حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 224951 / تحميل: 7219
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

من التكريم والحفاوة بقيس ، فالتفت الى معاوية قائلا :

« لا تأته هذا وقاتله!! »

ولم يخف على معاوية حقد ابن العاص لقيس وعدم نصحه في مقاله فأجابه :

« على رسلك فانا لا نخلص الى قتلهم حتى يقتل اعدادهم من أهل الشام فما خير في العيش بعد ذلك واني والله لا أقاتله أبدا حتى لا أجد من قتاله بدّا ».

وأوصل الرسول الطومار الى قيس ، وابلغه بمقالة معاوية ، فتأمل قيس وأطال التفكير ، وأخيرا لم يجد بدا من الدخول فيما دخل فيه الناس إذ لم تكن عنده قوة يستطيع بها على مناجزة معاوية ، ولم يكن هناك ركن شديد يأوى إليه حتى يتخلص من بيعته ، فأجاب الرسول بالموافقة وسجل في الطومار الأمان له ولشيعته ، ولم يسأل غير ذلك(١) ولكنه امتنع من الاجتماع معه لأنه قد عاهد الله أن لا يجتمع معه إلا وبينهما السيف والرمح فلما علم معاوية ذلك أمر باحضار سيف ورمح ليجعل بينهما حتى يبر قيس بيمينه ولا يحنث ، فعند ذلك التجأ قيس الى الاجتماع به فأقبل وقد أحاطت به الجماهير ، وشخصت نحوه الأبصار ، وهو مطأطئ الرأس ، مثقل الخطى لا يبصر طريقه من الأسى والذل ، يتنفس فيلفظ شظايا قلبه مع أنفاسه ، ولما استقر به المجالس التفت الى الجموع الحاشدة قائلا :

« يا معشر الناس ، لقد اعتضتم الشر من الخير ، واستبدلتم الذل من العز ، والكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين ، وابن عم رسول رب العالمين ، وقد وليكم الطليق ابن الطليق ، يسومكم الخسف ، ويسير فيكم بالسيف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم ، أم

__________________

(١) الكامل ٣ / ٢٠٧ ، الطبري ٦ / ٩٤.

٢٦١

طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون »(١) .

ثم التفت الى الإمام (ع) وقد استولى عليه الذل والانكسار قائلا بصوت خفيض وبنبرات مرتعشة.

« أفي حل أنا من بيعتك؟ »

والتاع الإمام أشد اللوعة من حديث قيس فأجابه بكلمة واحدة :

« نعم ».

ولم يكتف معاوية بذلك فقد دفعته الوقاحة وصفاقة الوجه ، وضيق الوعاء أن يقول له :

« أتبايع يا قيس؟ »

فأجابه بصوت خافت حزين :

« نعم ».

ثم أطرق برأسه ووضع يده على فخذه لم يمدها إليه ، وقام معاوية من سريره وأكب عليه ومسح يده ، وقيس لم يرفع يده.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن اجتماع الإمام بمعاوية ، وقد كان الاجتماع من أعظم المحن وأقساها عليه ، وأقبل (ع) بعد ذلك يتهيأ للسفر الى يثرب ليترك العراق الذي غدر به وبأبيه من قبل ، فلم يف لهما بعهد ووعد يتركه الى معاوية ولبني أميّة يتصرفون فيه حسبما شاءت لهم أهواؤهم الخاصة ، فقد أخرجوه من الدعة والرفاهية والأمن ، الى الشدة والقسوة والعذاب ، وجعل العراقيون بعد نزوح الإمام عنهم يذكرون أيام حياتهم تحت ظلال الحكومة الهاشمية فيحزنون أشد الحزن ، ويندمون أشد الندم على تفريطهم في جنب أمير المؤمنين ، وولده الإمام الحسنعليهما‌السلام .

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ١٩٢.

٢٦٢

المندّدون بالصّلح

٢٦٣
٢٦٤

ولم تقتصر محنة الإمام وبلواه الخالدة على ما لاقاه من عظيم البلاء وشدة المحنة في صلحه مع معاوية واجتماعه به ، فقد تجاوز بلاؤه الى ما هو أعظم من ذلك وأشد أثرا في نفسه وهو كلام المنددين بصلحه من أعدائه وأصحابه فقد جابهوه بكلام أشد عليه من وقع الحسام المهند ، فقد رأى منهم غلظة فى القول وقسوة في الحديث وجفاء أي جفاء ، فاستاء (ع) من شيعته أكثر مما استاء من اعدائه لأنهم على علم بالظروف السود ، والعوامل المرة التي ألجأته الى الصلح والهدنة ، وفيما يلي كلام المنددين في ذلك مع جواب الإمام (ع) لهم.

١ ـ حجر بن عدي :

وأقبل بطل العقيدة ومثال الإيمان حجر بن عدي الى الامام وقد مشت الرعدة بأوصاله ، واستولى عليه الحزن قائلا :

« أما والله ، لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم ، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا ».

