الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي9%

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 611

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177760 / تحميل: 7843
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

هذا هو التلوّن والتزلزل، وعدم سكون الريح.

تلوّنٌ فظيع يجرّ إلى الكفر والارتداد، لأنّه إنكارٌ للحقّ بعد معرفته، وبغيٌ على الإمام بعد معرفة لزوم مودّته.

وقد رُوي أنّه سأله الأصبغ بن بناتة في محضر معاوية فقال له: ـ

يا صاحب رسول الله، إنّي احلفك بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، وبحقّ حبيبه محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله إلّا أخبرتني:

أشهدتَ غديرَ خمّ؟

قال أبو هريرة: بلى شهدته.

فقال الأصبغ: فما سمعته يقول في عليّ عليه السلام؟

قال أبو هريرة: سمعته يقول: مَن كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، اللَّهُمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصُر مِن نصره، واخذُل من خذله.

فقال له الأصبغ: فأنت إذاً واليت عدوّه، وعاديت وليّه.

فتنفّس أبو هريرة الصعداء، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون (1) .

ومن عجيب التلوّن والتزلزل وعدم الثبات تزلزل الزبير بن العوّام ابن عمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وابن عمّة أمير المؤمنين عليه السلام، لذي هو عبرة لمن اعتبر ودرسٌ لمن تدبّر.

حيث إنّه بعد سابقة إيمانه، وخدمته، وولائه لعليّ عليه السلام، أصبح محارباً له وباغياً عليه، ومؤجّجاً لفتنة الجمل والعمل الأرذل (2) .

فالصحيح الحقّ، والخُلق الأليق، أن يكون إيمان المرء ثابتاً مستقرّاً، ويكون في حياته ساكناً، غير متزلزل.

__________________

(1) لاحظ السفينة / ج 8 / ص 672، وتلاحظ لمزيد معرفة حاله ووضاعته كتب الرجال.

(2) راجع سفينة البحار / ج 3 / ص 444.

١٨١

والمطلوب هو الإيمان المستقرّ الذي أشار إليه قوله عزّ اسمه: ـ

( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) (1) .

ويتحقّق ذلك في الإنسان بعون الله تعالى، وببركة أهل البيت عليهم السلام بملازمتهم وعدم مفارقتهم.

ففي حديث الإمام الرضا عليه السلام: ـ «مَن لزَمناه لزمناه، ومَن فارقنا فارقناه» (2) .

والمؤمن الحقيقي ثابت القدم في إيمانه، ومتصلّبٌ في عقيدته.

قال عزّ اسمه: ـ ( يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ ) (3) .

وفي حديث الإمام الباقر عليه السلام: ـ (المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يُستقلّ منه، والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شيء) (4) .

__________________

(1) سورة الأنعام: الآية 98.

(2) وسائل الشيعة / ج 18 / ص 92 / باب 10 / ح 13.

(3) سورة إبراهيم: الآية 27.

(4) اُصول الكافي / ج 2 / ص 189.

١٨٢

(11)

وطيب المخالقة

المخالقة: مفاعلة من الخُلق بضمّتين، يعني: المعاشرة.

يُقال: خالَقَ القوم أي عاشرهم بخلق حَسَن.

فتكون المخالقة هنا بمعنى المعاشرة مع الناس.

والطيب: هو الحسن الذاتي، ويُطلق على ما هو طيّبٌ واقعاً وذاتاً، لذلك يطلق على العطور بأنّها طيب، ولا يقال للشيء المعطّر بأنّها طيب، بل يقال: إنّه مطيّب.

وفيها نحن فيه المعاشرة مع الناس قد تكون بسجيّة طيّبة، وقد تكون بسجيّة غير طيّبة.

وفي هذا الدّعاء الشريف عبّر الإمام عليه السلام بطيب المخالقة، ولم يقل حسن المخالقة، إشارة إلى طلب السجيّة الطيّبة الذاتيّة الواقعيّة، والعلاقة الودّية الحقيقيّة، فهي التي تكون حلية الصالحين، وزينة المتّقين.

دون العلاقة الحسنة الظاهريّة، التي قد تكون مراوغة وحيلة إذا لم تطابق قلب الإنسان وباطنه..

فإنّك ترى أنّه قد يعاشر أحدٌ مع شخصٍ، فيُحسن في معاشرته ويضاحكه

١٨٣

ويمازحه ويلاطفه بلسانه، مراوغةً مصانعةً، لا حقيقة، وهذه مخالقة غير طيّبة، بل غير حسنة كما هو المنقول عن شريح القاضي الذي ضُرب به المثل في مراوغاته ومصانعاته فقيل:

(شريح أدهى من الثعلب).

في قضيّةٍ ينقلها الشعبي، وجاء ذكره في كتاب الدميري (1) .

فالطيب من المخالقة هي التي تكون حقيقيّة واقعيّة، ويستمرّ عليها حتّى تصير سجيّة ذاتيّة، وهي المطلوبة في الدعاء الشريف.

والاُسوة والقدوة في المخالقة والمعاشرة الطيّبة مع الناس هم أهل البيت عليهم السلام الذين طابت معاشراتهم مع الناس في جيميع أدوار حياتهم، في حكومتهم وغير حكومتهم، مع أصحابهم وغير أصحابهم، مع أوليائهم وأعدائهم، حتّى مع خدّامهم.

كانت معاشراتهم معهم طيّبة حقيقيّة، وصافية صفو الماء الزلال، وصادقةً صدق الحقّ الأبلج، كما تلاحظ ذلك بوضوح في سيرتهم الغرّاء، وحياتهم المباركة.

ومن أمثلة ذلك: ـ

1 ـ أمير المؤمنين عليه السلام... ذهب إلى السوق، واشترى ثوبين، أحدهما بدرهمين، والآخر بثلاث دراهم.

فأعطى الثوب ذا الثلاث دراهم لخادمه قنبر المعاشر معه، ولبس هو عليه السلام الثوب ذا الدرهمين.

2 ـ الإمام الحسين عليه السلام.. وهب بستانه لغلامه صافي، حتّى أنّه استأذن منه لدخوله هو إلى البستان.

وهبه له لكونه غلاماً شكوراً، ومُنفقاً من طعامه على كلب البُستان، فأحسن الإمام في عشرته.

__________________

(1) حياة الحيوان / ج 1 / ص 173.

١٨٤

3 ـ الإمام الصادق عليه السلام.. أبطأ عليه خادمه ونام ويم ينجز ما طلبه الإمام منه، فسار الإمام عليه السلام في طلبه فوجده نائماً، فجلس عند رأس الخادم، يروّح له بيده حتّى لا يصيبه الحرّ.

وفي برهةٍ من الزمان كان الإمام الصادق عليه السلام مبعّداً إلى الحيرة (1) من قبل المنصور الدوانيقي الذي عادى الإمام عليه السلام، محاربةً لعلمه الإلهي، ومعارضةً لحقّه الشرعي، وإغلاقاً لباب أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا الأصحاب الحقيقيّين لخلافة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.

وحين وجود الإمام الصادق عليه السلام في الحيرة كان معه خادمه المعلّى بن خنيس، وفي ليلة من تلك الليالي التي كانت من ليالي الصيف، أمر الإمام عليه السلام أن يُفرش له فراشه في الصحراء، ليكون نومه وعبادته هناك.

وأمرَ أن يُؤتى بسراجٍ ومركبٍ له وللمعلّى بن خنيس.

فجيء بسراجٍ وبغلةٍ وحمار..

فركب هو عليه السلام الحمار، وأمر المعلّى أن يركب البغل الذي هو أحسن من الحمار، فذهبوا إلى الصحراء، ثمّ ذهبوا من هناك إلى زيارة مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، فتلاحظ طيب عشرته مع خادمه حيث فضّله على نفسه في المركب إيثاراً.

4 ـ الإمام الرضا عليه السلام.. كان يجلس على مائدة الطعام مع غلمانه وخَدَمه، وهو سلطان الدِّين والدّنيا والآخرة.

حتّى في حال مسموميّته وتألّمه لم يترك ذلك، بل كان يعاشرهم بأطيب المخالقة، وأفضل معاشرة.

__________________

(1) الحيرة: كانت بلدة على بُعد 5 كيلومترات من جنوب الكوفة كما في المنجد / ص 170.

١٨٥

وهكذا سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذين هم أشرف خلق الله تعالى، ترى أنّهم كانوا يحسنون المعاشرة الطيّبة مع جميع طبقات الخلق، ويأمرون بحسن المعاشرة، وطلاقة الوجه مع المعاشرين.

ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام قال: ـ

قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

يا بني عبد المطّلب، إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فألقوهم بطلاقة الوجه، وحُسن البُشر (1) .

وفي حديثٍ آخر: ـ

صنائع المعروف، وحُسن البُشر، يكسبان المحبّة، ويُدخلان الجنّة.. والبخل وعبوس الوجه يبعّدان من الله، ويُدخلان النار (2) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: ـ

عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنّه لابدّ لكم من الناس... (3) .

