حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 224876 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فرية على رسول الله (ص) ومصيبة وان هي منعته فاعظم بها على أبيك فضيحة ».

ثم تركه وانصرف ، فقال زياد :

« جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا ساخطا كنت أو راضيا »(١)

٧ ـ يزيد بن المفرغ :

وهجا هذا الشاعر العبقرى زيادا ببيتين من الشعر كانتا وصما عليه وعارا مدى الأجيال والأحقاب وهما :

فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر

هل نلت مكرمة إلا بتأمير

عاشت سمية ما عاشت وما علمت

أن ابنها من قريش في الجماهير

وارتاع زياد وحزن من هذا الهجاء ، فقال :

« ما هجيت قط أشد علي من هذين البيتين »(٢) .

ولم يقتصر هذا الشاعر الفذ على ذلك فقد نظم أقسى الشعر والذعه نقدا وهجاء لزياد ومعاوية على ارتكابهما هذه الجريمة التي انتهكت بها حرمة الإسلام وإليك بعض ما جادت به قريحته وخياله الخصب :

شهدت بأن أمك لم تباشر

أبا سفيان واضعة القناع

ولكن كان أمر فيه لبس

على حذر شديد وارتياع

إذا أودى معاوية بن حرب

فبشر شعب قعبك بانصداع

وقال أيضا :

إن زيادا ونافعا وأبا

بكرة عندي من أعجب العجب

__________________

(١) ابن أبي الحديد ٤ / ٧٠ ، الإستيعاب ١ / ٥٥٠ مع اختلاف يسير.

(٢) نهاية الأرب فى فنون الأدب ٣ / ٢٨١ وفي رواية ( ما شجيت بشيء أشد علي من قول ابن المفرغ ).

١٨١

هم رجال ثلاثة خلقوا

في رحم أنثى وكلهم لأب

ذا قرشي كما تقول وذا

مولى وهذا ابن عمه عربي(١)

وذكر المسعودى في « مروج الذهب » ان هذه الأبيات إلى خالد النجاري وانه قال في هجاء زياد لما استلحق به عبادا :

أعباد ما اللؤم عنك محول

ولا لك أم من قريش ولا أب

وقل لعبيد الله مالك والد

بحق ولا يدري امرؤ كيف تنسب

لقد كان استلحاق زياد لعباد على غرار استلحاق معاوية له مخالفا لسنة رسول الله وقد قال (ص) : « من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه فالجنة عليه حرام » وما جرأ زيادا على ارتكاب هذه الموبقة إلا معاوية فهو الذي فتح باب الفساد ، وخالف أحكام الإسلام وتعاليمه وفروضه من دون خيفة ولا حذر.

٨ ـ الحسن البصري :

ومن جملة الناقمين على معاوية والناكرين عليه الحسن البصري(٢) فقد

__________________

(١) الإصابة ١ / ٥٦٣.

(٢) الحسن البصري : أبوه أبو يسار كان مولى لزيد بن ثابت الأنصاري ، وأمه خيرة كانت مولاة لأم سلمة زوج النبي (ص) ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب ، بالمدينة يقال أنه ولد على الرق ، وكان من سادات التابعين وكبرائهم ، توفى بالبصرة مستهل رجب سنة ١١٠ ، وكان تشييعه حافلا لم يشهد له أحد نظيرا ، قال حميد الطويل توفى الحسن عشية الخميس ، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره ، وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به فلم تقم صلاة العصر بالجامع ، ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ لأنهم تبعوا كلهم جنازته ، ولم يبق بالمسجد من يصلي العصر ، ولم يحضر ابن سيرين ـ

١٨٢

جعل هذا الاستلحاق إحدى موبقاته وسيئاته ومردياته فقال : « اربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها ( يعني الخلافة ) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير والديباج ، ويضرب بالطنابير ، وادعاؤه زيادا ، وقد قال رسول الله (ص) : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » ويلا له من حجر وأصحاب حجر مرتين »(١)

وهذه الجرائم الأربعة التي هي بعض موبقات معاوية تعد من أفظع فظع الكبائر التي اقترفها ، وسيحاسب عليها حسابا عسيرا عند الله ، وذلك لما أحدثته من المضاعفات السيئة التي مني بها المسلمون.

٩ ـ السكتواري :

وقال العلامة السكتواري : « أول قضية ردت من قضايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علانية دعوة معاوية زيادا ، وكان أبو سفيان تبرأ منه وادعى أنه ليس من أولاده ، وقضى بقطع نسبه ، فلما تأمر معاوية قربه واستأمره ، ففعل ما فعل زيادا بن أبيه ـ يعني ابن زنية ـ من الطغيان والإساءة في حق أهل بيت النبوة »(٢) .

وهؤلاء بعض الناقمين على معاوية والمنكرين عليه في استلحاقه زيادا ،

__________________

ـ جنازته لشيء كان بينهما ، جاء ذلك في وفيات الأعيان ٤ / ١٢٤ وكان الحسن من المؤازرين لبني مروان حتى قالوا عنه : لو لا لسان الحسن وسيف الحجاج لوئدت الدولة المروانية في لحدها ، وأخذت من وكرها ، وذكر الحفاظ أنه كان مدلسا في حديثه.

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٥٧ ، تأريخ أبي الفداء ١ / ١٩٦.

(٢) محاضرة الأوائل ص ١٣٦.

١٨٣

وهم ـ من دون شك ـ كانوا مدفوعين بدافع العقيدة والغيرة على الإسلام فقد رأوا أن معاوية قد عمد بذلك إلى احياء سنن الجاهلية وبدعها ، واماتة ما فرضه الإسلام ، استجابة لعواطفه ورغبته الملحة في السيطرة على المسلمين وإخضاع القوى المعارضة له بشتى الوسائل والأساليب.

وعلى أي حال فان زيادا قد استخدم جميع الوسائل لإثبات نسبه وإلحاقه بالعنصر الأموي فقد كتب إلى عائشة رسالة افتتحها بقوله : « من زياد بن أبي سفيان » وقد ظن أنها ستقر نسبه فيتخذ من ذلك دليلا يستدل به على صحة نسبه ، ولم يخف ذلك على عائشة فقد أجابته « من عائشة أم المؤمنين إلى ولدها زياد »(١) وقد خاب بذلك سعيه ، وباء بالفشل والخزي ، ولما ولي الكوفة قال لأهلها :

ـ قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم.

ـ أدعنا إلى ما شئت.

ـ تلحقون نسبي إلى معاوية.

فاعلن الأحرار والمؤمنون عدم إجابتهم له قائلين :

« أما بشهادة الزور فلا!! »(٢) .

لقد أبت العرب من أن تلحق هذا الدعي بها ، ولكن السلطة الأموية سجلته في ديوان قريش ، وظل على هذا الحال هو وأبناؤه ولما انقرضت الدولة الأموية وجاءت دولة بني العباس الغى الخليفة المهدي هذا الاستلحاق وأمر باخراج آل زياد من ديوان قريش ومن العرب وذلك في سنة ١٥٩ هج وبذلك فقد عادت ذرية زياد إلى جدها الأول عبيد الرومي.

__________________

(١) النصائح ص ٥٨.

(٢) الطبري ٦ / ١٢٣.

١٨٤

١٥ ـ عماله وولاته :

وعانت الشعوب الإسلامية في أيام معاوية ألوانا مريعة من المحن والخطوب لأن الحكم القائم فيها مبني على العنف والجبروت ، وعلى البطش والإرهاق ، واستنزاف الثروات ، وعلى التنكر لجميع القيم الإنسانية ، حتى ضج المجتمع من الظلم والجور والاستبداد ، فلم تبق حاضرة من الحضّر الإسلامية إلا عمها الخوف ، وساد فيها الإرهاب والاضطراب.

ومن مظاهر ذلك الظلم الاجتماعي أن معاوية سلط على المسلمين حثالة من شذاذ الجلادين والسفاكين ، فاسرفوا في سفك الدماء ، وعمدوا إلى نهب امكانيات البلاد ، وحكموا البلاد حكما كيفيا يستند إلى الأهواء والشهوات فلا عهد له بالدعة والعدل ، وقد وصف الخوارج قسوة ذلك الحكم ومدى شذوذه وجوره ، فقالوا : « إن بني أميّة فرقة بطشهم بطش الجبارين ، يأخذون بالظنة ويقضون بالهوى ، ويقتلون على الغضب »(١) .

وهو وصف دقيق للسياسة الأموية الجائرة التي انتهجت منهج الشدة في جميع مجالاتها ، فلم تؤمن بحقوق الإنسان ، ولا بكرامته ، واستحقاقه الحياة ، فكانت تسوق المواطنين إلى المجازر والسجون ، وتقضي بالهوى والشهوات ، فلا تستند فى حكمها إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وتقتل على الغيظ والغضب في سبيل مصالحها وأهدافها الضيقة.

