حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 530

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 216591 / تحميل: 8348
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ـ بلغك قول الرجلين؟

ـ نعم

ـ أرى أنهما أحبا الولاية فول البصرة الزبير ، وول طلحة الكوفة وأنبرى الامام يفند رأى ابن عباس ، ويبين له أن فى ولايتهما خطرا على الأمة قائلا :

« ويحك!! إن العراقين بهما الرجال والأموال ، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع ، ويضربا الضعيف بالبلاء ، ويقويا على القوى بالسلطان ، ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام ، ولو لا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي »(١) ودلت هذه البادرة على مدى حرص طلحة والزبير على الامارة والسلطان ، وانهما إنما أثارا سخط الناس على عثمان طمعا بالخلافة والولاية ولم يكونا مدفوعين بدافع المصلحة العامة ، وحب النصح للمسلمين ، وقد خسرا الصفقة ، وذهبت مساعيهما أدراج الرياح حينما آل الأمر إلى أمير المؤمنين لأن المحور الذي تدور عليه رحى سياسته مسايرة الدين والعمل على وفق المبادئ الاسلامية وهي لا تقر بأي حال من الأحوال أن تمنح الوظائف أثرة أو محاباة لأن ذلك خيانة للامة ، وقد اعرب الامام عن الاسباب التي دعته أن لا يوليهما العراقين وهي :

١ ـ إنهما يستميلان السفهاء بالمنافع والاطماع.

٢ ـ إنهما يصبان على الضعفاء وابلا من العذاب والبلاء.

٣ ـ يستغلان النفوذ والسلطان ويقويان به على القوى.

ومع علمه بهذه الاتجاهات كيف يجعلهما ولاة وحكاما على المسلمين يتصرفان في أموالهم ودمائهم وقد انتقد شفيق جبرى الامام في ذلك

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ٥٢

٣٦١

واعتبر أن حرمانهما من الولاية كان غلطة منه ـ على حد تعبيره الرخيص ـ(١)

ان شفيق جبري قد آمن بالسياسة الغربية التي تبيح جميع الوسائل فى سبيل الوصول الى الحكم وان كانت غير مشروعة وهذه السياسة لا يقرها الاسلام بحال فقد بنى سياسته الخلاقة على الايمان بحقوق الانسان وتجنب المكر والخداع وان توقف عليهما النصر والظفر وعلى ضوء هذه السياسة العادلة سار ابن ابي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض.

ان السياسة التي سار عليها الملوك ولا يزال يسيرون عليها عشاق الملك والسلطان لا يلتقى معها الامام بصلة ، ولا تتفق مع أهدافه العليا ، وقد اوضح٧ اسباب ذلك بقوله :

« لو لا التقى والورع لكنت ادهى العرب »

ان التقى والورع والخوف من الله تقف امامه وتصده عن ارتكاب اى وسيلة لا يقرها الشرع ، ومضافا لذلك فان المصلحة كانت تقضي ان لا يوليهما الكوفة والبصرة لان لهما حزبين وشيعة بهما ولا يؤمن أن يتسرب نفوذهما يوما ما إلى الدولة الاسلامية كافة

وعلى أي حال فلما استبان لطلحة والزبير ضياع املهما وعدم فوزهما بمقعد الحكم انطلقا إلى الامام طالبين منه الاذن بالخروج قائلين :

ـ ائذن لنا يا أمير المؤمنين.

ـ إلى اين؟!!

ـ نريد العمرة.

فرمقهما الامام هينهة وقد عرف حفايا نفوسهما فقال لهما برنة المستريب

والله ما العمرة تريدان!! بل الغدرة ونكث البيعة!!

__________________

(١) العناصر النفسية ، وقد تعرض لخطل آرائه كثير من الكتاب.

٣٦٢

واقسما له بالايمان المغلظة انهما لا يخلعان البيعة ، وانهما يخرجان ليعتمرا بالبيت الحرام ، وانهما يعلمان أنها قسم حانث ، ولكن لم يجدا وسيلة يصلان بها إلى الغاية سوى اليمين الكاذب ، والتفت الامام لهما ونفسه مترعة بالشك والريبة منهما قائلا :

« أعيدا البيعة لي ثانية ».

ففعلا دون تردد ، ومضيا منهزمين إلى مكة ، وكأنه قد اتيح لهما الخلاص من سجن أو عقاب ، ولحقا بعائشة يستفزانها على الثورة فانهما على علم بما تكنه من الحقد والعداء للامام.

خروج عائشة :

كانت عائشة في طليعة من أشعل نار الثورة على عثمان ، وقالت فيه أمر القول وأقساه ، وما كان اسمه عندها الا نعثلا ، وتعزو بعض المصادر السبب في ذلك إلى أنه نقصها مما كان يعطيها عمرو صيرها كغيرها من أزواج النبي (ص)(١) وقد بالغت في التشهير به والتحريض على قتله ولما احاط الثوار به خرجت إلى مكة وبعد ادائها لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب وهي تجد في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان فلما انتهت إلى سرف(٢) لقيها رجل من أخوالها يقال له عبيد بن أبي سلمة وكان قادما من المدينة فاستعجلت قائلة له :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣٢.

(٢) سرف : موضع على ستة اميال من مكة وقيل اكثر من ذلك ، وبه تزوج رسول الله «ص» بميمونة بنت الحارث وتوفيت فيه ، وقال رواة البخاري :هو « شرف » بالشين المعجمة جاء ذلك في معجم البلدان ٥ / ٧١.

٣٦٣

ـ مهيم؟(١) .

ـ قتلوا عثمان.

ـ ثم صنعوا ما ذا؟

ـ اجتمعوا على بيعة علي فجازت بهم الأمور الى خير مجاز!!

فانهارت أعصابها ، وتحطمت قواها ، وبلغ بها الحزن إلى قرار سحيق ، وهتفت وهي حانقة مغيظة وبصرها يشير إلى السماء ، ثم ينخفض فيشير إلى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه ، إن تم الأمر لابن أبي طالب قتل عثمان مظلوما والله لأطلبن بدمه ».

فاجابها عبيد باستنكار وسخرية :

« ولمّ؟ فو الله إن أول من أمال حرفه لأنت!!! ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر! » لما ذا هذا الحزن والجزع من عائشة؟

وقد عادت للاسلام نضارته بحكومة الامام ، وظفر المسلمون بما يصبون إليه؟؟

وأجابت عائشة ابن خالها فقالت له :

« إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا؟ وقولي الأخير خير من قولي الأول »

وهل كانت حاضرة حينما استتابوه؟ وهل لها دراية بكيفية توبته ، ولكنها افتعلت دلك لتبرير موقفها وفد رد عليها عبيد فقال لها :

منك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الامام

وقلت لنا إنه قد كفر

__________________

(١) مهيم : كلمة استفهام من معانيها ما وراءك؟

٣٦٤

فهبنا(١) اطعناك فى قتله

وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم تنكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرإ

يزيل الشبا ويقيم الصعر(٢)

ويلبس للحرب أثوابها

وما من وفى مثل من قد غدر

فاعرضت عنه وانصرفت راجعة الى مكة(٣) وقد علاها الحزن والاكتئاب ، واحاط بها الاسى والذهول.

دوافع تمردها :

وليس شيء أو هى من القول بأن السبب في خروج عائشة هو المطالبة بدم عثمان فانها هي التي حفزت المسلمين إلى الاجهاز عليه ودعتهم إلى الاطاحة بحكمه يقول شوقي :

أثار عثمان الذي شجاها

أم غصة لم ينتزع شجاها

ذلك فتق لم يكن بالبال

كيد النساء موهن الجبال

نعم تذرعت بدم عثمان واتخذته وسيلة إلى اعلان العصيان والتمرد وإلى اغراء السذج والبسطاء فزجت بهم فى الحرب التي أثارتها ضد أمير المؤمنين وأخي رسول الله (ص) وباب مدينة علمه.

إن دم عثمان لا يصلح باي حال ان يكون من بواعث ثورتها على النظام القائم وانما بواعث ذلك ما يلي :

١ ـ إن نفسها كانت مترعة بالبغض والكراهية للامام ولزوجته سيدة

__________________

(١) وفي رواية « ونحن ».

(٢) ذو تدرإ : اي ذو عزيمة ومنعة » الشبا : المكروه ، الصعر : ميل في الوجه او فى احد الشقين : والمراد انه يقيم الشيء الملتوي.

(٣) الطبري ٣ / ٤٥٤ وغيره.

