعاً، وتَرك المفرد - وهو الرَّجا أي الجانب - لعلّةِ لفظه وأنّه لا يسوق في نظمه كما ترى.

وعكس ذلك لفظة (الأرض) فإنّها لم ترد فيه إلاّ مفردة، فإذا ذُكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولم يجئ (أرضون) لهذه الجَسأة التي تدخل اللفظ ويختلّ بها النظم اختلالاً.

ومن الألفاظ لفظة (الآجر) وليس فيها من خفّة التركيب إلاّ الهمزة وسائرها نافر متقلقل، ولفظ مرادفها (القَرْمَد) وكلاهما استعمله فصحاء العرب ولم يعرفوا غيرهما، أمّا القرآن فلم يستعملهما ولكنّه أخرج معناهما بألطف عبارة وأرقّها وأعذبها، وساقها في بيان مكشوف، وذلك في قوله تعالى: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً ) (1) ، فعبّر عن الآجر بقوله: (فأوقد لي يا هامان على الطين) وانظر موقع هذه القلقلة التي هي في الدال من قوله (فأوقد) وما يتلوها من رقّة اللام، فإنّها في أثناء التلاوة ممّا لا يُطاق أن يُعبّر عن حسنه وكأنّما تَنتزع النفس انتزاعاً.

وليس الإعجاز في اختراع تلك العبارة فحسب، ولكن ما ترمي إليه إعجاز آخر، فإنّها تُحقّر من شأن فرعون وتصف ضلاله وتُسفّه رأيه؛ إذ طمع أن يبلغ الأسباب، أسباب السماوات فيطّلع إلى إله موسى (2) ، وهو لا يجد وسيلةً إلى ذلك المستحيل ولو نصب الأرض سُلّماً، إلاّ شيئاً يصنعه هامان من الطين (3) .

* * *

____________________

(1) القصص: 38.

(2) إشارة إلى الآية: 37 من سورة غافر.

(3) اقتضاب عاجل من إعجاز القرآن للرافعي: ص228 - 234.

٢٥٥

4 - تناسق نظمه وتناسب نغمه

وهو جانب خطير من إعجاز القرآن البياني، لَمَسته العرب منذ أوّل يومها فبهرتهم روعته ودهشتهم رنّته، فأخضعهم للاعتراف في النهاية بأنّه كلام يفوق طوع البشر وأنّه كلام الله.

إنّه جانب (اتّساق نظمه وتناسب نغمه) وإيقاعاته الموسيقية الساطية على الأحاسيس، والآخذة بمجامع القلوب، وهذا الجمال التوقيعي للقرآن يبدو جلياً لكلّ مَن يستمع إلى آياته تُتلى عليه، حتى ولو كان من غير العرب، فكيف بالعرب أنفسهم، وأوّل شيء تحسّه الآذان عند سماع القرآن هو ذا نظامه الصوتيّ البديع، الذي قُسّمت فيه الحركات والسكونات تقسيماً متنوّعاً ومتوزّعاً على على الألحان الموسيقية الرقيقة، فيُنوِّع ويُجدِّد نشاطَ السامع عند سماعه، ووُزّعت في تضاعيفه حروف المدّ والغنّة توزيعاً بالقسط، يُساعد على ترجيع الصوت به، وتهاوى النَفَس فيه آناً بعد آن، إلى أن يصل قمّتها في الفاصلة، فيجد عندها راحته الكبرى، على ما فصّله أساتذة الترتيل.

وربّما استمع الإنسان إلى قصيدة، وهي تتشابه أهواؤها وتتساوق أنغامها، ولكنّه لا يلبث أن يملّها، ولا سيّما إذا أُعيدت عليه وكُرّرت بتوقيع واحد، بينما

٢٥٦

الإنسان من القرآن في لحن متنوّع ونغم متجدّد، ينتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل (1) ، على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وَتر من أوتار القلب نصيبه بسواء، فلا يعرو الإنسان على كثرة ترداده مَلال أو سأم، بل لا يفتأ يطلب منه المزيد....

وأحياناً كان العرب تعمد إلى ما يقرب من هذا النحو من التنظيم الصوتي في أشعارها لكنّها تذهب مذهب الإسراف والاستهواء المُملّ في الأغلب، ولا سيّما عند التكرير، أمّا في منثور كلامها، سواء المرسل منه أو المسجوع، فلم تكن عَهِدته قطّ ولا كان يتهيّأ لها بتلك السهولة والمرونة والعذوبة التي في القرآن الكريم، بل ربّما كان يقع لها في أجود منثورها عيوب تغضّ من سلاسة تركيبه، بما لا يمكن معها من إجادة ترتيله، إلاّ بتعمل يبدو عليه أثر التكلّف والتعسّف الأمر الذي كان يحطّ من شأن الكلام.

فلا عجب إذاً أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن - في خيال العرب - أنّه شعر، وإذا لم يكن بشعر فهو سحر، وهذا يكشف عن مدى بهر العرب وحيرتهم تجاه هذا النوع من الكلام المُنضّد البديع، كان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته!!

قال الأُستاذ درّاز: ويجد الإنسان لذّةً بل وتعتريه نشوة إذا ما طَرق سمعه جواهر حروف القرآن، خارجةً من مخارجها الشحيحة، من نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر، وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع

____________________

(1) من مصطلحات الأفنان الموسيقية: (الحرف المتحرك إذا تلاه حرف ساكن، يقال له: سببٌ خفيف، والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن: سببٌ ثقيل، والمتحركات يتلوهما ساكن: وَتدٌ مجموع، وإذا توسّطهما ساكن: وتدٌ مفروق. وثلاثة أحرف متحركة: فاصلة صغيرة، وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن: فاصلةٌ كبيرة) وهكذا... (النبأ العظيم: ص95).

ولعلّ القارئ النبيه يعذرنا في الاقتصار على النقل هنا، بعد أن كان موضوع البحث من الفنون الخارجة عن اختصاصنا!

٢٥٧

يجهر، وآخر ينزلق عليه النَفَس، وآخر يحتبس عنده النَفَس، فترى الجمال النغمي ماثلاً بين يديك في مجموعة مختلفة ولكنّها مؤتلفة لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا مُعاظَلَة، ولا تناكر ولا تنافر، وهكذا ترى كلاماً ليس بالبَدَويّ الجافي ولا بالحضريّ الفاتر، بل هو ممزوج مؤلّف من جزالة ذاك ورقّة هذا، مزيجاً كأنّه عصارة اللغتين وسلالة اللهجتين.

نعم من هذا الثوب القشيب يتألّف جمال القرآن اللفظي، وليس الشأن في هذا الغلاف إلاّ كشأن الأصداف، تتضمّن لآلي نفيسة، وتحتضن جواهر ثمينة، فإن لم يُلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الستار عمّا وراءه من السرّ المصون، ففُليت القشرة عن لبّها، وكشفت الصدفة عن دُرّها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى تلك الفخامة المعنوية، تجلّى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيت منه ما هو أبدع وأروع، تلك روح القرآن وحقيقته، وجذوة موسى التي جذبته إلى نار الشجرة في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة، فهناك نسمة الروح القدسية: ( إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

* * *

وذكر سيّد قطب عن الإيقاع الموسيقي في القرآن أنّه من إشعاع نظمه الخاص، وتابع لانسجام الحروف في الكلمة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة؛ وبذلك قد جمع القرآن بين مزايا النثر وخصائص الشعر معاً، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحّدة والتفعيلات التامّة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامّة، وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر الموسيقي الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تُغني عن التفاعيل والتقفية التي تُغني عن القوافي، فشأنه شأن النثر والنظم جميعاً.

