حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 224599 / تحميل: 7182
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

على نفسه ثوب القداسة والإيمان لتمنحه الأمة ثقتها ، وتنقاد إليه بدافع العقيدة ، ولكنها محاولة فاشلة لأن المسلمين ينظرون إليه نظرة ريبة وشك في إسلامه لأنه من الشجرة الملعونة في القرآن التي ناجزت النبي (ص) وقادت الجيوش لمحاربته ، بالاضافة إلى الأحداث الجسام التي ارتكبها كمناجزته لوصي رسول الله (ص) وباب مدينة علمه ، وقتله الأخيار ، ومطاردته الصلحاء ، وبدعه التي أحدثها في الإسلام ، وغير ذلك من الكبائر والموبقات التي سود بها وجه التأريخ ، ومن الطبيعي أن هذه الدعايات والأكاذيب لا تمحو عنه العار والخزي.

وعلى أي حال فقد كثرت الأحاديث التي وضعها الدجالون في فضل معاوية ، وفي فضل عثمان بن عفان ، وقد خاف أن يفوت غرضه ، ويفتضح أمره ، ولا يصل إلى هدفه من البغي على العترة الطاهرة ، فكتب مذكرة إلى عماله يأمرهم فيها بأن يكف الوضاعون عن ذلك ، ويضعوا الأحاديث في فضل الشيخين ، لأن ذلك من أقرب الطرق ومن أهم الوسائل فى محاربة ذرية النبيّ (ص) والحط من قيمتهم ، وهذا نص ما كتبه :

« إن الحديث قد كثر في عثمان ، وفشا في كل مصر ، وفي كل ناحية ، فإذا جاءكم كتابي فادعوهم إلى الرواية في أبي بكر وعمر ، فان فضلهما وسوابقهما أحب إلي وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أهل هذا البيت ـ يعني أهل بيت النبيّ ـ وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ».

وقرأ القضاة والأمراء كتابه على الناس ، فبادر الوضاعون إلى افتعال الأحاديث فى مناقب أبي بكر وعمر ، وأمر معاوية بتدوينها وإنفاذ نسخ منها إلى جميع العمال والولاة ليقرؤها على المنابر ، ويتلوها في الجوامع ، وأوعز إليهم أن ينفذوها إلى المعلمين ليجعلوها من مناهج دروسهم ، ويرغموا

١٦١

الأطفال على حفظها ، وقد اهتمت الحكومات المحلية فى ذلك اهتماما بالغا فالزمت الناشئة وسائر الطبقات بحفظ تلك الأخبار المفتعلة حتى حفظها الأولاد وحفظتها النساء والخدم والحشم(١) وقد عرض الإمام الباقرعليه‌السلام بعض تلك الأخبار الموضوعة في حديثه مع أبان ، وندد بها فقد قال له أبان :

« أصلحك الله ، سم لي من ذلك شيئا؟ ».

قال (ع) رووا :

« إن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر »(٢) .

« إن عمر محدث ـ بصيغة المفعول أي تحدثه الملائكة ـ ».

« إن عمر يلقنه الملك ».

« إن السكينة تنطق على لسان عمر ».

« إن الملائكة لتستحي من عثمان »(٣) .

ثم استرسل (ع) في عرض الأخبار المفتعلة حتى عدّ أكثر من مائة

__________________

(١) سليم بن قيس ( ص ٢٩ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.

(٢) وضع المستأجرون هذا الحديث لمعارضة الخبر المتواتر الوارد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في حق السبطين « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » وقد سئل الإمام الجواد عنه ففنده وقال : والله ليس في الجنة كهول بل كلهم شباب مرد.

(٣) وإمارة الوضع على هذا الحديث ظاهرة فان الملائكة لما ذا تستحي من عثمان بن عفان فهل انه اجتاز عليها فرآها تعمل القبيح وترتكب المنكر فاستحيت منه أو أنه فعل ذلك فاستحيت منه إنا لا نتصور وجها لهذا الاستحياء المزعوم.

١٦٢

رواية(١) يحسبها الناس أنها حق ، ثم قال (ع) : والله كلها كذب وزور(٢)

ويقول المحدث ابن عرفة المعروف بنفطويه(٣) « إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية ، تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم »(٤) .

ولم يكتف معاوية بتلك الأخبار الكثيرة التي وضعت في مناقب الشيخين فقد عمد إلى تشجيع الوضاعين لاختلاق الحديث ضد أهل البيت (ع) وقد أنفق عليهم الأموال الطائلة في سبيل ذلك ، فقد أعطى الجلاد سمرة بن جندب أربع مائة الف على أن يخطب في أهل الشام ، ويذكر لهم أن الآية الكريمة وهي « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث

__________________

(١) وفي رواية حتى عد أكثر من مائتى حديث.

(٢) سليم بن قيس ( ص ٤٥ ).

(٣) ابراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي ، ولد سنة ( ٢٤٤ هج ) ، بواسط ، وهو صاحب المؤلفات الحسنة ، لقب بنفطويه لدمامته ، وأدمته تشبيها له بالنفط ومن شعره :

قلبى أرق عليك من خديكا

وقواي أوهى من قوى جفنيكا

لم لا ترق لمن يعذب نفسه

ظلما ويعطفه هواه عليكا

هجاه أبو عبد الله الواسطي بقوله :

من سره أن لا يرى فاسقا

فليجتهد أن لا يرى نفطويه

أحرقه الله بنصف أسمه

وصير الباقي صراخا عليه

توفى في صفر (٣٢٣) وفيات الأعيان ١ / ٣٠.

(٤) النصائح الكافية ( ص ٧٤ ) وغيره.

١٦٣

والنسل والله لا يحب الفساد »(١) .

نزلت في علي ، فروى لهم سمرة ذلك(٢) وأخذ العوض من بيت مال المسلمين ، وقد الزم الإسلام بانفاقه على صالح المسلمين ، وإعالة ضعيفهم ومحرومهم ، ولكن ابن هند أنفقه على حرب الإسلام وعلى الكيد والطعن في أعلامه الذين نافحوا عن رسول الله (ص) في جميع المواقف والمشاهد وأرغموا معاوية وأباه على الدخول في حظيرته.

وعلى أي حال فقد انطلق ذوو الأطماع والمنحرفون عن الإسلام إلى افتعال الأحاديث في الحط من قيمة أهل البيت للظفر بالأموال والثراء العريض ، وروى ابن العاص لأهل الشام أن النبي (ص) قال في آل أبي طالب : « إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، انما ولي الله وصالح المؤمنين »(٣) .

وهكذا أخذت لجان الوضع تفتعل أمثال هذه الأحاديث ضد عترة النبيّ (ص) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، محاولة بذلك إطفاء نور الله ، وحجب المسلمين عن قادتهم الواقعيين الذين نصّ عليهم النبيّ (ص) وجعلهم خلفاء من بعده على أمته.

وتحدث الإمام الباقر (ع) عن زيف تلك الأخبار وكذبها فقال : « ويرون عن علي أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين ما يعلم الله أنهم قد رووا في ذلك الباطل والكذب والزور »(٤) .

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٠٣ و ٢٠٤.

(٢) النصائح الكافية ص ٢٥٣ وغيره.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.

(٤) سليم بن قيس ص ٤٥.

١٦٤

وقال ابن أبي الحديد : « وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي أن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليعليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير »(١) .

إن هذه الإجرءات التي اتخذها معاوية ضد أهل البيت قد أشاعت الفرقة بين المسلمين ، وفتحت باب الكذب على الله وعلى رسوله ، وقد أعرض خيار الصحابة عن تلك الأخبار ، ولم يصغوا لرواتها ، فقد نقل الرواة ان بشير العدوى(٢) جاء إلى ابن عباس ، وجعل يحدثه ، ويقول له : قال رسول الله (ص) : وابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه ، وقابله بالاستخفاف والاستهانة ، فاندفع بشير قائلا :

« ما لي لا أراك تسمع الحديث؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع ».

فزجره ابن عباس قائلا :

« إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه باذاننا ، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفه »(٣) .

__________________

(١) شرح ابن ابي الحديد ٤ / ٦٣ ، ط دار احياء الكتاب العربية.

(٢) بشير بن كعب بن أبي الحميري العدوي ، ويقال العامري ، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال انه ثقة ان شاء الله ، وقال النسائي : إنه ثقة ، تهذيب التهذيب ١ / ٤٧١.

ولا نعلم أنه كيف كان ثقة مع اعراض ابن عباس عن حديثه.

(٣) فجر الإسلام ص ٢٥٨ وغيره.

١٦٥

إن الناس قد ركبوا الصعبة والذلول ـ على حد تعبير ابن عباس ـ وسلكوا جميع المسالك التي تتنافى مع الدين فلم يتحرجوا من الكذب على الله ولم يتأثموا من الوضع على رسول الله (ص) فلذا كان التوقف والتثبت في الأخبار أمرا ضروريا.

