الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي9%

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 611

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177469 / تحميل: 7811
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

والمؤانسة وموضع السكون إليها قضاء اللذة) (1) .

وحسن التعامل يكون بالسيرة الحسنة معها، والرفق بها وإسماعها الكلمات الجميلة، وتكريمها ووضعها بالموضع اللائق بها، واعتبارها شريكة الحياة، وإشباع حاجاتها المادية والروحية، والتعامل معها كإنسانة أكرمها الإسلام، وإشاعة جو المنزل بالسرور والبشاشة والمودّة والرحمة، وإدخال الفرحة على قلبها، والحفاظ على أسرارها، إلى غير ذلك من التعاليم التي أكّد عليها الإسلام، ومنها مساعدتها في بعض شؤون البيت التي لا تستطيع انجازها، والصبر على بعض أخطائها ومساوئها التي لا تؤثّر على نهجها الإسلامي، والتفاهم في حلّ المشكلات اليومية بأُسلوب لا يثير غضبها، وتجنّب كلّ ما يؤدّي إلى الإضرار بصحّتها النفسية كالغيرة في غير مواضعها، والتعبيس في وجهها أو ضربها أو هجرها أو التقصير في حقوقها (2) .

فإذا حسنت المعاملة معها، حسنت حالتها النفسية والروحية وانعكست على الجنين.

____________________

(1) تحف العقول، للحرّاني: 188 ـ المطبعة الحيدرية النجف 1380 هـ ط5.

(2) إرشاد القلوب: 175، مكارم الأخلاق 245، الكافي 5: 511، المحجّة البيضاء 3: 19.

٤١

٤٢

الفصل الثالث

المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد الولادة

وهي المرحلة التالية لمرحلة الحمل مباشرة، وتعتبر أول محيط اجتماعي يحيط بالطفل؛ لأنّها الأساس في البناء الجسدي والعقلي والاجتماعي للطفل، ولها تأثيرها الحاسم في تكوين التوازن الانفعالي والنضوج العاطفي؛ ولذلك ركّز المنهج الإسلامي على إبداء عناية خاصة بالطفل في هذهِ المرحلة، متمثّلة بالقيام بالأعمال التالية:

أولاً: مراسيم الولادة:

تبدأ مراسيم الولادة منذ اليوم الأول إلى اليوم السابع من الولادة، للحفاظ على صحّة الطفل الجسدية والنفسية معاً، فأول عمل يقوم به الوالدان هو إسماع الطفل اسم الله تعالى، فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مَن وُلد له مولود فليؤذّن في أُذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليُقم في اليسرى فإنّها عصمة من الشيطان الرجيم) (1) .

____________________

(1) الكافي 6: 24 | 6 باب ما يفعل بالمولود.

٤٣

ولأهمية الأذان والإقامة في أُذن الطفل؛ أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ضمن وصايا عديدة: (يا علي إذا وُلد لك غلام أو جارية، فأذّن في أُذنه اليمنى وأقم في اليسرى، فإنّه لا يضرّه الشيطان أبداً) (1) .

والعصمة من الشيطان هي تحصين للطفل من الانحراف بتقوية الإرادة. وهذه الوصايا وإن لم يبحثها علماء النفس وعلماء التربية المعاصرون، ولكنّها من الحقائق التي أثبتتها التجارب المتكرّرة لمَن طبّقها في منهجه التربوي، مع مراعاة الوصايا الأُخرى في جميع مراحل الطفولة.

ويستحب تسمية الوليد بأحسن الأسماء، ولا أحسن من اسم محمد وهو اسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (لا يولد لنا ولد إلاّ سميّناه محمداً، فإذا مضى لنا سبعة أيام فإن شئنا غيّرنا وإن شئنا تركنا) (2) .

وأكدّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على هذهِ التسمية بقوله: (من وُلد له أربعة أولاد لم يسمِّ أحدهم باسمي فقد جفاني) (3) .

وكان الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) يحثّون المسلمين على تسمية أبنائهم وبناتهم بالأسماء التالية: (عبد الرحمان ـ وباقي أسماء العبودية لله ولصفاته: محمد، أحمد، علي، الحسن، الحسين، جعفر، طالب،

____________________

(1) تحف العقول: 17.

(2) الكافي 6: 18 | 4 باب الأسماء والكنى.

(3) الكافي 6: 19 | 6 باب الأسماء والكنى.

٤٤

فاطمة) (1) .

ولم يشجّعوا على الأسماء التالية: (الحكم، حكيم، خالد، مالك، حارث) (2) .

والأسماء الحسنة تحصّن الطفل من السخرية والاستهزاء من قِبل الآخرين، فلا تكون سبباً للشعور بالنقص كما هو الحال في الأسماء المستهجنة.

ومن مراسيم الولادة العقيقة، وهي ذبح شاة في المناسبة، وحلق رأس الطفل كما جاء في قول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (عقّ عنه، واحلق رأسه يوم السابع، وتصدّق بوزن شعره فضّة) (3) .

والعقيقة التي هي مصداق للصدقة تمنع من البلاء، وتقي الطفل من المخاطر، ولعلّ فيها آثار نفسية حسنة للطفل حينما يترعرع ويفهم أنّ والديه قد اعتنوا به في ولادته، وهي ذكرى حسنة عند مَن وصلته تلك العقيقة أو بعضها.

ومن مراسيم الولادة الختان، قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (اختنوا أولادكم لسبعة أيام فإنّه أطهر وأسرع لنبات اللحم...) (4) .

____________________

(1) الكافي 6: 19 باب الأسماء والكنى.

(2) الكافي 6: 21 باب الأسماء والكنى.

(3) الكافي 6: 27 | 1 باب أنّه يعق يوم السابع للمولود.

(4) الكافي 6: 34 | 1 باب التطهير.

٤٥

ثانياً: التركيز على حليب الأُم

الحليب هو المصدر الأساسي والوحيد لتغذية الطفل في الأشهر الأُولى من حياته، وأفضل الحليب حليب الأُم؛ لأنّ عملية الرضاعة لها تأثيرها على الجانب العاطفي للطفل، والأُم أفضل من تمنحه الحنان والدفء العاطفي، بدافع غريزة الأُمومة التي أودعها الله تعالى في المرأة، حيثُ (تصب ركائز مشاعر الطفل وأحاسيسه من أُولى أيام الرضاع) (1) .

وتتوثّق أواصر المحبّة بين الطفل وأُمّه عن طريق الرضاعة، فيكون الطفل أقل توتّراً وأهنأ بالاً وأسعد حالاً (2) .

وجاءت روايات أهل البيت (عليهم السلام) ووصاياهم مؤكّدة على التركيز على حليب الأُم، قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (ما من لبنٍ يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه) (3) .

فحليب الأُم أفضل غذاءً للطفل من الناحية العلمية، إضافة إلى أنَّ عملية الرضاعة يشعر الطفل من خلالها بالأمان والطمأنينة والرعاية، وفي الحالات الاستثنائية التي تعيق عملية الرضاعة بسبب قلّة حليب الأُم أو مرضها أو فقدانها بطلاق أو موت، أكدّ أهل البيت (عليهم السلام) على اختيار المرضعة المناسبة والملائمة ضمن مواصفات معيّنة، قال أمير

____________________

(1) الطفل بين الوراثة والتربية، لمحمد تقي الفلسفي 2: 82 عن كتاب عقدة الحقارة 9.

(2) قاموس الطفل الطبّي: 11 ـ 16.

(3) الكافي 6: 40 | 1 باب الرضاع.

٤٦

المؤمنين (عليه السلام): (انظروا مَن ترضع أولادكم فإنّ الولد يشبُّ عليه) (1) .

فالحليب ونوعيّة المرضعة يؤثّر على الطفل من ناحية نموّه الجسدي والنفسي. وقد أثبتت التجارب صحّة تعاليم أهل البيت في هذا المجال.

وهنالك مواصفات عند المرضعة حبّذها أهل البيت (عليهم السلام) في الاختيار.

قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (استرضع لولدك بلبن الحسان، وإيّاك والقباح فإنّ اللبن قد يعدي) (2) .

وقال: (عليكم بالوضاء من الظّؤرة فان اللبن يعدي) (3) .

وجاء النهي عن استرضاع الطفل عند بعض المرضعات، فنهى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن الاسترضاع عند المجوسية، فعن عبد الله بن هلال قال: سألته عن مظائرة المجوسي، فقال: (لا، ولكن أهل الكتاب) (4) .

وجعل الاسترضاع من الكتابيات مشروطاً بمنعهنّ من شرب الخمر: فقال (عليه السلام): (إذا أرضعن لكم فامنعوهنّ من شرب الخمر) (5) .

وعن علي بن جعفر، عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل المسلم، هل يصلح له أن يسترضع اليهودية والنصرانية وهنّ يشربن الخمر؟ قال: (امنعوهنّ من شرب الخمر، ما أرضعن لكم) (6) .

____________________

(1) الكافي 6: 44 | 1 مَن يكره لبنه ومَن لا يكره.

(2) الكافي 6: 44 | 12 باب مَن يكره لبنه ومَن لا يكره.

(3) الكافي 6: 44 | 13 باب مَن يكره لبنه ومَن لا يكره. الوضاءة: الحسن والنظافة.

(4) الكافي 6: 42 | 2 باب مَن يكره لبنه ومَن لا يكره.

(5) الكافي 6: 42 | 3 باب مَن يكره لبنه ومَن لا يكره.

(6) وسائل الشيعة 21: 465 | 7 باب 76 من كتاب النكاح.

٤٧

ونهى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) من الاسترضاع من المرأة الزانية، والتي تكوّن لبنها بسبب الزنا، فقال: (لا تسترضعها ولا ابنتها) (1) .

وقال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (لبن اليهودية والنصرانية والمجوسية أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا) (2) .

والحكمة في النهي هو تأثير اللبن على طباع الطفل، فالمرأة الزانية تعيش حالة القلق والاضطراب النفسي والشعور بالإثم والخطيئة من أول يوم انعقاد الجنين، وتبقى على هذه الحالة في جميع فترات الحمل وفي أثناء الولادة، وهذا القلق والاضطراب يؤثّر في التوازن الانفعالي للطفل.

وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالوقاية من لبن البغيّة والمجنونة فقال: (توقّوا على أولادكم من لبن البغيّة والمجنونة فإنّ اللبن يعدي) (3) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ الولد يشبّ عليه) (4) .

وقال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (إنّ عليّاً كان يقول: لا تسترضعوا الحمقاء، فإنّ اللبن يغلب الطباع) (5) .

ويؤكّد علماء الطب على أن تكون الأُم مستريحة وهي تقوم بعملية الرضاعة، ثم تمس برفق وجنة الطفل، ويجب ألاّ تحاول الأُم إرغامه على

____________________

(1) الكافي 6: 42 | 1 باب مَن يكره لبنه ومَن لا يكره.

(2) الكافي 6: 42 | 5 باب مَن يكره لبنه ومَن لا يكره.

(3) مكارم الأخلاق: 223.

(4) مكارم الأخلاق: 237.

(5) مكارم الأخلاق: 237.

٤٨

توجيه رأسه نحو ثديها؛ لأنّ ذلك يربكه ويحيّره (1) .

ووضع أهل البيت (عليهم السلام) برنامجاً في أُسلوب الرضاعة ومدّتها، وهو الرضاع من جهتين، وإطالة مدّتها إلى واحد وعشرين شهراً، قال الإمام جعفر الصادق لأُمّ إسحاق بنت سليمان: (يا أمّ إسحاق لا ترضعيه من ثديٍ واحدٍ وأرضعيه من كليهما يكون أحدهما طعاماً والآخر شراباً) (2) .

