حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 530

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 216625 / تحميل: 8355
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

في قوله:(الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) قال: الصافنات الخيل إذا أصفنّ قياماً، عقرها: قطع أعناقها وسوقها، وقوله:(أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخيْرِ...) يقول: الخير المال، والخيل من المال، يقول: فشغلته الخيل عن الصلاة.(1)

تفسير الطبريّ

« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » .

قال: وفي هذا الكلام محذوفٌ استغني بدلالة الظاهر عليه من ذِكره، فَلَهِيَ عن الصلاة حتّى فاتته فقال: إنّي أحببتُ حبَّ الخير! ويعني بقوله:« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) : أي أحببتُ حبّاً للخير، ثمّ أضيف الحبّ إلى الخير، وعَنِي بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب فيما بلغني تسمّي الخيل الخير، والمال أيضاً يسمّونه الخير. فعن قتادة« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ » أي المال والخيل، أو الخير والمال.(2)

وبسنده عن سفيان، عن السُّدِّيّ« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) قال: الخيل. وأيضاً عن السُّدِّيّ، قال: المال. (3)

وقوله:« عَن ذِكْرِ رَبّي » يقول: إنّي أحببت حبَّ الخير حتّى سهوتُ عن ذكر ربّي وأداء فريضة. وقيل: إنّ ذلك كان صلاة العصر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال

____________________

(1) تفسير عبد الرزّاق الصنانيّ (ت 211 هـ) 2: 133 / الحديث 2588، وأيضاً تفسير عبد الرزّاق 2: 85،(وَعَشِيّاً) الروم: 18 -: العصر.

(2) تفسير الطبريّ 23: 182.

(3) نفسه.

٢٢١

أهل التأويل. عن قتادة، وعن السدّيّ«عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) عن صلاة العصر.(1)

وأخرج بسنده عن أبي صخر، أنّه سمع أبا معاوية الجبليّ من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصّهباء البكريّ يقول: سألت عليّ بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العصر، وهي التي فُتِن بها سليمان بن داود.(2)

وقوله:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » يقول: حتّى توارت الشمس بالحجاب، يعني تغيّبت في مغيبها. ذُكِر ذلك عن ابن مسعود وعن السّدّيّ.(3)

وفي قوله:« فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالْأَعْنَاقِ » : عن قتادة قال: قال الحسن: قال: لا واللهِ لا تشغليني عن عبادة ربيّ آخر ما عليك.

قال قولهما - يعني قتادة والحسن - فيه: فكسف عراقيبها، وضرب أعناقها.(4)

وعن السّدّيّ: فضرب سُوقَها وأعناقها.(5)

الفخر الرازيّ: ذكر وجوهاً لحبّ داود للخيل، منها: أنّ هذه المحبّة الشديدة إنّما حصلت عن ذكر الله وأمره، لا عن الشهوة والهوى، وهذا الوجه أظهر الوجوه.(6)

____________________

(1) تفسير الطبريّ 23: 182.

(2) نفسه 23: 183.

(3) نفسه.

(4) نفسه.

(5) نفسه.

(6) التفسير الكبير، للفخر الرازيّ 26: 204.

٢٢٢

قال: والضمير في قوله:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » وفي قوله:«رُدُّوهَا» يحتمل أن يكون كلّ واحد منهما عائداً إلى الشمس؛ لأنّه جرى ذكر ما له تعلّقٌ بها، وهو العشيّ.(1)

تفسير السّلميّ: قال أبو سعيد القرشيّ: من غار للهِ وتحرّك له؛ فإنّ الله يشكر له ذلك، ألا ترى سليمان لمّا شغلته الأفراس عن الصلوات حتّى توارت الشمس بالحجاب، قال: ردّوها عَلَيّ فطفق مسحاً بالسّوق والأعناق.

فشكر اللهله صنيعه فقال:« فَسَخّرْنَا لهُ الرّيحَ » ، أبدلَه مركباً أهنى منهم وأنعم.(2)

ابن عطية الأندلسي: ذكر في تفسيره بشأن الآيات فقال: اختلف الناس في قصص هذه الخيل المعروضة، فقال الجمهور: إنّ سليمانعليه‌السلام عرضت عليه آلافٌ من الخيل تركها له أبوه، فأجريت بين يديه عشاءً، فتشاغل بجنسها وجريها ومحبّتها حتّى فاتته صلاة العشاء.(3)

قال: قال قتادة: صلاة العصر، ونحوه عن عليّ بن أبي طالب، فأسف لذلك وقال: رُدّوا علَيّ الخيل. قال الحسن: فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف؛

____________________

(1) نفسه.

(2) تفسير السّلمي محمّد بن الحسين الأزديّ السّلميّ (ت 412 هـ) 2: 186.

(3) إنّ قوله: فاتته صلاة العشاء، غير دقيق، إذ الذي في الآية:(العَشِيَّ) وهو ما بعد الزوال، كما في المعاجم والتفاسير على ما مرّو ما سيأتي. ونسبة قولَه إلى الجمهور! ليس صحيحاً، فقد ذكرنا بعض أقوالهم وسنذكر أخرى وكلّها تقول، «العصر». وقد وجدناه بعد قوله: فاتته صلاة العشاء، يذكر قول قتادة أنّها صلاة العصر! ومثله نسبه إلى الإمام عليّعليه‌السلام .

٢٢٣

عقراً لما كانت سبب فوت الصلاة، فأبدله الله أسرع منها.

قال: والضمير في (توارت) للشّمس، وإن كان لم يَجْرِ لها ذكر صريح لأنّ المعنى يقتضيها وأيضاً فذِكْرُ العشيّ يقتضي لها ذكراً ويتضمّنها، لأنّ العشيّ إنّما هو مقدّرٌ متوهّمٌ بها.(1)

وفي تفسير ابن العربيّ:( بِالْعَشِيِّ ) : من زوال الشّمس إلى الغروب، كما أنّ الغداة من طلوع الشمس إلى الزوال.(2)

الجياد: هي الخيل، وكلّ شيء ليس برديء يقال له جيّد، عرضت الخيل على سليمانعليه‌السلام ، فشغلته عن صلاة العشيّ.

قال المفسّرون: هي العصر.(3)

قال: وكان له ميدان مستدير يسابِقُ بينها فيه، فنظر فيها حتّى غابت الشمس خلف الحجاب، وهو ما كان يحجب بينه وبينها.(4)

وفي قول مَن قال: إنّ الشمس لم يجر لها ذِكر، قال: وهذا فاسد، بل تقدّم عليها دليل، وهو قوله:«بِالْعَشِيِّ» ، كما تقول: سِرتُ بعد العصر حتّى غابت، يعني الشمس، وتركها لدلالة السامع لها عليها بما ذكر ممّا يرتبط بها وتعلّق بذكرها؛

____________________

(1) المحرّر الوجيز: لعبد الحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسيّ (ت 546 هـ).

(2) أحكام القرآن لأبي بكر محمّد بن عبد الله المعروف بابن العربي 4: 50.

(3) نفسه: 51.

(4) نفسه.

٢٢٤

والغداةُ والعشيُّ أمرٌ مرتبط بمسير الشمس، فذُكره ذِكْرٌ لها.(1)

نظم الدّرر:« عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ » ، أي فيما بعد زوال الشمس،«الصَّافِنَاتُ» أي الخيول العربيّة الخالصة التي لا تكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض؛ اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمّتها، وإظهاراً لقوّتها ورشاقتها وخفّتها...«الْجِيَادُ) ، التي تجود في جريها بأعظم ممّا تقدر عليه، جمع جواد، فلم تزل تُعرَض عليه حتّى فاتته صلاة آخر النّهار، وكان المفروض على من تقدّمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فانتبه في الحال.

ولمّا كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزّته مع زيادة أوْبته، لتحصل التأسِية به في حسن ائتماره وانتهائه بقوله: فَقَالَ ولمّا كان اللاّئق بحاله والمعروف من فعاله أنّه لا يُؤثّر على ذكر الله شيئاً، فلا يكاد أحد ممّن شاهد ذلك يظنّ به ذلك - أي التسلية واللّهو - بل يوجّهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محاملَ تَليق بما يعرفونه من حالٍ من الإقبال على الله والغنا عمّا سواه، أكد قوله تواضعاً للهِ تعالى، ليعتقدوا أنّه بشر يجوز عليهم لو لا عصمةُ الله: إِنِّي، ولمّا كان الحبّ أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلاّ بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحبّ، فهو غيرُ دالٍّ عليه إلاّ بقرائن، قال اعترافاً أَحْبَبْتُ أي: أوجدت وأظهرت بما ظهر منّي من الاشتغال بالخيل، مقروناً بذلك بأدلّة الودّ حُبَّ الخيْرِ وهو المال، بل خلاصة المال وسبب كلّ خيرٍ دنيويّ وأخرويّ «الخيلُ معقودٌ

____________________

(1) أحكام القرآن 4: 51.