والمحنة الكبرى التي امتحن المسلمون بها امتحانا عسيرا هو ان تلك الأخبار التي افتعلتها لجان الوضع قد وصلت إلى الثقات والحفاظ فدونوها في كتبهم وهم ـ من دون شك ـ لو علموا واقعها لأسقطوها وتبرءوا منها وما رووها ، وقد ألمع إلى ذلك المدائني في حديثه عن الوضاعين في عصر معاوية ، ونسوق نص كلامه في ذلك قال :

« وظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون ، والمستضعفون ، الذين يظاهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجلسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع ، والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب ، والبهتان ، فقبلوها ، ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها »(١) .

وقد فاضت الكتاب بتلك الأخبار الموضوعة ، وامتلأت بالإسرائيليات(٢) وبخرافات أبي هريرة ، ومما لا شبهة فيه أنها أضرت بالإسلام فشوهت شريعته

__________________

(١) ابن أبي الحديد ٣ / ١٦.

(٢) الاسرائيليات : هي الخرافات التي وضعها المنافقون من اليهود الذين أسلموا وتظاهروا بالإسلام فدسوا في الإسلام ما هو بريء منه ، وعلى رأس قائمة الوضاعين من اليهود كعب الأحبار.

١٦٦

السمحاء ، وأفسدت عقائد المسلمين ، وفرقتهم شيعا وأحزابا.

وليس من شك في أن الخلفاء لو بادروا إلى تدوين ما أثر عن النبي (ص) من الأحاديث لصانوا الأمة من الاختلاف ووقوها من الفتن والخطوب ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فقد عمد أبو بكر إلى جمع بعض الأحاديث فأحرقها(١) وجاء بعده عمر فاستشار الصحابة في تدوينها فأشار عليه عامتهم بذلك ، ولبث مدة يفكر في الأمر ثم عدل عنه ، وقال لهم : « إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم. ثم تذكرت ، فاذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا. » ثم ترك ذلك وعدل عنه(٢) .

وهو تعليل لا يساعده الدليل لأن حديث النبي (ص) لا يشذ عن كتاب الله ، ولا يخالفه بحال من الأحوال ، وليس تدوينه موجبا لهجر القرآن الكريم ، ولا مستلزما للاعراض عنه ، وأكبر الظن أنهم إنما أبوا من تدوينه لأن شطرا كبيرا منه يتعلق فى فضل العترة الطاهرة. وفي لزوم مودتها ، ووجوب الرجوع إليها في جميع المجالات ، وليس من الممكن التبعيض في كتابة الحديث بأن تدون السنن ، وتترك الأخبار الواردة في حق أهل البيت ، ومن الطبيعي أن تدوينها يتنافى مع ابتزازهم حقهم واجماعهم على هضمهم ، واقصائهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها ، وقد بلغ من عظيم وجدهم وحقدهم عليهم ، أنهم لما شعروا أن النبي يريد أن يعهد بالأمر إليهم ويكتب فى ذلك كتابا ردوا عليه وهو في ساعاته الأخيرة فقالوا له : « حسبنا كتاب الله ».

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥.

(٢) تقييد العلم ص ٥٠ ، وقريب منه فى طبقات ابن سعد ٣ / ١ ص ٢٠٦.

١٦٧

وأثر عنهم أنهم قالوا : « لا تجتمع النبوة والخلافة فى بيت واحد » وبعد هذا فكيف يثبتون اخبار النبي (ص) في أهل بيته.

وعلى أي حال فان أعظم ما مني به المسلمون من الكوارث هي الروايات المفتعلة التي عهد معاوية بوضعها فانها قد أوجبت تشتت المسلمين واختلافهم في كل شيء ، وهي مما لا شبهة فيه من أعظم موبقات ابن هند.

١٤ ـ استلحاقه زيادا :

قال رسول الله (ص) : « الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ». لقد ضرب معاوية كلام رسول الله (ص) بعرض الجدار بلا خيفة ولا حذر.

فعاكس قوله ، ورد حكمه علانية لأجل تدعيم ملكه ، وإقامة سلطانه ، فاستلحق به زياد بن أبيه طبقا لما كان عليه العمل قبل الإسلام!

يقول الله تعالى : « أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون »(١) لقد بغى معاوية حكم الجاهلية ، وأحيى سننها فألحق به زياد بن أبيه وهو ابن بغية ، فان سمية كانت من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة الى الحارث بن كلدة(٢) من بغيها ، وكانت تنزل

__________________

(١) سورة المائدة آية ٥٠.

(٢) الحارث بن كلدة بن عمر الثقفي كان طبيبا مشهورا عند العرب وكان من الشعراء ومن شعره :

ان اختياريك لا عن خبرة سلفت

ولا الرجاء ومما يخطئ النظر

كالمستغيث ببطن السيل يحسبه

جزرا يبادره إذ بله المطر

فقد رأيت بعبد الله واعظة

تنهى الحليم فما أناني الغرر

إن السعيد له في غيره عظة

وفي التجارب تحكيم ومعتبر

لأعرفنك إن أرسلت قافية

تلقى المعاذير إذ لا تنفع العذر

جاء ذلك في معجم الشعراء ص ١٧٢.

١٦٨

بالموضع الذي تنزل فيه البغايا خارجا عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا(١) هذه أم زياد في قذارتها وفجورها ولم يأنف معاوية من إلحاق هذا الدعى به.

أما بواعث هذا الاستلحاق فيقول عنه المؤرخون ان أمير المؤمنين «ع» كان قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس ، واصطنعه لنفسه ، فلما قتل «ع» بقى زياد في مله وخاف معاوية جانبه ، وعلم صعوبة ناحيته ، وأشفق من ممالاته الحسن بن علي «ع» فكتب إليه هذه الرسالة :

« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، إلى زياد بن عبيد ، أما بعد : فانك عبد قد كفرت النعمة ، واستدعيت النقمة ، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر وإن الشجرة لتضرب بعرقها ، وتتفرع من أصلها إنك لا أم لك ، بل لا أب لك قد هلكت وأهلكت ، وظننت أنك تخرج من قبضتي ، ولا ينالك سلطاني ، هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته ، أمس عبد واليوم أمير خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية ، إذا أتاك كتابى هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة واسرع الإجابة فانك إن تفعل فدمك حقنت ونفسك تداركت ، وإلا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي ، وأقسم قسما مبرورا أن لا أوتى بك إلا في زمارة(٢) تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدا وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه والسلام ».

وفي هذه الرسالة قد نسب زيادا إلى عبيد ، واعترف برقيته ، وإنه إذا تمكن منه يبيعه في أسواق دمشق ويرده إلى أصله ، ولما وصلت هذه

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣١٠.

(٢) الزمارة : آلة من القصب يغنى بها.

١٦٩

الرسالة إلى زياد ورم أنفه من الغضب وأمر بجمع الناس وخطب فيهم فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

« ابن آكلة الأكباد ، وقاتلة أسد الله ، ومظهر الخلاف ، ومسر النفاق ، ورئيس الأحزاب ، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلى يرعد ويبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها ، وعما قليل تصيرها الرياح قزعا(١) والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة ، أفمن اشفاق على تنذر وتعذر كلا؟ ولكن ذهب إلى غير مذهب وقعقع لمن ربي بين صواعق تهامة ، كيف أرهبه وبينى وبينه ابن بنت رسول الله (ص) وابن ابن عمه في مائة الف من المهاجرين والأنصار ، والله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأرينه الكواكب نهارا ولأسعطنه ماء الخردل(٢) دونه الكلام اليوم ، والجمع غدا والمشورة بعد ذلك إن شاء الله ».

وقد أبرق زياد وأرعد وتهدد وأوعد وذلك لعدم علمه بما مني به جيش الإمام من التخاذل والانحلال معتقدا بأن الجيش على وضعه الأول محتفضا بنشاطه وقواه ، وانه مائة الف من المهاجرين والأنصار ولم يعلم بما نكب به من الانحلال والفتن التي مزقته وقضت على نشاطه ، وان أعلام المهاجرين والأنصار قد طحنتهم حرب صفين وأبادتهم واقعة النهروان وأصبح الجيش لا يضم من أولئك الرءوس والضروس إلا ما هو أقل من الصبابة ، وأقسم بالله إن الإمام لو استدعى زيادا حينذاك لغدر به وما استجاب له ، وآية ذلك أنه لما علم بوهن جيش الإمام انحاز إلى معاوية وغدر بالإمام ، وكيف لا ينخدع وهو من ذوي الضمائر القلقة وقد أبان الزمان خبثه ، وكشف عن

__________________

(١) القزع : قطع السحاب المتفرقة.

(٢) الخردل : حب شجر معروف.

١٧٠

عدم طيب إنائه ، فقد عاد بعد الاستلحاق من ألد الأعداء إلى أمير المؤمنين وذريته وشيعته.

