حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 224537 / تحميل: 7176
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

على نفسه ثوب القداسة والإيمان لتمنحه الأمة ثقتها ، وتنقاد إليه بدافع العقيدة ، ولكنها محاولة فاشلة لأن المسلمين ينظرون إليه نظرة ريبة وشك في إسلامه لأنه من الشجرة الملعونة في القرآن التي ناجزت النبي (ص) وقادت الجيوش لمحاربته ، بالاضافة إلى الأحداث الجسام التي ارتكبها كمناجزته لوصي رسول الله (ص) وباب مدينة علمه ، وقتله الأخيار ، ومطاردته الصلحاء ، وبدعه التي أحدثها في الإسلام ، وغير ذلك من الكبائر والموبقات التي سود بها وجه التأريخ ، ومن الطبيعي أن هذه الدعايات والأكاذيب لا تمحو عنه العار والخزي.

وعلى أي حال فقد كثرت الأحاديث التي وضعها الدجالون في فضل معاوية ، وفي فضل عثمان بن عفان ، وقد خاف أن يفوت غرضه ، ويفتضح أمره ، ولا يصل إلى هدفه من البغي على العترة الطاهرة ، فكتب مذكرة إلى عماله يأمرهم فيها بأن يكف الوضاعون عن ذلك ، ويضعوا الأحاديث في فضل الشيخين ، لأن ذلك من أقرب الطرق ومن أهم الوسائل فى محاربة ذرية النبيّ (ص) والحط من قيمتهم ، وهذا نص ما كتبه :

« إن الحديث قد كثر في عثمان ، وفشا في كل مصر ، وفي كل ناحية ، فإذا جاءكم كتابي فادعوهم إلى الرواية في أبي بكر وعمر ، فان فضلهما وسوابقهما أحب إلي وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أهل هذا البيت ـ يعني أهل بيت النبيّ ـ وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ».

وقرأ القضاة والأمراء كتابه على الناس ، فبادر الوضاعون إلى افتعال الأحاديث فى مناقب أبي بكر وعمر ، وأمر معاوية بتدوينها وإنفاذ نسخ منها إلى جميع العمال والولاة ليقرؤها على المنابر ، ويتلوها في الجوامع ، وأوعز إليهم أن ينفذوها إلى المعلمين ليجعلوها من مناهج دروسهم ، ويرغموا

١٦١

الأطفال على حفظها ، وقد اهتمت الحكومات المحلية فى ذلك اهتماما بالغا فالزمت الناشئة وسائر الطبقات بحفظ تلك الأخبار المفتعلة حتى حفظها الأولاد وحفظتها النساء والخدم والحشم(١) وقد عرض الإمام الباقرعليه‌السلام بعض تلك الأخبار الموضوعة في حديثه مع أبان ، وندد بها فقد قال له أبان :

« أصلحك الله ، سم لي من ذلك شيئا؟ ».

قال (ع) رووا :

« إن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر »(٢) .

« إن عمر محدث ـ بصيغة المفعول أي تحدثه الملائكة ـ ».

« إن عمر يلقنه الملك ».

« إن السكينة تنطق على لسان عمر ».

« إن الملائكة لتستحي من عثمان »(٣) .

ثم استرسل (ع) في عرض الأخبار المفتعلة حتى عدّ أكثر من مائة

__________________

(١) سليم بن قيس ( ص ٢٩ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.

(٢) وضع المستأجرون هذا الحديث لمعارضة الخبر المتواتر الوارد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في حق السبطين « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » وقد سئل الإمام الجواد عنه ففنده وقال : والله ليس في الجنة كهول بل كلهم شباب مرد.

(٣) وإمارة الوضع على هذا الحديث ظاهرة فان الملائكة لما ذا تستحي من عثمان بن عفان فهل انه اجتاز عليها فرآها تعمل القبيح وترتكب المنكر فاستحيت منه أو أنه فعل ذلك فاستحيت منه إنا لا نتصور وجها لهذا الاستحياء المزعوم.

١٦٢

رواية(١) يحسبها الناس أنها حق ، ثم قال (ع) : والله كلها كذب وزور(٢)

ويقول المحدث ابن عرفة المعروف بنفطويه(٣) « إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية ، تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم »(٤) .

ولم يكتف معاوية بتلك الأخبار الكثيرة التي وضعت في مناقب الشيخين فقد عمد إلى تشجيع الوضاعين لاختلاق الحديث ضد أهل البيت (ع) وقد أنفق عليهم الأموال الطائلة في سبيل ذلك ، فقد أعطى الجلاد سمرة بن جندب أربع مائة الف على أن يخطب في أهل الشام ، ويذكر لهم أن الآية الكريمة وهي « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث

__________________

(١) وفي رواية حتى عد أكثر من مائتى حديث.

(٢) سليم بن قيس ( ص ٤٥ ).

(٣) ابراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي ، ولد سنة ( ٢٤٤ هج ) ، بواسط ، وهو صاحب المؤلفات الحسنة ، لقب بنفطويه لدمامته ، وأدمته تشبيها له بالنفط ومن شعره :

قلبى أرق عليك من خديكا

وقواي أوهى من قوى جفنيكا

لم لا ترق لمن يعذب نفسه

ظلما ويعطفه هواه عليكا

هجاه أبو عبد الله الواسطي بقوله :

من سره أن لا يرى فاسقا

فليجتهد أن لا يرى نفطويه

أحرقه الله بنصف أسمه

وصير الباقي صراخا عليه

توفى في صفر (٣٢٣) وفيات الأعيان ١ / ٣٠.

(٤) النصائح الكافية ( ص ٧٤ ) وغيره.

١٦٣

والنسل والله لا يحب الفساد »(١) .

نزلت في علي ، فروى لهم سمرة ذلك(٢) وأخذ العوض من بيت مال المسلمين ، وقد الزم الإسلام بانفاقه على صالح المسلمين ، وإعالة ضعيفهم ومحرومهم ، ولكن ابن هند أنفقه على حرب الإسلام وعلى الكيد والطعن في أعلامه الذين نافحوا عن رسول الله (ص) في جميع المواقف والمشاهد وأرغموا معاوية وأباه على الدخول في حظيرته.

وعلى أي حال فقد انطلق ذوو الأطماع والمنحرفون عن الإسلام إلى افتعال الأحاديث في الحط من قيمة أهل البيت للظفر بالأموال والثراء العريض ، وروى ابن العاص لأهل الشام أن النبي (ص) قال في آل أبي طالب : « إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، انما ولي الله وصالح المؤمنين »(٣) .

وهكذا أخذت لجان الوضع تفتعل أمثال هذه الأحاديث ضد عترة النبيّ (ص) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، محاولة بذلك إطفاء نور الله ، وحجب المسلمين عن قادتهم الواقعيين الذين نصّ عليهم النبيّ (ص) وجعلهم خلفاء من بعده على أمته.

وتحدث الإمام الباقر (ع) عن زيف تلك الأخبار وكذبها فقال : « ويرون عن علي أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين ما يعلم الله أنهم قد رووا في ذلك الباطل والكذب والزور »(٤) .

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٠٣ و ٢٠٤.

(٢) النصائح الكافية ص ٢٥٣ وغيره.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.

(٤) سليم بن قيس ص ٤٥.

١٦٤

وقال ابن أبي الحديد : « وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي أن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليعليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير »(١) .

إن هذه الإجرءات التي اتخذها معاوية ضد أهل البيت قد أشاعت الفرقة بين المسلمين ، وفتحت باب الكذب على الله وعلى رسوله ، وقد أعرض خيار الصحابة عن تلك الأخبار ، ولم يصغوا لرواتها ، فقد نقل الرواة ان بشير العدوى(٢) جاء إلى ابن عباس ، وجعل يحدثه ، ويقول له : قال رسول الله (ص) : وابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه ، وقابله بالاستخفاف والاستهانة ، فاندفع بشير قائلا :

« ما لي لا أراك تسمع الحديث؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع ».

فزجره ابن عباس قائلا :

« إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه باذاننا ، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفه »(٣) .

__________________

(١) شرح ابن ابي الحديد ٤ / ٦٣ ، ط دار احياء الكتاب العربية.

(٢) بشير بن كعب بن أبي الحميري العدوي ، ويقال العامري ، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال انه ثقة ان شاء الله ، وقال النسائي : إنه ثقة ، تهذيب التهذيب ١ / ٤٧١.

ولا نعلم أنه كيف كان ثقة مع اعراض ابن عباس عن حديثه.

(٣) فجر الإسلام ص ٢٥٨ وغيره.

١٦٥

إن الناس قد ركبوا الصعبة والذلول ـ على حد تعبير ابن عباس ـ وسلكوا جميع المسالك التي تتنافى مع الدين فلم يتحرجوا من الكذب على الله ولم يتأثموا من الوضع على رسول الله (ص) فلذا كان التوقف والتثبت في الأخبار أمرا ضروريا.

والمحنة الكبرى التي امتحن المسلمون بها امتحانا عسيرا هو ان تلك الأخبار التي افتعلتها لجان الوضع قد وصلت إلى الثقات والحفاظ فدونوها في كتبهم وهم ـ من دون شك ـ لو علموا واقعها لأسقطوها وتبرءوا منها وما رووها ، وقد ألمع إلى ذلك المدائني في حديثه عن الوضاعين في عصر معاوية ، ونسوق نص كلامه في ذلك قال :

« وظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون ، والمستضعفون ، الذين يظاهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجلسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع ، والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب ، والبهتان ، فقبلوها ، ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها »(١) .