ولا أدري كيف فاه حجر بهذا الكلام القاسي وهو أعلم بمركز الإمام وبواقعه من غيره ، وأدرى بالظروف العصيبة والمصاعب الشديدة التي أحاطت به (ع) حتى اضطرته الى الصلح ، ولكنه يعذر لأن لوعة المصاب وذهول النفس تخرج الإنسان عن موازين الاعتدال والاستقامة ، وقام الإمام (ع) فأخذ بيد حجر واختلى به في زاوية من زوايا البيت فبيّن له الحكمة التي من أجلها صالح معاوية قائلا :

« يا حجر ، قد سمعت كلامك في مجلس معاوية ، وليس كل انسان يحب ما تحب ، ولا رأيه كرأيك ، وإني لم أفعل إلا إبقاء عليكم ، والله

٢٦٥

تعالى كل يوم فى شأن »(١) .

وقد أبان (ع) عدم وجود المخلصين له فى الجيش العراقي ولو كان هناك أمثال حجر فى عقيدته وايمانه ورأيه واخلاصه لما صالح معاوية ، كما بيّن (ع) انه إنما صالح خصمه محافظة على حجر وأمثاله من المؤمنين.

٢ ـ عدي بن حاتم :

وعدي بن حاتم هو الفذ المثالي الذي ضرب الرقم القياسي للعقيدة والايمان والفداء فى سبيل الله ، وقد اندفع هذا الصحابي العظيم بثورة نفسية عارمة الى انكار الصلح ، وكانت لهجة حديثه لهجة مؤدب كامل ، فقال للإمام وقد ذابت حشاه من الحزن والمصاب :

« يا ابن رسول الله ، لوددت أني مت قبل ما رأيت ، أخرجتنا من العدل الى الجور ، فتركنا الحق الذي كنّا عليه ، ودخلنا في الباطل الذي كنّا نهرب منه ، وأعطينا الدنية من أنفسنا ، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا ».

وترك كلام عدي في نفس الامام بالغ الأسى والحزن ، فانبرى (ع) مبينا له العلة التي صالح من أجلها قائلا :

« يا عدي ، إني رأيت هوى معظم الناس في الصلح ، وكرهوا الحرب فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون ، فرأيت دفع هذه الحروب الى يوم ما فان الله كل يوم هو في شأن ».

وأعرب (ع) في جوابه عن سأم جيشه من الحرب ، وحبه للعافية وايثاره للسلم ، وإنه عازم على إثارة الحرب ومناجزة معاوية ، ولكن في

__________________

(١) مناقب ابن شهر اشوب ٢ / ١٦٩.

٢٦٦

وقت مناسب يضمن له النجاح والنصر ، ولم يقتنع عدي بكلام الامام ، فمضى وهو مثقل الخطى نحو الإمام الحسين (ع) وقلبه يلتهب نارا وحماسا وكان معه عبيدة بن عمر ، فلما انتهى الى الإمام قال له بنبرات تقطر حماسا وعزما الى اثارة الحرب.

« يا أبا عبد الله شريتم الذل بالعز ، وقبلتم القليل وتركتم الكثير ، أطعنا اليوم وأعصنا الدهر ، دع الحسن وما رأى من هذا الصلح ، وأجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وغيرها ، وولني وصاحبي هذه المقدمة ، فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف ».

فقال له (ع) :

« إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل لنقض بيعتنا »(١) .

٣ ـ المسيب بن نجبة :

والمسيب بن نجبة(٢) من عيون المؤمنين وخيار الصالحين الذين عرفوا بالولاء والاخلاص لآل البيت (ع) وقد تأثر من الصلح وتألم بكل ما للتألم من معنى فقد أقبل الى الامام وهو محزون النفس مكلوم القلب قائلا : « ما ينقضي تعجبي منك!!! بايعت معاوية ومعك اربعون ألفا ،

__________________

(١) الدينوري ص ٢٠٣.

(٢) المسيب بن بجبة : كوفي روى عن أمير المؤمنين (ع) وحذيفة ، وروى عنه جماعة ، خرج مع سليمان بن صرد في الطلب بثأر الحسين فقتل سنة ٦٥ ه‍ وقال ابن سعد : في الطبقة الأولى من أهل الكوفة ، المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رياح ، شهد القادسية ، ومشاهد علي (ع) ، وقتل يوم عين الوردة ، وقال العسكري : روى المسيب عن النبي (ص) مرسلا وليست له صحبة ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب ١٠ / ١٥٤.

٢٦٧

ولم تأخذ لنفسك وثيقة ، وعهدا ظاهرا ، أعطاك أمرا فيما بينك وبينه ، ثم قال : ما قد سمعت ، والله ما أراد بها غيرك ».

فقال له الامام : « ما ترى؟ »

« أرى أن ترجع الى ما كنت عليه ، فقد كان نقض ما بينك وبينه »

فانبرى إليه الإمام مبينا له أن المصلحة كانت تقضي بالصلح قائلا :

« يا مسيب ، إني لو أردت ـ بما فعلت ـ الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ، ولا أثبت عند الحرب مني ، ولكني أردت صلاحكم ، وكف بعضكم عن بعض »(١) .

