الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي9%

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 611

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177768 / تحميل: 7843
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

رواية موضوعة في العهد العباسي لتشويه العمل العظيم الذي قام به الحسنعليه‌السلام نكاية بالحسنيين الثائرين من ولدهعليه‌السلام على العباسيين وقد بحثناها في كتابنا هذا ، وفي تقديرنا ان قول معاوية ان صحت الرواية قد قاله بعد وفاة الحسنعليه‌السلام وبعد تعقُّبِه شيعةَ عليعليه‌السلام سجنا ونفيا وقتلا.(١)

الثانية : انطلقت الرؤية المشهورة من فكرة مفادها : انَّ الموقف المطلوب أساسا هو الحرب ، ولمَّا لم يكن للحسنعليه‌السلام / كما تصور لنا الروايات الموضوعة / جيش كفوء يعتمد عليه لإيقاف خصمه المتستِّر بالإسلام اضطُرَّ إلى الصلح لفضحه ، ثم جعلت الرؤية السائدة الاستفادة من درس صلح الحديبية هو تأسي الحسنعليه‌السلام بجده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه أَمر الصلح ، كما أنكر على الحسن صلح «ساباط» بعض الخاصة من أوليائه.

وفي تقديرنا ان الاستفادة كانت أَعمق من ذلك : إذ أَنَّ الموقف الذي أَسَّسه صلح الحديبية هو إِفهام الناس أَنَّ الحرب ليست هي القاعدة العامة لحل المشكلات والأزمات ، بل قد يكون الموقف المطلوب الذي يفتح الطريق للهداية أو لحل الأزمة المستعصية هو الصلح والتنازل المحدود المشروط. وقد استهدف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلح الحديبية هذا الموقف لتحقيق الأمان في الجزيرة العربية المقرون بفضح إعلام قريش التي كانت تدَّعي انها تعمل على احترام البيت الحرام وزوّاره وان محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يحترم البيت الحرام وما يرتبط به من قوافل أهله التجارية فقد تعرض لها في الطريق وأخافها ، وقد كانت العرب في ال جاهلية تحترمها وتحرسها احتراما للبيت الحرام ، مضافا إلى هذه المكسب فقد انطلقت الاخبار الصحيحة عن سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تشق طريقها إلى الناس الذين اكتشفوا انهم كانوا مخدوعين بالإعلام القرشي الكاذب. ومن هنا رأينا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج في تظاهرة كبيرة هو وأصحابه مُحرِمين يسوقون الهديَ لزيارة البيت وعرض

__________________

(١) ولنا ان نقول أيضا وهو الأصوب ان معاوية لم يكن ليعلن ذلك في أول ملكه ولما يحل بعد المشكلات الأمنية الداخلية من الخوارج والخارجية من الروم ، ومعاوية قدير على ضبط اعصابه وإخفاء حقده لوقت استقرار ملكه وحينئذ لا يعلن عن ذلك تنفيذيا ، بل يلعنه إمامة دينية وخلافة إلهية وقد وضعت روايات في حقه من قبيل ما نسبوه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انه دعا له (اللهم اهد به واجعله هاديا مهديا) كما سيأتي في البحث.

٢١

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على قريش الصلحَ فقبلت بعد تردد ورفض واشترطت أَنْ يرجع عامَه ذاك وقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ، وعرفت العرب انَّ قريشا هي التي تصدُّ عن البيت الحرام وليس محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فافتضح إعلامها الكاذب ، واختلط المسلمون مع الناس ونقلوا اليهم صورا رائعة من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الهادية وبذلك تبدلت الصورة السيئة التي إشاعتها قريش المشركة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليحي من حيَّ عن بينة ، واستجابت القبائل ودخلت الإسلام أفواجا ومن ثم سمى القرآنُ الصلحَ مع ما يحفه من التنازل ب (الفتح المبين).

والأمر نفسه تكرر مع (قريش الأبناء) بقيادة معاوية لما تخندقوا في الشام واستطاعوا ان يعبثوا الشام بإعلام كاذب وإعطاء صورة سيئة عن عليعليه‌السلام ، وكونه يطلب الملك بالحرب وسفك الدماء وانه مفسد في دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغير ذلك من التهم الباطلة ، ويجئ الصلح بشروط الحسنعليه‌السلام فاضحا لمعاوية وإعلامه وفاتحا الطريق لإمامة عليعليه‌السلام الإلهية يحمل أخبارها ونصوصها النبوية التاسيسية شيعة عليعليه‌السلام من الكوفيين وغيرهم يحدِّثون بها أهلَ الشام مدة عشر سنوات من الأمان. ومن ثم فان صلح الحسن لا تبعد عنه تسمية (الفتح المبين) لما حققه من فضح معاوية وإعلامه الكاذب وانتشار اخبار سيرة عليعليه‌السلام المشرقة ومعرفة موقعه من الرسالة عبر حديث الغدير والثقلين والكساء وغيرها التي لم يكن أهل الشام قد سمعوا بها آنذاك.

وهذا الفهم هو المناسب لقول الحسنعليه‌السلام (علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة النبي لقريش) لان نتائج الصلح هنا هي نتائج الصلح هناك ، توحدت العلة وتوحد الأثر.

الثالثة : نجح المؤلف الحجة الشيخ راضي آل ياسين رحمة الله عليه في تجلية شخصية الحسنعليه‌السلام والدفاع عنه كما يليق به إماما من أئمة الهدى ، ولكنه فيما يتعلق بأهل الكوفة وقع / في تقديرنا / تحت ضغط الاخبار الموضوعة التي استهدفت تشويههم كما استهدفت نظائرها تشويه شخصية الحسنعليه‌السلام ، وكان المترقب من دراسة مستوعبة كالتي نهض بها العلم الكبير ان تصنف الاخبار بخصوص أهل الكوفة إلى مجموعتين ، ثم ترجح احدهما بالمرجحات العلمية المعروفة عند تعارض الاخبار. وقد شخصنا ثلاثة مرجحات للأخبار المادحة وإسقاط القادحة وهي :

١. ان المصادر التي عرضت الاخبار المادحة ورواتها هي مصادر الخاصة أعني

٢٢

المصادر الشيعية والرواة الشيعة ، اما المصادر التي عرضت الاخبار الطاعنة فهي عامية ورواتها عُرِف الكثير منهم بممالئتهم لخلفاء الجور من العباسيين.

٢. ان الاخبار الطاعنة تعارضها حقيقة الأمان في السنوات العشر الأولى من الصلح إذ لم يروَّع شيعي واحد في هذه الفترة وهي حقيقة كشف عنها بحثنا الجديد هذا.

٣. ان العباسيين بعد قضائهم على ثورة الأخوين محمد وإبراهيم ولدي عبد الله بن الحسن بن الحسن المثنى (رض) اتجهوا في إعلامهم العام وجهة تسقيط الحسنيين بتشويه سيرة جدهم الحسن المجتبىعليه‌السلام فوضعوا اخبارا من قبيل : انه باع الخلافة بدراهم من اجل شهواته ، ووضعوا اخبارا أخرى تشوه سيرة الكوفيين وانهم تفرقوا عن الحسنعليه‌السلام وتفرقوا عن أبيه من قبل ، ووضعوا على لسان الحسن أحاديث تؤكد ذلك.

٢٣

صلح الحسن عليه‌السلام في الاعلام الاموي والعباسي

وروايات اهل البيت عليهم‌السلام

وجدت من الناحية التاريخية ثلاثة اطروحات عرَّفت بالحسنعليه‌السلام ودوافع صلحه ونتائجه وهي :

اطروحة الاعلام الاموي : أنَّ تنازل الحسنعليه‌السلام عن السلطة بخطة من معاوية :

لا نملك مصادر اموية تتحدث عن صلح الامام الحسنعليه‌السلام ، وانما الذي بين ايدينا مصادر عباسية تنقل عن رواة مخضرمين عاشوا العهدين العباسي والاموي امثال معمر بن راشد اليماني (ت ١٥٤ هـ) ويونس الايلي (ت ١٦٠ هـ) وعبيد الله بن ابي زياد الرصافي (ت ١٥٨ هـ) وضمرة بن ربيعة القرشي الحمصي الفلسطيني (ت ٢٠٢ هـ) الذين رووا عن الزهري قصة الصلح ، وعوانة بن الحكم (ت ١٥٨ هـ) وعثمان الطرائفي (ت ٢٠٣ هـ) ومحمد بن عبيد (ت ٢٠٢ هـ) وسفيان بن عيينة (ت ١٩٨ هـ) ، وقد نصت كتب الرجال في ترجمة عوانة بن الحكم انه كان يضع الاخبار لبني امية. ومن المؤكد ان الزهري كان يضع الاخبار لبني امية وولاتهم وقد طلب منه والي العراق خالد القسري ان يكتب السيرة ولا يذكر فيها عليا الا ان يجده في قعر الجحيم! وقد روى معمر روايات السيرة عن الزهري واوردها كاملة عبد الرزاق الصنعاني وقد جاءت خالية من ذكر عليعليه‌السلام . وفي ضوء ذلك فان قصة صلح الحسنعليه‌السلام بروايات هؤلاء عن الزهري وغيره تعكس الرؤية الاموية لا محالة. والبادئ للصلح في روايتهم هو معاوية ، وهي قضية صحيحة اساسا ، ولكن ما الذي طلبه معاوية من الحسنعليه‌السلام ؟

هل طلب معاوية من الحسنعليه‌السلام ان يتنازل عن السلطة مقابل اموال يغدقها عليه؟ كما في رواية البخاري عن ابن عيينة (اعرضا عليه) اي المال. واعتمدها المؤرخون

٢٤

السلفيون الذهبي وابن كثير وغهما ، والمحدثون ، ابن حجر والعيني وغيرهما في شرحهما للبخاري وقد استنبطوا منها رافة معاوية بالمسلمين وقدرته في تدبير الملك!