وفي حديث أبي الربيع الشامي قال: ـ

دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام، والبيت غاصّ بأهله، فيه الخراساني، والشامي، ومن أهل الآفاق.

فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله عليه السلام وكان متّكئاً ثمّ قال: يا شيعة آل محمّد، إنّه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يُحسن صحبة من صَحِبَه، ومخالقة مَن خالقَه، ومرافقة مَن رافقَهُ، ومجاورة مَن جاورَهُ، وممالحة مَن مالحهُ.

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 84.

(2) اُصول الكافي / ج 2 / ص 85.

(3) اُصول الكافي / ج 2 / ص 464.

١٨٦

يا شيعة آل محمّد، اتّقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله (1) .

فطيب المخالقة، وحسن المعاشرة مع الناس، من الصفات الكريمة، والخصال المباركة التي تجعلنا من شيعة آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.

إذ هي من حلية الصالحين، وزينة الأتقياء..

والمتّقون الصالحون هم شيعة أهل البيت عليهم السلام.

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 465.

١٨٧

١٨٨

(12)

والسَّبقِ إلى الفضيلة

السَبْق بسكون الباء هو: التقدّم...

يُقال: سَبَق إلى الشيء سبْقاً يعني: تقدّم إليه وخلَّفَ غيره.

والفضيلة: مقابل الرذيلة والنقيصة.

ومعنى الفضيلة هي الدرجة الرفيعة والمقام الرفيع.

وكذلك ما يوجب تلك الدرجة والمقام، كالإحسان إلى الخلق، وإعانة الضعيف، وكفالة اليتيم، وإغاثة الملهوف، والانتصار للمظلوم، وإطعام الطعام، ونشر العلم، وجهاد العدوّ، والمجاهدة مع النفس، وإتيان اُمور الخير، كلّ ذلك من موجبات الفضيلة.

والمطلوب في هذه الفقرة من الدعاء الشريف هو ما يكون من حلية الصالحين وزينة المتّقين، وهو استباقهم وحيازتهم قصب السبق في درك الفضائل، والأعمال الخيريّة التي توجب الفضيلة والدرجة الرفيعة.

والتسابق إلى مفاضل الأعمال، وصنائع الخيرات فضلٌ محبوب ومرغوب رُغّب فيه شرعاً وعقلاً، وكتاباً وسنّةً.

١٨٩

قال تعالى: ـ

( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (1) .

وقال عزّ اسمه: ـ

( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (2) .

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: ـ

(مَن فُتح له بابٌ من الخير فلينتهزه، فإنّه لا يدري متى يُغلق) (3) .

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: ـ

(إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيدٍ واحد، ثمّ ينادي منادٍ أين أهل الفضل؟

قال: فيقوم عُنقُ من الناس، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنّا نصِلُ مَن قطَعَنا، ونُعطي مَن حَرَمنا، ونعفو عمّن ظَلَمنا.

فيُقال لهم: صدقتم، اُدخلوا الجنّة) (4) .

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام لعمّار: ـ

(يا عمّار، أنت ربُّ مالٍ كثير؟

قال: نعم، جُعلتُ فداك.

قال عليه السلام: ـ فتؤدّي ما افترض الله عليك من الزكاة؟

قال: ـ نعم.

__________________

(1) سورة المائدة: الآية 48.

(2) سورة الواقعة: الآيتان 10 و 11.

(3) ميزان الحكمة / ج 7 / ص 444.

(4) مستدرك السفينة / ج 8 / ص 233.

١٩٠

قال عليه السلام: ـ فتصِل قرابتك؟

قال: ـ نعم.

قال عليه السلام: ـ فتصِل إخوانَك؟

قال: ـ نعم.

فقال عليه السلام: ـ يا عمّار، إنّ الماي يَفنى، والبدن يَبلى، والعمل يبقى، والديّان حيٌّ لا يموت.

يا عمّار: إنّه ما قدّمت فلن يسبقك، وما أخّرتَ فلن يلحقَك) (1) .

وفي حديثه الآخر: ـ

(أيّما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفاً فقد أوصل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله) (2) .

والمثلُ الأعلى، والقدوة الأسمى في السّبق إلى الفضائل هم أهل البيت عليهم السلام، وفيهم نزل قوله تعالى: ـ ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) » (3) .

فهم عليهم السلام سبقوا الناس في جميع الفضائل منذ أوّل خلقهم في عالم الذرّ، إلى آخر حياتهم في عالم الدُّنيا...

وهم السابقون إلى الله تعالى في الدُّنيا والآخرة..

سبقوا إلى الجواب ببلى، عند سؤاله تعالى: في الذرّ.

وسبقوا إلى الخيرات في الدُّنيا.

وسبقوا إلى الجنّة في الآخرة.

ومَن غير عليّ عليه السلام كان سبّاقاً إلى الفضائل؟!

__________________

(1) الكافي / ج 4 / ص 27 / ح 7.

(2) الكافي / ج 4 / ص 27 / ح 8.

(3) تفسير الصافي / ج 5 / ص 120، وإحقاق الحقّ / ج 3 / ص 114.

١٩١

أليس كان هو السابق إلى الإسلام، وكان إسلامه عن فطرة، وإسلام الناس عن كفر (1) ؟

ألم يكن هو السابق إلى تفدية نفسه المباركة لرسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة المبيت بين أربعمائة سيف من المشركين؟

وهل غيره سبق إلى الجهاد في سبيل الله، والجُهد في طاعة الله، والاجتهاد في عبادة الله؟

ولقد أجاد كافي الكفاة الصاحب بن عبّاد في وصف أمير المؤمنين عليه السلام في نثره وفي شعره.

قال في النثر الذي وصف به عليّاً وذكر نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ

(صنوه الذي واخاه، وأجابه حين دعاه، وصدّقه قبل الناس ولبّاه، وساعده وواساه، وشيّد الدِّين وبناه، وهَزَم الشرك وأخزاه، وبنفسه على الفراش فداه، ومانَع عنه وحماه، وأرغَمَ من عانده وقلاه، وغسله وواراه، وأدّى دَينه وقضاه، وقام بجميع ما أوصاه، ذاك أمير المؤمنين لا سواه) (2) .

وقال في شعره في غديريّته المعروفة في مدح أمير المؤمنين عليه السلام، أنشدها كمحاورةٍ سُئل فيها فأجاب في 25 بيتاً: ـ

قالت: فَمَنْ صاحبُ الدِّين الحنيف أجِب؟

فقلتُ: أحمدُ خيرُ السّادةِ الرُّسلِ

قالت: فَمَنْ بعدَه تُصفي الولاءُ له؟

قلت: الوصيّ الذي أربى على زُحلِ

قالت: فَمَنْ باتَ مِن فَوق الفراشِ فَدى؟

فقلت: أثيبُ خلقِ اللهِ في الوَهَلِ

__________________

(1) سُئل بعض العلماء: متى أسلم عليّ عليه السلام؟

فأجاب: ومتى كفر؟ حتّى يكون أسلم، إنّه جدّد الإسلام.

فهو عليه السلام وُلد على الإيمان وفطرة الإسلام ودين رسول الله صلى الله عليه وآله، وجدّده في البعثة.

(2) الكنى والألقاب / ج 2 / ص 368.