وقد فاضت الكتاب بتلك الأخبار الموضوعة ، وامتلأت بالإسرائيليات(٢) وبخرافات أبي هريرة ، ومما لا شبهة فيه أنها أضرت بالإسلام فشوهت شريعته

__________________

(١) ابن أبي الحديد ٣ / ١٦.

(٢) الاسرائيليات : هي الخرافات التي وضعها المنافقون من اليهود الذين أسلموا وتظاهروا بالإسلام فدسوا في الإسلام ما هو بريء منه ، وعلى رأس قائمة الوضاعين من اليهود كعب الأحبار.

١٦٦

السمحاء ، وأفسدت عقائد المسلمين ، وفرقتهم شيعا وأحزابا.

وليس من شك في أن الخلفاء لو بادروا إلى تدوين ما أثر عن النبي (ص) من الأحاديث لصانوا الأمة من الاختلاف ووقوها من الفتن والخطوب ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فقد عمد أبو بكر إلى جمع بعض الأحاديث فأحرقها(١) وجاء بعده عمر فاستشار الصحابة في تدوينها فأشار عليه عامتهم بذلك ، ولبث مدة يفكر في الأمر ثم عدل عنه ، وقال لهم : « إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم. ثم تذكرت ، فاذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا. » ثم ترك ذلك وعدل عنه(٢) .

وهو تعليل لا يساعده الدليل لأن حديث النبي (ص) لا يشذ عن كتاب الله ، ولا يخالفه بحال من الأحوال ، وليس تدوينه موجبا لهجر القرآن الكريم ، ولا مستلزما للاعراض عنه ، وأكبر الظن أنهم إنما أبوا من تدوينه لأن شطرا كبيرا منه يتعلق فى فضل العترة الطاهرة. وفي لزوم مودتها ، ووجوب الرجوع إليها في جميع المجالات ، وليس من الممكن التبعيض في كتابة الحديث بأن تدون السنن ، وتترك الأخبار الواردة في حق أهل البيت ، ومن الطبيعي أن تدوينها يتنافى مع ابتزازهم حقهم واجماعهم على هضمهم ، واقصائهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها ، وقد بلغ من عظيم وجدهم وحقدهم عليهم ، أنهم لما شعروا أن النبي يريد أن يعهد بالأمر إليهم ويكتب فى ذلك كتابا ردوا عليه وهو في ساعاته الأخيرة فقالوا له : « حسبنا كتاب الله ».

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥.

(٢) تقييد العلم ص ٥٠ ، وقريب منه فى طبقات ابن سعد ٣ / ١ ص ٢٠٦.

١٦٧

وأثر عنهم أنهم قالوا : « لا تجتمع النبوة والخلافة فى بيت واحد » وبعد هذا فكيف يثبتون اخبار النبي (ص) في أهل بيته.

وعلى أي حال فان أعظم ما مني به المسلمون من الكوارث هي الروايات المفتعلة التي عهد معاوية بوضعها فانها قد أوجبت تشتت المسلمين واختلافهم في كل شيء ، وهي مما لا شبهة فيه من أعظم موبقات ابن هند.

١٤ ـ استلحاقه زيادا :

قال رسول الله (ص) : « الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ». لقد ضرب معاوية كلام رسول الله (ص) بعرض الجدار بلا خيفة ولا حذر.

فعاكس قوله ، ورد حكمه علانية لأجل تدعيم ملكه ، وإقامة سلطانه ، فاستلحق به زياد بن أبيه طبقا لما كان عليه العمل قبل الإسلام!

يقول الله تعالى : « أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون »(١) لقد بغى معاوية حكم الجاهلية ، وأحيى سننها فألحق به زياد بن أبيه وهو ابن بغية ، فان سمية كانت من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة الى الحارث بن كلدة(٢) من بغيها ، وكانت تنزل

__________________

(١) سورة المائدة آية ٥٠.

(٢) الحارث بن كلدة بن عمر الثقفي كان طبيبا مشهورا عند العرب وكان من الشعراء ومن شعره :

ان اختياريك لا عن خبرة سلفت

ولا الرجاء ومما يخطئ النظر

كالمستغيث ببطن السيل يحسبه

جزرا يبادره إذ بله المطر

فقد رأيت بعبد الله واعظة

تنهى الحليم فما أناني الغرر

إن السعيد له في غيره عظة

وفي التجارب تحكيم ومعتبر

لأعرفنك إن أرسلت قافية

تلقى المعاذير إذ لا تنفع العذر

جاء ذلك في معجم الشعراء ص ١٧٢.

١٦٨

بالموضع الذي تنزل فيه البغايا خارجا عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا(١) هذه أم زياد في قذارتها وفجورها ولم يأنف معاوية من إلحاق هذا الدعى به.

أما بواعث هذا الاستلحاق فيقول عنه المؤرخون ان أمير المؤمنين «ع» كان قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس ، واصطنعه لنفسه ، فلما قتل «ع» بقى زياد في مله وخاف معاوية جانبه ، وعلم صعوبة ناحيته ، وأشفق من ممالاته الحسن بن علي «ع» فكتب إليه هذه الرسالة :

« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، إلى زياد بن عبيد ، أما بعد : فانك عبد قد كفرت النعمة ، واستدعيت النقمة ، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر وإن الشجرة لتضرب بعرقها ، وتتفرع من أصلها إنك لا أم لك ، بل لا أب لك قد هلكت وأهلكت ، وظننت أنك تخرج من قبضتي ، ولا ينالك سلطاني ، هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته ، أمس عبد واليوم أمير خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية ، إذا أتاك كتابى هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة واسرع الإجابة فانك إن تفعل فدمك حقنت ونفسك تداركت ، وإلا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي ، وأقسم قسما مبرورا أن لا أوتى بك إلا في زمارة(٢) تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدا وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه والسلام ».

وفي هذه الرسالة قد نسب زيادا إلى عبيد ، واعترف برقيته ، وإنه إذا تمكن منه يبيعه في أسواق دمشق ويرده إلى أصله ، ولما وصلت هذه

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣١٠.

(٢) الزمارة : آلة من القصب يغنى بها.

١٦٩

الرسالة إلى زياد ورم أنفه من الغضب وأمر بجمع الناس وخطب فيهم فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

« ابن آكلة الأكباد ، وقاتلة أسد الله ، ومظهر الخلاف ، ومسر النفاق ، ورئيس الأحزاب ، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلى يرعد ويبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها ، وعما قليل تصيرها الرياح قزعا(١) والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة ، أفمن اشفاق على تنذر وتعذر كلا؟ ولكن ذهب إلى غير مذهب وقعقع لمن ربي بين صواعق تهامة ، كيف أرهبه وبينى وبينه ابن بنت رسول الله (ص) وابن ابن عمه في مائة الف من المهاجرين والأنصار ، والله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأرينه الكواكب نهارا ولأسعطنه ماء الخردل(٢) دونه الكلام اليوم ، والجمع غدا والمشورة بعد ذلك إن شاء الله ».

وقد أبرق زياد وأرعد وتهدد وأوعد وذلك لعدم علمه بما مني به جيش الإمام من التخاذل والانحلال معتقدا بأن الجيش على وضعه الأول محتفضا بنشاطه وقواه ، وانه مائة الف من المهاجرين والأنصار ولم يعلم بما نكب به من الانحلال والفتن التي مزقته وقضت على نشاطه ، وان أعلام المهاجرين والأنصار قد طحنتهم حرب صفين وأبادتهم واقعة النهروان وأصبح الجيش لا يضم من أولئك الرءوس والضروس إلا ما هو أقل من الصبابة ، وأقسم بالله إن الإمام لو استدعى زيادا حينذاك لغدر به وما استجاب له ، وآية ذلك أنه لما علم بوهن جيش الإمام انحاز إلى معاوية وغدر بالإمام ، وكيف لا ينخدع وهو من ذوي الضمائر القلقة وقد أبان الزمان خبثه ، وكشف عن

__________________

(١) القزع : قطع السحاب المتفرقة.

(٢) الخردل : حب شجر معروف.

١٧٠

عدم طيب إنائه ، فقد عاد بعد الاستلحاق من ألد الأعداء إلى أمير المؤمنين وذريته وشيعته.

ومهما يكن من شيء فان زيادا عقيب خطابه أجاب معاوية عن رسالته وهذا نص جوابه :

« أما بعد ، فقد وصل إلي كتابك يا معاوية ، وفهمت ما فيه فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع طمعا فى الحياة إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حاد الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فاما سبك لي فلولا حلم ينهاني عنك ، وخوفي أن أدعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء ، وأما تعييرك لي بسمية فان كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة(١) وأما زعمك انك تخطفنى بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر؟ أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟

فامض الآن لطيتك ، واجتهد جاهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره ، ولا اجتهد إلا فيما يسوؤك ، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه ، الطالع إليه والسلام »

ولما قرأ معاوية رسالة زياد طار قلبه رعبا وداخله فزع شديد فاستدعى داهية العرب « المغيرة بن شعبة » فقال له :

« يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمنى فانصحنى فيه وأشر علي برأي المجتهد ، وكن لي أكن لك ، فقد خصصتك بسري وآثرتك على ولدي ».

فقال له المغيرة :

« فما ذاك؟ والله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء في الحدور ومن ذى الرونق في كف البطل الشجاع ».

__________________

(١) يشير بذلك إلى ما يرويه التاريخ من أن هند قد حملت به قبل أن تتزوج أبا سفيان ، وكان زواجها به سترا عليها. وإن المتهمين بها جماعة من الأعراب.