ام طلب معاوية من الحسنعليه‌السلام ان توقف الحرب وان يكون الحسنعليه‌السلام حاكما في العراق والبلاد التي بايعته وان يكون معاوية حاكما في الشام والبلاد التي بايعه؟ وهو الصحيح فقد طلب معاوية ذلك من علي بعد التحكيم ، ورفضه علي ، لان معاوية باغ وحكم البغاة هو قتالهم ولا يجوز الصلح معهم الا لمفاوضات املاً بان يرجع البغاة عن بغيهم. ثم كرر الطلب معاوية بعد عليعليه‌السلام وقد انقسمت الامة باختيارها فبايعت في الشام معاوية وبايعت في العراق الحسنعليه‌السلام ، وفي ظل هذه الوضع الجديد لا يمكن لمعاوية ان يعرض على الحسنعليه‌السلام غير ما عرضه على ابيه عليعليه‌السلام في حياته بان يبقى كل على بلده الذي بايعه واعتقد بامامته ، لانه يعلم حق العلم ان علياعليه‌السلام / ومن بعده الحسنعليه‌السلام / له مشروعه في احياء سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي عطلها الخلفاء ، وقد تبناه اهل العراق كما تبنى اهل الشام معاوية في السير على نهج عثمان والشيخين.

وقد رفض الحسن طلب معاوية ذلك لانه يؤدي الى تكريس الانشقاق في الامة وتكريس جهل اهل الشام بمشروع عليعليه‌السلام ، وعرض عليه الحسنعليه‌السلام مشروعه الذي لم يخطر في باله ، ولا بال احد من رجالاته ، عرض عليه توحيد الامة وتوحيد حكومتها بنظام يحدده الحسنعليه‌السلام وهو الكتاب والسنة دون سيرة الشيخين وبشروط اضافية من قبيل امان شيعة عليعليه‌السلام في العراق ، وان يكون الامر للحسنعليه‌السلام بعد معاوية وان لا يذكر علياعليه‌السلام الا بخير وغير ذلك وان يكون الحاكم هو معاوية وبعد موته يكون الحسنعليه‌السلام وهكذا كان الامر لعشر سنوات حيث عاشت الامة افضل ايامها من الامان والحرية في العبادة.

لقد غيب الاعلام الاموي الانجاز العظيم للحسنعليه‌السلام الذي بشر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ان ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. وجعلوه صلحا ، كان الداعي اليه معاوية الذي بذل الاموال لسد دين الحسنعليه‌السلام ومعالجة حالات كانت بحاجة الى المال! ومن هنا كان الحسنعليه‌السلام مرضيا لدى المحدثين والسلفيين قاطبة لانه اثر حقن الدماء على الحرب مستجيبا لمعاوية الرؤوف بالمسلمين!

٢٥

اطروحة الاعلام العباسي : أنَّ الحسنعليه‌السلام تنازل عن السلطة رغبة في المال والحياة المترفة :

ثار الحسنيون على العباسيين سنة ١٤٤ هـ بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن في المدينة ثم قتل وقام من بعده اخوه ابراهيم بن عبد الله بن الحسن في البصرة ثم قتل بسهم طائش في معركة بين البصرة والكوفة ووجد العباسيون انفسهم بحاجة الى توجيه الاعلام وجهة تسقيطية للحسنيين من خلال ترويج ما اسسه الاعلام الاموي في الحسنعليه‌السلام مع تطوير واضافات تقتضيها المرحلة وكانت هذه الاضافات هي تسقيط الكوفة بوصفها قلعة المؤيدين للحسنيين وللامام الصادقعليه‌السلام وقد وضع الخليفة الدوانيقي ابي جعفر الخطوط العريضة لهذا الاعلام فقال :

... ثمَّ قام بعدَهُ الحسن بن عليعليه‌السلام ، فو الله ما كان برجل ، عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسَّ إليه معاوية إنِّي أجعلك ولي عهدي ، فخلع نفسه وانسلخ له ممَّا كان فيه ، وسلَّمه إليه وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى ، فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه.

وفيما يخص الكوفيين قال :

(ثمَّ قام من بعده الحسين بن عليعليهما‌السلام ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنِّفاق والإغراق في الفتن ، أهل هذه المدرة السوء ، / وأشار إلى الكوفة / فو الله ما هي لي بحرب فأُحاربها ، ولا هي لي بسلم فأُسالمها ، فرَّق الله بيني وبينها فخذلوه وأبرؤوا أنفسهم منه ، فأسلموه حتّى قتل.

ثمَّ قام من بعده زيد بن علي ، فخدعه أهل الكوفة وغرّوه ، فلمَّا أظهروه وأخرجوه أسلموه ، وقد كان أبي محمد بن علي ناشده الله في الخروج وقال له : لا تقبل أقاويل أهل الكوفة فإنّا نجد في علمنا أنَّ بعض أهل بيتنا يصلب بالكناسة ، وأخشى أن تكون ذلك المصلوب ، وناشده الله بذلك عمّي داود وحذَّرهرحمه‌الله غدر أهل الكوفة ، فلم يقبل ، وتمَّ على خروجه ، فقتل وصلب بالكناسة).(١)

__________________

(١) المسعودي ، مروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١ ، وكانت بوادر التحسس من الكوفيين قبل ذلك روى

٢٦

ولما قتل ابراهيم بن عبد الله بن الحسن امر المنصور ان يطاف برأسه بالكوفة سنة ١٤٥ هجرية وخطب قائلا :

(يا أهل الكوفة عليكم لعنة الله وعلى بلد انتم فيه سبئية(١) ، خشبية(٢) ، قاتل يقول : جاءت الملائكة وقائل يقول جاء جبريل ...

لَلَعَجَب لبني امية وصبرهم عليكم ، كيف لم يقتُلوا مقاتلتَكم ويسبوا ذراريكم ، ويخربوا منازلكم.

أما والله يا اهلَ المَدَرَة الخبيثة لئن بقيت لكم لأذلنكم).(٣)

لقد انتج الاعلامان الاموي والعباسي كمية هائلة من الروايات الكذب في قضية الصلح لم تتسبب في ظلم الامام الحسنعليه‌السلام وظلم العراقيين حسب ، بل تسببت في تشويه الرؤية الاسلامية الصحيحة في مسالة (لو بايعت الامة لحاكمين) ، وتغييب اخبار تجربة وعهد هو من اروع العهود الاسلامية بعد عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعهد الامام عليعليه‌السلام امتاز بالامان التام والحوار الصادق والتعددية المذهبية المبنية على القناعة وظهور المرجعية الدينية المستقلة عن السلطة متفرغة الى عمل الخير وتعليم الناس ، وانصراف الدولة الى وظيفتها الاساسية من تحقيق الامان داخليا وخارجيا وتوزيع الحقوق على اهلها دون التدخل في الشؤون الدينية للافراد العهد الذي تتوق اليه وتتطلع نحوه كل شعوب العالم بلا استثناء.

__________________

البلاذري فيانساب الاشراف ج ٣ ص ١٥٠ ، قال : قال المدائني : (كتب ابو مسلم الى ابي العباس : أن اهل الكوفة قد شاركوا شيعة امير المؤمنين في الاسم ، وخالفوهم في الفعل ، ورأيهم في آل علي الذي يعلمه امير المؤمنين ، يؤتى فسادهم من قبلهم باغوائهم اياهم واطماعهم فيما ليس لهم ، فالحظهم يا امير المؤمنين بلحظة بوار ، ولا تؤهلهم لجوارك ، فليست دارهم لك بدار. واشار عليه ايضا عبد الله بن علي بنحو من ذلك فابتنى مدينته بالانبار وتحول اليها وبها توفي).

(١) اي اتباع عبد الله بن سبأ الذي ادعي له انه مبتدع الوصية لعليعليه‌السلام المشابهة لوصية موسى ليوشععليه‌السلام الذي يترتب عليها البراءة ممن تجاوز على موقعه.

(٢) فيالنهاية لابن الاثير : الخشبية : هم أصحاب المختار بن أبي عبيد ، ويقال لضرب من الشيعة : الخشبية. وفي المشتبه للذهبي : الخشبي : هو الرافضي في عرف السلف.أقول : وسياتي في ترجمة المختار الروايات التي وضعوها في حقه للغض من شخصيته.

(٣) البلاذري ،أنساب الاشراف ج ٣ ص ٢٦٩.

٢٧

الحسنعليه‌السلام في روايات اهل البيت عليهم‌السلام امام هدى عالج الانشقاق وفتح الطريق لهداية اهل الشام ان ارادوا الهداية :

لا بد من التمييز بين روايات اهل البيت والمصادر الشيعية التي الفت للاحتجاج باحاديث العامة عليهم فما ورد في كتاب الارشاد للشيخ المفيد في قصة اساسه روايات ابي الفرج في كتابه مقاتل الطالبيين ، وما فيه من اخبار مقتل الحسين اساسه روايات ابي مخنف في كتابه مقتل الحسين الذي رواه الطبري ، فان هذه الروايات لا يغير من واقعها رواية الشيخ المفيد لها ، فهي تبقى روايات عامية ، والذي نريده بروايات اهل البيتعليهم‌السلام هو ورودها عنهم وفي مصادر امامية معتبرة ، وفي هذا الصدد فاننا نجد صلح الحسنعليه‌السلام وشخصيته واهل الكوفة في رواياتهم بصورة اخرى تغاير ما عليه الاعلام الاموي والعباسي.

فالحسنعليه‌السلام احد الائمة الهداة المعصومين الاثني عشر الذين عينهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لهداية الامة من بعده في قصة المباهلة وحديث الكساء وغيرها ، اما سيرته الشخصية فقد تحدث عنها حفيده الامام الصادقعليه‌السلام يصفه كان أعبد الناس في زمانه ، وأزهدهم وأفضلهم ، وكان إذا حج حج ماشيا ، وربما مشى حافيا ، وكان إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر القبر بكى ، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى ، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها. وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، ويسأل الله تعالى الجنة ، ويعوذ به من النار.

اما دوافع الصلح عند الحسنعليه‌السلام فقد بينها بوضوح تام حين ساله ابو سعيد وقد اوردنا الرواية في اول الكتاب مستقلة ، حين قال علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة النبي لقريش ، وبذلك وضع مقياسا دقيقا لدراسة الصلح ودوافعه واهدافه وانجازاته.

وقد ذكر الامام الباقرعليه‌السلام صلح الحسن فقال فيه : (والله لَلذي صنعه الحسن بن علي كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس والقمر).

ان هذه الصيغة من الكلام تشير الى ان : نتائج الصلح هي من سنخ الهداية التي

٢٨

يقول فيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام : (وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي).(١)

لقد حفظ الحسنعليه‌السلام بصلحه وحدة القبلة ووحدة الكتاب الى يوم القيامة ، ثم اوصل احاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في امامة علي واهل بيتهعليهم‌السلام الالهية ، واخبار سيرة عليعليه‌السلام المشرقة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده وفي الكوفة ايام حكمه ، وفتح باب الاهتداء بعلي لمن اراد من اهل الشام الى يوم القيامة فاي خير اعظم من هذا الخير!