وقال (عليه السلام): (الرضاع واحد وعشرون شهراً فما نقص فهو جور على الصبي) (3) .

فطول مدة الرضاعة له تأثير ايجابي على الوضع النفسي والعاطفي للطفل، وهي أهم المراحل في البناء العاطفي للطفل حيثُ تحتضن الأُم طفلها وتضمّه إلى صدرها، فيشعر بالحنان المتواصل والدفء العاطفي، وفي هذا الصدد تقول عالمة النفس لويز كابلان: (إنّ الطفل الذي ينعم بحنان أُمّه المتدفّق خلال العام الأول والثاني من عمره يشعر بالأمان، وعادة لا يشعر بالقلق أو الخوف فيتصرّف بتلقائية عندما يبلغ سن الثالثة أو الرابعة، والطفل الذي يشعر بالطمأنينة يتمتّع بالثقة بالنفس ويتعامل مع الآخرين بسهولة، ويندمج مع الأطفال في مثل عمره) (4) .

ومناغاة الطفل في هذه المرحلة ضرورية للطفل، تؤثّر على نموّه اللغوي ونموّه العاطفي في المستقبل، فكانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تناغي الحسن (عليه السلام) وتقول:

(أشبه أباك يا حسن

واخلع عن الحق الرّسن

____________________

(1) قاموس الطفل الطبّي: 33.

(2) الكافي 6: 40 | 2 باب الرضاع.

(3) الكافي 6: 40 | 3 باب الرضاع.

(4) قاموس الطفل الطبّي: 257.

٤٩

واعبد إلهاً ذا منن

ولا توالِ ذا الإحن)

وكانت تناغي الحسين (عليه السلام):

(أنتَ شبيهٌ بأبي

لستَ شبيهاً بعلي) (1)

وأكدّ أهل البيت (عليهم السلام) كما تقدّم على إقامة علاقات المودّة والحب بين الوالدين، وتجنّب المشاكل التي تؤثّر على الصحّة النفسية لكليهما وللأُم على وجه الخصوص، لانعكاس انفعالاتها المتشنّجة واضطرابها النفسي على الطفل في مرحلة الرضاعة. وفي هذه المرحلة أوصى أهل البيت (عليهم السلام) بالاهتمام بغذاء الأُم، المصدر الأساسي لتكوين الحليب من حيثُ الكمّيّة والنوعية، وكان التركيز على التمر في إطعام الأُم لتأثيره على الرضيع، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ليكن أول ما تأكل النفساء الرّطب..) قيل: يا رسول الله، فإن لم يكن أوان الرطب؟ قال: (سبع تمرات من تمر المدينة، فإن لم يكن فسبع تمرات من تمر أمصاركم) (2) .

وأوصى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بأكل أحد أنواع التمر وهو البرني فقال: (اطعموا البرني نساءكم في نفاسهنّ تحلم أولادكم) (3) .

وفي رواية عنه (عليه السلام): (اطعموا نساءكم التمر البرني في نفاسهنّ تجمّلوا أولادكم) (4) .

ووضع أهل البيت (عليهم السلام) لائحة بالمواد الغذائية المهمّة في النمو

____________________

(1) بحار الأنوار 43: 286.

(2) الكافي 6: 22 | 4 باب ما يستحب أن تطعم الحبلى.

(3) الكافي 6: 22 | 5 ما يستحب أن تطعم الحبلى.

(4) مكارم الأخلاق: 169.

٥٠

والصحّة (1) .

فخبز الشعير وقاية من الأمراض، وسويق الحنطة ينبت اللحم ويشد العظم ويسهّل الهضم، وسويق العدس يسكّن هيجان الدم ويقلّل من حرارة الجسم، واللحوم وخصوصاً لحم الدرّاج يقلّل من الغضب، والهريسة تنشّط الجسم وتمنحه الحيوية، والزيتون يطرد الرياح، والعنب يقلّل الغضب، والسفرجل يقوّي القلب، والخس يصفّي الدم، كما أكّدوا على العسل والبيض واللبن وسائر أنواع الفواكه. وتنتقل فوائد هذه المواد الغذائية من الأُم إلى الطفل عن طريق الحليب المتكوّن منها.

وخلاصة القول يجب الاهتمام بالاسترضاع من حليب الأُم، فإذا تعذّر فيجب اختيار المرضعة المؤمنة السالمة من الإمراض الجسدية والنفسية، وإذا تعذّر فتسترضع غير المؤمنة، بشرط منعها من شرب الخمر وكل ما يضرّ بصحّة الطفل، والاهتمام بالصحّة النفسية للاأُم والاهتمام بصحّتها الجسدية، وإشباع حاجتها إلى الطعام الضروري في إنتاج الحليب النقي والغني بالمواد الغذائية الضرورية؛ لينعكس ذلك ايجابياً على صحّة الطفل النفسية والجسدية.

____________________

(1) الكافي 6: 305 وما بعدها.

٥١

٥٢

الفصل الرابع

المرحلة الثالثة: مرحلة الطفولة المبكِّرة

تبدأ مرحلة الطفولة المبكّرة من عام الفطام إلى نهاية العام السادس أو السابع من عمر الطفل، وهي من أهم المراحل التربوية في نمو الطفل اللغوي والعقلي والاجتماعي، وهي مرحلة تشكيل البناء النفسي الذي تقوم عليه أعمدة الصحّة النفسية والخلقية، وتتطلّب هذه المرحلة من الأبوين إبداء عناية خاصة في تربية الأطفال، وإعدادهم؛ ليكونوا عناصر فعّالة في المحيط الاجتماعي، وتتحدد معالم التربية في هذه المرحلة ضمن المنهج التربوي التالي:

أولاً: تعليم الطفل معرفة الله تعالى

الطفل مجبول بفطرته على الإيمان بالله تعالى، حيثُ تبدأ تساؤلاته عن نشوء الكون، وعن نشوئه ونشوء أبويه، ونشوء مَن يحيط به، وأنّ تفكيره المحدود مهيّأ لقبول فكرة الخالق والصانع، فعلى الوالدين استثمار تساؤلاته لتعريفه بالله تعالى الخالق في الحدود التي يتقبّلها تفكيره المحدود، والإيمان بالله تعالى كما يؤكّده العلماء سواء كانوا علماء دين أو علماء نفس (من أهم القيم التي يجب غرسها في الطفل.. ممّا سوف

٥٣

يعطيه الأمل في الحياة والاعتماد على الخالق، ويوجد عنده الوازع الديني الذي يحميه من اقتراف المآثم) (1) .

والتربية والتعليم في هذه المرحلة يفضّل أن تكون بالتدريج ضمن منهج متسلسل، متناسباً مع العمر العقلي للطفل، ودرجات نضوجه اللغوي والعقلي، وقد حدّد الإمام محمد الباقر (عليه السلام) تسلسل المنهج قائلاً:

(إذا بلغ الغلام ثلاث سنين يقال له: قُلْ لا إله إلاّ الله سبع مرّات، ثم يُترك حتى تتم له ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرون يوماً فيقال له: قُلْ محمد رسول الله سبع مرّات، ويُترك حتى يتم له أربع سنين ثم يقال له: قُلْ سبع مرّات صلّى الله على محمد وآله، ثم يُترك حتى يتم له خمس سنين، ثم يقال له: أيّهما يمينك وأيُّهما شمالك؟ فإذا عرف ذلك حوّل وجهه إلى القبلة ويقال له: اسجد، ثم يُترك حتى يتم له سبع سنين، فإذا تمّ له سبع سنين قيل له اغسل وجهك وكفّيك، فإذا غسلهما قيل له صلِّ، ثم يُترك، حتى يتم له تسع سنين، فإذا تمّت له تسع سنين عُلّم الوضوء وضُرب عليه وأُمر بالصلاة وضُرب عليها، فإذا تعلّم الوضوء والصلاة غفر الله عز وجلّ له ولوالديه إن شاء الله) (2) .

وقد أثبت علم النفس الحديث صحّة هذا المنهج (2 ـ 3 سنوات، يكتسب كلام الطفل طابعاً مترابطاً ممّا يتيح له إمكانية التعبير عن فهمه لكثير من الأشياء والعلاقات... وفي نهاية السنة الثالثة يصبح الطفل قادراً على استخدام الكلام وفق قواعد نحوية ملحوظة، وهذا يمكنه من صنع

____________________

(1) قاموس الطفل الطبّي: 294.

(2) مَن لا يحضره الفقيه، للصدوق 1: 182 | 3 باب الحد الذي يُؤخذ فيه الصبيان بالصلاة ـ دار التعارف للمطبوعات 1401 هـ.

٥٤

جمل أوّلية وصحيحة) (1) .

وتعميق الإيمان بالله ضروري في تربية الطفل.

والطفل في هذه المرحلة يكون مقلِّداً لوالديه في كل شيء، بما فيها الإيمان بالله تعالى، يقول الدكتور سپوك: (إنّ الأساس الذي يؤمن به الابن بالله وحبّه للخالق العظيم، هو نفس الأساس الذي يحب به الوالدان الله).

ويقول: (بين العمر الثالث والعمر السادس يحاول تقليد الأبوين في كلِّ شيء، فإذا حدّثاه عن الله فإنّه يؤمن بالصورة التي تحدّدها كلماتهما عن الله حرفيّاً) (2) والطفل في هذه المرحلة يميل دائماً إلى علاقات المحبّة والمودّة والرقّة واللين، فيحب أو يفضّل (تأكيد الصفات الخاصة بالرحمة والحب والمغفرة إلى أقصى حدٍّ ممكن، مع التقليل إلى أدنى حدٍّ من صفات العقاب والانتقام) (3) .

فتكون الصورة التي يحملها الطفل في عقله عن الله تعالى صورة جميلة محبّبة له، فيزداد تعلّقه بالله تعالى، ويرى أنّه مانح الحب والرحمة له.

وإذا أردنا ان نكوّن له صورة عن يوم القيامة فالأفضل أن نركّز على نعيم الجنّة بما يتناسب مع رغباته، من أكل وشرب وألعاب وغير ذلك، ونركّز على أنّه سيحصل عليها إنْ أصبح خلوقاً ملتزماً بالآداب الإسلامية، ويُحرم منها إنْ لم يلتزم، ويؤجّل التركيز على النار والعذاب إلى مرحلة متقدّمة من عمره.

____________________

(1) علم النفس التربوي، للدكتور علي منصور 2: 132 ـ 1407 هـ.

(2) مشاكل الآباء في تربية الأبناء: 248.

(3) مشاكل الآباء في تربية الأبناء: 251.

٥٥

ثانياً: التركيز على حبّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام)

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبّ نبيّكم، وحبّ أهل بيته، وقراءة القرآن) (1) .

في هذه المرحلة تنمو المشاعر والعواطف والأحاسيس عند الطفل، من حب وبغض وانجذاب ونفور، واندفاع وانكماش، فيجب على الوالدين استثمار حالات الاستعداد العاطفي عند الطفل وتنمية مشاعره وعواطفه، وتوجيهها نحو الارتباط بأرقى النماذج البشرية، والمبادرة إلى تركيز حبّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحبّ أهل البيت (عليهم السلام) في خلجات نفسه. والطريقة الأفضل في تركيز الحبّ هو إبراز مواقفهم وسلوكهم في المجتمع، وخصوصاً ما يتعلّق برحمتهم وعطفهم وكرمهم، ومعاناتهم، وما تعرّضوا له من حرمان واعتداء، يجعل الطفل متعاطفاً معهم مُحبّاً لهم، مبغضاً لمَن آذاهم من مشركين ومنحرفين.

