الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام0%

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 216

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف:

الصفحات: 216
المشاهدات: 59892
تحميل: 5079

توضيحات:

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59892 / تحميل: 5079
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

مؤلف:
العربية

والأخوال واعتبر السائل أن إجابته على ذلك تعني : أن الذين غصبوا حقه ليسوا بمؤمنين ، وإن لم يُجب فهو وإياهم شَرَع سواء.

وكان هو ، والحسنعليهما‌السلام ، وسلمانرحمه‌الله في المسجد الحرام ، فأحاله على الإمام الحسن ، فأجابه بما أقنعه. ثم أخبر أمير المؤمنينعليه‌السلام : أنه الخضر(1) .

وأرسل معاوية إلى أمير المؤمنين يسأله : كم بين الحق والباطل؟ وعن قوس قزح ، وما المؤنث؟ وعن عشرة أشياء بعضها أشد من بعض ، فأحال ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام على الإمام الحسنعليه‌السلام ، فأجابه عنها(2) .

وأرسل قيصر يسأل معاوية عن بعض المسائل ، فلم يعلم جوابها ، فأحالها إلى الإمام الحسنعليه‌السلام (3) .

بل إننا نجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه يرجع السؤال إلى الإمام الحسنعليه‌السلام ، ليجيب عليه كما ورد في بعض النصوص(4) .

ويطلب الإمام عليعليه‌السلام منه : أن يكتب لعبد الله بن جندب ، فكتب إليه :

« إن محمداً كان أمين الله في أرضه ، فلما أن قبض محمداً كنا أهل بيته ، فنحن أمناء الله في أرضه ، عندنا علم البلايا والمنايا ، وأنساب العرب ، ومولد الإسلام. وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان ، وبحقيقة النفاق ».

ثم يذكرعليه‌السلام ما لأهل البيت من الفضل العظيم ويقول : « نحن أفراط الأنبياء ، ونحن أبناء الأوصياء ( ونحن خلفاء الأرض

__________________

1 ـ إثبات الوصية ص 157 ، 158 ، والأحمدي عن البحار ج 14 ط كمباني ص 396 والاحتجاج مرسلاً مثله ، وعن المحاسن ، وعلي بن إبراهيم.

2 ـ البحار ج 43 ص 325 وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 66 وتحف العقول ص 160 ـ 162. ونقل عن المعتزلي ج 10 ص 129 ـ 131 ، والظاهر أن ثمة اشتباهاً في الأرقام.

3 ـ راجع : ربيع الأبرار ج 1 ص 722.

4 ـ البحار ج 43 ص 335.

١٢١

خ ل ) ». ثم يذكر منزلتهم ، ولزوم ولاية أمير المؤمنين وهي رسالة هامة لا بأس براجعتها في مصادرها(1) .

وأخيراً فقد روي عن عبد الله بن عباس ، قال : مرت بالحسن بن عليعليه‌السلام بقرة ، فقال : هذه حبلى بعجلة أنثى لها غُرَّة في جبهتها ، ورأس ذنبها أبيض ، فانطلقنا مع القصاب حتى ذبحها ، فوجدنا العجلة كما وصف على صورتها فقلنا له : أو ليس الله عز وجل ويعلم ما في الأرحام ، فكيف علمت ، قال : إنا نعلم المخزون المكتوم ، الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، غير محمد وذريته(2) .

وليراجع قولهعليه‌السلام حول ما هو مكتوب على جناح الجرادة ، واعتبار ابن عباس ذلك من مكنون العلم(3) .

وتفصيلات ذلك وسواه موجودة في المصادر التي في الهوامش.

فرض العطاء :

لقد اتبع عمر بن الخطاب سياسة خاصة في العطاء ، تركت آثاراً سيئة في نفوس الكثيرين ، وعلى المجتمع الإسلامي بصورة عامة سياسة تقوم على التعصبات الجاهلية ، وتظهر فيها الامتيازات المادية والعرقية(4) ، التي جهد

__________________

1 ـ الأحمدي عن البحار ط عبد الرحيم ج 7 ص 96 و 99 عن فرات وعن كنز الفوائد ومعادن الحكمة ج 2 ص 173 عن الكافي وبصائر الدرجات.

2 ـ البحار ج 43 ص 328 و 337.

3 ـ البحار ج 48 ص 337 والخرايج والجرائح ص 221.

وثمة روايات أخرى تدخل في هذا المجال ، فليراجع على سبيل المثال : البحار ج 44 ص 100 و 101 عن الاحتجاج عن سليم بن قيس.

4 ـ حول سياسة عمر في العطاء ، راجع ما تقدم من مصادر حين الكلام على التمييز العنصري.