وقد انطلق البحث في هذا الكتاب من قول الامام الحسنعليه‌السلام نفسه وانتهى الى الخير الذي انتجه الصلح واشارت اليه رواية الامام الباقرعليه‌السلام .

__________________

(١) الكليني ،الكافي ، ج ٥ ص ٢٨. الطوسي ، تهذيب الاحكام ج ٦ ص ١٤١.

٢٩

الرؤية الجديدة

اما النتائج الجديدة فتتعلق بوضع أهل الكوفة في السنوات العشر من الصلح حيث كانوا امنين ولم يروع شيعي واحد منهم بسبب ولائه لعلي بل الفرصة متاحة لهم لينشروا ما وعوه وحملوه عن عليعليه‌السلام من علم وسيرة مشرقة بين أهل الشام ، هذا في قبال الرؤية السائدة التي تقول ان معاوية اعلن عن نقضه لشروط الحسن منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الكوفة وانه بدأ بترويعهم وملاحقتهم.

اما الرؤية الجديدة في مبررات الصلح فخلاصتها : ان الحسن كان قد صالح عن قوة وليس عن ضعف فهو أشبه بصلح الحديبية بل امتداد له في الهدف والأسلوب ، وتوضيح ذلك :

ان معاوية بعد ان بايعه أهل الشام بادر يطلب الصلح من الإمام الحسن الذي بايعه أهل العراق حاكما خلفا لابيه علي وهو ان يبقى الحسنعليه‌السلام على البلاد التي بايعه أهلها وهو النصف الشرقي للبلاد الإسلامية ، وان يبقى معاوية على النصف الغربي من البلاد الإسلامية حيث بايعه أهلها على الحكم.

ومبررات هذا الصلح واضحة لدى معاوية فهو بين ضغط حلقات الخوارج الخفية من الداخل التي تستهدف اغتياله وضغط الروم على الحدود الشمالية الشرقية وجيشهم على أهبة الاستعداد لغزو الشام ، ولم يكن معاوية ليجمد شن الغارات على أطراف علي دون مكسب سياسي يسجله لصالحه ، ومن هنا عرض على الحسن / وقد عبأ جيشه للقتال مضافا إلى تعبئة أبيه عليعليه‌السلام / لكي يؤمّن جهته بالمصالحة ويتفرغ للمشكلتين الآنفتي الذكر.

فكان امام الحسنعليه‌السلام احد خيارين :

٣٠

الأول : قبول أطروحة الصلح بالصيغة التي عرضها معاوية واهم مبررات قبولها بالنسبة للحسنعليه‌السلام هو تجميد الصراع مع معاوية ليتفرغ للإرهاب الداخلي هذا هو التفكير الباده لمن يهمه بناء دولة وحكم خاص به. ولكن هذا الخيار يكرس الانشقاق الأموي مع إعلامه الكاذب في عليعليه‌السلام إذ يعرضه رأس الفساد والإلحاد في دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بينما هو رأس مشروع الهداية في المجتمع بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني : رفض الصلح واللجوء إلى الحرب بصفته وارث مشروع أبيه علي مشروع إحياء السنة النبوية في مجتمع الفتوح الذي حرم منها ، المشروع الذي نجح في النصف الشرقي من البلاد الإسلامية وصارت الكوفة مركزا له ، وانغلقت البلاد الغربية عنه وتحولت الشام إلى مركز يعمل على تطويقه ووأده ، لإحياء المشروع القرشي بقيادة أموية فكانت معركة الجمل في البصرة بتخطيط أموي وتنفيذ قرشي ومعركة صفين في الشام التي اعد لها معاوية عدتها منذ سنين ، ثم نتجت عنها معركة النهروان في العراق ، وهذا نظير تحول مكة في بدء الإسلام إلى مركز يصد عن دعوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بقيادة أموية فكانت معركة بدر التي قادت إلى معركة احد وهي انتجت معركة الخندق.

ولكن الحسنعليه‌السلام وهو العارف بحكمة الحرب والصلح في دين جده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أدرك ان خيار الحرب ليس بصالح مشروع أبيه عليعليه‌السلام ، والسر في ذلك هو ان الحرب بين عليعليه‌السلام ومعاوية قد أفرزت إعلاما أمويا كاذبا في حق عليعليه‌السلام تحول إلى معتقد لدى أهل الشام ومن ثم فان خيار الحرب سوف لن يؤدي إلا إلى مزيد من الإعلام الكاذب في حق عليعليه‌السلام ثم إلى مزيد من التكريس لمعتقد أهل الشام الخاطئ فيه ، ومن ثم مزيد من الحجب عن مشروع علي الإحيائي للسنة النبوية.

تماما كما كان الأمر بين النبي وقريش فلم يكن خيار النبي ان تستمر الحرب مع قريش بعد معركة الخندق مع ان قريشا وحلفاءها قد انهزموا شر هزيمة ، وذلك لان الحرب بين النبي وقريش قد أفرزت إعلاما قرشيا كاذبا في حق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تحول إلى معتقد لدى العرب المتحالفة مع قريش ومن ثم فان الحرب سوف لن تزيدهم إلا تكريسا لإعلامهم الكاذب ثم تكريسا لمعتقدهم الخاطئ في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبالتالي لن تزيدهم الحرب الا بعدا عن الهداية التي بعث النبي لأجلها.

٣١

وكما عدل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيار الصلح بوصفه الحل الوحيد لقلب المعادلة مع قريش وفتح الطريق أمام مشروع الهداية الذي جاء به كذلك لا بد للحسنعليه‌السلام ان يعدل من خيار الحرب إلى الصلح بوصفه الأسلوب الوحيد لقلب المعادلة مع معاوية وفتح الشام لمشروع الهداية الذي نهض به عليعليه‌السلام ، ولكنه صلحٌ بصيغة جديدة لا تمت إلى الصيغة التي عرضها معاوية بصلة ، بل هو صلح يستمد روحه وهدفه وفلسفته من صلح جده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش حين اوضح للقبائل المتحالفة مع قريش بما لا يقبل الشك ان قريشا هي التي تصد عن بيت الله وليس محمدا كما كانت تزعم في إعلامها الكاذب ، وان محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعظم بيت الله ودين إبراهيم بما لم يعظمه به احد من العرب ولا من قريش آنذاك.

وكذلك الحسنعليه‌السلام في صلحه فانه يريد ان يوضح لأهل الشام بما لا يقبل التأويل ان معاوية ومن قبل الخلفاء الثلاثة كان يصدون عن سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو واضح في قصة حج التمتع ، بل ان معاوية وأباه كانا على رأس من يصد عن دعوة النبي ويقاتله وانَّ عليا هو الذي إحيا سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو واضح في قصة حج التمتع بل لعلي مواقف وتاريخ يكشف عن اتباعه للنبي ونصرته له بما لا يضاهيه احد من المسلمين.

وهكذا فاجأ الحسنعليه‌السلام خصمَه معاوية بصيغة صلح لم تدُر في خَلَدِه بل لم يكن تكوينه الجشع ورغبته الجامحة للسلطة وأصوله الجاهلية لتسمح له ان يفكر بها ، استمد الحسن روح صلحه المبتكر وشروطه من تجربة جده المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلح الحديبية مع قريش وهي تجربة مبتكرة أيضا إذ لم يكن يدر في خلد قريش / لحميتها الجاهلية / ان يقدم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لمصالحتها بعد ان سجل انتصارا ساحقا في معركة الخندق ، وحقق الحسن بذلك فتحا مبينا بكل معنى الكلمة كما حقق النبي (ص) في صلحه فتحا مبينا بكل معنى الكلمة ، وقد تمثل هذا الفتح المبين لعلي بالصلح الحسني كما تصوره الرؤية الجديدة :

ـ بفضح معاوية أمام أهل الشام / جنده المطيع له طاعة مطلقة / بانه كان ظالما لعلي في قتاله إياه وانه كان يقاتله من اجل الملك وليس من اجل مبدأ أو الأخذ بثار دم عثمان كما كان يزعم.

ـ اتضاح حقيقة عليعليه‌السلام انه لم يكن الذي كان منه منازعة في سلطان أو لالتماس

٣٢

شيء من فضول الحطام بل كان لأجل المظلومين من عباد الله وإحياء سنة النبي التي عطلتها وحرفتها سلطة قريش المسلمة قبل عليعليه‌السلام .

ـ توحيد شِقَّي البلاد الإسلامية واختلاط العراقيين مع الشاميين من موقع المحبة والشفافية.

ـ إرجاع هيبة الأمة في قلوب أعداءها / الروم الشرقيين على الجبهة الشمالية الشرقية / الذين كانوا قد اعدوا العدة للهجوم على الأمة بعد ان أكلتهم الحروب الداخلية.

ـ إنقاذ الكوفة عاصمة مشروع النهضة الإحيائية لعليعليه‌السلام ومركز رجالاتها من إرهاب داخلي كانت على أبوابه يتبنى أسلوب الاغتيال قام به الخوارج التكفيريون وقد نفذوه أولاً في عليعليه‌السلام . ومن ثم انطلاقة الكوفيين لنشر أخبار هذه النهضة وموضوعها في أهل الشام.

وساد الأَمان في الأُمة كلِّها عشر سنوات بعد توقيع وثيقة الصلح ، وبرز الحسنعليه‌السلام مرجعا دينيا الهيا ومن قبله أبوه عليعليه‌السلام ومن بعده وأخوه الحسين نصت عليهم الأحاديث النبوية ، ليأخذ عنهم دين الله الذي جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا ، وعرف الشاميون وغيرهم من عبادة الحسن وعلمه وحسن خلقه وكرمه واهتمامه بقضاء حوائج الناس ما جعلهم يذكرون به أباه عليه وجده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم غدر معاوية بالحسنعليه‌السلام بعد عشر سنوات غدراً مبيناً حين دشَّ له السم ونقض شروطه ولاحق شيعة العراق بما هو معروف وواضح في كتب التاريخ.