____________________

(1) النبأ العظيم: ص94 - 99، والآية 30 من سورة القصص.

٢٥٨

وحيثما تلا الإنسان القرآن أحسّ بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه، يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار، والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة، يتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال، لكنّه على كل حال ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني.

ثمّ أخذ في ضرب المثال، قال:

وها نحن أُولاء نتلو سورة النجم مثلاً.

( وَالنّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى‏ * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَى‏ * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى‏ إِلَى‏ عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى‏ * أَفَتُمارُونَهُ عَلَى‏ مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى‏ مِنْ آيَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ) (1) .

هذه فواصل متساوية في الوزن تقريباً - على نظام غير نظام الشعر العربي - متّحدة في حرف التقفية تماماً، ذات إيقاع موسيقي متّحد تبعاً لهذا وذلك، وتبعاً لأمر آخر لا يظهر ظهور الوزن والقافية؛ لأنّه ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومردّه إلى الحسّ الداخلي والإدراك الموسيقي، الذي يَفرق بين إيقاع موسيقي، وإيقاعٍ ولو اتّحدت الفواصل والأوزان.

والإيقاع الموسيقي هنا متوسط الزمن تبعاً لتوسط الجملة الموسيقية في الطول، متّحد تبعاً لتوحّد الأُسلوب الموسيقي، مسترسل الرويّ كجوّ الحديث الذي يشبه التسلسل القصصي، وهذا كله ملحوظ، وفي بعض الفواصل يبدو ذلك جلياً

____________________

(1) النجم: 1 - 22.

٢٥٩

مثل: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ) ، فلو أنّك قلت: أفرأيتم اللات والعزّى الثالثة لاختلت القافية، ولتأثر الإيقاع، ولو قلت: افرأيتم اللات والعزّى ومَناة ومَناة الأُخرى فالوزن يختل، وكذلك في قوله: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ) فلو قلت: ألكم الذكر وله الأُنثى تلك قسمةٌ ضيزى لاختلّ المستقيم بكلمة (إذاً).

ولا يعني هذا أنّ كلمة (الأُخرى) أو كلمة (الثالثة) أو كلمة (إذاً) زائدة لمجرّد القافية أو الوزن، فهي ضرورية في السياق لنكت معنوية خاصّة، وتلك ميزة فنّية أُخرى أن تأتي لتؤدّي معنى في السياق، وتؤدّي تناسباً في الإيقاع، دون أن يطغى هذا على ذلك، أو يخضع النظم للضرورات.

ملاحظة اتّزان الإيقاع في الآيات والفواصل تبدو واضحة في كل موضع على نحو ما ذكرنا أو قريباً من هذه الدقّة الكبرى. ودليل ذلك أن يعدّل في التعبير عن الصورة القياسية للكلمة إلى صورة خاصّة، أو أن يُبنى النسق عل نحو يختلّ إذا قدّمت أو أُخّرت فيه أو عدلت في النظم أيّ تعديل.

مثال الحالة الأُولى حكاية قول إبراهيم:

( قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنّهُمْ عَدُوّ لِي إِلاّ رَبّ الْعَالَمِينَ * الّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ * وَالّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ ) (1) .

فقد خُطفت ياء المتكلّم في (يهدين ويسقين ويشفين ويحيين) محافظة على حرف القافية مع (تعبدون، والأقدمون، والدين...) ومثله خَطف الياء الأصلية في الكلمة: نحو ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي

____________________

(1) الشعراء: 75 - 82.

٢٦٠

أقول : ومما بثه كعب بين المسلمين قصة داود مع أوريا وهي كما جاءت في التوراة : «قام داود عن سريره وتمشّى على سطح بيت الملك ، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فارسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : أليست هذه بتشبع بنت اليعام امرأة أوريا الحثي؟ فارسل داود رسلا وأخذها ، فدخلت إليه ، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة ، فأرسلت وأخبرت داود وقالت : اني حبلى. فارسل داود إلى يوآب يقول : أرسل إلى أوريا الحثي. فأرسل يوآب أوريا إلى داود فأتى أوريا إليه ، فسأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب. وقال داود لأوريا : انزل إلى بيتك واغسل رجليك ، فخرج أوريا من بيت الملك وخرجت وراءه حصة من عند الملك ، ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده ولم ينزل إلى بيته : فاخبروا داود قائلين : لم ينزل أوريا إلى بيته.

فقال داود لأوريا : أما جئت من السفر ، فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود : التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر. فقال داود لأوريا : أقم هنا اليوم أيضاً وغدا أطلقك. فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده. ودعاه داد أمامه وشرب واسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده. وإلى بيته لم ينزل.

وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول : اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديد وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت. وكان في حاصرة يوآب المدينة انه جعل أوريا في الموضع الذي علم ان رجال البأس فيه. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب فسقط بعض الشعب من عبيد داود ومات أوريا الحثي أيضاً فلما سمعت امرأة أوريا انه قد مات أوريا رجلها ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنا.(١)

__________________

(١) وفي سفر صموئيل الثاني لإصحاح ١١ الفقرات ١٢٦.

٢٦١

قال السيوطي : أخرج عبد بن حميد عن كعب قال : سجد داود نبي الله أربعين يما وأربعين ليلة لا يرفع رأسه حتى قرأ دمعه ويبس وإذا جبريلعليه‌السلام قائم على رأسهِ قال : يا داود إن الله قد غفر لك فارفع رأسك فلم يلتفت إليه وناجى ربه وهو ساجد فقال : يا رب كيف تغفر لي وأنت الحكم العدل؟ قال " إذا كان يوم القيامة دفعتك إلى أوريا ثم استوهبك منه فيهبك لي وأثيبه الجنة فذهب يرفع رأسه فإذا هو يابس لا يستطيع فمسحه جبريلعليه‌السلام ببعض ريشه فانبسط فأوحى الله تعالى إليه بعد ذلك : يا داود قد أحللت لك امرأة أوريا فتزوجها فولدت له سليمان.(١)