٣٦٥

النساء وأولادهما وسبب ذلك انها رأت اتجاه النبي واقباله عليهم وانه قد خصهم بمزيد الحب والعطف على نحو لم يشاركهم فيه أحد(١) ولم تحض عائشة بقليل ولا بكثير من تلك الرعاية وذلك الحنان بل كان يعاملها معاملة عادية بل ويزدري بها فى كثير من الاحيان فقد وقف خطيبا على منبره فأشار إلى مسكنها قائلا : « هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة هاهنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان(٢) وقد هددها غير مرة بالطلاق نظرا لما كان يعانيه منها فقد قالت له مرة فى كلام غضبت عنده أنت الذي تزعم أنك نبي(٣) وكان اذا صلى تمد رجلها في قبلته ثم لا ترفعها عن سجوده حتى يغمزها فاذا غمزها رفعتها ، حتى يقوم فتمدها ثانية(٤) لقد رأت عائشة اقبال النبي على فاطمة وعلى زوجها واعراضه عنها الأمر الذي اثار كوامن الحقد في نفسها ، وقد جابهت رسول الله (ص) بذلك فقد استأذن أبو بكر على رسول الله فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول له : « والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي ومنى مرتين أو ثلاثا »(٥) وليس شيء يثير عواطف المرأة ويترك العقد النفسية فيها مثل ما ترى أحدا أثيرا عند زوجها ، ومقدما عليها في الحنان والحب ، وزاد في تأثرها وانفعالها انها حرمت الولد من

__________________

(١) بسطنا القول في ذكر الأخبار التي وردت عن النبي فى حبه لأهل بيته في بداية بحوث هذا الكتاب.

(٢) البخاري ٢ / ١٢٥ باب فرض الخمس وصحيح مسلم ٢ / ٥٠٣ وجاء فيه انه قال «ص» : راس الكفر من هاهنا حيث يطلع قرن الشيطان.

(٣) احياء العلوم ٢ / ٣٥ كتاب آداب النكاح.

(٤) صحيح البخاري ١ / ١٤٣.

(٥) مسند الامام احمد ٤ / ٢٧٥

٣٦٦

النبي كما حرم من غيرها ، وقد تبنى ابناء ابنته الوحيدة فاقام لهم في نفسه اعمق الحب والاخلاص ، وقد ترك ذلك كوامن الحسد فى نفسها من الامام وزوجته ، وقد بذلت جميع طاقاتها في مقابلة أمير المؤمنين وصرف الخلافة عنه فقد رشحت أباها للصلاة فى مرض رسول الله لئلا يصلي بالمسلمين الامام ، وبعد وفاة النبي كان لها ضلع كبير في ترشيح ابيها للخلافة وحرمان الامام منها ، وبلغ من عظيم حقدها ان بضعة النبي لما توفيت جئن نساؤه الى بني هاشم في العزاء الا هي ونقل عنها كلام يدل على سرورها وفرحها(١)

ولما آل الأمر إلى الامام انهارت جميع قواها واندفعت إلى مقاومته وإلى اعلان الثورة على حكومته ، وقد وصف٧ مدى ضغنها وحقدها عليه بقوله :

« أما فلانة فقد أدركها ضعف رأي النساء ، وضعن غلا في صدرها كمرجل القين(٢) ولو دعيت لتنال من غيرى ما أتت إلى ما تفعل »(٣)

ان من أقوى العوامل التي دفعتها إلى مقاومة الامام هي الاحقاد والضغائن التي تكنها في نفسها حتى انها لم تستطع إلى كبتها واخفائها ، وقد ابدت بالغ المسرات والأفراح حينما بلغها مقتله ، وقد تناسب أنه أخو النبي ووليه وانه منه بمنزلة هارون من موسى ، واعرضت عما قال فيه : « اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله » لقد سمعت ذلك ووعته ، ولم يخف عليها شيء مما أثر عن

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد

(٢) المرجل : قدر كبيرة ، القين : الحداد

(٣) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ٦٣

٣٦٧

النبي فيه وفي أبنائه.

٢ ـ ومن بواعث ثورتها انها كانت تتوقع أن ترجع الخلافة إلى تيم ويتقلدها ابن عمها طلحة ـ كما يرى ذلك العقاد ـ(١) وكانت تدعو له وتشيد به ولما بلغها مقتل عثمان وهي في مكة بادرت قائلة : إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الأصبع ـ يعنى طلحة ـ ثم اقبلت مسرعة إلى المدينة وهي لا تشك أنه هو صاحب الأمر ، وكانت تقول : بعدا لنعثل وسحقا ، إيه ذا الأصبع ، إيه أبا شبل ، إيه ابن عم لله أبوك ، أما انهم وجدوا طلحة لها كفؤا ، لكأني أنظر إلى إصبعه حثو الابل »(٢)

وهي بذلك كانت مدفوعة بدافع العصبية القبلية فلم تنظر لصالح الأمة فقد أرادت أن تعيد المجد ثانيا لأسرتها ، وأن تبسط نفوذها وتستأثر بالأموال وذلك لا يتحقق الا بأن ترجع الخلافة إلى تيم.

٣ ـ ويرى الاستاذ العلائلى ان السبب في خروجها من اجل الحزبية السائدة فى ذلك العصر يقول :

« والتاريخ لا يحدثنا لما ذا خرجت على علي ولم تر بعد من سياسته شيئا ما ، ودعوى انها خرجت طلبا بدم عثمان توهيم لأنها لم تكن جاهلة بالشريعة التي تقضي بترك الأمر إلى الحاكم المركزي فان لم يكن فلولي القتيل وليست من اوليائه(٣)

إذن فلم نخرج عائشة طلبا بدم عثمان بل لشيء آخر وهو ما لم

__________________

(١) عبقرية الامام علي ص ٨٧

(٢) شرح النهج لابن ابي الحديد ٢ / ٧٦

(٣) إن الشريعة تقضي بان ولي الدم ابتداء هو ولي المقتول فان لم يكن فالحاكم الشرعي الذي هو ولي من لا ولى له

٣٦٨

يذكره التأريخ بصراحة ، والذي يستقيم عندي في هذا الأمر ان الحزبية بلغ من نفوذها مبلغا عظيما حتى عدت إلى زوجات النبي فكانت أم سلمة من حزب المحافظين « أي حزب علي » وعائشة من حزب طلحة والزبير كما ذكرت فى « مقدمة الحلقة الاولى » وكانتا كذلك في عهد النبي فقد كانت أم سلمة زعيمة طائفة من نسائه ، وعائشة زعيمة طائفة أخرى ، ولا ريب في أن هذه الحزبية ولدت في نفسيهما حزازة تأريخية اتصلت بمسلكيهما العام »(١)

هذه بعض البواعث التي حفزتها على الخروج على حكومة الامام وقد فتحت بذلك باب التمرد والعصيان ، ومهدت السيل للقوى المنحرفة عن الحق أن تتكتل وتجتمع على حرب ابن أبي طالب فتغرق البلاد في المآسي والدموع ، وتجر للأمة الويلات والخطوب.

اعلان العصيان :

واعلنت عائشة العصيان والخروج على الحكم القائم في خطابها الذي القته بمكة فقد جاء فيه :

« أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وأهل المياه ، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا إن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الأرب(٢) واستعمال من حدث سنه ، وقد استعمل أسنانهم قبله ومواضع من الحمى حماها لهم ، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها ، فتابعهم

__________________

(١) الحلقة الثانية من سيرة الحسين ص ٢٦٧

(٢) الأرب : الخداع والحيلة

٣٦٩

ونزع لهم عنها استصلاحا لهم فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا خلجوا(١) وبادروا بالعدوان ، ونبا فعلهم عن قولهم ، فسفكوا الدم الحرام ، واستحلوا البلد الحرام ، واستحلوا الشهر الحرام ، والله لأصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! فنجاة من اجتماعكم عليهم حتى ينكل بهم غيرهم ويشرد من بعدهم وو الله لو ان الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه او الثوب من درنه إذ ماصوه(٢) كما يماص الثوب بالماء »(٣)

وحفل خطابها بالمغالطات والتنكر للحقائق فقد جاء فيه ان الغوغاء عابوا على عثمان وهو مجاف للواقع فان الذي عاب عليه ، وشهر به إنما هم كبار المهاجرين والانصار ، وكانت هي بالذات اول من قدح زناد الثورة عليه فقد قالت فيه كلمتها الشهيرة : اقتلوا نعثلا فقد كفر ، انها وغيرها من الاعلام والرءوس هم الذين اجهزوا عليه ولا علاقة لغيرهم بدمه

وجاء فى خطابها أنه رجع عن احداثه ، وتابع الثوار استصلاحا لهم فلما لم يجدوا حجة عليه استحلوا دمه وقتلوه ، وهذا أيضا لا يلتقى بالواقع فان عثمان قد اعلن التوبة وأظهر الندم على الأحداث التي ارتكبها الا انه اعلن للناس اخيرا انه إنما قال ذلك من أجل ضغط الثوار عليه وهو ماض على سياسته التي رسمها لنفسه ، ولما قفل الثوار راجعين بعد المكيدة التي دبرها ضدهم طالبوه بالاستقالة من منصبه فابى وامتنع من اجابتهم فلم يجدوا بدا من قتله ، كما ذكرنا ذلك بالتفصيل وهو لا يتفق مع ما ذكرته عائشة في خطابها من انهم لم يجدوا حجة لقتله.