ومهما يكن من شيء فان زيادا عقيب خطابه أجاب معاوية عن رسالته وهذا نص جوابه :

« أما بعد ، فقد وصل إلي كتابك يا معاوية ، وفهمت ما فيه فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع طمعا فى الحياة إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حاد الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فاما سبك لي فلولا حلم ينهاني عنك ، وخوفي أن أدعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء ، وأما تعييرك لي بسمية فان كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة(١) وأما زعمك انك تخطفنى بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر؟ أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟

فامض الآن لطيتك ، واجتهد جاهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره ، ولا اجتهد إلا فيما يسوؤك ، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه ، الطالع إليه والسلام »

ولما قرأ معاوية رسالة زياد طار قلبه رعبا وداخله فزع شديد فاستدعى داهية العرب « المغيرة بن شعبة » فقال له :

« يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمنى فانصحنى فيه وأشر علي برأي المجتهد ، وكن لي أكن لك ، فقد خصصتك بسري وآثرتك على ولدي ».

فقال له المغيرة :

« فما ذاك؟ والله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء في الحدور ومن ذى الرونق في كف البطل الشجاع ».

__________________

(١) يشير بذلك إلى ما يرويه التاريخ من أن هند قد حملت به قبل أن تتزوج أبا سفيان ، وكان زواجها به سترا عليها. وإن المتهمين بها جماعة من الأعراب.

١٧١

ولما أظهر له المغيرة الانقياد والخضوع لطاعته عرض عليه مهمته قائلا :

« يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي(١) وهو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة جوال الفكر مصيب إذا رمى ، وقد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا ، وأخشى ممالأته حسنا : فكيف السبيل إليه؟ وما الحيلة في إصلاح رأيه؟ ».

ولما عرف الداهية الماكر مهمة معاوية أشار عليه بأن يخدعه ويمنيه ، ويكتب له بناعم القول وكان رأيه في ذلك مبنيا على دراسته لنفسية زياد ومعرفته باتجاهه وميوله قائلا له :

« ان زيادا رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسألة وألنت له الكتاب لكان لك أميل وبك أوثق ، فاكتب إليه وأنا الرسول »

واستجاب معاوية لنصيحة المغيرة ، فكتب إلى زياد رسالة تمثلت فيها المواربة والخداع وهذا نصها :

« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد : فان المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب ، وانك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم ، وواصل العدو ، وحملك سوء ظنك بي وبغضك لي على أن عققت قرابتي ، وقطعت رحمي وبتت نسبى وحرمتي حتى كأنك لست أخي ، وليس صخر بن حرب أباك وأبي ، وشتان ما بيني وبينك ، أطلب بدم ابن أبي العاص وأنت تقاتلني ، ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء فكنت « كتاركة بيضها بالعراء ، وملحفة بيض أخرى جناحها » وقد رأيت أن أعطف عليك ولا أؤاخذك بسوء سعيك ، وان أصل رحمك ، وأبتغي الثواب في أمرك ، فاعلم أبا المغيرة أنك

__________________

(١) كشيش الأفاعي : صوت جلدها.

١٧٢

لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا ، فان بني شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح ، فارجع رحمك الله إلى أصلك ، واتصل بقومك ولا تكن كالموصول يطير بريش غيره ، فقد أصبحت ضال النسب ، ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك ، فقد أصبحت على بينة من أمرك ووضوح من حجتك ، فان أحببت جانبي ووثقت بي فامرة بامرة وان كرهت جانبي ولم تثق بقولي ففعل جميل لا عليّ ولا لي والسلام ».

وأخذ المغيرة الرسالة التي كتبت على وفق رأيه وهي لا تحمل جانبا من الواقعية ، ولا بصيص فيها من نور الحق والصدق فغادر دمشق إلى فارس وأقبل إلى زياد فلما رآه رحب به وأدناه من مجلسه وأخذ الداهية الماكر يكلم زيادا بمختلف الطرق وشتى الأساليب حتى غزى قلبه وهيمن على مشاعره فأجابه إلى ما أراد.

وبعد ما وقع زياد في اشباك المغيرة غادر فارس إلى دمشق فلما انتهى إليها ومثل عند معاوية رحب به وادناه ، وأمر أخته جويرية بنت أبي سفيان أن تستدعيه ، فلما حضر عندها كشفت عن شعرها بين يديه ، وقالت له : « أنت أخي أخبرني بذلك أبو مريم » ثم أخرجه إلى المسجد وجمع الناس ليعلن أمامهم أن زيادا أخوه ، وقام أبو مريم السلولي الخمار أمام ذلك المجتمع الحاشد فادى شهادته بزنا أبى سفيان بسمية شهادة أخزت أبا سفيان ومعاوية والحقت العار بزياد وهذا نصها :

« أشهد أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف وأنا خمار فى الجاهلية ، فقال أبغى بغيا. فاتيته وقلت : لم أجد إلا جارية الحرث بن كلدة ،

١٧٣

سمية. فقال ائتني بها على ذفرها(١) وقذرها » وثار زياد فقطع على أبى مريم شهادته قائلا له بصوت يقطر غضبا :

« مهلا يا أبا مريم ، إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما ».

فقال أبو مريم :

« لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إليّ ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت ».

ثم استرسل فى بيان شهادته فقال :

« والله لقد أخذ بكم درعها ، وأغلقت الباب عليهما ، وقعدت دهشانا فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت ، مه يا أبا سفيان. فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم لو لا استرخاء من ثديها ، وذفر من فيها ».

هذه شهادة أبى مريم في فجور سمية وتندى لفضاعتها وخزيها وجه الإنسانية ولكن معاوية ما خجل منها وما أنف ولا استحى ، وكيف يخجل ابن هند من هذه المساوئ والمخازي وهو الذي جر ذيله على الرذائل والخداع كما يقول(٢) حتى صارت الرذيلة عنصرا من عناصره ومقوما من مقوماته.

لقد ألحق معاوية زياد بن أبيه به ليستريح من خصومته ، ويستعين به على تحقيق أهدافه وتدعيم سلطانه.

الاستياء الشامل :

وأثر استلحاق معاوية لزياد استياء شاملا في نفوس المسلمين ، فقد

__________________

(١) الذفر : الرائحة النتنة.

(٢) التاج للجاحظ ص ١٠٣.

١٧٤

رووا أن معاوية قد عمد إلى مخالفة النبي (ص) والى هجر سنته ، وقد خافوه على دينهم ، فاندفع جمع من الأحرار والمصلحين إلى إعلان سخطهم وإنكارهم عليه وعلى زياد ونشير إلى بعض المنكرين والناقدين له وهم :

١ ـ الإمام الحسن :

ورفع الإمام الحسن رسالة إلى زياد بين فيها فساد استلحاقه بمعاوية ، وأعرب له ان الإسلام لا يقر ذلك بحال من الأحوال ، وهذا نصها :

« من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية أما بعد : فان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الولد للفراش ، وللعاهر الحجر والسلام »(١)

وقال «ع» له في حضور معاوية وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم : « وما أنت يا زياد وقريشا؟ لا أعرف لك فيها أديما صحيحا ، ولا فرعا نابتا ، ولا قديما ثابتا ، ولا منبتا كريما ، بل كانت أمك بغيا تداولها رجال قريش وفجار العرب فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا ـ يعنى معاوية ـ بعد ممات أبيه ، مالك افتخار ، تكفيك سمية ويكفينا رسول الله (ص) »(٢) .

٢ ـ الإمام الحسين :

ولما رأى سيد الشهداء الإمام الحسين معاوية قد حمل معول الهدم على جميع الأسس الإسلامية اندفع (ع) ثائرا في وجهه ورفع له رسالة سجل فيها موبقاته ، وقد عرض فيها استلحاقه لزياد ، وهذا نص ما كتبه في ذلك :

« أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر ،

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧٣.

(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ١ / ٥٨.

١٧٥

فتركت سنة رسول الله تعمدا واتبعت هواك بغير هدى من الله »(١) .

٣ ـ يونس بن عبيد :

وكان يونس بن عبيد ممن حضر هذه المأساة ، وشاهد فصولها ، فانطلق إلى معارضة معاوية وإلى الإنكار عليه قائلا :

« يا معاوية قضى رسول الله (ص) ان الولد للفراش ، وللعاهر الحجر وقضيت أنت أن الولد للعاهر مخالفة لكتاب الله تعالى ، وانصرافا عن سنة رسول الله بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان ».

فانبرى إليه معاوية يتهدده ويتوعده بالقتل قائلا :

« والله يا يونس لتنتهي أو لأطيرن بك طيرة بطيئا وقوعها ».

فقال له يونس : « هل إلا إلى الله ، ثم أقع؟ ».

قال له معاوية : ـ نعم ـ(٢) .

٤ ـ عبد الرحمن بن الحكم :

وما رضى بهذا الاستلحاق حتى بنو أمية ، فقد نقموا عليه ذلك فقد أقبل عبد الرحمن بن الحكم ومعه جماعة من بني أمية فقال عبد الرحمن لمعاوية :

« يا معاوية ، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا ـ يعني على بني العاص قلة ـ وذلة ».