وأعرب الإمام (ع) في حديثه أنه لو كان من طلاب الدنيا وعشاق الملك والسلطان ما كان معاوية بأصبر منه ، ولا أثبت في الحرب ، ولكن الانتصار عليه يتوقف على الاعتماد على الطرق التي لا يقرها الدين كالمواربة والمداهنة والخداع وما شاكل ذلك ، ولكنه (ع) أبى أن يسلك ذلك وسار على خطة أبيه الداعية الى ملازمة الحق والعدل ، ومتابعة الشرع.

٤ ـ مالك بن ضمرة :

ودخل على الإمام مالك بن ضمرة(٢) فتكلم معه بكلام مرّ كان في

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٢ / ٢٢٥.

(٢) مالك بن ضمرة الضمري : كان معروفا بسعة العلم والفضل ، وكان ملازما للصحابي العظيم أبي ذر ، وقد أدرك النبي (ص) ، ولمّا حضرته الوفاة أوصى بسلاحه الى المجاهدين من بني ضمرة ، واشترط عليهم أن لا يقاتلوا به أهل البيت (ع). فقال له أخوه : يا أخي عند الموت تقول هذا؟ فقال له : هو ذاك ، ولما أقبل سيد الشهداء الى العراق وخرج أهل الكوفة لقتاله ، جاء أحد أعوان ابن زياد الى موسى بن مالك مستعيرا منه رمح أبيه ليقاتل به ريحانة ـ

٢٦٨

منتهى الشدة فأجابه الامام (ع).

« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض ، فأردت أن يكون للدين ناعي »(١) .

وأدلى الامام (ع) في حديثه عن حرصه على دماء المسلمين وانه لو فتح باب الحرب بينه وبين معاوية لما بقي مسلم على وجه الأرض ، فصالح حفظا على دماء المسلمين وابقاء عليهم.

٥ ـ سفيان بن أبي ليلى :

وسفيان بن أبي ليلى كان ممن يدين بفكرة الخوارج ، فقد دخل على الامام وتكلم بكلمات تنمّ عن نفس مترعة بالجفاء والجهل قائلا :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين » ،

فتأثر (ع) منه واندفع قائلا :

« ويحك أيها الخارجي ، لا تعنفني ، فان الذي أحوجني الى ما فعلت قتلكم أبي ، وطعنكم إياي ، وانتهابكم متاعي ، وإنكم لما سرتم الى صفين كان دينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم اليوم ودنيا كم أمام دينكم ، ويحك أيها الخارجي!!! إني رأيت أهل الكوفة قوما لا يوثق بهم ، وما اعتز بهم إلا من ذل ، وليس أحد منهم يوافق رأي الآخر ، ولقد لقى أبي منهم امورا صعبة ، وشدائدا مرّة وهي أسرع البلاد خرابا ، وأهلها هم الذين

__________________

ـ رسول الله ، فأعطاه إياه ، فلما خرج قالت إليه امرأة من أهله : يا موسى أما تذكر وصية أبيك ، فلما سمع بذلك طلبه حتى أخذ منه الرمح فكسره ، جاء ذلك فى الاصابة ٣ / ٤٦٠.

(١) البحار.

٢٦٩

فرقوا دينهم وكانوا شيعا »(١) .

٦ ـ بشير الهمداني :

ودخل بشير الهمداني على الامام وكان (ع) في يثرب فقال له :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين ».

« وعليك السلام ، اجلس ».

فلما استقر به المجالس التفت (ع) له قائلا :

« لست مذلاّ للمؤمنين ، ولكني معزّهم ، ما أردت بمصالحتي إلا أن أدفع عنكم القتل عند ما رأيت تباطؤ أصحابي ونكولهم عن القتال »(٢) .

٧ ـ سليمان بن صرد :

وسليمان بن صرد من صفوة أصحاب الامام في إيمانه وعقيدته وولائه لآل البيتعليهم‌السلام ، ولم يكن حاضرا في المدائن حينما جرى الصلح فلما وافته الأنباء المؤلمة توجه الى الامام وكان في يثرب فلما انتهى إليه اندفع قائلا :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين ».

« عليك السلام ، اجلس ».

فلما جلس اندفع قائلا :

« إن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك لمعاوية!! ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق وكلهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز ، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد ، ولا حظا من

__________________

(١) تذكرة الخواص ص ٢٠٧ ، وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج والكشي فى رجاله صورة أخرى غير هذه الصورة.

(٢) الدينوري ص ٢٠٣.

٢٧٠

القضية ، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت ، وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق كنت كتبت عليه بذلك كتابا ، وأشهدت عليه شهودا من أهل المشرق والمغرب ، أن هذا الأمر لك من بعده ، كان الأمر علينا أيسر ، ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله ، ثم قال وزعم على رءوس الناس ما قد سمعت : إني كنت شرطت لقوم شروطا ، ووعدتهم عدات ، ومنيتهم أماني ، إرادة إطفاء نار الحرب ، ومداراة لهذه الفتنة ، إذ جمع الله لنا كلمتنا وألفتنا ، فان كل ما هنالك تحت قدمي هاتين ، والله ما أعنى بذلك إلا نقض ما بينك وبينه ، فأعد للحرب خدعة ، واذن لي أشخص الى الكوفة ، فأخرج عامله منها ، وأظهر فيها خلعه ، وأنبذ إليه على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين ».