وعلى أي حال فان خطاب عائشة كان أول اعلان للعصيان والتمرد

__________________

(١) خلجوا : اي انتزعوه وجذبوه

(٢) الموص : الغسل اللين والدلك باليد

(٣) تأريخ الطبري ٣ / ٤٦٨

٣٧٠

والاختلاف يقول الاستاذ عبد الفتاح مقصود : « وتفرق الناس بعد حديثها هذا شيعا ، وكان اولى بهم أن تتوحد كلمتهم في هذه المحنة الحازبة التي اصابت الاسلام ، ففيم تدعوهم اليوم أم المؤمنين؟ وإلى أية غاية تريد أن تسير بهم!. لحرب الغوغاء؟. للزحف على المدينة وفيها الأمير الشرعي للبلاد؟. »(١)

لقد احدثت عائشة في خروجها الشقاق والاختلاف بين المسلمين ، وغرست بذور العداء والفتن فى جميع أنحاء البلاد.

مع أمّ سلمة :

واستنجدت عائشة بازواج النبي ودعتهن أن يخرجن معها لحرب وصي رسول الله وباب مدينة علمه وأبي سبطيه واجتمعت بأم سلمة فجعلت تخادعها وتقول لها :

« يا بنت أبي أمية ، أنت أول مهاجرة من أزواج رسول الله (ص) وأنت كبيرة أمهات المؤمنين ، وكان رسول الله يقسم لنا من بيتك وكان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك »

فتريبت أم سلمة من كلامها وقالت لها :

« لأمر ما قلت هذه المقالة؟. »

فاجابتها عائشة بما تروم قائلة :

« إن القوم استتابوا عثمان ، فلما تاب قتلوه صائما فى الشهر الحرام وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة ، فاخرجى معنا لعل الله يصلح هذا الأمر على أيدينا »

__________________

(١) الامام علي ٢ / ٢٦٧

٣٧١

وانبرت أم سلمة إلى تفنيد مقالتها وإلى تسديدها ونصحها قائلة :

« إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان ، وتقولين فيه أخبث القول وما كان اسمه عندك الا نعثلا ، وانك لتعرفين منزلة علي عند رسول الله أما أذكرك؟ »

ـ نعم

ـ أتذكرين يوم أقبل ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه فأطال ، فاردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني وهجمت عليهما ، فما لبثت أن رجعت باكية فقلت : ما شأنك؟ فقلت : أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله الا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي؟ فاقبل رسول الله علي وهو محمر الوجه غضبا ، فقال ارجعي وراءك والله لا يبغضه أحد الا وهو خارج من الايمان. فرجعت نادمة ساخطة.

ـ نعم اذكر ذلك.

ـ أو أذكرك.

ـ نعم

ـ كنت أنا وأنت مع رسول الله فقال لنا : أيتكن صاحبة الجمل الادب(١) تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط؟ فقلنا نعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك فقال : إياك أن تكونيها يا حميراء.

ـ نعم اذكر ذلك

ـ أو أذكرك؟

__________________

(١) الأدب : الجمل الكثير الشعر

٣٧٢

ـ نعم

ـ كنت أنا وأنت مع رسول الله فى سفر له ، وكان علي يتعاهد نعل رسول الله فيخصفها ، وثيابه ، فيغسلها ، فنقب نعله ، فأخذها يومئذ يخصفها ، وقعد في ظل سمرة ، وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه فقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحدثانه فيما أرادا ، ثم قالا يا رسول الله : إنا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا؟ فقال لهما : أما إني قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون بن عمران ، فسكتا ثم خرجا فلما خرجا خرجنا إلى رسول الله فقلت له أنت وكنت أجرأ عليه منا : يا رسول الله من كنت مستخلفا عليهم؟ فقال : خاصف النعل. فنزلنا فرأيناه عليا فقلت يا رسول الله ، ما أرى الا عليا ، فقال : هو ذاك.

ـ نعم اذكر ذلك

ـ فاي خروج تخرجين بعد هذا؟

ـ إنما أخرج للاصلاح بين الناس وأرجو فيه الأجر

ـ أنت ورأيك

وانصرفت أم سلمة وكتبت بالأمر الى الامام أمير المؤمنين(١) وقد أبدت لها تمام النصح وذكرتها بما تناسته من فضائل أمير المؤمنين ومآثره ولكن عائشة استسلمت لاحقادها وعواطفها فلم تستجب لذلك.

__________________

(١) شرح النهج ٢ / ٧٩ وذكر الزمخشري فى الفائق ١ / ٢٩٠ ما يقرب من ذلك.

٣٧٣

الزعف الى البصرة :

واستجاب لدعوة عائشة جميع رجال الحكم المباد من ولاة عثمان واقربائه وذوى الاطماع الذين اعتقدوا أن حكومة الامام تبدد أحلامهم فى النفوذ السياسي ، والمغرر بهم والسذج من الناس الذين تلونهم الدعاية كيف شاءت ، كل هؤلاء جرفتهم دعوة عائشة ودعايتها وخضعوا لأوامرها وقد تداول زعماء الفتنة الآراء في غزو أي بلد ، وعرضوا المدينة الا انهم عدلوا عنها لأن فيها الخليفة الشرعي وهو يتمتع بالقوى العسكرية ولا قبل لهم بها ، وعرضوا ثانيا الشام وفيها الرجال والأموال وعليها ابن عثمان واليا فهي اولى بلد واجدره بالاجابة ولكن الأمويين لم يستجيبوا لذلك لأنهم جعلوا الشام في حوزتهم وخافوا عليها من التصدع ، فاجمع الرأي على غزو البصرة لأن فيها أعوانا وانصارا لهم ونادى المنادي فى مكة :

« أيها الناس ، إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة فمن كان يريد اعزاز الاسلام ، وقتال المحلين ، والطلب بثار عثمان ، ولم يكن عنده مركب ولا جهاز فهذا جهازه وهذه نفقته »

وزودوا الجند بالسلاح والعتاد فاعان يعلى بن أمية(١) بأربعمائة الف

__________________

(١) يعلى بن أميّة بن ابى عبيدة التميمي كان واليا على بعض نواحي اليمن من قبل عمر ، واستعمله عثمان على صنعاء ، وقال المدائني : كان يعلي اميرا على الجند باليمن فبلغه قتل عثمان فاقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسر فخذه فقدم مكة بعد انقضاء الحج فاجتمع الناس به فاخذ يحرضهم على الطلب بدم عثمان فاعان الزبير باربعمائة الف وحمل سبعين رجلا من قريش وحمل عائشة على الجمل الذي شهدت القتال عليه واسمه « عسكر » ولما فشلت حرب الجمل لحق بالامام امير المؤمنين

٣٧٤

وحمل سبعين رجلا ، واعتلت عائشة جملها المسمى ( بعسكر ) قد احتف بها بنو أمية وهي تتقدم أمام الحشد الزاخر ، تقودهم إلى تمزيق الوحدة الاسلامية والى محاربة الحكومة الشرعية ، ولما انتهت إلى ذى قار التقى بها سعيد ابن العاص(١) فقال لها :

ـ أين تريدين يا أم المؤمنين؟

ـ البصرة

ـ وما تصنعين بها؟

ـ أطلب بدم عثمان

فضحك ساخرا وقال متبهرا :

ـ هؤلاء قتلة عثمان يا أم المؤمنين

فازاحت بوجهها عنه إذ لا حجة لها تدافع بها عن نفسها ، وتركها وانصرف إلى مروان فقال له :

ـ وأنت أيضا تريد البصرة

ـ نعم

ـ ما تريد؟

ـ أطلب بدم عثمان

ـ فهؤلاء قتلة عثمان معك ـ وأشار الى طلحة والزبير ـ فقال : إن

__________________

وصار من اصحابه وقتل معه بصفين ، جاء ذلك في اسد الغابة ٥ / ١٣٨.