وقد عبر عمرو بن العاص وزير معاوية ، وو الى مصر عما يكنه في نفسه الشريرة من الاستهتار والاستهانة بحقوق المسلمين ، فقال : « إنما السواد بستان لقريش » إن السواد الذي هو ملك للمسلمين ، وسائر الشؤون الاقتصادية

__________________

(١) البيان ١ / ٩٥.

١٨٥

الأخرى فى رأيه ملك لقريش ، وأي حق لها في ذلك وهي التي ناجزت النبي (ص) وأعلنت الحرب على أهدافه ومبادئه ، ووقفت صامدة تدافع عن جاهليتها وأوثانها ، فأي حق لها بأموال المسلمين ، وأي حق لها في السيطرة على شئونهم.

وعلى أي حال فان كسرى العرب ـ كما يقولون ـ قد مكن المجرمين والسفاكين من رقاب المسلمين ، فاسند لهم الحكم المطلق ، يتصرفون فى العباد والبلاد كيفما شاءوا ، قد أقر جورهم ، وأمضى ظلمهم ، وحمى جانبهم فقاموا بدورهم على استعباد المسلمين وإذلالهم وإرهاقهم ، ونذكر عرضا موجزا من تراجم هؤلاء السفاكين مع بيان بعض ما صدر منهم من الأعمال البربرية ، وإلى القراء ذلك :

١ ـ سمرة بن جندب :

ومن سماسرة معاوية وأعوانه على نشر الظلم والجور سمرة بن جندب الشقي الأثيم ، فقد سودت جرائمه وجه التأريخ وصحائف السير ، وقبل التحدث عن سيرته فى زمن ولايته من قبل السلطة الأموية نذكر ـ بايجاز ـ سيرته أيام النبيّ (ص) ، لقد كان هذا الوغد في زمان النبيّ معروفا بالنفاق والتمرد ، فقد ذكر الرواة انه زاحم أحد الأنصار في نخل ـ وما أهونها ـ كانت له في بستان ذلك الأنصاري فشكا أمره إلى رسول الله (ص) فاستدعى سمرة فلما مثل بين يديه قال (ص) له :

« بع نخلك من هذا وخذ ثمنه ».

ـ لا أفعل.

ـ خذ نخلا مكان نخلك.

ـ لا أفعل.

١٨٦

ـ فاشتر منه بستانه.

ـ لا أفعل.

ـ فاترك لي هذا ولك الجنة.

ـ لا أفعل.

ولما رأى رسول الله (ص) عناد سمرة وشره وخبثه وضراوته وإضراره للأنصاري التفت (ص) ـ والاستياء بادي عليه ـ إلى الأنصاري قائلا :

« اذهب فاقطع نخله فانه لا حق له فيه »(١) .

وتدل هذه القصة على تمادي سمرة فى الأثم والشقاء ، وانعدام الانسانية والمثل الكريمة من نفسه فقد ترجاه سيد النبيين وأشرف المخلوقين في حسم النزاع والخصومة ، وضمن له عوض تلك النخيلات الزهيدة بقعة في الفردوس مقر الأنبياء والصالحين يتنعم فيها فلم يجبه وأصر على تمرده وعصيانه فحرم نفسه السعادة ورضى لها بالشقاء ، ومن موبقات سمرة ومردياته انه كان يبيع الخمر بعد ما حرمها الإسلام فبلغ عمر بن الخطاب ذلك فقال :

« قاتل الله سمرة ان رسول الله قال لعن الله اليهود حرمت عليهم

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٣٦٣ وذكر الزمخشري في الفائق ان رسول الله قال لسمرة انك رجل مضار لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ، وفي رواية زرارة عن أبي جعفر (ع) أن رسول الله (ص) قال للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا ضرار ، وادعى فخر المحققين في الايضاح في باب الرهن تواتر هذا الحديث ، والتواتر المدعى أما اجمالي أو معنوي ، وأما اللفظى فغير حاصل نظرا لاختلاف اللفظ في نقل الحديث وقد بسطنا الكلام في هذه القاعدة في الجزء الثالث من مؤلفنا ( إيضاح الكفاية ).

١٨٧

الشحوم فباعوها »(١) هذا وضع سمرة في غلظته وجفائه وتمرده ولما آل الأمر إلى معاوية استعمله زياد على البصرة نائبا عنه فاسرف في قتل الأبرياء وإزهاق الأنفس بغير حق فقد حدث محمد بن سليم قال سألت أنس بن سيرين(٢) :

« هل كان سمرة قتل أحدا؟ ».

فاندفع أنس بحرارة والتأثر بادى عليه قائلا :

« وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له ( يعني زيادا ) « هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدا بريئا!! ».

فانبرى الأثيم معلنا عدم اهتمامه باراقة دماء المسلمين قائلا :

« لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت »(٣) .

وقال أبو سوار العدوي(٤) : قتل سمرة من قومى في غداة سبعة

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ١ / ٢٥ وفي رواية الزمخشري في « الفائق » قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها « أي أذابوها فباعوها ».

(٢) أنس بن سيرين الأنصاري ولد لسنة أو لسنتين بقيتا من خلافة عثمان روى عن جماعة من الصحابة وروى عنه جماعة. قال ابن معين وغيره إنه ثقة وقال ابن سعد إنه ثقة قليل الحديث وقال العجلى تابعي ثقة مات سنة « ١١٨ هج » وقيل مات سنة « ١٢٠ هج » جاء ذلك في تهذيب التهذيب « ١ / ٣٧٤ ».

(٣) الكامل ٣ / ١٨٣ الطبري ٦ / ١٣٢.

(٤) أبو سوار العدوي : قيل اسمه حسان بن حريث وقيل حريث بن حسان وقيل منقذ روى عن أمير المؤمنين «ع» وعن الإمام الحسن وروى عنه جماعة آخرون قال ابن سعد كان ثقة وعن أبي داود انه من ثقات الناس وقال النسائي في الكنى ـ

١٨٨

وأربعين رجلا قد جمع القرآن(١) . وحدّث عوف عن اجرام سمرة قال : أقبل سمرة من المدينة فلما كان عند دور بنى أسد خرج رجل من بعض أزقتهم ففاجأ أول القوم فحمل عليه رجل فاوجره الحربة « عبثا وعتوا » قال ثم مضت الخيل فأتى عليه سمرة وهو متشحط بدمه فقال :

« ما هذا؟ ».

« أصابته أوائل خيل الأمير!! ».

فقال « عتوا واستكبارا » : « إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا(٢) وكان هذا الطاغي الظامئ إلى إراقة الدماء يقتل على الظنة والتهمة فقيل له :

« يا سمرة : ما تقول لربك غدا؟ تؤتى بالرجل فيقال لك هو من الخوارج فتأمر بقتله ، ثم تؤتى بآخر فيقال لك ليس الذي قتلته بخارجي إنما وجدناه ماضيا في حاجته فشبه علينا وإنما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني!! »

فأجاب سمرة عما انطوت عليه نفسه من الوحشية والإجرام وما طبع عليه من الزيغ والضلال قائلا :

« وأي بأس في ذلك؟!! إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة وإن كان من أهل النار مضى إلى النار »(٣) .

وحدث الحسن البصري قال جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة فزكى مالا كان معه في بيت المال ، وأخذ براءة ثم دخل المسجد فصلى ركعتين ، فأخذه سمرة واتهمه برأي الخوارج فقدمه فضرب عنقه فنظروا

__________________

ـ ابو السوار حسان بن حريث العدوي ثقة جاء ذلك في تهذيب التهذيب ١٢ / ١٢٣.

(١) تأريخ الطبري ٦ / ١٣٢ وغيره.

(٢) الكامل ٣ / ١٨٣ وذكره الإمام شرف الدين في الفصول المهمة ( ص ١٢٢ ).

(٣) ابن أبي الحديد ١ / ٣٦٣.

١٨٩

فيما معه فاذا البراءة ـ أي البراءة من فكرة الخوارج ـ بخط بيت المال فاندفع أبو بكرة نحو سمرة وهو منكر عليه قائلا :

« يا سمرة أما سمعت الله تعالى يقول : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى؟ ».

فقال سمرة : « أخوك ( يعني زيادا ) أمرني بذلك »(١) .