وقد دلّ حديث سليمان على ولائه واخلاصه للإمام (ع) وقد حفزه الى الثورة على حكومة معاوية ونقض البيعة لأنه لم يف بالعهد ولم يلتزم ببنود الصلح ، كما أعلن ذلك أمام الرأي العام ، وصادف حديث سليمان هوى في نفوس من حضر نادي الامام فهتفوا بالتأييد لمقالته قائلين :

« ابعث سليمان بن صرد ، وابعثنا معه ، ثم الحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله ، وأظهرنا خلعه ».

ولما كانت المصلحة العامة للمسلمين لا تساعد على خلع معاوية ونقض المعاهدة ، لأن ذلك غير ممكن نظرا لتلبد الجو بالفتن والاضطرابات ، ولقلة الناصر ، وخذلان المحب ، وكثرة العدو ، فقد أمرهم (ع) بالسكون وهدّأ ثورتهم النفسية قائلا لهم بعد حمد الله والثناء عليه :

« أما بعد : فإنكم شيعتنا ، وأهل مودتنا ، ومن نعرفه بالنصيحة والصحبة والاستقامة لنا ، وقد فهمت ما ذكرتم ، ولو كنت بالحزم في

٢٧١

أمر الدنيا. وللدنيا أعمل وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني بأسا ، وأشد شكيمة ، ولكان رأيي غير ما رأيتم ، ولكني أشهد وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم ، وإصلاح ذات بينكم ، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله ، وسلموا الأمر لله ، والزموا بيوتكم ، وكفوا أيديكم ، حتى يستريح بر ، أو يستراح من فاجر ، مع ان أبي كان يحدثني أن معاوية سيلي الأمر ، فو الله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر إن الله لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، وأما قولك : يا مذل المؤمنين. فو الله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلي من أن تعزوا وتقتلوا ، فان رد الله علينا حقنا فى عافية قبلنا ، وسألنا الله العون على أمره وان صرفه عنا رضينا وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنا فليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته ، ما دام معاوية حيا ، فان يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا ، والمعونة على أمرنا ، وأن لا يكلنا الى أنفسنا ، فان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. »(١)

لقد أمر الامام شيعته بالخلود الى الصبر والسكون ما دام معاوية في قيد الحياة ، وعلل صلحه بأمور تقدم بيانها بالتفصيل.

٨ ـ عبد الله بن الزبير :

وعبد الله بن الزبير وغد خبيث عرف بالبغض والعداء لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عاب على الامام صلحه مع معاوية ، فأجابه (ع) قائلا :

« وتزعم أني سلمت الأمر ، وكيف يكون ذلك ـ ويحك ـ كذلك وانا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين ، لم أفعل

__________________

(١) المحاسن والمساوئ للبيهقي ١ / ٦٠ ـ ٦٥.

٢٧٢

ذلك ـ ويحك ـ جبنا ولا ضعفا ، ولكنه بايعني مثلك ، وهو يطلبني بترة ويداجيني المودة ، ولم أثق بنصرته ».

لقد اتهم ابن الزبير الإمام بالجبن ، وحاشاه من ذلك ، فمن أين جاءه الجبن « أمن أبيه أسد الله وأسد رسوله ، أم من جديه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيخ البطحاء ، أم من عميه سيدي الشهداء العظمين حمزة وجعفر ، أم من أخيه أبي الشهداء ، أم من مواقفه المشهورة في مختلف الميادين ، يوم الدار ، ويوم البصرة ، وفى مظلم ساباط ، وهو ذلك الرئبال الذي ( إذا سار سار الموت حيث يسير ) على حد تعبير عدوه فيه؟؟ ».

٩ ـ أبو سعيد :

وأقبل أبو سعيد إلى الإمام يعاتبه على صلحه ، ويؤنبه على ذلك قائلا :

« يا ابن رسول الله لم هادنت معاوية وصالحته ، وقد علمت أن الحق لك دونه ، وان معاوية ضال باغ؟ »

ـ يا أبا سعيد ألست حجة الله على خلقه ، وإماما عليهم بعد أبي؟

ـ بلى.

ـ يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبنى ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.

يا أبا سعيد ، إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألا ترى الخضر لمّا خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، سخط موسى فعله لاشتباه الحكمة عليه ، حتى أخبره فرضي. هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم وجه الحكمة ، ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على

٢٧٣

وجه الأرض أحد إلا قتل »

إن شأن الإمام كشأن النبي ، لا يفعل إلا ما فيه الصالح العام ، ولكن المصلحة قد تخفى أحيانا على الناس فلا يعقلونها إلا بعد حين ، وقد شبه صلحه بفعل الخضر (ع) لما خرق السفينة ، وهدم الجدار ، وقتل الغلام ، ولما لم يفهم صاحبه المصلحة فى ذلك نقم عليه ، وراح يشتد في معارضته والإنكار عليه ، وحينما تبين له الحال أذعن له وأطاع ، وكذلك الإمام في صلحه ، فإن الحكمة قد خفيت على كثير من شيعته فاندفعوا الى اعلان سخطهم وإلى الإنكار عليه.