وراجع : تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 153 / 154 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 321

=

١٢٢

الإسلام ، ونبي الإسلام في القضاء عليها ، واستئصالها من الأساس. سياسة لم يكن يرضاها أهل البيت ، وعلى رأسهم أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، بل لقد رفضهاعليه‌السلام بشدة وحزم ، ورضي بأن يحقد عليه القرشيون ، ويجيشوا الجيوش ، ويثيروا الحروب ، لأنه حرمهم من الامتيازات التي منحهم إياها عمر بن الخطاب ، ومن أهمها امتيازات العطاء هذه(1) .

ولكن هذه السياسة الخاطئة ، فقد ألفتت إلى ناحية ، وكرست أمراً ، لم يكن الخلفاء وأعوانهم قد التفتوا إليه ، ولا كان يروق لهم تكريسه ، أو أنهم قد التفتوا إليه ، ولكنهم لم يمكنهم تحاشيه ، والتخلص منه وهو أمر واقعي ، كان لا بد من الاحتفاظ به ، والإلتفات إليه بنحو ، أو بآخر ألا وهو الاعتراف الضمني بل الصريح من الهيئة الحاكمة ، وعلى رأسها عمر بن الخطاب ، الشخصية القوية جداً ، وذات النفوذ العظيم ـ نعم الاعتراف ـ بفضائل ومزايا الحسنين الزكيين عليهما الصلاة والسلام ، حيث ألحقهم عمر بن الخطاب بأهل بدر ، تنبيهاً على المكانة الممتازة التي كانا يتحليان بها ، ولم يكن بالإمكان التغاضي عنها ، أو تجاهلها.

بل إننا لنجده « قسم يوماً ، فأعطاهما عشرين ألف درهم ، وأعطى ولده عبد الله ألف درهم ، فعاتبه ولده ، فقال : قد علمت سبقي إلى الاسلام ، وهجرتي ، وأنت تفضل علي هذين الغلامين؟ ( وهذا يعني : أن ذلك قد كان في أوائل خلافة عمر ). فقال : ويحك يا عبد الله ، إئتني بجدٍ مثل جدهما ، وأنا أعطيك مثل عطائهما »(2) .

__________________

=

وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 533 والإمام الحسين للعلايلي ص 309 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 111 وفتوح البلدان للبلاذري ، القسم الثالث ص 548 ـ 566 وغير ذلك.

1 ـ راجع : ما تقدم حين الكلام حول سياسة التمييز العنصري.

2 ـ الإمام الحسين للعلايلي هامش ص 309 عن تذكرة الخواص. ويرى المحقق العلامة الأحمدي حفظه الله : أن تعليل عمر هذا لفعله ذاك ، لعله كان يرمي إلى الإشارة إلى أن ما فعله لم يكن إلا لأجل انتسابهما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا لأجل ما يتحليان به من خصائص ومزايا. ولعله يتعمد صرف الأنظار عن ذلك.

=

١٢٣

الإمام الحسن عليه‌السلام في الشورى :

وحينما طعن عمر بن الخطاب ، ورتب قضية الشورى على النحو المعروف ، قال للمرشحين : « واحضروا معكم من شيوخ الأنصار ، وليس لهم من أمركم شيء ، وأحضروا معكم الحسن بن علي ، وعبد الله ين عباس ، فإن لهما قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما. وليس لهما من أمركم شيء. ويحضر ابني عبد الله مستشاراً ، وليس له من الأمر شيء » فحضر هؤلاء(1) .

ويبدو : أن هذه أول مشاركة سياسية فعلية معترف بها ، بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي بعد بيعة الرضوان ، وبعد استشهاد الزهراء صلوات الله وسلامه عليها بهما في قضية فدك ، على النحو الذي تقدم.

ويلاحظ هنا : أنه قد اكتفى بذكر الإمام الحسنعليه‌السلام ، ولم يذكر الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام ، ولعل ما كان قد جرى بينهما ، وقول الحسين له : انزل عن منبر أبي ، لم يغرب عن ذهن الخليفة بعد.

ولكنه قد ذكر عبد الله بن عباس ، الذي كان عمر يقربه ، ويهتم بشأنه ، ولعل ذلك كان مكافأة لأبيه العباس ، الذي لم يتعرض لحكمهم وسلطانهم ، إن لم نقل : إنه قد ساهم في تخفيف حدة التوتر في أحيان كثيرة فيما بينهم وبين عليعليه‌السلام ، كما جرى في قصة البيعة لأبي بكر ، ثم في قصة زواج عمر نفسه بأم كلثوم بنت أمير المؤمنين كما أنه لم يساهم في قتل القرشيين في بدر ولا في غيرها.