(١) سعيد بن العاص الأموي ولد عام الهجرة ، قتل علي اباه يوم بدر وهو من فصحاء قريش استعمله عثمان واليا على الكوفة ثم عزله عنها وارجع سعيدا إليها فارجعوه اهل الكوفة وكتبوا إلى عثمان لا حاجة لنا في سعيدك ولا في وليدك ، وكان فيه تجبر وشدة وغلظة ، ولما قتل عثمان لزم سعيد بيته واعتزل ايام الجمل وصفين ولم ـ

٣٧٥

هذين الرجلين قتلة عثمان ، وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، فلما غلبا عليه قالا : نغسل الدم بالدم والحوبة بالتوبة(١) ولم تجد معهم هذه المحاورة شيئا ، وانطلقوا مصممين على الغي والعدوان.

ماء الحوأب :

وانطلقت قافلة عائشة تطوى البيداء فاجتازت على مكان يقال له « الحوأب »(٢) فتلقت الركب كلاب الحي الساهرة بهرير وعواء فذعرت عائشة من ذلك النباح الذي اطلقته الكلاب على القافلة ، فقالت لمحمد بن طلحة :(٣) .

__________________

ـ يشهد شيئا من تلك الحروب ، ولما استتب الأمر الى معاوية ولاه المدينة ثم ولاها مروان بن الحكم وكان يعاقب بينهما في ولايتها توفى في خلافة معاوية سنة تسع وخمسين ، الاستيعاب ٢ / ٨

(١) الامامة والسياسة ١ / ٦٣

(٢) الحوأب بالفتح ثم السكون وهمزة مفتوحة وباء موحدة موضوع للاودية الواسعة والعلبة الضخمة ومكان في طريق البصرة وقال ابو منصور : الحوأب موضع بئر نبحت كلابه على عائشة عند مجيئها الى البصرة وانشد

ما هي الاشربة بالحوأب

فصعدى من بعدها او صوبى

معجم البلدان ٣ / ٣٥٥

(٣) محمد بن طلحة القرشي التميمي : ولد في حياة النبي «ص» وهو الذي سماه محمدا وكناه بابى القاسم قتل يوم الجمل وكان هواه مع علي ومر به الامام بعد مقتله فقال : هذا الذي قتله بره بأبيه امره ابوه ان يتقدم للقتال فتقدم ونثل درعه بين رجليه وقام عليها وجعل كلما مر عليه رجل قال له : نشدتك بحاميم فشد عليه ـ

٣٧٦

ـ أي ماء هذا؟

ـ ماء الحوأب.

فذعرت ، وذاب قلبها أسى وحسرات على ما فرطت في أمرها وقالت :

ـ ما أراني إلا راجعة!!

ـ لمّ ـ يا أم المؤمنين؟

ـ سمعت رسول الله يقول لنسائه : كأني بإحداكنّ قد نبحتها كلاب الحوأب ،(١) وإياك أن تكوني أنت يا حميراء.

ـ تقدمي رحمك الله ودعى هذا القول ولم تقتنع عائشة واصرت على الانسحاب فعلم ذلك طلحة والزبير فاقبلا يلهثان لأنها متى انفصلت عن الجيش ذهبت آمالهما أدراج الرياح فتكلما معها في الامر فاصرت على

__________________

ـ رجل فقتله وانشد يقول :

واشعث قوام بآيات ربه

قليل الاذى فيما ترى العين مسلم

ضممت إليه بالقناة قميصه

فخر صريعا لليدين وللفم

على غير ذنب غير ان ليس تابعا

عليا ومن لا يتبع الحق يظلم

يذكرني حاميم والرمح شاجر

فهلا تلا حاميم قبل التقدم

يقال قتله كعب بن مدلج ، وقيل معاوية بن شداد ، وقيل غيرهما الاستيعاب ٣ / ٣٤٩.

(١) روى ابن عباس عن رسول الله (ص) انه قال يوما لنسائه وهن جميعا عنده : ايتكن صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلهم فى النار وتنجو بعد ما كادت ، شرح النهج ٢ / ٤٩٧ وهذا الحديث من اعلام النبوة ومن اخباره بالمغيبات.

٣٧٧

الانسحاب فجاءوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا أنه ليس بماء الحوأب وهي اول شهادة زور تقام في الاسلام(١) وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يقلعوا رأيها وكان الواجب عليها بعد ما ذكرت قول الرسول أن ترجع إلى بيتها فلا تقود الجيوش لمحاربة أخي رسول الله

في ربوع البصرة :

وسارت قافلة عائشة تطوي البيداء حتى اشرفت على البصرة فلما علم ذلك عامل البصرة عثمان بن حنيف(٢) أرسل إليها أبا الأسود الدئلى ليسألها عن قدومها ، ولما التقى بها قال لها :

ـ ما أقدمك يا أم المؤمنين؟

ـ أطلب بدم عثمان

ـ ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد!!

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٢ ، تأريخ اليعقوبي.

(٢) عثمان بن حنيف الانصاري من الأوس ، كان واليا من قبل عمر ، ثم ولاه الامام على البصرة ولما خرج الامام منها عزله عنها وولى عبد الله بن عباس ، وقيل إن عمر بن الخطاب استشار الصحابة فى رجل يوجهه الى العراق فاجمعوا على عثمان بن حنيف ، وقالوا : إن تبعثه على اهم من ذلك فان له بصرا وعقلا ومعرفة وتجربة ، فاسرع عمر فولاه مساحة ارض العراق فضرب عثمان على كل جريب من الارض يناله الماء عامرا وغامرا درهما وقفيزا من الطعام فبلغت جباية سواد الكوفة قبل ان يموت عمر بعام مائة الف الف ونيفا ، وبعد حادثة البصرة اقام فى الكوفة ، وبقى فيها الى زمان معاوية ، الاستيعاب ٣ / ٧٩

٣٧٨

ـ صدقت ، ولكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، انغضب لكم من سوط عثمان ، ولا نغضب لعثمان من سيوفكم؟

فرد عليها بمنطقه الفياض قائلا :

ـ ما أنت من السوط والسيف؟ إنما أنت حبيسة رسول الله (ص) أمرك أن تقري في بيتك ، وتتلي كتاب ربك ، وليس على النساء قتال ، ولا لهن الطلب بالدماء ، وإن عليا لأولى منك وأمس رحما ، فانهما ابنا عبد مناف!!

ـ لست بمنصرفة حتى امضي لما قدمت إليه ، افتظن أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي؟!

ـ أما والله لتقاتلن قتالا أهونه الشديد.

ثم تركها وانصرف عنها واقبل الى الزبير فذكره بماضي ولائه للامام أمير المؤمنين قائلا :

ـ يا أبا عبد الله ، عهد الناس بك ، وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك ، تقول : لا أحد أولى بهذا الامر من ابن أبي طالب ، واين هذا المقام من ذاك.؟؟

ـ نطلب بدم عثمام

ـ أنت وصاحبك وليتماه فيما بلغنا

وانصاع الزبير لمقالة أبي الاسود ورأى فيها النصح والرشاد إلا انه طلب منه مواجهة طلحة ومذاكرته في الأمر ، فمضى أبو الاسود مسرعا وعرض عليه الامر فلم يستجب له وأصر على الغي والعدوان(١)

__________________

(١) شرح النهج ٢ / ٨١

٣٧٩

وأنطلق أبو الأسود الى ابن حنيف فأخبره بنية القوم ، واصرارهم على الحرب فجمع أصحابه فخطب فيهم فقال في خطابه :

« أيها الناس ، إنما بايعتم الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فانما ينكث على نفسه ، ومن أو فى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه الله أجرا عظيما ، والله لو علم علي أحدا احق بهذا الامر منه ما قبله ، ولو بايع الناس غيره لبايع وأطاع وما به الى أحد من صحابة رسول الله حاجة ، وما باحد عنه غنى ولقد شاركهم في محاسنهم وما شاركوه في محاسنه ولقد بايع هذان الرجلان وما يريدان الله ، فاستعجلا الفطام قبل الرضاع. والرضاع قبل الولادة والولادة قبل الحمل ، وطلبا ثواب الله من العباد ، وقد زعما أنهما بايعا مستكرهين فان كانا استكرها قبل بيعتها وكانا رجلين من عرض قريش لهما أن يقولا ولا يأمرا ، إلا وان الهدى ما كانت عليه العامة ، والعامة على بيعة على. فما ترون أيها الناس؟ »

وانبرى إليه حكيم بن جبلة فخاطبه بمنطق الايمان قائلا.