١٠ ـ بعض أصحابه :

ودخل على الإمام بعض أصحابه ، وهو مندلع الثورة قد أخذ منه الوجد والأسى مبلغا ليس بالقليل فقال له :

« يا ابن رسول الله ، أذللت رقابنا بتسليمك الأمر الى هذا الطاغية : » فأجابه الإمام :

« والله ، إني ما سلمت الأمر إلا لأني لم أجد أنصارا ، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ، ولكن عرفت أهل الكوفة ، وبلوتهم ، ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا ، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ، ولا فعل ، إنهم لمختلفون ، ويقولون لنا : إن قلوبهم معنا ، وإن سيوفهم لمشهورة علينا »

لقد بيّن (ع) انه لا ناصر له ولا معين ليناجز معاوية ، إذ لم يكن معه سوى أهل الكوفة الذين لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل فكيف يحارب بهم معاوية؟

لقد ردعليه‌السلام شبه الناقدين ، وأوضح لهم الحكمة في ذلك ، وأجاب كلا على عتابه ببراعة الحجة ، وروعة العرض واصالة الرأي.

٢٧٤

الى يثرب

٢٧٥
٢٧٦

بقي الإمام (ع) فى الكوفة أياما وهو مكلوم القلب قد طافت به الهموم والآلام يتلقى من شيعته مرارة الكلام ، وقسوة القول ، ومن معاوية وحزبه الاستهانة بمركزه الرفيع وهو مع ذلك صابر محتسب ، قد كظم غيظه ، وأوكل أمره الى الله ، وقد عزم على مغادرة العراق ـ البلد الذي غدر به وبأبيه من قبل ـ والشخوص الى مدينة جده ، وقد أظهر عزمه ونيته الى أصحابه ، ولما أذيع ذلك دخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري ، وظبيان ابن عمارة التميمي(١) ليودّعاه ، فالتفت لهما ونفسه الشريفة مترعة بالألم والحزن على ما آل إليه أمر المسلمين قائلا :

« الحمد لله الغالب على أمره ، لو أجمع الخلق جميعا على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا ».

ويلمس في كلامه التسليم لقضاء الله وقدره والحزن واللوعة على ضياع حقه الشرعي ولما رأى المسيب الشجا قد بدا على غصني النبوة ، وفرعي الإمامة ، وذلك لخوفهم على شيعتهم من أن يضاموا في عهد هذا الطاغية التفت لهما مهدئا روعهما قائلا :

« إنه والله ما يكبر علينا هذا الأمر إلا أن تضاموا وتنتقصوا ، فأما نحن فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه ».

فانبرى إليه الإمام الحسين (ع) يشكره على ولائه وإخلاصه قائلا :

« يا مسيب ، نحن نعلم أنك تحبنا ».

__________________

(١) ظبيان بن عمارة التميمي : روى عن أمير المؤمنين (ع) ذكره البخاري في الصحابة ، وذكره في التابعين ابن حاتم وابن حبان ، جاء ذلك فى الاصابة ٢ / ٢٣٢. وجاء في لسان الميزان ٣ / ٢١٥ ان ابن حبان عدّ ظبيانا من الثقات وان ابن حاتم لم يذكر فيه جرحا.

٢٧٧

والتفت إليه الإمام الحسن (ع) فبشره بحبه لهم قائلا :

« سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله (ص) يقول : من أحب قوما كان معهم ».

وطلب منه المسيب وظبيان المكث في الكوفة فأمتنع (ع) من اجابتهم وقال :

« ليس الى ذلك من سبيل »(١) .

وأخذ (ع) يعمل في تهيئة سفره ، وبعدها توجه هو وأهل بيته الى عاصمة جده ، وقد خرج أهل الكوفة بجميع طبقاتهم الى توديعه وهم ما بين باك وآسف(٢) يندبون حظهم التعيس وسعادتهم التي حطموها بأيديهم ، فقد نقلت الخلافة ومعها بيت المال من بلدهم الى دمشق ، وقد أقض ذلك مضاجعهم ، ولكن بعد أن سبق السيف العذل ، فقد كانوا أصحاب الدولة وإذا ببلدهم ـ بعد غدرهم بالامام وعدم مناصرته ـ قد أصبحت مصرا من الأمصار ، وإذا القطع السورية من الجيش تدخل مصرهم وتسيطر عليهم ويقام في بلدهم حكم ارهابي عنيف لا يعرف الرحمة والرأفة.

لقد رحل (ع) عن الكوفة هو وأهل بيته ومعه أبو رافع خازن بيت المال ، وقد غشيتها الكابة ، وخيم عليها الحزن ، وحل بها الشقاء والوبال والدمار ، فلقد صبّ الله عليها بعد خروج الامام الطاعون فقضى على كثير من أبنائها ، وفرّ منها المغيرة بن شعبة وإليها ثم بعد مدة عاد إليها فلما وصل جرفه الطاعون فمات به(٣) .

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٦.

(٢) تحفة الأنام للفاخوري ص ٦٧.

(٣) المسعودي على هامش ابن الأثير ٦ / ٩٧.