١٩٢

قالت: فَمَنْ ذا الذي آخاهُ عن مِقةٍ؟

فقلت: من حاز ردَّ الشمس في الطفلِ

قالت: فَمَنْ زُوَّج الزّهراء فاطمة؟

فقلت: أفضلُ مَن حافٍ ومُنتعلِ

قالت: فَمَنْ والدُ السبطين إذ فَرَعا؟

فقلت: سابقُ أهلِ السَبق في مَهَلِ

قالت: فَمَنْ فاز في بَدرٍ بمعجزها؟

فقلت: أضربَ خلقِ الله في القُللِ

قالت: فَمَنْ أسَدُ الأحزاب يفرسها؟

فقلت: قاتلُ عمروِ الضيغمِ البطلِ

قالت: فيومُ حُنين مَن فَرا وبَرا

فقلت: حاصدُ أهلِ الشِّركِ في عجلِ

قالت: فَمَنْ ذا دُعي للطّير يأكله؟

فقلت: أقربُ مَرضيٍّ ومُنتحِلِ

قالت: فَمَنْ تِلْوُه يومَ الكساء أجِب؟

فقلت: أفضلُ مَكسوٍ ومُشتمِلِ

قالت: فَمَنْ سادَ في يوم «الغدير» أَبِنْ؟

فقلت:: مَن كان للإسلام خيرُ وليّ

قالت: فَمفي مَن أتى في هل أتى شَرَفٌ؟

فقلتُ: أبذلُ أهلِ الأرض للنُفَلِ

قالت: فمَنْ راكعٌ زكّى بخاتمه؟

فقلت: أطعنهم مُذ كان بالاُسُلِ

قالت: فمَنْ ذا قسيمُ النار يُسهُمها؟

فقلت: مَن رأيُه أذكى من الشُّعلِ

قالت: فمَنْ باهَلَ الطّهرُ النبيُّ به؟

فقلت: تاليه في حِلٍّ ومُرتحِلِ

قالت: فمَنْ شِبْهُ هارونٍ لنعرِفُه؟

فقلت: مَن لم يُحِلْ يوماً ولم يزلِ

قالت: فمَنْ ذا غدا بابَ المدينة قُل؟

فقلت: مِن سألوهُ وهو لم يَسلِ

قالت: فمَنْ قاتَلَ الأقوامَ إذ نكثوا؟

فقلت: تفسيرُه في وقعةِ الجملِ

قالت: فمَنْ حارَبَ الأرجاسَ إذ قَسَطوا؟

فقلت: صفّين تُبدي صفحةَ العملِ

قالت: فمَنْ قارَعَ الأنْجاسَ إذ مَرَقوا؟

فقلت: معناه يومَ النّهروان جَلي

قالت: فمَنْ صاحبَ الحوضِ الشريف غداً؟

فقلت: مَن بيتُهُ في أشرف الحُللِ

قالت: فمَن ذا لواءَ الحمدِ يحملُه؟

فقلت: مَن لم يكن في الرّوع بالوَجِلِ

قالت: أكلُّ الذي قد قلتَ في رجلٍ؟

فقلت: كلُّ الذي قد قلتُ في رجلِ

قالت: فمَنْ هو هذا الفردُ سِمْهُ لنا؟

فقلتُ: ذاكَ أميرُ المؤمنينَ عليّ (1)

__________________

(1) الغدير / ج 4 / ص 40.

١٩٣

وهذه الدراسة تعطينا أنّ السبق إلى الفضيلة من مفاخر صفات الصالحين وسجايا المتّقين، المحبوبة عند ربّ العالمين، والشرع المبين، ومن موجبات عظيم الأجر والثواب في يوم الدِّين..

كلّ هذا مضافاً إلى نتائجه الحسنة في نفس هذه الحياة الدُّنيا، فإنّ السبق إلى الفضائل من صنائع المعروف التي تدفع مصارع السوء، وتحفظ الإنسان من البلايا العظيمة كما هو المجرّب المحسوس في قضايا المحسنين.

من ذلك ما حدّث بعض السادة الأجلّاء الثقات ما مضمونه: ـ

أنّه كان في بعض البلاد المقدّسة شخصٌ مؤمنٌ صالح، وكان رجلاً تاجراً متمكِّناً ثريّاً، يحبّ الخير، ويصنع الخير لمن يعرفه ومَن لا يعرفه، خصوصاً الزائرين.

رأى في بعض الأيّام أحد زوّار ذلك البلد المقدّس لم يحصّل على فندقٍ أو محلّ مسكنٍ يسكنه في مدّة زيارتهم هو وعائلته.

وكانت تلك الزيارة أوّل زيارتهم لذلك البلد المقدّس الذي لم يعرف فيه أحداً ولم يتعرّف على أحد.

وكانوا قد جلسوا على رصيفٍ في الطريق ينتظرون الحصول على غرفةٍ فارغة.

فصادفهم هذا التاجر المؤمن، وسألهم: لماذا أنتم جالسون هنا؟

قالوا: ننتظر الحصول على مكانٍ نستأجره ونسكنه.

فقال لهم: ـ لي بيتٌ واسع، ومكانٌ مناسب، ودارٌ مفروشة مع وجبات الطعام.

ففرحوا وأجابوا بالقبول، بعنوان أن يسكنوا في بيته، ثمّ يعطون له الاُجرة التي تدفع إلى الفنادق للسكن والطعام، ظنّاً منهم أنّ بيته معدّ لإيجار الزائرين.

فذهب بهم ذلك التاجر إلى بيته، وأكرمهم غاية الإكرام، وبقوا عنده عشرة أيّام، يخدمهم فيها بالإطعام والإكرام، بغاية الحفاوة والاحترام.

وحينما أرادوا الانصراف والرجوع إلى وطنهم حضّروا له النقود، لدفع ثمن

١٩٤

الإيجار والوجبات الغذائيّة، لكنّه لم يقبل منهم أيّ مال، وأدنى نقود.

وبالرغم من أنّهم أصرّوا عليه كثيراً بالقبول، لم يستجب لهم ذلك، وأجابهم بأنّي آخذ ثمن الإيجار والخدمة من الإمام عليه السلام بأكثر ممّا آخذه منكم، فليطيب خاطركم بذلك.

فتشكّروا منه، وودّعوه راجعين إلى بلدهم.

ومضت على ذلك الأيّام والسنين، ثمّ إنّ ذلك التاجر حدثت له مشكلة سياسيّة أدّت إلى أن يُسجن، ويحتمل عليه الإعدام..

واُجريت عليه لقاءات مع المسؤولين، وسؤال وجواب، ورتّبت له ملفّات شدّدت عليه الأمر.

وفي آخر الأمر جاء عنده في السجن أحد المسؤولين الكبار الذي كانت له درجة عسكريّة رفيعة، وبيده ملفّةٌ كبيرة تخصّني.

فنظر إليَّ مليّاً، ثمّ سألتي ألست أنت الحاجّ فلان، من أهل مدينة كذا، وتسكن دار كذا، في محلّة كذا؟

وأنا في كلّ المسائل اُجيبه بنعم، وتخيّلت أنّه يعرف هذه الخصوصيّات من الأسئلة التي طُرحت عليَّ سابقاً..

لكنّه قال لي: ـ أتعرفني؟

قلتُ في دهشةٍ: لا مع الأسف.

فرفع قُبّعته العسكريّة، وقال: هل عرفتني الآن؟

قلت: ملامحكم مأنوسة عندي، مَن أنتم؟

قال: أنا ذلك الشخص الذي نزلتُ مع عائلتي عندك في سنة كذا، وبقيتُ في بيتك عشرة أيّام، استضفتني فيها بكلّ كرامة.

ثمّ قال: هذه ملفّة إضبارتك التي تنتهي بإعدامك، لكن أنا اُمزّقها، واُسقط

١٩٥

حكم الإعدام قِبال ذلك العطف والإكرام، فمزّقها أمامي وحكم بتسريحي.

فنجوت من الإعدام والسجن بفضل السبق إلى ذلك العمل الخيري الذي عملته أنا محبّةً للإمام عليه السلام وزائريه.

١٩٦

(13)

وإيثار التفضّل

الإيثار: هو التقديم والاختيار على النفس.

قال تعالى: ـ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) أي يقدّمون عليها.

ويُقال: آثرتُ ذلك أي اخترته، وفضّلته، وقدّمته.

والتفضّل: هو الابتداء بالإحسان.

فإنّ صنع المعروف والفعل الحَسَن قد يكون جزاءً وهو الإحسان..

وقد يكون تطوّلاً وابتداءً به وهو التفضّل، ومنه المواساة.

فالتفضّل هو الابتداء بالإحسان، وابتداء المعروف.

ومن حلية الصالحين وزينة المتّقين أنّهم يقدّمون غيرَهم على أنفسهم ويبتدئون بالفضل والإحسان.

وهو مرغوبٌ وممدوح كتاباً وسنّةً.

أمّا الكتاب فقوله تعالى: ـ

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

__________________

(1) سورة الحشر: الآية 9.

١٩٧

وقد أجمع الفريقان في أحاديثهم أنّها نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأهل بيته سلام الله عليهم (1) .

ففي حديث شيخ الطائفة الطوسي مسنداً أنّه جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فشكا إليه الجوع.

فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بيوت أزواجه..

فقُلن: ما عندنا إلّا الماء.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من لهذا الرجل الليلة؟

فقال عليّ عليه السلام: أنا له يا رسول الله، وأتى فاطمة عليها السلام وقال لها: ـ

هل عندك يا بنتَ رسول الله صلى الله عليه وآله شيء؟

فقالت: ما عندنا إلّا قوت العشيّة، لكنّا نُؤثِر ضيفنا.

فقال: يا ابنة محمّد نوّمي الصبية، واطفئي المصباح.

فلمّا أصبح عليّ عليه السلام غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخبره الخبر، فلم يبرح حتّى أنزل الله تعالى: ـ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) .

وأمّا السنّة، فيستفاد فضل الإيثار والمواساة في أحاديث بابه مثل: ـ

1 ـ حديث المفضّل قال: كنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجلٌ: في كم تجب الزكاة من المال؟

فقال له: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟

فقال: اُريدهما جميعاً.

فقال: أمّا الظاهرة ففي كلّ ألف خمسة وعشرون درهماً.

__________________

(1) كنز الدقائق / ج 13 / ص 175، وإحقاق الحقّ / ج 9 / ص 144.