٢٢٥

بنواصيها الخير».(1)

أظهرتُ ذلك بغاية الرّغبة، غافلاً«عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» المحسن إليّ، بهذه الخيل التي شغلتني، فلم أذكره بالصّلاة التي كانت وظيفة الوقت؛ وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له. ولم يزل ذلك بي«حَتَّى تَوَارَتْ» أي الشمس المفهومة من «العَشِيّ»،«بِالْحِجَابِ» وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها، فصارت وراءها حقيقةً.(2)

ولما اشتدّ تشّوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأوّاب، بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل...، فَطَفِقَ أي: أخذ يفعل ظافراً بمراده، لازماً له مصمّماً عليه واصلاً له معتمداً على الله في التقوية على العدوّ، لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل، مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذّكر، مُعْرِضاً عمّا يمكن أن يتعلّق به القلب، متقرّباً به إلى الله تعالى كما يتُقرّب في هذه الملّة - أي ملّة الإسلام - بالضحايا.

مَسْحاً: أي يوقع المسح فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً.(3)

المفردات: العشيّ: من زوال الشمس إلى الصباح والعشاء: من صلاة المغرب

____________________

(1) أخرجه البخاريّ برقم 2849 و 3624، ومسلم 1871، والنّسائيّ 221، والبيهقيّ 6: 329، والبغويّ 2644.

(2) نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور: لإبراهيم بن عمر البقاعيّ (ت 885 هـ) 6: 383.

(3) نفسه 6: 384.

٢٢٦

إلى العتمة.(1)

تاريخ دمشق: قال الحسن:« إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ » كانت خيلاً بلقاً جياداً، وكانت أحبّ الخيل إليه البلق فعرضت عليه، فجعل ينظر إليها« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، فغفل عن صلاة العصر.

وعن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، أنّه سئل عن صلاة الوسطى فقال: هي التي غفل عنها نبيّ الله سليمان بن داود حتّى تورات بالحجاب. يعني العصر.(2)

الكشّاف: ذكر الزمخشري في تفسيره القصّة، نختصرها:

إنّ سليمان قعد يوماً - بعدما صلّى الأولى - على كرسيّه واستعرضها، فلم نزل تُعرَض عليه حتّى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن وردٍ من الذكر كان له وقتَ العشيّ، وتهيّبوه فلم يُعلموه، فاغتمّ لما فاته، فاستردّها عقرها ومُقرّباً للهِ. وقيل: لما عقرها أبدله الله خيراً منها، وهي الريح تجري بأمره.(3)

قال: والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك، أو المخبأة بحجابها. والذي دلّ على أنّ الضمير للشمس مرور ذكر العشيّ، ولابدّ للمضمر من جري ذكرٍ أو دليل ذكر.(4)

____________________

(1) المفردات في غريب القرآن للحسين بن محمّد المعروف بالراغب الأصفهانيّ (ت 502 هـ): 338.

(2) مختصر تاريخ دمشق 10: 125.

(3) تفسير الكشّاف لمحمود بن عمر الزمخشريّ (ت 538 هـ) 91: 4 - 92.

(4) نفسه 4: 93.

٢٢٧

ابن كثير: ذكر غير واحد من السّلف والمفسّرين أنّه اشتغل بعرضها حتّى فات وقت صلاة العصر، والذي يُقطع به أنّه لم يتركها عمداً بل نسياناً، كما شُغِل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن صلاة العصر يوم الخَنْدق حتّى صلاّها بعد الغروب.

ويُحتمل أنّه كان سائغاً في ملّتهم تأخير الصلاة لضرر الغزو والقتال، والخيل تُراد للقتال.(1)

النهاية(2) : في حديث الصلاة «حين توارت بالحجاب» الحجاب هاهنا: الأفق، يريد حين غابت الشمس في الأفق واستترت به. ومنه قوله تعالى:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » .

الثعالبيّ: ذكر الثعالبيّ في تفسيره، قال: اختلف المتأوّلون في قصص هذه الخيل المعروضة على سليمانعليه‌السلام ؛ فقال الجمهور: إنّ سليمان عُرضت عليه آلاف الخيل تركها له أبوه... فتشاغل بجريها ومحبّتها حتّى فاته وقتُ صلاة العشيّ، فأسف لذلك... فطفق يمسحُ سوقها وأعناقها بالسيف. قال الثعالبيّ وغيره: وجعل ينحرها تقرّباً إلى الله تعالى حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك مباحاً لهم كما أبيح لنا بهيمةُ الأنعام؛ فرُوي أنّ الله تعالى أبدله منها أسرع منها، وهي الريح.

والضمير في«تَوَارَتْ» للشمس، وإن كان لم يتقدّم لها ذكر؛ لأنّ المعنى

____________________

(1) تفسير القرآن العظيم: لابن كثير (ت 774 هـ) 7: 56.

(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزريّ (ت 606 هـ) 1: 340.

٢٢٨

يقتضيها، وأيضاً فذكر العشيّ يتضمّنها.(1)

ابن وَهبْ: قال عبد الله بن وهب: سألت اللّيث عن قول الله:« بِالْغُدُوّ والآصَالِ » (2) ، فقال: الآصالُ العشيّ. (3)

ولا يخفى: أنّ الأصيل هو الوقت بين العصر والمغرب، فهو العشيّ.

هود الهُوّاريّ: ذكر في تفسيره:« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) أي: حبّ المال، يعني الخيل، وهي في قراءة عبد الله بن مسعود «حب الخيل»،« عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أي غابت، يعني الشمس« بِالْحِجَابِ) ففاتته صلاة العصر.(4)

القرطبيّ:« تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، كنايةً عن غير مذكور، وتركُها لدلالة السامع عليها بما ذكر ممّا يرتبط بها.(5)

مجمع البحرين:« تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، أضمرها ولم يجر لها ذكر، والعرب تقول ذلك إذا كان في الكلام ما يدلّ على المـُضمر. (6)

الجصّاص: ذكر الآيات ثمّ قال عن ابن مسعود: حتى توارت الشمس

____________________

(1) تفسير الثعالبيّ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» لعبد الرحمان بن محمّد الثعالبيّ المالكيّ (ت 875 هـ) 5: 66.

(2) الأعراف: 205، الرعد: 15، النور: 36.

(3) الجامع: عبد الله بن وَهْب المصريّ (ت 197 هـ) 2: 165.

(4) تفسير كتاب الله العزيز: هود بن مُحَكَّم الهوّاريّ (ت منتصف القرن الثالث الهجريّ) 4: 16.

(5) الجامع لأحكام القرآن لمحمّد بن أحمد القرطبيّ الأنصاريّ 15: 195.

(6) مجمع البحرين لفخر الدين الطريحيّ (ت 1085 هـ) ج 1: ص 434.

٢٢٩

بالحجاب.(1)

الصدوق: ذكر روايةً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، هي: إنّ سليمان بن داودعليهما‌السلام عُرِض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارث الشمس بالحجاب، فقال للملائكة: ردّوا الشمس عَلَيّ حتّى أصلّي صلاتي في وقتها. فرَدُّوها، فقام فمسح ساقيه وعنقه، وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك وكان ذلك وضوءهم للصلاة، ثمّ قال فصلّى، فلمّا فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم. وذلك قول الله عزّ وجلّ:« وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ ...» (2) .

الطّبرسيّ: «المراد بالخير الخيل هنا، فإنّ العرب تُسمّي الخيل الخير ن عن قتادة والسدّيّ. فالمعنى آثرتُ حبَّ الخيل عن ذكر ربّي، وقيل: إنّ هذه الخيل كانت شَغَلَتْه عن صلاة العصر حتّى فات وقتها. عن عليّعليه‌السلام ، وقتادة والسدّي. وفي روايات أصحابنا أنّه فاته أوّل الوقت».(3)

وقوله تعالى:« رُدّوهَا عَلَيّ) ، قال: قيل: معناه أنّه سأل اللهَ تعالى أن يَرُدّ الشمس عليه، فردّها عليه حتّى صلّى العصر. فالهاء في ردّوها كناية عن الشمس. عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .(4)

____________________

(1) أحكام القرآن للجصّاص أحمد بن عليّ الرازيّ (ت 370)، 3: 502.

(2) من لا يحضره الفقيه للصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القميّ (ت 381 هـ 1: 129).

(3) مجمع البيان للفضل بن الحسن الطبرسيّ (ت 548 هـ) 8: 740.

(4) مجمع البيان 8: 741.

٢٣٠

وفي رواية عن ابن عبّاس: سألتُ عليّاًعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس؟ قلت: سمعتُ كعباً يقول: اشتغل سليمانُ بعرض الأفراس حتى فاتته الصّلاة، فقال ردّوها علَيَّ، يعني الأفراس، كانت أربعة عشر، فأمر بضرب سوقها وأعناقها، فقتلها، فسلبه الله مُلكه أربعة عشر يوماً؛ لأنّه ظلم الخيل بقتلها!