قال السيوطي : وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن كعبرضي‌الله‌عنه أنه قال لابي هريرة ألا أخبرك عن اسحق قال بلى قال رأى إبراهيم أن يذبح اسحق قال الشيطان والله لئن لم أفتن عند هذه آل إبراهيم لا أفتن أحدا منهم أبدا فتمثل الشيطان رجلا يعرفونه فاقبل حتى خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارة ، فقال أين أصبح إبراهيم غاديا بإسحاق قالت لبعض حاجته قال له والله قالت فلم غدا قال ليذبحه قالت لم يكن ليذبح ابنه قال بلى والله قالت سارة فلم يذبحه؟ قال زعم ان ربه أمره بذلك قالت قد أحسن أن يطيع ربه ان كان أمره بذلك فخرج الشيطان فأدرك اسحق وهو يمشي على أثر أبيه قال أين أصبح أبوك غاديا قال لبعض حاجته قال لا والله بل غدا بك ليذبحك قال ما كان أبي ليذبحني ، قال بلى قال لم قال زعم ان الله أمره بذلك قال اسحق فوالله لئن أمره ليطيعنه فتركه الشيطان وأسرع إلى إبراهيم فقال أين أصبحت غاديا بابنك قال لبعض حاجتي ، قال لا والله ما غدوت به الا لتذبحه قال ولم أذبحه قال زعمت ان الله أمرك بذلك فقال والله لئن كان الله أمرني ، لأفعلن قال فتركه ويئس أن يطاع فلما أخذ إبراهيم اسحق ليذبحه وسلم اسحق عافاه الله وفداه بذبح عظيم(٢)

أخذ صحابة أمثال أبي هريرة عن كعب وتشجع صحابة آخرون أمثال عبد الله بن عمرو بن العاص لنشر أساطير أهل الكتاب في المجتمع الإسلامي.

__________________

(١) السيوطي ،الدر المنثور ، ج ٥ ص ٥٦٩.

(٢) السيوطي ،الدر المنثور ، ج ٥ ص ٥٣١.

٢٦٢

روى أحمد بن حنبل(١) قال حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قدمت الشام فلقيت كعبا فكان يحدثني عن التوراة وأحدثه عن رسول الله. وفي رواية النسائي (ص ٢٤٦) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال أتيت الطور فوجدت ثم كعبا فمكثت أنا وهو يوما أحدثه عن رسول الله ويحدثني عن التوراة وفي المستدرك (١ / ٤١٤) فحدثته عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحدث عن التوراة فما اختلفا حتى مررت بيوم الجمعة قال قلت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل يوم جمعة ساعة لا يوافقها مؤمن وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه قال كعب تلك في كل سنة فقلت ما كذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع فتلا ثم قال صدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل جمعة. وروى البيهقي في سننه بسنده عن أبي هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة فقلت له قال كعب ذلك في كل سنة يوم فقال عبد الله كذب كعب فقلت نعم. ثم قرأ كعب التوراة فقال بل هي في كل جمعة فقال عبد الله بن سلام صدق كعب ثم قال عبد الله بن سلام قد علمت أية ساعة هي قال أبو هريرة فقلت له فأخبرني بها ولا تضن علي فقال عبد الله بن سلام هي آخر ساعة في يوم الجمعة قال أبو هريرة وكيف تكون آخر ساعة من يوم الجمعة وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك ساعة لا يصلي فيها فقال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من جلس في مجلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي قال أبو هريرة قلت بلى قال هو ذلك.(٢)

روى ابن عساكر والذهبي وابن كثير عن بكير بن الاشج. قال : قال أنا بشر بن سعيد : اتقوا الله وتحفظوا من الحديث ، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيتحدث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم فأسمع بعض من

__________________

(١) احمد بن حنبل ،مسند احمد ، ج ١٧ ص ١٢٣.

(٢) البيهقي ،السنن الصغرى ، مكتبة الرشد الرياض ١٤٢٢ هـ ـ ٢٠٠١ م ، ج ١ ص ١٨٦. والدارمي ، سنن الدارمي ص ٢٥٥. وابن حبان ،صحيح ابن حبان ج ٣ ص ٤٠٣. والطيالسي ،مسند الطيالسي ج ٢ ص ٦٨٩.

٢٦٣

كان معنا يجعل حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كعب ، وحديث كعب بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله ، وما قاله رسول الله عن كعب ، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث. وقال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : أبو هريرة كان يدلس ـ أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يميز هذا من هذا.(١)

أما عبد الله بن عمرو بن العاص فقد كانت معه راية أبيه يوم اليرموك سنة ١٤ هـ وأصاب حمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ويحث منها. قال ابن حجر : أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ويحدث منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين.(٢)

وروى أحمد في مسنده قال حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن الحكم سمعت سيفا يحدث عن رشيد الهجري عن أبيه ان رجلا قال لعبد الله بن عمرو حدثني ما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعني وما وجدت في وسقك يوم اليرموك قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.(٣)

وقال حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أبو الجواب ثنا عمار بن رزيق عن الأعمش عن أبي سعيد قال أتيت عبد الله بن عمرو فقلت حدثني ما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ولا تحدثني عن التوراة والإنجيل فقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.(٤)

__________________

(١) ابن عساكر ،تاريخ مدينة دمشق ، ج ٧١ ص ٢٦٦ ، الذهبي ،سير أعلام النبلاء ج ٤ ص ١٩١ ، ابن كثير ،البداية والنهاية ج ٨ ص ١٠٠.

(٢) ابن حجر ،مقدمة فتح الباري ، ج ١ ص ٢٦١.

(٣) احمد بن حنبل ،مسند احمد ج ٦ ص ٣٢٩ وابن عساكر ،تاريخ مدينة دمشق ج ٣٣ ص ١٧٥ ، الفسوي ،المعرفة والتاريخ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ١٤٠١ هـ ، ج ٣ ص ٢٤٤ ، الحميدي ،مسند الحميدي ، ج ٢ ص ٢٧١.

(٤) احمد بن حنبل ،مسند احمد ، ج ٦ ص ٤١٤.

٢٦٤

٢. الخلافة القرشية تنهى عن نشر حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

اما مسألة النهي فتوضحه الأخبار الآتية :

روى الذهبي ان أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال : «إنكم تحدثون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم اشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه».(١)

وروى أيضا عن قرظة بن كعب انه قال : لما سيَّرنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر وقال : أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا نعم تكرمة لنا ، قال : ومع ذلك إنكم تأتون أهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدويِّ النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القران واقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم ، قال قرظة : فما حدثت بعده حديثا عن رسول الله».(٢)

وكان في الصحابة مثل قرظة بن كعب ممن تابعوا سنة الخلفاء وامتنعوا عن نشر سنة الرسول نظير عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص.

فقد روى الدارمي في باب من هاب الفتيا بكتاب العلم من سننه.(٣) عن الشعبي قال : جالست ابن عمر سنة فما سمعته يذكر حديثا عن رسول الله ، وفي رواية أخرى عنه ، قال قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصفا فما سمعته يحدث عن رسول الله شيئا الا هذا الحديث.

وروي عن السائب بن يزيد ، قال : خرجت مع سعد ـ ابن أبي وقاص ـ إلى مكة فما سمعت يحدث حديثا عن رسول الله حتى رجعنا إلى المدينة. وكان في الصحابة من خالف سنة الخلفاء في نهبهم عن نشر الحديث النبوي وأصر على رواية سنة الرسول وتحمل في سبيل ذلك الإرهاق والأذى.

__________________

(١) الذهبي ،تذكرة الحفاظ ، بترجمة أبي بكر ج ١ ص ٩.