وبقى سمرة ملازما لزياد فلما هلك صار بخدمة الأثيم الوغد ابنه ( عبيد الله ) فكان مديرا لشرطته واشترك معه في أفظع جريمة سجلها التأريخ وهي : قتل سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول (ص) الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام فكان يحرض الناس على حربه والخروج إلى قتله(٢) ومن اجرامه وموبقاته انه جيء إليه بجمهور من المسلمين فكان يقول للرجل ما دينك؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، واني بريء من الحرورية ، فيأمر به فتضرب عنقه حتى أعدم في جلسة واحدة ما يزيد على عشرين مسلما(٣) وما فعل سمرة هذه الموبقات إلا إرضاء لمعاوية وقد قال بعد ما عزله عن ولاية البصرة : « لعن الله معاوية ، والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا »(٤) .

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد.

(٢) شرح ابن أبي الحديد.

(٣) النصائح ص ٥٤.

(٤) نفس المصدر ، والعجب من البخاري حيث أخذ بأقوال سمرة واعتمد على حديثه في ٨ / ١٣٨ وبموجب هذه الأعمال التي ذكرتها رواة الأثر يجب أن يعد من جملة المارقين عن الدين ولا تؤخذ رواياته وأخباره ولكن قاتل الله العصبية فانها القت الناس فى شر عظيم ، وحرفتهم عن الطريق القويم.

١٩٠

ومهما يكن من شيء فان هذه الفظائع التي صدرت من سمرة تدل نفس تجردت منها الإنسانية والرحمة وتمادت فى العقوق والإجرام والشر.

٢ ـ بسر بن ارطاة :

ومن ولاة معاوية وأعوانه على تحقيق الظلم والجور والعسف والإرهاب بسر بن ارطاة الوغد الأثيم الذي فعل الأفاعيل المنكرة فقتل الشيوخ الركع وذبح الأطفال الرضع لتدعيم ملك معاوية وسلطانه ، فانه لما وجهه معاوية مع جيشه إلى اليمن فعل الأفاعيل المنكرة التي لم يشاهد التأريخ نظيرا لها في فظاعتها وقسوتها ، وقبل أن يتوجه هذا الأثيم إلى مهمته استدعاه معاوية فزوده بوصيته النارية التي احتوت على ترويع المسلمين وقتلهم وهذا نصها :

« سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف من مررت به وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل فى طاعتنا فاذا دخلت المدينة فارهم أنك تريد أنفسهم واخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم ثم سر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد وارهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة واجعلها شرودات حتى تأتي صنعاء والجند فان لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم »(١) .

وقد امتثل هذا المجرم وصية ابن هند فروع المسلمين وأدخل الفزع والخوف فيهم وأشاع القتل والفساد في الأرض ، فقد سبى نساء همدان وأقمن في الأسواق فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت فكن أول مسلمات سبين في الإسلام(٢) واجتاز على قوم واقفين على بئر لهم فالقاهم مع غلمانهم

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ١١٧.

(٢) الإستيعاب ١ / ١٦٥ العلم الشامخ ص ٥٧٠.

١٩١

في تلك البئر(١) ثم ولى عنهم وزحف إلى يثرب فدخلها بغير حرب وصعد المنبر فاعرب عن طغيانه وكفره قائلا : « والله لو لا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها ( يعنى المدينة ) محتلما » واستقام فيها شهرا فهدم دور أهلها وجعل يستعرض الناس فلا يقال له عن أحد أنه شرك في دم عثمان إلا قتله ثم زحف بجيشه إلى اليمن فقتل جمهورا غفيرا. شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام وطلب طفلين لعبيد الله بن العباس فلما ظفر بهما أمر بقتلهما فقام إليه رجل من كنانة فقال له :

« على م تقتل هذين؟ ولا ذنب لهما ، فان كنت قاتلهما فاقتلني »

فأمر بقتل الكناني ثم قتل الطفلين ، فانبرت إليه امرأة من كنانة وقد طاش لبها من هذا العمل الفظيع فقالت بنبرات تقطر ألما وحزنا :

( يا هذا قتلت الرجال ، فعلى م تقتل هذين والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام ، والله يا ابن أبي أرطاة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء )(٢) .

نعم والله إن سلطة معاوية لسلطة سوء فقد قامت على الظلم والجور وأسست على إراقة الدماء وإدخال الرعب والفزع في نفوس الأبرياء.

وذكر الرواة أن هذا الأثيم قتل ثلاثين ألفا من المسلمين عدا من

__________________

(١) النصائح ص ٥٤.

(٢) الكامل ٣ / ١٩٤ الطبري ٦ / ٨٠ وذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ / ١٢٠ أن بسرا التفت إلى نسوة كنانة فقال لهن : والله لهممت أن أضع فيكن السيف ، فقالت له : الناقدة لجوره : ( والله لأحب إلي إن فعلت ) ثم زحف هذا المجرم إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأن ابني عبيد الله بن العباس كانا متسترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج.

١٩٢

أحرقهم بالنار(١) .

٣ ـ أبو هريرة :

كان شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي ذليل الجانب محطم الكيان نشأ في صباه ، وهو عاشق للهرة ، مولع بحبها حتى لقب بها(٢) قضى شطرا من حياته وهو بائس فقير معدم يعيش على التسول فان لم يجده كان خادما فى البيوت يستأجر نفسه لشبع بطنه(٣) راضيا بهذه الضعة والهوان ، ولما انبثق نور الإسلام دخل فيمن دخل في الإسلام فكان على وضعه الأول من الفقر والبؤس وقد أدرج نفسه بفقراء الصفة(٤) يعيش بفضلات البيوت وصدقات المسلمين ، وقد وصف فقره وسوء حاله فقال : « كنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة »(٥) وكان يتصل برسول الله (ص) ليشبع بطنه ويسد خلته(٦) وهكذا بقى على هذا الحال المرير حفنة من السنين وهو جائع عريان لا مأوى له ولا مال فلما انتهى أمر الخلافة إلى عمر تفضل عليه

__________________

(١) ابن أبي الحديد ١ / ١٢٠.

(٢) المعارف ١ / ٩٣ وجاء فيه أن أبا هريرة كان يقول : ( وكنيت بأبي هرة بهرة صغيرة كنت العب بها ) ولغرامه بالهرة وهيامه بحبها حدث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ان امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ) ذكره البخاري فى صحيحه ٢ / ١٤٩.

(٣) الإصابة ٤ / ٢٠٧ وذكره أبو نعيم في الحلية وابن سعد في الطبقات.

(٤) الصفة : موضع مظلل من مسجد النبيّ (ص) كان أضياف الاسلام يبيتون بها ، ذكر ذلك الفيروزآبادي في ( القاموس ) في مادة الصف.

(٥) صحيح البخاري ٢ / ١.

(٦) الإصابة ٤ / ٢٠٤.

١٩٣

فأنقذه من هوة الفقر وحضيض البؤس فاستعمله واليا على البحرين سنة احدى وعشرين من الهجرة فلما كانت سنة ثلاث وعشرين عزله لأنه ظهرت منه الخيانة ، ولم يكتف بعزله حتى استنقذ منه ما اختلسه من أموال المسلمين فقال له :

« علمت أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ثم بلغنى أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار ».

فقال أبو هريرة وقد استولى عليه الخوف :

« يا أمير المؤمنين ، كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت ».

فقال له عمر وهو ثائر غضبان : « حسبت لك رزقك ومئونتك وهذا فضل فأده ».

ـ ليس لك ذلك.

ـ بلى والله وأوجع ظهرك.

ثم قام عليه بالدرة فضربه حتى أدماه ، ولما أخذ الألم منه مأخذا عظيما وافق على إرجاعها وقال :

« ائت بها وأحتسبها عند الله ».

فانبرى إليه عمر مبطلا زعمه في هذا الاحتساب قائلا :

« ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا ، أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة(١) إلا لرعية الغنم ».

ثم أخذ الأموال التي اختلسها(٢) ورجع أبو هريرة إلى حاله الأول

__________________

(١) الرجع والرجيع : العذرة والروث ( أميمة ) أم أبى هريرة.

(٢) العقد الفريد ١ / ٢٥.

١٩٤

قابعا في زوايا الخمول قد وصم بالخيانة والاختلاس ولما انتهى الأمر إلى عثمان انضم إليه وصار من أعوانه وأخذ يفتعل الأحاديث في فضله ، فقال قال رسول الله (ص) :

« إن لكل نبي خليلا من أمته وإن خليلي عثمان »(١) .

« لكل نبى رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان »(٢) .

إلى غير ذلك من الأحاديث التي زورها على رسول الله (ص) فى فضل عثمان والأمويين ، ولما انتفضت الأمة على عثمان وقتلته لسوء تصرفاته وعدم تدبيره ، وصارت الخلافة إلى أمير المؤمنين (ع) رجع أبو هريرة إلى الذبول بعد النضارة ، فهاجر من يثرب إلى دمشق فعقد صلته بمعاوية وأخذ يتزلف إليه ويعمل في إرضائه بكل طريق وجعل يروي لأهل الشام عن رسول الله قائلا لهم إن رسول الله (ص) قال :

« إن الله ائتمن على وحيه ثلاثا أنا وجبرئيل ومعاوية!! ».