١٧١

ولما أظهر له المغيرة الانقياد والخضوع لطاعته عرض عليه مهمته قائلا :

« يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي(١) وهو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة جوال الفكر مصيب إذا رمى ، وقد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا ، وأخشى ممالأته حسنا : فكيف السبيل إليه؟ وما الحيلة في إصلاح رأيه؟ ».

ولما عرف الداهية الماكر مهمة معاوية أشار عليه بأن يخدعه ويمنيه ، ويكتب له بناعم القول وكان رأيه في ذلك مبنيا على دراسته لنفسية زياد ومعرفته باتجاهه وميوله قائلا له :

« ان زيادا رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسألة وألنت له الكتاب لكان لك أميل وبك أوثق ، فاكتب إليه وأنا الرسول »

واستجاب معاوية لنصيحة المغيرة ، فكتب إلى زياد رسالة تمثلت فيها المواربة والخداع وهذا نصها :

« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد : فان المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب ، وانك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم ، وواصل العدو ، وحملك سوء ظنك بي وبغضك لي على أن عققت قرابتي ، وقطعت رحمي وبتت نسبى وحرمتي حتى كأنك لست أخي ، وليس صخر بن حرب أباك وأبي ، وشتان ما بيني وبينك ، أطلب بدم ابن أبي العاص وأنت تقاتلني ، ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء فكنت « كتاركة بيضها بالعراء ، وملحفة بيض أخرى جناحها » وقد رأيت أن أعطف عليك ولا أؤاخذك بسوء سعيك ، وان أصل رحمك ، وأبتغي الثواب في أمرك ، فاعلم أبا المغيرة أنك

__________________

(١) كشيش الأفاعي : صوت جلدها.

١٧٢

لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا ، فان بني شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح ، فارجع رحمك الله إلى أصلك ، واتصل بقومك ولا تكن كالموصول يطير بريش غيره ، فقد أصبحت ضال النسب ، ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك ، فقد أصبحت على بينة من أمرك ووضوح من حجتك ، فان أحببت جانبي ووثقت بي فامرة بامرة وان كرهت جانبي ولم تثق بقولي ففعل جميل لا عليّ ولا لي والسلام ».

وأخذ المغيرة الرسالة التي كتبت على وفق رأيه وهي لا تحمل جانبا من الواقعية ، ولا بصيص فيها من نور الحق والصدق فغادر دمشق إلى فارس وأقبل إلى زياد فلما رآه رحب به وأدناه من مجلسه وأخذ الداهية الماكر يكلم زيادا بمختلف الطرق وشتى الأساليب حتى غزى قلبه وهيمن على مشاعره فأجابه إلى ما أراد.

وبعد ما وقع زياد في اشباك المغيرة غادر فارس إلى دمشق فلما انتهى إليها ومثل عند معاوية رحب به وادناه ، وأمر أخته جويرية بنت أبي سفيان أن تستدعيه ، فلما حضر عندها كشفت عن شعرها بين يديه ، وقالت له : « أنت أخي أخبرني بذلك أبو مريم » ثم أخرجه إلى المسجد وجمع الناس ليعلن أمامهم أن زيادا أخوه ، وقام أبو مريم السلولي الخمار أمام ذلك المجتمع الحاشد فادى شهادته بزنا أبى سفيان بسمية شهادة أخزت أبا سفيان ومعاوية والحقت العار بزياد وهذا نصها :

« أشهد أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف وأنا خمار فى الجاهلية ، فقال أبغى بغيا. فاتيته وقلت : لم أجد إلا جارية الحرث بن كلدة ،

١٧٣

سمية. فقال ائتني بها على ذفرها(١) وقذرها » وثار زياد فقطع على أبى مريم شهادته قائلا له بصوت يقطر غضبا :

« مهلا يا أبا مريم ، إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما ».

فقال أبو مريم :

« لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إليّ ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت ».

ثم استرسل فى بيان شهادته فقال :

« والله لقد أخذ بكم درعها ، وأغلقت الباب عليهما ، وقعدت دهشانا فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت ، مه يا أبا سفيان. فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم لو لا استرخاء من ثديها ، وذفر من فيها ».

هذه شهادة أبى مريم في فجور سمية وتندى لفضاعتها وخزيها وجه الإنسانية ولكن معاوية ما خجل منها وما أنف ولا استحى ، وكيف يخجل ابن هند من هذه المساوئ والمخازي وهو الذي جر ذيله على الرذائل والخداع كما يقول(٢) حتى صارت الرذيلة عنصرا من عناصره ومقوما من مقوماته.

لقد ألحق معاوية زياد بن أبيه به ليستريح من خصومته ، ويستعين به على تحقيق أهدافه وتدعيم سلطانه.

الاستياء الشامل :

وأثر استلحاق معاوية لزياد استياء شاملا في نفوس المسلمين ، فقد

__________________

(١) الذفر : الرائحة النتنة.

(٢) التاج للجاحظ ص ١٠٣.

١٧٤

رووا أن معاوية قد عمد إلى مخالفة النبي (ص) والى هجر سنته ، وقد خافوه على دينهم ، فاندفع جمع من الأحرار والمصلحين إلى إعلان سخطهم وإنكارهم عليه وعلى زياد ونشير إلى بعض المنكرين والناقدين له وهم :

١ ـ الإمام الحسن :

ورفع الإمام الحسن رسالة إلى زياد بين فيها فساد استلحاقه بمعاوية ، وأعرب له ان الإسلام لا يقر ذلك بحال من الأحوال ، وهذا نصها :

« من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية أما بعد : فان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الولد للفراش ، وللعاهر الحجر والسلام »(١)

وقال «ع» له في حضور معاوية وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم : « وما أنت يا زياد وقريشا؟ لا أعرف لك فيها أديما صحيحا ، ولا فرعا نابتا ، ولا قديما ثابتا ، ولا منبتا كريما ، بل كانت أمك بغيا تداولها رجال قريش وفجار العرب فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا ـ يعنى معاوية ـ بعد ممات أبيه ، مالك افتخار ، تكفيك سمية ويكفينا رسول الله (ص) »(٢) .

٢ ـ الإمام الحسين :

ولما رأى سيد الشهداء الإمام الحسين معاوية قد حمل معول الهدم على جميع الأسس الإسلامية اندفع (ع) ثائرا في وجهه ورفع له رسالة سجل فيها موبقاته ، وقد عرض فيها استلحاقه لزياد ، وهذا نص ما كتبه في ذلك :

« أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر ،

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧٣.

(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ١ / ٥٨.

١٧٥

فتركت سنة رسول الله تعمدا واتبعت هواك بغير هدى من الله »(١) .

٣ ـ يونس بن عبيد :

وكان يونس بن عبيد ممن حضر هذه المأساة ، وشاهد فصولها ، فانطلق إلى معارضة معاوية وإلى الإنكار عليه قائلا :

« يا معاوية قضى رسول الله (ص) ان الولد للفراش ، وللعاهر الحجر وقضيت أنت أن الولد للعاهر مخالفة لكتاب الله تعالى ، وانصرافا عن سنة رسول الله بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان ».

فانبرى إليه معاوية يتهدده ويتوعده بالقتل قائلا :

« والله يا يونس لتنتهي أو لأطيرن بك طيرة بطيئا وقوعها ».

فقال له يونس : « هل إلا إلى الله ، ثم أقع؟ ».

قال له معاوية : ـ نعم ـ(٢) .

٤ ـ عبد الرحمن بن الحكم :

وما رضى بهذا الاستلحاق حتى بنو أمية ، فقد نقموا عليه ذلك فقد أقبل عبد الرحمن بن الحكم ومعه جماعة من بني أمية فقال عبد الرحمن لمعاوية :

« يا معاوية ، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا ـ يعني على بني العاص قلة ـ وذلة ».

فالتفت معاوية إلى مروان قائلا :

« اخرج عنا هذا الخليع ».

« أى والله إنه لخليع ما يطاق ».

__________________

(١) رجال الكشي ص ٣٣.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣١١.

١٧٦

فقال معاوية : « والله لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق ، ألم يبلغنى شعره في وفي زياد ».

قال مروان وما ذا قال؟ :

ـ إنه يقول :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

لقد ضاقت بما يأتي اليدان

أتغضب أن يقال أبوك عف

وترضى أن يقال أبوك زاني

فاشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد انها حملت زيادا

وصخرا من سمية غير دان

وتألم معاوية حينما قرأها فقال : والله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه.

وخرج عبد الرحمن وقد غضب عليه معاوية ، فجاء إلى الكوفة وقصد زيادا يعتذر منه فاستأذن عليه بالدخول فلم يأذن له ، وتوسط في شأنه وجهاء قريش فسمح له بالدخول ، فلما دخل عليه أعرض عنه ، ثم التفت له قائلا :

« أنت القائل؟ ما قلت!! ».

ـ ما الذي قلت؟.

ـ قلت ما لا يقال!!

ـ أصلح الله الأمير أنه لا ذنب لمن أعتب ، وإنما الصفح عمن أذنب فاسمع مني ما أقول :

ـ هات ما عندك.

إليك أبا المغيرة تبت مما

جرى بالشام من خطل اللسان

وأغضبت الخليفة فيك حتى

دعاه فرط غيظ أن هجاني

وقلت لمن لحاني فى اعتذاري

إليك أذهب فشأنك غير شاني

١٧٧

عرفت الحق بعد ضلال رأيى

وبعد الغي من زيغ الجنان

زياد من أبي سفيان غصن

تهادى ناضرا بين الجنان

أراك أخا وعما وابن عم

فما أدري بعيب ما تراني

وإن زيادة في آل حرب

أحب إلي من وسطى بناني

ألا بلغ معاوية بن حرب

فقد ظفرت بما تأتي اليدان

فقال زياد :

« أراك أحمق صرفا شاعرا صنع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطا ومسخوطا ولكنا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك ».