فقال عليّعليه‌السلام : كذب كعب، لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم؛ لأنّه أراد جهاد العدوّ، حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر الله تعالى للملائكة الموكّلين بالشمس: رُدّوها علَيِّ فرُدّت، فصلّى العصر في وقتها، وإنّ أنبياء الله لا يَظلمون ولا يأمرون بالظّلم؛ لأنّهم معصومون مطهّرون».(1)

ابن شهر آشوب: ذكر في مناقبه: عن ابن عبّاس بطرق كثيرة أنّه لم تُردَّ الشمس إلاّ لسليمان وصيّ داود وليوشع وصيّ موسى، ولعليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.(2)

الكلينيّ: بسنده عن أبي جعفر «الباقر»عليه‌السلام في قول عزّ وجلّ:« إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً » (3) قال: يعني مفروضاً. وليس يعني وقت فوتها إذا جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها، فلم تكن صلاته هذه مؤدّاةً، ولو كان ذلك كذلك

____________________

(1) مجمع البيان 8: 741. وانظر: تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ 4: 299، والميزان للطباطبائي 17: 206، وكنز الدقائق للمشهديّ 11: 233.

(2) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب محمّد بن عليّ المازندرانيّ (ت 588 هـ) المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، 2: 146. وانظر: من لا يحضره الفقيه للصدوق 1: 29، رواية 9 - 12.

(3) النساء: 103.

٢٣١

لهلك سليمان بن داودعليهما‌السلام حين صلاّها لغير وقتها، ولكنّه متى ذكرها صلاّها.(1)

القمّيّ: ذكر في تفسيره: أنّ سليمانعليه‌السلام كان يحبّ الخيل ويستعرضها، فعرضت عليه يوماً، إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر، فاغتمّ من ذلك غمّاً شديداً، فدعا الله أنّ يردّ عليه الشمس حتّى يصلّي العصر...».(2)

ابن أبي جامع العامليّ: ذكر في تفسيره:«رُدُّوهَا» أي الشمس عَلَيَّ أيّها الملائكة الموكّلون بها. طلب منهم ردّها بأمر الله إيّاه بذلك، فردّت، فصلّى. كما ردّت ليوشع وعليّعليه‌السلام .(3)

السيّد عبد الله شبّر: حَتَّى«تَوَارَتْ» أي الشمس، بدلالة العشيّ عليها، بِالْحِجَابِ بحجاب الأفق، أي غربت، أو حتّى غابت الخيل عن بصره حين أجريت رُدُّوهَا أي الشمس عَلَيَّ أيّها الملائكة الموكّلون بها، فردّت فصلّى، كما ردت ليوشع وعليّ عليهما‌السلام . (4)

العلاّمة الطباطبائيّ: «إنّي شغلني حبّ الخيل، حين عُرض علَيّ، عن الصلاة حتّى فات وقتها بغروب الشمس. وإنّما كان يحبّ الخيل في الله ليتهيّأ به للجهاد في سبيل الله، فكان الحضور للعرض عبادةً منه، فشغلته عبادةٌ عن عبادة، غير

____________________

(1) الكافي لمحمد بن يعقوب الكلينيّ الرازيّ (ت 328 هـ) 3: 294.

(2) تفسير القمّيّ لعلي بن إبراهيم القمّيّ (القرن الثالث والرابع الهجريّ) 2: 234.

(3) الوجيز في تفسير القرآن العزيز لعليّ بن الحسين بن أبي جامع العامليّ (1070 - 1135 هـ) 3: 101.

(4) تفسير القرآن الكريم لعبد الله شبّر (ت 1242 هـ): 429.

٢٣٢

أنّه يعدّ الصلاة أهمّ».(1)

ثمّ ذكر الرواية التي ذكرها الطّبرسيّ في دعاء سليمانعليه‌السلام واستجابة الله تعالى له، فردّ عليه الشمس حتّى صلّى.

الفيض الكاشانيّ:«رُدُّوهَا عَلَيَّ) الضمير للشمس... في «الفقيه» عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ سليمان بن داودعليهما‌السلام عرض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب. فقال للملائكة: ردّوا الشمس علَيّ حتّى أصلّي صلاتي في وقتها...، تمام الرواية التي ذكرها الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام .(2)

ظهور الضمير في الشمس

إضافة إلي ما ذكرنا من مصادر معتبرةٍ مُعتدّ بها، قد ذَكَرت أنّ الضمير في تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ عائد إلى الشمس.

نذكر مصادر أخرى ذكرت ذلك، على نحو الإيجاز:

تنزيه الأنبياء: ذكر الشريف المرتضى عن الجبائيّ: أنّها الشمس... وفاتته صلاةٌ مستحبّة.(3)

____________________

(1) الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائيّ (1321 - 1402 هـ) 17: 203.

(2) تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ (ت 1091 هـ) 4: 298.

(3) تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى: 135.

٢٣٣

غريب الحديث: تَوَارَتْ الشمس.(1)

وابن عساكر: عن الحسن: يعني الشمس. وأيضا: قول جمهور أهل العلم: الشمس. (تاريخ مدينة دمشق 22: 241، 42: 506). وكذلك في: «عصمة الأنبياء؛ للفخر الرازيّ: 83، زاد المعاد لابن الجوزيّ 6: 335. تأويل الآيات لعليّ الحسينيّ (ت 965 هـ) 2: 552. لسان العرب لابن منظور 1: 299. البرهان في علوم القرآن لمحمّد بن عبد الله الزركشيّ (ت 794 هـ) 4: 26.

النتيجة:

1 - أنّ الشمس ردّت ليوشع وسليمان وعليّعليهم‌السلام .

2 - بطل الإشكال الذي ذكره ابن تيميه في أنّ الشمس لو ردت حقيقة لعليّ، لم تكن له فضيلة! لأنّه يكون قد أدّى صلاته في غير وقتها! فهو إمّا مقصّر والمقصّر عليه أن يتوب؛ وإمّا غير مقصّر فلا ذنب عليه ولا حاجة لردّ الشمس.

وجوابه: لقد أدّاهاعليه‌السلام في وقتها بدليل رجوع الشمس إلى وقت العصر. ولو لم يكن لرجوعها فضيلة، لما دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستجاب الله تعالى له فردّها، ولما دعا سليمانعليه‌السلام فردّها سبحانه عليه.

وليس تقصير في البين، لا من سليمان النبيّ، ولا من عليّ الوصيّعليهما‌السلام فكلاهما كان في عبادة شغلته عن عبادة، مع الموقع المهمّ للصلاة في العبادات.

____________________

(1) غريب الحديث لابن سلام (ت 224) 3: 79.

٢٣٤

كرامات أعظم من ردّ الشمس

كبر على ابن الجوزيّ ردّ الشمس زيادةً في إعجاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكرامة لوليّه عليه السلام، فيها ذكر كرامات لغيرهما تبزّ عين الشمس، ويكون ردّ الشمس لا شيء إزاءها! فشايعه ابن تيميه على الأولى ولم ينكر عليه الثانية.

وقبل ذكر أمثلة من تلك الكرامات العظيمة، نقول: أثبتنا قوّة ووثاقة سند حديث ردّ الشمس؛ فيما جرّد أبو الفرج أخباره تلك من الأسانيد وألقى كثيراً منها على لسان رجل مجهولٍ أو امرأة نكِرة، وكثير منها أحلامٌ ومنامات. وآن الأوان لأن نجول في تلك الأخبار ونقتطف بعضاً من بحرها!

الله عزّ وجلّ يزور أحمد

روى ابن الجوزيّ، قال: حدّثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربيّ وكان شيخاً صالحاً، قال: قد جاء في بعض السنين مطر كثير جدّاً قبل دخول رمضان بأيّام، فنمتُ ليلة فيرمضان فأريت في منامي كأنّي قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره، فرأيت قبره قد التصق بالأرض مقدار سافٍ أو سافَين فقلتُ: إنّما تمّم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث، فسمعته من القبر وهو يقول: لا، بل هذا من هيبة الحقّ عزّ وجلّ، قد زارني فسألته عن سرّ زيارته إيّاي في كلّ عام، فقام عزّ وجلّ: يا أحمد! لأنّك نصرت

٢٣٥

كلامي فهو يُنشَر ويتلى في المحاريب.(1)

فأيّ شأن يبقى لردّ الشمس، والله - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً - يزور أحمد في قبره؟! إلاّ أنّ البعض يثير إشكالاً على أبي الفرج! فيقول: مَن هو هذا الرجل الصالح الذي روى لك منامَه هذا فجعلتهَ حقيقةً في مناقب أحمد، وهل يرقى إلى رواة وسند حديث ردّ الشمس؟!