وخرجت الرؤية الجديدة بحقيقة أخرى وهي ان الروايات التي تسببت في تكوين الرؤية المشهورة هي روايات أصولها أموية وفروعها عباسية تبناها الإعلام العباسي ليواجه بها خصمين كبيرين للعباسيين كانا ينغصان عليهم رغبتهم في استمرار ملكهم وحفظ ولاء الأمة لهم ، هذا الخصمان هما :

ـالحسنيون الثائرون الذين يملكون الشعبية في قبال بني العباس لكونهم ذرية المصلح الكبير الحسن صاحب الفتح المبين في إنقاذ الأمة من سفك الدماء بطريقة بارعة تكشف عن جدارة خاصة بحكم الأمة ورعايتها ، ويملكون الشرعية لان العباسيين كانوا قد اعطوا بيعة مسبقة لزعيم الحسنيين محمد بن

٣٣

عبد الله بن الحسن في مؤتمر عام لبني هاشم وقد انتشر خبر هذا المؤتمر والبيعة في المجتمع.

ـمرجعية الإمام الصادق عليه‌السلام التي تقوم على فكرة إمامة عليعليه‌السلام وأهل بيته المعصومين بوصية من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذه المرجعية آخذة بالتوسع والنمو.

ـ وكانت الكوفة هي القاعدة الشعبية لكلا الخصمين.

وفي ضوء ذلك لم يكن أمام العباسيين الحاكمين / لضمان استمرار ملكهم / الا ان يحذوا حذوَ الأمويين بتحريف تاريخ خصومهم / الحسنيين ، الكوفة ، الشيعة / وتحويل حسناتهم وامتيازاتهم إلى عار يلاحقهم ابد الدهر بروايات كذب يضعونها فيهم ليربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير.

فهل هناك عار في تاريخ الحسنيين كعار أَبيهم الحسنعليه‌السلام / كما عرضه الإعلام الأموي والعباسي / تبايعه الأمة على الحكم ثم يبيعه إلى معاوية بدراهم يُغدِقُها فيما بعد على محظياته يتزوج واحدة ويطلق أخرى؟ وهل تكون ذريةُ مثل هذا الإنسان جديرة بحكم الأمة؟.

وهل هناك عارٌ كعارِ الكوفة / كما عرضه الإعلام العباسي / تدعو الحسينعليه‌السلام لنصرته ثم تخذِلُه ثم تقتُله ثم تحمل رأسه ورؤوس أصحابه هدية إلى يزيد مقرونة بسوق أُسرة الحسين سبايا ، الحال التي يرق لها يزيد فتدمع عيناه ويلعن الكوفة وأَميرَها ابنَ مرجانة؟ ويقول انه لو كان صاحبه أي الحسين ما صنع به ذلك!.

وهل هناك عارٌ كعارِ الشيعة الأوائل من صحابة وتابعين / كما عرضه الإعلام العباسي / استجابوا لعبد الله بن سبا يهودي مزعوم من أهل اليمن اسلم على عهد عثمان ليتلقوا منه عقيدتهم بعلي إماما الهيا شبيها بإمامة هارون ويوشع بن نون؟

ثم عالجوا مرجعية الإمام الصادقعليه‌السلام بأَمرين :

الأول : تبنّي مرجعية مالك بن انس وفرضها على الناس ، وتبنّي طلابه ليكونوا قضاة وأَئمة جمعة.

الثاني : إِشاعة الشك في مرويات الإمام الصادقعليه‌السلام وتضعيف شخصيته وسلب الوثاقة عنه.

٣٤

قال ابن سعد : (جعفر بن محمد كثير الحديث ويستضعف).

وقال يحيى بن سعيد القطان : (مجالد احب إلي منه (أي من الصادق) وقال الذهبي يعلق على كلام القطان وهذه زلقة من ابن القطان.

هذا مع ملاحقة أصحابه وسجن الإمام من بعده ولده الكاظمعليه‌السلام .

وفي ضوء ذلك كله فان ظهور هذا الكم الهائل من الروايات الطاعنة في الإمام الحسن وفي الكوفة وفي الشيعة يكون طبيعيا وكما تفرضه طبيعة الأشياء ولا نحتاج معه إلى بحث أسانيد هذه الروايات الطاعنة مع وجود الروايات المادحة وذلك لان هذا المبرر / وهو حقيقة تاريخية ثابتة / وحده كافٍ في إسقاطها جملة وتفصيلا. ومع ذلك فإننا لم نغفل بعض الأسانيد لأجل تقديم شاهد آخر على صحة الأطروحة.

٣٥

أبواب البحث وفصوله

قسمت البحث إلى أربعة أبواب واربعة وعشرين فصلا :

تناولت في الباب الأول :

الرؤية السائدة اليوم في تعليل الصلح وقد جعلتها في فصلين.

كرست الفصل الأول لأقوال المستشرقين ان الحسن شخصية منهارة كان هدفه من الصلح هو الحصول على مال يؤمِّن له حاجات حياته المترفة ويلبي طلبات زوجاته الكثيرات.

وكرست الفصل الثاني لأقوال الإسلاميين من القدامى والمحدثين ان الكوفيين ضعفاء متخاذلون مع وجود خط في الكوفة يفكر في تسليم الحسن لمعاوية فاضطر الحسن لمصالحة معاوية وتسليمه الحكم في العراق ليحافظ على حياته وانتهى البحث في هذا الباب إلى ان وجهة النظر بقسميها تستند إلى روايات في تاريخ الطبري وانساب الأشراف للبلاذري وطبقات ابن سعد وتاريخ دمشق لابن عساكر وغيرها من مصادر التاريخ الإسلامي المعتبرة وبعض هذه الروايات ينسب إلى الحسنعليه‌السلام نفسه.

وتناولت في الباب الثاني :

الرؤية الجديدة التي تنبهتُ إليها من خلال قول الامام الحسنعليه‌السلام نفسه حين قال : (ان علة مصالحته لمعاوية علة مصالحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقريش) وبالتالي فإنَّ السبب الوحيد للصلحين هو واحد ، وهذا يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح ثم وحدة الظرف الموجبة له ثم وحدة الموقف إزاءه ثم وحدة النتائج المترتبة. ولم تنطلق الرؤية الجديدة من هذه الرواية حسب بل كانت لها شواهد وروايات كثيرة تؤكدها. وقد تم بحث ذلك من خلال ثمانية فصول.

٣٦

كرست الفصل الأول لبحث خلفيات الصلح وظرفه الموجب للصلح بالصياغة الحسنية.

وكرست الفصل الثاني للسنوات العشر من الصلح من سنة ٤١ هـ إلى سنة ٥١ هـ لبيان معالم الفتح المبين للصلح حيث عادت للامة وحدتها واختلط الناس بعضهم ببعض وانطلق العراقيون امنين يحدثون أهل الشام بأحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في عليعليه‌السلام عن سيرته المشرقة وكيف عرف أهل الشام ان معاوية كان ظالما لعلي وان الحق مع علي في حروبه وان عليا امتداد للنبي في إمامته الهادية وعرضت نماذج من نشاطات أصحاب الحسن وحواراتهم مع معاوية.

وعقدت الفصل الثالث بمبحثين الأول تناول نشاطات الامام الحسنعليه‌السلام في سنوات الصلح والثاني يبحث عن مراحل سير الحسن منذ ولادته والى وفاته لاستكمال الصورة عن شخصية الحسنعليه‌السلام .

وكرست الفصل الرابع لبحث الغدر المبين الذي قام به معاوية وأهل الشام في السنوات العشر التالية بعد وفاة الحسنعليه‌السلام بدءا بدس السم للحسنعليه‌السلام .

وكرست الفصل الخامس لهوامش على موارد من كتاب صلح الامام الحسنعليه‌السلام للعلامة الحجة الشيخ راضي آل ياسين.

وكرست الفصل السادس لبحث مسار الإمامة الدينية التي أسس الحسنعليه‌السلام بصلحه فصلها عن السلطة الزمنية وكيف ان الله تعالى قد حصر الإمامة الدينية بأنبيائه وأوصياءه اما السلطة الزمنية ففي زمن النبي وأوصياءه تكون لهم ، وكيف ان قريش اغتصبت السلطة الزمنية ممن هي حقه بالنص ومارست إلى جانب ذلك الإمامة الدينية مما أدى إلى تعطيل السنة وتحريفها وكيف ان علياعليه‌السلام نهض لإحياء السنة وفتح الطريق لإمامته الدينية التي أمر بها الله ورسوله.

وكرست الفصل السابع لدراسة ظرف صلح الحديبية ومقارنته مع ظرف صلح الحسن واكتشاف وحدتهما كما أشار الامام الحسنعليه‌السلام إلى ذلك ، ثم بيان وحدة الموقف المترتب على وحدة الظرف ووحدة الآثار التي ينتجها الموقف الموحد ثم وحدة التسمية بالفتح المبين.

٣٧

وكرست الفصل الثامن لعرض مقتطفات من سير الكوفة الفكري من سنة تمصيرها إلى سنة ١٣٦ هجرية وكيف انها حملت مشروع علي وثبتت عليه رغم محاولات الأمويين والزبيريين والمروانيين لإنهائه واستئصاله.

وتناولت في الباب الثالث :

تفسير وجود ذلك الكم الهائل من الروايات الذي انتج رؤية الانهيار المبين وكونه من وضع العباسيين لمواجهة الحسنيين الثائرين عليهم ، ومرجعية الامام الصادق الديني الآخذة بالتوسع ، والكوفة القلعة التاريخية لكلا الخطين تمدهما بالقاعدة الشعبية وقد عقدت لذلك ثمانية فصول.

كرست الفصل الأول لبحث : تحريف الأمويين للسنة النبوية والسيرة العلوية واقتفاء العباسيين اثرهم والاستفادة من تجربتهم.

وكرست الفصل الثاني لدراسة انشقاق العباسيين عن الحسنيين والأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام إذ كانوا في بدء الأمر جزء من حركة العلويين ثم انشقوا عنها.

وكرست الفصل الثالث لعرض وثائق الاعلام العباسي السلبية ضد الحسن والكوفة والتشيع من خلال خطب أبي العباس السفاح وأبي جعفر الدوانيقي والشعر والمحاورات.

وكرست الفصل الرابع لترجمة سيف بن عمر وعبد الرحمن بن مالك بن مغول بوصفهما قد وضعا اخبارا في تفسير التشيع لعلي بما ينفِّر الناس عنه ويدعوهم للبراءة منه.

وكرست الفصل الخامس لكتاب أبي مخنف الذي استهدف تحميل أهل الكوفة تبعة قتل الحسين تعبيرا عن خذلانهم وضعف إرادتهم بخلاف ما بيَّنه أهل البيت فيهم.