بالإضافة إلى أن عمر يريد أن يوجد قرناء للإمام الحسنعليه‌السلام ،

__________________

=

وأقول لكننا مع ذلك ، نفهم أنه لم يكن بإمكانه تجاهلهما ، وإن كان يمكن أن يكون هدفه من تعليله ذاك هو ما ذكر.

1 ـ الإمامة والسياسة ج 1 ص 24 و 25.

١٢٤

ويوحي بأنه كما له هوعليه‌السلام امتياز من نوع ما ، كذلك فإن غيره لا يفقد هذه الامتيازات بالكلية ، بل له منها أيضاً نصيب ، كما للإمام الحسن عليه الصلاة والسلام.

ثم هناك الدور الذي رصده لولده عبد الله الذي كان يرى في والده المثل الأعلى الذي لا بد أن يحتذى ، وتنفذ أوامره ، وينتهي إلى رغباته وآرائه ، ولا يجوز تجاوزها

وكان عمر يدرك طبعاً مدى تأثير شخصيته وهيمنته على ولده ، ويثق بأن ولده سيجهد في تنفيذ المهمة التي يوكلها إليه ولكن لا بد من التخفيف من التساؤلات التي ربما تطرح حول سر اختصاص ولده بهذا الدور دون سواه ، فكانت هذه التغطية التي لا تضر ، والتي يؤمن معها غائلة طغيان الشكوك والتفسيرات ، التي لايرغب في أن ينتهي الناس إليها في ظروف كهذه

ومن الجهة الثالثة فإن بأشراك الحسنعليه‌السلام وابن عباس ، على النحو الذي ذكره من رجائه البركة في حضورهما يكون قد أضفى صفة الورع والتقوى على خطته تلك ، وتمكن من إبعاد أو التخفيف من شكوك المشككين ، واتهاماتهم

هذا باختصار ما يمكن لنا أن نستوحيه ونستجليه من الحادثة المتقدمة في عجالة كهذه

ولكن موقف أمير المؤمنينعليه‌السلام في الشورى ، ومناشداته بمواقفه وبفضائله ، وبأقوال النبي صلى عليه وآله فيه ، قد أفسدت كل تدبير ، وأكدت تلك الشكوك ، وأذكتها

وأما بالنسبة لقبول الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام للحضور في الشورى ، فهو كحضور عليعليه‌السلام فيها فكما أن أمير المؤمنين قد أشترك فيها من أجل أن يضع علامة استفهام على رأي عمر الذي كان قد أظهره ـ وهو الذي كان رأيه كالشرع المتبع ـ في أن النبوة والخلافة لا تجتمعان في بيت واحد أبداً ، بالإضافة إلى أنه من أجل أن لا ينسى الناس قضيتهم

١٢٥

كذلك فإن حضور الإمام الحسنعليه‌السلام في هذه المناسبة إنما يعني انتزاع اعتراف من عمر بأنه ممن يحق لهم المشاركة السياسية ، حتى في أعظم وأخطر قضية تواجهها الأمة كما أن نفس أن يرى الناس مشاركته هذه ، وأن يتمكن في المستقبل من إظهار رأيه في القضايا المصيرية ، ولو لم يُقبل منه وأن يرى الناس أن من الممكن قول كلمة « لا » وأن يسمع الطواغيت هذه الكلمة ، ولا يمكنهم ردها ، بحجة : أنها صدرت من هاشمي ، وقد قبل عمر ـ وهو الذي لا يمكنهم إلا قبول كل ما يصدر عنه ـ مشاركة الهاشميين في القضايا السياسية والمصيرية الكبرى ، وحتى في هذه القضية بالذات

نعم إن كل ذلك ، يكفي مبرراً ودليلاً لرجحان ، بل ولحتمية مشاركة الإمام الحسن في قضية الشورى واستجابته لرغبة عمر في هذا المجال

كما أنه يكون قد انتزع اعترافاً من عمر بن الخطاب ، بأنه ذلك الرجل الذي لا بد أن ينظر إليه الناس نظرة تقديس ، وأن يتعاملوا معه على هذا المستوى ولم يكن ذلك إلا نتيجة لما سمعه عمر ورآه ، هو وغيره من الصحابة ، من أقوال ومواقف النبي الأكرم بالنسبة إليه ، ولأخيه الحسين السبط عليهما الصلاة والسلام.

وعليه فكل من يعاملهما على غير هذا الاساس ، حتى ولو كان قد نصبه عمر وأعطاه ثقته ، ومنحه حبه وتكريمه ، فإنه يكون متعدياً وظالماً وحتى مخالفاً لخط ورأي ، نظرة ذلك الذي يصول على الناس ويجول بعلاقته وارتباطه به.