وقال لهم : « إن النبي (ص) ناول معاوية سهما ، فقال له : خذ هذا السهم حتى تلقاني في الجنة »(٣) .

وهكذا أخذ أبو هريرة يفتعل الحديث تلو الحديث في فضل معاوية والأمويين والصحابة يتقرب بذلك إلى معاوية لينال من دنياه وقد أغدق

__________________

(١) ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة اسحاق بن نجيح وجزم ببطلانه

(٢) أورده الذهبى في ميزان الاعتدال في ترجمة عثمان بن خالد وعده من منكراته.

(٣) رواهما الخطيب البغدادي في تأريخه وأثبتهما سماحة الإمام شرف الدين من الموضوعات في كتابه ( أبو هريرة ) ص ٢٧.

١٩٥

عليه بالأموال الطائلة ورفع من شأنه فكساه الخز والبسه الكتان المشيق(١) ولما كان عام الجماعة قدم مع معاوية إلى العراق فلما رأى كثرة المستقبلين له جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مرارا وقال :

« يا أهل العراق ، أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله ، وأحرق نفسي بالنار؟!! والله لقد سمعت رسول الله (ص) يقول : إن لكل نبي حرما ، وان المدينة حرمى فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وأشهد أن عليا أحدث فيها ».

فلما بلغ معاوية ذلك أجازه وأكرمه ، وولاه إمارة المدينة(٢) لقد استحق أبو هريرة هذا المنصب العظيم لأنه افتعل الحديث ضد أمير المؤمنين تقربا لمعاوية ، وسعيا وراء منافعه وأطماعه.

لقد فتك شيخ المضيرة بالإسلام فتكا ذريعا بسبب رواياته المفتعلة التي شوهت الشريعة الإسلامية ، والصقت بها الخرافات والأوهام ، وأضافت الى الدين ما ليس منه ، وشتّت شمل المسلمين ، وتركتهم أشياعا وأحزابا مختلفين في أصول الدين وفي فروعه وفي كل شيء ، وقد بحث سماحة الإمام المغفور له شرف الدين عن موضوعات أبي هريرة في كتابه الخالد « أبو هريرة » وكذلك تناوله بالنقد سماحة العلامة الكبير الشيخ محمود أبو رية في كتابه « شيخ المضيرة » وأثبت أنه في طليعة الوضاعين والمحرفين للسنة الاسلامية المقدسة ، والمسلمون في أمس الحاجة إلى أمثال هذه البحوث الحرة التي تكشف الغطاء عن هؤلاء الدجالين الذين لم يألوا جاهدا فى الكيد للإسلام ، والبغي للمسلمين بما وضعوه من الروايات التي لا واقعية ولا نصيب

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٧٥.

(٢) ابن أبي الحديد ١ / ٣٥٨.

١٩٦

لها من الصحة.

٤ ـ زياد بن أبيه :

ومن أخطر ولاة معاوية وأكثرهم جورا وظلما زياد بن أبيه ، فقد ذكر الرواة أنه أول من شدد السلطة ، وأكد الملك لمعاوية فجرد سيفه ، وأخذ بالظنة ، وعاقب على الشبهة(١) وهو أول من مشى بين يديه بالأعمدة الحديدية ، وأول من جلس الناس بين يديه على الكراسي ، وأول من اتخذ العسس والحرس(٢) وقد زاد معاوية في ربقة سلطانه فولاه البصرة والكوفة وسجستان وفارس والسند والهند(٣) .

وقد ارتطمت هذه الأقطار الاسلامية الخاضعة لنفوذه بالبلاء والمحن والشقاء وعم فيها الهرج والمرج وانتزعت منها جميع الحريات واضطربت أفكار أهلها بالخوف والفزع من تلك السلطة الجائرة التي لم تعرف الرحمة والرأفة ، فقد أخذت بالظنة والتهمة وقطعت الأيدي والأرجل ، وسملت الأعين ، حتى خيم الموت على جميع الأحرار والنبلاء وبلغت الشدة والصرامة في الحكم إلى حد لا سبيل إلى تصويره ، وقد عبر زياد عن سياسته العمياء وخطته الارهابية في خطبته البتراء(٤) فقد جاء فيها :

« وإني اقسم بالله لآخذن الولى بالولى ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : أنج سعد فقد هلك سعيد ».

__________________

(١) الكامل ١٠ / ١٨٣.

(٢) صبح الأعشى ١ / ٤١٦.

(٣) الطبري ٦ / ١٣٤.

(٤) إنما سميت خطبة زياد بالبتراء لأنه لم يحمد الله فيها.

١٩٧

ومنها :

« وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوما غرقناه ، ومن حرق على قوم حرقناه ، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه ، ومن نبش قبرا دفنته حيا. ثم قال : وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي »(١) .

ومعنى هذا الخطاب أن ما بينه الله ورسوله للمسلمين من الحدود لم يكن في رأي زياد كافيا لحمل أهل البصرة والكوفة على الجادة والرجوع بهم إلى الصراط المستقيم ، فالاسلام لا يغرق من أغرق ، ولا يحرق من أحرق ولا ينقب عن قلب السارق وإن نقب عن البيوت والاسلام لا يدفن الناس في القبور أحياء وإن نبشوا عن الموتى في قبورهم والاسلام لا يقيم الحدود بالشبهة وإنما يدرؤها بها فهذا من التشريع في الدين وهو أقل ما قام به زياد من الموبقات ، إن هذه السياسة المنكرة التي أعلنها زياد لم يعرفها المسلمون ولم يألفوها ، وقد دلت على أن صاحبها طاغية يريد أن يحكم الناس بالبغي ويملأ قلوبهم رعبا ورهبا ويغتصب منهم الطاعة والخضوع للسلطان اغتصابا

لقد قضت سياسة زياد الملتوية بأخذ الصحيح بذنب السقيم والمقبل بذنب المدبر وهو حكم كيفي يبرأ من العدل والرحمة ، وحينما القى خطابه القاسي قام إليه أبو بلال مرداس بن أدية وهو يهمس ويقول :

« أنبأنا الله بغير ما قلت قال الله عز وجل( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (٢) ( أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٣) ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ

__________________

(١) الكامل ٣ / ٢٢٦.

(٢) سورة النجم آية ٣٧.

(٣) سورة النجم آية ٣٨.

١٩٨

ما سَعى ) (١) فأوعدنا الله خيرا مما وعدت يا زياد.

فانبرى إليه زياد قائلا بنبرات تقطر غضبا وانتقاما :

« إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلا حتى تخوض إليها الدماء »(٢)

وسار زياد على هذه الخطة الارهابية الجائرة التي تحمل شارات الموت والاعدام لجميع الأحرار والمفكرين حتى ضرب الرقم القياسي للسلطة الجائرة وقد بلغ به الاجرام أنه كان يقتل بعض النفوس وهو يعلم ببراءتها وعدم تدخلها واشتراكها فى أي أمر من الأمور السياسية ، فقد قبضت شرطته على أعرابي فجيء به مخفورا إليه فقال له زياد :

ـ هل سمعت النداء؟.

ـ لا والله ، قدمت بحلوبة لي ، وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع فأقمت لأصبح ، ولا علم لي بما كان من الأمير.

ـ أظنك والله صادقا ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة.

ثم أمر به فضربت عنقه صبرا(٣) من دون أن يقترف أي ذنب ، وهكذا كان زياد يلغ فى دماء المسلمين ، لا حرمة لها عنده ، ولا حريجة له في سفكها ، وقد بالغ هذا الوغد الأثيم فى سفك دماء شيعة آل محمد (ص) فقتلهم تحت كل كوكب ، وتحت كل حجر ومدر ، وقطع الأرجل والأيدي منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشردهم(٤) ففي ذمة الله تلك الدماء الزكية التي سفكت ، والنفوس الكريمة

__________________

(١) سورة النجم آية ٣٩.

(٢) الطبري ٦ / ١٣٥.

(٣) الطبري ٦ / ١٣٥.

(٤) ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.

١٩٩

التي روعت ، والنساء التي رملت ، والأطفال التي يتمت.

هؤلاء بعض ولاة معاوية وجلاديه الذين سلطهم على الأمة الاسلامية فذبحوا أبناءها ، واستحيوا نساءها ، ونهبوا ثرواتها ، وعمدوا إلى اشاعة المنكرات والفساد فيها.