(٢) الذهبي ،تذكرة الحفاظ ، ج ١ ص ١٢ ، وابن عبد البر ،جامع بيان العلم وفضله ، دار الكتب العلمية بيروت ١٣٩٨ هـ ، باب ذكر من ذم الاكثار من الحديث دون التفهم له ص ٤٢٢.

(٣) الذهبي ،تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٦٤.

٢٦٥

وروى الذهبي : ان عمر بن الخطاب حبس ثلاثة : ابن مسعود ، وأبا الدرداء ، وأبا مسعود الأنصاري ، فقال : قد أكثرتم الحديث عن رسول الله.(١)

وروى الدارمي : ان أبا ذر كان جالسا عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال : الم تُنْهَ عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه ، فقال أرقيب انت عليَّ؟ لو وضعتم الصَّمامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت اني انفذ كلمة سمعتها من رسول الله قبل ان تجيزوا عليَّ لأنفدتها.(٢)

اما مسألة إحراق مدونات الصحابة في الحديث فتوضحه الاخبار التالية :

روى الذهبي في تذكرة الحفاظ عن عائشة أنَّ أبا بكر جمع خمسمائة من حديث النبي ودعا بنار فاحرقها.(٣)

وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى القاسم بن محمد ان عمر بن الخطاب بلغه انه قد ظهر في ايدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها ، وقال : ايها الناس انه قد بلغني انه قد ظهرت في ايديكم كتب فاحبها إلى الله اعدلها واقومها فلا يبقين احد عنده كتابا الا أاني به فأرى فيه رأيي ، قال فظنوا انه يريد ان ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فاتوه بكتبهم فاحرقها بالنار ، ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب.(٤)

وروى ابن سعد : قال عبد الله بن العلاء : سألت القاسم يملي عليَّ أحاديث ، فقال : ان الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فانشد الناس ان يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال : مثناة كمثناة أهل الكتاب ، قال فمنعني القاسم يومئذ ان اكتب حديثا.(٥)

وروى الخطيب البغدادي : عن سفيان بن عينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة : ان

__________________

(١) الذهبي ،تذكرة الحفاظ ج ١ : ص ١٢ ترجمة عمر.

(٢) الدارمي ، سنن الدارمي ج ١ ص ٩٥ ، ابن سعد ،الطبقات الكبرى ص : ٤٢٨ بترجمة أبي ذر ، واختصرها البخاري واوردها في صحيحه ص ٣١ باب العلم قبل القول ، ومعنى اجاز على الجريح : اجهز عليه. وللمزيد من هذه الاخبار انظر العسكري.معالم المدرستين ج ٢ ط ٤ : ٤٧٥١.

(٣) الذهبي ، تذكرة الحفاظ ، ج ١ ص ١٠.

(٤) الخطيب البغدادي ،تقيد العلم ، تحقيق يوسف العش ، دار إحياءء السنة النبوية ، ١٩٧٤ م ص ٥٣.

(٥) ابن سعد ،الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٩٦.

٢٦٦

عمر بن الخطاب أراد ان يكتب السنة ثم بدا له ان لا يكتبها ، ثم كتب في الأمصار : من كان عنده منها شيء فليمحه.(١)

وروى أيضا عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال : «جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت بيت النبي ، فاستأذنا على عبد الله (بن مسعود) فدخلنا عليه ، قال فدفعنا إليه الصحيفة ، قال فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء فقلنا له : يا أبا عبد الرحمن انظر فيها فان فيها أحاديث حِسانا ، قال فجعل يميثها فيها ويقول : القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما سواه». (وماث يميت مَيْثاً اذاب الملح في الماء). وفي رواية أخرى عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال : «جاء رجل من أهل الشام إلى عبد الله بن مسعود ومعه صحيفة ، فيها كلام من كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه ، فقال : يا أبا عبد الرحمن الا تنظر ما في هذه الصحيفة من كلام أخيك أبي الدرداء ، فاخذ الصحيفة فجعل يقرأ فيها وينظر حتى أتى منزله فقال يا جارية أتيني بالإجّانة مملوءة ماء ، فجاءت بها فجعل يدلكها ويقول : اقصصا احسن من قصص الله تريدون أو حديثا احسن من حديث الله تريدون.(٢)

٣. قريش المسلمة والإمامة الدينية :

اما عرض الخليفة القرشي نفسه إماما في الدين بدلا من أهل البيت فتوضحه الروايات الآتية :

في صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند احمد وغيرهم عن أبي موسى الاشعري قال : كنت أفتي الناس بذلك (أي بالحل بعد إتمام أعمال متعة الحج) في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال انك لا تدري ما احدث أمير المؤمنين في شان النُّسُك فقلت : أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد فهذا أمير

__________________

(١) الخطيب البغدادي ،تقييد العلم ص ٥٣ ، ابن عبد البر ،جامع بيان العلم ص ٧٧.

(٢) الخطيب البغدادي ،تقييد العلم ، ص ٥٤ ـ ٥٥.

٢٦٧

المؤمنين قادم عليكم فبه ائتموا(١) ثم ذكر أمره بفصل الحج عن العمرة.(٢)

وفي حلية الأولياء : ان عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في اشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله وأنا أنهى عنها. وذلك ان أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في اشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله ان كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهَلَّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما ، والحج افضل من العمرة ، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهم تحت الأراكن مع ان أهل هذا البيت (أي أهل مكة) ليس لهم ضرع ولا زرع ، وإنما ربيعهم بمن يطرأ عليهم.(٣)

وفي رواية مسلم : فقال عمر : قد علمت ان النبي فعله وأصحابه ولكن كرهت ان يضلوا معرَّسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم.(٤)

وقد نقل النووي في شرح صحيح مسلم(٥) عن القاضي عياض ان عمر كان يضرب على متعة الحج.

اما إضافة سيرة الشيخين إلى مصادر التشريع فتوضحه روايات قصة الشورى وبيعة عثمان وقد مرت ونذكر خلاصتها :

قال عبد الرحمن بن عوف لعلي بن أبيط الب : عليك عهد الله وميثاقه ، إن بايعتك لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله ، وسيرة أبي بكر وعمر!(٦)

__________________

(١) يؤكد قول الاشعري هذا ان السلطة القرشية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت قد عرضت نفسها على انها السلطة التشريعية ، بمعنى ان الدين هو ما تقرره ، مضافا إلى السلطة الاجرائية أو المدنية.

(٢) البخاري ،صحيح البخاري ، ص ٣٢٥. ومسلم بن الحجاج ،صحيح مسلم ص ٤٥٨. واحمد بن حنبل ،مسند احمد ج ١ ص ١٨١. وسنن النسائي ص ٤٤٩. وابو يعلى ،مسند أبي يعلى ج ٥ ص ٣٩٤. البزار ،مسند البزار ج ١ ص ٣٤٦. والمتقي الهندي ،كنز العمال ، ج ٥ ص ٦٤.

(٣) أبو نعيم ، حلية الأولياء ج ٥ ص ٢٣٣ ، المتقي الهندي ، كنز العمال ، ج ٥ ص ٦٤.