(2) أمالي شيخ الطائفة / ص 188.

١٩٨

وأمّا الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك (1) .

2 ـ حديث السعداني عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: ـ

( فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2) .

قال عليه السلام: ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ قال الله عزّوجلّ: ـ

لقد حقّت كرامتي ـ أو مودّتي ـ لمن يراقبني، ويتحابّ بجلالي..

إنّ وجوههم يوم القيامة من نور، على منابر من نور، عليهم ثيابٌ خُضر.

قيل: مّن هم يا رسول الله؟

قال: قومٌ ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، ولكنّهم تحابّوا بجلال الله، ويدخلون الجنّة بغير حساب، نسأل الله أن يجعلنا منهم برحمته (3) .

3 ـ حديث الطبرسي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: ـ

اُتيَ رسول الله صلى الله عليه وآله بأسيرين ـ يهوديّين مستحقّين للقتل ـ فأمر النبيّ بضرب عنقهما، فضُرب عنق واحدٍ منهما، ثمّ قُصد الآخر.

فنزَلَ جبرئيل فقال: ـ يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤوك السلام، ويقول: ـ لا تقتله، فإنّه حسن الخلق سخيُّ قومه.

فقال اليهودي تحت السيف: هذا رسول ربّك يخبرك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم.

قال: والله ما ملكتُ درهماً مع أخ لي قطّ، ولا قطبتُ وجهي في الحرب، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك محمّد رسول الله.

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 74 / ب 28 / ص 396 / ح 24.

(2) سورة غافر: الآية 40.

(3) بحار الأنوار / ج 74 / ب 28 / ص 396 / ح 25.

١٩٩

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا ممّن جرّه حسنُ خلقه وسخاؤه إلى جنّات نعيم (1) .

وعليه فالإيثار والمواساة فضيلة ممدوحة، وخليقة طيّبة، بدليل الكتاب والسنّة.

وأهل البيت عليهم السلام هم القدوة في إيثار التفضّل، والابتداء بالفضل والإحسان إلى الغير.

وقد آثروا على أنفسهم ثلاثة أيّام في سبيل الله مسكيناً ويتيماً وأسيراً، لا يريدون بذلك منهم جزاءً ولا شكوراً، إلّا رضا الله تعالى، فخصّهم الله بسورة الدهر، كما تلاحظه في جميع تفاسير الفريقين.

ودراسة موجزة في إنفاقاتهم تعطيك صورة واضحة عن أنّهم كانوا قمّة الخلق في الإيثار والمواساة.

من ذلك ما تقرأه في باب إنفاقات أمير المؤمنين عليه السلام (2) .

كإيثاره بالتصدّق بجميع أمواله، ووقف عيون ماءه، وتخصيص حوائطه وبساتينه للفقراء والمساكين، ولم يدّخر لنفسه ديناراً ولا درهماً، ولا حطاماً من حطام الدُّنيا.

قال أبو الطفيل: رأيت عليّاً عليه السلام يدعو اليتامى فيطعمهم العسل ويلعقهم ذلك، حتّى قال بعض أصحابه: لوددتُ أنّي كنتُ يتيماً.

في حين لم يشبع هو من خبز الشعير، ولم يأكل خبز البُرّ، وكان إدامُه الملح فقط، وربما ائتدم باللبن الحامض كما في حديث سويد بن غفلة.

وكان يقول: ـ (أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ) (3) .

__________________

(1) مشكاة الأنوار / ص 231.

(2) لاحظ بحار الأنوار / ج 41 / ص 24 / باب إنفاقات أمير المؤمنين عليه السلام.

(3) نهج البلاغة / الكتاب 45.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فاشتراه أبو جعفر فقال له يوما يا أمير المؤمنين هذه سفن منحدرة من الموصل فيها مبيضة تريد إبراهيم بالبصرة قال فضم إليه جندا فلقيهم بباحمشا بين بغداد والموصل فقتلهم أجمعين وكانوا تجارا فيهم جماعة من العباد من أهل الخير وغيرهم وفيهم رجل يدعى أبا العرفان جارك إنما شخصت برقيق لي فبعتهم فلم يقبل وقتلهم أجمعين وبث برؤوسهم إلى الكوفة فنصبت ما بين دار إسحاق الأزرق إلى جانب دار عيسى بن موسى إلى مدينة ابن هبيرة قال أبو أحمد عبد الله بن راشد فأنا رأيتها منصوبة على كوم التراب.

قال وحدثنا أبو علي القداح قال حدثني داود بن سليمانونيبخت وجماعة من القداحين قالوا كنا بالموصل وبها حرب الراوندي رابطة في ألفين لمكان الخوارج بالجزيرة فأتاه كتاب أبي جعفر يأمره بالقفل إليه فشخص فلما كان بباحمشا اعترض له أهلها وقالوا لا ندعك تجوزنا لتنصر أبا جعفر على إبراهيم فقال لهم ويحكم إني لا أريد بكم سوءا انما أنا مار دعوني قالوا لا والله لا تجوزنا أبدا فقاتلهم فأبارهم وحمل منهم خمسمائة رأس فقدم بها على أبي جعفر وقض عليه قصتهم قال أبو جعفر هذا أول الفتح.

قال جعفر بن ربيعة قال الحجاج بن قتيبة لقد دخلت على أمير المؤمنين المنصور في ذلك اليوم مسلما وما أظنه يقدر على رد السلام لتتابع الفتوق والخروق عليه والعساكر المحيطة به ولمائة ألف سيف كامنة له بالكوفة بإزاء عسكره ينتظرون به صيحة واحدة فيثبون.(١)

الخلاصة :

مصِّرت الكوفة على عهد الخليفة عمر بن الخطاب وكان طابعها العام هو العمل بسيرة الشيخين شانها شان بلدان الفتوح ثم تبنت نهضة علي والحسن والحسينعليه‌السلام ولم تتخلف عن نصرة مشروعهم الإحيائي للسنة النبوية ودفعت الثمن غاليا حين حاول الأمويون والمروانيون والزبيريون محو ولاية علي وأهل بيتهعليهم‌السلام والأحاديث النبوية التي

__________________

(١) الطبري ،تاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢٤٩.

٣٤١

تدعو إلى ولايتهم من ساحتها فلم يفلحوا ، ثم برزت مرة أخرى في الثلث الأول من القرن الثاني الهجري قلعة لمشروع عليعليه‌السلام الإحيائي للسنة النبوية بخطين الأول خط مرجعية الأئمة من ذرية الامام الصادقعليه‌السلام والثاني خط الثوار بقيادة زيد وولده والثوار من ولد عبد الله بن الحسن المثنى.

٣٤٢
٣٤٣

الباب الثالث

العباسيون يحذون حذو الأمويين

في تحريف التاريخ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الأول ٣٥١ تحريف الأمويين للتاريخ

الفصال الثاني ٣٧١ انشقاق العباسيين عن المحسنيين والأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام

الفصل الثالث ٣٨٠ سياسة الاعلام العباسي

الفصل الرابع ٤٠١ الروايات الطاعنة في عقيدة الوصية بعليعليه‌السلام

الفصل الخامس ٤٠٥ كتاب أبي مخنف في مقتل الحسينعليه‌السلام

الفصل السادس ٤١٢ الروايات الطاعنة في أهل الكوفة على لسان علي والحسنعليه‌السلام

الفصل السابع ٤٤١ الروايات الطاعنة في الحسنعليه‌السلام

الفصل الثامن ٤٥٣ ملاحظات نقدية حول رواية البخاري في الصلح وشرح ابن حجر لها

الفصل التاسع ٤٩١ الروايات التي تطعن في أهل الكوفة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

٣٤٤
٣٤٥

استهدف الباب الثالث في تسعة فصول تفسير وجود ذلك الكم الهائل من الروايات الذي انتج رؤية الانهيار المبين للحسن وللكوفيين ، وكونها من وضع الامويين والعباسيين لمواجهة اخطر ثلاثي متعاون واجهه الحكم العباسي وهم الحسنيون الثائرون عليهم ـ مرجعية الامام الصادق الدينية الآخذة بالتوسع ـ الكوفة القلعة التاريخية التي تمد كلا الخطين بالقاعدة الشعبية.

ففيالفصل الأول عرضٌ مختصر في تحريف الأمويين لتاريخ خصومهم بوصفه التجربة الأقدم التي شهدها العباسيون الآباء ثم استفاد منها الأبناء لتحريف خصومهم ، وقد انتزعنا هذا الفصل من كتابنا المدخل إلى دراسة مصادر السيرة والتاريخ.

وفيالفصل الثاني عرض مختصر لانشقاق العباسيين عن الحسنيين والأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام فكريا وسياسيا إذ كانوا في بدء الأمر جزء من حركة العلويين ثم انشقوا عنها.