« نرى إن دخلا علينا قاتلناهما ، وإن وقفا تلقيناهما ، والله ما أبالي أن أقاتلهما وحدي ، وإن كنت أحب الحياة ، وما أخشى في طريق الحق وحشة ، ولا غيرة ولا غشا ولا سوء منقلب الى بعث وانها لدعوة قتيلها شهيد وحيها فائز ، والتعجيل الى الله قبل الأجر خير من التأخير في الدنيا ، وهذه ربيعة معك »(١)

وصمم القوم بذلك على رد العدوان ، ومقابلتهم بالمثل إن اعتدوا عليهم ، وعدم التعرض لهم إن لم يبدؤهم بقتال.

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ٦٤ ـ ٦٥

٣٨٠

وأقول :

قد عرفت أنّ الكلام ـ في هذا ونحوه ـ في الأفضليّة ، فإن أقرّ به الفضل ، فهو المراد ، وإلّا فليأت بشبهة.

وكيف يقاس بمن جاد بنفسه في جميع مواقف الزحام ، من بخل بها في كلّ مقام ، وفرّ مرارا عن سيّد الأنام(١) ؟!

أو يقاس بمن سخا بجميع ماله على الأباعد ، من ضنّ ببعضه على الأقارب ، وحمل يوم الهجرة ماله كلّه وترك بلا قوت أهله(٢) ؟!

وهل يلحق من آثر على نفسه ولم يعزّ عليه قوته ، من كانت في أموال المسلمين نهمته حتّى كبت به بطنته(٣) .

* * *

__________________

(١) إشارة إلى الشيخين وأغلب الصحابة ، حين فرّوا من الزحف ، كيوم أحد وخيبر وحنين ؛ راجع : ج ٥ / ٥٧ ه‍ ١ وص ٧٧ ه‍ ١ وص ٨٢ من هذا الكتاب ، وص ٨٩ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) إشارة إلى أبي بكر ، الذي احتمل ماله كلّه ولم يترك لعياله منه شيئا ؛ انظر : البداية والنهاية ٣ / ١٤١ ـ ١٤٢.

(٣) إشارة إلى عثمان بن عفّان ، فقد وصفه أمير المؤمنينعليه‌السلام في الخطبة الشقشقية بقوله : « إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ».

انظر : نهج البلاغة : ٤٩ الخطبة ٣.

٣٨١

استجابة دعائه ، وحسن خلقه ، وحلمه

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب السابع : في استجابة دعائه

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد استسعد به(٢) وطلب تأمينه على دعائه يوم المباهلة ، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة(٣) .

ودعا على أنس بن مالك لمّا استشهده على قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه » ؛ فاعتذر بالنسيان

فقال :اللهمّ إن كان كاذبا فاضربه ببياض لا تواريه العمامة ؛ فبرص(٤) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٦.

(٢) استسعد به : عدّه سعدا ويمنا ؛ انظر مادّة « سعد » في : الصحاح ٢ / ٤٨٧ ، لسان العرب ٦ / ٢٦٢ ، تاج العروس ٥ / ١٦.

(٣) راجع : ج ٤ / ٣٩٩ من هذا الكتاب.

(٤) انظر : جمهرة النسب ٢ / ٣٩٥ ، المعارف ـ لابن قتيبة ـ : ٣٢٠ ، أنساب الأشراف ٢ / ٣٨٦ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٤ وج ١٩ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

وهناك من روى المناشدة ، وأنّ أنسا كان أحد الحاضرين حينها ، ولكنّه تكتّم عليه فلم يذكر أنّ من أصابته الدعوة هو أنس! انظر : حلية الأولياء ٥ / ٢٦ ـ ٢٧.

ومنهم من روى أنّ أنسا كان به برص ، ولم يذكر سبب ذلك! انظر : تاريخ دمشق ٩ / ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

ومنهم من روى عن زيد بن أرقم أنّه ـ أي : زيد ـ كان أحد الموجودين حين المناشدة ، فكتم الشهادة ، فعمي ؛ انظر : المعجم الكبير ٥ / ١٧١ ح ٤٩٨٥ وص

٣٨٢

ودعا على البراء(١) بالعمى ؛ لأجل نقل أخباره إلى معاوية ، فعمي(٢) .

__________________

١٧٤ ـ ١٧٥ ح ٤٩٩٦ ، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ـ لابن المغازلي ـ : ٧٤ ح ٣٣ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٠٦.

وعاد الطبراني فأورد قصّة المناشدة عن زيد نفسه ، إلّا أنّه لم يذكر كتمان الشهادة بالحديث ودعاء الإمام عليّعليه‌السلام وذهاب البصر! انظر : المعجم الأوسط ٢ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ح ١٩٨٧.

وراجع : ج ٤ / ٣٢٨ من هذا الكتاب.

(١) المغيرة / خ ل. منهقدس‌سره .

نقول : ورد الاسم مصحّفا تصحيفا بيّنا في مصادر هذه الحادثة ، ففي بعضها : « الغرار » ، وفي بعضها الآخر غير ذلك ، والمنقول في أغلبها : « العيزار » ، حتّى إنّ العلّامة الحلّيقدس‌سره ضبطه كذلك في كتابه « كشف اليقين ».

ولعلّ المقصود هو ، « العيزار بن جرول التنعي » ، الذي قالوا عنه إنّه يروى عن الإمام عليّعليه‌السلام ، وقد سكت عنه بعض علمائهم ووثّقه آخرون!! فإن كان هو المقصود ، فلا بدّ أن يكون توثيقهم له بسبب ميله إلى معاوية!

انظر : التاريخ الكبير ٧ / ٧٩ رقم ٣٦١ ، الجرح والتعديل ٧ / ٣٧ رقم ١٩٧ ، الثقات ـ لابن حبّان ـ ٧ / ٣٠٢ ، تاريخ أسماء الثقات ـ لابن شاهين ـ : ٢٥٢ رقم ١٠٠٣ ، الإكمال : ٢٢٩ رقم ٦٨٦.

أمّا « المغيرة » فلم يذكر لنا التاريخ أنّه عمي ، بل ولي الكوفة لمعاوية إلى أن مات بها سنة ٥٠ ه‍.

وممّا يقوّي احتمال التصحيف هنا ؛ أنّ قضية « البراء » ـ وفق ما جاءت به الروايات ، إن صحّت ـ كانت في رحبة مسجد الكوفة عند مناشدة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الصحابة عن حديث الغدير ، وهذه القضية كانت في نقل أخبار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية.

أمّا إذا كان ورود اسم « البراء » هنا صحيحا ، فيحتمل ـ حينها ـ أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قد دعا على « البراء » مرّتين ، مرّة بعد المناشدة ، وأخرى بعد نقل الأخبار ، فعمي ؛ فلاحظ!

(٢) انظر : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، الخرائج والجرائح

٣٨٣

وردّت عليه الشمس مرّتين لمّا دعا به(١) .

ودعا في زيادة الماء لأهل الكوفة حتّى خافوا الغرق ، فنقص حتّى ظهرت الحيتان ، فكلّمته إلّا الجرّي والمارماهي والزمّار(٢) ، فتعجّب الناس من ذلك(٣) .

وأمّا حسن الخلق ؛ فبلغ فيه الغاية ، حتّى نسبه أعداؤه إلى الدعابة(٤) .

وكذا الحلم ؛ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمةعليها‌السلام : «إنّي زوّجتك من أقدم الناس سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما »(٥) .

* * *

__________________

١ / ٢٠٧ ح ٤٨ ، مناقب آل أبي طالب ٢ / ٣١٤ ، كشف اليقين ـ للعلّامة الحلّي ـ : ١١١ ، إرشاد القلوب ٢ / ٤٠ ، أرجح المطالب : ٦٨١.

(١) انظر : وقعة صفّين : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، منهاج السنّة ٨ / ١٩١ ـ ١٩٢ ، البداية والنهاية ٦ / ٦٥ و ٦٦ ، مزيل اللبس عن حديث ردّ الشمس : ١٤٩ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

وراجع مبحث حديث ردّ الشمس في الصفحات ٢٠٠ ه‍ ١ و ٢٠٧ ـ ٢٢٣ من هذا الجزء ، وانظر : ج ٥ / ٢٨٦ ه‍ ٢ من هذا الكتاب.

(٢) الجرّي والمارماهي والزمّار : ضروب من الأسماك ، لا فلس لها.

(٣) انظر : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٤) انظر : نهج البلاغة : ١١٥ الخطبة ٨٤ ، العقد الفريد ٣ / ٢٩٠ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ١١٨ مادّة « دعب » ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٣٢٦ ـ ٣٣٠ ، لسان العرب ٤ / ٣٤٩ مادّة « دعب » وج ١٥ / ٣٢١ مادّة « وصي ».