نعم وقد رأينا الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام يذكر : ان الذي دعاه للدخول في ولاية العهد ، هو نفس الذي دعا أمير المؤمنين للدخول في الشورى(1) .

__________________

1 ـ مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 364 ومعادن الحكمة ص 192 وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 140 والبحار ج 49 ص 140 و 141 ، والحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص 306. عنهم.

١٢٦

وقد أوضحنا ذلك في كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام فليراجعه من أراد.

١٢٧

١٢٨

الفصل الثالث :

في عهد عثمان

١٢٩
١٣٠

الإمام الحسن عليه‌السلام في وداع أبي ذر :

« يا عماه ، لولا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت ، وللمشيع أن ينصرف ، لقصر الكلام ، وإن طال الأسف. وقد أتى من القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو عنك راض »(1) .

تلك هي كلمات الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه ، وهو يودع مع أبيه ، وأخيه ، وعمه عقيل ، وابن عمه عبد الله بن جعفر ، وابن عباس ـ أبا ذر ، ذلك الصحابي الجليل ، الذي جاهد وناضل القوم في سبيل الدين والحق. ولاقى منهم ما لاقى من اضطهاد وإهانة وبلاء ، حتى قضى غريباً ، وحيداً فريداً في « الربذة » : منفاه.

هي كلمات ناطقة بموقفه القائم على أساس العقيدة والحق ، تجاه تصرفات وأعمال الهيئة الحاكمة : « القوم ».

وهو بكلماته هذه يساهم في تحقيق ما كان يرمي إليه أبو ذر من أهداف ، حيث كان لا بد من إطلاق الصرخة ، لإيقاظ الأمة من سباتها ، وتوعيتها على حقيقة ما يجري وما يحدث ، وإفهامها : ان الحاكم لا يمكن أن يكون أبداً في

__________________

1 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 253 والغدير ج 8 ص 301 عنه ، وأشار إلى ذلك اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 172 وعن : الوافي ج 3 ص 107 والبحار ج 22 ص 412 و 436. وراجع أيضاً روضة الكافي ج 8 ص 207.

١٣١

منأى عن المؤاخذة ، ولا هو فوق القانون ، وإنما هو ذلك الحامي له ، والمدافع عنه ، فإذا ما سوّلت له نفسه أن يرتكب أية مخالفة ، أو أن يستغل مركزه في خدمة أهوائه ومصالحه الشخصية ، فإن بإمكان كل أحد أن يقف في وجهه ، ويعلن كلمة الحق ، ويعمل على رفع أي ظلم أو حيف يصدر منه.

ومن جهة أخرى فإنه إذا كانت الظروف لا تسمح لأمير المؤمنين وسبطيهعليهم‌السلام ، وآخرين ممن هم على خطهم لأن يقفوا موقف أبي ذر ، فإن عليهم ـ على الأقل ـ أن يعلنوا عن رأيهم ـ الذي هو رأي الإسلام ـ فيه ، وفي مواقفه ، فإن ذلك من شأنه : أن يعطي موقفه العظيم ذاك بعداً إعلامياً ، وعمقاً فكرياً وسياسياً ، يحمي تلك المعطيات والنتائج التي ستنشأ عنه فكانت مبادرتهم ـ إلى جانب مبادرات أخرى لأمير المؤمنينعليه‌السلام خاصة ، لامجال لذكرها هنا ـ لتوديعه ، رغم منع السلطة ، ثم جرى بينهم وبين مروان ، ثم بينهم وبين عثمان ما جرى ، حسبما ذكره ، أو أشار إليه غير واحد من المؤرخين(1) .

وإذا تأملنا في كلمات الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه لأبي ذر في ذلك الموقف ، فإننا نجدها تتضمن : تأسفه العميق لما فعله القوم بأبي ذر ، ثم هو يشجعه على الاستمرار على موقفه ، ويعتبر أن فيه رضى النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن ثم رضى الله سبحانه وتعالى

كما أنه يحاول التخفيف عن أبي ذر ، وإعطائه الرؤية الصحيحة ، التي من شأنها أن تخفف من وقع المحنة عليه ، وتسهل عليه مواجهة البلايا التي تنتظره ، وذلك حينما يأمرهعليه‌السلام بأن : يضع عنه الدنيا ، بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها.

فإن هذه الكلمات بالذات قد تكفلت ببيان السر الحقيقي ، الذي يجعل شخصية الإنسان المسلم أقوى من كل ما في الدنيا من أسلحة وقدرات تملكها

__________________

1 ـ راجع : مروج الذهب ج 2 ص 339 ـ 342 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 252 ـ 255 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 172 / 173 والفتوح لابن أعثم ج 2 ص 159 و 160.