ـ تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني.

ـ نعم.

ثم دعا كاتبه فرسم له العفو والرضا ، فأخذ الكتاب ومضى إلى معاوية فلما قرأ الأبيات قال :

« لحا الله زيادا ألم ينتبه لقوله : وإن زيادة في آل حرب؟ ».

ثم رضى عن عبد الرحمن ورده إلى حالته الأولى(١) .

٥ ـ أبو العريان :

وكان أبو العريان شيخا مكفوفا ذا لسان وعارضة شديدة فاجتاز عليه زياد فى موكبه فقال أبو العريان :

« ما هذه الجلبة؟ ».

« إنه موكب زياد بن أبي سفيان ».

« والله ما ترك أبو سفيان إلا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمدا فمن أين جاء زياد؟ ».

__________________

(١) شرح ابن أبى الحديد ٤ / ٧١ ، الإستيعاب ١ / ٥٥٢ ـ ٥٥٤.

١٧٨

ونقل المتزلفون حديث أبي العريان إلى زياد فأشار عليه بعض خواصه أن يوصله بالمال حتى يكف لسانه عنه ، فاستصوب الرأي وأمر له بمائتي دينار فجاء بها الرسول إليه ، فقال له :

« يا أبا العريان ابن عمك زياد الأمير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها » فلما سمع أبو العريان بذلك طار فرحا فقال :

« وصلته رحم أى والله ابن عمي حقا ».

واجتاز موكب زياد عليه في اليوم الثاني ، فسلم عليه زياد ، فبكى أبو العريان ، فقيل له :

« ما يبكيك؟ ».

« عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد ».

هكذا تفعل المادة بالضمائر القذرة التي لم تنطبع فيها العقيدة ، وكان أبو العريان عاريا من الإيمان فتغير بهذه الصلة الضئيلة ، ولما سمع حديثه معاوية كتب إليه :

ما ألبثتك الدنانير التي بعثت

أن لونتك أبا العريان الوانا

أمسى إليك زياد فى أرومته

نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا

لله در زياد لو تعجلها

كانت له دون ما يخشاه قربانا

فلما قرأت على أبي العريان هذه الأبيات أجابه :

احدث لنا صلة تحيا النفوس بها

قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا

أما زياد فقد صحت مناسبه

عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا

من يسد خيرا يصبه حين يفعله

أو يسد شرا يصبه حيثما كانا(١)

٦ ـ أبو بكرة :

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧١.

١٧٩

ومن جملة الناقمين على معاوية والناقدين لزياد على هذا الاستلحاق الفظيع أبو بكرة(١) أخو زياد ، فقد أنكر على أخيه أشد الإنكار ، فقاطعه ولم يتصل به ، ولما عزم زياد على السفر إلى بيت الله الحرام أقبل إليه أبو بكرة فلما بصر به بعض الحرس أقبل مسرعا إلى زياد ، فقال له :

« أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر ».

ـ ويحك أنت رأيته؟.

ـ ها هو ذا قد طلع!!.

أقبل أبو بكرة فوقف على رأس زياد وكان قد احتضن غلاما له فوجه أبو بكرة خطابا إلى الغلام ولم يوجهه إلى زياد ترفعا واستحقارا له :

« يا غلام ، إن أباك ركب في الإسلام عظيما ، زنى أمه وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط ، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك يوافى الموسم غدا ، ويوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي من أمهات المؤمنين ، فان جاء ان يستأذن عليها فأذنت له فاعظم بها

__________________

(١) أبو بكرة : اسمه نفيع بن الحارث بن كلدة ، قيل اسم أبيه مسروح ، وكان عبدا للحارث ، فاستلحقه الحارث وهو أخو زياد ، وإنما لقب بأبى بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف ببكرة إلى النبيّ (ص) فلذا سمى بهذا الاسم ، وارتكب جريمة هو وجماعة من أصحابه فجلدهم عمر بن الخطاب ثم تابوا ، فكان يقبل شهادتهم بعد التوبة إلا أبا بكرة فانه لم يجز شهادته ، قال ابن سعد مات بالبصرة في ولاية زياد ، وقال المدائني : مات سنة ٥٠ هج ، وقيل مات هو والحسن (ع) في سنة واحدة ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٦٩ وجاء في الإستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ٣ / ٥٣٧ أن أبا بكرة أوصى بنيه حين الوفاة فقال لهم : « إن أبي مسروح الحبشي ».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

فيها أيّ لبس أو غموض.

البيعة للإمام:

وعقد المأمون لبيعة الإمام الرضاعليه‌السلام مهرجاناً شعبياً عاماً خضرته الوزراء، وكبار رجال الدولة، وقادة القوات المسلحة وبقيّة أبناء الشعب، وفي طليعتهم العلويون والعباسيون، وكان ذلك في يوم الثلاثاء في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك(1) سنة (201 ه‍)(2) .

وجلس المأمون على دست الخلافة، ووضع للإمام الرضاعليه‌السلام وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلس المأمون، وعليه عمامة، وقد تقلّد سيفاً، وأمر المأمون ولده العباس أن يبايع للإمام فكان أوّل مَن بايعه(3) ثم بايعه الناس.

كيفية البيعة:

أمّا كيفية بيعة الناس للإمامعليه‌السلام فكانت فريدة لم يألفها ملوك الأمويين والعباسيين، فقد رفععليه‌السلام يده، وتلقّى بظهرها وجهه الشريف،

وباطنها وجوه المبايعين، وبهر المأمون من ذلك، وراح يقول للإمام:

(ابسط يدك للبيعة...).

فأجابهعليه‌السلام :

(إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا كان يبايع)(4) ولعلّ ذلك يستند إلى

قوله تعالى:( يد الله فوق أيديهم ) فلا يصح أن تكون يد المبايع فوق يد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو فوق يد الإمامعليه‌السلام .

الإمام يخبر بعدم تمامية هذا الأمر:

ولـمّا جلس الإمام الرضاعليه‌السلام ذلك المجلس، وقد لبس الخلع، والخطباء والشعراء يشيدون بفضله، ويدعون الناس إلى مبايعته نظرعليه‌السلام

إلى بعض مواليه، وقد داخله السرور، وعمّته الأفراح، فأشار إليه فأسرع نحوه فأسرّ إليه قائلاً:

____________________

(1) عيون التواريخ 3 / ورقة 221.

(2) سر السلسلة العلوية (ص 38) مرآة الزمان 6 / ورقة 40 تأريخ القضاعي.

(3) البحار.

(4) مقاتل الطالبيين.

٢٨١

(لا تشعل قلبك بشيء ممّا ترى من هذا الأمر، ولا تستبشر فإنه لا يتم)(1)، وتحقّق ما أخبر به الإمامعليه‌السلام فإنّه لم تتم هذه البيعة للإمام، وخاس المأمون بعهده ووعده، فغدر بالإمام ودسّ إليه سمّاً فاغتاله.

خطبة المأمون:

ولـمّا انتهت مراسيم البيعة قام المأمون فاعتلى المنبر، وخطب الناس فقال في جملة خطابه:

(أيّها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، والله لو قرأت هذه الأسماء على الصم البكم لبرأوا بإذن الله عزّ وجل)(2) .

خطبة الإمام الرضا:

ولـمّا تمّت البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام ، وطلب منه المأمون أن يعتلي المنبر، ويخطب الناس، فصعد المنبر وقال بعد حمد الله والثناء عليه:

(أيّها الناس إنّ لنا عليكم حقا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكم علينا حق به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم...).

ولم يذكر الإمام غير هذه الكلمات(3) التي أعرب فيها عن حقّه على الناس؛ لأنّه ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي برّ بدينهم ودنياهم، وأخرجهم من حياة التيه والضياع، فإذا وفوا له بحقّه، وأقاموه خليفة عليهم فقد وجب عليه أن يقيم في ربوعهم الحق، بجميع رحابه ومفاهيمه.

خطبة العبّاس:

وانبرى العباس الخطيب، فخطب خطاباً رائعاً بليغاً، وختم خطابه بهذا البيت:

____________________

(1) الفضول المهمة (ص 238).

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 147.

(3) عيون أخبار الرضا.

٢٨٢

لا بد للناس من شمس، ومن قمر

فأنت شمس، وهذا ذلك القمر(1)

الممتنعون من البيعة للإمام:

وامتنع جماعة من البيعة للإمامعليه‌السلام ، فقد حقدوا عليه، وكرهوه، ونقموا على المأمون ببيعته بولاية العهد للإمام وهم:

1 - عيسى الجلودي.

2 - علي بن عمران.

3 - أبو يونس(2) .

وأمر المأمون بإلقاء القبض عليهم وإيداعهم في السجن.

تنفيذ حكم الإعدام فيهم:

وأمر المأمون بإخراج هؤلاء الثلاثة الممتنعين من البيعة للإمام من السجن، فلمّا مثلوا عنده رأوا الإمام إلى جانبه فتميزوا غيظاً وغضباً، وانبرى علي بن أبي عمران فقال للمأمون:

(أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم، وخصكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم، ومن كان آباؤك يقتلونهم، ويشردونهم في البلاد...).

فصاح المأمون: (يا بن الزانية، وأنت بعد على هذا؟...).