(٥) مسند أحمد ٥ / ٢٦ ، مصنّف عبد الرزّاق ٥ / ٤٩٠ ح ٩٧٨٣ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٥٠٥ ح ٦٨ ، المعجم الكبير ١ / ٩٤ ح ١٥٦ وج ٢٠ / ٢٣٠ ح ٥٣٨ ، تلخيص المتشابه ١ / ٤٧٢ رقم ٧٨٦ ، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ـ لابن المغازلي ـ : ١٢٩ ح ١٤٤ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ١٢٦ و ١٣١ ـ ١٣٣.

٣٨٤

وقال الفضل(١) :

ما ذكره في هذا المطلب من استجابة دعاء أمير المؤمنين ؛ فهذا أمر لا ينبغي أن يرتاب فيه ، وإذا لم يكن دعاء سيّد الأولياء مستجابا ، فمن يستجاب له الدعاء؟!

وأمّا ما ذكر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله استسعد بدعائه ؛ فقد ذكرنا سرّ هذا الاستسعاد والاشتراك في الدعاء في المباهلة ، أنّ هذا من عادات أهل المباهلة ، أن يشاركوا القوم والنساء والأولاد في الدعاء(٢) .

ويفهم منه أنّ النبيّ استسعد بدعائه لاحتياجه إلى ذلك الاستسعاد ، وهذا باطل عقلا ونقلا.

أمّا عقلا ؛ لأنّ النبيّ لا شكّ أنّه كان مستجاب الدعوة ، ومن كان مستجاب الدعوة فلا يحتاج إلى استسعاد الغير.

وأمّا نقلا ؛ فلأنّ الاشتراك في الدعاء في المباهلة لم يكن للاستسعاد ، بل لما ذكرنا.

وأمّا ما ذكر أنّ أمير المؤمنين استشهد من أنس بن مالك ، فاعتذر بالنسيان ، فدعا عليه ؛ فالظاهر أنّ هذا من موضوعات الروافض ؛ لأنّ خبر «من كنت مولاه فعليّ مولاه » كان في غدير خمّ.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ : ٤٥٤ الطبعة الحجرية.

(٢) راجع : ج ٤ / ٤٠١ من هذا الكتاب.

٣٨٥

وكان لكثرة سماع السامعين كالمستفاض(١) ، فأيّ حاجة إلى الاستشهاد من أنس؟!

ولو فرض أنّه استشهد ولم يشهد أنس ، لم يكن من أخلاق أمير المؤمنين أن يدعو على صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن خدمه عشر سنين ، بالبرص ؛ ووضع الحديث ظاهر.

* * *

__________________

(١) الحديث المستفيض : هو ما زاد عدد رواته عن ثلاثة في كلّ طبقة من الطبقات ، وبذلك يختلف عن الحديث المشهور ، الذي هو أعمّ من ذلك ، فقد تطرأ الشهرة على جزء منه ، كوسطه دون طرفيه.

ويقال : فاض الخبر يفيض ، واستفاض ، أي شاع وذاع ، وهو حديث مستفيض ، أي منتشر شائع ذائع بين الناس ؛ ولا يقال : مستفاض ـ فذلك لحن ـ إلّا أن يقال : مستفاض فيه.

وهو على المجاز هنا ، مأخوذ من « فاض الماء يفيض فيضا » ، أي كثر حتّى سال على طرف الوادي.

انظر : شرح شرح نخبة الفكر : ١٩٢ ، شرح البداية في علم الدراية : ٧٠ ، مقباس الهداية في علم الدراية ١ / ١٢٨ ، ومادّة « فيض » في : الصحاح ٣ / ١٠٩٩ ، لسان العرب ١٠ / ٣٦٧ ، تاج العروس ١٠ / ١٣١.

٣٨٦

وأقول :

استجابة الدعاء في مثل هذه الأمور الخارقة للعادة لا تقع إلّا لنبيّ أو وصيّ نبيّ ؛ لاشتمالها على المعجز ، وليس مثلها لغير أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فيكون هو الإمام.

وأمّا ما ذكره من سرّ الاستسعاد ، فهو من الأسرار الخاصّة بضمائر المخالفين لأهل البيت ؛ إذ لم يظهر علمه لغيرهم ، كما عرفته في الآية السادسة(١) ، والحديث الثامن(٢) .

كما إنّ الاستسعاد لا يتوقّف على الحاجة الواقعيّة ، بل هو من أمر الله تعالى ؛ لبيان شرف آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله عنده وعنايته بهم

ومن كمال الرسول ، حيث لا يظهر منه الاعتماد على نفسه ، وأنّ له حقّا على الله في الإجابة ، كما سبق موضّحا(٣) .

وأمّا تكذيبه للدعاء على أنس بحجّة أنّ حديث الغدير مستفيض لا يحتاج إلى الاستشهاد ؛ ففيه :

إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام إنّما أراد بيان استفاضته ، وكثرة المطّلعين عليه ؛ لتظهر إمامته بالنصّ ، وهذا ممّا يحتاج إلى أعظم الشواهد عند من نشأوا على موالاة الأوّلين ، ولو لا هذا ونحوه لم يكثر الشيعة بالكوفة ،

__________________

(١) راجع : ج ٤ / ٤٠٢ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٢) راجع مبحث حديث المباهلة في الصفحات ٧٤ ـ ٧٩ من هذا الجزء.

(٣) تقدّم في ج ٤ / ٤٠٢ ـ ٤١٠ من هذا الكتاب ، والصفحات ٧٤ ـ ٧٩ من هذا الجزء.

٣٨٧

فيكون كتمان الشهادة فيه كتمانا لما أنزل الله تعالى ، فيستحقّ كاتمها العقوبة في الدنيا ، وأشدّ العذاب في الآخرة.

ولا ريب برجحان الدعاء بمثل البرص ؛ ليكون شاهدا عيانيّا مستمرّا على صدق حديث الغدير ، وإمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وظلم السابقين له.

ولا يستبعد منه الدعاء على خادم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ ضرر كتمانه في مثل المقام أشدّ من غيره ، وهو أولى بالعقوبة ، ولذا كان عذاب العاصية من أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ضعفين(١) .

وليس هذا أوّل سيّئة من أنس مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل له نحوها في قصّة الطائر(٢) ، وغيرها(٣) ، وهو من المنحرفين عنه.

قال ابن أبي الحديد(٤) : « ذكر جماعة من شيوخنا البغداديّين أنّ عدّة من الصحابة والتابعين والمحدّثين كانوا منحرفين عن عليّعليه‌السلام ، قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ؛ ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة ، فمنهم : أنس بن مالك ، ناشد عليّ الناس في رحبة القصر ـ أو قالوا : برحبة الجامع ـ بالكوفة : أيّكم سمع رسول الله يقول : «من كنت مولاه فعليّ

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٠.

(٢) فقد ردّ أنس أمير المؤمنينعليه‌السلام ثلاثا مدّعيا انشغال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليصرفه عن الدخول متمنّيا أن يكون الآتي واحدا من قومه ؛ انظر مبحث حديث الطائر المشوي في الصفحات ١٥٩ ـ ١٧٠ من هذا الجزء.

(٣) كبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام لأنس إلى طلحة والزبير لمّا جاء إلى البصرة يذكّرهما شيئا ممّا سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمرهما ، فلوى عن ذلك ، فرجع إليه ، فقال : إنّي أنسيت ذلك الأمر!

انظر : نهج البلاغة ٥٣٠ رقم ٣١١.

(٤) ص ٣٦١ من المجلّد الأوّل [ ٤ / ٧٤ ]. منهقدس‌سره .

٣٨٨

مولاه »؟

فقام اثنا عشر رجلا ، فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم.

فقال له : يا أنس! ما يمنعك أن تقوم فتشهد ، ولقد حضرتها؟!

فقال : يا أمير المؤمنين! كبرت ونسيت.

فقال : اللهمّ إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة.

قال طلحة بن عمير : فو الله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه

وروى عثمان بن مطرّف : إنّ رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن عليّ بن أبي طالب ، فقال : إنّي آليت أن لا أكتم حديثا سئلت عنه في عليّ بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتّقين يوم القيامة ، سمعته والله من نبيّكم

وروى أبو إسرائيل ، عن الحكم ، عن أبي سليمان المؤذّن ، أنّ عليّا نشد الناس : من سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :من كنت مولاه فعليّ مولاه؟

فشهد له قوم ، وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ، وكان يعلمها ، فدعا عليّ عليه بذهاب البصر ، فعمي ، فكان يحدّث الناس بالحديث بعدما كفّ بصره ».