وكيف سمع أحمد كلام هذا الرجل وهو في قبره، وأنت تروي في مناقبه أنّه قد رُفع إلى الجنّة متوّجاً يُدخِل مَن يشاء ويمنع من يشاء - سيأتي - وإنّ نزول الله - جلّ وعزّ عن ذلك - يعني أنّه سبحانه في جهةٍ ممّا يعني تحديده وتبعيضه، ممّا هو صفة الحوادث المخلوقة.

تتويج أحمد

وذكر أبو الفرج من أحوال أحمد قال: قال زكريّاء بن يحيى السّمسار(2) :

رأيت أحمد بن حنبل في المنام على رأسه تاج مرصّع بالجوهر، وفي رجلَيه نعلان وهو يخطر بهما. فقلت: أبا عبد الله، ماذا فعل الله بك؟ قال: غفرلي، وأدناني من نفسه، وتوّجني بيده هذا التّاج، وقال لي: هذا بقولك: القرآن كلام الله

____________________

(1) مناقب أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزيّ: 454.

(2) لم أجد له ترجمة في الكتب المعتمدة، وذكره ابن حجر في لسان الميزان 2: 483 / 1945: (زكريا) بن يحيى البديّ، عن عكرمة، قال ابن معين: ليس بثقة، قال ابن المدينيّ عنه: هالك. قال الدوريّ ليس بثقة. قال النسائيّ: ليس بثقة. قال ابن حبّان: يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم.

٢٣٦

غير مخلوق. قلت: فما هذه الخَطْرة الّتي لم أعرفها لك في دار الدّنيا؟! قال: هذه مِشْية الخُدّام في دار السلام.(1)

لا اعتراض على دخول أحمد الجنّة، ولكنّ الأمر متعلّق بتتويج الله تعالى بيده لأحمد، وتكليمه له؛ ممّا يعني: أنذ له جلّ ثناؤه أبعاضاً، وأنّه يتكلّم بحرفٍ وصوت؛ وهو ما يوافق عقيدة ابن تيميه التي أُدين بها وحُوقق لأجلها.

أحمد قسيم الجنّة

ووفاقاً لمنهجه في ذكر أعظم الكرامات التي مستند أعمّها المنامات، قال قال عليّ بن الموفّق(2) : رأيت كأنّي أدخِلت الجنّة، فإذا أنا بثلاثة نفر: رجل قاعد على مائدة قد وكّل الله به ملكين، فملك يطعمه وملك يسقيه وآخر واقف على باب الجنّة ينظر إلى وجوه قومٍ فيدخلهم الجنّة. وآخر واقف في وسط الجنّة، شاخص ببصره إلى العرش ينظر إلى الربّ. فجئت إلى رضوان فقلت: من هؤلاء؟ فقال: أمّا الأوّل فبُشْرُ الحافي، وأمّا الواقف في وسط الجنّة فمعروف الكرخي، وأمّا الواقف على باب الجنّة فأحمد بن حنبل قد أمره الجبّار أن ينظر إلى وجوه أهل السّنّة، فيأخذ بأيديهم فيُدخلهم الجنّة.(3)

وليس لنا أن نبخس الناس أشياءهم وإن كنت مستندةً إلى منامات، إلاّ

____________________

(1) مناقب أحمد بن حنبل، لأبي الفرج: 436.

(2) لم أجد له ترجمة.

(3) مناقب أحمد، لأبي الفرج: 443.

٢٣٧

أنّه تعترضنا أمور: هل يشقّ على بِشْر أن يأكل ويشرب بنفسه من دون أن يُعنّي الملَكَين؟! وأين صار عالم البرزخ فتجاوزه هؤلاء ودلفوا الجنّة؟ وأليس كون الربّ - سبحانه وتعالى - على عرش بذاته ينظر إليه في علوّه، من صفات الحوادث إذ هو صريح في حلوله جلّ وعزّ، في مكان يحتويه؟!

وأظنّ صاحب الرؤيا أخطأ في تشخيص الرجل الواقف على باب الجنّة! ذلك أنّ قسيم الجنّة كما يرد في الأحاديث هو عليّ بن أبي طالب كما قرّره أحمد بن حنبل نفسه!

قال القاضي ابن أبي يعلى الحنفيّ: سمعت محمّد بن منصور(1) يقول: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يُروى أنّ عليّاً قال: أنا قسيم النار؟ فقال أحمد: وما تُنكرون من ذا - وفي لفظ: من هذا الحديث؟ - أليس رَوينا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ: «لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(2) ؟ قلنا: بلى، قال فأين المؤمن؟ قلنا في الجنّة، قال: وأين

____________________

(1) محمّد بن منصوربن داود الطّوسي، نزيل بغداد. يروي عن أحمد بن حنبل، وإسماعيل بن عُلَيّة... وغيرهما. توفّي سنة ستّ وخمسين ومئتين. تهذيب الكمال للمزّيّ 26: 501 / 5631.

(2) ووفق منهجه، فقد كذبه ابن تيميه - سنأتي عليه في محلّه - ويرد الحديث بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، وأسانيده موثّقة ومصادره في منته العلوّ والوثاقة.

الأعمش - سليمان بن مهران الأعمش الكوفيّ أبو محمّد. رأى أنس بن مالك وروى عنه. ذكره ابن حبّان في الثّقات 2: 184 / 1421 - في التّابعين -، وذكره العجليّ قال: ثقة، كوفيّ، يقال: إنّه ظهر له أربعة آلاف حديث. وكان عالماً بالقرآن رأساً فيه، وكان فصيحاً لا يلحن حرفاً، وكان عالماً بالفرائض، ولم يكن في زمانه أكثر حديثاً منه. وكان فيه تشيّع تاريخ الثقات للعجلي 204 =

٢٣٨

____________________

= / 619. وذكره الطوسيّ في أصحاب الصادقعليه‌السلام رجال الطوسيّ: 206 - عن عديّ بن ثابت - عدي بن ثابت الأنصاريّ، عداده في أهل الكوفة، يروي عن البراء بن عازب الثّقات لابن حبّان 2: 417 / 392. وهو عالم الشيعة وصادقهم (الجرح والتعديل للرازي 7: 5، تهذيب التهذيب لابن حجر 7: 165). وذكره ابن شاهين فقال: ثقة، إلاّ أنّه كان يتشيّع (تاريخ أسماء الثّقات 254 / 1016). وقال العجليّ عنه: ثقة ثبت، روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ولم يدركه سفيان الثّوريّ، وكان شيخاً عالماً في عداد الشيوخ، روى عن عبد الله بن يزيد الخطميّ من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثّقات للعجليّ: 330 / 1115) - عن زرّ - زرّ بن حبيش الأسديّ الكوفيّ أبو مريم ز مات سنة ثنتين وثمانين وكان من أعرب الناس و كان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربيّة. روى عن: عمر وعليّ وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان (تاريخ ابن معين 2: 172، الجرح والتعديل للرازيّ 3 / الترجمة 2817، الاستيعاب 1: 212، الثّقات لابن حبّان وفي (تاريخ الثقات للعجلي 165 / 458): زرّ بن حبيش، من أصحاب عبد الله وعليّ، ثقة. وذكره الطوسيّ في أصحاب عليّعليه‌السلام وقال: وكان فاضلاً (رجال الطوسيّ: 42) - عن عليّ قال: إنّه لعهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ أنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق.

أخرجه: الترمذيّ في (الجامع الصحيح، في المناقب / ح 3737)، والنسائي في (الإيمان 8 / 117)، و (مسند أحمد 1: 84 و 95، وتاريخ الإسلام للذهبيّ 3: 634، وأنساب الأشراف 225 و 226 والشفا للقاضي عياض: 31، ومناقب الإمام علي لابن المغازلي: 137 / الرقم 225 و 226 و أسد الغابة 4: 105.

وأخرجه ابن ماجة في (سننه 1: 42 / 114 بنفس السند ولفظه: «عهد إليّ النبيّ الأمّيّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق».

وبنفس السند أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنّف 7: 494 ومسلم في صحيحه 2: 64 ولفظه: عن عليّ بن أبي طالب قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، أنّه لعهد النبيّ الأمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق. =

٢٣٩

____________________

= وأخرج ابن مردويه بسده عن أبي موسى الأشعريّ، قال: أشهد أنّ الحقّ مع عليّ، ولكن مالت الدنيا بأهلها! ولقد سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (يا عليّ، أنت مع الحقّ والحقّ بعدي معك، لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق) وإنّا لنحبّه، ولكنّ الدنيا تغرّ بأهلها (فضائل عليّ لابن مردويه: 115 / الحديث 138، والأربعون حديثاً لابن بابويه الرازيّ: 42.

وبسند عن مساور الحِمْيَريّ، عن أمّه، عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (لا يبغض عليّاً مؤمن، ولا يحبّه منافق) (المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503).