فالتفت معاوية إلى مروان قائلا :

« اخرج عنا هذا الخليع ».

« أى والله إنه لخليع ما يطاق ».

__________________

(١) رجال الكشي ص ٣٣.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣١١.

١٧٦

فقال معاوية : « والله لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق ، ألم يبلغنى شعره في وفي زياد ».

قال مروان وما ذا قال؟ :

ـ إنه يقول :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

لقد ضاقت بما يأتي اليدان

أتغضب أن يقال أبوك عف

وترضى أن يقال أبوك زاني

فاشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد انها حملت زيادا

وصخرا من سمية غير دان

وتألم معاوية حينما قرأها فقال : والله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه.

وخرج عبد الرحمن وقد غضب عليه معاوية ، فجاء إلى الكوفة وقصد زيادا يعتذر منه فاستأذن عليه بالدخول فلم يأذن له ، وتوسط في شأنه وجهاء قريش فسمح له بالدخول ، فلما دخل عليه أعرض عنه ، ثم التفت له قائلا :

« أنت القائل؟ ما قلت!! ».

ـ ما الذي قلت؟.

ـ قلت ما لا يقال!!

ـ أصلح الله الأمير أنه لا ذنب لمن أعتب ، وإنما الصفح عمن أذنب فاسمع مني ما أقول :

ـ هات ما عندك.

إليك أبا المغيرة تبت مما

جرى بالشام من خطل اللسان

وأغضبت الخليفة فيك حتى

دعاه فرط غيظ أن هجاني

وقلت لمن لحاني فى اعتذاري

إليك أذهب فشأنك غير شاني

١٧٧

عرفت الحق بعد ضلال رأيى

وبعد الغي من زيغ الجنان

زياد من أبي سفيان غصن

تهادى ناضرا بين الجنان

أراك أخا وعما وابن عم

فما أدري بعيب ما تراني

وإن زيادة في آل حرب

أحب إلي من وسطى بناني

ألا بلغ معاوية بن حرب

فقد ظفرت بما تأتي اليدان

فقال زياد :

« أراك أحمق صرفا شاعرا صنع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطا ومسخوطا ولكنا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك ».

ـ تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني.

ـ نعم.

ثم دعا كاتبه فرسم له العفو والرضا ، فأخذ الكتاب ومضى إلى معاوية فلما قرأ الأبيات قال :

« لحا الله زيادا ألم ينتبه لقوله : وإن زيادة في آل حرب؟ ».

ثم رضى عن عبد الرحمن ورده إلى حالته الأولى(١) .

٥ ـ أبو العريان :

وكان أبو العريان شيخا مكفوفا ذا لسان وعارضة شديدة فاجتاز عليه زياد فى موكبه فقال أبو العريان :

« ما هذه الجلبة؟ ».

« إنه موكب زياد بن أبي سفيان ».

« والله ما ترك أبو سفيان إلا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمدا فمن أين جاء زياد؟ ».

__________________

(١) شرح ابن أبى الحديد ٤ / ٧١ ، الإستيعاب ١ / ٥٥٢ ـ ٥٥٤.

١٧٨

ونقل المتزلفون حديث أبي العريان إلى زياد فأشار عليه بعض خواصه أن يوصله بالمال حتى يكف لسانه عنه ، فاستصوب الرأي وأمر له بمائتي دينار فجاء بها الرسول إليه ، فقال له :

« يا أبا العريان ابن عمك زياد الأمير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها » فلما سمع أبو العريان بذلك طار فرحا فقال :

« وصلته رحم أى والله ابن عمي حقا ».

واجتاز موكب زياد عليه في اليوم الثاني ، فسلم عليه زياد ، فبكى أبو العريان ، فقيل له :

« ما يبكيك؟ ».

« عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد ».

هكذا تفعل المادة بالضمائر القذرة التي لم تنطبع فيها العقيدة ، وكان أبو العريان عاريا من الإيمان فتغير بهذه الصلة الضئيلة ، ولما سمع حديثه معاوية كتب إليه :

ما ألبثتك الدنانير التي بعثت

أن لونتك أبا العريان الوانا

أمسى إليك زياد فى أرومته

نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا

لله در زياد لو تعجلها

كانت له دون ما يخشاه قربانا

فلما قرأت على أبي العريان هذه الأبيات أجابه :

احدث لنا صلة تحيا النفوس بها

قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا

أما زياد فقد صحت مناسبه

عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا

من يسد خيرا يصبه حين يفعله

أو يسد شرا يصبه حيثما كانا(١)

٦ ـ أبو بكرة :

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧١.

١٧٩

ومن جملة الناقمين على معاوية والناقدين لزياد على هذا الاستلحاق الفظيع أبو بكرة(١) أخو زياد ، فقد أنكر على أخيه أشد الإنكار ، فقاطعه ولم يتصل به ، ولما عزم زياد على السفر إلى بيت الله الحرام أقبل إليه أبو بكرة فلما بصر به بعض الحرس أقبل مسرعا إلى زياد ، فقال له :

« أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر ».

ـ ويحك أنت رأيته؟.

ـ ها هو ذا قد طلع!!.

أقبل أبو بكرة فوقف على رأس زياد وكان قد احتضن غلاما له فوجه أبو بكرة خطابا إلى الغلام ولم يوجهه إلى زياد ترفعا واستحقارا له :

« يا غلام ، إن أباك ركب في الإسلام عظيما ، زنى أمه وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط ، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك يوافى الموسم غدا ، ويوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي من أمهات المؤمنين ، فان جاء ان يستأذن عليها فأذنت له فاعظم بها

__________________

(١) أبو بكرة : اسمه نفيع بن الحارث بن كلدة ، قيل اسم أبيه مسروح ، وكان عبدا للحارث ، فاستلحقه الحارث وهو أخو زياد ، وإنما لقب بأبى بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف ببكرة إلى النبيّ (ص) فلذا سمى بهذا الاسم ، وارتكب جريمة هو وجماعة من أصحابه فجلدهم عمر بن الخطاب ثم تابوا ، فكان يقبل شهادتهم بعد التوبة إلا أبا بكرة فانه لم يجز شهادته ، قال ابن سعد مات بالبصرة في ولاية زياد ، وقال المدائني : مات سنة ٥٠ هج ، وقيل مات هو والحسن (ع) في سنة واحدة ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٦٩ وجاء في الإستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ٣ / ٥٣٧ أن أبا بكرة أوصى بنيه حين الوفاة فقال لهم : « إن أبي مسروح الحبشي ».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

وقالعليه‌السلام : « من كسل عمّا يُصلحُ به أمر معيشته فليس فيه خير لأمر دُنياهُ »(١) .

وقالعليه‌السلام : « ليس منّا من ترك دُنياهُ لآخرته، ولا آخرته لدُنياهُ »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « لا تكسل عن معيشتك فتكُون كلاًّ على غيرك ( أو قال: على أهلك ) »(٣) .

وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى ليُبغضُ العبد النوّام، إنّ الله تعالى ليُبغضُ العبد الفارغ ( العاطل ) »(٤) .

وحثّ على العمل والسعي والاشتغال بكلّ عمل مفيد كالتجارة والزراعة، والصناعة وما شابهها من الاُمور التي تدرّ على الإنسان بالرزق الحلال وتؤدّي إلى إنعاش الاقتصاد وإليك طائفة من الروايات في هذا المجال :

قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « العبادةُ سبعُون جُزءاً أفضلُها طلبُ الحلال »(٥) .

وقال: « من المـُروّة استصلاحُ المال »(٦) .

وقال: « اتّجرُوا بارك الله لكُم »(٧) .

وقال: « نعم العونُ على تقوى الله الغنى »(٨) .

وروي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا أقبل من غزوة تبوك استقبله سعد الانصاريّ فصافحه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال له: « ما هذا الذّي أكبت ( أخشن ) يديك ؟! »

قال يا رسول الله: أضرب بالمرّ والمسحاة فأنفقه على عيالي، فقبّل يده رسول الله، وقال: « هذه يد لا تمسّها النّارُ »(٩) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : « إنّ الله تبارك وتعالى يُحبّ الـمُحترف الأمين »(١٠) .

__________________

(١ و ٣ و ٥ و ٧) الوسائل ١٢: ٥٨، ٣٧، ١٣، ٥.

(٢ و ٤ و ٦ و ٨ و ١٠) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤، ١٠٣، ١٠٢، ٩٤، ٩٥.

(٩) اُسد الغابة ٢: ٢٦٩.

٤٨١

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إن الله ليُحبُّ الاغتراب في طلب الرّزق »(١) .

وقال أيضا: « نعم العون: الدّنيا على الآخرة »(٢) .

وقال أيضا: « إنّي لأُحبّ أن أرى الرجُل مُتحرّفاً [ أو متبكّراً ] في طلب الرّزق »(٣) .