(٤) مسلم بن الحجاج ،صحيح مسلم ص ٤٥٨. والطيالسي ،مسند الطيالسي ج ١ ص ٢٧١. واحمد بن حنبل ،مسند احمد ج ١ ص ٣١٢. والنسائي ،سنن النسائي ص ٤٤٨ ، من هذه الرواية نفهم ان عمر كان من الذين انكروا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر متعة الحج وانه قال ضمن من قال (انغدوا حجابا ورؤوسنا تقطر).

(٥) النووي ،شرح صحيح مسلم ، دار الكتاب العربي ١٩٨٧ م ، ج ١ ص ١٧٠.

(٦) العيني ،عمدة القاري ، ج ٢٤ ص ٤٠٥. وابن حجر ،فتح الباري ج ١٣ ص ٢٣٦.

٢٦٨

فقال عليعليه‌السلام : ان كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما إلى إجِّيرَى احد).(١)

فأقبل على عثمان ، فقال له مثل ذلك ، فقال : نعم لا أزول عنه ولا أدع شيئا منه. فقال : ابسط يدك يا عثمان ، فبسط يده فبايعه.

أقول : وكان ابرز تشريعات الإمامة القرشية هي قضية النهي عن حج التمتع وكان عثمان حريصا على السير على هدي الخليفتين فيها وفي غيرها.

قال ابن حزم(٢) : ان عثمان سمع رجلا يُهِلُّ بعمرة وحج ، فقال : عليَّ بالمُهِل ، فضربه وحلقه.

أي أراد المُهل ان يحج حج التمتع.

وقوله : ضربه وحلقه. أي ضربه تأديبا وحلقه تشهيرا.

المرحلة الثالثة : الإمامة الهادية على عهد علي عليه‌السلام

١. إحياء العمل بالكتاب والسنة وشجب الروايات الإسرائيلية :

روى مالك في الموطأ : ان المقداد بن الأسود دخل على عليعليه‌السلام بالسُقْيا وهو يُنجِع بَكرات له دقيقا وخبطا. فقال هذا عثمان بن عفان ينهى عن ان يقرن بين الحج والعمر ، فخرج عليعليه‌السلام على يديه اثر الدقيق والخبط فما أنسى اثر الدقيق والخبط ، على ذراعيه ، حتى دخل على عثمان فقال : أنت تنهى ان يُقْرَنَ بين الحج والعمرة ، فقال : عثمان ذلك رأيي ، فخرج عليٌّعليه‌السلام مغضبا وهو يقول : لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا.(٣)

وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند احمد واللفظ للأول عن سعيد بن

__________________

(١) اليعقوبي ،تاريخ اليعقوبي ، ج ٢ ص ١٦٢. الإجِّيرَى بالكسر والتشديد والفتح العادة والطريقة.

(٢) ابن حزم ،المحلى ، تحقيق احمد محمود شاكر ، دار الفكر بيروت ، ج ٧ ، ص ١٠٧.

(٣) مالك بن انس ، الموطأ ، ص ١٧٣. وابن كثير ،البداية والنهاية ، ج ٥ ص ١٢٧ ، و (السقيا) قرية جامعة بطريق مكة ، و (ينجع) يسقي ، و (بكرات) جمع بكرة ولد الناقة أو الفتى منها ، و (الخَبْط) ضرب من ورق الشجر حتى ينحات عنه ثم يستخلف من غير ان يضر ذلك بأصل الشجرج واغصناها قال الليث (الخَبَط) خَبَط ورق العِطاء من الطلح ونحوه يخبط يضرب بالعصا فيتناثر ثم يعلف الإبل.

٢٦٩

المسيب قال : حج علي وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع فقال علي إذا رأيتموه قد ارتحل فلبى علي وأصحابه بالعمرة(١)

قال الإمام السندي بهامشه : قال (إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا) أي ارتحلوا معه ملبين بالعمرة ليعلم أنكم قدمتم السنة على قوله ، وانه لا طاعة له في مقابل السنة.(٢)

وفي صحيح البخاري وسنن النسائي وسنن الدارمي وسنن البيهقي ومسند احمد ومسند الطيالسي وغيرها عن علي بن الحسينعليهما‌السلام عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعلياعليه‌السلام وعثمان ينهى عن المتعة وان يجمع بينهما فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة معا قال ما كنت لأدع سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقول أحد.(٣)

وفي لفظ النسائي : فقال عثمان أتفعلها وأنا أنهى عنها فقال علي لم اكن لأدع سنة رسول الله لأحد من الناس.

كان هذا في بدء مشروعه الإحيائي سنة ٢٨ هـ اتسع أمر الإحياء لكل السنن غير انه لم يرغم أحدا على ذلك وإنما اكتفى برفع الحظر الذي فرضته الخلافة القرشية على العمل بالسنن ، وبقي بعض النسا يعمل بما سنته الخلافة على الرغم من مخالفته للسنة.

٢. الحث على نشر السنة النبوية وتدوينها :

كان علي يحث على نشر السنة النبوية وتدوينها سواء فيما يتعلق بفضائله وفضائل أهل بيته أو في الأحكام.

روى احمد بن حنبل حدثني عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يونس بن ارقم حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شهدت عليا في الرحبة ينشد

__________________

(١) النسائي ،سنن النسائي ص ٤٤٨. واحمد بن حنبل ،مسند احمد ج ١ ص ٣٣٥. والحاكم ،المستدرك على الصحيحين ج ١ ص ٦٤٥. وابن كثير ،البداية والنهاية ، ج ٥ ص ١٢٥ و ١٢٧.

(٢) يتضح من الرواية وتعليق السندي ان علياعليه‌السلام وأصحابه كانوا في الحج على السنة وكان عمر وعثمان ومن اقتدى بهما على خلاف السنة.

(٣) البخاري ،صحيح البخاري ص ٢٨٩. والنسائي ،سنن النسائي ص ٤٤٦. والدارمي ،سنن الدارمي ص ٣٢٦. واحمد بن حنبل ،مسند احمد ج ٢ ص ٨١. والطيالسي ،مسند الطيالسي ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٧.

٢٧٠

الناس : انشد الله من سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم «من كنت مولاه فعلي مولاه» لما قام فشهد؟ قال عبد الرحمان : فقام اثنا عشر بدرياً كأني انظر إلى احدهم فقالوا : نشهد أنا سمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم «الست أولى بالمؤمنين من انفسهم وأزواجي أمهاتهم» فقلنا بلى يا رسول الله قال : «فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»(١) .

وفي رواية أخرى بسنده عن سماك العبسي قال : دخلت على عبد الرحمن بن أبي ليلى فحدثني انه شهد عليا في الرحبة قال : انشد الله رجلا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشهده يوم غدير خم الا قام ولا يقوم الا من قد رآه؟ فقام اثنا عشر رجلا فقالوا : قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» فقام الا ثلاثة لم يقوموا فدعا عليهم فأصابتهم دعوته.(٢)

وفيه أيضا بسنده عن أبي الطفيل عامر بن واثلة تـ ١٠٠ هـ(٣) قال :

«جمع عليعليه‌السلام الناس في الرحبة ثم قال لهم : انشد الله كل امرئ سمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام فقام ثلاثون من الناس.