وفيالفصل الثالث عرض وثائق الاعلام العباسي ضد الحسن والكوفة والتشيع من خلال خطب أبي العباس السفاح وأبي جعفر الدوانيقي والشعر ومحاورات الدوانيقي مع مالك بن انيس وغيره.

وفيالفصل الرابع عرض لشخصيتين مارستا الوضع في العهد العباسي المبكر لمواجهة حركة التشيع اليت يقودها الامام الصادق حين وضعتا اخبارا وصفت التشيع لعلي بانه من وضع شخص يهودي من صنعاء اسلم على عهد عثمان اظهر القول بالوصية لعلي

٣٤٦

وقرنه بالطعن على الخلفاء وبالتالي فان الشيعة من تأسيس يهودي حاقد على الإسلام ، وهاتان الشخصيتان هما سيف بن عمر وعبد الرحمن بن مالك بن مغول وقد عُرفا في كتب الرجال بانهما وضّاعان للاخبار.

وفيالفصل الخامس عرض لكتاب أبي مخنف الذي استهدف تحميل أهل الكوفة تبعة قتل الحسين تعبيرا عن خذلانهم وضعف إرادتهم بخلاف ما بينه أهل البيتعليهم‌السلام من قتلة الحسين هم من أهل الشام وان أهل الكوفة انصارهم الاوفياء.

وفيالفصل السادس عرض للاخبار الطاعنة في أهل الكوفة على لسان علي والحسن ، وانها من وضع الأخباريين العباسيين من خلال ترجمة الكثير من رواة تلك الاخبار.

وفيالفصل السابع عرض للاخبارالطاعنة في الحسنعليه‌السلام وترجمة لرواتها ممن كان يعمل مع العباسيين.

وفي الفصل الثامن مناقشة لرواية البخاري في الصلح وشرح ابن حجر العسقلاني لها.

وفيالفصل الثامن عرض للروايات الطاعنة في الكوفيين على لسان الرواة الآخرين وذكر المنبهات على انها من وضع الأخباريين العباسيين أيضا.

٣٤٧

الباب الثالث / الفصل الأول

تحريف الأمويين للتاريخ

أوردنا في كتابنا «المدخل إلى دراسة مصادر السيرة والتاريخ» اربع وثائق تتحدث عن تحريف بني أمية للحديث والتاريخ ننقلها بتمامها لكفايتها :

١. ما رواه الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات

قال الزبير بن بكار : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثني الزبير قال : حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن الواقدي قال : حدثني ابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن زيد قال :

وفد علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة اثنتين وثمانين ، وهو ولي عهد ، فمرَّ بالمدينة ، فدخل عليه الناس ، فسلَّموا علهي ، وركب إلى مشاهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي صلَّى فيها وحيث أُصيب أصحابه في أحد ، ومعه أبان بن عثمان ، وعمرو بن عثمان ، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي أحمد ، فأتوا به قُباء ، ومسجد الفضيخ ، ومشربة أم إبراهيم ، وأحد ، وكل ذلك يسألهم ، ويخبرونه عمَّا كان.

ثم أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سِيَر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه.

فقال أبان : هي عندي قد أخذتها مصححة ممن أتق به ، فأمر بنسخها ، وألقى فيها إلى عشرة من الكُتَّاب ، فكتبوها في رقّ.

٣٤٨

فلما صارت إليه ، نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وذكر الأنصار في بدر ، فقال : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل فإمَّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم وإمَّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان بن عثمنا : أيها الأمير لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه من القول بالحق : هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا ، قال : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتَّى أذكره لأمير المؤمنين لعله يخالفه ، فأمر بذلك الكتاب فحُرِّق ، وقال : أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت ، فإن يوافقه فما أيسر نسخه.

فرجع سليمان بن عبد الملك فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان.

فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل ، تُعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها!

قال سليمان : فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنتُ نسخته حتَّى أستطلع رأي أمير المؤمنين ، فصوّب رأيه ، وكان عبد الملك يثقل عليه ذلك.

ثم إنَّ سليمان جلس مع قبيصة بن ذؤيب ، فأخبره خبر أبان بن عثمان وما نسخ من تلك الكتب وما خالف أمير المؤمنين فيها.

فقال قبيصة : لولا ما كرهه أمير المؤمنين لكان من الحظِّ أنْ تَعْلَمها وتُعلِّمَها ولدك وأعقابهم ، إنَّ حظَّ أمير المؤمنين فيها لوافر ، إنَّ أهل بيت أمير المؤمنين لأكثر من شهد بدراً فشهدها من بني عبد شمس ستة عشر رجلاً من أنفسهم وحلفائهم ومواليهم وحليف القوم منهم ومولى القوم منهم. وتوفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعمَّاله من بني أمية أربعة : عتاب بن أُسيد على مكة ، وأبان بن سعيد على البحرين ، وخالد بن سعيد على اليمن ، وأبو سفيان بن حرب على نجران ، عاملاً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنِّي رأيت أمير المؤمنين كره من ذلك شيئاً فما كره فلا تخالفه.

ثم قال قبيصة : لقد رأيتني وأنا وهو ـ يعني عبد الملك ـ وعدةً من أبناء المهاجرين ما لنا علم غير ذلك حتَّى أحكمناه ، ثم نظرنا بعد في الحلال والحرام ، فقال سليمان : يا أبا إسحاق ألا تخبرني عن هذا البغض من أمير المؤمنين وأهل بيته لهذا الحيَّ من الأنصار وحرمانهم إيَّاهم لِمَ كان؟ فقال : يا ابن أخي أوّل من أحدث ذلك معاوية بن

٣٤٩

أبي سفيان ، ثم أحدثه أبو عبد الملك (يريد مروان) ثم أحدثه أبوك.

فقال : علامَ ذلك؟

قال : فوالله ما أريد به إلَّا لأعلمه وأعرفه.

قال : لأنَّهم قتلوا قوماً من قومهم ، وما كان من خذلانهم عثمان فحقدوه عليهم ، وحنقوه وتوارثوه ، وكنت أحب لأمير المؤمنين أن يكون على غير ذلك لهم وأن أخرج من مالي فكلَّمه.

فقال سليمان : أفعل والله. فكلَّمه وقبيصة حاضر ، فأخبر قبيصة بما كان من محاورتهم.

فقال عبد الملك : والله ما أقدر على غير ذلك فدعونا من ذكرهم فأسكت القوم.(١)

وحكى الزهري(٢) : (أن عبد الملك رأى عند بعض ولده حديث المغازي فأمر به فأحرق ، وقال : عليك بكتاب الله فاقرأه والسنة فاعرفها واعمل بها).

قال الدكتور حسين عطوان : (ولم يزل الخلفاء الأمويون يحظرون رواية المغازي والسير إلى نهاية القرن الأول فلما استخلف عمر بن عبد العزيز ، أقرَّ بأنَّ من سبقه من الخلفاء الأمويين حاربوا رواية المغازي والسير ، ومنعوا أهل الشام من معرفتها ، ودفعوهم عن الإطلاع عليها ، وردعوهم عن الاشتغال بها وأنكر صنيعهم ، وشهَّر به تشهيراً قوياً).(٣)

قال ابن عساكر في ترجمة عاصم بن عمر بن قتادة : ووفد عاصم عيل عمر بن عبد العزيز في خلافته في دين لزمه فقضاه عنه عمر وأمر له بعد ذلك بمعونة وأمره أنْ يجلس في مسجد دمشق فيحدِّث الناس بمغازي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومناقب أصحابه وقال إنَّ بني مروان كانوا يكرهون هذا وينهون عنه فاجلس فحدِّث الناس بذلك ففعل.(٤)

أقول : ومن الجدير ذكره ، ان عمر بن عبد العزيز حين رفع الحظر عن رواية

__________________

(١) الزبير بن بكار ،الاخبار الموفقيات ٣٣١ ـ ٣٣٤.

(٢) البلاذري ،أنساب الأشراف ج ١ ص ١١٦٥.

(٣) حسين عطوان ،رواية الشاميين للمغازي والسير في القرنين الأول والثاني الهجري ط / ١٩٨٦ ص ٢٢ ـ ٢٧.

(٤) ابن عساكر ،تاريخ مدينة دمشق ، تراجم حرف العين من عاصم إلى عايذ ص ٦٨.