وكان الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يخرج في الهاجرة ( وقت الظهر ) في الحاجة قد كفيها، يريد أن يراه الله يتعب نفسه في طلب الحلال »(٤) .

وقال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « طلبُ الحلال فريضة على كُلّ مُسلم ومُسلمة »(٥) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « كان أمير المُؤمنين يحتطبُ ويستقي ويكنسُ، وكانت فاطمةُ تُطحنُ وتعجنُ وتخبزُ »(٦) .

وقال أيضا: « الكادّ على عياله من حلال كالمـُجاهد في سبيل الله »(٧) .

وقال أيضا: « إصلاحُ المال من الإيمان »(٨) .

وعن الفضل بن أبي قرّة قال: دخلنا على أبي عبد الله [ الصادق ] وهو يعمل في حائط له فقلنا: جعلنا الله فداك دعنا نعمل لك، أو تعمله الغلمان، قال: « لا، دعُوني فإنّي أشتهي أن يراني الله عزّ وجلّ أعملُ بيدي وأطلبُ الحلال في أذى نفسي »(٩) .

وقال: الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام : « إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً »(١٠) .

وقال: « لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث: الفقه في الدّين وحسن التّقدير في المعيشة والصّبر على الرزايا »(١١) .

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤، ٩٥، ٩٥، ٩٩.

(٥) بحار الأنوار ١٠٣: ٩.

(٦ و ٧ و ٨) من لا يحضره الفقيه ٣: ١٠٤.

(٩ و ١٠) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤ و ٩٨.

(١١) تحف العقول: ٣٢٤.

٤٨٢

وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه قال رأيت أبا الحسن [ الكاظم ]عليه‌السلام يعمل في أرض له، وقد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال ؟ فقالعليه‌السلام : « يا عليّ عمل باليد من هو خير منّي ومن أبي في أرضه » فقلت: من هو ؟ فقال: « رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وآبائي: كلّهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النّبيّين والمرسلين والصّالحين »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « تعرّضوا للتّجارات فإنّ لكم فيها غنىً عمّا في أيدي النّاس »(٢) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل النّاس عملاً أحلّ ولا أطيب منه »(٣) .

وقال أيضا: « الزّارعون كنوز الأنام يزرعون طيّباً أخرجه الله عزّ وجلّ وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلةً يدعون المباركين »(٤) .

وقال: « الّذي يطلب من فضل الله عزّ وجلّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله »(٥) .

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « طلب الكسب فريضة بعد الفريضة »(٦) .

ولعلّ أجمع ما ورد حول تشجيع الزراعة والصناعة والعناية بالاقتصاد في الإسلام هو ما كتبه الإمام عليّعليه‌السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ حينما ولاّه على مصر إذ قال: « وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم، لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج وأهله.

وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٨.

(٢ و ٣ و ٤) وسائل الشيعة ١٢: ٤ ـ ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٥) الكافي ٥: ٨٨.

(٦) بحار الأنوار ١٠٣: ١٧.

٤٨٣

يُدركُ إلّا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً. فإن شكوا ثقلاً أو علّةً أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ».

ثمّ يقول: « ثمّ استوص بالتجّار وذوي الصّناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلاّبها من المنافع والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك وتفقّد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك وأعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فانّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف ».

إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الوافرة التي يضيق بذكرها المجال.

موضع الزهد والتوكّل في الإسلام

ربّما يتوهّم وجود المنافاة بين دعوة الإسلام إلى العمل ونبذ الكسل وما يدلّ على لزوم الزهد والتوكّل على الله في الاُمور، وهذا وهم يقف على بطلانه من له إلمام بالكتاب والسنّة، فإنّ الزهد الذي ندب إليه الإسلام، والتوكّل الذي حثّ عليه ليس بمعنى ترك تحصيل الدنيا وترك الاشتغال والعمل، وإنّما يراد من الزهد عدم التعلّق بالدنيا كما فسّرته الأحاديث الشريفة ومنها قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : « الزّهد في الدّنيا قصر الأمل، وشكر كلّ نعمة والورع عمّا حرّم الله عليك »(١) .

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩، ونهج البلاغة: الخطبة رقم ٧٩.

٤٨٤

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ليس الزّهدُ في الدّنيا بإضاعة المال، ولا بتحريم الحلال بل الزّهدُ في الدّنيا أن لا تكون بما في يدك أوثقُ منك بما في يد الله عزّ وجلّ »(١) .

وعن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « الزّهدُ بين كلمتين من القُرآن: قال الله سُبحانهُ:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ومن لم يأس على الماضي، ولم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزّهد بطرفيه »(٢) .

وعن الإمام عليّ بن الحسين السجّادعليه‌السلام أنّه جاءه رجل فقال له :

فما الزهد قال: « الزّهدُ عشرُ درجات، فأعلى درجات الزّهد أدنى درجات الرّضا، ألا وإنّ الزّهد في آية من كتاب الله( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) »(٣) .

وأمّا التوكّل على الله فلا يعني ترك العمل بل يعني أن يتوسّل الإنسان بكلّ الأسباب الظاهريّة لقضاء حوائجه، ولكي يرفع كلّ نقص في الأسباب الطبيعيّة يستمدّ المدد والعون من الله، ويستعينه على التوفيق.

إنّ الإنسان المتوكّل يعلم أنّه يعيش في عالم الأسباب والمسبّبات وأنّ إرادة الله تعلّقت بأن يتوصّل الإنسان إلى مقاصده عن طريق هذه الأسباب، فيكون التمسّك بهذه الأسباب أخذاً بأمره، واتّباعاً لقانونه، ولكن حيث إنّ هذه العلل والأسباب قد تقصر عن اداء المطلوب، أو ربما لا يتعرّف الإنسان عليها أو على بعضها أو ربّما يعوقه عائق فإنّ الله يأمر المسلم بأن يتّكل على قدرة الله المطلقة، ويطلب منه العون والمدد على قضاء حوائجه دون أن يقنط أو ييأس اتّجاه هذه المشاكل، ويزداد هذا المعنى وضوحاً إذا علمنا بأنّ الحثّ على التوكّل والأمر به جاء في سياق آيات الجهاد والقتال والمرابطة، والعمل، والاجتهاد وقد خاطب الله ـ في الأغلب ـ به المجاهدين، وإليك طائفة من هذه الآيات، قال سبحانه:( إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩.

(٢) نهج البلاغة: الحكم رقم ٤٣٩.

(٣) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩.

٤٨٥

المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران: ١٢٢ ).

وقال:( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران: ١٧٣ ).

وقال:( نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ *الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( العنكبوت: ٥٨ ـ ٥٩ ).

وقال:( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

وخلاصة القول: أنّ التوكّل على الله ليس بالمعنى المحرّف الذي ذهب إليه فريق من الناس من أنّه ترك العمل والجهد والسعي، بل يعني أنّ الإنسان قد يواجه في حياته مشكلات يعجز عن التغلّب عليها وتجاوزها فعليه أن يستمد العون من الله تعالى، وبهذا الطريق يحارب اليأس، وتزداد روحه قوّة وصموداً، ويتغلّب على مشكلاته.

وبعبارة اُخرى: إنّ التوكّل هو قسم من التوحيد الأفعالي الذي يعني أن يعتقد المسلم بأنّه لا مؤثّر مستقل في الوجود إلّا الله سبحانه، وأمّا غيره فليست إلّا مؤثّرات وعوامل بإذنه ومشيئته سبحانه، وبهذا لا يكون التوكّل منحصراً في صعاب الاُمور، بل يعمّ هيّنها وصعبها جميعاً لأنّ معناه ـ حينئذ ـ هو أنّ العبد لا يقوم بفعل مهما كان سهلاً أو صعباً إلّا بحول الله وقوّته وإلاّ بعونه وطوله سبحانه وتعالى، وأنّ جميع الأسباب مؤثّرة بإذنه سبحانه، ولعلّ الحديث التالي أوضح برهان على ما ذكرناه في معنى التوكّل مضافاً إلى ما سبق من الأحاديث :

عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد الله [ الصادقعليه‌السلام ]: « ما فعل عُمرُ بنُ مُسلم » قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة، فقال :

« ويحه أما علم أنّ تارك الطّلب لا يستجاب له ».

إنّ قوماً من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا نزلت( وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا، فبلغ

٤٨٦

ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليهم وقال: « ما حملكم على ما صنعتم ؟ » فقالوا: يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، قال: « إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطّلب »(١) .