قال أبو واثلة : فخرجت وكأن في نفسي شيئا فلقيت زيد بن أرقم فقلت له إني سمعت علياعليه‌السلام يقول كذا وكذا.

قال : فما تنكر قد سمعت رسول الله يقول ذلك له».(٤)

وقوله (فخرجت وكأن في نفسي شيئا) يبدو منه ان أبا الطفيل استعظم النتائج المترتبة على حديث الغدير وهي هلاك وضلالة من خالف عليا أو خذله أو قاتله أو قدَّم نفسه عليه لذلك راح يستزيد عن القضية اكثر.(٥)

__________________

(١) احمد بن حنبل ،مسند احمد ج ٢ ص ٢٢.

(٢) احمد بن حنبل ،مسند احمد ج ٢ ص ٢٤.

(٣) صحابي ولد في أحد وأدرك من عمره ثماني سنوات مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٤) احمد بن حنبل ،مسند احمد ، ج ٤ : ٣٧٠.

(٥) وقد روى حديث المناشدة هذا من التابعين منهم سعيد بن وهب ، وزيد بن يثيع ، وعبد خير ، وحبة العرني ، وعمرو بن ذي مر ، وسعيد بن حدان ، وأبو سليمان ، وزاذان ، وعميرة بن سعد ، وغيرهم وقد أخرج أحاديث هؤلاء أبو نعيم في حلية الأولياء وابن كثير في البداية والنهاية والخطيب في تاريخ

٢٧١

ومن الجدير ذكره هنا ان حديث الغدير الذي استنشده عليعليه‌السلام لم يكن يتضمن ذكر عليعليه‌السلام فقط بل تضمن أيضا ذكر أهل بيته.

وقد روى الحاكم النيسابوري الرواية كاملة عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال :

«خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى انتهينا إلى غدير خم نزل رسول الله بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام فكنس الناس ما تحت الشجرات ثم راح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عشية فصلى ثم قام خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثم قال :

أيها الناس إني تارك فيكم أمرين(١) لن تضلوا ان اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي ثم قال أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا نعم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كنت مولاه فعلي مولاه ...».(٢)

وفي رواية الطبراني بعد قوله عترتي «وان اللطيف الخبير نَبَّأَني انهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض وسألت ذلك لهما ربي ، فلا تَقدَّموهُما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم».(٣)

٣. إحياء إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ونفي إمامة غيرهم من قريش :

قال عليعليه‌السلام : (أين الذين زعموا انهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا ، أن رَفَعَنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يُستعطى الهدى ، ويُستجلى العَمى.

__________________

بغداد والنسائي في الخصائص وابن المغازلي في المناقب وابن حجر العسقلاني في الإصابة وابن الأثير في أسد الغابة وغيرهم.

(١) في رواية مسلم واحمد (ثقلين).

(٢) الحاكم ،المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ١١٨. وابن عساكر ،تاريخ مدينة دمشق ترجمة عليعليه‌السلام ج ٤٥ ص ١٦٤. وقد رواه البلاذري فيانساب الاشراف أيضا ج ٢ ص ٣٥٧ ، وفيه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (كأني قد دعيت فأجبت وان الله مولاي وانا مولى كل مؤمن وانا تارك فيكم ...) ورواه ابن كثير فيالبداية والنهاية ج ٥ ص ١٩٧ ـ ١٩٩ ، وعنسنن النسائي ورواه أيضا محمد بن جرير الطبري عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم وعن عطية عن أبي سعيد الخدري ورواه أيضا ابن الصباغ المالكي فيالفصول المهمة ج ١ ص ٢٣٥ ـ ٢٧٣ ، كما رواه أيضا المتقي الهندي فيكنز العمال ج ١٣ ص ٤٦.

(٣) الطبراني ،المعجم الكبير ، ج ٥ ص ١٦٧ الحديث رقم ٤٩٧١ ، الهيثمي ،مجمع الزوائد ج ٩ ص ٨٨.

٢٧٢

انَّ الأئمةَ من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم).(١)

وقالعليه‌السلام في ذكر أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (هم موضعُ سرَّه ، ولجأُ أمره ، وعيبةُ علمه ، وموثلُ حكمه ، وكهوفُ كتبه ، وجبالُ دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، واذهب ارتعادَ فرائصه.

لا يقاسُ بآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الأمة ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا.

هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفئ الغالي ، وبهم يلحق التالي.

ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة).(٢)

أقول : والكتب التي ذكرهاعليه‌السلام في هذا الكلام هي ما كتبه بيده عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في لقاءاتهما الخاصة التي يعرفها المسلمون جميعا.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ألا إن أبرار عترتي ، وأطايب أرومتي ، أحلم الناس صغارا ، وأعلم الناس كبارا. ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا. ومعنا راية الحق ، من تبعها لحق ، ومن تأخر عنها غرق ، ألا وبنا يدرك ترة كل مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم ، وبنا فتح لا بكم ، ومنا يختم لا بكم).(٣)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم ، واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم من ردى ، فإن لبدوا فالبدوا وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا).(٤)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (فأين تذهبون! وأنى تؤفكون! والاعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ،

__________________

(١)نهج البلاغة ج ٩ ص ٦٠.

(٢)نهج البلاغة ج ١ ص ١٠٩ ـ ١١٠.

(٣) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٢٠٦.

(٤) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ٥٣.

٢٧٣

فأين يتاه بكم! وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم! وهم أزمة الحق ، وأعلام الدين ، والسنة الصدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش.

أيها الناس ، خذوها عن خاتم النبيين صلى الله عليه! إنه يموت من مات منا وليس بميت ، ويبلى من بلى منا وليس ببال ، فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإن أكثر الحق فيما تنكرون ، وأعذروا من لا حجة لكم عليه ـ وهو أنا.(١)

قال ابن ابي الحديد : تؤفكون : تقلبون وتصرفون. الاعلام : المعجزات هاهنا ، جمع علم ، وأصله الجبل أو الراية والمنارة ، تنصب في الفلاة ليهتدي بها.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (فأين يتاه بكم!) أي أين يذهب بكم في التيه! وتعمهون : تتحيرون وتضلون.

وعترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أهله الأدنون ونسله ، وقد بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عترته من هي ، لما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إني تارك فيكم الثقلين) ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (عترتي أهل بيتي) ، وبين في مقام آخر من أهل بيته حيث طرح عليهم كساء. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله حين نزلت : (إنما يريد الله ليذهب) : (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم). فإن قلت : فمن هي العترة التي عناها أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذا الكلام؟ قلت : نفسه وولداه.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (وهم أزمة الحق) : جمع زمام ، كأنه جعل الحق دائرا معهم حيثما داروا وذاهبا معهم حيثما ذهبوا ، كما أن الناقة طوع زمامها ، وقد نبه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على صدق هذه القضية بقوله : (وأدر الحق معه (أي مع علي) حيث دار).