شريك - مضت ترجمته - عن قيس بن مسلم: (قيس بن مسلم، كوفيّ، ثقة روى عن مرّة الهمدانيّ، وكان يميل مع عليّ بعض الميل، وقد شهد مع عليّ تلك المشاهد (تاريخ الثقات للعجلي 394 / 1401) عن أبي عبد الله الجدليّ: (أبو عبد الله الجدليّ الكوفيّ، اسمه: عبد بن عبد، وقيل: عبد الرحمان بن عبد. روى عن خزيمة بن ثابت، وسلمان الفارسيّ، وسليمان بن صُرَد الخزاعيّ، وأمّ سلمة، وعائشة... وغيرهم. روى عنه: إبراهيم النخعيّ وعامر الشّعبي، وعطاء بن السائب، وأبو إسحاق السبيعيّ وغيرهم. روى له: أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائي في الخصائص، وابن ماجة في السنن قيل لأحمد بن حنبل: أبو عبد الله الجدليّ معروف؟ قال: نعم، ووثّقه. روى له: أبو داود، والترمذيّ، والنّسائي في الخصائص وابن ماجة في السنن. ووثّقه يحيى بن معين (تهذيب الكامل للمزّيّ 34 / 2460). عن أبي ذرّ قال: ماكنّا نعرف المنافقين إلاّ بتكذيبهم اللهَ ورسولَه، والتخلّف عن الصلوات، والبغض لعليّ بن أبي طالب (المستدرك على الصحيحين 3: 139 / 4643).

وبسند عن جعفر بن سليمان: (جعفر بن سليمان الضبعيّ، بصريّ ثقة، وكان يتشيّع (تاريخ الثقات للعجلي 97 / 212)، اتّفقوا على أنّه صدوق، ولم يطعن فيه أحد في الحديث، وقالوا: ثقة (تاريخ البخاريّ الكبير 1: 2: 192). قال ابن معين: ثقة (تاريخ ابن معين 2: 104 / 3533). عن أبي هارون العبديّ: (أبو هارون العبدي، اسمه: عمارة بن جُوَين العبديّ البصريّ. روى عن: عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وأبي سعيد الخدريّ. روى عنه جعفر بن سليمان الضبعيّ، وسفيان الثّوريّ، =

٢٤٠

فالتاع هاشم واجابه

« تعيرني بعينى ، وإنما فقئت في سبيل الله ـ وكانت عينه اصيبت يوم اليرموك ـ ».

واصبح هاشم في داره مفطرا عملا بقول رسول الله٦ : « صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » وفطر الناس لإفطاره ، وبلغ ذلك سعيدا ، فأرسل إليه وضربه ، وحرق داره ، وقد أثار حفائظ النفوس بهذا الاعتداء الصارخ على علم من أعلام الاسلام.

وأثر عنه انه قال : إنما السواد ـ اي سواد الكوفة ـ بستان لقريش فقام إليه الاشتر فقال له : أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ، وانضم الى الاشتر قراء المصر وفقهاؤهم فأيدوا مقالته ، وغضب صاحب شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا فقاموا إليه فضربوه ضربا منكرا حتى اغمي عليه ، وقاموا من مجلسه وهم يطلقون ألسنتهم بنقده ، ويذكرون مثالب عثمان ، وسيئات قريش ، وجرائم بنى أميّة وكتب سعيد الى عثمان بخبره بأمر هؤلاء ، فأجابه عثمان ان يسيرهم الى الشام ، وكتب في نفس الوقت الى معاوية يأمره باستصلاحهم.

والمهم ان هؤلاء لم يرتكبوا اثما او فسادا ، ولم يقترفوا جرما حتى يستحقوا هذا التنكيل والنفى وانما نقدوا اميرهم لأنه شذ عن الطريق ، وقال غير الحق ، والاسلام قد منح الحرية التامة للمواطنين ، ومنها حرية النقد للحاكمين إن سلكوا غير الجادة ، وعدلوا عن الطريق القويم ، فعلى اي وجه يصحح نفيهم عن اوطانهم وهم لم يخلعوا يدا عن طاعة ولم يفارقوا جماعة وعلى أي حال فقد اخرجهم سعيد بالعنف ، وأرسلهم الى الشام

٢٤١

الى بلد لا يألفون الى اهلها ولا يسكنون الى من فيها ، وتلقاهم معاوية فانزلهم في كنيسة ، واجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويعظهم ولكنه لم ينجح في اقناعهم ، فقد كان منطقهم منطق الاحرار ، فأي ، مزية تمتاز بها قريش حتى يكون السواد ملكا لها ، وأي مأثرة صدرت لها حتى تمتاز على بقية العرب والمسلمين ، ولما يئس منهم معاوية كتب الى عثمان يستعفيه من بقائهم فى الشام خوفا من ان يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره ان يردهم الى الكوفة ، فعادوا إليها وهم مصرون على نقد الحكم القائم وأطلقوا السنتهم في ذكر مثالب سعيد ومعاوية وعثمان وأعاد سعيد الكتابة الى عثمان يطلب منه ابعاد القوم عن مصرهم ، فأجابه عثمان الى ذلك ، وأمره ان ينفيهم الى حمص والجزيرة فاخرجهم من وطنهم الى حمص ، فقابلهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عامل معاوية على حمص اعنف لقاء وأشده ، وأخذ يسومهم سوء العذاب ، ويقابلهم بأغلظ القول وأفحشه ، وكان اذا ركب أمر بهم فساروا حول ركابه ، ليظهر هوانهم واذلالهم ، ويغري الناس بانتقاصهم ولما رأوا تلك القسوة اظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة ، وطلبوا منه ان يقيلهم من ذنوبهم فأقالهم ، وكتب الى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله العفو عنهم فأجابه الى ذلك وردهم الى الكوفة ونزح سعيد بن العاص الى يثرب في مهمة له فوجد القوم هناك يشكونه الى عثمان ويسألونه عزله ، ولكن عثمان ابى وامتنع من اجابتهم ، وأمره ان يرجع الى عمله فقفل القوم راجعين الى مصرهم قبله فاحتلوا الكوفة وأقسموا ان لا يدخلها سعيد ما حملوا سيوفهم ، ثم خرجوا في جمع بقيادة الاشتر حتى بلغوا الجرعة ، فانتظروا سعيدا فلما أقبل ردوه ومنعوه من دخول المصر ، وأجبروا عثمان على عزله وتولية غيره فاستجاب عثمان على

٢٤٢

كره منه لذلك.(١)

والمهم ان عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص وهم قراء المصر وفقهاؤه ونفاهم عن اوطانهم وبالغ في ارهاقهم من أجل شاب طائش لأنه من ذويه واسرته الامر الذي أوجب شيوع التذمر وانتشار السخط عليه ، وكراهية الامة لحكمه.

٣ ـ عبد الله بن عامر

وعزل عثمان أبا موسى الاشعري عن ولاية البصرة ، واختار لها ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز(٢) فولاها اياه وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة(٣) وبلغ ذلك ابا موسى فقال للناس : « يأتيكم غلام خراج ولاج ، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.(٤)

والمهم أنه ولاه هذا المصر العظيم وهو شاب حدث السن ، وكان الاولى ان يختار له من خيار الصحابة وثقاتهم ليستفيد الناس من هديه وصلاحه ، ولكنه عمد الى اختيار هذا الفتى لأنه ابن خاله ، وقد سار في اثناء ولايته سيرة ترف وبذخ ، فكان ـ كما قال الاشعري ـ ولاجا خراجا فهو أول من لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة دكناء فقال الناس : لبس الامير جلد دب ، فغير لباسه ولبس جبة حمراء(٥) وقد انكر عليه

__________________

(١) الانساب ٥ / ٣٩ ـ ٤٣ ، تأريخ الطبري ٥ / ٨٨ ، تأريخ ابي الفداء ١ / ١٦٨

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٨٢ ، وجاء فيه ان أم عثمان اروى بنت كريز

(٣) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٢ / ٢٥٣

(٤) الكامل ٣ / ٣٨

(٥) اسد الغابة ٣ / ١٩٢

٢٤٣

عامر بن عبد الله التميمي الزاهد العابد وعاب عليه سياسته كما عاب على عثمان فقد روى الطبري : انه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان ، وما صنع فاجتمع رأيهم أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه فارسلوا إليه عامر بن عبد الله ، ولما التقى به قال له :

« إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في اعمالك فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتق الله عز وجل وتب إليه ، وانزع عنها. »

فاحتقره عثمان وقد لسعه قوله فقال لمن حوله :

« انظروا الى هذا فان الناس يزعمون انه قارة ثم هو يجيء فيكلمنى في المحقرات ، فو الله ما يدري أين الله؟. »

فقال له عامر : أنا لا أدري اين الله؟

ـ نعم

ـ اني لأدرى أن الله بالمرصاد

وارسل عثمان الى مستشاريه وعماله فعرض عليهم الامر فأشار عليه عبد الله بن عامر فقال له :

« رأيي لك ، يا أمير المؤمنين ان تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وان تجمهرهم فى المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة احدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته »

واشار عليه آخرون بغير ذلك إلا انه استجاب الى رأى عبد الله فرد عماله ، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم ، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث ، كما عزم على تحريم اعطياتهم ليطيعوه ، ويحتاجوا إليه.(١)

ولما وصل عبد الله بن عامر الى البصرة عمد الى التنكيل بعامر بن

__________________

(١) تأريخ الطبري ٥ / ٩٤ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٩

٢٤٤

عبد الله ، فقد اوعز الى عملائه واذنابه أن يشهدوا عنده بأن عامرا قد خالف المسلمين في امور أحلها الله فهو لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ولا يشهد الجمعة(١) ورفع تقريرا الى عثمان فامره بنفيه الى الشام على قتب فحمل إليها ، وانزله معاوية ( الخضراء ) وبعث إليه بجارية ، وأمرها ان تتعرف على حاله وتكون عينا عليه ، فرأت أنه يقوم في الليل متعبدا ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يجىء بكسر من الخبز وبجعلها فى ماء ، ويشرب من ذلك الماء ، فأخبرته الجارية بشأنه ، فكتب معاوية الى عثمان بأمره ، فأوعز إليه بصلته(٢)

وقد نقم المسلمون من عثمان لأنه نفى رجلا من صلحاء المسلمين(٣) وأبعده عن اهله ووطنه لأنه نقد عماله وعاب ولاته ، وليس لولي الامر الصلاحية في هذا النفي فانه إنما شرع لمن حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا.

وعلى اي حال فان عبد الله بن عامر ظل واليا على البصرة الى أن قتل عثمان فلما سمع بمقتله نهب ما في بيت المال ، وسار الى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضم إليهم ، وأمد المتمردين بالاموال ، وكان من عزمهم ان يتوجهوا الى الشام إلا انه صرفهم عنه ، وأشار عليهم بالمسير الى البصرة(٤)

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ / ١١٦

(٢) الاصابة ٣ / ٨٥

(٣) العقد الفريد ٢ / ٢٦١

(٤) اسد الغابة ٣ / ١٩٢

٢٤٥

٤ ـ معاوية بن أبي سفيان

ومعاوية بن أبي سفيان اكثر ولاة عثمان حظا ، وأعظمهم نفوذا ، واسبقهم امرة كما ان شعبه من اكثر الشعوب طاعة واخلاصا له قد أحبه وأحبهم ، وقد منحه عمر بالامارة ، وحباه بالولاية ، وأيده بجميع ألوان التأييد فرفع شأنه ، وأعلا قدره فكان في كل سنة يحاسب عماله ، ويشاطرهم أموالهم وان اكتسبوها بالتجارة او ربحوها بسائر الوجوه المشروعة ، سوى معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يشاطره ، ولم يتفقد اموره وانما كان يضفى عليه المديح والثناء ، ويبالغ في تسديده والاعتذار عنه ، فكانوا يقولون له : إنه يلبس الديباج والحرير وهو لباس محرم في الاسلام ، وانه يسرف ويبذخ وهو مجاف للنظم الادارية التي جاء بها الاسلام فانها تلزم الولاة بالاقتصاد وعدم البسط في العيش من أموال المسلمين.

كانوا يقولون لعمر ذلك : فيعتذر عنه ، ويقول : ذاك كسرى العرب ، ولو فرضنا انه كان كذلك فهل يباح له أن يلبس المحرم ، ويسرف في أموال المسلمين؟ ولم يكتف بهذا المد والتأييد ، فقد نفخ فيه روح الطموح ، وفتح له باب الامل بالخلافة ، فقد قال لأعضاء الشورى : « ان تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم ، غلبكم على هذا معاوية بن ابي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام(١) وقد دفعه ذلك الى الاتجاه للخلافة ، واتخاذ جميع الوسائل للظفر بالحكم ، واعلانه للتمرد على حكومة الامام أمير المؤمنين ، ومناجزته له ، كما سنذكر ذلك بالتفصيل في غضون هذا الكتاب.

وعلى اي حال فقد ظل معاوية واليا على الشام والاردن طيلة خلافة

__________________

(١) نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١ / ١٨٧

٢٤٦

عمر يتصرف حيثما شاء ، قد استأثر بالاموال فشرى بها الضمائر ، واحاط نفسه بالاتباع لا رقيب عليه ، ولم توجه له اي مسئولية ، وانما يرى التسديد ، والمديح والرضا بما يعمل ، وبعد وفاة عمر أقره عثمان على عمله ، وزاد في سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن ابن علقمة الكناني ، كما ضم إليه حمص بعد ان استعفاه عاملها عمير بن سعد الانصاري ، وبذلك خلصت له ارض الشام كلها ، واصبح من اعظم الولاة قوة ، ومن اكثرهم نفوذا ، واصبح قطره من اهم الاقطار الاسلامية وامنعها واكثرها هدوءا واستقرارا.

ومما لا شبهة فيه ان عثمان قد زاد في نفوذه ، ووسع رقعة سلطانه ، ومهد له نقل الخلافة الاسلامية الى آل ابي سفيان ، وقد صرح بذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« وليس من شك في ان عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم الى آل أبي سفيان وتثبيتها في بنى أميّة. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية فضم إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الارجاء ، وجمع له قيادة الاجناد الاربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر ، واطلق يده فى امور الشام اكثر مما اطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فاذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيته. »(١)

إن عثمان قد عبّد له الطريق ، وأتاح له الفرصة لمنازعة أمير المؤمنين ومحاربته ، وارتكابه لفظائع المنكرات والموبقات ، وقتله صلحاء المسلمين

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ / ١٢٠

٢٤٧

وثقاتهم كحجر بن عدي واخوانه المؤمنين ، وغير ذلك من المآثم والجرائم

٥ ـ عبد الله بن سعد

وحبا عثمان اخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بولاية مصر ، ومنحه إمارة هذا القطر العظيم فجعل بيده امر صلاته وخراجه(١) وقبل ذلك منحه الاموال الطائلة ، ووهبه خمس غنائم إفريقية ، ولم يكن خليقا بذلك كله لأن له تأريخا أسودا حافلا بالآثام والموبقات فقد ارتد مشركا بعد اسلامه ، وصار الى قريش بمكة يسخر بالنبي ويقول لهم : اني اصرفه حيث اريد ، واهدر النبي دمه يوم الفتح ، وان وجد متعلقا باستار الكعبة ، ففر الى عثمان ، واستجار به فغيبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكة أتى به الى النبي٦ فصمت طويلا ثم آمنه وعفا عنه فلما انصرف عثمان قال النبي٦ : ما صمت الا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ، فقال له رجل من الانصار : هلا أومأت الي يا رسول الله؟ فقال : إن النبي لا ينبغى ان تكون له خائنة الاعين(٢)

ونزل القرآن الكريم بكفره وذمه قال تعالى :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ) (٣) واجمع المفسرون أنه هو المعنى بهذه الآية ، وسبب ذلك انه لما نزلت الآية( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) دعاه النبي فأملاها عليه فلما انتهى الى قوله :( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) عجب عبد الله فى تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال

__________________

(١) الولاة والقضاة : ص ١١

(٢) تفسير القرطبى ٧ / ٤٠ ، تفسير الشوكاني ٢ / ١٣٤ ، سنن ابى داود ٢ / ٢٢٠

(٣) سورة الانعام : آية ٩٣

٢٤٨

النبي : هكذا انزلت علي فشك عبد الله ، وقال : لئن كان محمد صادقا لقد اوحي الي كما اوحى إليه ، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال : فارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين(١)

أمثل هذا المرتد الذي سخر بالنبي ورجع عن حظيرة الاسلام يكون واليا على المسلمين وتسلم له قيادتهم ، ويكون مؤتمنا على أموالهم ، ودمائهم إن ذلك والله هو الرزء القاصم الذي يذيب لفائف القلوب ، وتذوب النفوس من هوله اسى وحسرات ، أتعطي امارة المسلمين ، وتمنح اقطارهم وامصارهم الى اعداء الاسلام وخصومه الذين لم يألوا جهدا في البغى على الاسلام والكيد له فانا لله وإنا إليه راجعون.

وعلى اي حال فقد مكث الرجل واليا على مصر سنين ، وكلف المصريين فوق ما يطيقون ، وساسهم سياسة عنف وجور ، واظهر الكبرياء والغطرسة ، فضجر الناس منه ، وسئموا حكمه فخف أخيارهم يشكونه الى عثمان فبعث إليه رسالة يتهدده فيها ، ويتوعده بالعزل ان لم يئوب الى الرشاد ولكنه ابى أن ينزع عما نهاه ، ونكل بمن شكاه الى عثمان حتى قتله فخرج سبع مائة رجل من مصر الى يثرب فنزلوا الجامع ، وشكوا الى اصحاب النبيّ ما صنع بهم ابن ابي سرح ، فانبرى طلحة الى عثمان فكلمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة ان ينصف القوم من عاملهم ، ودخل عليه أمير المؤمنين فقال له :

« إنما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما فأعزله عنهم ، واقض بينهم ، فان وجب عليه حق فانصفهم منه ».