٢٧٨

وسارت قافلة الامام تطوي البيداء ، فلما انتهت الى دير هند(١) القى الامام (ع) على عاصمته نظرة ملؤها الأسى واللوعة ، ثم تمثل ببيت من الشعر يلمس فيه مدى استيائه وحزنه قائلا :

ولا عن قلى فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري(٢)

لقد ودع الامام الكوفة بالأسى والحسرات ، ولم يذكر ما لاقاه من الغدر والخيانة به ، فأي « نفس ملائكية هذه التي لقيت من نشوز هذه الحاضرة ومن بوائقها ما لقيت ، ثم هي تودعها بهذا البيت من الشعر فلا تذكر من تاريخها الطويل العريض ، إلا وفاء الأوفياء « المانعين الحوزة والذمار » ، وهم الذين منعوا عنه من أراده في المدائن ، والذين ثبتوا على طاعته يوم العسرة في مسكن فكانوا اخوان صدق ، وخيرة الأنصار على قلتهم » وسار موكب الامام ولكنه لم يبعد كثيرا حتى أدركه رسول معاوية يريد أن يرده الى الكوفة ليقاتل طائفة من الخوارج خرجت عليه ، فأبىعليه‌السلام أن يعود وكتب الى معاوية :

« لو آثرت أن أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك ، فإني تركتك لصلاح الأمّة وحقن دمائها »(٣) .

ثم مضى (ع) ولم يعتن بمعاوية ، وما اجتاز موكبه على حي أو قرية إلا وخف من فيهما الى استقباله والتشرف بمقابلته ، وكان أول حديث يبدءون به السؤال عما صار إليه أمره مع معاوية فيخبرهم (ع) بالحال

__________________

(١) دير هند : يقع بالحيرة ترهبت به هند بنت النعمان بن المنذر فسمي بها.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٦.

(٣) الكامل ٣ / ٢٠٨.

٢٧٩

فيظاهرون له الاستياء والتذمر وعدم الرضا وذلك لخوفهم من سلطة معاوية ولكنه (ع) ما يصنع وقد مني جيشه وشعبه بالتمرد والخذلان حتى التجأ الى الصلح والمسالمة.

وانتهت قافلة الامام الى يثرب فلما علم أهلها بتشريفه (ع) خفوا جميعا لاستقباله فقد أقبل إليهم الخير وحلت في ديارهم السعادة والرحمة ، وعاودهم الخير الذي انقطع عنهم منذ نزح أمير المؤمنينعليه‌السلام عنهم ، جاء الى يثرب فاستقام فيها عشر سنين ، فملأ رباعها بعطفه المستفيض ، ورقيق حنانه وحلمه ، ونقدم عرضا موجزا لبعض أعماله وشئونه حين مكثه فيها.

مدرسته :

وأنشأ الامام مدرسته الكبرى في يثرب ، وراح يعمل مجدا في نشر الثقافة الاسلامية ، وتوجيه المجتمع الاسلامى نحو الدين ، وافهامه بالنظم الاسلامية ، وقد انتمى لمدرسته كبار العلماء ، وعظماء المحدثين والرواة ، وقد وجد بهم خير عون لأداء رسالته الاصلاحية الخالدة التي بلورة عقلية المجتمع ، وأيقظته بعد الغافلة والجمود ، وقد ذكر المؤرخون بعض أعلام تلامذته ورواة حديثه وهم :

ابنه الحسن المثنى ، والمسيب بن نجبة ، وسويد بن غفلة ، والعلا ابن عبد الرحمن ، والشعبي ، وهبيرة بن بركم ، والأصبغ بن نباتة ، وجابر ابن خلد ، وأبو الجوزاء ، وعيسى بن مأمون بن زرارة ، ونفالة بن المأموم وأبو يحيى عمير بن سعيد النخعي ، وأبو مريم قيس الثقفي ، وطحرب العجلي ، واسحاق بن يسار ، والد محمد بن اسحاق ، وعبد الرحمن بن عوف

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥) )

التّفسير

فاصبر كما صبر أولوا العزم :

تواصل هذه الآيات ـ وهي آخر آيات سورة الأحقاف ـ البحث حول المعاد ، حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان مبلغي الجن. هذا من جهة.

٣٠١

ومن جهة أخرى فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الأولى عن مسألة التوحيد ، وعظمة القرآن المجيد ، وإثبات نبوة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الأصول الاعتقادية الثلاثة.

تقول الآية الأولى :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فإنّ خلق السماوات والأرض مع موجوداتها المختلفة المتنوعة علامة قدرته تعالى على كلّ شيء ، لأنّ كل ما يقع في دائرة مخلوق لله في هذا العالم ، فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يمكن أن يكون عاجزا عن إعادة حياة البشر؟ وهذا بحدّ ذاته دليل قاطع مفحم على مسألة إمكان المعاد.

وأساسا فإنّ أفضل دليل على إمكان أي شيء وقوعه ، فكيف ندع إلى أنفسنا سبيلا للشك في قدرة الله المطلقة على مسألة المعاد ونحن نرى نشأة الموجودات الحية وتولدها من موجودات ميتة ، وعلى هذا النطاق الواسع؟

هذا أحد أدلة المعاد العديدة التي يؤكد عليها القرآن ويستند إليها في آيات مختلفة ، ومن جملتها الآية (٨١) من سورة يس(١) .