٣٥٠

المغازي والحديث لم يكن قد رفعه بشكل كامل ، لذلك فإن من عُرِف بروايته لفضائل علي وسيرته وأُمِرَ بلزوم الإقامة الجبرية في بلده كعامر بن وائلة ، لم يرفع الحظر عنه ، وقد روى ابن عساكر في ترجمة عامر بن واثلة أبي الطفيل أنَّه أدركته إمرة عمر بن عبد العزيز فكتب يستأذنه في القدوم عليه ، فقال عمر : ألم تؤمر بلزوم البلد(١) ؟

ومن الثابت أنَّ أبا الطفيل كان صحابياً من شيعة عليعليه‌السلام وقد ترك البخاري حديثه لأنّه كان (بزعمه) يفرط في التشيع.(٢)

٢. ما رواه أبو الفرج في كتابه الأغاني

روى أبو الفرج بسنده عن ابن شهاب(٣) قال : قال لي خالد بن عبد الله القسري : اكتب لي النسب فبدأت بنسب مضر فمضيت فيه أياماً ثم أتيته ، فقال لي ما صنعت؟ فقلت بدأت بنسب مضر وما أتممته ، فقال : اقطعه قطعه الله مع أصولهم ، واكتب لي السيرة ، فقلت له : فإنَّه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب افأذكره؟

فقال : لا إلَّا أنْ تراه في قعر الجحيم.(٤)

وهذا الحديث يفسِّر لنا بوضوح لماذا جاءت روايات الزهري للسيرة التي رواها عنه عبد الرزاق الصنعاني بواسطة معمر خالية من ذكر عليعليه‌السلام وفيما يلي نماذج من روايات الزهري بواية عبد الرزاق الصنعاني في كتابه المصنّف :

١. روى عبد الرزاق في المصنف عن معمر قال سألت الزهري : (عن أوّل من أسلم)؟ قال : ما علمنا أحداً أَسلم قبل زيد بن حارثة.(٥)

__________________

(١) ابن عساكر ،تاريخ مدينة دمشق ٢٦ : ١٣٨.

(٢) نفس المصدر ص ٢٩٤ ، وانظر ترجمة أبي الطفيل في ابن عبد البر ،الاستيعاب ص ١٦٩٦ قال كان متشيعاً في علي وبفضله.

(٣) ابن شهاب : هو محمد بن مسلم القرشي الزهري ت ١٢٥ هـ.

(٤) أبو الفرج الاصفهاني ،الأغاني ج ٢٢ ص ٢٣ ، أخبار خالد بن عبد الله القسري.

(٥) روى أصحاب السير والتواريخ روايات كثيرة جداً بأسانيد صحيحة أنَّ عليّاً أوّل من آمن بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وصدّقه وقد أورد ابن كثير في كتابه البداية والنهاية حديثاً صحيحاً باسناد الأمام احمد ثم أردفه بقوله وهذا لا يصح من أي وجه كان روي عنه ، ورد عليه العلامة الأميني فيالغدير ج ٣ / ص ٢٢٠ ـ ٢٤٧ وأورد ستاً وستين نصّاً للنبي والصحابة والتابعين تؤكد إنَّ عليّاً أوّل من صدق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، منها ما

٣٥١

٢. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في حديث عن عروة قال : كانت وقعة أحد في شوال ، على رأس ستة أشهر من وقعة بني النضير.

قال الزهري عن عروة في قوله (وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) : إنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم أحد حين غزا أبو سفيان وكفّار قريش : إنَّي رأيت كأنِّي لبست درعاً حصينة ، فأوّلتها المدينة ، فاجلسوا في ضيعتكم وقاتلوا من ورائها ، وكانت المدينة قد شبكت بالبنيان ، فهي كالحِصن ، فقال رجلٌ مسنٌ لم يشهد بدراً : يا رسول الله ، اخرج بنا إليهم فلنقاتلهم ، وقال عبد الله بن أبي سلول : نعم ، والله ، يا نبي الله ، ما رأيت إنّا والله ما نزل بنا عدو قط فخرجنا إليه ، إلَّا أصاب فينا ، ولا يأتينا في المدينة ، وقاتلنا من ورائها إلَّا هَزَمنا عدوُّنا.

فكلَّمه أُناس من المسلمين ، فقالوا : بلى ، يا رسول الله ، أخرج بنا إليهم ، فدعا بلأمته فلبسها ، ثم قال : أظنُّ الصرعى إلَّا ستكثر منكم ومنهم ، إنِّي أرى في النوم منحورة ، فأقول بقر ، والله بخير فقال رجل : يا رسول الله ، بأبي أنت وأُمي فاجلس بنا ، فقال : إنَّه لا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتَّى يلقى الناس ، فهل من رجل يدلنا الطريق على القوم من كثب؟ فانطلقت به الأدلاء بين يديه ، حتَّى إذا كان بالشوط من الجبانة انخذل عبد الله بن أبي بثلث الجيش ، أو قريب من ثلث الجيش ، فانطلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتَّى لقوهم بأحد ، وصافوهم ، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إلى أصحابه

__________________

رواه الطبري في تاريخه ج ٢ ص ٣٠٩ ـ ٣١٤ عن عليعليه‌السلام وزيد بن ارقم وعبد الله بن عباس.

أقول : أمَّا عن إسلام أبي بكر فقد روى الطبري بسند صحيح عن محمد بن سعيد قال : قلت لأبي : أكان أبو بكر أوّلكم إسلاماً؟ فقال : ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ج ٢ ص ٣١٦.

أمَّا كون زيد أوّل من أسلم فهو المروي عن عروة بن الزبير ت ٩٨ وسليمان بن يسار ت ١٠٠ هـ والزهري والغريب هو قول الزهري : (ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد) فإنَّه من المؤكد ليس مطابقاً للواقع فإنَّ مثل الزهري وهو المقدَّم على غيره في أخبار السيرة والمغازي لا تخفى عليه الحقيقة غير إنَّها سياسة الأمويين وهو من رجالهم الاعلاميين والدينيين المعتمدين ولم يخف على عبد الرزاق صاحب المصنف ذلك فأضاف إلى رواية معمر عن الزهري رواية معمر عن قتادة عن الحسن وغيره قوله : كان أول من آمن به علي بن أبي طالبعليه‌السلام وهو ابن خمس عشرة أو ست عشرة سنة وروايته عن عثمان الجندي عن مقسم عن ابن عباس قال : علي أوّل من أسلم.

٣٥٢

أنَّهم هزموهم ، أنْ لا يدخلوا لهم عسكراً ، ولا يتَّبعوهم ، فلمَّا التقوا هزموا(١) ، وعصوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتنازعوا ، واختلفوا ، ثم صرفهم الله عنهم ليبتليهم ، كما قال الله وأقبل المشركون ، وعلى خيلهم خالد بن الوليد بن المغيرة ، فقتل من المسلمين سبعين رجلاً وأصابهم جراح شديدة ، وكسرت رباعية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودمي وجهه ، حتَّى صاح الشيطان بأعلى صوته : قتل محمد.

قال ابن إسحاق حدَّثني ابن شهاب الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك أخو بني سلمة قال : قال كعب : عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشار إليَّ أنْ أنصت ، فلما عرف المسلمون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهضوا به ، ونهض معهم نحو الشعب ، معه : أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، والحارث بن الصمة ، في رهط من المسلمين ، فلما أسند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الشعب ، أدركه أبي بن خلف وهو يقول : أين يا محمد أين يا محمد لا نجوت إنْ نجوت ، فقال القوم : أيعطف عليه يا رسول الله رجل منّا؟ فقال : دعوه فلمَّا دنا تناول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الحربة من الحارث بن الصمة ، يقول بعض القوم فيما ذكر لي ، فلمَّا أخذها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر من ظهر البعير إذا أنتفض بها ، ثم استقبله فطعنه بها طعنة تردّى بها عن فرسه مراراً.(٢)

__________________

(١) روى الطبري وابن هشام والواقدي في مغازيه ج ١ ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ إنَّ عليّاًعليه‌السلام قتل طلحة كبش الكتيبة وسُرَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأظهر التكبير وكبَّر المسلمون ، وفي رواية الشيخ المفيد في الإرشاد عن الصادقعليه‌السلام بعد ذكره قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام لأصحاب اللواء (وإنهزم القوم وطارت مخزوم فضحها عليعليه‌السلام يومئذ) وقد روى ذلك أيضاً ابن أبي الحديد ج ١٣ ص ٢٩٣ وقال الطبري ج ٢ / ٥١٤ قتل علي أصحابه الألوية.

(٢) ابن جرير الطبري ، تاريخ الطبري ج ٢ ص ٥١٨ ومحمد بن إسحاق سيرة ابن إسحاق (كتاب السير والمغازي) ، تحقيق سهيل زكار ، دار الفكر بيروت ١٣٩٨ هـ ١٩٧٨ م ، ص ٣٣٠ ـ ٣٣١.أقول : من البعيد أن يكون ما ذكره ابن شهاب هذا ، وقد قال الطبري : إنَّ المسلمين أًابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثا ، ثلث قتيل وثلث جريح وثلث منهزم وقد جهدته الحرب حتى ما يدري ما يصنع وأصيبت رباعية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله السفلى وشُقَّت شفته وكلم في وجنتيه وجبهته في أصول شعره ، وكيف يقوم بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي بين يديه وقد واساه بنفسه ، قال الطبري : حدثنا أبو كريب قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا حبان بن علي عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه

٣٥٣

قال عبد الرزاق قال معمر حدثني الزهري : فنادى أبو سفيان بعدما مُثِّل ببعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجُدِعوا ، ومنهم من بُقِرَ بطنُه.