١٣٢

قوى البغي والشر ، وتجعله على استعداد لأن يضحي بكل شيء حتى بنفسه ، بكل رضا وثقة واطمئنان ، بل وباندفاع يحمل معه شعوراً غامراً بالسرور والهناء ، بل وبالفرحة والسعادة.

اشتراك الإمام الحسن عليه‌السلام في الفتوح :

1 ـ ويقولون : إنه في سنة ثلاثين غزا سعيد بن العاص طبرستان ، وكان أهلها في خلافة عمر قد صالحوا سويد بن مقرن على مال بذلوه ، ثم نقضوا ، فغزاهم سعيد بن العاص ، ومعه الحسن ، والحسين ، وابن عباس(1) .

قال أبو نعيم بالنسبة إلى الإمام الحسنعليه‌السلام : « دخل أصبهان غازياً ، مجتازاً إلى غزاة جرجان »(2) .

وعده السهمي هو وأخاه الحسينعليه‌السلام ممن دخل جرجان(3) .

2 ـ وفي مناسبة فتح افريقية يقولون : إن عثمان جهز العساكر من المدينة ، وفيهم جماعة من الصحابة ، منهم ابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو بن العاص ، وابن جعفر ، والحسن والحسين ، وابن الزبير ، وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين(4) .

__________________

1 ـ الفتوحات الإسلامية ج 1 ص 175 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 109 وتاريخ الطبري ج 3 ص 323 ، وفتوح البلدان للبلاذري بتحقيق المنجد ، قسم 2 ص 411 ، وتاريخ ابن خلدون ج 2 قسم 2 ص 135 والبداية والنهاية ج 7 ص 154 ، وحياة الإمام الحسنعليه‌السلام للقرشي ج 1 ص 96 ، وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 536 وج 2 ص 17 عن ابن خلدون والطبري.

2 ـ ذكر أخبار أصفهان ج 1 ص 44 وراجع ص 43 و 47.

3 ـ تاريخ جرجان ص 7.

4 ـ العبر ( تاريخ ابن خلدون ) ج 2 قسم 1 ص 128 وحياة الحسنعليه‌السلام للقرشي ج 1 ص 95 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 2 ص 16 ـ 18 و ج 1 ص 535 عن ابن خلدون وعن الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى للناصري السلاوي ج 1 ص 39.

١٣٣

التفسير والتوجيه :

وقد حاول البعض توجيه ذلك على أساس : أنهعليه‌السلام يريد أن يرى اتساع نفوذ الإسلام ، حيث إن في هذه الفتوحات خدمة للدين ، ونشراً للإسلام ، فدخلعليه‌السلام ميدان الجهاد « والجهاد باب من أبواب الجنة » وألقى الستار على ما يكنه في نفسه من الاستياء على ضياع حق أبيه وذلك لأن أهل البيتعليهم‌السلام ما كان همهم إلا الإسلام والتضحية في سبيله(1) .

وعلى حد تعبير الحسني : « وليس بغريب على علي بن أبي طالب وبنيه أن يجندوا كل إمكانياتهم وطاقاتهم في سبيل نشر الإسلام ، وإعلاء كلمته. وأذا كانوا يطالبون بحقهم في الخلافة فذاك لأجل الإسلام ونشر تعاليمه ، فإذا اتجه الإسلام في طريقه ، فليس لديهم ما يمنع من أن يكونوا جنوداً في سبيله ، حتى ولو مسهم الجور والأذى وقد قال أمير المؤمنين أكثر من مرة : والله لأ سالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليَّ خاصة »(2) .

ويعلل رحمه الله تعالى عدم اشتراك الحسنين في المعارك الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب ، بالرغم من أنها قد بلغت ذروتها في مختلف المناطق ، والانتصارات يتلو بعضها بعضاً ، والأموال والغنائم تتدفق على المدينة من هنا وهناك وبالرغم من أن الإمام الحسنعليه‌السلام كان في السنين الأخيرة من خلافة عمر قد أشرف على العشرين من عمره ، وهو سن مناسب للاشتراك في الحروب ، التي كان يتهافت المسلمون كهولاً وشباباً وشيوخاً على الاشتراك بها

__________________

1 ـ راجع : حياة الحسنعليه‌السلام للقرشي ج 1 ص 95 و 96 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 وج 2 ص 16 ـ 18.

وكلمة عليعليه‌السلام الأخيرة في نهج البلاغة ج 1 ص 120 / 121 الخطبة رقم 71 ط عبده.

2 ـ سيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 536 وراجع ص 317.