وذكر فيه أمر البرص بمحلّ آخر(١) ، ثمّ قال : « ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة في كتاب ( المعارف ) في باب البرص من أعيان

__________________

(١) ص ٣٨٨ من المجلّد الرابع [ ١٩ / ٢١٨ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : المعارف : ٣٢٠.

٣٨٩

الرجال ، وابن قتيبة غير متّهم في حقّ عليّ على المشهور من انحرافه عنه ».

وقد روى أحمد في مسنده من عدّة طرق استشهاد أمير المؤمنينعليه‌السلام بالرحبة ، وقيام من قام للشهادة ، وفي بعضها : « فقام إلّا ثلاثة ، ودعا عليهم فأصابتهم دعوته » ، كما سبق في الآية الثانية(١) .

هذا ، وقد أغفل الفضل ما ذكره المصنّفرحمه‌الله من فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام بالحلم وحسن الأخلاق المطلوبين في الأئمّة ، ولا ريب بامتيازه على غيره بهما(٢) .

وأمّا الحديث الذي نقله المصنّفرحمه‌الله في تفضيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لحلم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد رواه أحمد في مسنده(٣) .

__________________

(١) انظر : مسند أحمد ١ / ١١٩ ، وج ٤ / ٣٧٠ ؛ وراجع : ج ٤ / ٣٢٧ ـ ٣٢٩ من هذا الكتاب.

(٢) لا سيّما على عمر ؛ فإنّه معروف بالغلظة وسوء الخلق ، كما سبق ويأتي ؛ ومن سبر سيرة عمر ظهر له صدق ما ذكرنا.

كما يعرف حال عثمان من سيرته.

وأمّا أبو بكر ؛ فقد كان ـ أيضا ـ حادّا ، كما يدلّ عليه قوله : « إنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني لا أوثّر في أشعاركم وأبشاركم » [ شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٥٩ ].

قال ابن أبي الحديد ـ ص ١٦٨ من المجلّد الرابع [ ١٧ / ١٦١ ] ، بعد قول المرتضى : « إنّها صفة طائش لا يملك نفسه » ـ قال : « لعمري ، إنّ أبا بكر كان حديدا ، وقد ذكره عمر بذلك ، وذكره غيره من الصحابة [ بالحدّة والسرعة ] ». انتهى.

منه قدس‌سره .

نقول : راجع ما تقدّم في ج ٤ / ٢٣٨ ه‍ ١ و ٢ وج ٥ / ٢١٣ ه‍ ٥ ، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه من الجزء السابع من هذا الكتاب.

(٣) ص ٢٦ من الجزء الخامس. منهقدس‌سره .

٣٩٠

ونقله في « كنز العمّال »(١) ، عن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، وعن الدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » ، من حديث ذكر فيه خطبة أبي بكر وعمر لفاطمةعليها‌السلام ، وإباه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتزويجها من عليّعليه‌السلام ، وقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة : «والله لقد أنكحتك أكثرهم علما ، وأفضلهم حلما ، وأقدمهم سلما » قال : « وفي لفظ : أوّلهم سلما ».

ونقله أيضا في « الكنز »(٢) ، عن الطبراني ، بلفظ : «إنّه لأوّل أصحابي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما ».

ولو لا خوف الإطالة والملال ، لذكرت في حلمه من الأخبار والآثار ما كثر

وقد ذكر ابن أبي الحديد ـ في « مقدّمة الشرح » ، وفي أثنائه ـ نبذا من حلم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وصفحه ، وحسن أخلاقه ؛ فراجع(٣) .

* * *

__________________

(١) ص ٣٩٢ من الجزء السادس [ ١٣ / ١١٤ ح ٣٦٣٧٠ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : الذرّيّة الطاهرة : ٩٣ ح ٨٣.

(٢) ص ١٥٣ من الجزء المذكور [ ١١ / ٦٠٥ ح ٣٢٩٢٧ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : المعجم الكبير ١ / ٩٤ ح ١٥٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٢ ـ ٢٤ وج ٣ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ وج ٦ / ١٤٦ و ٣١٣ ـ ٣١٤ و ٣١٦ وج ١٤ / ٢٤.

٣٩١

عبادته من فضائله البدنية

قال المصنّف ـ شرّف الله قدره ـ(١) :

القسم الثاني : في الفضائل البدنية ، وينظمها مطلبان :

الأوّل : في العبادة

لا خلاف أنّهعليه‌السلام كان أعبد الناس ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، والأدعية المأثورة ، والمناجاة في الأوقات الشريفة ، والأماكن المقدّسة(٢) .

وبلغ في العبادة إلى أنّه كان يؤخذ النشّاب من جسده عند الصلاة ؛ لانقطاع نظره عن غير الله تعالى بالكلّيّة(٣) .

وكان مولانا زين العابدينعليه‌السلام يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، ويدعو بصحيفته ، ثمّ يرمي بها كالمتضجّر ويقول : أنّى لي بعبادة عليّعليه‌السلام (٤) .

قال الكاظمعليه‌السلام : إنّ قوله تعالى :( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (٥)

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٧.

(٢) انظر : مطالب السؤول : ١٢٤ و ١٣١ ـ ١٣٢ و ١٣٦ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٧ ، كفاية الطالب : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

(٣) المناقب المرتضوية : ٣٦٤.

(٤) كشف الغمّة ٢ / ٨٥ و ٨٦ ، ينابيع المودّة ١ / ٤٤٦ ح ١٢.

(٥) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

٣٩٢

نزلت في أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) .

وكان يوما في صفّين مشتغلا بالحرب ، وهو بين الصفّين يراقب الشمس ، فقال ابن عبّاس : ليس هذا وقت صلاة ، إنّ عندنا لشغلا!

فقال عليّعليه‌السلام :فعلام نقاتلهم؟! إنّما نقاتلهم على الصلاة (٢) !

وهو الذي عبد الله حقّ عبادته حيث قال :ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا شوقا إلى جنّتك ، ولكن رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك (٣) .

* * *

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ١٨١ ـ ١٨٣ ح ٨٨٦ ـ ٨٨٨ ، روح المعاني ٢٦ / ١٩٤ ، أرجح المطالب : ٣٧ و ٦٧ و ٨٦ ، المناقب المرتضوية : ٦٦.

(٢) إرشاد القلوب ٢ / ٢٢.

(٣) شرح مائة كلمة ـ لابن ميثم البحراني ـ : ٢١٩.

٣٩٣

وقال الفضل(١) :

عبادة أمير المؤمنين ، لا يقاربه العابدون ، ولا يدانيه الزاهدون ، الملائكة عاجزون عن تحمّل أعبائها ، وأهل القدس مغترفون من بحار صفائها.

وكيف لا؟! وهو أعرف الناس بجلال القدس ، وجمال الملكوت ، وأعشق النفوس إلى وصال الجبروت.

وأمّا ما ذكر أنّه عبد الله حقّ عبادته ، فهو لا يصحّ ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال ـ مع كمال العبادة ـ : «ما عبدناك حقّ عبادتك »(٢) .

واتّفق العارفون أنّ الله لا يقدر أحد أن يعبده حقّ عبادته ، والدلائل على هذا مذكورة في محالّه.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ : ٤٥٥ الطبعة الحجرية.

(٢) انظر : الكافي ٢ / ٩٩ ح ١ وفيه : « إنّ الله لا يعبد حقّ عبادته ».

٣٩٤

وأقول :

إنّما الممتنع هو العبادة بحقّها من جميع الوجوه ، كمّا وكيفا ، وأمّا من جهة خاصّة فلا ، كعبادته سبحانه لذاته لا خوفا ولا طمعا ، وهي التي أرادها المصنّفرحمه‌الله ؛ ولذا جعل قولهعليه‌السلام : «ما عبدتك خوفا من نارك » إلى آخره ، تعليلا لكونه عبد الله حقّ عبادته ؛ وهي عبادة الأحرار ، لا عبادة العبيد والتجّار.

قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « الشرح » : « كان أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة.

وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده(١) ، أن يبسط له نطع(٢) بين الصّفّين ليلة الهرير(٣) ، فيصلّي عليه ورده ، والسهام تقع بين

__________________

(١) الورد ـ والجمع : الأوراد ـ : النصيب أو الجزء أو المقدار المعلوم من القرآن ، وما يكون على الرجل أن يصلّيه في الليل ؛ انظر : لسان العرب ١٥ / ٢٦٩ مادّة « ورد ».