الجور الشامل :

وعمد ولاة ابن هند إلى نشر الجور والظلم في جميع أنحاء البلاد فكانت دوائرهم مصدرا للقلق والاضطراب وبابا من أبواب البلاء على الناس فما راجعها أحد إلا اكتوى بنارها ، يقول عبد الملك في وصفها : « أنعم الناس عيشا من له ما يكفيه ، وزوجة ترضيه ، ولا يعرف أبوابنا الخبيثة فتؤذيه »(١) .

لقد بالغ الولاة فى ظلم المواطنين واضطهادهم فأخذوا ينهبون الاموال بغير حق ، ويشددون في أمر الخراج ، ويرغمون الناس على أدائها يقول « فان فلوتن » « وبدل أن يتخذ الخلفاء ـ أي ملوك الأمويين ـ التدابير لمحاسبة الولاة ، ومنعهم من الظلم نجدهم يقاسمونهم فى فوائدهم من الأموال التي جمعوها بتلك الطرق المفضوحة ، وهذا معناه رضى الخلفاء بسوء تصرف العمال مع أهل البلاد بالاضافة إلى أنه دليل على أن بعضهم كان يهمه مصالح الخزينة المركزية بالدرجة الأولى »(٢) .

ان معاوية وسائر ملوك بنى أمية لم يحاسبوا واليا من ولاتهم ، ولم يمنعوهم من الظلم والاعتداء على الناس ، يقول عاقبة بن هبيرة الأسدي لمعاوية

__________________

(١) الكامل ١٠ / ١٨٣.

(٢) السيادة العربية : ص ٢٨.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وأقول :

قد عرفت أنّ الكلام ـ في هذا ونحوه ـ في الأفضليّة ، فإن أقرّ به الفضل ، فهو المراد ، وإلّا فليأت بشبهة.

وكيف يقاس بمن جاد بنفسه في جميع مواقف الزحام ، من بخل بها في كلّ مقام ، وفرّ مرارا عن سيّد الأنام(١) ؟!

أو يقاس بمن سخا بجميع ماله على الأباعد ، من ضنّ ببعضه على الأقارب ، وحمل يوم الهجرة ماله كلّه وترك بلا قوت أهله(٢) ؟!

وهل يلحق من آثر على نفسه ولم يعزّ عليه قوته ، من كانت في أموال المسلمين نهمته حتّى كبت به بطنته(٣) .

* * *

__________________

(١) إشارة إلى الشيخين وأغلب الصحابة ، حين فرّوا من الزحف ، كيوم أحد وخيبر وحنين ؛ راجع : ج ٥ / ٥٧ ه‍ ١ وص ٧٧ ه‍ ١ وص ٨٢ من هذا الكتاب ، وص ٨٩ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) إشارة إلى أبي بكر ، الذي احتمل ماله كلّه ولم يترك لعياله منه شيئا ؛ انظر : البداية والنهاية ٣ / ١٤١ ـ ١٤٢.

(٣) إشارة إلى عثمان بن عفّان ، فقد وصفه أمير المؤمنينعليه‌السلام في الخطبة الشقشقية بقوله : « إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ».

انظر : نهج البلاغة : ٤٩ الخطبة ٣.

٣٨١

استجابة دعائه ، وحسن خلقه ، وحلمه

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب السابع : في استجابة دعائه

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد استسعد به(٢) وطلب تأمينه على دعائه يوم المباهلة ، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة(٣) .

ودعا على أنس بن مالك لمّا استشهده على قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه » ؛ فاعتذر بالنسيان

فقال :اللهمّ إن كان كاذبا فاضربه ببياض لا تواريه العمامة ؛ فبرص(٤) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٦.

(٢) استسعد به : عدّه سعدا ويمنا ؛ انظر مادّة « سعد » في : الصحاح ٢ / ٤٨٧ ، لسان العرب ٦ / ٢٦٢ ، تاج العروس ٥ / ١٦.

(٣) راجع : ج ٤ / ٣٩٩ من هذا الكتاب.

(٤) انظر : جمهرة النسب ٢ / ٣٩٥ ، المعارف ـ لابن قتيبة ـ : ٣٢٠ ، أنساب الأشراف ٢ / ٣٨٦ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٤ وج ١٩ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

وهناك من روى المناشدة ، وأنّ أنسا كان أحد الحاضرين حينها ، ولكنّه تكتّم عليه فلم يذكر أنّ من أصابته الدعوة هو أنس! انظر : حلية الأولياء ٥ / ٢٦ ـ ٢٧.

ومنهم من روى أنّ أنسا كان به برص ، ولم يذكر سبب ذلك! انظر : تاريخ دمشق ٩ / ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

ومنهم من روى عن زيد بن أرقم أنّه ـ أي : زيد ـ كان أحد الموجودين حين المناشدة ، فكتم الشهادة ، فعمي ؛ انظر : المعجم الكبير ٥ / ١٧١ ح ٤٩٨٥ وص

٣٨٢

ودعا على البراء(١) بالعمى ؛ لأجل نقل أخباره إلى معاوية ، فعمي(٢) .

__________________

١٧٤ ـ ١٧٥ ح ٤٩٩٦ ، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ـ لابن المغازلي ـ : ٧٤ ح ٣٣ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٠٦.

وعاد الطبراني فأورد قصّة المناشدة عن زيد نفسه ، إلّا أنّه لم يذكر كتمان الشهادة بالحديث ودعاء الإمام عليّعليه‌السلام وذهاب البصر! انظر : المعجم الأوسط ٢ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ح ١٩٨٧.

وراجع : ج ٤ / ٣٢٨ من هذا الكتاب.

(١) المغيرة / خ ل. منهقدس‌سره .

نقول : ورد الاسم مصحّفا تصحيفا بيّنا في مصادر هذه الحادثة ، ففي بعضها : « الغرار » ، وفي بعضها الآخر غير ذلك ، والمنقول في أغلبها : « العيزار » ، حتّى إنّ العلّامة الحلّيقدس‌سره ضبطه كذلك في كتابه « كشف اليقين ».

ولعلّ المقصود هو ، « العيزار بن جرول التنعي » ، الذي قالوا عنه إنّه يروى عن الإمام عليّعليه‌السلام ، وقد سكت عنه بعض علمائهم ووثّقه آخرون!! فإن كان هو المقصود ، فلا بدّ أن يكون توثيقهم له بسبب ميله إلى معاوية!

انظر : التاريخ الكبير ٧ / ٧٩ رقم ٣٦١ ، الجرح والتعديل ٧ / ٣٧ رقم ١٩٧ ، الثقات ـ لابن حبّان ـ ٧ / ٣٠٢ ، تاريخ أسماء الثقات ـ لابن شاهين ـ : ٢٥٢ رقم ١٠٠٣ ، الإكمال : ٢٢٩ رقم ٦٨٦.

أمّا « المغيرة » فلم يذكر لنا التاريخ أنّه عمي ، بل ولي الكوفة لمعاوية إلى أن مات بها سنة ٥٠ ه‍.

وممّا يقوّي احتمال التصحيف هنا ؛ أنّ قضية « البراء » ـ وفق ما جاءت به الروايات ، إن صحّت ـ كانت في رحبة مسجد الكوفة عند مناشدة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الصحابة عن حديث الغدير ، وهذه القضية كانت في نقل أخبار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية.

أمّا إذا كان ورود اسم « البراء » هنا صحيحا ، فيحتمل ـ حينها ـ أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قد دعا على « البراء » مرّتين ، مرّة بعد المناشدة ، وأخرى بعد نقل الأخبار ، فعمي ؛ فلاحظ!

(٢) انظر : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، الخرائج والجرائح

٣٨٣

وردّت عليه الشمس مرّتين لمّا دعا به(١) .

ودعا في زيادة الماء لأهل الكوفة حتّى خافوا الغرق ، فنقص حتّى ظهرت الحيتان ، فكلّمته إلّا الجرّي والمارماهي والزمّار(٢) ، فتعجّب الناس من ذلك(٣) .

وأمّا حسن الخلق ؛ فبلغ فيه الغاية ، حتّى نسبه أعداؤه إلى الدعابة(٤) .

وكذا الحلم ؛ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمةعليها‌السلام : «إنّي زوّجتك من أقدم الناس سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما »(٥) .

* * *

__________________

١ / ٢٠٧ ح ٤٨ ، مناقب آل أبي طالب ٢ / ٣١٤ ، كشف اليقين ـ للعلّامة الحلّي ـ : ١١١ ، إرشاد القلوب ٢ / ٤٠ ، أرجح المطالب : ٦٨١.

(١) انظر : وقعة صفّين : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، منهاج السنّة ٨ / ١٩١ ـ ١٩٢ ، البداية والنهاية ٦ / ٦٥ و ٦٦ ، مزيل اللبس عن حديث ردّ الشمس : ١٤٩ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

وراجع مبحث حديث ردّ الشمس في الصفحات ٢٠٠ ه‍ ١ و ٢٠٧ ـ ٢٢٣ من هذا الجزء ، وانظر : ج ٥ / ٢٨٦ ه‍ ٢ من هذا الكتاب.