والتركيز على قراءة القرآن في الصغر يجعل الطفل منشدّاً إلى كتاب الله، متطلّعاً على ما جاء فيه، وخصوصاً الآيات والسور التي يفهم الطفل معانيها. وقد أثبت الواقع قدرة الطفل في هذه المرحلة على ترديد ما يسمعه، وقدرته على الحفظ، فينشأ الطفل وله جاذبية وشوق للقرآن الكريم، وينعكس ما في القرآن من مفاهيم وقيم على عقله وسلوكه.

____________________

(1) كنز العمّال 16: 456 | 45409.

٥٦

ثالثاً: تربية الطفل على طاعة الوالدين

يلعب الوالدان الدور الأكبر في تربية الأطفال، فالمسؤولية تقع على عاتقهما أوّلاً وقبل كلّ شيء، فهما اللذان يحدّدان شخصية الطفل المستقبلية، وتلعب المدرسة والمحيط الاجتماعي دوراً ثانويّاً في التربية.

والطفل إذا لم يتمرّن على طاعة الوالدين فإنّه لا يتقبّل ما يصدر منهما من نصائح وإرشادات وأوامر إصلاحية وتربوية، فيخلق لنفسه ولهما وللمجتمع مشاكل عديدة، فيكون متمرّداً على جميع القيم، وعلى جميع القوانين والعادات والتقاليد الموضوعة من قِبل الدولة ومن قِبل المجتمع.

قال الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام): (جرأة الولد على والده في صغره، تدعو إلى العقوق في كبره) (1) .

وقال الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام): (... شرّ الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق) (2) .

وتربية الطفل على طاعة الوالدين تتطلّب جهداً متواصلاً منهما على تمرينه على ذلك؛ لأنّ الطفل في هذه المرحلة يروم إلى بناء ذاته وإلى الاستقلالية الذاتية، فيحتاج إلى جهد إضافي من قِبل الوالدين، وأفضل الوسائل في التمرين على الطاعة هو إشعاره بالحبّ والحنان، يقول

____________________

(1) تحف العقول: 368.

(2) تاريخ اليعقوبي 2: 320.

٥٧

الدكتور يسري عبد المحسن: (أهم العوامل التي تساعد الطفل على الطاعة.. الحب والحنان الذي يشعر به الطفل من كلِّ أفراد الأُسرة) (1) .

ومن الوسائل التي تجعله مطيعاً هي إشباع حاجاته الأساسية وهي: (الأمن، والمحبّة، والتقدير، والحرية، والحاجة إلى سلطة ضاغطة) (2) .

ويرى الدكتور فاخر عاقل هذه الحاجات بالشكل التالي: (الحاجة إلى توكيد الذات، أو المكانة، أن يعترف به وبمكانته، وأن ينتبه إليه.. والحاجة إلى الأمان والحاجة إلى المحبّة والحاجة إلى الاستقلال) (3) .

فإذا شعر الطفل بالحب والحنان والتقدير من قِبل والديه، فإنّه يحاول المحافظة على ذلك بإرضاء والديه، وأهم مصاديق الإرضاء هو طاعتهما.

فالوالدان هما الأساس في تربية الطفل على الطاعة، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (رحم الله والدين أعانا ولدهما على برّهما) (4) وأُسلوب الإعانة كما حددّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (رحم الله عبداً أعان ولده على برّه بالإحسان إليه، والتألف له، وتعليمه وتأديبه) (5) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (رحم الله مَن أعان ولده على برّه، وهو أن يعفو عن سيّئته، ويدعو له فيما بينه وبين الله) (6) .

____________________

(1) قاموس الطفل الطبّي: 328.

(2) علم النفس، لعبد العزيز القوصي: 264.

(3) علم النفس التربوي، لفاخر عاقل: 100 ـ 101.

(4) مستدرك الوسائل 2: 618.

(5) مستدرك الوسائل 2: 626.

(6) عدّة الداعي: 61.

٥٨

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (رحم الله مَن أعان ولده على برّه... يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه ولا يخرق به...) (1) .

وحبّ الأطفال للوالدين ردّ فعل لحبّ الوالدين لهما (2) .

فإذا كان الحبُّ هو السائد في العلاقة بين الطفل ووالديه، فإنّ الطاعة لهما ستكون متحقّقة الوقوع، وعلى الوالدين أنْ يُصدرا الأوامر برفق ولين بصورة نصح وإرشاد فإنّ الطفل سيستجيب لهما، أمّا استخدام التأنيب والتعنيف فإنّه سيؤدّي إلى نتائج عكسية؛ ولذا أكدّ علماء النفس والتربية على التقليل من التعنيف كما جاء في قول أنور الجندي: (يقتصد في التعنيف عند وقوع الذنب؛ لأنّ كثرة العقاب تهوّن عليه سماع الملامة وتخفّف وقع الكلام في نفسه) (3) .

وإطاعة الأوامر لا يجد فيها الطفل الذي حصل على المحبّة والتقدير أيّة غضاضة على حبّه للاستقلال، وبالمحبّة التي يشعرها تتعمّق في نفسه القابلية على تقليد سلوك مَن يحبّهم وهما الوالدان، فينعكس سلوكهما عليه، ويستجيب لهما، فإنّه إذا عُومل كإنسان ناضج وله مكانة فإنّه يستريح إلى ذلك، ويتصرّف بنضج وبصورة لا تسيء إلى والديه، فيتمرّن على الطاعة لوالديه، ومن ثمّ الطاعة لجميع القيم التي يتلقّاها من والديه، أو من المدرسة، أو من المجتمع.

____________________

(1) الكافي 6: 50 | 6 بِرّ الأولاد.

(2) علم الاجتماع، لنقولا الحداد: 252 ـ دار الرائد 1982 م ط2.

(3) التربية وبناء الأجيال: 167

٥٩

رابعاً: الإحسان إلى الطفل وتكريمه

الطفل في هذه المرحلة بحاجة إلى المحبّة والتقدير من قِبل الوالدين، وبحاجة إلى الاعتراف به وبمكانته في الأُسرة وفي المجتمع، وأن تسلّط الأضواء عليه، وكلّما أحسَّ بأنّه محبوبٌ، وأنّ والديه أو المجتمع يشعر بمكانته وذاته فإنّه سينمو (متكيّفاً تكيّفاً حسناً، وكينونته راشداً صالحاً يتوقّف على ما إذا كان الطفل محبوباً مقبولاً شاعراً بالاطمئنان في البيت) (1) .

والحبُّ والتقدير الذي يحسّ به الطفل له تأثير كبير على جميع جوانب حياته، فيكتمل نموّه اللغوي والعقلي والعاطفي والاجتماعي، والطفل يقلّد مَن يحبّه، ويتقبّل التعليمات والأوامر والنصائح ممّن يحبّه، فيتعلّم قواعد السلوك الصالحة من أبويه، وتنعكس على سلوكه إذا كان يشعر بالمحبّة والتقدير من قِبلهما.

وقد وردت عدّة روايات تؤكّد على ضرورة محبّة الطفل وتكريمه:

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم) (2) وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (رحم الله عبداً أعان ولده على بِرّه بالإحسان إليه والتآلف له وتعليمه وتأديبه) (3) .

____________________

(1) علم النفس التربوي، للدكتور فاخر عاقل: 111 ـ دار العلم للملايين 1985 ط1.

(2) مستدرك الوسائل 2: 625.

(3) مستدرك الوسائل 2: 626.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

أقول : ليس من شك ان بيعتهعليه‌السلام لعثمان التي اكره عليها بالسيف قبل ان يخرج من غرفة الاجتماع لم تكن على العمل بسيرة الشيخين بل كانت على العمل بالكتاب والسنة أي على ما بايع عليه أبا بكر وعمر سابقا ، وهي أيضا كانت بيعة قد اكره عليها ، وقد قَبِل أهل الشورى منه ذلك ، ولم يكونوا يتوقعوا منه ان يقوم على عثمان لإحياء سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما تؤاتيه الفرصة(١) ، وقد واتته الفرصة سنة ٢٧ هـ حين نهض بالأمر.

ما هي سيرة الشيخين التي رفضها علي عليه‌السلام ؟

ليس من شك ان سيرة الشيخين التي رفضها عليعليه‌السلام انما كانت اجتهادا منهما في قبال الكتاب والسنة : والنظرية فيها ان للخليفة بعد بيعته الحق في الاجتهاد في قبال الكتاب والسنة ، وان اجتهاداته تكون ملزمة للخليفة من بعده ، وللخليفة الجديد الحق ان يضيف إلى اجتهادات من سبقه ، لا ان ينسخها.

ولم يقف اجتهاد الخليفتين عند مورد واحد من سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بل تجاوزاه إلى موارد ومسائل كثيرة :

منها مسائل اجتماعية : كتحريم متعة النساء(٢) ، وإمضاء التطليقات بلفظ واحد

__________________

(١) قال العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى في كتابه الصحيح من سيرة الامام عليعليه‌السلام ج ١٥ ص ١٧٢ : ولكن الشيخ المفيدرحمه‌الله لا يوافق على هذا الذي زعموه (انه بايع) ، ويقول : «وانصرف مظهراً النكير على عبد الرحمن. واعتزل بيعة عثمان. فلم يبايعه ، حتى كان من أمره مع المسلمين ما كان» المفيد ، الجمل ص ١٢٣. وربما يكون هذا النص الأخير هو الأقرب إلى الاعتبار ، مع الالتفات إلى أنه يمكن الجمع بين هذه الروايات بتقدير أن يكونعليه‌السلام قد أعطى وعداً بعدم الخروج على الذي بويع ، فاكتفوا منه بذلك ، واعتبروه بمثابة البيعة ، وأشاعوا ذلك بين الناس. ولعلهم أخذوا يده بالقوة والقهر حتى مسح عليها عثمان ، فقالوا بايع علي ، تماما كما جرى في حديث البيعة لأبي بكر. وحتى لو بايععليه‌السلام تحت وطأة التهديد بالقتل ، فإنه ليس لهذه البيعة قيمة ولا أثر ، إذ لا بيعة لمكره. ولا سيما مع وجود خمسين مسلحاً. بالإضافة إلى سيف عبد الرحمن بن عوف ، وعدم وجود سلاح مع أحد سواه.

(٢) روى البخاري في صحيحه ص ٨١٤ ومسلم واحمد والدارمي واللفظ للأول : حدّثنا مسدّد حدّثنا يحيى عن عمران أبي بكر حدّثنا أبو رجاء عن عمران بن حصينرضي‌الله‌عنهما قال أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينزل قرآن يحرّمه ولم ينه عنها

٨١

ومجلس واحد(١) ، وغير ذلك.