(٢) النّطع والنّطع والنّطع والنّطع ـ والجمع : نطوع وأنطاع وأنطع ـ : بساط من الأديم ؛ انظر مادّة « نطع » في : الصحاح ٣ / ١٢٩١ ، لسان العرب ١٤ / ١٨٦ ، تاج العروس ١١ / ٤٨٢.

(٣) ليلة الهرير : ليلة من ليالي معركة صفّين ، في صفر من سنة ٣٧ ه‍ ، اقتتل الجيشان في تلك الليلة حتّى الصباح ، فتطاعنوا بالرماح حتّى تقصّفت وتكسّرت واندقّت ، وتراموا حتّى نفد النبل ، ثمّ مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيوف وعمد الحديد ، فلم يسمع السامع إلّا وقع الحديد بعضه على بعض ، فكشف في

٣٩٥

يديه ، وتمرّ على صماخيه(١) يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته؟!

وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير(٢) ، لطول سجوده؟!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما تتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته ، والاستحذاء له(٣) ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أيّ قلب خرجت ، وعلى أيّ لسان جرت!

وقيل لعليّ بن الحسينعليه‌السلام ـ وكان الغاية في العبادة ـ : أين عبادتك من عبادة جدّك؟

قال :عبادتي عند عبادة جدّي ، كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

ولا غرو فقد وحّد الله قبل الناس طفلا ، وعبده صبيّا مع النبيّ سبع سنين ، في محلّ لم يعبده فيه عابد ، ولم يسجد له من الملأ ساجد.

__________________

صبيحتها عن ما يقرب من سبعين ألف قتيل.

انظر : وقعة صفّين : ٤٧٥ ، الكامل في التاريخ ٣ / ١٩١ ، تاج العروس ٧ / ٦٢١ مادّة « هرر ».

(١) الصّماخ ، والسّماخ لغة فيه ـ والجمع : أصمخة وصمخ ، وبالسين لغة ـ : هو ثقب الأذن الماضي إلى داخل الرأس ، ويقال : إنّ الصماخ هو الأذن نفسها ؛ انظر : لسان العرب ٧ / ٤٠٣ مادّة « صمخ ».

(٢) الثّفنة من البعير والناقة : الرّكبة وما مسّ الأرض من جسمه وأصول أفخاذه ، والجمع : ثفن وثفنات ؛ انظر : لسان العرب ٢ / ١٠٨ مادّة « ثفن ».

(٣) الاستحذاء له : أي متابعة أوامره والانقياد لها ؛ انظر : لسان العرب ٣ / ٩٨ مادّة « حذا ».

(٤) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧.

٣٩٦

وهذا بالضرورة لم يكن إلّا من كمال النفس ، وصفاء الذات ، وتمام العلم والمعرفة ، التي امتاز بها على من لم يعرف ضعة الحجارة في أكثر أعوامه ، ولم يتّصف بأدنى مراتب تلك العبادة في باقي أيّامه.

روى البخاري في : « باب يفكّر الرجل الشيء في صلاته » ـ قبل أبواب السهو ـ ، عن عمر ، قال : « إنّي لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة »(١) .

وروى في « كنز العمّال »(٢) ، أنّ عمر صلّى بالناس المغرب ولم يقرأ شيئا ، فلمّا فرغ قيل له ، فاعتذر بأنّي جهّزت عيرا إلى الشام ، وجعلت أنقلها منقلة منقلة ، حتّى قدمت الشام فبعتها وأقتابها وأحلاسها وأحمالها.

فكيف يقاس هذا بصاحب تلك العبادة والمعرفة؟!

وهل يحسن بشريعة العقل أن يكون هذا رئيسا دينيّا ، وإماما مذهبيّا ، وذاك مأموما؟!

ما هذا بحكم عدل ، ولا قول فصل!!

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٤٨.

(٢) ص ٢١٣ من الجزء الرابع [ ٨ / ١٣٣ ح ٢٢٢٥٧ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ٣٨٢.

٣٩٧

جهاده في الحروب

قال المصنّف ـ طاب رمسه ـ(١) :

المطلب الثاني : في الجهاد

وإنّما تشيّدت مباني الدين ، وثبتت قواعده ، وظهرت معالمه ، بسيف مولانا أمير المؤمنين ، وتعجّبت الملائكة من شدّة بلائه في الحرب(٢) .

ففي غزاة بدر ـ وهي الداهية العظمى على المسلمين ، وأوّل حرب ابتلوا بها ـ قتل صناديد قريش الّذين طلبوا المبارزة ، كالوليد بن عتبة ، والعاص(٣) بن سعيد بن العاص ـ الذي أحجم المسلمون عنه ـ ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٨.

(٢) انظر : ربيع الأبرار ١ / ٨٣٣ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ٢٥١.

ومرّ تخريجه مؤدّاه مفصّلا في مبحث الحديث الرابع عشر ؛ فراجع الصفحتين ١٣٣ ـ ١٣٤ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٣) كذا في الأصل والمصدر.

نقول : والصحيح في كتابته لغة : « العاصي » ؛ إذ إنّه من الأسماء المنقوصة ، وهي كلّ اسم معرب في آخره ياء ثابتة مكسور ما قبلها ، وحكمه الإعرابي حذف الياء منه في حالتي الرفع والجرّ ، كقولنا : هذا قاض ومررت بقاض ؛ وإثباتها عند الإضافة ودخول « أل » التعريف عليها ، كقولنا : جئت من عند قاضي القضاة والقاضي العادل أمان للضعفاء ؛ وثبوتها في حالة النصب ـ كذلك ـ كقولنا : رأيت قاضيا.

٣٩٨

ونوفل بن خويلد ـ الذي قرن أبا بكر وطلحة بمكّة قبل الهجرة ، وأوثقهما بحبل وعذّبهما(١) ـ.

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عرف حضوره في الحرب : «اللهمّ اكفني نوفلا »(٢) .

ولمّا قتله عليّعليه‌السلام ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه »(٣) .

ولم يزل يقتل في ذلك اليوم واحدا بعد واحد ، حتّى قتل نصف المقتولين ، وكانوا سبعين.

وقتل المسلمون كافّة ، وثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين النصف الآخر(٤) .

__________________

وقد شاع بين الكتّاب والمتأدّبين ـ من العصر الأوّل حتّى يومنا هذا ـ كتابته بحذف الياء ، وهو ليس بصحيح

قال المبرّد : « هو العاصي بالياء ، لا يجوز حذفها ، وقد لهجت العامّة بحذفها ».

انظر : تاج العروس ١٩ / ٦٨٢ مادّة « عصي ».

وما قلناه هنا ينطبق على الموارد نفسها التي تقدّمت وستأتي ؛ فلاحظ!

(١) انظر : المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ٤١٦ ح ٥٥٨٦ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٧٠.

(٢) المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٩١ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ / ٩٤ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ١٤٣.

(٣) المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٩٢ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ / ٩٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ١٤٤.

(٤) انظر : المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ١٤٧ ـ ١٥٢ ، أنساب الأشراف ١ / ٣٥٥ ـ ٣٦٠ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٧٠ ـ ٧٢ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٤.

٣٩٩

وفي غزاة أحد انهزم المسلمون عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورمي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضربه المشركون بالسيوف والرماح ، وعليّ يدافع عنه ، فنظر إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إفاقته من غشيته ، وقال : ما فعل المسلمون؟

فقال :نقضوا العهد وولّوا الدّبر.

فقال :اكفني هؤلاء ؛ فكشفهم عنه.

وصاح صائح بالمدينة : قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فانخلعت القلوب ، ونزل جبرئيل قائلا :

لا سيف إلّا ذو الفقا

ر ، ولا فتى إلّا عليّ

وقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله! لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :ما يمنعه من ذلك وهو منّي وأنا منه ؟!(١) .

ورجع بعض الناس لثبات عليّعليه‌السلام ، ورجع عثمان بعد ثلاثة أيّام ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :لقد ذهبت بها عريضا !(٢)

وفي غزاة الخندق أحدق المشركون بالمدينة كما قال الله تعالى :( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) (٣) ، ونادى المشركون بالبراز ، فلم يخرج سوى عليّ ، وفيه قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام عمرو بن

__________________

(١) راجع مبحث الحديث الرابع عشر ، في الصفحات ١٣٣ ـ ١٤١ من هذا الجزء.

(٢) انظر : السير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ : ٣٣٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٩ ، تفسير الفخر الرازي ٩ / ٦٤ تفسير الآية ١٥٩ من سورة آل عمران ، شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢١ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٥٢ ، تفسير الطبري ٣ / ٤٨٩ ح ٨١٠٢.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530