وكرست الفصل السادس لعرض الاخبار الطاعنة في الكوفيين على لسان علي والحسن ودراستها من الناحية السندية والكشف عن وضعها من إخباريين عباسيين.

وكرست الفصل السابع : الروايات الطاعنة في شخصية الحسنعليه‌السلام وهي اخبار رفضها الشيعة والسنة على السواء.

الفصل الثامن : الروايات الطاعنة في الكوفيين وهي من وضع الأخباريين العباسيين أيضا.

٣٨

ثم انهيت البحث بالباب الرابع :

وهو خلاصة بحوث الكتاب بترتيب آخر مع خاتمة ولا بد من تنبيه القارئ الكريم ان بحوث الخلاصة لم تكن مجرد اختصار بل احتوت على اخبار وأفكار إضافية رأيت ان أضيفها ولم يتيسر لي ان ادرجها في الفصل الذي يناسبها ولا بد لي من انبه أيضا أنني كررت بعض الوثائق المهمة في اكثر من فصل بسبب اقتضاء طبيعة البحث ذلك.

وفيما يلي أبواب البحث وفصوله.

٣٩

الباب الأول

الرؤية المشهورة في تعليل الصلح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الأول ٤٦ المستشرقون : الحسنعليه‌السلام شخصية ضعيفة منهارة

الفصل الثاني ٥١ الإسلاميون : الكوفيون متفرقون متخاذلون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

فحكوا أنهم كانوا في مصيبة وحيدة، فهم في ذلك إذ خرج من الدار الداخلة خادم فصاح بخادم آخر: يابشر، خذ هذه الرقعة وامض بها إلى دار أمير المؤمنين وادفعها إلى فلان، وقل هذه رقعة الحسن بن علي فاستشرف الناس لذلك، ثم فتح في صدر الرواق باب وخرج خادم أسود ثم خرج بعده أبو محمدعليه‌السلام ، حاسراً مكشوف الرأس، وعليه مبطنة بيضاء، وكان وجهه وجه أبيه لا يخطئ منه شيئاً، وكان في الدار أولاد المتوكل، وبعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد إلاّ قام على رجله ووثب إليه أبو محمد الموفق فقصده أبو محمد، فعانقه، ثم قال له: مرحباً بابن العم وجلس بين بابي الرواق والناس كلهم بين يديه وكانت الدار كالسوق بالأحاديث فلما خرج وجلس أمسك الناس فما كنا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسعلة، وخرجت جارية تندب أبا الحسن فقال أبو محمدعليه‌السلام :ما هاهنا من يكفي مؤونة هذه الجاهلة؟ فبادر الشيعة إليها فدخلت الدار، ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد ـ العسكري ـ فنهض فصلَّى عليه وأخرجت الجنازة وخرج يمشي حتى أُخرج بها إلى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغا، وقد كان أبو محمد صلَّى عليه قبل أن يخرج إلى الناس ويصلي عليه المعتمد(١) . ثم دفن في دار من دوره(٢) .

ويمكن أن يُستفاد من هذه الرواية: أن هذا الجمع الغفير المشارك فضلاً عن رجال البلاط العباسي، يكشف عن المكانة العالية والتأثير الفاعل للإمام في الأمة والدور الكبير الذي قام به في حياته، فضلاً عن أن حضور ولاة العهد ربما يكون تغطية للجريمة البشعة التي قام بها الخليفة العباسي بدس السم إليه ومن ثم وفاته.

ــــــــــــ

(١) وفي رواية الطبري: صلَّى عليه أبو محمد بن المتوكل: ٧ / ٥١٩.

(٢) إثبات الوصية: ٢٠٦.

٨١

١٠ ـ من دلائل إمامته بعد استشهاد أبيهعليهما‌السلام

١ ـ قال أبو هاشم الجعفري: خطر ببالي أن القرآن مخلوقٌ أم غير مخلوق ؟ فقال أبو محمدعليه‌السلام :ياأبا هاشم، اللهُ خالقُ كل شيء، وما سواه مخلوق .(١)

٢ ـ وقال أيضاً: قال أبو محمدعليه‌السلام :إذا خرج القائم يأمر بهدم المنابر والمقاصير التي في المساجد . فقلتُ في نفسي: لأيّ معنى هذا ؟، فأقبل عليّ وقال:معنى هذا أنّها محدثة مبتدعة، لم يبنها نبيّ ولا حجّة .(٢)

٣ ـ وسأله الفهفكي: ما بال المرأة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين ؟ فقال أبو محمدعليه‌السلام :إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة، إنّما ذلك على الرجال . فقلتُ في نفسي ; قيل لي إن ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد اللهعليه‌السلام عن هذه المسألة فأجابه بمثل هذا الجواب وفي رواية:لما جعل لها من الصداق . فأقبل أبو محمد عَليّ فقال:نعم ، هذه مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسألة واحداً، أُجري لآخرنا ما أُجري لأوّلنا وأوّلنا وآخرنا في العلم والأمر سواء. ولرسول الله ولأمير المؤمنين فضلهما (٣) .

٤ ـ وقال أبو هاشم الجعفري: قلتُ في نفسي قد كتب الإمام:ياأسمع السامعين... اللهم أجعلني في حزبك وفي زمرتك . فأقبل عليّ أبو محمد فقال: أنت في حزبه وفي زمرته إذا كنت بالله مؤمناً ولرسوله مصدِّقاً ولأوليائه عارفاً ولهم تابعاً،

ــــــــــــ

(١) المناقب ٢ / ٤٦٧.

(٢) المناقب ٢ / ٤٦٨.

(٣) المناقب ٢ / ٤٦٨.

٨٢

فأبشر ثمّ أبشر .(١)

٥ ـ عن علي بن أحمد بن حمّاد، قال: خرج أبو محمد في يوم مصيف راكباً وعليه تجفاف وممطر، فتكلّموا في ذلك، فلمّا انصرفوا من مقصدهم أمطروا في طريقهم وتبلوّا سواه.(٢)

٦ ـ وعن محمد بن عيّاش قال: تذاكرنا آيات الإمامعليه‌السلام فقال ناصبيّ: إن أجاب عن كتاب بلا مداد علمت أنه حقّ، فكتبنا مسائل وكتب الرجل بلا مداد على ورق وجعل في الكتب وبعثنا إليه فأجاب عن مسائلنا وكتب على ورقة اسمه واسم أبويه فدهش الرجل، فلمّا أفاق اعتقد الحق.(٣)

٧ ـ وعن محمد بن عبد الله قال: فقد غلام صغير فلم يوجد، فأخبر بذلك، فقالعليه‌السلام :اطلبوه في البركة ، فطلب فوجد فيها ميّتاً.(٤)

٨ ـ وروى أبو سليمان المحمودي فقال: كتبتُ إلى أبي محمدعليه‌السلام أسأله الدعاء بأن أُرزق ولداً، فوقّع:رزقك الله ولداً وأصبرك عليه . فولد لي ابن ومات(٥) .

٩ ـ وروي عن علي بن إبراهيم الهمدانيّ قال: كتبت إلى أبي محمدعليه‌السلام أسأله التبرك بأن يدعو أن أُرزق ولداً من بنت عمّ لي، فوقّع:رزقك الله ذُكراناً ، فولد لي أربعة(٦) .

١٠ ـ وعن عمر بن أبي مسلم قال: كان سميع المسمعيّ يؤذيني كثيراً ويبلغني عنه ما أكره، وكان ملاصقاً لداري، فكتبت إلى أبي محمدعليه‌السلام أسأله الدعاء بالفرج عنه، فرجع الجواب:أبشِر بالفرج سريعاً، ويقدم عليك مال من ناحية فارس، وكان لي بفارس ابن عمّ تاجر لم يكن له وارث غيري فجاءني ماله بعد ما مات بأيّام يسيرة .

ــــــــــــ

(١) المناقب ٢ / ٤٦٩.

(٢) المناقب ٢ / ٤٧٠.

(٣) المناقب ٢ / ٤٧٠.

(٤) الثاقب: ٢٣١.

(٥) بحار الأنوار ٥٠ / ٢٦٩ عن الخرائج والجرائح: ١/٤٣٩ ح ١٨ ب ١٢.

(٦) بحار الأنوار ٥٠ / ٢٦٩ عن الخرائج والجرائح: ١/٤٣٩ ح ١٩ ب ١٢.

٨٣

١١ ـ ووقّع في الكتاب:استغفِر اللهَ وتُب إليه ممّا تكلّمت به ، وذلك أني كنت يوماً مع جماعة من النصّاب فذكروا أبا طالب حتى ذكروا مولاي، فخضت معهم لتضعيفهم أمره، فتركتُ الجلوس مع القوم وعلمت أنه أراد ذلك(١) .

١٢ ـ وروي عن الحجّاج بن يوسف العبدي قال: خلّفت ابني بالبصرة عليلاً وكتبت إلى أبي محمد أسأله الدعاء لابني فكتب إليّ:رحم الله ابنك إن كان مؤمناً ، قال الحجّاج: فورد عليّ كتاب من البصرة أنّ ابني مات في ذلك اليوم الذي كتب إليّ أبو محمد بموته، وكان ابني شكّ في الإمامة للاختلاف الذي جرى بين الشيعة(٢) .

ــــــــــــ

(١) مسند الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : ١١٨ وبحار الأنوار ٥٠ / ٢٧٣ عن الخرائج والجرائح: ١/٤٤٧ ح ٣٣ ب ١٢.

(٢) مسند الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : ١١٨ وبحار الأنوار ٥٠/٢٧٤ عن الخرائج والجرائح: ١/٤٨٨ ح٣٤ ب١٢.

٨٤

الباب الثالث

فيه فصول:

الفصل الأول: ملامح عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

الفصل الثاني: عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

الفصل الثالث: متطلّبات عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

الفصل الأول: ملامح عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

الحالة السياسية

امتاز العصر العبّاسي الثاني الذي بدأ بحكم المتوكل سنة(٢٣٢ هـ ) بالنفوذ الواسع الذي تمتع به الأتراك الذين غلبوا الخلفاء وسلبوهم زمام إدارة الدولة، وأساؤا التعامل مع الأهالي منذ أيام المعتصم الذي سبق المتوكّل إلى الحكم، وهذا الوضع قد اضطرّ المعتصم لنقل مركز حكمه من بغداد إلى سامراء بسبب السلوك التركي الخشن وشكاية أهالي بغداد منهم. كما اتّسم بضعف القدرة المركزية للدولة الإسلامية وفقدانها بالتدريج لهيبتها التي كانت قد ورثتها من العصر الأوّل، لأسباب عديدة منها انشغال الحكّام بملاذّهم وشهواتهم، ومنها سيطرة الموالي ـ ولا سيّما الأتراك ـ على مقاليد السياسة العامة بعد انهماك الحكّام بالملاهي.