ومنها مسائل ثقافية : من قبيل المنع من نشر حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحرق مذكرات الصحابة فيه ، ومنع السؤال عن تفسير القرآن(٢) ، وفسح المجال لعلماء أهل الكتاب الذين اسلموا لنشر قصص الخلق وسير الأنبياء المحرفة التي نهى عنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .(٣)

ومنها مسائل سياسية : من قبيل الإعراض عن بيعة المنصوص عليه وإقامة الحكم الإسلامي ببيعة خاصة قبل البيعة العامة مع إكراه الآخرين عليها الأمر الذي أشار إليه عليعليه‌السلام حين طلبوا منه البيعة بعد قتل عثمان في بيته قال (لا احب ان تكون بيعتي خفيا) وصرفهم إلى المسجد لتكون بيعة عامة ولم يكره أحدا عليها.(٤)

__________________

حتّى مات قال رجل برأيه ما شاء. وروى احمد في مسنده ج ١١ ص ٤٦٠ حدّثنا عبد الصّمد حدّثنا حمّاد عن عاصم عن أبي نضرة عن جابر قال متعتان كانتا على عهد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهانا عنهما عمر رضي الله تعالى عنه فانتهينا.

(١) روى مسلم في صحيحه ص ٥٦٠ والحاكم في المستدرك وصححه واحمد والطبراني في الكبير والصنعاني في المصنف والدارقطني واللفظ للأول قال : حدّثنا إسحق بن إبراهيم ومحمّد بن رافع واللّفظ لابن رافع قال إسحق أخبرنا وقال ابن رافع حدّثنا عبد الرّزّاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عبّاس قال كان الطّلاق على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثّلاث واحدة فقال عمر بن الخطّاب إنّ النّاس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم وروى احمد في مسنده ج ٣ ص ٩٠ واللفظ له وابو يعلى في مسنده والبهقي في سننه والحاكم في مستدركه والطبراني في الكبير وابو داود وابن ماجه والترمذي والدارقطني وابن حبان وابو يعلى والشافعي في مسنده والطيالسي وغيرهم حدّثنا سعد بن إبراهيم حدّثنا أبي عن محمّد بن إسحاق حدّثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عبّاس عن ابن عبّاس قال طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو المطّلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال فسأله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف طلّقتها قال طلّقتها ثلاثا قال فقال في مجلس واحد قال نعم قال فإنّما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال فرجعها فكان ابن عبّاس يرى أنّما الطّلاق عند كلّ طهر. وروى النسائي في السنن الكبرى ج ٣ ص ٣٤٩ قال : أخبرنا سليمان بن داود أبو ربيع قال أنا بن وهب قال اخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبانا ثم قال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل وقال يا رسول الله ألا أقتله.

(٢) للتفصيل يراجع كتاب منع تدوين الحديث للسيد علي الشهرستاني.

(٣) احمد ، مسند احمد ، ج ١٢ ص ٨٥. وابن أبي شيبة ، المصنف ، مصدر سابق ، ج ٥ ص ٣١٣. والصنعاني ، المصنف ، المكتب الإسلامي بيروت ١٤٠٣ هـ ، ج ١٠ ص ١٣٤.

(٤) الطبري ، تاريخ الطبري ، راجع قصص الشورى من تاريخ الطبري في حوادث صنة ٢٣ وكذا ابن الاثير ، الكامل في التاريخ ، في حوادث تلك السنة ، وابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، عند شرحه للخطبة الشقشقية وغيرهم كثير.

٨٢

ومنها مسائل اقتصادية : من قبيل حبس الخمس عن أهل البيتعليهم‌السلام .(١)

ومنها مسائل عبادية : كتحريم متعة الحج ، وتغيير مقام إبراهيم عن موضعه الذي وضعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه(٢) ، والأمر بصلاة التراويح وقد تركها النبي

__________________

(١) روى الزمخشري في الكشاف عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه أنه ـ أي الخمس كان على ستة أسهم لله وللرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض. فأجرى أبو بكررضي‌الله‌عنه الخمس على ثلاثة. وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء. وروي أنّ أبا بكررضي‌الله‌عنه منع بني هاشم الخمس وقال : إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنيّ لا يعطى من الصدقة شيئاً ، ولا يتيم موسر.

(٢) عن عائشة أن المقام كان في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وزمان أبي ملصقا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب. (كنز العمال ج ١٤ ص ٥٣).

وورد في أخبار مكة للفاكهي [١ / ٤٥٤] حدّثنا محمّد بن زنبور قال : ثنا عيسى بن يونس قال : ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه قال : إنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة وأبو بكررضي‌الله‌عنه بعده ، وعمررضي‌الله‌عنه شطر إمارته ، ثمّ إنّ عمررضي‌الله‌عنه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى يقول :( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) [البقرة : ١٢٥] فحوّله إلى المقام».

وروى الإمام أحمد بن عبد الرزاق ، عن ابن جريج : سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من وع المقام في موضعه الآن ، وإنما كان في قبل الكعبة. وعن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : كان المقام إلى جنب البيت ، كانوا يخافون عليه ، من السيول ، وكان الناس يصلون خلفه ، فقال عمر للمطلب : هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال : نعم ، فوضعه موضعه الآن.

وقال مالك : كان المقام في عهد إبراهيم في مكانه الآن ، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السيل ، فكان كذلك في عهد النبي وأبي بكر ، فلما ولي عمر وحج رده إلى موضعه الذي هو فيه اليوم ، بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة كانت في خزائن الكعبة ، قيس بها حين أخر : ذكر ذلك صاحب. (تهذيب المدونة).

وذكر ابن سعد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (صلى يوم الفتح ركعتي الطواف خلف المقام ، وهو لاصق بالبيت.

قال ابن رجب في فتح الباري ج ٢ ص ١٢٢ وقد روى : أن الناس كانوا يصلون إلى جانب البيت ، وأن أول من صلى خلف المقام عمر في خلافته. روى الإمام أحمد في (كتاب المناسك) عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن هشام ، عن أبيه ، أن النبي (وأبا بكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون إلى صقع البيت ، حتى صلى عمر خلف المقام ، وعن أبي معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله (إذا طاف بالبيت صلى الركعتين إلى صقع البيت. قال أبو معاوية : يعني : حائط البيت. قال : وفعل ذلك أبو بكر ، ثم فعل ذلك عمر شطرا من خلافته ، ثم قال :( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) البقرة : ١٢٥ ، فصلى إلى المقام ، فصلى الناس بعده. وقال ابن كثير في تفسيره ، قال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي أخبرنا أبو [الحسين بن] الفضل القطان ، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي ، حدثنا أبو ثابت ، حدثنا

٨٣

عمدا(١) ، وحذف (حي على خير العمل من الأذان) التكتيف في الصلاة ، وغير ذلك.

وغيرها من المسائل.(٢)

انشقاق قريش الحاكمة على نفسها

لم تبق قريش المسلمة كحزب حاكم متماسكة بل انشقت على نفسها بسبب اجتهاد عثمان بإيثاره اسرته في الولايات والأموال(٣) على بقية بطون قريش خلافا لاجتهاد عمر بتوسعتها في بطون قريش.

فقد بدأ عهده باستقدام عمه الحكم(٤) والد مروان ، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد نفاه إلى

__________________

الدراوردي ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشةرضي‌الله‌عنها : أن المقام كان في زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وزمان أبي بكر ملتصقاً بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه وهذا إسناد صحيح.

(١) روى البخاري في صحيحه ص ٣٦٢ واللفظ له والبيهقي في السنن ومالك في ال موطا والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم عن ابن شهاب عن عروة بن الزّبير عن عبد الرّحمن بن عبد القاريّ أنّه قال خرجت مع عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا النّاس أوزاع متفرّقون يصلّي الرّجل لنفسه ويصلّي الرّجلي فيصلّي بصلاته الرّهط فقال عمر إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثمّ عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ثمّ خرجت معه ليلة أخرى والنّاس يصلّون بصلاة قارئهم قال عمر نعم البدعة هذه والّتي ينامون عنها أفضل من الّتي يقومون يريد آخر اللّيل وكان النّاس يقومون أوّله صحيح البخاري وفي تاريخ المدينة لابن شبة ج ١ ص ٣٧٨ قال حدثنا أحمد بن عيسى قال ، حدثنا عبد الله بن وهب قال ، حدثني بكر بن مضر ، وعبد الرحمن بن سلمان ، عن ابن العماد ، أن قيس بن عبد الملك بن مخرمة حدثه عن ابن المغيرة عطاء ابن جبير قال : بينما نن ذات ليلة في المسجد في رمضان إذ جاء عمررضي‌الله‌عنه وفي يده الدرة حتى جلس على المنبر فقال : أيها الناس ، ما هذا الاختلاف في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ فلان أقرأ للقرآن من فلان ، وفلان أحصر للقرآن من فلان ، وفلان أعلم بالقرآن من فلان ، أتفعلون هذا وأنتم أنتم ، فكيف بمن بعدكم؟ إني أبتر هذا. يصلون بالناس في هذا المسجد فمن أحب أن يصلي معهم فليصل بصلاتهم ، ومن كان لا يريد أن يصلي مهم فليرجع إلى بيته حتى يفرغوا ، ثم يرجع إلى المسجد إن أحب.

(٢) انظر بيانها في : السيوطي ،تاريخ الخلفاء ، معتوق اخوان بيروت ، ج ١ ص ١٦٥ اوليات عمر.

(٣) انظر تفصيل ذلك : العلامة الاميني ،الغدير ، دار الكتاب العربي ١٩٧٧ م ، ج ٨ ص ٢٣٨ ـ ٢٨٩.

(٤) قال ابن أبي الحديد فيشرح نهج البلاغة ج ١٥ ص ١٦٤ : الحكم بن العاص طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولعينه والمتخلج في مشيته ، الحاكي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمستمع عليه ساعة خلوته ، ثم صار طريدا لابي بكر وعمر ، امتنعا عن إعادته إلى المدينة ، ولم يقبلا شفاعة عثمان ، فلما ولي أدخله ، فكان أعظم الناس شؤما عليه ، ومن أكبر الحجج في قتله وخلعه من

٨٤

الطائف ، ثم جعل مروان بن الحكم(١) كاتبه الخاص بعد ان زوجه ابنته ، ثم عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة سنة ٢٥ هجرية وعيَّن أخاه لأمه الوليد بن عقبة الفاسق بنص القرآن(٢) .

وفي سنة ٢٦ هجرية جمع الشام كلها لمعاوية ،

وفي سنة ٢٧ هجرية جمع مصر كلها لأخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان النبي قد أهدر دمه في فتح مكة وأجاره عثمان(٣) ،

وفيها أيضا عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولى مكانه عبد الله بن عامر بن

__________________

الخلافة ، وفي السيرة الحلبية عن جبير بن مطعم كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمر الحكم بن العاص فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويل لأمتي مما في صلب هذا.

(١) قال ابن حجر في الاصابة ج ٥ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩ : مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس وهو ابن عم عثمان وكاتبه في خلافته يقال ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل بأربع وقال ابن شاهين مات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثمان سنين فيكون مولده بعد الهجرة بسنتين وكان مع أبيه بالطائف إلى أن أذن عثمان للحكم في الرجوع إلى المدينة فرجع مع أبيه ثم كان من أسباب قتل عثمان ثم شهد الجمل مع عائشة ثم صفين مع معاوية ثم ولي إمرة المدينة لمعاوية ثم لم يزل بها إلى أن أخرجهم ابن الزبير في أوائل إمرة يزيد بن معاوية فكان ذلك من أسبابب وقعة الحرة وبقي بالشام إلى أن مات معاوية بن يزيد بن معاوية فبايعه بعض أهل الشام في قصة طويلة ثم كانت الوقعة بينه وبين الضحاك بن قيس وكان أميرا لابن الزبير فانتصر مروان وقتل الضحاك واستوثق له ملك لشام ثم توجه إلى مصر فاستولى عليها ثم بغته الموت فعهد إلى ولده عبد الملك. وفي التعديل والتجريح قال عمرو بن علي بويع مروان بن الحكم وهو بن إحدى وستين سنة في النصف من ذي القعدة سنة أربع وستين فعاش خليفة تسعة أشهر وثماني عشرة ليلة ومات لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين.