(٢) الجرّي والمارماهي والزمّار : ضروب من الأسماك ، لا فلس لها.

(٣) انظر : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٤) انظر : نهج البلاغة : ١١٥ الخطبة ٨٤ ، العقد الفريد ٣ / ٢٩٠ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ١١٨ مادّة « دعب » ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٣٢٦ ـ ٣٣٠ ، لسان العرب ٤ / ٣٤٩ مادّة « دعب » وج ١٥ / ٣٢١ مادّة « وصي ».

(٥) مسند أحمد ٥ / ٢٦ ، مصنّف عبد الرزّاق ٥ / ٤٩٠ ح ٩٧٨٣ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٥٠٥ ح ٦٨ ، المعجم الكبير ١ / ٩٤ ح ١٥٦ وج ٢٠ / ٢٣٠ ح ٥٣٨ ، تلخيص المتشابه ١ / ٤٧٢ رقم ٧٨٦ ، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ـ لابن المغازلي ـ : ١٢٩ ح ١٤٤ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ١٢٦ و ١٣١ ـ ١٣٣.

٣٨٤

وقال الفضل(١) :

ما ذكره في هذا المطلب من استجابة دعاء أمير المؤمنين ؛ فهذا أمر لا ينبغي أن يرتاب فيه ، وإذا لم يكن دعاء سيّد الأولياء مستجابا ، فمن يستجاب له الدعاء؟!

وأمّا ما ذكر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله استسعد بدعائه ؛ فقد ذكرنا سرّ هذا الاستسعاد والاشتراك في الدعاء في المباهلة ، أنّ هذا من عادات أهل المباهلة ، أن يشاركوا القوم والنساء والأولاد في الدعاء(٢) .

ويفهم منه أنّ النبيّ استسعد بدعائه لاحتياجه إلى ذلك الاستسعاد ، وهذا باطل عقلا ونقلا.

أمّا عقلا ؛ لأنّ النبيّ لا شكّ أنّه كان مستجاب الدعوة ، ومن كان مستجاب الدعوة فلا يحتاج إلى استسعاد الغير.

وأمّا نقلا ؛ فلأنّ الاشتراك في الدعاء في المباهلة لم يكن للاستسعاد ، بل لما ذكرنا.

وأمّا ما ذكر أنّ أمير المؤمنين استشهد من أنس بن مالك ، فاعتذر بالنسيان ، فدعا عليه ؛ فالظاهر أنّ هذا من موضوعات الروافض ؛ لأنّ خبر «من كنت مولاه فعليّ مولاه » كان في غدير خمّ.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ : ٤٥٤ الطبعة الحجرية.

(٢) راجع : ج ٤ / ٤٠١ من هذا الكتاب.

٣٨٥

وكان لكثرة سماع السامعين كالمستفاض(١) ، فأيّ حاجة إلى الاستشهاد من أنس؟!

ولو فرض أنّه استشهد ولم يشهد أنس ، لم يكن من أخلاق أمير المؤمنين أن يدعو على صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن خدمه عشر سنين ، بالبرص ؛ ووضع الحديث ظاهر.

* * *

__________________

(١) الحديث المستفيض : هو ما زاد عدد رواته عن ثلاثة في كلّ طبقة من الطبقات ، وبذلك يختلف عن الحديث المشهور ، الذي هو أعمّ من ذلك ، فقد تطرأ الشهرة على جزء منه ، كوسطه دون طرفيه.

ويقال : فاض الخبر يفيض ، واستفاض ، أي شاع وذاع ، وهو حديث مستفيض ، أي منتشر شائع ذائع بين الناس ؛ ولا يقال : مستفاض ـ فذلك لحن ـ إلّا أن يقال : مستفاض فيه.

وهو على المجاز هنا ، مأخوذ من « فاض الماء يفيض فيضا » ، أي كثر حتّى سال على طرف الوادي.

انظر : شرح شرح نخبة الفكر : ١٩٢ ، شرح البداية في علم الدراية : ٧٠ ، مقباس الهداية في علم الدراية ١ / ١٢٨ ، ومادّة « فيض » في : الصحاح ٣ / ١٠٩٩ ، لسان العرب ١٠ / ٣٦٧ ، تاج العروس ١٠ / ١٣١.

٣٨٦

وأقول :

استجابة الدعاء في مثل هذه الأمور الخارقة للعادة لا تقع إلّا لنبيّ أو وصيّ نبيّ ؛ لاشتمالها على المعجز ، وليس مثلها لغير أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فيكون هو الإمام.

وأمّا ما ذكره من سرّ الاستسعاد ، فهو من الأسرار الخاصّة بضمائر المخالفين لأهل البيت ؛ إذ لم يظهر علمه لغيرهم ، كما عرفته في الآية السادسة(١) ، والحديث الثامن(٢) .

كما إنّ الاستسعاد لا يتوقّف على الحاجة الواقعيّة ، بل هو من أمر الله تعالى ؛ لبيان شرف آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله عنده وعنايته بهم

ومن كمال الرسول ، حيث لا يظهر منه الاعتماد على نفسه ، وأنّ له حقّا على الله في الإجابة ، كما سبق موضّحا(٣) .

وأمّا تكذيبه للدعاء على أنس بحجّة أنّ حديث الغدير مستفيض لا يحتاج إلى الاستشهاد ؛ ففيه :

إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام إنّما أراد بيان استفاضته ، وكثرة المطّلعين عليه ؛ لتظهر إمامته بالنصّ ، وهذا ممّا يحتاج إلى أعظم الشواهد عند من نشأوا على موالاة الأوّلين ، ولو لا هذا ونحوه لم يكثر الشيعة بالكوفة ،

__________________

(١) راجع : ج ٤ / ٤٠٢ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٢) راجع مبحث حديث المباهلة في الصفحات ٧٤ ـ ٧٩ من هذا الجزء.

(٣) تقدّم في ج ٤ / ٤٠٢ ـ ٤١٠ من هذا الكتاب ، والصفحات ٧٤ ـ ٧٩ من هذا الجزء.

٣٨٧

فيكون كتمان الشهادة فيه كتمانا لما أنزل الله تعالى ، فيستحقّ كاتمها العقوبة في الدنيا ، وأشدّ العذاب في الآخرة.

ولا ريب برجحان الدعاء بمثل البرص ؛ ليكون شاهدا عيانيّا مستمرّا على صدق حديث الغدير ، وإمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وظلم السابقين له.

ولا يستبعد منه الدعاء على خادم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ ضرر كتمانه في مثل المقام أشدّ من غيره ، وهو أولى بالعقوبة ، ولذا كان عذاب العاصية من أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ضعفين(١) .

وليس هذا أوّل سيّئة من أنس مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل له نحوها في قصّة الطائر(٢) ، وغيرها(٣) ، وهو من المنحرفين عنه.

قال ابن أبي الحديد(٤) : « ذكر جماعة من شيوخنا البغداديّين أنّ عدّة من الصحابة والتابعين والمحدّثين كانوا منحرفين عن عليّعليه‌السلام ، قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ؛ ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة ، فمنهم : أنس بن مالك ، ناشد عليّ الناس في رحبة القصر ـ أو قالوا : برحبة الجامع ـ بالكوفة : أيّكم سمع رسول الله يقول : «من كنت مولاه فعليّ

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٠.

(٢) فقد ردّ أنس أمير المؤمنينعليه‌السلام ثلاثا مدّعيا انشغال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليصرفه عن الدخول متمنّيا أن يكون الآتي واحدا من قومه ؛ انظر مبحث حديث الطائر المشوي في الصفحات ١٥٩ ـ ١٧٠ من هذا الجزء.

(٣) كبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام لأنس إلى طلحة والزبير لمّا جاء إلى البصرة يذكّرهما شيئا ممّا سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمرهما ، فلوى عن ذلك ، فرجع إليه ، فقال : إنّي أنسيت ذلك الأمر!

انظر : نهج البلاغة ٥٣٠ رقم ٣١١.

(٤) ص ٣٦١ من المجلّد الأوّل [ ٤ / ٧٤ ]. منهقدس‌سره .

٣٨٨

مولاه »؟

فقام اثنا عشر رجلا ، فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم.

فقال له : يا أنس! ما يمنعك أن تقوم فتشهد ، ولقد حضرتها؟!

فقال : يا أمير المؤمنين! كبرت ونسيت.

فقال : اللهمّ إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة.