وكانت سيطرة الأتراك وقوّادهم قد بلغت حدّاً لا مثيل له، إذ كان تنصيب الخلفاء وعزلهم يتمّ حسب إرادة هؤلاء القوّاد الأتراك، وأنتج تعدّد الإرادات السياسية وضعف الخلفاء ظاهرة خطيرة للغاية هي قِصر أعمار حكوماتهم وسرعة تبدّل الخلفاء وعدم استقرار مركز الخلافة الذي يمثّل السلطة المركزية للدولة الإسلامية.

وهذا الضعف المركزي قد أنتج بدوره نتائج سلبية أخرى مثل استقلال الأمراء في أطراف الدولة الإسلامية بالحكم والاتجاه نحو تأسيس دويلات شبه مستقلّة في شرق الدولة الإسلامية وغربها بل انتقلت هذه الظاهرة بشكل آخر إلى داخل الحاضرة الإسلامية فكانت من علائمها بروز حالات الشغب من قبل الخوارج باستمرار منذ سنة(٢٥٢ هـ ) إلى سنة(٢٦٢ هـ ).

٨٥

وظهور صاحب الزنج في سنة(٢٥٥ هـ )، فضلاً عن ثوّار علويين كانوا يدعون إلى الرضى من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سيّما بعد ما عرفناه من كراهة المتوكّل للعلويين وقتله للإمام الهاديعليه‌السلام ومراقبته الشديدة للإمام الحسن العسكريعليه‌السلام (١) .

الحالة الاجتماعية

تحدثنا فيما سبق عن الظرف السياسي وملابساته: من عدم الاستقرار وفقدان الأمن وذلك لتعدد الحركات السياسية والمذهبية، الخارجة على الدولة العباسية في مختلف الأمصار الإسلامية فضلاً عن دور الأتراك البارز في خلع وتولية الخليفة العباسي، وهذا دون شك ينعكس سلبياً على الظروف الاجتماعية التي كان يعيشها أبناء الأمة المسلمة ورعايا الدولة الإسلامية فينجم عنه توتّر في علاقة السلطة بالشعب، وعدم استقرار الوضع الاجتماعي نتيجة لذلك، كما أن اختلال الظروف السياسية يتسبب في التفاوت الاجتماعي وظهور الطبقية أو الفئات المتفاوتة في المستوى المعيشي والمتباينة في الحقوق والواجبات تبعاً لولائها وقربها أو بعدها من البلاط ورجاله، فانقسم أبناء الأمة وأتباع الدين الذي كان يركّز على الأخوة الإيمانية والمساواة والعدل والإنصاف(٢) ، إلى جماعة قليلة مترفة ومتمتعة بقوّة السلطان وأخرى واسعة ـ تمثل غالبية أبناء الأمة الإسلامية ـ وهي معدمة ومسحوقة أنهكها الصراع وزجّها في النّزاعات والحروب والتي ما تخمد إحداها حتى تتأجّج الثانية وتتسع لتشمل مساحة أوسع من أرض الدولة الإسلامية(٣) ،

ــــــــــــ

(١) راجع الكامل في التاريخ ومروج الذهب أحداث السنين(٢٣٢ ـ ٢٥٦ هـ ).

(٢) قال تعالى في سورة الحجرات الآية: ١٣( إنّما المؤمنون إخوة ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الناس سواسية كأسنان المشط المبسوط للسرخسي: ٥/٢٣، لسان الميزان: ٢/٤٣، باختلاف يسير.

(٣) الكامل لابن الأثير: ٤ أحداث السنين(٢٤٨ ـ ٣٢٢هـ ).

٨٦

ثم لتنفصل بعض أجزائها فتكون دولة مستقلة عن مركزية الدولة وغير خاضعة لها، وأطلق المؤرخون عليها مرحلة(إمرة الأمراء)(١) ، إضافة إلى الدولة المستقلة كما هو الحال بالنسبة لأمارة الحمدانيين والبويهيين والدولة الصفارية(٢٥٤هـ) والدولة السامانية(٢٦١ ـ ٣٨٩هـ) وغيرها... ممّا أدّى إلى تفكّك وسقوط الدولة العباسية فيما بعد سنة(٦٥٦هـ).

لقد كان المجتمع الإسلامي في أواخر العصر العباسي الأوّل يتألف من عدة عناصر. هي: العرب والفرس والمغاربة وظهر العنصر التركي أيضاً على مسرح السياسة في عهد المعتصم الذي اتّخذهم حرساً له، وأسند إليهم مناصب الدولة وأهمل العرب والفرس، ولما رأوا الخطر المحدق بهم من قبل الأتراك استعانوا بالمغاربة والفراغنة وغيرهم من الجنود المرتزقة.(٢)

كما نلاحظ انقسام المسلمين في هذا العصر إلى شيع وطوائف وتعرّض المجتمع الإسلامي إلى أنواع التنازع المذهبي المؤدي إلى التفكّك أيضاً، فهناك أهل السُنة الذين كانوا يشكلون السواد الأعظم ويتمتّعون بقسط وافر من الحرية المذهبية والطمأنينة النفسية في عهد نفوذ الأتراك، وهناك الشيعة الذين كانوا يقاسون كثيراً من العنت والاضطهاد.(٣)

وهذا لا يعني الالتزام الديني من قبل حكام الدولة العباسية بالمذهب السني بقدر ما يوضح لنا أن موقفهم هذا كان من أجل التصدي لحركة الأئمة في الأمة ومحاصرتها بمختلف الوسائل والطرق والتي منها: دعم ومساندة فرق وحركات تحمل توجهات السلطة وترى السلطة فيها استتباب الوضع لها ولا تخشى من تمرّدها. فهي تعيش على فتات موائدها وبذلها وبذخها لهم من أجل ديمومة الحكم واستمرار السلطة للخلفاء.

ــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي د. حسن إبراهيم حسن: ٣ / ٢٦ وما بعدها.

(٢) تاريخ الإسلام السياسي: ٣ / ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

(٣) تأريخ الإسلام السياسي: ٣ / ٤٢٣.

٨٧

ولم يكن هذا ليدوم بدخول العنصر التركي الذي كان يميل إلى البذخ والسيطرة وعدم الخضوع إلى سلطة الخليفة العباسي كما أوضحنا.

أما بالنسبة إلى التفكك الاجتماعي في هذا العصر فيمكن ملاحظته من خلال طبقات المجتمع في هذا العصر، وهي:

١ ـ طبقة الرقيق، وكانت مصر وشمالي أفريقية وشمالي جزيرة العرب من أهم أسواق الرقيق الأسود، وقد جُلب كثير من الزنجيات والزنوج لفلاحة الأرض وحراسة الدور. وإنّ كثرة الزنج في العراق أدّت إلى قيام ثورة الزنج التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة(٢٥٥ ـ ٢٧٠هـ).(١)

وكلفت هذه الثورة الدولة والاُمة الكثير من الأموال والدماء لإخمادها مما أسهم بشكل كبير في إضعافها.

٢ ـ أهل الذمة، وهم اليهود والنصارى، ولم تتدخل الدولة في شعائرهم بل على العكس كان يبلغ من تسامح الحكّام أنهم كانوا يحضرون مواكبهم واحتفالاتهم ويأمرون بحمايتهم.(٢)

٣ ـ رجال البلاط والملاّك وغيرهم ممن لهم نفوذ كبير في سياسة الدولة وتأثير واسع في الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

٤ ـ عامة الناس والذين أجهدتهم الضرائب والحروب والخلافات والمنازعات الداخلية.

٥ ـ ونشأت طبقة واسعة من الرقيق وغيرهم ـ من المغنيات ـ اللائي كن يُحيين ليالي اللهو للخلفاء، وغيرهم، وقد ارتفعت أسعارهن بشكل ملفت للنظر.(٣) مما أدى أخيراً إلى إضعاف العلاقة داخل البلاط نفسه بين البلاط وبين قواد الجيش من أتراك وغيرهم، فضلاً عن آثاره السلبية على المجتمع عامة

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ٧، أحداث السنين(٢٥٥ ـ ٢٧٠ هـ ).

(٢) الحضارة الإسلامية: ٢٦٨، راجع تاريخ الإسلام السياسي: ٣ / ٤٢٤.

(٣) تاريخ الإسلام السياسي: ٣ / ٤٣٥.

٨٨

الحالة الثقافية

انتشرت الثقافة الإسلامية في هذا العصر انتشاراً يدعو إلى الإعجاب بفضل الترجمة من اللغات الأجنبية وخاصة اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية.

والعامل الأول في ذلك هو حث الإسلام المسلمين على طلب العلم واعتباره فريضة على كل مسلم ومسلمة. كما حظي العلماء بتشجيع من الخلفاء والسلاطين والامراء ورجال العلم والأدب.

وكانت مراكز هذه الحركة الثقافية في بلاط السامانيين والغزنويين والبويهيين والحمدانيين في الشرق وفي بلاط الطولونيين والإخشيديين والفاطميين في مصر وفي بلاد الأمويين في الأندلس.

ويضاف إلى ذلك ظهور كثير من الفرق التي اتخذت الثقافة والعلم وسيلة لتحقيق مآربها السياسية.

وكان للجدل والنقاش الذي قام بين هذه الفرق من ناحية وبينها وبين العلماء الرسميين ـ أي فقهاء السلطة ـ من ناحية أخرى أثر كبير في هذه النهضة العلمية التي كان يتميز بها هذا العصر وخاصّة في القرن الرابع الهجري على الرغم مما انتاب العالم الإسلامي بوجه عام من تفكك وانحلال وما أصاب الدولة العباسية من ضعف ووهن(١) .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي: ٣ / ٣٣٢.

٨٩

الحالة الاقتصادية

اعتنى العباسيون بالزراعة وفلاحة البساتين التي قامت على دراسة علمية(١) . وذلك بفضل انتشار المدارس الزراعية التي كان لها الأثر الكبير في إنارة عقول المسلمين.