(٢) روى الطبري في تفسيره عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله تعالى( ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) قال نزلت في الوليد بن عقبه بن أبي معيط.

(٣) روى أبو داوود سننه ص ٦٨٥ والحاكم في المستدرك ج ٣ ص ٤٧ واللفظ له. حدثنا أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه ببغداد ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ثنا عثمان بن أبي شيبة حدثني أحمد بن الفضل ثنا أسباط بن نصر قال : زعم السدي عن مصعب بن سعد عن سعد : قال : لما كان يوم فتح مكة أختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفانرضي‌الله‌عنه فجاء به حتى أوقفه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله فرقع رأسه فنظر إليه ثلاثا ثم أقبل على أصحابه فقال : أما كان فيكم رجل شديد بقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال : إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه تعليق الذهبي في التلخيص : على شرط مسلم.

٨٥

كريز بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن أربع وعشرين سنة وضم إليه ولاية فارس.

وبسبب ذلك شاع التذمر في بطون قريش الأخرى وصار المتذمرون وهم عبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وعمرو بن العاص وعائشة حزبا ، وعثمان ومعه بنو أبيه / بنو أمية / حزبا.

واستحكم الخلاف بين الحزبين القرشيين سنة ٢٧ هجرية حين اعلن عبد الرحمن بن عوف المرشح الأكيد لخلافة عثمان مقاطعته لعثمان ، وبدأ الجناح المنشق يثير امام عثمان مخالفاته لسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحديثه فيه وفي رجاله الذين اعتمدهم من اسرته لتوهين مقامه في المجتمع وتثوير الناس عليه.(١)

مشروع علي عليه‌السلام لإحياء السنة النبوية في حج التمتع

في مثل هذا الظرف السياسية المواتي للنهوض قرَّر عليعليه‌السلام البدء بمشروعه وحركته الإحيائية لسنة النبي في المجتمع ، وأعلن عن عزمه الحج تلك السنة ، ولبى بحج التمتع الذي أمر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحرَّمته الخلافة القرشية ، وأوعز إلى أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين على رأيه وهم أبو ذر وعمار ومقداد ونظراؤهم ان ينشروا الحديث النبوي في حقه وحق أهل بيته وكونهم الأئمة الهداة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

روى مالك في الموطأ : «ان المقداد بن الأسود دخل على عليعليه‌السلام بالسُقْيا وهو يُنجِع بَكرات له دقيقا وخبطا ، فقال هذا عثمان بن عفان ينهى عن ان يقرن بين الحج والعمرة ، فخرج عليعليه‌السلام وعلى يديه اثر الدقيق والخبط فما أنسى اثر الدقيق والخبط ، على ذراعيه ، حتى دخل على عثمان فقال : أنت تنهى عن ان يُقْرَنَ بين الحج والعمرة ، فقال : عثمان ذلك رأيي ، فخرج عليٌّعليه‌السلام مغضبا وهو يقول : لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا».(٢)

وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند احم واللفظ للأول عن سعيد بن

__________________

(١) البلاذري ،انساب الاشراف ، مصدر سابق ، ج ٦ ص ١٣٣ ـ ١٧٣. وتاريخ الطبري ج ٣ ص ١٣٤ وما بعدها.

(٢) مالك بن انس ، الموطا ، در التراث العربي بيروت ١٩٨٥ م ، ص ١٧٣.

٨٦

المسيب قال : «حج علي وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع فقال علي إذا رأيته ارتحل فارتحلوا فلبى علي وأصحابه بالعمرة ...». قال الامام السندي بهامشه : «قال (إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا) أي ارتحلوا معه ملبين بالعمرة ليعلم أنكم قدمتم السنة على قوله ، وانه لا طاعة له في مقابل السنة».

وفي صحيح البخاري وسنن النسائي وسنن الدارمي وسنن البيهقي ومسند احمد ومسند الطيالسي وغيرها عن علي بن الحسينعليهما‌السلام عن مروان بن الحكم قال : «شهدت عثمان وعلياعليه‌السلام وعثمان ينهى عن المتعة وان يجمع بينهما فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة معا قل ما كنت لأدع سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقول أحد». وفي لفظ النسائي : «فقال عثمان أتفعلها وأنا أنهى عنها فقال علي لم اكن لادع سنة رسول الله لاحد من الناس».(١)

وكان ابوذر الغفاريرحمه‌الله احد ابرز رجال هذه النهضة ، نشر ما سمعه عن النبي في حق أهل بيته واولهم علي حديث الغدير وحديث السفينة وبسبب ذلك نفاه عثمان إلى الشام ثم استقدمه منها بطلب من معاوية حين اخبره انه يخاف على أهل الشام من أحاديث أبي ذر فنفاه إلى الربذة.(٢)

قريش تقتل عثمان والجماهير تبايع عليا عليه‌السلام

أقدمت (قريش المنشقّة)(٣) على قتل الخليفة عثمان(٤) في اليوم الثامن عشر من ذي

__________________

(١) انظر تفصيل المصادر في كتابنا : البدري ، السيد سامي ،شبهات وردود ، ط ٤ / ١٤٢٢ بحث متعة الحج.

(٢) فصلنا الحديث عن ذلك وغيره في كتابنا المخطوط حول نهضة الامام عليعليه‌السلام لإحياء سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٣) هم طلحة والزبير ومن ازرهما من قريش والمصريين والعراقيين وقد فصلنا في الحديث عن هذه الحركة السياسية في كتابنا عن عليعليه‌السلام .

(٤) قال ابن حجر فيتهذيب التهذيب ج ٤ ص ١١٤ قال ابن سعد : كان عبد الملك بن مروان يقول لو لا أن أمير المؤمنين مروان أخبرني أنه قتل طلحة ما تركت أحدا من ولد طلحة إلا قتلته بعثمان ، وقال الحميدي في النوادر عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن أبي مروان قال دخل موسى بن طلحة على الوليد فقال له الوليد ما دخلت علي قط إلا همست بقتلك لو لا أن أبي أخبرني أن مروان قتل طلحة. وقال أبو عمر بن عبد البر : لا تختلف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة.

٨٧

الحجة سنة ٣٥ هجرية(١) ، وتوقعت ان تبايع الجماهير طلحةَ أو الزبيرَ لكنها فوجئت بحركة الجماهير نحو عليعليه‌السلام تطلب منه البيعة.

منهج علي عليه‌السلام في بيعته وحكومته

وفوجئت الجماهير أن علياًعليه‌السلام يرفض ان يبايعوه قائلا (دعوني والتمسوا غيري)(٢) وبعد إصرارهم عليه يواعدهم في المسجد لتكون بيعة عامة يشهدها الجميع وكان يقول (لا تكون بيعتي خَفْياً).

وسُرَّ الناس بهذا الإجراء لأنه كاشف عن عدم حرص عليعليه‌السلام على الإمرة والسلطان(٣) ، وأنه لا يطلبه حثيثا بل لا يقبل به حتى حينما يأتيه إلى بيته ، ومن جهة أخرى يكشف عن حرصه أن تكون البيعة على مرأى ومشهد من كل الناس ليقول قائل ما يرغب أن يقوله سلباً أو إيجاباً ويكون الناس أحراراً في إعطاء صوتهم ولا يُؤخذون على حين غِرَّة ولا تكون البيعة فلتة.

__________________

(١) الطبري ،تاريخ الطبري ، مصدر سابق ، ج ٣ ص ١٦٢ ـ ١٦٣ ؛ الطبراني ،المعجم الكبير ، دار إحياء التراث العربي بيروت ، ج ١ ص ٧٨ ؛ وابن الاثير ،اسد الغابة ، دار إحياء التراث العربي بيروت ، ج ٣ ص ٤٨٨ ؛ وابن عبد البر ،الاستيعاب ، دار الجيل بيروت ١٩٩٢ ، ج ٢ ص ١٥ ، العسقلاني ، ابن حجر ابن حجر ،الاصابة ، دار الكتب العلمية بيروت ١٤١٥ هـ ، ج ٣ ص ٤٢٧ ؛ البلاذري ،انساب الاشراف ، مصدر سابق ، ج ٦ ص ٢١٢.

(٢) جاء في شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ٢٤ ـ ٢٥ : ان علياعليه‌السلام لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان قال : (دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان. لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول. وإن الآفاق قد أغامت المحجة قد تنكرت. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب. وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم. وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا) قال ابن أبي الحديد : وزيرا واميرا منصوبان على الحال.أقول : الجملة الأخيرة (أنا لكم وزير خير لكم مني أميرا) يبعد ان تكون من كلامهعليه‌السلام لأنه لم يكن وزيرا لمن سبقه من الخلفاء بل كان وزيراً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ووزارته للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظير وزارة هارون من موسى وقد أشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (إلى ذلك بقوله لعليعليه‌السلام : انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي) رواه البخاري ص ٧٩٤ وغيره. وقد روى الشيخ المفيد في الإرشاد ص ١٤٧ ان عليا قال : إما بعد فان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رضيني لنفسه أخا واختصني له وزيرا أيها الناس أنا أنف الهدى وعيناه ...

(٣) خلافا لما روَّجه الاعلام العباسي على لسان المنصور في رسالته إلى محمد بن عبد الله بن الحسن : (ثمَّ طلبها ـ أي عليعليه‌السلام ـ بكل وجه وقاتل عليها ، وتفرق عنه أصحابه). رواها الطبري في قصة خروج محمد ذي النفس الزكية على المنصور وقتله سنة ١٤٤ هـ.

٨٨

وأقبل الناس على البيعة في المسجد مسرورين وازدحموا عليه يتسابقون على مس يده الشريفة وكان في مقدمتهم طلحة والزبير ، قالعليه‌السلام يصف هذا المشهد :

(وبسطتم يدي فكفَفتُها ، ومددتموها فقبضتُها ، ثم تداككتم علي تداكَّ الإبل الهِيم على حياضِها يوم وِردِها ، حتى انقطعت النعلُ ، وسقط الرداء ، ووُطِئَ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيايَ أن ابتهجَ بها الصغيرُ ، وهدّج إليها الكبير ، وتحاملَ نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب).(١)

أقام عليعليه‌السلام أروع تجربة حكم مدني بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دامت خمس سنوات إلا ثلاثة شهور تميّزت هذه التجربة :

ـ بحاكم عالم تصرف كالأب الرحيم والأخ الكريم مع شعبه.

ـ يحكم بينهم بالعدل.

ـ ويعلمهم ما كانوا يجهلونه من سنن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتفسير القرآن.

ـ ويحثهم على مراقبة الحاكم ويجرئهم على محاسبته بكل وسيلة ، ويتحمل أخطاءهم إزاءه.(٢)

وأحب الناس علياًعليه‌السلام في العراق لهذا ولما عرفوا من سابقته مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وما حباه الله ورسوله به من الولاية الإلهية والاصطفاء.