٣. الإسلام يقرّ مبدأ التنافس

إنّ الإسلام لم يكتف بالحثّ على العمل والسعي بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أقر التنافس السليم لأنّ ذلك يوجب تفتّح المواهب وتحرّك القابليّات الذي من شأنه تقدّم الاقتصاد، بل وازدهار الحياة، ولذلك فهو يقرّ كلّ ملكيّة حاصلة عن سبب مشروع كائناً من كان صاحبها، فلا يؤمم وسائل الإنتاج بصورة مطلقة لأنّ ذلك يقتل الدوافع الذاتيّة لدى الأفراد، ويقضي على الحوافز الشخصيّة، ويوجب ذلك شلل الاقتصاد كما هو الحال في الأنظمة الاشتراكيّة، ولكنّه منعاً من ظهور الرساميل الكبيرة ـ جدّاً ـ جعل الإسلام المنابع الطبيعيّة ـ التي سيوافيك ذكرها في الأنفال ـ في ملكيّة الدولة الإسلاميّة.

ولا يخفى أنّ الكثير من الرساميل والثروات الضخمة الهائلة جداً تنشأ عادة من استيلاء الأفراد على هذه المنابع واستقلالهم ـ دون الناس ـ باستثمارها واستخراجها دون رقيب، وبلا حساب، ويكفي أن نعرف أنّ في إيران وحدها (٨٠٠) نوعاً من المعادن الغنيّة جدّاً، في حين لا يستثمر سوى عُشر هذه المعادن لا أكثر وهي تشكّل ثروات لا يمكن تحديد عائداتها إطلاقاً ولقد كان استثمار أكثر هذه المعادن في العهد المباد يعود إلى جماعة خاصّة من الرأسماليين الكبار الذين كنزوا من عائداتها ثروات لا تحدّ ولا تعدّ.

إنّ الإسلام بتأميمه للثروات الطبيعيّة وجعلها للعموم منع من ظهور الملكيّات الهائلة.

هذا مضافاً إلى أنّ الدولة الإسلاميّة يجوز لها أن تمنع الأفراد من توظيف الأموال في

__________________

(١) نور الثقلين ٥: ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

٤٨٧

الأقسام الضخمة والكبيرة كالصنائع الاُمّ، وشركات انتاج الطاقة وإسالة المياه، والمواصلات الجويّة وما شابه، ممّا يدرّ بالدخل غير المحدود على أصحاب تلك الأموال، حتّى يمنع من ظهور الفوارق الطبقيّة العميقة الناشئة من حصول أمثال تلك الثروات الهائلة للأفراد.

إنّ الإسلام وإن أقرّ مبدأ التنافس وترك المجال مفتوحاً أمام الساعين والعاملين إلّا أنّ هذا لم يمنعه من تحديد الملكيّة حتّى لا تطغى، فقد منع من ظهور الملكيّات الطائلة بالطرق التالية :

أوّلاً: تأميم المصادر الطبيعيّة وجعلها ملكاً للدولة لا للأفراد.

ثانياً: إنّه جوّز وفقا للمصالح العامّة للدولة الإسلاميّة منع الأفراد من توظيف رؤوس الأموال في الصناعات الكبرى ذات العائدات غير المحدودة.

ثالثاً: فرض الضرائب التصاعديّة الدائميّة، والاستثنائيّة في بعض الأحيان المقتضية لذلك.

رابعاً: تهيئة فرص العمل والتقدّم لجميع الأفراد من الاُمّة بإعطاء المعونات الماليّة لهم، والسماح للجميع بامتلاك وسائل الإنتاج بصورة مستقلّة أو على نحو الشركة حتّى يتخلّص العامل من استثمار أرباب العمل واستغلالهم له، وإجباره على القبول باجور زهيدة، والرضوخ لشروط مجحفة.

٤. الحريّة الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ

إنّ إقرار مبدأ التنافس والدعوة إليه يطرح مسألة الحريّة، إذ بدون الحريّة لا يمكن التنافس، فهل توجد الحريّات في ظلّ الأنظمة غير الإسلاميّة ؟

إنّ مراجعة سريعة للنظريّة والتطبيق تهدينا إلى أنّه لا توجد أيّة حريّات في النظام الاشتراكيّ إطلاقاً، وأمّا في النظام الرأسماليّ فلا تعني الحريّة سوى إطلاق العنان لجماعة خاصّة ومن يدور في فلكهم، في تكديس الثروة كيفما اتّفق والمضي بلا حدود في إشباع

٤٨٨

الشهوات والنزوات الحيوانيّة وإن أضرّت بالأخلاق، وأساءت إلى القيم الإنسانيّة الرفيعة، بينما تخضع ( الحريّة ) في النظام الإسلاميّ لحدود معقولة إنسانيّة، لأنّها لا تعني في منطقه إلّا إفساح المجال للمواهب والقابليّات البشريّة للتكامل، والانطلاق في دروب التقدّم والرقي، والاستفادة من مواهب الله في الطبيعة دون اعتداء على عقيدة الآخرين وأخلاقهم وأمنهم وراحتهم.

إنّ الإسلام يعتقد بحريّة الإنسان في مسكنه ومعمله، وفي كلّ مجالات حياته ولكن في إطار الأخلاق والإنسانيّة وقيم الدين، التي من شأنها توظيف الحريّة في سبيل إسعاد الإنسان.

وقد مرّ مجمل القول في ذلك عند البحث عن خصائص الحكومة الإسلاميّة الخصيصة السادسة.

٥. الإنتاج في إطار الإنسانيّة

إنّ كلا المنهجين ( الرأسماليّ والاشتراكي ) لا يعترفان بمانع ولا حاجز في طريق الإنتاج، فهما يطلبان المزيد منه بالعمل والسعي ويرفضان كلّ قيد وشرط في هذا السبيل إلّا إذا كان يساعد بدوره على تصعيد الإنتاج، واستدرار المزيد من الأرباح والعائدات !! بينما يقيم الإسلام بعض الموانع، ويضع بعض القيود في هذا السبيل، ويقيّد العمل والإنتاج ببعض الشروط والحدود، فلا يمكن للناس أن ينتجوا كل ما تهواه نفوسهم حتّى إذا كان يعود على أخلاقهم وعقيدتهم وحياتهم بسوء أو أذى، فحتّى الأسلحة والوسائل الحربيّة التي يسمح الإسلام بإنتاجها، إنّما يسمح به لأجل الدفاع عن حوزة الإنسان والإنسانيّة، ولأجل تحصين البشر من شرّ أنفسهم، وها هو القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بقوله:( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ) ( الأنبياء: ٨٠ ).

٤٨٩

٦. العدالة الاجتماعيّة هو الهدف الأسمى

إنّ العدالة الاجتماعيّة هي الأصل والأساس، وهي الهدف الأسمى والمطلب الأعلى في الاقتصاد الإسلاميّ، وهو أصل حاكم على كلّ برامجه، ومقرّراته وتعاليمه.

إنّ تمركز الثروة عند طبقة خاصّة وتكدّسها عند جماعة معدودة أمر مرفوض في منطق الإسلام رفضاً قاطعاً، لأنّه يتنافى وأصل العدالة الاجتماعيّة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها ونشرها في المجتمع البشريّ، فيجب على ( الحاكم الإسلاميّ ) أن يخطّط للاقتصاد تخطيطاً يضمن تداول الثروة بين جميع أبناء الاُمّة بصورة عادلة، ويحول دون تداولها بين الأغنياء خاصّة الذي منع عنه القرآن الكريم بقوله:( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) ( الحشر: ٧ ).

ولأجل ذلك حرّم الإسلام ( الكنز )(١) كما يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة: ٣٤ ).

ولتحقيق هذه العدالة الاجتماعيّة المتوخّاة، يرفض الإسلام أي تمييز واستثناء بين أفراد الاُمّة الإسلاميّة، ومن هنا لا تختصّ المنابع الطبيعيّة التي سنشرحها في الأنفال والأرض منها خاصّة، بفئة دون فئة، أو فرد دون فرد، أو طبقة دون طبقة بل للدولة الإسلاميّة حقّ النظارة وأولويّة الاستفادة منها وصرف عائداتها في مصالح الشعب بلا تمييز ولا استثناء، أو قيام أفراد الشعب بأنفسهم باستثمار تلك المنابع حسب الضوابط التي تستوجبها المصلحة الراهنة.

٧. لا إسراف ولا تبذير

كما أنّ الإسلام خطى خطوة اُخرى في سبيل تحقيق هذه العدالة فنهى عن الإسراف والتبذير لأنّ في ذلك إهدار للطاقات، وتضييع لحقوق الآخرين، وهو أمر

__________________

(١) وللبحث حول حقيقة الكنز وبماذا يتحقّق مجال آخر.

٤٩٠

مخالف لأصل العدالة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها. يقول الله سبحانه:( وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) ( الاسراء: ٢٦ ـ ٢٧ ).

ويقول سبحانه:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف: ٣١ ).

٨. الأخلاق عامل أصيل

إنّ جميع المفاهيم الأخلاقية لا معنى لها ولا مبرّر في النظامين الاقتصادييّن ( الرأسماليّ والاشتراكيّ ) إلّا إذا ساعدت على زيادة الإنتاج وزيادة الاستهلاك وإنجاح الأهداف الاقتصاديّة، بل إنّ الفكر الاشتراكيّ يعتبر الأخلاق وليدة الظروف الاقتصاديّة، وبذلك تعتقد بعدم أصالتها في الحياة البشريّة، ولكن الإسلام يعتبر لهذه المفاهيم أصالة وواقعيّة بصرف النظر عن القضايا الاقتصاديّة وإن كانت ترتبط بها أحياناً.