فقال أبو سفيان : إنَّكم ستجدون في قتلاكم بعض المثل ، فإنَّ ذلك لم يكن عن ذوي رأينا ولا سادتنا(١) ، ثم قال أبو سفيان : أعلُ هُبَل. فقال عمر بن الخطاب : الله أعلى وأجل.

فقال : أنعمت عيناً(٢) ، قتلى بقتلى بدر.

فقال عمر : لا يستوي القتلى ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار.

فقال أبو سفيان : لقد خِبنا إذا ، ثم انصرفوا راجعين.

وندب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه في طلبهم ، حتَّى إذا بلغوا قريباً من حمراء الأسد ، وكان

__________________

عن جده قال : لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية أبصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : إحمل عليهم فحمل عليهم ففرَّق جمعهم ثم أبصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم فحمل عليهم ، ففرق جماعتهم فقال جبرئيل : يا رسول الله إنَّ هذه للمواساة. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنَّه منِّي وأنا منه ، فقال : جبرئيل وأنا منكما قال : فسمعوا صوتاً :

لا سيف إلَّا ذو الفقر ولا فتى إلَّا علي

قال المحمودي : وقد روى حديث المواساة أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل الحديث رقم ٢٤١ ، كذلك في الحديث رقم ٢٤٢ أيضاً الطبراني فيالمعجم الكبير (ترجمة الامام عليعليه‌السلام من تاريخ مدينة دمشق ص ١٣٨ ـ ١٤٩ الهامش). وللمزيد من المصادر انظر السيد جعفر مرتضى العاملي :الصحيح من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ج ٤ ص ٢٢٧.

(١) في رواية الواقدي ،المغازي والسير ج ١ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٩ ، (فقال أبو سفيان : اعل هبل ، فقال عمر : الله أعلى وأجل ، فقال أبو سفيان : إنَّها قد أنعمت ، فعال عنها) أي تجاف عن آلهتنا ولا تذكرها بسوء (فلما قدم أبو سفيان على قريش بمكة ، لم يصل إلى بيته حتى أتى هبل ، فقال : قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه ، وحلق رأسه).

روى الطبري وابن هشام والواقدي في مغازيه ج ١ ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ إنَّ عليّاًعليه‌السلام قتل طلحة كبش الكتيبة وسُرَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأظهر التكبير وكبَّر المسلمون ، وفي رواية الشيخ المفيد في الإرشاد عن الصادقعليه‌السلام بعد ذكره قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام لأصحاب اللواء (وإنهزم القوم وطارت مخزوم فضحها عليعليه‌السلام يومئذ) وقد روى ذلك أيضاً ابن أبي الحديدشرح نهج البلاغة ج ١٣ ص ٢٩٣ وقال الطبري في تاريخه ج ٢ ص ٥١٤ قتلعلي أصحاب الألوية.

(٢) جاء فيسيرة ابن اسحق ص ٣٣٤ (ثم بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب ، فقال : اخرج في أثر القوم فانظر ما يصنعون).

٣٥٤

فيمن طلبهم يومئذ عبد الله بن مسعود ، وذلك حين قال الله( الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) آل عمران / ١٧٣.(١)

٣. قال عبد الرزاق قال معمر قال الزهري في حديثه عن المسيب : وذكر قصَّة نعيم بن مسعود الأشجعي وسعيه في الوقعية بين أبي سفيان وبني قريضة وما أرسل الله تعالى من الريح على المشركين وإنهزامهم بغير قتال ، ثم قال : فذلك حين يقول( وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله عزيزاً ) الأحزاب / ٢٥.(٢)

٤. عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، قال : لمَّا انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتَّى أتى المدينة ، فغزا خيبر من الحديبية فأنزل الله عليه( وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه ) إلى( ويهديكم صراطاً مستقيماً ) فلمَّا فتحت خيبر جعلها لمن غزا معه الحديبية ، وبايع تحت الشجرة ، ممَّن كان غائباً أو شاهداً ، من أجل أنَّ الله كان وعدهم إيَّاها ، وخمَّس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خيبر ، ثم قسم سائرها مغانم بين من شهدها من المسلمين ، ومن غاب عنها من أهل الحديبية.(٣)

__________________

(١) فيتاريخ الطبري عن ابن اسحق : ثم بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب فقال : أخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون.

(٢) قال السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ١٩٢ في قوله تعالى (وكفى الله بالمؤمنين القتال) : أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود (رض) أنَّه كان يقرأ هذا الحرف وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب. وذكر ذلك أيضاً الطبرسي في مجمع البيان وقال : وهو المروي عن أبي عبد الله وأخرجه ابن عساكر فيتاريخ مدينة دمشق في ترجمة عليعليه‌السلام ج ٢ ص ٤٢٠.أقول : قوله يقرأ أي يفسر وروى الشيخ المفيد في الإرشاد ص ٥٤ عن جابر بن عبد الله الانصاري وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه مع عليعليه‌السلام لينظر ما يكون منه ومن عمرو قال فما شبهت قتل علي عمراً إلّما بما قصَّ الله تعالى من قصة داودعليه‌السلام وجالوت حيث يقول جلَّ شأنه (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت). وقال أبو جعفر الاسكافي ت ٢٢٠ هـ في المعيار والموازنة ص ٩١ (خرج عليعليه‌السلام إلى عمرو والمسلمون مشفقون قد اقشعرت جلودهم وزاغت أبصارهم وبلغت الحناجر قلوبهم وظن قوم بالله الظنون والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليدعو له بالنصر ملح في ذلك مستغيث بربِّه ففرَّج الله به تلك الكرب وأزال الظنون وثبت اليقين بعلي بن أبي طالب وفي ذلك يؤثر عن حذيفة بن اليمان أنَّه قال : لقد أيد الله تبارك وتعالى رسوله والمؤمنين بعلي في موقفين لو جمع جميع أعمال المؤمنين لما عدل بهما يوم بدر ويوم الخندق ثم قصَّ قصته فيهما).

(٣) روى البخاري ومسلم وأحمد وابن عساكر وغيرهم عن أبي هريرة ، وسهل بن سعد وسلمة بن الاكوع وبريدة بن الحصيب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ، وغيرهم والروايات تزيد وتنقص

٣٥٥

٥. عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : أخبرني كُثّير بن العباس بن عبد المطلب عن أبيه العباس قال : شهدت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين ، قال : فلقد رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وما معه إلَّا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فلزمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم نفارقه ، وهو على بغلة شهباء وربما قال معمر : بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي.

قال : فلمَّا التقى المسلمون والكفَّار ولَّى المسلمون مدبرين(١) ، وطفق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

في بعض الالفاظ وحاصلها : أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أبا بكر إلى خيبر فلم يُفتح عليه وبعث عمر فلم يُفتح عليه فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : لأعطينَّ الراية رجلاً كراراً غير فرَّار يحب الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله يُفتح الله على يديه ، فبات الناس يدوكون ليلتهم فلمَّا أصبح الصباح دعا علياًعليه‌السلام وهو أرمد العين فتفل في عينه ففتح عينه وكأنه لم يرمد قط وقال له : خذ هذه الراية واذهب ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فمشى عليعليه‌السلام هنيهة ، قال ابن مكي : ولم يلتفت للعزمة ، فقال : يا رسول الله علام أقاتل الناس؟ قال : قاتلهم حتى يشهدوا أنَّ لا إله إلَّا الله وأنِّي رسول الله فإذا قالوها منعو منِّي. فخرج علي يهرول حتى ركز رايته في أرضهم تحت الحصن فاطلع رجلٌ يهودي من رأس الحصن وقال : من أنت؟ قال : أنا علي بن أبي طالبعليه‌السلام فالتفت إلى أصحابه وقال : غلبتم والذي أنزل التوراة على موسى ، فما رجع علي حتى فتح الله عليه (ابن عساكر ،تاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٨٩).