قال طلحة بن عمير : فو الله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه

وروى عثمان بن مطرّف : إنّ رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن عليّ بن أبي طالب ، فقال : إنّي آليت أن لا أكتم حديثا سئلت عنه في عليّ بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتّقين يوم القيامة ، سمعته والله من نبيّكم

وروى أبو إسرائيل ، عن الحكم ، عن أبي سليمان المؤذّن ، أنّ عليّا نشد الناس : من سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :من كنت مولاه فعليّ مولاه؟

فشهد له قوم ، وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ، وكان يعلمها ، فدعا عليّ عليه بذهاب البصر ، فعمي ، فكان يحدّث الناس بالحديث بعدما كفّ بصره ».

وذكر فيه أمر البرص بمحلّ آخر(١) ، ثمّ قال : « ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة في كتاب ( المعارف ) في باب البرص من أعيان

__________________

(١) ص ٣٨٨ من المجلّد الرابع [ ١٩ / ٢١٨ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : المعارف : ٣٢٠.

٣٨٩

الرجال ، وابن قتيبة غير متّهم في حقّ عليّ على المشهور من انحرافه عنه ».

وقد روى أحمد في مسنده من عدّة طرق استشهاد أمير المؤمنينعليه‌السلام بالرحبة ، وقيام من قام للشهادة ، وفي بعضها : « فقام إلّا ثلاثة ، ودعا عليهم فأصابتهم دعوته » ، كما سبق في الآية الثانية(١) .

هذا ، وقد أغفل الفضل ما ذكره المصنّفرحمه‌الله من فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام بالحلم وحسن الأخلاق المطلوبين في الأئمّة ، ولا ريب بامتيازه على غيره بهما(٢) .

وأمّا الحديث الذي نقله المصنّفرحمه‌الله في تفضيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لحلم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد رواه أحمد في مسنده(٣) .

__________________

(١) انظر : مسند أحمد ١ / ١١٩ ، وج ٤ / ٣٧٠ ؛ وراجع : ج ٤ / ٣٢٧ ـ ٣٢٩ من هذا الكتاب.

(٢) لا سيّما على عمر ؛ فإنّه معروف بالغلظة وسوء الخلق ، كما سبق ويأتي ؛ ومن سبر سيرة عمر ظهر له صدق ما ذكرنا.

كما يعرف حال عثمان من سيرته.

وأمّا أبو بكر ؛ فقد كان ـ أيضا ـ حادّا ، كما يدلّ عليه قوله : « إنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني لا أوثّر في أشعاركم وأبشاركم » [ شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٥٩ ].

قال ابن أبي الحديد ـ ص ١٦٨ من المجلّد الرابع [ ١٧ / ١٦١ ] ، بعد قول المرتضى : « إنّها صفة طائش لا يملك نفسه » ـ قال : « لعمري ، إنّ أبا بكر كان حديدا ، وقد ذكره عمر بذلك ، وذكره غيره من الصحابة [ بالحدّة والسرعة ] ». انتهى.

منه قدس‌سره .

نقول : راجع ما تقدّم في ج ٤ / ٢٣٨ ه‍ ١ و ٢ وج ٥ / ٢١٣ ه‍ ٥ ، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه من الجزء السابع من هذا الكتاب.

(٣) ص ٢٦ من الجزء الخامس. منهقدس‌سره .

٣٩٠

ونقله في « كنز العمّال »(١) ، عن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، وعن الدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » ، من حديث ذكر فيه خطبة أبي بكر وعمر لفاطمةعليها‌السلام ، وإباه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتزويجها من عليّعليه‌السلام ، وقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة : «والله لقد أنكحتك أكثرهم علما ، وأفضلهم حلما ، وأقدمهم سلما » قال : « وفي لفظ : أوّلهم سلما ».

ونقله أيضا في « الكنز »(٢) ، عن الطبراني ، بلفظ : «إنّه لأوّل أصحابي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما ».

ولو لا خوف الإطالة والملال ، لذكرت في حلمه من الأخبار والآثار ما كثر

وقد ذكر ابن أبي الحديد ـ في « مقدّمة الشرح » ، وفي أثنائه ـ نبذا من حلم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وصفحه ، وحسن أخلاقه ؛ فراجع(٣) .

* * *

__________________

(١) ص ٣٩٢ من الجزء السادس [ ١٣ / ١١٤ ح ٣٦٣٧٠ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : الذرّيّة الطاهرة : ٩٣ ح ٨٣.

(٢) ص ١٥٣ من الجزء المذكور [ ١١ / ٦٠٥ ح ٣٢٩٢٧ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : المعجم الكبير ١ / ٩٤ ح ١٥٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٢ ـ ٢٤ وج ٣ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ وج ٦ / ١٤٦ و ٣١٣ ـ ٣١٤ و ٣١٦ وج ١٤ / ٢٤.

٣٩١

عبادته من فضائله البدنية

قال المصنّف ـ شرّف الله قدره ـ(١) :

القسم الثاني : في الفضائل البدنية ، وينظمها مطلبان :

الأوّل : في العبادة

لا خلاف أنّهعليه‌السلام كان أعبد الناس ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، والأدعية المأثورة ، والمناجاة في الأوقات الشريفة ، والأماكن المقدّسة(٢) .

وبلغ في العبادة إلى أنّه كان يؤخذ النشّاب من جسده عند الصلاة ؛ لانقطاع نظره عن غير الله تعالى بالكلّيّة(٣) .

وكان مولانا زين العابدينعليه‌السلام يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، ويدعو بصحيفته ، ثمّ يرمي بها كالمتضجّر ويقول : أنّى لي بعبادة عليّعليه‌السلام (٤) .

قال الكاظمعليه‌السلام : إنّ قوله تعالى :( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (٥)

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٧.

(٢) انظر : مطالب السؤول : ١٢٤ و ١٣١ ـ ١٣٢ و ١٣٦ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٧ ، كفاية الطالب : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

(٣) المناقب المرتضوية : ٣٦٤.

(٤) كشف الغمّة ٢ / ٨٥ و ٨٦ ، ينابيع المودّة ١ / ٤٤٦ ح ١٢.

(٥) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

٣٩٢

نزلت في أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) .

وكان يوما في صفّين مشتغلا بالحرب ، وهو بين الصفّين يراقب الشمس ، فقال ابن عبّاس : ليس هذا وقت صلاة ، إنّ عندنا لشغلا!

فقال عليّعليه‌السلام :فعلام نقاتلهم؟! إنّما نقاتلهم على الصلاة (٢) !

وهو الذي عبد الله حقّ عبادته حيث قال :ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا شوقا إلى جنّتك ، ولكن رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك (٣) .

* * *

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ١٨١ ـ ١٨٣ ح ٨٨٦ ـ ٨٨٨ ، روح المعاني ٢٦ / ١٩٤ ، أرجح المطالب : ٣٧ و ٦٧ و ٨٦ ، المناقب المرتضوية : ٦٦.

(٢) إرشاد القلوب ٢ / ٢٢.

(٣) شرح مائة كلمة ـ لابن ميثم البحراني ـ : ٢١٩.

٣٩٣

وقال الفضل(١) :

عبادة أمير المؤمنين ، لا يقاربه العابدون ، ولا يدانيه الزاهدون ، الملائكة عاجزون عن تحمّل أعبائها ، وأهل القدس مغترفون من بحار صفائها.

وكيف لا؟! وهو أعرف الناس بجلال القدس ، وجمال الملكوت ، وأعشق النفوس إلى وصال الجبروت.

وأمّا ما ذكر أنّه عبد الله حقّ عبادته ، فهو لا يصحّ ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال ـ مع كمال العبادة ـ : «ما عبدناك حقّ عبادتك »(٢) .

واتّفق العارفون أنّ الله لا يقدر أحد أن يعبده حقّ عبادته ، والدلائل على هذا مذكورة في محالّه.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ : ٤٥٥ الطبعة الحجرية.

(٢) انظر : الكافي ٢ / ٩٩ ح ١ وفيه : « إنّ الله لا يعبد حقّ عبادته ».

٣٩٤

وأقول :

إنّما الممتنع هو العبادة بحقّها من جميع الوجوه ، كمّا وكيفا ، وأمّا من جهة خاصّة فلا ، كعبادته سبحانه لذاته لا خوفا ولا طمعا ، وهي التي أرادها المصنّفرحمه‌الله ؛ ولذا جعل قولهعليه‌السلام : «ما عبدتك خوفا من نارك » إلى آخره ، تعليلا لكونه عبد الله حقّ عبادته ؛ وهي عبادة الأحرار ، لا عبادة العبيد والتجّار.

قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « الشرح » : « كان أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة.

وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده(١) ، أن يبسط له نطع(٢) بين الصّفّين ليلة الهرير(٣) ، فيصلّي عليه ورده ، والسهام تقع بين

__________________

(١) الورد ـ والجمع : الأوراد ـ : النصيب أو الجزء أو المقدار المعلوم من القرآن ، وما يكون على الرجل أن يصلّيه في الليل ؛ انظر : لسان العرب ١٥ / ٢٦٩ مادّة « ورد ».