١٣٤

ـ يعللرحمه‌الله ذلك بقوله : « لعل السبب في ذلك يعود إلى انصراف أمير المؤمنين عن التدخل في شؤون الدولة والحياة السياسية ، ومما لا شك فيه : أن عدم اشتراك الإمام في الحروب والغزوات لم يكن مرده إلى تقاعس الإمام ، وحرصه على سلامة نفسه. بل كان كما يذهب أكثر الرواة والمؤرخين لأن عمر بن الخطاب قد فرض على الكثير من أعيان الصحابة ما يشبه الإقامة الجبرية لمصالح سياسية يعود خيرها إليه ، وبقي الحسن السبط إلى جانب والده منصرفاً إلى خدمة الإسلام ، ونشر تعاليمه ، وحل ما يعترض المسلمين من المشاكل الصعاب »(1) .

الرأي الصواب :

ولكننا بدورنا ، لا نستطيع قبول ذلك ، ونعتقد : أن الحسنينعليهما‌السلام لم يشتركا في أي من تلك الفتوحات ونرى أن تلك الفتوحات لم تكن ـ عموماً ـ في صالح الإسلام ، إن لم نقل : إنها كانت ضرراً ووبالاً عليه ، ونستطيع أن نجمل ما نرمي إليه هنا على النحو التالي :

ألف : آثار الفتوح على الشعوب التي افتتحت أرضها :

إن من الواضح : أن تلك الفتوحات لم يكن يتبعها أي اهتمام ـ من قبل ـ الهيئة الحاكمة بإرشاد الناس ، وتعليمهم ، وتثقيفهم ، وتربيتهم تربية دينية صالحة ، بحيث يتحول الإسلام في داخلهم إلى طاقة عقائدية ، تشحن وجدان الإنسان وضميره بالمعاني السامية ، والنبيلة ، ولينعكس ذلك ـ من ثم ـ على كل حركات ذلك الإنسان ومواقفه ، وتغنى روحه وذاته بالمعاني والخصائص الإنسانية

__________________

1 ـ سيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 534 وراجع صفحة 317.

١٣٥

الإسلامية السامية ، وتؤثر في صنع ، ثم في بلورة خصائصه الأخلاقية ، على أساس تلك المعاني التي فجرتها العقيدة في داخل ذاته ، وفي عمق ضميره ووجدانه.

نعم لقد اتسعت رقعة الإسلام خلال عقدين من الزمن اتساعاً هائلاً ، يفوق أضعافاً كثيرة جداً ما تم إنجازه على هذا الصعيد في عهد الرسول الأعظم صلى عليه وآله وسلم. ولكن الفارق بينهما كان شاسعاً ، والبون كان بعيداً ، فلقد كان الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكتفي من الناس بإظهار الإسلام والتلفظ بالشهادتين ، ثم ممارستهم السطحية لبعض الشعائر والظواهر الإسلامية ، وإنما كان يرسل لهم المعلمين والمرشدين ، والمربين ، ليعلموهم الكتاب والحكمة ، وأحكام الدين(1) .

__________________

1 ـ راجع : التراتيب الإدارية ج 1 ص 477 و248 ،

وقد أرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلمهم ، كما أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده لعمرو بن حزم يأمره بتعليمهم ( راجع مكاتيب الرسول كتابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمرو بن حزم ).

وفي التراتيب الإدارية ج 1 ص 41 : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهدد من لا يعلم جيرانه. وفي البخاري هامش فتح الباري ج 1 ص 166 يقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفد عبد القيس : « ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ».

وفي غزوة بئر معونة قتل العشرات ممن أرسلهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لتعليم الناس أحكام الدين.

وليراجع غزوة الرجيع وغير ذلك كثير جداً لا مجال لتتبعه

ولكن قال بعض المحققين : إن قسطاً عظيماً من الفتوح الإسلامية كان في إيران ، ونرى كثيراً من العلماء والمتعبدين من الإيرانيين في زمن التابعين ، ولا يمكن نشوء هؤلاء إلا بالتعليم والإرشاد ، من قبل الصحابة والتابعين وأهل المدينة ، فعدم ذكر هذه الإرشادات لا يدل على عدم وجودها.

ونقول : إن ما ذكره قد كان بعد عشرات السنين من هذه الفتوحات كما أن كمية العلماء والمتعبدين التي أشار إليها ، لا تتناسب مع حجم الفتوحات هذه.

كما أنهم إنما كان المتعبدون منهم ممن يعيشون في المناطق القريبة من البلاد الإسلامية.

وعلى كل حال ، فإن ذلك رغم أنه لم يكن في المستوى المطلوب ، ولا في

=

١٣٦

أما هذه الفتوحات العظيمة التي تم إنجازها على عهد الخلفاء الثلاثة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم في عهد الأمويين ، فلم يكن يصحبها تربية ولا تعليم ، ولا كان ثمة كوادر كافية للقيام بمهمة كهذه ، بالنسبة لهذه الرقعة الواسعة ، وهذا المد البشري الهائل ، ولا كان يهم الخلفاء والفاتحين ذلك من قريب ، ولا من بعيد.