(١) قال اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ٦٢ انهزم المسلمون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين حتى بقي في عشرة من بني هاشم وقيل تسعة وهم علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب وقيل أيمن بن أم أيمن. وروى ذلك أيضاً البلاذري في انساب الاشراف ج ١ ص ٣٦٥ وكذلك رواه ابن عبد البر في الاستيعاب ص ٨١٣ ونقل عن ابن إسحاق قول العباس :

نصرنا رسول الله في الحرب سبعة

وقد فر من فر عنه واقشعوا

وثامننا لاقى الحمام بسيفه

بما مسَّه في الله لا يتوجع

قال ابن إسحاق : السبعة علي والعباس والفضل وابو سفيان بن الحارث وابنه جعفر وربيعة بن الحارث واسامة بن زيد والثامن ايمن ، قال ابن عبد البر : وجعل غير ابن اسحق في موضع أبي سفيان عمر بن الخطاب والصحيح ان أبا سفيان بن الحارث كان يومئذ معه لم يختلف فيه واختلف في عمر ،أقول : في كل الروايات اسم عليعليه‌السلام ثابت. وفي امتاع الأسماع ج ٢ ص ١٤ للمقريزي قال أبو الفضل بن العباس : التفت العباس يومئذ وقد اقشع الناس (أي تفرقوا تصدعوا وانكشفوا) عن بكرة ابيهم فلم ير عليا فيمن ثبت فقال : شُوهةً وبُوهة (أي بعداً له) أوَ في مثل هذه الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو صاحبه فيما هو صاحبه / قال المقريزي يعني في المواطن المشهورة له / فقلت بعض قولك لابن أخيك اما تراه في الرهج؟ قال : اشعِره لي يا بني (أي اذكر علامته) قلت : ذو كذا ، ذو كذا ، ذو البردة ، قال : فما تلك البرقة؟ قلت : سيفه يرفل (أي يتبختر) به بين الاقران ، فقال : بَرٌّ ابنُ بَرّ ، فِداه عمٌّ وخال ، قال : فضرب علي يومئذ أربعين مبارزا كلهم

٣٥٦

يُركِض بغلتَه نحو الكفار قال العباس : وأنا آخذ بلجام بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ألقفها ، وهو لا يألو ما أسرع نحو المشركين ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بغرز(١) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا عباس ، ناد أصحاب السمرة ، قال : وكنت رجلاً صيتاً ، فناديت بأعلى صوتي : أي أصحاب السمرة؟ قال : فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، يقولون : يا لبيك ، يا لبيك ، يا لبيك.

وأقبل المسلمون ، فاقتتلوهم والكفار.

فنادت الأنصار : يا معشر الأنصار ، ثم قصر الداعون على بني الحارث بن الخزرج ، فنادوا : يا بني الحارث بن الخزرج.

قال : فنظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا حين حمي الوطيس.

قال ثم أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حصيات فرمى بهن وجوه الكفَّار ، ثم قال : انهزموا وربِّ الكعبة.

قال : فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى.

قال : فوالله ما هو إلَّا أن رماهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحصياته ، فما زلت أرى حدَّهم كليلاً وأمرهم مدبراً حتَّى هزَّمهم الله تعالى ، قال : وكأنِّي أنظر إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يركض خلفهم على بغلة له.

٣. رواية المدائني في كتابه الأحداث

روى ابن أبي الحديد عن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني (ت ٢٢٥ هـ)(٢) في

__________________

يقُدُّه حتى يقد انقه ، وذكره قال : وكانت ضرباته منكرة. (قال لسان العرب : قدد : القَدّ : القطع المستأصل والشق طولا. وضربه بالسيف فَقَدَّه بنصفين. وفي الحديث : أن علياعليه‌السلام كان إذا اعتلى قدَّ وإذا اعترض قطَّ وفي رواية : كان إذا تطاول قدَّ وإذا تقاصر قطَّ أي قطع طولا وقطع عرضا).

(١) الغرز : ركاب للرحل من جلد ، وغرز رجله في الغرز يغرزها عرزا : وضعها فيه ليركب وأثبتها. (ابن منظور لسان العرب مادة غرز).

(٢) قال الخطيب البغدادي فيتاريخ بغداد ج ١٢ ص ٥٤ ـ ٥٥ في ترجمة المدائني (كان عالماً بأيام الناس وأخبار العرب وأنسابهم عالماً بالفتوح والمغازي ورواية الشعر ، صدوقاً في ذلك ، وقال يحيى بن معين ثقة ثقة ثقة. وقال ابن النديم فيالفهرست ص ١١٣ ولد سنة ١٣٥ هـ وتوفي سنة ٢٢٥ هـ وله ثلاث وتسعون ثم ذكر أسماء كتبه في أربع صفحات.

٣٥٧

كتابه (الأحداث) قال :

[كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمَّاله بعد عام الجماعة.

(أن برئت الذمَّة ممَّن روى شيئاً من فضل أب تراب وأهل بيته).

فقالمت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليَّاًعليه‌السلام ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته.

وكان أشدَّ الناس بلاءً حينئذ أهلُ الكوفة لكثرة من بها من شيعة عليعليه‌السلام فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضمَّ إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام عليعليه‌السلام فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم وقَطَّع الأيدي والأرجل وسَمَّلَ العيون وصلَّبهم على جذوع النخل وطردهم وشرَّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم.

وكتب معاوية إلى عُمَّاله في جميع الآفاق :

(ألَّا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة).

وكتب إليهم : (أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرِّبوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكلِّ ما يروي كلَّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته).

ففعلوا ذلك حتَّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكِساء والحِباء والقَطائع ، ويفيضه في العرب مهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيءُ أحد مردود من الناس عاملاً من عمَّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلَّا كتب اسمه وقرَّبه وشفَّعه فلبثوا بذلك حيناً.

ثم كتب إلى عُمَّاله :

(إنَّ الحديث في عثمان قد كَثُر وفَشا في كل مِصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلَّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة فإنَّ هذا أحبُّ إليَّ وأقرُّ لعيني وأدحض لِحُجَّة أبي تراب وشيعته وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله).

٣٥٨

فقُرئت كتبه على الناس فرُويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.

وجَدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتَّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وأُلقِيَ إلى معلِّمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتَّى رووه وتعلَّموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علَّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثم كتب إلى عُمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان :

(انظروا من قامت عليه البيِّنة أنَّه يحبُّ عليَّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه).

وشفع ذلك بنسخة أُخرى :

(من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به واهدموا داره).

فلم يكن البلاء أشدُّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيَّما بالكوفة ، حتَّى إنَّ الرجل من شيعة عليعليه‌السلام ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرَّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتَّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة لَيَكْتُمَنَّ عليه).

قال ابن ابي الحديد :

فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر.

ومضى على ذلك الفقهاء والقضا والولاة.

وكان أعظم الناس في ذلك بليَّةً القُرّاء المُراؤون ، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرِّبوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل.

حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلُّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنَّها حق ولو علموا أنَّها باطلة لما رووها ولا تديَّنوا بها.(١)

__________________

(١) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ١١ ص ٤٥ ـ ٤٦. وتكملة الرواية قال : فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن عليعليه‌السلام فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلَّا وهو خائف

٣٥٩

قال ابن أبي الحديد : وقد روي أنَّ أبا جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام قال لبعض أصحابه : يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيَّانا وتظاهرهم علينا وما لَقِيَ شيعتنا ومحبونا من الناس ...

وكان عُظْمُ ذلك وكُبْرهُ زمنَ معاوية بعد موت الحسنعليه‌السلام .

فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطِّعت الأيدي والأرجل على الظِّنة.

وكان من يُذْكَر بحبِّنا والانقطاع إليه سُجِنَ أو نُهِب مالُه ، أو هُدِمَت دارهُ ، ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيد الله قاتل الحسينعليه‌السلام .

ثم جاء الحجَّاج فقتلهم كلَّقتلة وأخذهم بكلَّ ظنَّة وتهمة ، حتَّى إنَّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال له شيعة علي.

وحتَّى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعاً صدوقاً يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنَّها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممَّن لم يُعرَف بكذب ولا بقلة ورع.(١)

أقول :

ومن الغريب أنَّ ابن أبي الحديد بعد أن يورد ذلك كله يعقِّب عليه بقوله :

(واعلم أنَّ أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة. فإنَّهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم ، حملهم على وضعها عداوة خصومهم ، نحو :

حديث (السطل). وحديث (الرمانة). وحديث (غزوة البئر) التي كان فيها

__________________

على دمه أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسينعليه‌السلام وولي عبد الملك بن مروان فاشتدَّ على الشيعة وولَّى عليهم الحجَّاج بن يوسف فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض عليعليه‌السلام وموالاة أعدائه وموالاة من يدَّعي من الناس أنَّهم أيضاً أعؤه فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم وأكثروا من الغضِّ من عليعليه‌السلام وعيبه والطعن فيه والشنآن له حتى إنَّ إنساناً وقف للحجَّاج ويقال أنَّه جدُّ الأصمعي (عبد الملك بن قريب) فصاح به أيُّها الأمير إنَّ أهلي عقُّوني فسمُّوني عليَّاً وإنِّي فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجَّاج وقال : للطف ما توسَّلت به قد ولَّيتك موضع كذا. انظر أيضاً سليم بن قيس :كتاب سليم بن قيس ، تحقيق الانصاري قح ١٤٢٢ هـ ، ج ٢ / ٧٨١ ، ٧٨٤ ـ ٧٨٨.

(١) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ١٥ / ٤٣ ـ ٤٤.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611