ولما كانت الزراعة تعتمد على الري، اهتم العباسيون بتنظيم أساليبه وجعل الماء مباحاً للجميع، ولذلك عملوا على تنظيمه في مصر والعراق واليمن وشمال شرقي فارس وبلاد ما وراء النهر، وبلغ هذا النظام شأواً بعيداً من الدقة، حتى أن الأوربيين أدخلوا كثيراً من هذه النظم في بلادهم.

واعتنت الدولة العباسية بصيانة السدود والترع، وجعلوا جماعة من الموظفين أطلق عليهم اسم(مهندسين) وكانت مهمتهم المحافظة على السدود عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام خشية انبثاق الماء منها فيما إذا حدث ثغر من الهدم والتخريب(٢) .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي: ٣ / ٣١٩ بتصرف.

(٢) تجارب الأمم لمسكويه: ٢ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧ بتصرف. وقال المعتزلي: الهندسة أصلها بالفارسية: أندازه اي المقدار والمهندس أي المقدِّر.

٩٠

الفصل الثاني: عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

لقد أمضى الإمام الحسن العسكري الجزء الأكبر من عمره الشريف في العاصمة العباسية ـ سامراء ـ وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف التي واجهت أباه الإمام علياً الهاديعليه‌السلام ، ثم تسلّم مركز الإمامة وقيادة الأمة الإسلامية سنة(٢٥٤هـ) بعد وفاة أبيهعليه‌السلام وعمره الشريف آنذاك(٢٢) عاماً.

وكانت مواقفه امتداداً لمواقف أبيهعليه‌السلام بوصفه المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده وراعياً لمصالحهم العقائدية والاجتماعية بالإضافة إلى تخطيطه وتمهيده لغيبة ولده الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام (١) .

وبالرغم من الضعف الذي كان قد أحاط بالدولة العباسية في عصر الإمامعليه‌السلام لكن السلطة القائمة كانت تضاعف إجراءاتها التعسفيّة في مواجهة الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام والجماعة الصالحة المنقادة لتعاليمه وإرشاداتهعليه‌السلام . فلم تضعف في مراقبته ولم تترك الشدة في التعامل معه بسجنه أو محاولة تسفيره إلى الكوفة خشية منه ومن حركته الفاعلة في الأمة وتأثيره الكبير فيها.

ــــــــــــ

(١) الأئمة الاثنا عشر: ٢٣٥، دار الأضواء، ١٤٠٤هـ.

٩١

ثم إن المواجهة من الإمام كقيادة للحركة الرسالية لم تكن خاصة بالخلفاء العباسيين الذين عاصرهم الإمامعليه‌السلام إذ كان هناك أيضاً خطر النواصب وهم الذين نصبوا العداء لأهل البيت النبويعليهم‌السلام ووقفوا ضد أطروحتهم الفكرية والسياسية المتميزة التي كانت تتناقض مع أطروحة الحكم القائم والطبقة المستأثرة بالحكم والمنحرفة عن الإسلام النبوي.(١)

والنواصب ـ الأمويون منهم أو العباسيون ـ كانوا يعلمون جيّداً أن أهل البيت النبوي هم ورثة النبي الحقيقيون، ولا يمكنهم أن يسيطروا على السلطة إلاّ بإبعاد أهل البيتعليهم‌السلام عن مصادر القدرة وذلك بتحديد الأئمة المعصومين وشيعتهم وشلّ حركتهم وعزلهم عن الأمة والتضييق عليهم بمختلف السبل وبما يتاح لهم من وسائل قمعية.

وقد يكون لطبيعة هذه الظروف والملابسات التي عانى منها الإمام العسكري وشيعته الدور الأكبر في ما كان يتّخذه الإمامعليه‌السلام من مواقف سلبية أو إيجابية إزاء الأحداث والظواهر التي منيت بها الأمة الإسلامية والتي ستعرفها فيما بعد.

لقد عاصر الإمام العسكريعليه‌السلام ثلاثة من خلفاء الدولة العباسية، فقد عاشعليه‌السلام شطراً من خلافة المعتز والذي هلك على أيدي الأتراك، ليخلفه المهتدي العباسي الذي حاول أن يتخذ من سيرة عمر بن عبد العزيز الأموي مثلاً يحتذي به إغراء للعامّة ولينقل أنظارهم المتوجهة صوب الإمام العسكريعليه‌السلام لزهده وتقواه وورعه، وما كان يعيشه من همومهم وآلامهم التي كانوا يعانونها من السلطة وتجاوزاتها في الميادين المختلفة.

ــــــــــــ

(١) الأئمة الاثنا عشر: ٢٣٥.

٩٢

ولم يفلح المهتدي بهذا السلوك لازدياد الاضطراب في دائرة البلاط العباسي نفسه مما أثار الأتراك عليه فقتلوه عام(٢٥٦هـ)، وقد اعتلى العرش العباسي من بعده المعتمد الذي استمر في الحكم حتى عام(٢٧٠ هـ )(١) .

١ ـ المعتز العباسي(٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ )

لقد ازداد نفوذ الأتراك بعد قتلهم المتوكل عام(٢٤٧هـ) وتنصيب ابنه المنتصر بعده، حتى أن الخليفة العباسي أصبح مسلوب السلطة ضعيف الإرادة ويتضح ذلك مما رواه ابن طباطبا حيث قال:

«.. لما جلس المعتز على سرير الخلافة فقد حضر خواصه وأحضروا المنجّمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة، وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته، فقالوا: فكم تقول أنه يعيش وكم يملك ؟ قال: مهما أراد الأتراك، فلم يبق أحد إلاّ ضحك»(٢) .

يعكس لنا هذا النص ما كان للأتراك من نفوذ ودور في إرادة الدولة وعزل الخلفاء والتحكّم في الأمور العامة. فقد استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في أيديهم كالأسير إن شاءوا خلعوه وإن شاءوا قتلوه، وكان المعتز يخاف الأتراك ويخشى بأسهم ولا يأمن جانبهم وكان بُغا الصغير ـ وهو أشدّ هؤلاء خطراً ـ أحد قوّاد الجيش الذي أسهم في قتل المعتز مع جماعة من الأتراك بعد أن أشهدوا عليه بأنه قد خلع نفسه.

ــــــــــــ

(١) الفخري في الآداب السلطانية، ابن طباطبا: ٢٢١.

(٢) الفخري في الآداب السلطانية: ٢٢١.

٩٣

لقد عاصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام أواخر خلافة المعتز الذي كان استشهاد الإمام الهاديعليه‌السلام على يده بدس السمّ إليه فكانت سياسة المعتز امتداداً لسياسة المتوكّل في محاربة الإمام الحسن العسكري ـ والشيعة ـ بل ربما ازدادت ظروف القهر في هذه الفترة حتى أنّ المعتز أمر بتسفير الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام إلى الكوفة حين رأى خطر وجود الإمامعليه‌السلام واتّساع دائرة تأثيره وكثرة أصحابه.

قال محمّد بن بلبل: تقدّم المعتز إلى سعيد الحاجب أن أخرج أبا محمد إلى الكوفة ثم اضرب عنقه في الطريق(١) .

وكتب إلى الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام أبو الهيثم ـ وهو أحد أصحاب الإمامعليه‌السلام ـ يستفسر عن أمر المعتز بإبعاده إلى الكوفة قائلاً:

«جُعلت فداك بلغنا خبرٌ أقلقنا وبلغ منا»، فكتب الإمامعليه‌السلام : «بعد ثلاث يأتيكم الفرج» فخلع المعتز بعد ثلاثة أيام وقتل(٢) .

فلم تكن العلاقة بين الإمامعليه‌السلام والمعتز إلاّ تعبيراً عن الصراع والعداء الذي ابتدأ منذ أن استلم بنو العبّاس الخلافة بعد سقوط الدولة الاُموية وامتدّ على طول عمر الدولة إلاّ في فترات قصيرة جدّاً، فكان كيد السلطة ورصدها لتحرّك الإمامعليه‌السلام دائماً ومستمراً وذلك لما عرفه الخلفاء من المكانة السامية والدور الفاعل للأئمّة في الأمة وما كانوا يخشونه منهم على سلطتهم وكيانهم الذي أقاموه بالسيف والدم على جماجم الأبرياء والأتقياء من أبناء الأمة الإسلامية.

ويروي لنا محمد بن علي السمري توقّع الإمام الحسن العسكري هلاك المعتزّ قائلاً: «دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله وبين يديه رقعة أبي محمد ـ العسكري ـعليه‌السلام ، فيها:إني نازلت الله في هذا الطاغي يعني الزبيري ـ لقب المعتز ـوهو آخذه بعد ثلاث، فلما كان في اليوم الثالث فعل به ما فعل »(٣) فقد قتل شرّ قتلة.

ويصف ابن الأثير قتل المعتز الذي ورد في هذه العبارة قائلاً عنه:

ــــــــــــ

(١) كشف الغمة: ٣/٢٠٦.

(٢) الخرائج والجرائح: ١/٤٥١ ح ٣٦.

(٣) كشف الغمة: ٣/٢٠٧ عن كتاب الدلائل.

٩٤

«دخل إليه جماعة من الأتراك فجرّوه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس في الدار، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى لشدّة الحر، وكان بعضهم يلطمه وهو يتّقي بيده وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وولده وأخته الأمان، وسلّموا المعتز إلى من يعذّبه، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيّام، فطلب حسوة من ماء البئر فمَنَعَه ثم أدخلوه سرداباً وسدّوا بابه، فمات»(١) .

وكان سبب خلعه أنه منع الأتراك أرزاقهم ولم يكن لديه من المال وقد تنازلوا له إلى خمسين ألف دينار، فأرسل إلى أمه يسألها أن تعطيه مالاً فأرسلت إليه: «ما عندي شيء»، فتآمروا عليه وقتلوه.

وهذه القصة خير مؤشّر على ضعف السلطة العباسية وخروج الأمر من يد الخليفة، فالكتّاب المسؤولون على الأموال يتصرّفون بها كيف ما كانوا يشاءون ولا يطيعون الخليفة في شيء فكانت تلك النهاية المخزية للمعتز على أيدي أعوانه، وحرّاسه من الأتراك.