وتجسّد الآية التالية مشهدا من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد ، فتقول :( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) .

أجل ، فمرّة تعرض النّار على الكافرين ، وأخرى يعرضون الكافرين على النّار ، ولكل من العرضين هدف أشير إليه قبل عدّة آيات.

وعند ما يعرضون الكافرين على النّار ، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم :( أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ ) ؟ وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة الله العادلة ، وثوابه وعقابه ، وتقولون : ما هذا إلّا أساطير الأولين؟

__________________

(١) طالع التفصيل حول هذا الموضوع ، وأدلّة المعاد المختلفة في ذيل آخر آيات سورة يس.

٣٠٢

غير أنّ أولئك الذين لا حيلة لهم :( قالُوا بَلى وَرَبِّنا ) فهنا يقول الله سبحانه ، أو ملائكة العذاب :( قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

وبهذا فإنّهم يرون كلّ الحقائق بأم أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الاعتراف الذي لن ينفعهم ، وسوف لن تكون نتيجته إلّا الهم والحسرة ، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.

ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات ، وهي آخر آية في سورة الأحقاف ، على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين ، أن :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم ، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا ، فنبيّ الله العظيم نوحعليه‌السلام دعا قومه (٩٥٠) سنة ، ولم يؤمن به إلّا فئة قليلة ، وكان قومه يؤذونه دائما ، ويسخرون منه.

وألقوا إبراهيمعليه‌السلام في النّار ، وهددوا موسىعليه‌السلام بالقتل ، وكان قلبه قد امتلأ قيحا من عصيانهم ، وكانوا يريدون قتل المسيحعليه‌السلام بعد أن آذوه كثيرا ، فأنجاه الله منهم.

وخلاصة القول : إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا ، ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلّا بقوّة الصبر والاستقامة والثبات.

من هم أولو العزم من الرسل؟

هناك بحث واختلاف كبير جدّا بين المفسّرين في : من هم أولو العزم؟ وقبل أن نحقق في هذا ، ينبغي أن نحقق في معنى (العزم) ، لأنّ (أولو العزم) بمعنى ذوي العزم.

«العزم» بمعنى الإرادة الصلبة القوية ، ويقول الراغب في مفرداته : إنّ العزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر.

وقد استعملت كلمة العزم في مورد الصبر في آيات القرآن المجيد أحيانا ، كقوله

٣٠٣

تعالى :( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (١) .

وجاءت أحيانا بمعنى الوفاء بالعهد ، كقوله تعالى :( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) .

لكن بملاحظة أنّ أصحاب الشرائع والأديان الجديدة من الأنبياء قد ابتلوا بمشاكل أكثر ، وواجهوا مصاعب أشد ، وكانوا بحاجة إلى عزم وإرادة أقوى وأشد لمواجهتها ، فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهرا. وهي تشير ضمنا إلى أن نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الفئة ، لأنّها تقول :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ ) .

وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة ، وإلّا فإنّ كلمة العزم لم تأت في اللغة بمعنى الشريعة.

وعلى أية حال ، فطبقا لهذا المعنى تكون (من) في (من الرسل) تبعيضية ، وإشارة إلى فئة خاصّة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة ، وهم الذين أشارت إليهم الآية ٧ من سورة الأحزاب :( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) .

فقد أشارت الآية إلى هؤلاء الأنبياء الخمسة بعد ذكر جميع الأنبياء بصيغة الجمع ، وهذا دليل على خصوصيتهم.

وتتحدث الآية (١٣) من سورة الشورى عنهم أيضا ، فتقول :( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ) .

وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة ، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة ، كما ورد في حديث عن الإمامين الباقر

__________________

(١) الشورى ، الآية ٤٣.

(٢) سورة طه ، الآية ١١٥.

٣٠٤

والصادقعليهما‌السلام : «ومنهم خمسة : أولهم نوح ، ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ، ثمّ عيسى ، ثمّ محمّد»(١) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام : «منهم خمسة أولو العزم من المرسلين : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد». وعند ما يسأل الراوي : لم سموا (أولو العزم)؟ يقول الإمامعليه‌السلام مجيبا : «لأنّهم بعثوا إلى شرقها وغربها ، وجنّها وإنسها»(٢) .

وكذلك ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «سادة النبيّين والمرسلين خمسة ، وهم أولو العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد»(٣) .

وروي هذا المعنى في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس أيضا ، بأنّ الأنبياء أولي العزم هم هؤلاء الخمسة(٤) .

إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ (أولو العزم) إشارة إلى الأنبياء الذين أمروا بمحاربة الأعداء وجهادهم.

واعتبر البعض عددهم (٣١٣) نفرا(٥) ، ويرى البعض أنّ جميع الأنبياء (أولو عزم) أي أصحاب إرادة(٦) صلبة وطبقا لهذا القول ، فإنّ (من) في (من الرسل) بيانية لا تبعيضية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أصح منها جميعا ، وتؤيده الروايات الإسلامية.

ثمّ يضيف القرآن بعد ذلك :( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٤ ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ١١ ، صفحة ٥٨ ، حديث ٦١ ، ويتحدث الحديث ٥٥ ، صفحة ٥٦ ، من المجلد المذكور بصراحة في هذا الباب.