فاستجاب لذلك ، وقال لهم : اختاروا رجلا اوليه عليكم مكانه ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ / ٩٦ تفسير الخازن ٢ / ٣٧ الكشاف ١ / ٤٦١

٢٤٩

فاشار الناس عليه بمحمد بن ابي بكر فكتب عهده الى مصر ، ووجه معه عدة من المهاجرين والانصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن ابي سرح(١) ونزحوا عن يثرب فلما بلغوا الى المحل المعروف ( بحمس ) وإذا بقادم من المدينة تأملوه فاذا هو ورش غلام عثمان فتفحصوا عن حاله واذا يحمل رسالة الى ابن ابي سرح يأمره التنكيل بالقوم ، تأملوا الكتاب فاذا هو بخط مروان ، فرجعوا الى يثرب ، وصمموا على خلع عثمان او قتله.

إن عثمان قد سمى لحتفه بظلفه ، وجر البلاء لنفسه ، وعرض الامة للخطوب والويلات في سبيل اسرته ، وتدعيم كيانها ، ولو أنه استجاب لرأي الامام ، والناصحين له فاقصى بنى أميّة عن مراكز الحكم لكان بمنجاة عن تلك الثورة التي اودت بحياته ، وفتحت باب الفتن بين المسلمين ، وفرقت كلمتهم ، وجعلتهم احزابا( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض عماله وولاته الذين ما استعملهم الا اثرة ومحاباة.

تنكيله بالصحابة :

ونكل عثمان بخيار المسلمين وثقاتهم من الذين أبلوا في الاسلام بلاء حسنا. وساهموا فى بنائه ، لأنهم عابوا عليه سياسته ، وطلبوا منه أن يسير على المحجة البيضاء ، ويهتدي بسنة الرسول ، ويقتفى اثره ، فلم يستجب لارشادهم ولم يثب لنصحهم ، فشددوا عليه فى المعارضة والنكير فصب عليهم جام غضبه ، وبالغ في اضطهادهم وارهاقهم ، وهم كما يلي :

١ ـ عبد الله بن مسعود

وعبد الله بن مسعود اشبه الناس هديا وسمتا برسول الله صلى الله

__________________

(١) الانساب ٥ / ٢٦

٢٥٠

عليه وآله(١) ويقول فيه رسول الله٦ : « من سره ان يقرأ القرآن غضا او رطبا كما انزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد »(٢) واثنى عليه قوم عند أمير المؤمنين فقال٧ : أقول فيه مثل ما قالوا : وهو أفضل من قرأ القرآن ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه فى الدين ، عالم بالسنة(٣) وهو ممن نزلت فيهم الآية الكريمة(٤) ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٥) وهو أيضا ممن نزلت فيهم الآية(٦) قال تعالى :( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٧)

ان عبد الله بن مسعود من أقطاب المسلمين فى هديه ، وصلاحه ، وورعه ، وتحرجه فى الدين ، سيره عمر فى عهده الى الكوفة مع عمار بن ياسر ، وكتب لأهل الكوفة كتابا جاء فيه :

« إني قد بعثت عمار بن ياسر اميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من اصحاب رسول الله من اهل بدر فاقتدوا بهما ، واطيعوا

__________________

(١) مسند احمد ٥ / ٣٨٩ ، حلية الاولياء ١ / ١٢٦ كنز العمال ٧ / ٥٥

(٢) صفة الصفوة ١ / ١٥٦ سنن ابن ماجة ١ / ٦٣

(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ٣١٥

(٤) طبقات ابن سعد ٣ / ١٠٨

(٥) سورة آل عمران آية ١٧٢

(٦) تفسير الطبرى ٧ / ١٢٨ الدر المنثور ٣ / ١٣

(٧) سورة الانعام آية ٥٢

٢٥١

واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد الله على نفسى(١)

وبقى ابن مسعود فى الكوفة طيلة خلافة عمر وهو يفقه المسلمين فى دينهم ، ويعلمهم كتاب الله ، ويغذيهم بمعارف الاسلام وهديه ويرشدهم الى سواء السبيل ، وكان في نفس الوقت خازنا لبيت المال ، ولما آل الامر الى عثمان وبعث الوليد واليا على الكوفة جرت بينه وبين الوليد مشادة ـ ذكرناها عند البحث عن امارة الوليد على الكوفة ـ أوجبت أن يستقيل من منصبه وبقى فى الكوفة وقتا ثم غادرها فشيعه الكوفيون وحزنوا على فراقه ، وقالوا له عند وداعه :

« جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ، ونعم الخليل »

ثم ودعوه وانصرفوا وواصل ابن مسعود المسير حتى انتهى الى يثرب وكان عثمان على منبر رسول الله٦ يخطب فلما رآه قال للمسلمين وأشار الى ابن مسعود « ألا انه قدمت عليكم دويبة سوء ، من يمشي على طعامه يقىء ويسلح »

أيشتم صاحب رسول الله٦ بهذا الكلام المر ، ويقابل بمثل هذه الجفوة من أجل الوليد الذي خان الله ورسوله ونهب أموال المسلمين؟! ورد عليه ابن مسعود قائلا :

« لست كذلك ، ولكني صاحب رسول الله٦ يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان. »

وقد اثار كلام عثمان حفائظ النفوس فاندفعت عائشة تعلن انكارها وسخطها عليه قائلة :

__________________

(١) اسد الغابة ٣ / ٢٥٨

٢٥٢

« أي عثمان. اتقول هذا لصاحب رسول الله؟! »

وأمر عثمان جلاوزته فاخرجوا الصحابي العظيم من المسجد اخراجا عنيفا ، وقام إليه عبد الله بن زمعة فضرب به الارض ، وقيل بل احتمله « يحموم » غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الارض فدق ضلعه.

وثار أمير المؤمنين فانبرى الى عثمان فقال له :

ـ يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول٦ بقول الوليد بن عقبة؟؟

ـ ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي الى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال

ـ احلت عن زبيد على غير ثقة!!(١)

وحمل امير المؤمنين ابن مسعود الى منزله فقام برعايته حتى أبل من مرضه ، فقاطعه عثمان ، وهجره ، ولم يأذن له في الخروج من يثرب ، كما قطع عطاءه ، ومرض ابن مسعود مرضه الذي توفى فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

ـ ما تشتكي؟

ـ ذنوبي

ـ فما تشتهي؟؟

ـ رحمة ربي

ـ ألا ادعو لك طبيبا؟

ـ الطبيب امرضني

__________________

(١) الانساب ٥ / ٣٦

٢٥٣

ـ آمر لك بعطائك

ـ منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينه وأنا مستغن عنه

ـ يكون لولدك

ـ رزقهم على الله

ـ استغفر لي يا ابا عبد الرحمن؟

ـ أسأل الله ان يأخذ لي منك بحقى

وانصرف عثمان ولم يظفر برضائه ولما ثقل حاله اوصى ان لا يصلي عليه عثمان ، وان يصلي عليه صاحبه عمار بن ياسر ، ولما انتقل الى دار الحق قامت الصفوة من اصحابه بأمره فدفنوه بالبقيع ، ولم يخبروا عثمان فلما علم غضب وقال : سبقتموني ، فرد عليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر قائلا :

« انه اوصى ان لا تصلي عليه »

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفى حياتي ما زودتني زادي(١)

لقد صب عثمان جام غضبه على ابن مسعود فاهانه وحقره وجفاه ، وقطع عطاءه ، واوعز الى شرطته بضربه ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، ولم يرع شبهه بالنبي فى هديه وسمته ، وماله من عظيم الجهاد وحسن البلاء في الاسلام ، لقد نقم منه عثمان لأنه انكر عليه منحه للوليد أموال المسلمين وهو خازن لها ، ولم يجد اي مبرر لهذا التلاعب في ميزانية الدولة ، فراح بوحى من دينه وعقيدته ينكر عليه ويشجب تصرفاته

__________________

(١) الانساب تأريخ ابن كثير ٧ / ١٦٣ ، مستدرك الحاكم ٣ / ١٣ وغيرها

٢٥٤

٢ ـ أبو ذر

وأبو ذر أعظم شخصية عرفها التأريخ الاسلامى فقد تجسدت فيه جميع طاقات الاسلام ، وعناصره ومقوماته ، ووعى حقيقة الاسلام ، وتغذى بجوهره وواقعه ، وهو اقدم من سبق الى اعتناقه والايمان به(١) وجهر بالشهادتين أمام قريش فانبرت إليه عتاتهم فأوجعوه ضربا ، والهبوا جسمه بالسياط حتى كاد أن يتلف(٢) ولم يثنه ذلك فقد انطلق كالمارد الجبار يدعو قومه الى الاسلام ، وهجر الاوثان ، وكان من ابرز الصحابة في علمه وورعه وتقواه وزهده وتحرجه في الدين ، وقد أثر عن رسول الله٦ أنه قال فيه :

« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة اصدق من أبي ذر ، من سره أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر الى ابي ذر »(٣)

لقد كان ازهد الناس فى الدنيا ، وأقلهم احتفالا بمنافعها ، وأشدهم خوفا من الله وانصرافا عن اباطيل الحياة ، وكان رسول الله٦ يأتمنه حين لا يأتمن أحدا ، ويسر إليه حين لا يسر الى احد(٤) وهو أحد الثلاثة الذي أحبهم الله ، وامر نبيه بحبهم(٥) كما انه احد

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ / ١٦١ ، وجاء فيه عن ابي ذر قال : كنت في الاسلام خامسا.