وإنما كانوا يكتفون من المستسلمين بالتلفظ بالشهادتين ، ثم بممارسة بعض الحركات والشعائر ، ظاهراً ، من دون أن يكون لها أي عمق عقيدي ، أو رصيد ضميري أو وجداني ذي بال ولذلك نجد في كتب التاريخ : أن كثيراً من البلدان تفتح ، ثم تعود إلى الكفر والعصيان ، ثم تفتح مرة أخرى(1) .

فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يريد من الناس الإسلام والإيمان معاً «قَالَتِ الأَعْرَابُ : آمَنّا. قُلْ : لَمْ تُؤْمِنوا ، وَلِكن قُولُوا: أَسْلَمنا ، وَلَمّا يدخُلِ الإيمَانُ في قُلوبِكُمْ »(2) .

أما الآخرون ، فكانوا يكتفون منهم بظاهر الأسلام ، ولا يهمهم ما بعد ذلك.

ونجد عدم الاهتمام هذا واضحاً جلياً لدى القرشيين(3) ، وحتى الكثيرين من صحابة رسول الله صلى عليه وآله وسلم منهم حتى لقد قال موسى بن

__________________

=

المناطق البعيدة ، وكان بعد مضي جيل أو جيلين أو أكثر لم يكن نتيجة لجهود الهيئة الحاكمة ، بل هو نتيجة جهود أفراد مخصوصين دفعهم شعورهم بالمسؤولية ، ولا سيما أمير المؤمنينعليه‌السلام طيلة أيام حكمه ، ثم جهود سائر الأئمة ، والصحابة المخلصين.

1 ـ راجع على سبيل المثال : تاريخ ابن خلدون ج 2 قسم 2 ص 131 و 132 و 133 والبداية والنهاية ج 7 ص 152 و 155 و 165 و 121 وليراجع : الفتوح لإبن اعثم الترجمة الفارسية ص 85 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 465 وتاريخ الطبري ج 3 ص 325 والفتوحات الإسلامية لدحلان ج 1 فإن فيه الكثير من الموارد وراجع المختصر في أخبار البشر ج 1 ص 186.

2 ـ سورة الحجرات آية : 14.

3 ـ لذلك شواهد كثيرة في النصوص التاريخية ، لا مجال لإيرادها الآن

١٣٧

يسار : « إن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا أعراباً جفاة ، فجئنا نحن أبناء فارس ، فلخصنا هذا الدين »(1) .

وهكذا فإن أهل البلاد المفتوحة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بقوا على ما كانوا عليه من عاداتهم وتقاليدهم ، ومفاهيمهم الجاهلية ، التي كانت تهيمن على حركاتهم ، وعلى مواقفهم ، وعلى علاقاتهم الاجتماعية بصورة عامة ، ولم يتعمق الإسلام في وجدانهم ، ولا مسَّ ضمائرهم ، فضلاً عن أن يكونوا قد ذابوا فيه ، بحيث يصبح هو المهيمن ، والمحرك والدافع لهم في كل موقف وكل حركة

آثار ونتائج :

وعلى صعيد آثار هذه الظاهرة على المدى البعيد ، فقد كانت لها آثار سيئة جداً..فإن تلك العادات ، والتقاليد ، والمفاهيم ، والانحرافات الجاهلية ، والعلاقات القبلية ، والأهواء والأطماع الشخصية ، وما يتبع ذلك من ممارسات لا إنسانية لم ير فيها المستفيدون منها ، الذين ما عرفوا من الإسلام إلا اسمه ، ولا من الدين إلا رسمه أمراً مخالفاً للإسلام ، أو مصادماً له ، ولا أحسوا فيها أية منافرة أو منافاة له ، إن لم نقل : إنها ـ بزعم أولئك المستفيدين منها ـ قد انتزعت من الإسلام اعترافاً بها ، وأصبح يؤمِّن غطاء وحماية لها ، حيث قد صارت ملبسة بلباس الشرع ، ومصبوغة بصبغة الدين.

بل إن الحكام وأعوانهم ، ممن كان لهم مكانة ما لدى الناس ، بسبب صحبتهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورؤيتهم له ـ هم أيضاً ، أو أكثرهم ـ لم يكن الإسلام قد تعمق في نفوسهم كثيراً ، بل بقوا على ما كانوا عليه من انحرافات ، ومن مفاهيم وتقاليد جاهلية وقبلية ، وقد استفادوا من مركزهم ، ومن موقعهم ، ومن مكانتهم في مجال تركيز تلك المفاهيم والعادات والانحرافات ، ولو عن

__________________

1 ـ لسان الميزان ج 6 ص 136 وميزان الاعتدال ج 4 ص 227.