رد فعل قريش المسلمة السلبي من علي عليه‌السلام

لم تطب قريش المسلمة نفسا بعهد عليعليه‌السلام ووقفت ضده في أخطر محاولتين لتجريده من العراق والشام / مركزيْ القوة العسكرية والموارد المالية للدولة الإسلامية / ثم الإجهاز عليه لقتله.

وأحبط الله تعالى مساعيها في المعركة الأولى لوعي الكوفة ونصرتها لعليعليه‌السلام في

__________________

(١) التداك الازدحام الشديد. والإبل الهِيم : العطاش. وهدج إليها الكبير : مشى مشياً ضعيفاً مرتعشا ، والمضارع يهدج بالكسر ، وتحامل نحوها العليل تكلف المشي على مشقة. وحسرت إليها الكعاب : كشفت عن وجهها حرصاً على حضور البيعة ، والكعاب : الجارية التي قد نهد ثديها ، (شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج ١٣ ص ٥).

(٢) أوردنا في كتابنا شيعة العراق طرفا من ذلك.

٨٩

حرب الجمل في البصرة فقد خرج منها كما في رواية أبي الطفيل قال : «قال علي يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل فقعدت على نجفة ذي قار فأحصيتهم فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا».(١)

ونجحت قريش في المعركة الثانية واستطاعت أن تحوّل الشام إلى مركز عداء ليس عسكرياً فحسب بل مركز عداء فكري وإعلامي من خلال الأكاذيب التي اختلقت في حق عليعليه‌السلام ، ونجح معاوية بعد أن اصطفَّت قريش خلفه(٢) يسانده أهل الشام في الوقوف بوجه عليعليه‌السلام في حرب طاحنة في صفين دامت ثلاثة اشهر.(٣)

وبعد وقوف القتال ومرور سنة على التحكيم تحول أهل الشام إلى سرايا سلب ونهب تغير على الأطراف التابعة لعليعليه‌السلام (٤) مع إعلام مضاد شوَّه سيرتهعليه‌السلام

__________________

(١) الطبري ،تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٠٩. وابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ١١ ص ٢٣٣. وابن الاثير ،الكامل في التاريخ ج ٣ ص ٢٣١.

(٢) روي عن الامام الصادقعليه‌السلام انه كان يقول : كان مع أمير المؤمنينعليه‌السلام من قريش خمسة نفر وكان ثلاثة عشرة قبيلة مع معاوية فأما الخمسة : فمحمد بن أبي بكر ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال ، وجعدة بن هبيرة المخزومي وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام خاله ، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، والخامس سلف أمير المؤمنينعليه‌السلام ابن أبي العاص بن الربيعة (السلف ككبد من الرجال زوج أخت امرأته) ، (الشيخ المفيد ،الاختصاص ، دار المفيد بيروت ١٩٩٣ ، بتصرف ص ٧٠).

(٣) ففي سير أعلام النبلاء : «وخلف معاوية خلق كثير يحبّونه ويتغالون فيه ، ويفضّلونه ، إمّا قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء ، وإمّا قد ولدوا في الشّام على حبّه ، وتربّى أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصّحابة ، وعدد كثير من التّابعين والفضلاء ، وحاربوا معه أهل العراق ، ونشؤوا على النّصب». الذهبي ،سير أعلام النبلاء ، مؤسسة الرسالة ، ١٩٩٣ ، ج ٤ ص ٢٩١.

(٤) وجه معاوية الضحاك بن قيس الفهري ويكنى أبا أنيس في خيل كثيفة جريدة ، وأمره أن يمر بأسفل واقصة فيغير على الأعراب ممن كان على طاعة علي وأن يصبح في بلد ويمسي في آخر ، ولا يقيم لخيل إن سرحت إليه ، وإن عرضت له قاتلها ، وكانت تلك أول غارات معاوية ودعا معاوية سفيان بن عوف الأزدي ثم الغامدي ؛ فسرحه في ستة آلاف من أهل الشام ذوي بأس وأداة وأمره أن يلزم جانب الفرات الغربي حتى يأتي هيت فيغير على مسالح علي وأصحابه بها ؛ وبنواحيها ؛ ثم يأتي الأنبار فيفعل بها مثل ذلك حتى ينتهي إلى المدائن ، وحذره أن يقرب الكوفة ، وقال له : إن الغارة تنخب قلوبهم وتكسر حدهم وتقوي أنفس أوليائنا ومنتهم ، ثم إن معاوية ندب أصحابه لغارة نحو العراق فانتدب لها النعمان بن بشير ، فسرحه في ألفين وأمره بتجنب المدن والجماعات ، وأن لا يغير على مسلحة ، وأن تكون إغارته على من بشاطئ الفرات ثم يعجل الرجعة ودعا معاوية عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة الفزاري ، فبعثه إلى تيماء ، وبعث معاوية بسر بن أبي

٩٠

عند أهل الشام(١) / الذين يجهلون أساسا مقامهعليه‌السلام في الإسلام لجهلهم بأحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقه وسابقته معه ، مضافا إلى افتراء معاوية أن علياً يتحمل مسؤولية دم عثمان(٢) وأن قتلة عثمان هم شيعته وأكاذيب أخرى / جعل منه رمزاً للفساد وأهلا للعن والبراءة والقتال.

شهادة علي عليه‌السلام على يد حملة

الفكر التكفيري (الخوارج)

ابتليت تجربة عليعليه‌السلام الفتية في الحكم إلى جانب تمرد قريش في الجمل وصفين ذلك بتمرد أهل النهروان الذين حملوا شعار تكفير علي ثم جرأتهم على قتل الأبرياء المسالمين.

ونجح العراقيون في اختبارهم الصعب حين قاتلوهم مع عليعليه‌السلام في النهروان وفيهم إخوانهم وأبناؤهم.(٣)

__________________

أرطاة بن عويمر أحد بني عامر بن لوي في ألفين وستمائة انتخبهم بسر ، وقال له : سر على اسم الله ، فمر بالمدينة فأخف أهلها وأذعرهم وهول عليهم حتى يروا أنك قاتلهم ، ثم كف عنهم وصر إلى مكة فلا تعرض فيها لأحد ، ثم امض إلى صنعاء فإن لنا بها شيعة فانصرهم واستعن بهم على عمال علي لهم من مال. إلى غير ذلك من الغارات. البلاذري ،أنساب الأشراف ، ج ٣ ص ١٩٧ وما بعدها.

(١) بعث معاوية النعمان بن بشير الأنصاري ، وأبا هريرة الدوسي بعد أبي مسلم الخولاني إلى عليعليه‌السلام يدعوانه إلى أن يسلم قتلة عثمان بن عفان ليقتلوا به فيصلح أمر الناس ويكف الحرب ، وكان معاوية عالماً بأن علياً لا يفعل ذلك ، ولكنه أحب أن يشهد عليه عند أهل الشام بامتناعه من إسلام أولئك ؛ والتبري منهم فيشرع له أن يقول : إنه قتله فيزداد أهل الشام غيظاً عليه وحنقاً وبصيرة في محاربته وعداوته. البلاذري ،انساب الاشراف ، ج ٣ ص ٢٠٥.

(٢) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ١٦ ص ٢٢١.

(٣) قال البلاذري فيانساب الاشراف ج ٣ ص ١٣٨ ـ ١٣٩ خرج القعقاع بن نفر الطائي فاستعان عليه أخوه حكم بن نفر بن قيس بن جحدر بن قعلبة برجال فحسبوه وخرج عتريس بن عرقوب الشيباني ، وخرج في طلبه صيفي بن فشيل الشيباني ابن عمه في جماعة من قومه ليردوه ؛ ففاتهم. وخرج زيد بن عدي بن حاتم ، فاتبعه أبوه عدي بن حاتم ففاته ، فلم يقدر عليه ، فانصرف عدي إلى علي بخبرهم.

وخرج كعب بن عميرة فاشترى فرساً وسلاحاً وقال :

هذا عتادي للحروب

وإنّني لآمل أن ألقى المنية صابرا

وبالله حولي واحتيالي وقوتي

إذا لقحت حربّ تشيب الحزاورا

٩١

وتحوَّل بقية الخوارج ممن نجا أو لم يلتحق بالنهروان إلى خلايا تعمل على الاغتيال ليس فقط في الكوفة بل في الشام ومصر.

لقي عليعليه‌السلام مصرعه على يد حلقة من حلقات هؤلاء التكفيريين في أولى أعمالها وهو يعد العدة لوضع حد لغارات معاوية المتتالية التي كانت تقوم بالقتل والنهب والسلب وتهرب.

مشروع علي عليه‌السلام إنجازات ومشكلات

كان عليعليه‌السلام يحمل مشروعاً قبل أن تبايعه الأمة على الحكم وهو (إحياء سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحاديثه في أهل بيته التي تعرِّف المسلمين بإمامتهم الإلهية الهادية) وقد انطلق به سنة ٢٧ هـ بعد أن توفرت له أسباب النهوض آزرته عليه مجموعة طيبة من الصحابة منهم المقداد وعمار وحجر بن عدي ونظراؤهم ، وقد اتسعت ثمرة المشروع حين بايعت الأمة علياً على الحكم بعد قتل عثمان وأتيحت الفرصة لعليعليه‌السلام أن يحيي سنن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ويقدم سيرة رائدة ونموذجا للحاكم المسلم لم تكن أهل البلاد المفتوحة قد شهدتها من قبل ولا سمعت بها.

أفرزت حركة عليعليه‌السلام في نهاية المطاف تياراً شعبياً وثلة من العلماء داخل الأمة حمل السنة النبوية عنه وآمن به إماماً هادياً بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان قسم من رجال هذا التيار صحابة ، / بعضهم ـ وهو القليل ـ من المهاجرين وأغلبهم من الأنصار /(١) قد آمنوا

__________________

وما زلت مذ كنت ابن عشرين حجة

أهمّ بأن ألقى الكماة مغاورا

وأصنع للهيجاء محبوكة القزا

معقربة الأنساء تحسب طائرا

إذا عضّها سوطي تمطت ملحة

بأروع مختار يروق النواظرا

في أبيات. فقال له عبد الله بن وهب : جزيت خيرا ، فرب سريعة موت تنجيك من النار وتوردك مورداً لا تظمأ بعده. فأخذه أهل بيته فحبسوه حتى قتل أهل النهروان ، فقال في محبسه :

أعوذ بربي أن أعود لمثل ما

هممت به يا عمرو ما حنت الإبل

فيا عمرو ثق بي واتق الله وحده

فقد خفت أن أردى بما عضني الكبل

في أبيات.

وخرج عبيدة بن خالد المحاربي وهو يتمثل بشعر شعبة بن عريض :

إن امرءاً أمن الحوادث سالماً

ورجا الحياة كضارب بقداح

(١) راجع العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين ،الفصول المهمة .

٩٢

بهذا الموقع لعليعليه‌السلام في العهد النبوي نفسه ، والقسم الآخر من رجال هذا التيار وهو الأغلب من أهل البلاد المفتوحة شرقاً وبخاصة الكوفيين الذين شهدوا سيرته وسمعوا منه وصارت الكوفة بهم مركزاً علمياً وشعبياً يحمل ثقافة الولاء لعليعليه‌السلام وأهل بيتهعليهم‌السلام .

ولكن مجتمع ثقافة الولاء لعلي أصبح مهددا داخلياً من التكفيريين الخوارج ، ومطوقا خارجياً بغارات معاوية وأعلامه الكاذب ضد عليعليه‌السلام .