٢ ـ المهتدي العباسي(٢٥٥ـ ٢٥٦ هـ )

هو محمد بن الواثق بن المعتصم، أمه أم ولد تسمى وردة، ولي الخلافة بعد مقتل أخيه المعتز سنة(٢٥٥هـ)، وما قبل أحد ببيعته حتى جيء بالمعتزّ واعترف أمام شهود أنه عاجز عن الخلافة ومدّ يده فبايع المهتدي فارتفع حينئذ إلى صدر المجلس(٢) ، وبويع بالخلافة.

ــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٧/١٩٥، ١٩٦.

(٢) تاريخ الخلفاء، السيوطي: ٤٢٢.

٩٥

ولقد تصنّع الزهد والتقشّف محتذياً سيرة عمر بن عبد العزيز إغراء للعامة ومحاولة لتغيير انطباعهم عن الخلفاء العباسيين الذين عُرفوا بالمجون والترف والإسراف في الملذّات والخمر ومجالس اللهو، فقد نقل هاشم بن القاسم حينما سأل المهتدي عن ما هو عليه من التقشّف وبما هو فيه من النعمة فقال له: إنّ الأمر كما وصفت، ولكنّي فكّرت في أنه كان في بني أمية عمر ابن عبد العزيز ـ وكان من التقلّل والتقشّف ما بلغك ـ فغرتُ على بني هاشم فأخذت نفسي بما رأيت(١) .

فلم تكن الدوافع وراء هذه السيرة رضا الله سبحانه بل كانت هذه السيرة لإضفاء شيء من صبغة التديّن على نفسه من أجل أن تطيعه عامة الناس ومحاولة لإبعاد أنظارها عما تحلّى به بنو هاشم وفي مقدّمتهم الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام الذي عُرف بتقواه وورعه ومواساته للأمة في ظروفها القاسية، وكان الأولى بالخليفة الاتعاظ بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام لما عرف بزهده وتقواه بل هو الذي سنَّ نهج الزهد للمسلمين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن عمر بن عبد العزيز نفسه حين سأله جلساءه عن أزهد الناس، فقالوا له: أنتم، قال: لا:إن أزهد الناس عليّ بن أبي طالب (٢) .

سياسة المهتدي تجاه معارضيه

أ ـ الخليفة وأمراء الجند:

كانت سياسة المهتدي تجاه الأتراك تتمثل بالحذر والحيطة والخشية من انقلابهم عليه كما فعلوا بالمتوكل والمعتز، لذا أمر بقتل موسى ومفلح من أمراء جنده الأتراك الذين كانوا يتمتّعون بنفوذ كبير وتأثير فاعل في مجريات الأحداث، غير أن(بكيال) الذي أمره المهتدي بقتلهما

ــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء: ٤٢٣.

(٢) تاريخ الطبري: ٣ حوادث(٩١ ـ ١٠١ هـ ) وهي خلافة عمر بن عبد العزيز.

٩٦

توقّف عن قتل موسى بن بغا، لإدراكه أن للمهتدي خطة للحد من نفوذ الأتراك وتقليص الدور الذي كانوا يتمتعون به، وقال بكيال: إنّي لست أفرح بهذا وإنما هذا يعمل علينا كلنا، فأجمعوا على قتل المهتدي فكان بين الأتراك ومناصري الخليفة قتال شديد وقُتل في يوم واحد أربعة آلاف من الأتراك ودام القتال إلى أن هزم جيش الخليفة المؤلّف من المغاربة والفراغنة والأشروسنية، ومن ثم اُمسك الخليفة فعصر على خصيتيه فمات في عام(٢٥٦ هـ )(١) .

ومن الأحداث المهمة في عصر المهتدي:

١ ـ انتفاضة أهل حمص بقيادة ابن عكار على محمد بن إسرائيل.

٢ ـ إخراجه أم المعتز وأبا أحمد وإسماعيل ابني المتوكل وابن المعتزّ إلى مكّة ثم ردّهم إلى العراق.

٣ ـ نفي وإبعاد بعض الشيعة من بلدانهم إلى بغداد كما فعل بجعفر ابن محمود.

٤ ـ إعطاؤه الأمان لمعارضيه.

٥ ـ الحرب بين عيسى بن شيخ الربعي وأماجور التركي عامل دمشق وهزيمة الأول(٢) .

ب ـ المهتدي وأصحاب الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام :

لم تكن الظروف المحيطة بالإمام العسكري وأصحابه في عهد المهتدي أحسن مما كانت عليه من الشدة والنفي والتهجير والقتل إبّان عهود المعتز والمتوكل ومن سبقهما

ــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء، السيوطي: ٤٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٥٠٥، ٥٠٦.

٩٧

من خلفاء الدولة العباسية، بل كانت سياسة المهتدي امتداداً للمنهج العباسي في التصديّ للإمام وشيعته وخاصته والنكاية بهم، والتجسس عليهم ومصادرة أموالهم ومطاردتهم.

لقد قاسى الشيعة والإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في عهد المهتدي الكثير من الظلم والتعسّف، ويمكن أن نقف على ذلك من خلال ما رواه أحمد بن محمد حيث قال: كتبت إلى أبي محمدعليه‌السلام ـ حين أخذ المهتدي في قتل الموالي ـ ياسيدي الحمد لله الذي شغله عنك، فقد بلغني أنّه يتهدّدك ويقول: «والله لأخلينّهم عن جديد الأرض» فوقّع أبو محمدعليه‌السلام بخطه:«ذاك أقصر لعمره، وعد من يومك هذا خمسة أيّام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف بموته» ، فكان كما قالعليه‌السلام ، وقد سبق أن أوضحنا ذلك(١) .

ومن مظاهر اضطهاد الشيعة ومصادرة أملاكهم وأموالهم ما روي عن عمر بن أبي مسلم حيث قال: قدم علينا(بسرّ من رأى) رجل من أهل مصر يقال له سيف بن الليث يتظّلم إلى المهتدي في ضيعة له قد غصبها إياه شفيع الخادم وأخرجه منها، فأشرنا عليه أن يكتب إلى أبي محمدعليه‌السلام يسأله تسهيل أمرها، فكتب إليه أبو محمدعليه‌السلام :«لا بأس عليك ضيعتك تردّ عليك فلا تتقدّم إلى السلطان وألق الوكيل الذي في يده الضيعة وخوّفه بالسلطان الأعظم الله ربّ العالمين» ، فلقيه، فقال له الوكيل الذي في يده الضيعة قد كُتب إليّ عند خروجك من مصر أن أطلبك وأردّ الضيعة عليك، فَرَدَّها عليه بحكم القاضي ابن أبي الشوارب وشهادة الشهود ولم يحتج إلى أن يتقدّم إلى المهتدي(٢) .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥١٠ ح ١٦ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٣١ وفي إعلام الورى: ٢/١٤٤، ١٤٥ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٤.

(٢) أصول الكافي: ١/٥١١ ح ١٨.

٩٨

ويمكن الاستدلال من خلال النص على اتساع القاعدة الشعبية للإمامعليه‌السلام وصلته بهم وعمق الأواصر التي كانت تصله بهم، فهو يتفقّد ما يحتاجونه، ويساهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قضاء حوائجهم، وإن لبعض أصحابه في الأمصار تأثيراً وعلائق بالولاة ومن يديرون الأمور في الولايات، فكانت أخبار شيعته تصله أوّلاً بأول، ويحاول إبعادهم عن الوقوع في حبائل السلطان وشركه كما في قصة سيف بن الليث المصري.

ج ـ سجن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام :

ولما رأى المهتدي أنّ وسائل النفي والإبعاد والمصادرة، لم تكن لتحدّ من نشاط الإمامعليه‌السلام وشيعته، واتّساع حركته، لما كان لتعليمات الإمامعليه‌السلام ورقابته لشيعته من أثر في إفشال محاولات السلطة العباسيّة لم تجد السلطة بُدّاً من اعتقال الإمامعليه‌السلام والتضييق عليه في السجن، وكان المتولي لِسجنه صالح بن وصيف الذي أمر المهتدي موسى بن بغا التركي بقتله، وقد جاءه العباسيّون إبان اعتقال الإمامعليه‌السلام فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع، فقال صالح: «ما أصنع به قد وكّلت به رجلين، شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم»، ثمّ أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ ـ يعني الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ـ فقالا له: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة فإذا نظر إلينا أرعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا فلمّا سمع العباسيّون ذلك انصرفوا خائبين(١) .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٥١٢ ح ٢٣ وعنه في الإرشاد: ٢/٣٣٤ وفي إعلام الورى: ٢/١٥٠ وعن الإرشاد في كشف الغمة: ٣/٢٠٤.

٩٩

لقد كان المهتدي يهدّد الإمام بالقتل وقد بلغ النبأ بعض أصحاب الإمامعليه‌السلام فكتب إليه: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنك فقد بلغني أنه يتهددك. وذلك حين انشغل المهتدي بفتنة الموالي، وعزم على استئصالهم. وهنا نجد الإجابة الدقيقة من الإمامعليه‌السلام حول مستقبل المهتدي حيث كتب الجواب ما يلي:ذاك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمرّ به (١) . وكان كما قال فقد انهزم جيشه ودخل سامراء وحده مستغيثاً بالعامة منادياً يامعشر المسلمين: أنا أمير المؤمنين قاتلوا عن خليفتكم، فلم يجبه أحد(٢) .

وقال أبو هاشم الجعفري: كنت محبوساً مع الحسن العسكري في حبس المهتدي بن الواثق فقال لي:في هذه الليلة يبتر الله عمره ، فلمّا أصبحنا شغب الأتراك وقُتل المهتدي وولّي المعتمد مكانه (٣) .

٣ ـ المعتمد ابن المتوكل العبّاسي(٢٥٦ ـ ٢٧٩ هـ )

وعاصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام بعد المعتزّ والمهتدي، المعتمد العباسي، الذي انهمك في اللهو واللّذات واشتغل عن الرعيّة فكرهه الناس وأحبّوا أخاه طلحة(٤) .

وكان المعتمد ضعيفاً يعمل تحت تأثير الأتراك الذين يديرون أمور الحكم، ويقومون بتغيير الخلفاء والأمراء، وقد صوّر المعتمد نفسه هذا

ــــــــــــ

(١) إعلام الورى: ٣٥٦.

(٢) الكامل في التاريخ: ٥/٣٥٦.

(٣) المناقب: ٢/٤٦٢.

(٤) تاريخ الخلفاء، السيوطي: ٤٢٥.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611