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (وألسنة الصدق) من الألفاظ الشريفة القرآنية ، قال الله تعالى : (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) لما كان يصدر عنهم حكم ولا قول إلا وهو موافق للحق ، والصواب جعلهم كأنهم ألسنة صدق لا يصدر عنها قول كاذب أصلا ، بل هي كالمطبوعة على الصدق.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (فأنزلوهم منازل القرآن) أمر المكلفين بأن يجروا العترة في إجلالها

__________________

(١) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ٦ ص ٤٢٨.

٢٧٤

وإعظامها والانقياد لها ، والطاعة لأوامرها مجرى القرآن. فإن قلت : فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة ، فما قول أصحابكم في ذلك؟ قلت : نص أبو محمد بن متّويه رحمه الله تعالى في كتاب الكفاية على أن علياعليه‌السلام معصوم ، وإن لم يكن واجب العصمة ، ولا العصمة شرط في الإمامة ، لكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته ، والقطع على باطنه ومغيبه ، وأن ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة ، والفرق ظاهر بين قولنا : (زيد معصوم) ، وبين قولنا : (زيد واجب العصمة) ، لأنه إمام ، ومن شرط الامام أن يكون معصوما ، فالاعتبار الأول مذهبنا ، والاعتبار الثاني مذهب الإمامية.

ثم قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (وردوهم ورد الهيم العطاش) ، أي كونوا ذوي حرص وانكماش على أخذ العلم والدين منهم ، كحرص الهيم الظماء على ورود الماء).(١)

ثم قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (انه يموت من مات منا وليس بميت ويبلى من بلى منا وليس ببال فلا تقولوا بما لا تعرفون فان أكثر الحق فيما تنكرون واعذروا من لا حجة لكم عليه وانا هو الم اعمل فيكم بالثقل الأكبر واترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم راية الايمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي وأريتكم كرائم الاخلاق من نفسي فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا يتغلغل اليه الفكر).

أقول : أي أئمة الهدى من أهل البيتعليهم‌السلام تبقى هدايتهم في قولهم وفعلهم بعد موتهم فاعلة مؤثرة كما هي في حياته.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا إن أبرار عترتي ، وأطايب أرومتي ، أحلم الناس صغارا ، وأعلم الناس كبارا. ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا. ومعنا راية الحق ، من تبعها لحق ، ومن تأخر عنها غرق ، ألا وبنا يدرك ترة كل مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم ، وبنا فتح لا بكم ، ومنا يختم لا بكم(٢) ...

__________________

(١) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ٦ ص ٣٧٣ ـ ٣٧٨.

(٢) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٢٧٦.

٢٧٥

اما كلماته في قريش المسلمة التي ظلمته فمنها :

(اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم ، فانهم قطعوا رحمي ، وصغرّوا عظيم منزلتي ، واكفأوا إنائي ، واجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري ، وقالوا إلا ان في الحق ان تأخذه ، وفي الحق ان تُمنعه ، فاصبر مغموما ، أو مُت متأسفا ، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن المنية ، فاغضيت على القذى ، وجرعت ريقي على الشجا وصبرت من كظم الغيظ على أمرِّ من العلقم ، وآلم للقلب من حز الشفار).(١)

وقولهعليه‌السلام في رسالته لأخيه عقيل :

(فإن قريشاً قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل اليوم ، وجعلوا حقّي ، وجحدوا فضلي ، ونصبوا لي الحرب ، وجَدُّوا في إطفاء نور الله ، اللهم فاجزِ قريشاً عني بفعالها ، قد قطعت رحمي وظاهرت عليَّ ...).(٢)

المرحلة الرابعة : الامام الحسن عليه السالم يؤسس

المرجعية الدينية المستقلة عن السلطة

ويتنازل عن السلطة المدنية

ان الامام الحسنعليه‌السلام بصلحه وتنازله عن السلطة مؤقتا لمعاوية وتقييد حكمه بالكتاب والسنة دون سيرة الشيخين يكون قد اكد للامة منهج عليعليه‌السلام ومن قبل منهج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ان الدين والقانون هو الكتاب والسنة لا غير وان سيرة الشيخين ليستا من الدين في شيء وإنما هي اجتهادات من عمل بها ينبغي له ان يعرف مسبقا انه يعمل باجتهادات ما انزل الله فيها من سلطان وليس له ان يرتقب الثواب من الله تعالى عليها ، واكد للامة ان مهمة الحاكم في المجتمع هو تنفيذ القانون لا تشريعه ، وان التشريع مطلقا لله تعالى ولرسوله في حدود مساحة معينة بإذن الله تعالى ، وأيضا لأوصياء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) كلام : ٢١٧نهج البلاغة الخطبة : ١٧٢.

(٢) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ٢ / ١١٩ ، الدينوري ، ابن قتيبة ،الإمامة والسياسة ج ١ : ٥٦ ، البلاذري ،انساب الاشراف ج ٢ : ٧٥ أبو الفرج الاصفهان ،الاغاني ج ١٥ : ٤٦.نهج البلاغة ج ٣ : ٦٨. وصفوت ، احمد زكي ،جمهرة رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة ، المكتبة العلمية ١٩٣٧ م ، ج ١ ص ٥٩٥.

٢٧٦

يأذن بها الرسول في حدود صلاحياته الإلهية. وقد أسست قريش المسلمة مبدأ ان من يأتي بعد الشيخين يتقيد بسيرتها وفي الوقت نفسه يكون من حقه ان يشرع في طول تشريع الخليفتين الأمر الذي رفضه علي في الشورى وقبله عثمان وحاول معاوية ان يسير على منهاج عثمان في هذا المسالة حين بويع على سيرة الشيخين من قبل أهل الشام بعد شهادة عليعليه‌السلام ويجئ صلح الحسن ليصحح بيعة معاوية كحاكم ملزم بكتاب الله وسنة النبي وان القانون الإلهي يؤخذ من العلماء به المنصوص عليهم المطهرون وهم أهل البيت وفق حديث الثقلين لاذي مرت نصوصه. وهكذا فان تنازل الحسن عن السلطة الزمنية قد اصلح الانشقاق وهدم خطة معاوية في وأد مشروع علي وفتح الشام لإخباره وذكرت في بلاط معاوية وترحم معاوية على عليعليه‌السلام وذكره مرات بخير مدة عشر سنوات.

المرحلة الخامسة : معاوية يحيي الإمامة الدينية

القرشية ويسميها خلافة الله

انقلب معاوية على الحسنعليه‌السلام ونقض كل عهوده معه ، واحيا منهج قريش المسلمة بان يكون الحاكم مشرعا يتحرك وفق تشريع من سبقه وقد يتحرر منه حين تتوفر أسباب لذلك ومن هنا حرص على سلب موجبات الإمامة الدينية الهادية لعليعليه‌السلام وهي أحاديث النبي فيه وفي أهل بيته بالطهارة والعلم والقرب الإلهي ليوصف بالإفساد في الدين وينتحل فضائله ليوصف بالهدى ، ومن هنا رأيناه يطرح في اعلامه ان الحاكم خليفة الله وبذلك أسس هذا الأساس لخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس ويترتب على ذلك ان الأمة لا يجوز لها ان تقوم في وجه الحاكم لأنه خليفة الله وقائد إلى الجنة وقد فصلنا في هذا الأمر في كتابنا (الامام الحسينعليه‌السلام في مواجهة الضلال الأموي) ..