(٢) مسند الامام احمد ٥ / ١٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ٣٢٩

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ٦٨

(٤) كنز العمال ٨ / ١٥

(٥) مجمع الزوائد ٩ / ٣٣٠

٢٥٥

الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنة(١) .

ولما حدثت الفتن ، واستأثر عثمان مع بني أميّة بأموال المسلمين فكنزوا لأنفسهم ، واكثروا من شراء الضياع وبناء القصور وقف أبو ذر عملاق الامة الاسلامية فأخذ يندد ، ويهدد عثمان ، ويدعو المسلمين الى الثورة ، وقلب الحكم ، واعادة النظام الاسلامي الحافل بكل مقومات النهوض والارتقاء وتطبيق سياسته البناءة على واقع الحياة.

إن صيحة ابي ذر كانت صيحة رجل يقظ وعى الاسلام ، ووقف على اهدافه ، واحاط بواقعه فانه ليس من الاسلام فى شيء أن تستغل أموال المسلمين ، وتمنح للوجوه والاعيان ، فيمعنون في التلذذ والاسراف وقد اخذ الفقر بخناق المسلمين ، وعمت في بلادهم المجاعة والفاقة والبطالة فانكر أبو ذر ذلك ، واندفع بوحي من عقيدته الى تلك الصيحة التي دوخت عثمان وانكرها المستغلون من اتباعه. يقول الاستاذ السيد قطب : « إن صيحة ابي ذر كانت دفعة من دفعات الروح الاسلامى أنكرها الذين فسدت قلوبهم ولا يزال ينكرها امثالهم من مطايا الاستغلال فى هذه الايام ، لقد كانت هذه الصيحة يقظة ضمير لم تخدره الاطماع امام تضخم فاحش فى الثروات يفرق الجماعة الاسلامية طبقات ، ويحطم الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها »(٢)

وانطلق أبو ذر يوالي انكاره ، ومعارضته للحكم القائم لا يعبأ به ، ولا يبالي بشدة ارهابه وقسوته فكان يقف على اولئك الذين منحهم عثمان بهباته فيتلو قوله تعالى :( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ٣٣٠

(٢) العدالة الاجتماعية : ص ٢١١

٢٥٦

فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ورفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان فارسل إليه ينهاه عن ذلك فقال أبو ذر :

« اينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله فو الله لأن ارضي الله بسخط عثمان أحب الي وخير لي من أن اسخط الله برضاه »

فالتاع عثمان من ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، وقد أعياه امر ابي ذر وضاق به ذرعا.

نفيه الى الشام

واستمر صاحب رسول الله في اداء رسالته الاصلاحية لم يصانع ولم يحاب ، وانما يبغي الحق ويلتمس وجه الله ورضاه ، وقد وجد عليه عثمان وامر بنفيه الى الشام ، ويقول الرواة : إن السبب في ذلك هو ان عثمان سأل حضار مجلسه فقال لهم :

« أيجوز ان يأخذ من المال فاذا ايسر قضى؟ »

فانبرى كعب الاحبار فأجاب عن سؤاله فقال :

« لا ارى بذلك بأسا »

ولما رأى أبو ذر كعب الاحبار يتدخل في امور الدين وهو يهودي النزعة ، ويشك في اسلامه غضب من ذلك ورد عليه قائلا :

« يا ابن اليهوديين. أتعلمنا ديننا؟ »

فثار عثمان وقال له :

« ما اكثر أذاك ، وأولعك بأصحابي؟ الحق بمكتبك في الشام. »

وذهب أبو ذر الى الشام ، فلما انتهى إليها ورأى منكرات معاوية وبدعه جعل ينكر على معاوية ويندد بالسياسة الاموية ، ويذيع مساوئ

٢٥٧

عثمان وبعد سيرته عن سيرة الرسول وسنته ، وقد نقم من معاوية حينما قال : المال مال الله ، فقال له : المال مال المسلمين ، وانكر عليه بناء الخضراء التي انفق عليها الاموال الطائلة من بيت المال فكان يقول له :

« يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وان كانت من مالك فهذا الاسراف؟ »

واخذ يوقظ النفوس ، ويبعث روح الثورة على معاوية فكان يقول لأهل الشام :

« والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها. والله ما هي فى كتاب الله ولا في سنة نبيه ، والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه »(١)

وكان الناس يسمعون قوله ، ويؤمنون بحديثه ، وخاف معاوية من دعوة أبي ذر فكتب الى عثمان يخبره بخطره على الشام ، فكتب عثمان إليه ان يرسله على اغلظ مركب وأوعره ، فارسله معاوية مع جماعة لا يعرفون مكانته ، ولا يحترمون مقامه فساروا به ليلا ونهارا حتى تسلخت بواطن أفخاذه وكاد ان يتلف ، ولما بلغ المدينة مضى في دعوته فكان ينكر على عثمان أشد الانكار ويقول له :

« تستعمل الصبيان ، وتحمى الحمى(٢) وتقرب أولاد الطلقاء؟! »

__________________

(١) الانساب ٥ / ٥٢

(٢) اشار بذلك الى ما فعله عثمان فى منحه جميع المراعى التي حول المدينة لبنى أميّة ترعى فيها اغنامهم ، وحمى مواشي المسلمين منها وهو مناف للسنة فانها جعلت المراعي التي لا مالك لها لجميع المسلمين لأنها من المباحات الاصلية ، وقد قال رسول الله (ص) : الناس شركاء فى ثلاث فى الكلأ والماء والنار.

٢٥٨

وانطلق يبين للمسلمين ما سمعه من رسول الله٦ في ذم الامويين ، ومدى خطرهم على الاسلام يقول : قال رسول الله :

« اذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ودين الله دغلا »

واصدر عثمان اوامره بمنع مجالسة أبي ذر ، كما حرم الكلام معه ، والاختلاط به.

نفيه الى الربذة

وثقل أبو ذر على عثمان ، وضاق به ذرعا ، فقد ايقظ النفوس ، واوجد فيها وعيا أصيلا يبعثها على الثورة العارمة ، والاجهاز على النظام القائم الذي آثر الاغنياء بأموال الدولة ، وحجبها عن المصالح العامة ، الامر الذي أدى الى فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، وشيوع الفقر والمجاعة في البلاد.

ورأى عثمان ان خير وسيلة له من الخطر الذي يتهدده ابعاد ابي ذر عن يثرب ونفيه عن سائر الامصار الاسلامية الى بعض المجاهل والقرى التي لا تزدحم بالسكان ، فأرسل خلفه فلما حضر بادره أبو ذر بالكلام فقال له :

« ويحك يا عثمان!! أما رأيت رسول الله ، ورأيت ابا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبارين. »

فقطع عثمان كلامه ، وصاح به

ـ اخرج عنا من بلادنا

ـ اتخرجني من حرم رسول الله؟

ـ نعم وانفك راغم

٢٥٩

ـ اخرج الى مكة؟

ـ لا

ـ الى البصرة؟

ـ لا

ـ الى الكوفة

ـ لا

ـ الى اين اخرج؟

ـ الى الربذة حتى تموت فيها

وأوعز الى مروان باخراجه فورا من المدينة ، وهو مهان الجانب محقر الكيان ، وحرم على المسلمين ان يشايعوه ويخرجوا لتوديعه ، ولكن أهل الحق ، ومن طبعوا على نصرته ابوا إلا مخالفة عثمان فقد خف الامام أمير المؤمنين لتوديعه ، ومعه عقيل وعبد الله بن جعفر ، والحسن والحسين وبادر مروان الى الحسن فقال له :

« إيه يا حسن!! ألا تعلم ان عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟

فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك »

فحمل امير المؤمنين عليه ، وضرب أذنى راحلته بالسوط ، وصاح به : تنح نحاك الله الى النار ، وولى مروان منهزما الى عثمان يخبره بالحال.

ووقف الامام أمير المؤمنين على أبي ذر فودعه والقى إليه كلمات كانت له سلوى طيلة حياته في تلك البقعة الجرداء قال له :

« يا أبا ذر ، انك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما احوجهم الى ما منعتهم وما اغناك عما

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530