(٢) النّطع والنّطع والنّطع والنّطع ـ والجمع : نطوع وأنطاع وأنطع ـ : بساط من الأديم ؛ انظر مادّة « نطع » في : الصحاح ٣ / ١٢٩١ ، لسان العرب ١٤ / ١٨٦ ، تاج العروس ١١ / ٤٨٢.

(٣) ليلة الهرير : ليلة من ليالي معركة صفّين ، في صفر من سنة ٣٧ ه‍ ، اقتتل الجيشان في تلك الليلة حتّى الصباح ، فتطاعنوا بالرماح حتّى تقصّفت وتكسّرت واندقّت ، وتراموا حتّى نفد النبل ، ثمّ مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيوف وعمد الحديد ، فلم يسمع السامع إلّا وقع الحديد بعضه على بعض ، فكشف في

٣٩٥

يديه ، وتمرّ على صماخيه(١) يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته؟!

وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير(٢) ، لطول سجوده؟!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما تتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته ، والاستحذاء له(٣) ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أيّ قلب خرجت ، وعلى أيّ لسان جرت!

وقيل لعليّ بن الحسينعليه‌السلام ـ وكان الغاية في العبادة ـ : أين عبادتك من عبادة جدّك؟

قال :عبادتي عند عبادة جدّي ، كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

ولا غرو فقد وحّد الله قبل الناس طفلا ، وعبده صبيّا مع النبيّ سبع سنين ، في محلّ لم يعبده فيه عابد ، ولم يسجد له من الملأ ساجد.

__________________

صبيحتها عن ما يقرب من سبعين ألف قتيل.

انظر : وقعة صفّين : ٤٧٥ ، الكامل في التاريخ ٣ / ١٩١ ، تاج العروس ٧ / ٦٢١ مادّة « هرر ».

(١) الصّماخ ، والسّماخ لغة فيه ـ والجمع : أصمخة وصمخ ، وبالسين لغة ـ : هو ثقب الأذن الماضي إلى داخل الرأس ، ويقال : إنّ الصماخ هو الأذن نفسها ؛ انظر : لسان العرب ٧ / ٤٠٣ مادّة « صمخ ».

(٢) الثّفنة من البعير والناقة : الرّكبة وما مسّ الأرض من جسمه وأصول أفخاذه ، والجمع : ثفن وثفنات ؛ انظر : لسان العرب ٢ / ١٠٨ مادّة « ثفن ».

(٣) الاستحذاء له : أي متابعة أوامره والانقياد لها ؛ انظر : لسان العرب ٣ / ٩٨ مادّة « حذا ».

(٤) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧.

٣٩٦

وهذا بالضرورة لم يكن إلّا من كمال النفس ، وصفاء الذات ، وتمام العلم والمعرفة ، التي امتاز بها على من لم يعرف ضعة الحجارة في أكثر أعوامه ، ولم يتّصف بأدنى مراتب تلك العبادة في باقي أيّامه.

روى البخاري في : « باب يفكّر الرجل الشيء في صلاته » ـ قبل أبواب السهو ـ ، عن عمر ، قال : « إنّي لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة »(١) .

وروى في « كنز العمّال »(٢) ، أنّ عمر صلّى بالناس المغرب ولم يقرأ شيئا ، فلمّا فرغ قيل له ، فاعتذر بأنّي جهّزت عيرا إلى الشام ، وجعلت أنقلها منقلة منقلة ، حتّى قدمت الشام فبعتها وأقتابها وأحلاسها وأحمالها.

فكيف يقاس هذا بصاحب تلك العبادة والمعرفة؟!

وهل يحسن بشريعة العقل أن يكون هذا رئيسا دينيّا ، وإماما مذهبيّا ، وذاك مأموما؟!

ما هذا بحكم عدل ، ولا قول فصل!!

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٤٨.

(٢) ص ٢١٣ من الجزء الرابع [ ٨ / ١٣٣ ح ٢٢٢٥٧ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ٣٨٢.

٣٩٧

جهاده في الحروب

قال المصنّف ـ طاب رمسه ـ(١) :

المطلب الثاني : في الجهاد

وإنّما تشيّدت مباني الدين ، وثبتت قواعده ، وظهرت معالمه ، بسيف مولانا أمير المؤمنين ، وتعجّبت الملائكة من شدّة بلائه في الحرب(٢) .

ففي غزاة بدر ـ وهي الداهية العظمى على المسلمين ، وأوّل حرب ابتلوا بها ـ قتل صناديد قريش الّذين طلبوا المبارزة ، كالوليد بن عتبة ، والعاص(٣) بن سعيد بن العاص ـ الذي أحجم المسلمون عنه ـ ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٤٨.

(٢) انظر : ربيع الأبرار ١ / ٨٣٣ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ٢٥١.

ومرّ تخريجه مؤدّاه مفصّلا في مبحث الحديث الرابع عشر ؛ فراجع الصفحتين ١٣٣ ـ ١٣٤ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٣) كذا في الأصل والمصدر.

نقول : والصحيح في كتابته لغة : « العاصي » ؛ إذ إنّه من الأسماء المنقوصة ، وهي كلّ اسم معرب في آخره ياء ثابتة مكسور ما قبلها ، وحكمه الإعرابي حذف الياء منه في حالتي الرفع والجرّ ، كقولنا : هذا قاض ومررت بقاض ؛ وإثباتها عند الإضافة ودخول « أل » التعريف عليها ، كقولنا : جئت من عند قاضي القضاة والقاضي العادل أمان للضعفاء ؛ وثبوتها في حالة النصب ـ كذلك ـ كقولنا : رأيت قاضيا.

٣٩٨

ونوفل بن خويلد ـ الذي قرن أبا بكر وطلحة بمكّة قبل الهجرة ، وأوثقهما بحبل وعذّبهما(١) ـ.

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عرف حضوره في الحرب : «اللهمّ اكفني نوفلا »(٢) .

ولمّا قتله عليّعليه‌السلام ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه »(٣) .

ولم يزل يقتل في ذلك اليوم واحدا بعد واحد ، حتّى قتل نصف المقتولين ، وكانوا سبعين.

وقتل المسلمون كافّة ، وثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين النصف الآخر(٤) .

__________________

وقد شاع بين الكتّاب والمتأدّبين ـ من العصر الأوّل حتّى يومنا هذا ـ كتابته بحذف الياء ، وهو ليس بصحيح

قال المبرّد : « هو العاصي بالياء ، لا يجوز حذفها ، وقد لهجت العامّة بحذفها ».

انظر : تاج العروس ١٩ / ٦٨٢ مادّة « عصي ».

وما قلناه هنا ينطبق على الموارد نفسها التي تقدّمت وستأتي ؛ فلاحظ!

(١) انظر : المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ٤١٦ ح ٥٥٨٦ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٧٠.

(٢) المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٩١ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ / ٩٤ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ١٤٣.

(٣) المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٩٢ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ / ٩٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ١٤٤.

(٤) انظر : المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ١٤٧ ـ ١٥٢ ، أنساب الأشراف ١ / ٣٥٥ ـ ٣٦٠ ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ٧٠ ـ ٧٢ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٤.

٣٩٩

وفي غزاة أحد انهزم المسلمون عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورمي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضربه المشركون بالسيوف والرماح ، وعليّ يدافع عنه ، فنظر إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إفاقته من غشيته ، وقال : ما فعل المسلمون؟

فقال :نقضوا العهد وولّوا الدّبر.

فقال :اكفني هؤلاء ؛ فكشفهم عنه.

وصاح صائح بالمدينة : قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فانخلعت القلوب ، ونزل جبرئيل قائلا :

لا سيف إلّا ذو الفقا

ر ، ولا فتى إلّا عليّ

وقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله! لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :ما يمنعه من ذلك وهو منّي وأنا منه ؟!(١) .

ورجع بعض الناس لثبات عليّعليه‌السلام ، ورجع عثمان بعد ثلاثة أيّام ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :لقد ذهبت بها عريضا !(٢)

وفي غزاة الخندق أحدق المشركون بالمدينة كما قال الله تعالى :( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) (٣) ، ونادى المشركون بالبراز ، فلم يخرج سوى عليّ ، وفيه قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام عمرو بن

__________________

(١) راجع مبحث الحديث الرابع عشر ، في الصفحات ١٣٣ ـ ١٤١ من هذا الجزء.

(٢) انظر : السير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ : ٣٣٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٩ ، تفسير الفخر الرازي ٩ / ٦٤ تفسير الآية ١٥٩ من سورة آل عمران ، شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢١ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٥٢ ، تفسير الطبري ٣ / ٤٨٩ ح ٨١٠٢.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529