أهل العراق يبايعون الحسن عليه‌السلام على الحكم

كان أول تعبير عن وفاء العراقيين لعليعليه‌السلام وإيمانهم بمشروعه وبثقافة الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام هو أقدامهم على بيعة الحسنعليه‌السلام الذي شخصته النصوص إماماً هادياً معصوماً وارثاً لتراث النبوة الخاتمة ، وتقبل الحسن بيعتهم لثقته بهم ،(١) بايعوه حاكماً مدنياً يحكمهم بالعدل بالإضافة إلى نصرتهم له ليواصل مشروع أبيه في نشر سنة النبي صلى الله عليه وآه والتعريف بإمامة أهل بيتهعليهم‌السلام الهادية التي وقفت قريش المسلمة قبالها لتطويقها والتعتيم عليها بل خنقها واستئصالها على عهد معاوية.

العقبات امام انطلاقة مشروع علي عليه‌السلام

ليس من شك أنَّ الحسنعليه‌السلام كان على منهاج أبيه عليعليه‌السلام ليس لأنه ولده حسب ، بل لأنه وصي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ووارث إمامته الإبراهيمية بنص منه ، ويهمه أساساً أن ينطلق مشروع عليعليه‌السلام في هداية الأمة كلها ولا يبقى حبيساً في الجانب الشرقي من البلاد الإسلامية ، وكانت أهم عقبتين بل عقدتين أمام انطلاقة المشروع هما :

العقبة الأولى ؛ انشقاق الشام :

هذا الانشقاق الذي استحكم ببيعة الشاميين لمعاوية على الحكم على ما بويع عليه

__________________

(١) الشيخ المفيد ، الإرشاد ص ١٨٨ ، وروى ابن عساكر بسنده عن وهيب بن جرير قال قال أبي «فلما قتل علي بايع أهل الكوفة الحسن ابن علي وأطاعوا واحبوه اشد من حبهم لأبيه». تاريخ مدينة دمشق ، دار الفكر بيروت ١٤١٥ هـ ج ١٤ ص ٨٧.أقول : يريد بالجملة الاخيرة ان الامويين في الكوفة المنافقين الذين كانوا يكرهون القتال قد احبوا الحسنعليه‌السلام لموقف الصلح بالاضافة الى تسليم شيعة ابيهعليه‌السلام له.

٩٣

عثمان ، على كتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخين ، وهذه العقبة خلقت عدة مشكلات بعضها فَعلي والآخر تحت الرماد :

الأولى : مشكلة فقدان الأمان في الطرق الخارجية بين ولايات الدولة الإسلامية حيث انعدمت بفعل غارات جيش معاوية على الأطراف الآمنة التابعة لعليعليه‌السلام . وهذه مشكلة فعلية قائمة.

الثانية : مشكلة ثقافة العداء لعليعليه‌السلام عند أهل الشام ، فهم يعتقدون أن علياًعليه‌السلام مشترك في قتل عثمان مفسد في الدين مخالف لسيرة الشيخين ، يستحق أن يُلعن ويُتبرأ منه ومن شيعته بل يستحقون أن يُستأصَلوا جميعا وهذه المشكلة فعلية أيضا.

الثالثة : مشكلة تهديد الروم البزنطيين على الجبهة الشمالية الشرقية للشام وهذه المشكلة فعلية أيضا.

الرابعة : مشكلة تحت الرماد تتمثل باحتمال أن يتبنى المنشقُّون إحياء القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس لتجريد الحسنعليه‌السلام من سلاح الكعبة / القبلة العامة لكل المسلمين / ولإحكام عُزلة أهل الشام عن العراقيين حتى لا ينفتحوا على الحقائق التي قد تغيِّر من ولائهم لمعاوية. وقد حصل مثل هذا في عهد بني إسرائيل في الشام وتعددت القبلة والكتاب الإلهي عندهم وبقيت امتدادات القبلتين والكتابين إلى زمن معاوية وإلى اليوم ، وقد نفَّذ عبد الملك بن مروان جزءا من هذا المخطط في زمانه لما كان خصمه عبد الله بن الزبير مسيطراً على مكة.

العقبة الثانية ؛ الخوارج :

حمل الخوارج شعار التكفير لعليعليه‌السلام وتحولوا إلى خلايا اغتيال ومجموعات تغير على ال ابرياء وتقتلهم لأنهم يسالمون السلطة ، وقد تسببت هذه النشاطات ان تفتقد الأمة وبخاصة البلاد الشرقية الأمان داخليا.

٩٤

المفتاح لانطلاق مشروع علي عليه‌السلام في الشام

هو الصلح وليس الحرب

تكشف الدراسة المقارنة بين حال مشروع عليعليه‌السلام ومشروع النبوة من قبل عن حقيقة مثيرة وهي أن مشروع عليعليه‌السلام في إحياء سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أحاطته مشكلات هي عين المشكلات التي أحاطت بمشروع النبوة في المدينة من قبل لإحياء دين إبراهيم.

فقد استطاعت قريش المشركة أن تطوق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بطوق إعلامي يبرزه رجلاً انتهك حرمة البيت الحرام وسفك الدم الحرام في الشهر الحرام(١) مفسداً في دين إبراهيم ، وأبرزت قريش نفسها أنها على دين إبراهيم تريد السلم وخدمة بيت الله وزواره.(٢)

__________________

(١) جاء في بحار الأنوار العلامة المجلسي ج ١٩ ص ١٩١ ـ ١٩٢ عن تفسير علي بن إبراهيم : «في قوله تعالى( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) البقرة / ٢١٧» فإنه كان سبب نزولها أنه لما هاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة بعث السرايا إلى الطرقات التي تدخل مكة تتعرض لعير قريش ، حتى بعث عبد الله بن جحش في نفر من أصحابه إلى (نخلة) وهي بستان بني عامر ليأخذوا عير قريش أقبلت من الطائف عليها الزبيب والأدم والطعام فوافوها ، وقد نزلت العير وفيهم عمرو بن الحضرمي ، وكان حليفا لعتبة بن ربيعة ، فلما نظر ابن الحضرمي إلى عبد الله بن جحش وأصحابه فزعوا وتهيؤوا للحرب ، وقالوا : هؤلاء أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمر عبد الله بن جحش أصحابه أن ينزلوا ويحلقوا رؤوسهم ، فنزلوا وحلقوا رؤوسهم ، فقال ابن الحضرمي : هؤلاء قوم عُمّار ليس علينا منهم بأس ، فاطمأنوا ، ووضعوا السلاح ، فحمل عليهم عبد الله ابن جحش فقتل ابن الحضرمي وأفلت أصحابه ، وأخذوا العير بما فيها وساقوها إلى المدينة ، وكان ذلك في آخر يوم من رجب من الأشهر الحرم ، فعزلوا العير وما كان عليها ، فلم ينالوا منها شيئا ، فكتبت قريش إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنك استحللت الشهر الحرام وسفكت فيها الدم وأخذت المال ، وكثر القول في هذا ، وجاء أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله أيحل القتل في الشهر الحرام؟ فأنزل الله( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) قال : القتال في الشهر الحرام عظيم ، ولكن الذي فعلت بك قريش يا محمد من الصد عن المسجد الحرام والكفر بالله وإخراجك منه هو أكبر عند الله» والفتنة «يعني الكفر بالله» أكبر من القتل.

(٢) قال الواقدي : قالت قريش بعضها لبعض : قد جاءكم رؤساء أهل يثرب وأهل العلم والكتاب الأول ، فسلوهم عما نحن عليه ومحمدٌ ؛ ديننا خيرٌ أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت ، وننحر الكوم (جمع كوماء الناقة المشرفة السنام) ، ونسقي الحجيج ، ونعبد الأصنام. قالوا : اللهم ، أنتم أولى بالحق منه ؛ إنكم لتعطمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية ، وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ،

٩٥

واستطاعت بإعلامها هذا أن تجند عشرة آلاف مقاتل في معركة الأحزاب (الخندق).

وأوحى الله تعالى إلى نبيه ان يغيِّر خطة الحرب مع قريش بعد قصة الخندق إلى خطة صلح ، لأن مواصلة الحرب سوف لن تزيد الإعلام الكاذب إلا قوةً وتأثيرا ، وبالتالي سوف تبقى الصورة الصادقة للإسلام وللنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانه جاء معظماً للبيت ومحرراً له من الأصنام ، وأن قريشا هي التي تصد عن بيت الله سوف تبقى هذه الصورة حبيسة المدينة لا غير.(١)

وخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه في موسم الحج قاصداً العمرة معه الهدي رافعاً مشروع الصلح سنة ست من الهجرة ، ولكن قريش بقيت على عنادها وصدتَّه عن زيارة البيت ووقّعت معه معاهدة صلح مشترطةً عليه ان يرجع عامه هذا وأن يأتي العام القابل لزيارة البيت ، وافتضحت في دعاواها مع حلفائها حين صدت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه عن زيارة البيت ومعه الهدي.

وانفتح الناس على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيام الصلح ودخلوا في الإسلام وارتفع عدد المسلمين من ألف وخمسمائة إلى عشرة آلاف خلال سنتين ونصف ، ثم غدرت قريش بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وفتح النبي مكة وانهارت دولة قريش سنة ثمان من الهجرة.(٢)

__________________

فأنتم أولى بالحق منه. فأنزل الله تعالى في ذلك :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ) الواقدي ،المغازي ، دانش اسلامي ١٤٠٥ ، تحقيق مارسدن جونس ، ج ١ ص ٤٤٢.

(١) بعثت قريش الحليس بن علقمة ـ وهو يومئذ سيد الاحابيش ـ لملاقاة النبي فلما طلع الحليس قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا من قوم يعظمون الهدي ويتألهون ، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه. فبعثوا الهدي ، فلما نظر إلى الهدي يسيل في الوادي عليه القلائد ، قد أكل أوباره يرجع الحنين. واستقبله القوم في وجهه يلبون ، قد أقاموا نصف شهر قد تفلوا وشعثوا ، رجع ولم يصل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إعظاماً لما رأى ، حتى رجع إلى قريش فقال : إني قد رأيت ما لا يحل صده ، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره ، معكوفاً عن محله ، والرجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت! أما والله ما على هذا حالفناكم ، ولا عاقدناكم على أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظماً لحرمته مؤدياً لحقه ، وساق الهدي معكوفاً أن يبلغ محله ؛ والذي نفسي بيده لتخلن بينه وبين ما جاء به ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد! قالوا : إنما كل ما رأيت مكيدةٌ من محمدٍ وأصحابه ، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به. الواقدي ،المغازي ، ج ١ ص ٥٩٩.

(٢) انظر تفصيل ذلك في كتابناالسيرة النبوية تدوين مختصر ١٦١ ـ ١٦٦.

٩٦

وكذلك كان معاوية ومن معه من (قريش الأبناء)(١) في الشام سنة ٣٧ هـ فقد أظهروا لشعوب النصف الغربي من الأمة عبر الإعلام الكاذب : أنّ عليا قد سفك دماء المسلمين في حروبه لأجل الملك وانه افسد في دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان عثمان قُتل مظلوماً وأن قَتَلَةَ عثمان عند عليعليه‌السلام بل هو أحدهم(٢) ، وأنّ معاوية يدعو إلى دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الشيخين ويريد السلم والاقتصاص ممن قَتَلَ الخليفة المظلوم عثمان.