١٣٨

طريق وضع الأحاديث على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتأييدها ، كما كان الحال بالنسبة للتميز العنصري ، وتفضيل العربي على المولى ، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إلى بعض منه.

ولا أقل من أنهم لم يكن يهمهم أمر الإسلام ، ونشر مفاهيمه وتعاليمه ، من قريب ولا من بعيد.

وبعد فإنه إذا كان إسلام الناس صورياً ، لا يدعمه أي بعد عقيدي ، وليس له أية خلفيات وقواعد ثقافية وعلمية ، ولا يتصل بروح الإنسان وعقله ووجدانه ، بحيث يصير محركاً وجدانياً ، واندفاعاً ضميرياً فإنه سيتقلص تدريجاً ، ولا يعود له أي أثر على صعيد الحركة والموقف ولسوف يعتاد الناس على إسلام كهذا يرون أنه لا يتنافى مع جميع أشكال الإنحرافات والجرائم ، وتصبح هداية هؤلاء الناس على المدى البعيد أكثر صعوبة ، وأعظم مؤونة ، إن لم نقل : إنه يحتاج إلى عملية بل إلى عمليات جراحية عميقة جداً تستنفد الكثير من الطاقات والمواهب وتنتهي بهدر العظيم من القدرات والإمكانات ولقد كان بالإمكان تجنب كل ذلك ، لو كان ثمة تأس واتباع للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتأثُّر لخطاه المباركة والميمونة في هذا المجال.

وعلى صعيد آخر فإن مجتمعاً كهذا لا يملك المناعات ولا الحصانات الكافية ، التي تضمن عدم صيرورته ألعوبة بأيدي الأشرار ، بل بأيدي أولئك الذين يتخذونه أداة لهدم الإسلام الحقيقي ، الذي يرونه يقف حاجزاً أو مانعاً أمام أطماعهم وأهوائهم وانحرافاتهم ، وقد حصل ذلك بالفعل ، كما يتضح لمن يراجع التاريخ ، ولا سيما فترة الحكم الأموي ، ثم ما يلي ذلك من فترات.

وعن مجتمع العراق في عصر الإمام الحسنعليه‌السلام ، نجد النص التاريخي يقول : « ومعه أخلاط من الناس ، بعضهم شيعته ، وشيعة أبيهعليهما‌السلام ، وبعضهم محكِّمة ، يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب طمع في الغنائم وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية ، اتبعوا رؤساء

١٣٩

لأحكام ومثلها في أصول دين »(1) .

لقد كان هذا حال مجتمع العراق في عهد الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام ، رغم أنه كان أقرب إلى مركز الحكم الإسلامي من غيره ، ورغم أنه قد كان ثمة عناية خاصة من قبل الهيئة الحاكمة بشأن العراق ، الذي كان مركز الانطلاق لغزو بلاد المشرق

وقد تحدثنا عن مجتمع العراق بشيء من التفصيل في بحثنا المستفيض حول الخوارج ، والذي نأمل في تقديمه إلى القراء في فرصة قريبة إن شاء الله تعالى.

ولكن يلاحظ على النص المتقدم قوله : « بعضهم شيعته ، وشيعة أبيه » فإننا لا نعتقد : أن هذا البعض كان من الكثرة بحيث يصح جعله في قبال سائر الفئات التي تحدث عنها ذلك النص ، إذ :

« قد كان الناس كرهوا علياً ، ودخلهم الشك والفتنة ، وركنوا إلى الدنيا ، وقلّ مناصحوه ، فكان أهل البصرة على خلافه ، والبغض له ، وجلّ أهل الكوفة وقراؤهم ، أهل الشام ، وقريش كلها »(2) .

بل لقد روى الكشي عن الباقرعليه‌السلام قوله : « كان علي بن أبي طالبعليه‌السلام عندكم بالعراق ، يقاتل عدوه ، ومعه أصحابه وما كان منهم خمسون رجلاً يعرفنه حق معرفته ، وحق معرفته إمامته »(3) .

وفي حرب صفين يقول عليعليه‌السلام لعدي بن حاتم : « أدن. فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه. فقال : ويحك ، إن عامة من معي اليوم يعصيني. وإن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه »(4) .

__________________

1 ـ كشف الغمة للأربلي ج 2 ص 165 والإرشاد للمفيد ص 193 وأعيان الشيعة ج 4 قسم 1 ص 50 و 51.

2 ـ الغارات للثقفي ج 2 ص 552.

3 ـ اختيار معرفة الرجال ص 6.

4 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 77.

١٤٠