ولهذا ورد الحثّ عليها حثّاً مطلقاً وأكيداً فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله يحبّ مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها »(١) .

وعن أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّها، وإيّاكم ومذامّ الأخلاق فإنّ الله عزّ وجلّ يبغضها »(٢) .

فالذي يطلب الدنيا وشهواتها ولذائذها ويضحّي في سبيل ذلك بكلّ القيم والأخلاق فهو إنسان في صورته وحيوان في سيرته كما قال الإمام عليّعليه‌السلام : « فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه فذلك ميت الأحياء »(٣) .

__________________

(١) سفينة البحار ١: ٤١١.

(٢) وسائل الشيعة ( كتاب جهاد النفس ) ١١: ١٥٦.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ٨٣.

٤٩١

هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام يعتبر العامل الأخلاقيّ خير وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة التي ينشدها، ويعزّي أكثر الانحرافات الاقتصاديّة إلى انعدام الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانيّة.

٩. الاقتصاد وسيلة لا هدف

إنّ كلا المنهجين الرأسماليّ والاشتراكيّ يجتهدان لتحقيق أهداف ثلاثة لا شيء وراءها :

١. التخطيط لما يجب إنتاجه من البضائع.

٢. التفكير في الكيفيّة التي يجب الإنتاج بها من حيث الوسائل، والقوى العاملة.

٣. التفكير في كيفيّة التوزيع، والتخطيط لذلك.

إنّ أفضل نظام اقتصاديّ في نظر أصحاب هذين النظامين، هو الذي يقدر على ضمان هذه الاُمور الثلاثة وإعطاء الاقتراحات المناسبة لذلك بأحسن وجه، وأمّا ما هو الهدف الأصليّ من تحقيق هذه الأهداف الثلاثة ؟ فلم يفكّر فيه النظامان المذكوران، ولا أنّهما أجابا عليه.

ويمكن أن يقال: إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست من اختصاص النظام الاقتصاديّ، بل هو من مسؤوليّة العالم الفلسفيّ، وشؤونه، بيد أنّنا عندما نراجع العالم الماديّ الذي يستند إليه هذان النظامان لا نجد عنده جواباً كذلك.

من هنا لا بدّ أن نعتبر هذه الأهداف الثلاثة مثلّث الضياع والعبث والحيرة فالذي يلاحظ هذا المثلّث: ( العمل لأجل الأكل، والأكل لأجل البقاء، والبقاء لأجل العمل ) لا يرى فيه سوى العبث واللاهدفيّة والضياع.

إنّ مثل هؤلاء مثل سفينة يجهّزها صاحبها بأحسن الوسائل، ويملأها بأنواع الزاد، ويحمل الناس فيها، ثمّ يسافر بها إلى وسط المحيط حيث لا يرى للماء ساحل، ثمّ

٤٩٢

يصير هناك حيران لا يعرف مقصداً، ولا يطلب هدفاً، أو يرجع إلى مكانه الأوّل.

إنّ الذاهبين إلى تلخيص الحياة في الهدف الماديّ مثلهم كمثل هذا الربّان لا يهدفُ من رحلته مقصداً ولا يقصد منها غاية وهل أمر ذلك إلّا في خسار.

أجل، هذا هو كلّ ما يقصده ويسعى إليه النظامان الاقتصاديّان الرأسماليّة والاشتراكيّة: زيادة في الإنتاج، وتخطيط للتوزيع، وتطوير في وسائل الإنتاج، ولا شيء وراء ذلك، ولكنّ الإسلام يعالج هذه المسألة معالجة منطقيّة واقعيّة فهو يعتبر الدنيا مقدّمة للآخرة ومزرعة لها، وأنّ على الإنسان أن لا يحصر اهتمامه في هذه الحياة العابرة، بل يسعى للآخرة دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، كما قال الله تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( القصص: ٧٧ ).

ولابد هنا من الإشارة إلى المواضيع التي تضمّنتها هذه الآية :

إنّ قوله تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) يشير إلى أنّ طلب الدنيا يجب أن يكون لأجل الآخرة فتكون الآخرة هي المقصد والغاية، وحيث أمكن أن يتوهّم من هذا الكلام أنّ الإسلام يدعو إلى الرهبنة وترك الدنيا، إستدرك الله سبحانه ذلك بقوله:( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) فأفاد بذلك أنّه لا رهبانيّة في الإسلام.

فعلى المسلم أن يقصد الآخرة ويهدفها ولكن دون أن ينسى نصيبه من الدنيا إذ لا معاد لمن لا معاش له.

وأمّا قوله سبحانه:( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) فهو إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يعلم بأنّ ما وصل إليه إنّما هو بإحسان الله إليه، فعليه أن يقابل ذلك الإحسان بأداء ما افترض الله عليه من حقوق والقيام بما ندبه إليه من واجبات اجتماعيّة.

وقوله سبحانه:( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) إشارة إلى كيفيّة الإنفاق والمصرف، فعلى المسلم أن لا ينفق في باطل، ولا يسرف ولا يبذّر ولا يعبث ولا يصرف مال الله في لهو أو فساد.

٤٩٣

١٠. الإنسان محور وليس آلة

إنّ للإنسان ـ في الاقتصاد الإسلاميّ ـ مقاماً رفيعاً، وشأناً كبيراً، فهو لم يخلق للإنتاج والاستهلاك، وهو لم يأت إلى هذه الحياة ليكون مسماراً في معمل أو حيواناً مستهلكاً في زريبة. بل هو كائن مكرّم خلقت الأشياء لأجله ولم يخلق هو لأجلها ولذلك فليس الإنسان عبداً أسيراً بيد الاقتصاد، وآلة طيّعة بأيدي الاقتصاديّين ليستغلّوه كيفما شاؤوا، ويستخدموه كيفما أرادوا، كيف وقد جعله الله حرّاً كما قال الإمام عليّعليه‌السلام : « لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً »(١) .

وأيّة عبوديّة أشدّ وأوضح من تعلّق الإنسان بالمال، وفنائه في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك ؟ وهل جاء الإنسان إلى هذه الحياة ليفعل ما تفعله الحيوانات في حظائرها وزرائبها كما يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « ما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها، وتلهو عمّا يراد بها، أو اترك سدىً، أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة أو اعتسف طريق المتاهة »(٢) .

فذلك لا يتفق مع المكانة التي رشّحه الله سبحانه لها، والمقام الذي ندبه إليه، وهو مقام الخلافة الإلهيّة في الأرض، التي صرح بها القرآن الكريم إذ قال:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة: ٣٠ ).

وهو الذي كرّمه الله سبحانه، وفضّله على كثير ممّن خلق إذ قال:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ( الإسراء: ٧٠ ).

إنّ الإسلام ينظر إلى النوع الإنسانيّ من هذه الزاوية، وبهذا المنظار، فإنّ الإنسان ـ في منطق الإسلام ـ كائن مكرّم، ذو مكانة رفيعة فلا تجوز الاستهانة بقيمته، وتلخيص

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٣١.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٤٥.

٤٩٤

حياته ووجوده في الإنتاج والاستهلاك، وتلبية الغرائز الحيوانيّة وإشباعها.

وإذا نظر الإسلام إلى القضيّة الاقتصاديّة والاُمور المعيشيّة من مسكن وغذاء وغيرهما، فلأجل أنّ كرامة الإنسان وتكامله يستدعيان ذلك، وبذلك يكون الاقتصاد في نظر الإسلام وسيلة لا هدفاً، وطريقاً لا غاية ونهاية.

من هنا لا يصحّ ـ مطلقاً ـ أن نتوخّى من الاقتصاد الإسلاميّ، ما نتوقّعه من الاقتصادين الرأسماليّ والاشتراكيّ فإنّ هذين المنهجين ينظران إلى الإنسان بما أنّه ( منتج ) أو ( مستهلك ) ولا تهمّهما كرامته وشخصيّته، ومن هنا كان الاقتصاد في هذين المنهجين هدفاً وغاية، وكان الإنسان فيهما وسيلة وآلة، فلا اعتناء بشأنه، ولا اهتمام بكرامته.

ولا تنس ما ذكرناه في أوّل البحث من أنّ الهدف من هذا الفصل هو بيان مسألة دعوة الإسلام إلى التنمية الاقتصاديّة وبيان إطاراتها دون بيان المنهج الاقتصاديّ للإسلام فإنّ لذلك مجالاً آخر.

٤٩٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٤

الحكومة الإسلاميّة

والصحّة الفرديّة والصحّة العامّة

عناية الإسلام بصحّة الأبدان

لم يحصر الإسلام عنايته بالاُمور الاُخرويّة وحدها، بل عمّم هذه العناية للاُمور الماديّة والدنيويّة أيضًا، وعلّم المسلم أن يطلب من الله سبحانه حسنة الدنيا والآخرة:( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ) ( البقرة: ٢٠١).