والحسنعليه‌السلام بين يديه مشروع أبيه (إحياء سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحاديثه في أهل بيتهعليهم‌السلام التي تعرف المسلمين بإمامتهم الإلهية الهادية) وهو مشروع يستهدف هداية الأمة كلها ، يحمله العراقيون معه. ولكنه حوصر داخل النصف الشرقي من البلاد الإسلامية من قبل معاوية وقريش المسلمة الأبناء التي اصطفت خلفه فحالوا دون انطلاقة المشروع إلى شعوب النصف الغربي من البلاد الإسلامية ، ولم يقف الأمر عند هذا المستوى بل استطاع معاوية أن يجنِّد من هذه الشعوب وبخاصة الشاميين جيشاً عقائدياً ضد المشروع يعمل على تطويقه ومقاتلته بكل ما أوتي من قوة ، وقد خاضوا معه أشد حرب وأعظم حرب شهدتها الأمة في تاريخها ثم تحول الجيش بعد ذلك إلى سرايا تغير على أطراف البلدان المؤمنة بعليعليه‌السلام تنهب وتسلب وتقتل وتنهزم لتخويف الناس والحد من انتشار مشروع عليعليه‌السلام .

ثم بايعت هذه الشعوب معاوية حاكماً على طريقة وسيرة سلفه الخلفاء القرشيين الذين فتحوا الدنيا ثم رفع معاوية شعار السلم والصلح(٣) وإيقاف الحرب بوجه الحسنعليه‌السلام .

__________________

(١) جاء في اختيار معرفة الرجال الشيخ ص ٩٠ : عن عبد الله بن سنان ، قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : كان مع أمير المؤمنينعليه‌السلام من قريش خمسة نفر ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة من قريش مع معاوية. الطوسي ، مؤسسة آل البيت قم ١٤٠٤.

(٢) وقد ورد ذلك في رسائل عليعليه‌السلام إلى معاوية منها قوله : فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني وعصبته انت وأهل الشام بي وألب عالمكم جاهلكم وقائمكم قاعدكم. (ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ، ج ١٧ ص ٩٧).

(٣) جاء في رواية البخاري ص ١٢٨٩ باب (ان ابني هذا سيد) عن الحسن البصري قال : لما سار الحسن بن عليعليهما‌السلام إلى معاوية بالكتائب ، قال عمرو بن العاص لمعاوية : أرى كتيبة لا تولي حتى تدبر أخراها ، قال معاوية : من لذراري المسلمين؟ ، فقا : أنا ، فقال عبد الله بن عامر ، وعبد الرحمن بن سمرة : نلقاه ، فنقول له : الصلح. وروى البخاري أيضا في صحيحه ص ٤٩٤ : قال : حدثنا عبد

٩٧

وأمامَ وضع معقد كهذا لا يصبح خيار مواصلة الحرب في صالح مشروع عليعليه‌السلام وبخاصة حين يكون قد طوقه الاعلام الأموي بصفة الإفساد ثم اللعن والبراءة والعمل على قتله بكل وسيلة.

ثم أن الصلح المحدود وإيقاف القتال بالطريقة التي طرحها معاوية بان يبقى العراق وما والاه للحسنعليه‌السلام والشام وما والاه لمعاوية كما هي طبيعة الأشياء وطبيعة طريقة تفكير معاوية تكرس الانشقاق والثقافة العدائية لعليعليه‌السلام ومن ثم بقاء الطريق مسدوداً أمام انفتاح أهل الشام على مشروع عليعليه‌السلام مضافاً إلى ما ينطوي عليه من خطر محتمل أشرنا إليه آنفاُ.

خصائص أطروحة الصلح المطلوبة

لإن أطروحة الصلح التي يحتاجها مشروع عليعليه‌السلام لينطلق في الشام لابد لها من أن تكون أطروحة تمتلك أن تحقق ما يلي :

١. تعالج الانشقاق وما ينطوي عليه من مخاطر فكرية وسياسية.

٢. تعرف الشاميين أنَّهم كانوا ضحية إعلام كاذب ، وأنَّ معاوية كان يطلب الملك وراء قتاله علياًعليه‌السلام ليس إلا ، وأنَّ قتلة عثمان هم قريش أنفسهم ثارت عليه بقيادة طلحة والزبير وعائشة لما آثر بني أبيه بالملك وزواه عنهم. وأن علياًعليه‌السلام كان أبعد الناس عن دم عثمان ، وأنه كان مصيباً في رفضه للخلافة المشروطة بالعمل بسيرة الشيخين يوم عرضها عليه عبد الرحمن بن عوف لاعتقاده أنها مخالفة لسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان حج التمتع ابرز مثال على ذلك ، وان حرب الجمل وصفين ونهروان ليست من اجل الملك بل من اجل إحقاق الحق ومعاقبة المعتدين ، وأن معاوية كان ظالماً لعليعليه‌السلام حين رفع شعار لعنه وقتاله. وأنَّ العراقيين كانوا مصيبين في نصرتهم علياًعليه‌السلام وفي بيعتهم للحسن بن عليعليه‌السلام .

__________________

الله بن محمد حدثنا سفيان عن أبي موسى قال سمعت الحسن يقول استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز فقال اذهبا إلى هذا الرجل فارعضا عليه وقولا له واطلبا إليه ...

٩٨

٣. تفرض على معاوية ان يتعامل / ولو ظاهريا ولمدة محدودة / بإيجابية مع ذكر عليعليه‌السلام بخير.

٤. تضمن اختلاط العراقيين مع الشاميين في أجواء المحبة والأمان ليتمكَّن العراقيون من نقل أخبار الإمامة الإلهية في عليعليه‌السلام وأخبار سيرته المشرقة.

٥. تحقق أجواء الأمان في الأمة كلها وتطوق الفكر التكفيري حلقات الاغتيال التي نشأت عنه.

٦. تدفع التهديد الخارجي الذي يلوح به الروم البزنطيين.

وليس من شك أن الصيغة الوحيدة التي تحقق كل الأمور الآنفة الذكر هي التنازل المشروط عن السلطة المدنية لمعاوية من قبل الحسنعليه‌السلام .

وهي أطروحة ليست صعبة على الحسنعليه‌السلام فهو أساساً إمامٌ هادٍ تهمُّه قضية الهداية والرسالة ومصلحة الأمة العامة قبل كل شيء ، والحكم القائم على بيعة الناس بالنسبة إليه / على الرغم أنه من حقه ويجب على الأمة أن تبايعه / لا يزيد من إمامته الإلهية شيئاً ولا ينقص منها شيئا.

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أعد الحسنعليه‌السلام لهذه المهمة الإلهية بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)(١) ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين سبطان من الأسباط)(٢) ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إن ابنيي هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).(٣)

__________________

(١) المفيد ،الإرشاد ، ص ١٩٩ ، الطبرسي ، اعلام الورى ، ص ٢١٦.

(٢) الطبراني ،المعجم الكبير ، ج ٣ ص ٣٢.

(٣) الحديث مروي بطرق مختلفة وأسانيد متعددة في كتب الحديث : قال ابن كثير في البداية والنهايةي ج ٦ ص ٢١٤ ـ ٢١٥ ما خلاصته : (وقد روى هذا الحديث البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والصنعاني في المصنف والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهم كلهم عن الحسن بن أبي بكرة الثقفي ، وقال المزي في أطرافه : وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة ، وروي أيضا من طريق جابر بن عبد الله الأنصاريرضي‌الله‌عنه )أقول : رواه الخطيب البغدادي فيتاريخ بغداد ج ٣ ص ٤٣٣ ، وج ٨ ص ٢٦ بسنده عن جابر. وفي الاستيعاب لابن عبد البر ج ١ ص ٢٣٠ قال : وتواترت الآثار الصحاح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لحسن بن علي : (إن ابني هذا سيد وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) رواه جماعة من الصحابة. وقد كتب الأستاذ حسن فرحان المالكي في كتابه (نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي ص ٢٤٣) يقول : (ومثلما حارب الرافضة حديث (صلح الحسن) فقد حارب النواصب (حديث عمار) ، إما بتضعيفه (رغم أنه متواتر ...)أقول : ان عمل

٩٩

وكذلك هي ليس صعبة على العراقيين شيعة عليعليه‌السلام المؤمنين بمشروعه ، فهم على نهجه يحملون همَّ هداية الأمة ومؤازرة القائد الإلهي المذخور لها. وليسوا طلّاب سلطة ودنيا وقد شهد لهم عليعليه‌السلام بذلك.

قالعليه‌السلام : (وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة).(١)

وقالعليه‌السلام مخاطبا لهم : أنتم الأنصار على الحق ، والأخوان في الدين والجنن يوم البأس والبطانة دون الناس.(٢)

وقالعليه‌السلام : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء ، والذي نفسي بيده لينتصرنَّ الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجار.(٣)

ولا زالت الكلمة الرائعة التي تمثل بها الحسنعليه‌السلام حين رحل عن الكوفة بعد الصلح في حُسن ثقته بالعراقيين يحفظها التاريخ وهي قوله :

__________________

الحسنعليه‌السلام كان صحيحا لأنه معصوم ، وكان إصلاحا حقيقيا في الأمة سواء بالتحليل الذي تبنته هذه الدراسة أو بالتحليل السائد إذ ان الأمة قد توحد شقاها وساد الأمان فيها عشر سنوات واختلط العراقيون بالشاميين وتعرفوا على سيرة عليعليه‌السلام وأحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أهل بيته ، ولم يروَّع شيعي واحد خلال هذه الفترة وإنما نكث معاوية عهده مع الحسنعليه‌السلام وغدر به سنة خمسين حيث دس له السم ونقض كل شرط اشترطه. والحديث النبوي الآنف الذكر فيه نبوءة تحققت وهداية للنصف الغربي من البلاد الإسلامية جرت على يد الحسنعليه‌السلام . نعم هناك بعض الكتاب المحدثين من الشيعة حاول تضعيف الحديث ولعل مراد ذلك إلى تركيز بعض الكتاب السنة على صلح الحسنعليه‌السلام ومحاولتهم تخطئة قتال عليعليه‌السلام لأهل الشام من خلاله ، مضافا إلى الغفلة عن كلمة الامام الحسن وكلمة الامام الباقر في الصلح. غير ان كلا الموقفين لا يمثلان الموقف العام لدى المدرستين.

(١) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ، ج ١٥ ص ٨١. الدينوري ، الاخبار الطوال ، ص ٢٧٨. نصر بن مزاحم ،وقعة صفين ، مكتبة المرعشي النجفي ١٤٠٣ ، ص ٤٧١.

(٢) ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٩٣. قال ابن أبي الحديد : الجَنَن : جمع جُنة ، وهي ما يستر به. وبطانة الرجل : خواصه وخالصته الذين لا يطوى عنهم سره.

(٣) ياقوت الحموي ،معجم البلدان ، دار إحياء التراث ١٩٧٩ م ، ج ٧ ص ١٦٠. وعن سعيد بن الوليد الهجري عن أبيه قال قال علي وهو بالكوفة ما أشد بلايا الكوفة لا تسبوا أهل الكوفة فوالله إن فيهم لمصابيح الهدى وأوتاد ذكر ومتاع إلى حين والله ليدقن الله بهم جناح كفر لا ينجبر أبدا إن مكة حرم إبراهيم والمدينة حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والكوفة حرمي ما من مؤمن إلا وهو من أهل الكوفة أو هواه لينزع إليها ألا إن الأوتاد من أبناء الكوفة وفي مصر من الأمصار وفي أهل الشام أبدال. ابن عساكر ،تاريخ مدينة دمشق ، ج ١ ص ٢١٩.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611