ثم أمر بضرب عنقه، فنفذ ذلك فيه، وأدخل عليه أبو يونس فلمّا رأى الإمام إلى جانب المأمون محاطاً بهالة من الحفاوة والتكريم ساءه ذلك، وخاطب المأمون قائلاً:

(يا أمير المؤمنين هذا الذي بجنبك، والله صنم يعبد من دون الله...).

فأمر المأمون بإعدامه فأعدم، ودخل عليه الجلودي، وكان من أعدي الناس لأهل البيتعليهم‌السلام ، وهو الذي بعثه الرشيد لسلب بنات رسول الله (ص) في

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 364).

(2) عيون أخبار الرضا.

٢٨٣

يثرب، ومصادرة ما عليهنّ من حلي وحلل، فجاء إلى بيت الإمام الرضاعليه‌السلام وأراد الهجوم على بيت الإمام، وسلب ما على العلويات من ثبات فأبى الإمام فلم يعن به الجلودي، وأخذ الإمام يتوسّل إليه، ويعده بأن يأتي ما أراد فانصاع لقوله، ودخل الإمام إلى بيته فجمع له كل ما على العلويات من حلي وحلل فجاء به إلى الجلودي فأخذه، وقد طلب الإمام من المأمون أن يهب له الجلودي، فقال المأمون:

(يا سيدي هذا الذي فعل ببنات محمد (ص) ما فعل من سلبهن؟...).

ونظر الجلودي إلى الإمام وهو يكلّم المأمون ويتوسّل إليه في العفو عنه فظن الغبي أنّه يريد الانتقام منه لما فعله معه، فقال للمأمون:

(يا أمير المؤمنين أسألك بالله، وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في...).

والتفت المأمون إلى الإمام الرضا فقال له:

(يا أبا الحسن قد استعفى، ونحن نبرّ قسمه...).

وخاطب المأمون الجلودي فقال له:

(لا والله لا أقبل قوله فيك...).

ثم التفت إلى الشرطة، وقال لهم: ألحقوه بصاحبيه، فقُدّم وضربت عنقه(1) .

قرارات هامّة:

وأصدر المأمون قرارات هامّة بمناسبة عقده ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وهي:

1 - إعطاء الجنود رواتبهم سنة كاملة.

2 - ترك لباس الأسود الذي كان لباس العباسيين(2) ولبس اللباس الأخضر؛ لأنّ ذلك فيما أحسب هو لباس أهل الجنة، قال تعالى:( وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) (3) .

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 161 - 162.

(2) ورد في بعض الأخبار أنّ جبرئيل هبط على النبي (ص) في قباء أسود فقال (ص): له يا جبرئيل ما هذا الزي؟ فقال: زي ولد عمّك العبّاس، يا محمد ويل لولدك من ولد عمّك العباس، جاء ذلك في وسائل الشيعة 3 / 279.

(3) سورة الكهف: آية 31.

٢٨٤

3 - ضرب الدراهم والدنانير باسم الإمام الرضاعليه‌السلام وقد أورد السيد عبد القادر أحمد اليوسف نماذج من تلك النقود ما يلي:

(الدينار)

كتب في مركز وجهه: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له).

وكتب على النطاق: بسم الله ضرب هذا الدينار بسمرقند سنة اثني ومائتين.

وكتب على الطوق:( لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ) .

وكتب في مركز القفا: الله، محمد رسول الله، المأمون خليفة الله، ممّا أمر الأمير الرضا ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن علي بن أبي طالب.

وكتب على طوق مركز القفا: (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).

(الدرهم)

نقل عبد القادر صورة الدرهم من متحف برلين المرقّم (1295) صورة الكتابة في مركز الوجه: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له) سنة ثلاث ومائتين.

كتابة الطوق( لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ) .

كتابة القفا: (الله، محمد رسول الله، المأمون خليفة الله، ممّا أمر به الرضا).

كتابة الطوق: (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين ولو كره المشركون).

صورة أخرى من الدرهم الموجود في المتحف البريطاني في لندن تحت رقم (289).

مركز الوجه: كتب عليه (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له).

النطاق: كتب عليه سنة اثنين.

الطوق: كتب عليه (لله الأمر من قبل ومن بعد).

مركز القفا: مر به...

... المسلمين علي بن موسى

... علي بن أبي طالب

٢٨٥

... ذو الرياستين.

الطوق: محمد رسول الله.

إنّ هذه النقاط هي حروف ممحاة لأنّها مصوّرة هكذا (الكتلوكات) العالمية، ومسحت هذه الكتابة نتيجة قدم هذه النقود، وتداولها الكثير، وتوجد نماذج من الدراهم ضربت سنة (704 ه‍) تيمّناً بسكّة الإمام، وقد كتب عليها ما كتب على السكّة الأصلية(1) .

زواج الإمام بابنة المأمون:

وعرض المأمون على الإمام الرضاعليه‌السلام أن يتزوّج الأميرة السيدة أم حبيب(2) فقبل الإمام ذلك وتزوّج بها، وإنّما عمد المأمون تقرّباً للإمام، وحتى تقوى العلاقة بينهما، ويرى بعض المحلّلين للأخبار أنّ سبب ذلك أن تكون ابنته عيناً لأبيها على جميع تصرّفات الإمام وتحرّكاته، وهذا ليس ببعيد عن سياسة المأمون ودهائه.

البيعة للإمام في جميع الأقطار:

وأمر المأمون جميع ولاته وعمّاله في جميع الأقطار والأقاليم الإسلامية بأخذهم البيعة للإمام الرضا بولاية العهد من جميع المواطنين، وهذه بعض الأقاليم التي أخذ منها البيعة.

1 - يثرب:

واستقبلت يثرب بجميع قطاعاتها الشعبية نبأ ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام بمزيد من الأفراح والابتهاج، وسارع والي يثرب عبد الجبار المساحقي إلى الجامع النبوي ليأخذ البيعة من أهالي المدينة إلى الإمام بعد أن أمره المأمون بذلك، واعتلى أعواد المنبر فخطب الناس وكان من جملة خطابه: أيّها الناس هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا على بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم.

____________________

(1) الإمام علي الرضا ولي عهد المأمون (ص 62 - 65).

(2) ذكر أبو الفرج ان الإمام الرضا تزوج بابنة المأمون أم الفضل، وهو خطأ والصحيح انه تزوج بأم حبيب.

٢٨٦

ستة آباؤهم من خير من يشرب صوب الغمام(1) .

لقد كانت البيعة للإمام الرضا من أهم ما تصبوا إليه الأمة الإسلامية، ومن أغلى أمانيها، فهي تتقرّب بفارغ الصبر رجوع الحكم للإمام؛ ليقيم فيها العدل الخالص، وينشر الأمن والرخاء في ربوعها، وينقذها من جور العباسيين وظلمهم.

2 - مصر:

وكتب المأمون إلى عامله على مصر (السري) يأمره بأخذ البيعة من المصريين لولي عهده الإمام الرضا، وقد ورد الكتاب على (السري) في شهر محرّم سنة (202 ه‍) وقام (السري) بأخذ البيعة إلى الإمامعليه‌السلام ، إلاّ أنّ إبراهيم بن المهدي شيخ المغنّين ببغداد قام في إفساد هذه البيعة فقد كتب إلى وجوه الجند وقادتهم بمصر يأمرهم بخلع المأمون وولي عهده، وبالوثوب على (السري)، وقد استجاب له جماعة منهم الحارث بن زرعة بن محزم بالفسطاط، و عبد العزيز الوزير الجروي بأسفل الأرض، وسلامة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي بالصعيد، وسليمان بن غالب بن جبريل، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الجبار الأزدي فناهضوا (السري)، ودعوا الناس إلى بيعة إبراهيم وجعلوا الوالي على مصر عبد العزيز الأزدي، فحاربهم (السري)، وظفر بعبد العزيز، وبجمع من أهل بيته فقتل بعضهم، وبعث ببعضهم مع ابنه عبد العزيز إلى المأمون فقتلهم، وهرب الباقون إلى الحروري وذلك لمنعته(2) وأخمدت بذلك الثورة، وبايع الناس إلى الإمام.

3 - مكّة:

ووجّه المأمون إلى مكّة المكرّمة عيسى الجلودي ليأخذ البيعة من أهلها للإمام، وكان في مكة مقيماً إبراهيم أخو الإمام الرضاعليه‌السلام ، ودعا عيسى المكيين إلى بيعة الإمام (علله السلام) والى لبس اللباس الأخضر، فاستجابوا له فرحين شاكرين، داعين للمأمون على تحقيق أمنيتهم، وأملهم في هذه البيعة(3).

4 - الكوفة:

وتلقّت الأكثرية الساحقة في الكوفة بمزيد من الفرح والسرور نبأ البيعة للإمام،

____________________

(1) العقد الفريد 5/226.

(2) الولاة وكتاب القضاء (ص 168).

(3) تاريخ اليعقوبي 3/277.

٢٨٧

وقد عهد المأمون لأخذ البيعة من الكوفيين العباس نجل الإمام موسىعليه‌السلام ، وأمدّه إبراهيم بن عبد الحميد بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك فإنّ أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك، وقام العباس بهذه المهمّة فاستجاب له جمهور كبير منهم، وقال له قوم: إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك، فقال لهم العباس: أنا أدعو إلى المأمون أوّلاً، ثم من بعده لأخي الرضا.

وامتنع هؤلاء من البيعة للإمام، وأخذوا يندّدون بمَن بايع، ويدعونهم إلى نكث البيعة، ولـمّا علم إبراهيم بن المهدي تخاذل أهل الكوفة أوعز إلى جيشه المقيم في النيل بقيادة سعيد، وأبي البيط، لإخضاع الكوفة، والقضاء على التمرّد، وسرت جيوش إبراهيم حتى انتهت إلى (القنطرة) قرب (دير الأعور) فاعترضتهم قوّة عسكرية بقيادة العلوية علي بن محمد بن جعفر، وأبي عبد الله شقيق الزعيم الكبير أبي السرايا فالتحمت معها، وأخيراً انتصرت جيوش إبراهيم بن مهدي.