ومن هنا اهتمّ الإسلام بالجسد اهتمامه بالروح، وحرص على سلامة الأبدان وتقويتها كما حرص على سلامة الأرواح وتقويتها سواء بسواء، ولأجل هذا نجد القرآن الكريم إذا ذكر نعمة الله على أحد من عباده لم يكتف بذكر النعم المعنويّة كالعلم، بل ذكر إلى جانب ذلك نعمة القوّة البدنيّة، والكمال الجسديّ.

فهو عندما يتحدّث عن ( طالوت ) الذي أرسله الله لقيادة بني اسرائيل قال في وصفه:( إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ

٤٩٦

وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة: ٢٤٧ ).

وهو عندما يتحدّث عن أبرز صفتين من صفات موسىعليه‌السلام على لسان ابنة شعيب يذكر أمانته وقوّته الجسمانيّة فيقول:( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص: ٢٦ ).

إنّ صاحب الجسم العليل لا تتاح له الفرصة الكاملة للسير صعداً في مضمار الحياة، والقيام بواجبه الإنسانيّ كأيّ عضو سليم، صحيح البدن، معتدل البنية من أعضاء المجتمع البشريّ وذلك للصّلة الوثيقة بين الروح والجسدفي الكيان الإنسانيّ والتأثير المتقابل بينهما ومن هنا مدح القرآن الكريم الكمال الجسمانيّ والقوّة البدنيّة، كما مرّ عليك في الآيتين السابقتين، فإنّ القوّة البدنيّة إذا انضمّت إلى سلامة العقل أنتجت جودة الفكر، وحسن التدبير، وسعادة الحياة ولهذا ذكر القرآن بعد مسألة الاصطفاء والاختيار « العلم والقوّة البدنيّة » إيذاناً وإعلاماً بأنّ الاصطفاء والاختيار كان باعتبار القوّة البدنيّة إلى جانب العلم ممّا يعني أنّ للجسم والكمال الجسمانيّ قسط من الثمن، ومدخليّة في السعادة أو الشقاء سلباً أو إيجاباً.

وانطلاقاً من حرص الإسلام على صحّة الأبدان وسلامتها، وقوّتها واستقامتها يرفع الدين أي تكليف شاقّ مضرّ بالبدن، عن الناس، فرفع الله الصيام عن ( المريض ) و ( المسافر )، إذ يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة: ١٨٣ ـ ١٨٤ ).

وإنّما رفع الصوم عن المسافر لأنّ السفر بنفسه مضنّة النصب، وهو من مغيّرات الصحّة فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب والنصب ولهذا أيضاً جوّز القرآن للمحرم المريض أو من به أذى في رأسه أن يحلق رأسه إذا كان إبقاء الشعر يوجب الأذى فقال تعالى:( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن

٤٩٧

رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ( البقرة: ١٩٦ ).

وهو إشارة إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم، للتخلّص من الأذى الحاصل بسبب إبقاء الشعر، وانحباس الحرارة في الرأس، بل يرفع الإسلام كلّ ما يجهد البدن ويتعبه ويضنيه، ويجر إليه التعب والنصب كما يقول القرآن الكريم:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَهَا ) ( البقرة: ٢٨٦ ).

تعاليم القرآن الصحّيّة

وفي هذا السبيل وضع الإسلام سلسلة من التعاليم الصحّية للأبدان من شأنها أن تصون الأبدان من الأمراض، وتقيها من العلل والأسقام لو روعيت حقّ الرعاية وطبقت حقّ التطبيق وقد جاءت طائفة من هذه التعاليم في القرآن الكريم، وتكفّلت السنّة المطهّرة ببيان البقيّة، وها نحن نذكر باختصار ما ذكره القرآن الكريم أوّلا.

لقد حرم القرآن اُموراً ونهى عن اُمور وكره أشياء وأباح اُخرى، وما حرّم ولا نهى، وما كره أو أباح إلّا لحكمة ظاهرة وأثر سيّء أو حسن على سلامة البدن وصحّته، فحرّم أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير بقوله:( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة: ١٧٣ ).

وإنّما حرّم « الميتة » من الحيوان ( وهي التي تفارقها الحياة من دون ذبح ) لأنّ الموت إن كان عن مرض، أضرّ بالإنسان حتّى إذا عقّم لحمها من الجراثيم فهي تسبّب المغص في المعدة، وتسبب النزلات المعويّة، وعشرات المضاعفات الاُخرى.

وحرّم « الدم » لأنّه أفضل مرتع للجراثيم والميكروبات المسبّبة للأمراض الخطيرة.

وحرّم « لحم الخنزير » لما يحدثه من أمراض خطيرة لما يحمله من دودة خاصّة تنتقل بالأكل إلى بدن الإنسان وتحدث لديه أمراضاً كثيرة قد تؤدّي إلى الموت.

وحرّم ـ أيضاً ـ ما يشبه الميتة كالمنخنقة، والموقوذة، والمترديّة، والنطيحة فقال

٤٩٨

سبحانه:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) ( المائدة: ٣ ).

لأنّ الاختناق يجعل لحم الحيوان المخنوق أسرع إلى التعفّن والفساد.

ومثل المنخنقة، الموقوذة، وهي التي تضرب حتّى تشرف على الموت فتترك حتّى تموت، والمتردّية وهي التي سقطت من مكان مرتفع فماتت من أثر صدمة الوقوع، والنطيحة وهي التي ماتت من أثر عراكها مع مثيلاتها من الحيوانات.

وبالجملة فهذه الحالات تجعل بدن الحيوان مرتعاً خصباً لنموّ الجراثيم والميكروبات، ومعرضاً لسرعة التعفّن والفساد.

ولم يقتصر تحريم الإسلام على هذه الاُمور بل حرّم مطلق الخبائث، إذ قال الله سبحانه:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ).

هذا مضافاً إلى أنّه حرّم تناول الخمور ( بل كلّ مسكر(١) كما في الحديث ) بقوله:( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة: ٩٠ ).

__________________

(١) قال الصادقّعليه‌السلام : « حرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسُولُ الله المُسكر من كُلّ شراب فأجاز الله لهُ ذلك كُلّهُ » الكافي ١: ٢٦٦، لقد أسلفنا الكلام في الجزء الأوّل: ٥٥٣ في ماهيّة هذا النوع من التحريم وقلنا: إنّ تحريم رسول الله لشيء يمكن أن يكون بأحد معنيين :

الأوّل: أن يكون طلباً ودعاء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإجابة من الله سبحانه كما يشير بذلك الحديث « فأجاز الله لهُ ذلك ».

الثاني: أن يكون علماً من رسول الله بمناطات الأحكام وملاكاتها الواقعيّة، فعند ذلك يصحّ للرسول أن يحرم المسكر من كلّ شراب لعلمه بمناط الحكم في الخمر.كيف ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أفضل مصاديق من قال فيهم أمير المؤمنينّ عليه‌السلام : « عقلُوا الدّين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية » نهج البلاغة ( طبعة عبده ) الخطبة ٢٣٤.

٤٩٩

وفعل ذلك وقاية للإنسان من كثير من الأمراض والمضاعفات الناجمة عن المسكرات وتخلّصاً من الآثار والعواقب السيئة التي تتركها الخمرة على الجسم والعقل، بل وعلى النسل والذريّة.

كما نهى القرآن الكريم عن الشراهة في الأكل، والإسراف في المطعم والمشرب فقال:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف: ٣١ ).

ومن المعلوم أنّ هذه الآية ـ على قصرها ـ تنطوي على أهمّ قانون من قوانين الوقاية الصحيّة، والحفاظ على سلامة البدن، فالإنسان إذا أكثر من الأكل اُصيب بعسر الهضم الذي يستوجب أمراضاً عديدة للمعدة مذكورة في محلّها.

وفي هذا السياق نجد الإسلام يفرض الصوم على المسلمين فيقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٨٣ )، لما في الصوم من فوائد عظيمة على البدن عرفها العلم الحديث أخيراً، وأخذ به لعلاج الكثير من الأمراض.

ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ، بل كشف القرآن للناس عمّا ينفعهم أو يشفيهم من بعض الأسقام فأشار إلى العسل فوصفه بأنّ فيه شفاء للأسقام إذ قال:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل: ٦٨ ـ ٦٩ ).

كما حثّ على اُمور من شأنها أن توفّر الأجواء الصالحة المناسبة لسلامة البدن في الجانب الفرديّ والاجتماعيّ كالتطهّر والنظافة، فحثّ على التزام التنظّف وتعاهده حتّى أنّ أوّل تعليم تلقّاه النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو:( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) ( المدثر: ٤ ).

وقال مادحاً الذين يتطهّرون:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وقال:( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة: ١٠٨ ).

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529