٢٧٧

الباب الثاني / الفصل السابع

مقارنة بين صلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحديبية وصلح الحسين عليه‌السلام

الخليفة التاريخية لكلا الصلحين :

كانت الخليفة التاريخية لكل من الصلحين هي الاعلام الكاذب وتشويه الحقيقة تسويغا للموقف العملي المتمثل بالقتال بهدف استئصال الطرف الآخر.

فقد شنت قريش المشركة (الآباء) بقياد أبي سفيان الحرب على النبي في بدر وأحد وكانت تقول في تفسيرها للحرب انها تدافع عن نفسها وعن بيت إبراهيم ودين إبراهيم وان محمدا كان كاذبا ساحرا افسد في دين إبراهيم وانه هتك حرمة البيت وسفك الدم الحرام في الشهر الحرام حين اعتدى على القوافل القرشية وقطع الطرق الآمنة عليها ، مع ان العرب كانت تحترمها وتدافع عنها لأنه قوافل سدنة البيت وخدمة الحجيج. ولم تكشف قريش الحقيقة من انها كانت البادئ بالظلم حين عذبت المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم ثم صادرت أموالهم بعد هجرتهم إلى يثرب ، وان النبي بعث سراياه تغير على قوافل قريش مقاصَّةً لها لا غير.

واستمرت قريش في اعلامها الكاذب ونجحت فيه حين استطاعت ان تحشد قريبا من عشرة آلاف مقاتل في غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة مضافا إلى خيانة يهود المدينة لعهدهم مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ان لا يعينوا عدوه عليه.

٢٧٨

بعد ان باءت خططها في الخندق بالفشل أوحى الله تعالى إلى نبيه ان يغير الخطة مع قريش بان يذهب إلى مكة معتمرا معه الهدي ويعرض عليهم الصلح فإذا ما صدوا زيارته للبيت وطلبه للصلح عرفت ان قريشا هي التي تصر على الحرب وليس محمدا ، وانها هي التي تصد عن البيت وليس محمدا ، وإذا ما قبلوا الصلح وتعنتوا في الشروط لحميتهم وجاهليتهم فسوف تعرف القبائل ان قريشا هي التي تصد عن البيت وليس محمدا لأنه ردوه وأصحابه مع انهم جاؤوا محرمين معهم الهدي تعظيما للبيت ، وبالتالي سوف يفتح النسا على حقيقة جديدة هي ان قريشا كانت كاذبة في اعلامها ضد محمد وان على الناس ان يتعرفوا عن قرب على محمد ورسالته.

وكذلك كانت قريش المسلمة (الأبناء) بدفعٍ وتخطيط من معاوية بن أبي سفيان والي الشام ، حيث اقتطعت البصرة بعد ان غدرت ببيعتها لعلي ثم غدرت بعهدها مع عثمان بن حنيف والي علي عليها ، ثم جاءها علي ليقاتل الناكثين ويعيد البصرة وأهلها إلى الأمة ، وبعد هزيمتها وخسارتها في المعركة اصطفت وراء معاوية في الشام ، ليعلن عن فصل الشام عن الأمة وعلي ، ولم يكن أمام عليعليه‌السلام الا ان يبادر إلى مقاتلة القاسطين البغاة ليرجع الشام وأهلها إلى الأمة ، ولم تنته المعركة كما انتهت في الجمل بل استطاع معاوية ان يقف على رجليه ويحقق فصل الشام ثم مصر وافريقيا وكما استطاع ان ينشئ اعلاما كاذبا يفسر حرب الجمل وصفين للجند وللناس الذين يحكمهم بتفسير كذب خلاصته : ان عليا هو سبب الحروب وانه كان يطلب الملك ، وانه قتل عثمان ، وانه مفسد في دين النبي ، واستطاع معاوية ان يوزع جيشه على شكل كتائب وسرايا تغير على أطراف البلاد الخاضعة لحكومة عليعليه‌السلام ، وجهز علي جيشه العقائدي ليضع حدا لغارات معاوية وشاء الله تعالى ان يغتاله ابن ملجم وهو في الكوفة.

وبايع العراقيون الحسن على العمل بكتاب الله وسنة النبي انطلاقا مما لديهم من النصوص النبوية فيه وفي أبيه من قبل ،

وبايع الشاميون معاوية على العمل بكتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخين كما بويع عثمان من قبل ، وعرض معاوية الصلح على الحسن بان يبقى كل طرف على

٢٧٩

بلاده التي بايعته ، وجعل الحسن أمام إحراجين اما قبول الصلح وهذا معناه تكريس الانشقاق وتكريس الاعلام الكاذب ضد علي ، واما رفضه ومعناه تكريس الاعلام السلبي ضد علي أيضا بان ولده على خط أبيه في إثارة الحرب ،

وبادره الحسن بأطروحة صلح تستهدف فضحه وكسر الطوق الاعلامي الكاذب عن علي في الشام مستمدا روحها من صلح الحديبية ، وهي معادلة قوامها : ان يسلم الحسن ملك العراق بشروط يعينها الحسن ولا مجال للمساومة عليها ، فاما ان يقبل معاوية الشروط ويتسلم الملك ويتحقق الأمان للناس ووحدتهم والفتهم وتفهمهم للحقائق واما ان يرفض الشروط فيكون معاوية هو طالب الحرب وطالب الانشقاق.

الواقع التاريخي لمجريات صلح الحديبية ونتائجه :

١. خرج النبي في ألف وأربعمائة أو ألف وثمانمائة وخمسين شخص من أصحابه مُحْرِمين يسوقون الهدي بني أيديهم وكان ذلك سِتّ من الهجرة وسمعت قريش بذلك ، فخرجوا جميعا يعاهدون الله أن لا يدخل محمد وأصحابه مكة أبداً وبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم أحدَ حُلَفائهم الحُلَيْس بن علقمة الكناني سيِّد الأحابيش وكان قد أثَّر فيه مشهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه والهدي أمامهم وقال لقريش : «رأيت البُدْنَ(١) قد قُلِّدت وأُشْعِرت فما أرى أن يُصَدّوا عن البيت».

فقالوا : «اجلس إنَّما أنت أعرابيّ لا عِلمَ لك».

فغضب وقال : «يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم أيُصَدُّ عن بيت الله من جاءه معظِّما له؟ والذي نفسي لَتُخْلُنَّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفِرَنَّ بالأحابيش نَفْرَة رجل واحد».

قالوا : «مه ، كُفّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به».

٢. وبعثت قريش سُهيْلَ بن عمرو ليصالح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شريطةَ أن يَرجِع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا العام. وفوض النبي عليا في صلحه. وقَبِلَ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شرط قريش وشروطاً أخرى أملتها عليه ظاهرها التنازل من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقريش.

__________________

(١) البُدْن : جمع بَدَنَة وهي الإبل السمين.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611