وزحفت جيوش إبراهيم نحو (الكوفة)، وقد ارتدت اللباس الأسود، وكان شعارها (يا منصور لا طاعة للمأمون) وجبن أهل الكوفة من مناجزتهم فأرسلوا وفداً لطلب الأمان للعباس وجماعته من القائد العام لجيش إبراهيم فأجابهم إلى ذلك، وشرط عليهم أن يخرج العباس وأصحابه من الكوفة، وأقبل الوفد إلى العباس، وهو لا يعلم بذلك فقالوا له: إنّ عامة مَن معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس من الحرب والنهب والقتل فاخرج من بين أظهرنا لا حاجة لنا فيك(1) .

وخرج العباس من الكوفة وقد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير، واستبان له أنّ أهل الكوفة لا ذمّة لهم، ولا وفاء لهم بعهد ووعد ودخلت جيوش إبراهيم الكوفة، ولم تحدث أيّة مصادمات بينها وبين الجماعة التي بايعت الإمام بولاية العهد.

هذه بعض المناطق التي أخذت فيها البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

____________________

(1) تأريخ الطبري.

٢٨٨

ناقدون للإمام:

ووجّه جماعة من الشيعة وغيرهم نقداً للإمام الرضاعليه‌السلام على قبوله لولاية العهد من قبل المأمون العباسي كان منهم:

1 - محمد بن عرفة:

واقبل محمد بن عرفة نحو الإمام، وقال له: (يا بن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟).

فأجابه الإمام:

(ما حمل جدّي أمير المؤمنينعليه‌السلام على الدخول في الشورى)(1)

لقد أرغم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على الدخول في الشورى التي عقدها عمر بن الخطاب لانتخاب الخليفة من بعده، وقد أعلن الإمام عن أساه

وحزنه لانضمامه مع أعضاء الشورى، قائلاً: (فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر) وكما أرغم جده وأكره على الدخول في الشورى فكذلك أرغم هو على قبول ولاية العهد.

2 - رجل:

وأنكر عليه رجل تقلّده لولاية العهد قائلاً له:

(كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟).

فقالعليه‌السلام له:

- أيّهما أفضل النبي أو الوصي؟

- النبي.

- أيّهما أفضل المسلم أو المشرك؟

- لا بل المسلم.

- إنّ العزيز (عزيز مصر) كان مشركاً، وكان يوسف نبياً، وإنّ المأمون مسلم، وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يولّيه حين قال له: اجعلني على خزائن الأرض، وأنا أُجبرت على ذلك(2) .

____________________

(1) وسائل الشيعة 12 / 148.

(2) وسائل الشيعة 12 / 146.

٢٨٩

3 - الريّان بن الصلت:

ودخل الريان بن الصلت على الإمام الرضاعليه‌السلام فقال له: (يا بن رسول الله إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا؟)

فأجابه الإمام:

(قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك، وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم إنّ يوسف كان نبياً رسولاً، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز، قال له: اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك، على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان)(1) .

وأعرب الإمام عن كراهته البالغة وبغضه الشديد لهذا المنصب إلاّ أنّه أرغم وأجبر على ذلك.

4 - خارجي:

وأقبل خارجي يشتد نحو الإمام فقال له: أخبرني عن دخولك لهذا الطاغية فيما دخلت فيه، وهم عندك كفّار، وأنت ابن رسول الله (ص)، فما حملك على هذا؟

فقالعليه‌السلام :

وهؤلاء أكفر عندك أم عزيز مصر وأهل مملكته؟ أليس هؤلاء على حال يزعمون أنّهم موحِّدون، وأولئك لم يوحّدوا الله ولم يعرفوه، ويوسف بن يعقوب نبي ابن نبي، فسأل العزيز وهو كافر فقال:( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وكان يجلس مجلس الفراعنة، وإنّما أنا رجل من ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أجبرني على هذا الأمر، وأكرهني عليه، ما الذي أنكرت، ونقمت عليّ وراح الخارجي يقول: (أشهد أنّك ابن رسول الله، وانك صادق)(2) .

وأعرب الإمامعليه‌السلام في أحاديثه مع الناقدين له عن إرغامه على قبول ولاية العهد، فقد خيّر بينها وبين القتل فاختار ولاية العهد لإنقاذ نفسه من الهلاك الذي لا يعود بأيّة فائدة على القضية الإسلامية.

____________________

(1) وسائل الشيعة 12 / 147.

(2) وسائل الشيعة 12 / 149 - 150.

٢٩٠

الناقمون على المأمون:

ونقمت القوى المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام على المأمون لعقده بولاية العهد للإمام الرضا، واعتبروا ذلك تحويلاً للخلافة عن الأسرة العباسية التي ينعمون في ظلالها.

وكان من أشد الناقمين على المأمون الأسرة العباسية، فقد اعتبرت ذلك خطراً على مملكتهم، وقد قامت قيامتهم، وورمت أنوفهم، وقاموا بما يلي من الإجراءات:

خلع المأمون:

وخلع العباسيون بيعة المأمون، واعتبروها لاغيه، وأعلنوا أمام الجماهير عصيانهم للمأمون، وطلبوا من المواطنين رفض بيعته، وبيعة ولي عهده، فاستجاب لهم خلق كثير، وبذلك فلم تعد بيعة للمأمون في أعناقهم.

البيعة لإبراهيم بن شكلة:

وعمد العباسيون إلى بيعة عميدهم إبراهيم بن شكلة(1) شيخ المغنّين، والموسيقين في بغداد، ودعي له بالخلافة، وسمّي بالمرضي(2) وكانت خلافته موضع استهزاء وسخرية من قبل الأوساط الواعية والمفكّرة؛ وذلك لاستهتاره، وتحلّله من جميع القيم والأعراف وفيه يقول الشاعر الاجتماعي الثائر دعبل الخزاعي:

نصر ابن شكلة بالعراق وأهله

فهفا إليه كل أطلس مائقِ(3)

إن كان إبراهيم مضطلعاً بها

فلتصلحن من بعده لمخارقِ

ولتصلحن من بعد ذاك لزلزلٍ

ولتصلحن من بعده للمارقِ

أنّى يكون وليس ذاك بكائنٍ

يرث الخلافة فاسقٌ عن فاسقِ(4)

لقد سخر دعبل من الخلافة التي تولاّها هذا المائق المتحلّل، وإذا صلحت له فلتصلح من بعده لأقرانه المغنّين أمثال: زلزل ومخارق، ومن سخرية الأقدار أن تؤول الخلافة الإسلامية لإبراهيم، ويتولّى شؤون المسلمين وكان إبراهيم - فيما يقول

____________________

(1) شكلة: أم إبراهيم وكانت جارية سوداء، وكان إبراهيم شديد عظيم الجثة حتى قيل له التنين، وفيات الأعيان 1 / 20.

(2) تأريخ اليعقوبي.

(3) نعر: صاح، والأطلس: الذئب، والمائق: المغيظ الباكي.

(4) وفيات الأعيان 1 / 21، تأريخ بغداد لطيفور (ص 160).

٢٩١

المؤرّخون - من أعدى الناس لآل عليعليه‌السلام ، وحينما علم بعقد ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ورم أنفه وانتفخت أوداجه غيظاً وغضباً وأثر عنه من الشعر في ذلك هذه الأبيات:

فلا جزيت بنو العباس خيراً

على زعمي ولا اغتبطت بري

أتوني مهطعين وقد أتاهم

بوار الدهر بالخير الجلي

وحلّ عصائب الأملاك منها

وشدّت في رؤوس بني علي

فضجّت أن تشد على رؤوس

تطالبها بميراث النبي(1)

وفي عهده أصيبت الخزينة المركزية بالعجز، واجتمع الأجناد على بلاطه مطالبين بأرزاقهم، فخرج إليهم رسوله، وقال لهم: إنّه لا مال عنده، وطلب أحد الظرفاء، فقال: بدلاً من المال فليخرج الخليفة فيغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل ذلك الجانب ثلاثة أصوات(2) .

ونظم دعبل هذه الصورة المضحكة بقوله:

يا معشر الأجناد لا تقنطوا

وارضوا بما كان ولا تسخطوا

فسوف تعطون حنينية

يلتذّها الأمرد والأشمط(3)

والمعبديات لقوادكم

لا تدخل الكيس ولا تربط(4)

وهكذا يرزق قوّاده

خليفة مصحفه البربط(5)

قد ختم الصك بأرزاقكم

وصحّح العزم فلا تسخطوا

بيعة إبراهيم مشؤومة

يقتل فيها الخلق أو يقحطوا(6)

رسالة المأمون للعبّاسيين:

وتبودلت رسائل السب والقذف بين المأمون وأعمامه وأقربائه العباسيين، وكان من بينها هذه الرسالة التي بعثها المأمون للعباسيين(7) ، وهذا نصّها بعد البسملة:

____________________

(1) الولاة وكتاب القضاة (ص 168).                              (2) وفيات الأعيان 1 / 21.

(3) الأمرد: الذي لا لحية له، الأشمط: الذي له لحية.

(4) المعبديات: أصوات من الغناء تنسب إلى معبد المغني.

(5) البربط: الطبل.                                                  (6) عصر المأمون 3 / 255 - 256

(7) وهي جواب عن رسائلهم التي بعثوها للمأمون، وطلبوا منه الإجابة عليها فأجابهم بهذه الرسالة التي جرّدتهم من كل محتوى نبيل وشريف.

٢٩٢

(الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآل محمد على رغم أنف الراغمين، أمّا بعد:

عرف المأمون كتابكم، وتدبير أمركم، ومخض زبدتكم، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم في مراوضة الباطل، وصرف وجوه الحق عن مواضعها، ونبذكم كتاب الله والآثار، وكلّما جاءكم به الصادق محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى كأنّكم من الأمم السالفة، التي هلكت بالخسفة والغرق، والريح والصيحة والصواعق والرجم.

أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد، لولا أن يقول قائل: إنّ المأمون ترك الجواب عجزاً لما أجبتكم، من سوء أخلاقكم، وقلّة أخطاركم وركاكة عقولكم، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم، فليستمع مستمع، فليبلغ شاهد غائباً...).

وحفل هذا المقطع من كلام المأمون بما يلي:

1 - إنّه ابتدأ رسالته بالصلاة على النبي، ثم عطف عليه آله فصلّى عليهم وعقّب ذلك بقوله: (على رغم الراغمين) وعنى الراغمين بني العباس الذين جهدوا على محو ذكر آل النبي (ص)، وإزالة أرصدتهم الروحية والفكرية من دنيا الإسلام.

2 - إنّ المأمون مطّلع على خفايا نفوس العباسيين، وعالم بدخائل قلوبهم، عرفهم مقبلين ومدبرين، عرفهم مندفعين نحو الباطل نابذين للحق، تاركين لكتاب الله، وما جاء به الرسول الأعظم (ص).

3 - إنّه إنّما أجابهم عن رسائلهم لا عناية بهم، وإنّما كي لا يقال إنّه عاجز عن الجواب... ولنعد لنقرأ الفصل الثاني من رسالة المأمون.

(أمّا بعد: فإنّ الله تعالى بعث محمداً (ص) على فترة من الرسل، وقريش في أنفسها وأموالها، لا يرون أحداً يساميهم، ولا يباريهم، فكان نبينا (ص) أميناً من أوسطهم بيتاً، وأقلّهم مالاً فكان أول مَن آمن به خديجة بنت خويلد، فواسته بمالها، ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن سبع سنين، لم يشرك بالله شيئاً طرفة عين، ولم يعبد وثناً، ولم يأكل رباً، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم، وكانت عمومة رسول الله إمّا مسلم مهين أو كافر معاند، إلاّ حمزة فإنّه لم يمتنع من الإسلام،

٢٩٣

ولا يمتنع الإسلام منه، فمضى لسبيله على بينة من ربّه.

وأمّا أبو طالب فإنّه كفله وربّاه، ولم يزل مدافعاً عنه، ومانعاً منه، فلمّا قبض الله أبا طالب فهم القوم، واجتمعوا عليه ليقتلوه فهاجر إلى القوم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون مَن هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون...).

عرض هذا المقطع إلى بعثة الرسول الأعظم (ص) في مجتمع متكبّر يرى أنّه لا يدانيه، ولا يساويه أحد، وفي فجر الدعوة المشرقة ما آمن به إلاّ أم المؤمنين السيدة خديجة، وقد رصدت لدعوته جميع أموالها، ومن بعدها آمن به الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، وكان عمره الشريف سبع سنين، ولم يسجد لصنم ولم يعبد وثناً، وإنّما عبد الله تعالى عن إيمان وإخلاص.

أمّا أعمام النبي (ص) فكان فيهم المشرك والحاقد والضال، وهو أبو لهب.

وكان فيهم بطل الإسلام أسد الله الشهيد حمزة الذي أعزّ الله به الإسلام، ونافح عن الرسول بكل بسالة حتى استشهد.

وخيرة أعمام النبي (ص) هو أبو طالب الذي آمن بالإسلام واعتنق أهدافه ومبادئه، ووقف إلى جانب الرسول (ص) يحميه، ويدفع عنه كيد المعتدين، ولـمّا انتقل هذا العملاق العظيم إلى حظيرة القدس، فقد النبي (ص) المحامي والمدافع عنه، وهمّت قريش بقتله فخرج (ص) مهاجراً إلى (يثرب) فاتخذها مقرّاً لدعوته، وعاصمة لحكومته، فقد وجد فيها الصفوة الصادقة المتفانية في الذب عنه، ولنعد إلى فصل آخر من فصول هذه الرسالة:

(ولم يقم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب، فإنه آزره، ووقاه بنفسه، ونام في مضجعه، ثم لم يزل بعد مستمسّكاً بأطراف الثغور، وينازل الأبطال، ولا ينكل عن قرن، ولا يولّي عن جيش، منيع القلب يؤمر على الجميع، ولا يؤمر عليه أحد، أشد الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهادا في الله، وأفقههم في دين الله، وأقرأهم لكتاب الله وأعرفهم بالحلال

والحرام.

وهو صاحب الولاية في حديث (غدير خم) وصاحب قوله (ص): (أنت منّي

٢٩٤

بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي) وصاحب يوم الطائف، وكان أحب الخلق إلى الله تعالى والى رسول الله (ص)، وصاحب الباب فتح له، وسد أبواب المسجد وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة، وأخو رسول الله (ص) حين آخى بين المسلمين.

وهو منيع جزيل، وهو صاحب آية( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وهو ختن خديجة، وهو ابن عم رسول الله (ص) رباه وكفله، وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده، وهو نفس رسول الله (ص) في يوم المباهلة.

وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر يتقلدان أمرا حتى يسألانه عنه، فما رأى أنفذاه، ولم يره ردّاه، وهو دخل من بني هاشم في الشورى، ولعمري لو قدر أصحابه على دفعه عنه، كما دفع العباس رضوان الله عليه، ووجدوا إلى ذلك سبيلاً لدفعوه.

فأمّا تقديمكم العباس عليه، فإنّ الله تعالى يقول:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ ) .

والله لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل والآي المفسّرة في القرآن خلّة واحدة في رجل من رجالكم أو غيره؛ لكان مستأهلاً للخلافة، مقدّماً على أصحاب رسول الله (ص) بتلك الخلّة، ثم لم تزل الأمور تترقّى به إلى أن ولي أمور المسلمين فلم يعن بأحد من بني هاشم إلاّ بعبد الله بن عباس، تعظيماً لحقه، ووصلة لرحمه، وثقة به فكان من أمره الذي يغفر الله له...).

وعرض هذا المقطع إلى بعض فضائل الإمام أبي الحسين رائد الحكمة والعلم في دنيا الإسلام، والتي منها دفاعه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد آزره، ووقاه بنفسه ومهجته، وبات على فراشه حينما احتمت قريش على قتلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نازل الأبطال، فحصد رؤوسهم دفاعا عن الإسلام، فكان من أشدّ الناس وطأة على الكافرين والملحدين، فما أعظم عائدته على الإسلام!

ومن فضائله أنّه كان أعلم المسلمين، وأفقههم، وأكثرهم إحاطة ودراية بأحكام الدين، وشريعة سيد المرسلين وقد عقد النبي (ص) له الولاية، وجعله خليفة من بعده في (غدير خم) وقال مقالته الذائعة: (مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه

٢٩٥

اللهم من والاه، وعاد من عاداه)، وأشاد النبي (ص) به مرّة أخرى فقال له: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي).

وكان من سموّ منزلته، وعظيم شأنه عند النبي (ص) أنّه أمر بسد جميع الأبواب التي كانت على جامعه الأعظم، ولم يستثن منها إلاّ باب علي فإنّها ظلّت مفتوحة، لم تغلق، ومن مناقبه أنّه صاحب الراية (يوم خيبر )، فهو الذي فتح حصون (خيبر ) وقضى على اليهود، وهو صاحب عمرو بن عبد ود الذي جبن المسلمون عن منازلته، فلم يبرز إليه سوى بطل الإسلام وحاميه الإمامعليه‌السلام .

ومن مناقب الإمام أمير المؤمنين أنّ النبي (ص) لـمّا آخى بين المسلمين، فبقي علي وحده فآخاه النبي (ص) وقال له: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة.

ومن مناقبه وفضائله أنّه نزلت فيه وفي ولديه وزوجته سيدة نساء العالمين الآية الكريمة( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) .

ومن مناقبه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زوّجه بسيدة نساء المسلمين وبضعته فاطمة الزهراءعليها‌السلام فلم يكن لها كفوء سواه.

ومن عظيم مناقبه أنّه نفس النبي (ص) كما دلّت على ذلك بوضوح آية المباهلة، فكان سلام الله عليه بمواهبه وعبقرياته امتداداً ذاتياً لشخصية الرسول

الكريم التي ملأت الآفاق نوراً.

ونظراً لسموّ ذاته، وعظيم مكانته كان أبو بكر وعمر لا ينفذان أمراً حتى يأخذا رأيه فيه، ومن الطبيعي أنّ ذلك الأمر ممّا يتعلّق بأحكام الدين.

وفي هذا المقطع أنّه لو وجدت بعض فضائل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في رجل من المسلمين لكان أهلاً ليتقلّد الخلافة والإمرة على المسلمين، هذا بعض ما قاله المأمون في هذا المقطع، ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(ثم نحن وهم يد واحدة - كما زعمتم - حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا،

فأخفناهم، وضيّقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إيّاهم، ويحكم إنّ بني أمية إنّما قتلوا مَن سلّ منهم سيفاً، وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جملاً فلتسألن أعظم الهاشمية، بأيّ ذنبٍ قتلت، ولتسألن نفوساً ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء، هيهات، إنّه مَن عمل مثقال ذرة خير يره، ومَن يعمل مثقال

٢٩٦

ذرة شراً يره).

عرض هذا المقطع إلى بعض ما جرى على آل النبي (ص) من المأسي من حكّام بني العباس، فقد جهدوا على ظلمهم، وتصفيتهم جسدياً، يقول المنصور الدوانيقي للإمام الصادقعليه‌السلام : (لأقتلنّك، ولأقتلن أهلك، حتى لا أبقي منكم قامة سوط)(1) .

وقال المنصور: (قتلت من ذرّية فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيّدهم ومولاهم جعفر بن محمد...)(2) .

وقال إسماعيل الديباج عندما هرب من المنصور:

لم يروه ما أراق البغي من دمنا

في كل أرض فلم يقصر من الطلبِ

وليس يشفي غليلاً في حشاه سوى

أن لا يرى فوقها ابنا لبنت نبي(3)

وقد عرض المأمون إلى ألوان رهيبة ممّا صبّه العباسيون على السادة العلويين من المآسي، والتي منها:

أ - إبادة العلويين جملاً.

ب - إلقاؤهم وهم أحياء في حوض دجلة والفرات حتى ماتوا غرقاً.

ج - دفنهم وهم أحياء في بغداد والكوفة.

إلى غير ذلك من صنوف الإرهاق والتنكيل الذي عاناه أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من العباسيين...

ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة:

(وأمّا ما وصفتم في أمر المخلوع، وما كان فيه من لبس، فلعمري ما لبس عليه أحد غيركم، إذ هونتم عليه النكث، وزينتم له الغدر، وقلتم له: ما عسى أن يكون من أمر أخيك، وهو رجل مغرب، ومعك الأموال والرجال، نبعث إليه فيؤتى به، فكذبتم ودبرتم، ونسيتم قول الله تعالى:( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ) وأعرب المأمون - في هذا المقطع - عن الأحداث التي جرت بينه وبين أخيه الأمين، وإنّها

____________________

(1) المناقب 3 / 357، البحار 47 / 178.

(2) الأدب في ظل التشيع (ص 68).

(3) النزاع والتخاصم للمقريزي (ص 51).

٢٩٧

تستند إلى العباسيين فهم الذين حبّبوا إليه خلع المأمون والنكاية به، ولم يكن ما وقع عن رأي الأمين وتدبيره، وهذا فصل آخر من هذه الرسالة:

(وأمّا ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا فما بايع له المأمون إلاّ مستبصراً في أمره، عالماً بأنّه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلاً، ولا أظهر عفّة، ولا أورع ورعاً، ولا أزهد زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه، وأنّ البيعة له لموافقة رضى الربّ عزّ وجل، ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم.

ولعمري لو كانت بيعتي محاباة لكان العباس ابني وسائر ولدي أحبّ إلى قلبي، وأحلى في عيني، ولكن أردت أمراً، وأراد الله أمراً، فلم يسبق أمري أمر الله).

وحكى هذا المقطع بيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وأنّها لم تكن محاباة، أو اندفاعاً وراء العواطف والأهواء، وإنّما كانت عن اجتهاد وتبصّر، وتدبّر في أمور المسلمين؛ وذلك لما يتمتّع به الإمام العظيم من الصفات الرفيعة، والتي منها:

أ - إنّ الإمام أفضل إنسان على وجه الأرض.

ب - إنّ الإمام أعفّ إنسان.

ج - الورع عن محارم الله.

د - إجماع المسلمين على تعظيمه، وتقديمه بالفضل على غيره.

ه‍ - إنّهعليه‌السلام لا تأخذه في الله لومة لائم.

وهذه الصفات هي التي دفعت المأمون إلى البيعة للإمام بولاية العهد، ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا ما ذكرتم ممّا مسّكم من الجفاء في ولايتي فلعمري ما كان ذلك إلاّ منكم بمظافرتكم علي، وممايلتكم إيّاه، فلمّا قتلته، وتفرّقتم عباديد فطوراً أتباعاً لابن أبي خالد، وطوراً أتباعاً لأعرابي، وطوراً أتباعاً لابن شكلة، ثم لكل مَن سلّ سيفاً عليّ، ولولا أنّ شيمتي العفو، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحداً، فكلكم حلال الدم محل بنفسه).

وأعرب المأمون عن الجفاء والحرمان الذي لحق بالعباسيين في عهده، فإنّهم هم السبب في ذلك، فقد أيّدوا الأمين وناصروه، ولـمّا قُتل انضموا إلى كل مَن أعلن

٢٩٨

التمرّد على حكومته أمثال: إبراهيم بن شكلة، وغيره؛ وبذلك فقد ملأوا قلب المأمون حقداً عليهم، ولولا أنّ طبيعته التجاوز - كما يقول - لما أبقى عباسياً على وجه الأرض، وهذا فصل آخر من رسالته يقول:

(وأمّا ما سألتم من البيعة للعباس ابني... أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ويلكم إنّ العباس غلام حدث السن، ولم يؤنس رشده، ولم يمهل وحده، ولم تحكمه التجارب، تدبّره النساء، وتكلّفه الإماء، ثم لم يتفقّه في الدين، ولم يعرف حلالاً من حرام إلاّ معرفة لا تأتي به رعية، ولا تقوم به حجّة، ولو كان مستأهلاً قد أحكمته التجارب، وتفقّه في الدين، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا، وصرف النفس عنها ما كان له عندي إلاّ ما كان لرجل من عك وحمير، فلا تكثروا من هذا المقال فإنّ لساني لم يزل مخزوناً عن أمور وأنباء كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف، علماً بأنّ الله بالغ أمره، ومظهر قضاه يوماً.

فإذا أبيتم إلاّ كشف الغطاء، وقشر العظاء، فالرشيد أخبرني عن آبائه، عمّا وجده في كتاب الدولة وغيرها، أنّ السابع من ولد العباس، لا يقوم لبني العباس بعده قائمة، ولا تزال النعمة متعلّقة عليهم بحياته، فإذا أودعت فودعها، إذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلاً، وهيهات مالكم إلاّ السيف، يأتيكم الحسني الثائر البائر، فيحصدكم حصداً، أو السفياني المرغم، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلاّ بحقّها...).

وحفل هذا المقطع بذكر الأسباب التي دعت المأمون إلى عدم ترشيح ولده العباس لولاية العهد، فإنّه لم يستجمع الشرائط التي ينبغي توفّرها في ولي العهد من العلم والفضل والتقوى وغيرها، فقد كان العباس غلاماً لم تهذّبه الأيام، ولم تصقله التجارب، ولم يقم على تكوينه علم أو ثقافة، وإنّما كان صبياً تدير أموره النسوان، وتدبّر شؤونه الأمهات، فكيف يصح أن يرشّحه لهذا المنصب الخطير؟

وأضاف المأمون بعد هذا إلى أنّ الرشيد أخبره عمّا وجده في كتاب الدولة من أنّ نهاية الدولة العباسية تكون بعد الملك السابع من بني العباس، وبعده لا تقوم للعباسيين قائمة.

وقد أخطأ الرشيد فقد استمرّت الدولة العباسية بعد السابع من ملوكهم، وكانت نهايتها على يد هولاكو التتار، فقد حصد رؤوس العباسيين، وأزال ملكهم

٢٩٩

وسلطانهم... ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى بعد استحقاق لها في نفسه، واختيار منّي له، فما كان ذلك منّي إلاّ أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودّة بيننا وبينهم، وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء بيسير ما يصيبهم منه...).

وأعرب المأمون أنّ بيعته للإمام الرضاعليه‌السلام كانت من أجل صالح العباسيين، ففي هذه البيعة قد حقن دماءهم، ولعلّ سبب ذلك هو انفجار البلاد

بثورات متصلة تنادي للرضا من آل محمد (ص) ليقيم في ربوع الوطن العدل السياسي والعدل الاجتماعي، وحينما جاء بالإمام الرضا ونصبه ولي عهده خمدت تلك الثورات، ولو استمرّت لقضت على الحكم العباسي، وقضت على العباسيين...

ونعود لفصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وإن تزعموا أنّي أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فإنّي في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم وأنتم ساهون، لاهون، تائهون، في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم، وما أظللتم عليه من النقمة، وابتزاز النعمة، همّة أحدكم أن يمسي مركوباً، ويصبح مخموراً، تباهون بالمعاصي، وتبتهجون بها، وآلهتكم البرابط، مخنّثون مأفونون، لا يتفكّر متفكّر منكم في إصلاح معيشة، ولا استدامه نعمة، ولا اصطناع مكرمة، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم.

أضعتم الصلاة، واتبعتم الشهوات، وأكببتم على اللذات فسوف تلقون غيّاً، وأيم الله لربّما أفكر في أمركم فلا أجد أمّة من الأمم استحقوا العذاب حتى نزل بهم لخلّة من الخلال إلاّ أصبت تلك الخلّة بعينها فيكم، مع خلال كثيرة لم أكن أظن أنّ إبليس اهتدى إليها، ولا أمر بالعمل بها، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح أنّه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الأرض، وقد اتخذتموهم شعاراً ودثاراً، استخفافاً بالمعاد وقلّة يقين بالحساب، وأيّكم له رأي يتبع أو روية تنفع فشاهت الوجوه، وعفرت الخدود...).

لقد وصف المأمون أسرته بأقبح الصفات التي لا يتصف بها إلاّ أراذل البشر، وشذّاذ الآفاق، لقد صوّرهم بصورة تشمئز منها النفوس، ويترفّع عنها أقل الناس

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529