(٣) الكافي ، المجلد ١ ، باب طبقات الأنبياء والرسل ، حديث ٣.

(٤) الدر المنثور ، المجلد ٦ ، صفحة ٤٥.

(٥) المصدر السابق.

(٦) المصدر السابق.

٣٠٥

سريعا ، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها ، ويجزون أشدّ العذاب ، وعندها سيطلعون على أخطائهم ، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي.

إنّ عمر الدنيا قصير جدّا بالنسبة إلى عمر الآخرة ، حتى :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) .

إنّ هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ، إمّا بسبب أنّ هذه الحياة ليست إلّا ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعا ، أو لأنّ الدنيا تنقضي عليهم سريعا حتى كأنّها لم تكن إلّا ساعة ، أو من جهة أنّهم لا يرون حاصل كلّ عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الاستفادة الصحيحة إلّا ساعة لا أكثر.

هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء ، ولات حين ندم ، إذ لا سبيل الى الرجوع.

لهذا نرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل : كم ما بين الدنيا والآخرة؟ فقال : «غمضة عين ، ثمّ يقول : قال الله تعالى :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) »(١) . وهذا يوحي بأنّ التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة ، بل هو إشارة إلى الزمان القليل القصير.

ثمّ تضيف الآية كتحذير لكلّ البشر «بلاغ»(٢) لكلّ أولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء ، والعابدين شهواتها وأخيرا هو بلاغ لكلّ سكان هذا العالم الفاني.

وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاما عميق المعنى ، وينطوي على التهديد :( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ ) ؟

* * *

__________________

(١) روضة الواعظين ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٢٥.

(٢) «بلاغ» خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هذا القرآن بلاغ ، أو : هذا الوعظ والإنذار بلاغ.

٣٠٦

ملاحظة

كان نبيّ الإسلام مثال الصبر والاستقامة :

إنّ حياة أنبياء الله العظام ـ وخاصة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تبيان لمقاومتهم اللامحدودة أمام الحوادث الصعبة والشدائد العسيرة ، والعواصف الهوجاء ، والمشاكل القاصمة ، ولما كان طريق الحق مليئا بهذه المشاكل دائما ، فيجب على سالكيه أن يستلهموا العبر من أولئك العظماء في هذا المسير.

إنّنا ننظر عادة من نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إلى أيّام مرّت على الإسلام ونبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صعبة مظلمة ، وهذه النظرة من المستقبل إلى الماضي تجسم الوقائع والحقائق بشكل آخر ، فينبغي علينا أن ندرك أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان وحيدا فريدا لا يرى في أفق الحياة أية علامة للانتصار.

فأعداؤه شمروا عن سواعدهم للفتك به ، حتى أنّ أقاربه وعشيرته كانوا في الخط الأوّل في هذه المجابهة!

كان يذهب دائما إلى قبائل العرب ويدعوهم ، ولكن لم يكن يجيبه أحد.

كانوا يرجمونه حتى تسيل الدماء من عقبيه ، لكنه لم يكن يكف عن عمله.

لقد فرضوا عليه الحصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث أغلقوا جميع الأبواب والطرق بوجهه وبوجه أتباعه ، حتى مات بعضهم جوعا ، وأقعد المرض بعضهم الآخر.

لقد مرّت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام يصعب على القلم واللسان وصفها ، فعند ما جاء إلى الطائف ليدعو الناس إلى الإسلام ، لم يكتفوا بعدم إجابة دعوته ، بل رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه.

لقد كانوا يحثون الجهلاء من الناس على أن يصرخوا ، ويسيئوا في كلامهم إليه ، فيضطر إلى أن يلتجئ إلى بستان ويستظل بظل شجرة ، ويناجي ربّه فيقول : «اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهو اني على الناس ، يا أرحم الراحمين : أنت

٣٠٧

رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ...»(١) .

كانوا يسمونه ساحرا تارة ، وأخرى يخاطبونه بالمجنون.

كانوا يلقون التراب والرماد على رأسه حينا ، وحينا يجمعون على قتله ، فيحاصرون بيته بالسيوف والرماح.

إلّا أنّه رغم كلّ تلك الظروف استمر في صبره وصموده واستقامته.

وأخيرا جنى الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة ، فقد عمّ دينه شرق العالم وغربه ، لا جزيرة العرب وحدها ، ويدوّي اليوم صوت انتصاره صباح مساء في كلّ أرجاء الدنيا ، وفي قارات العالم الخمسة ، وهذا هو معنى :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) .

وهذا هو طريق محاربة الشياطين ، وطريق الإنتصار عليهم ، والوصول إلى الأهداف الإلهية السامية.

إذا كان الأمر كذلك ، فكيف يطمح طلاب الراحة والسلامة إلى أن يصلوا إلى أهدافهم الكبيرة من دون صبر وتحمل للعذاب والآلام؟

وكيف يأمل مسلمو اليوم أن ينتصروا على كلّ هؤلاء الأعداء الذين اجتمعت كلمتهم على إفنائهم والقضاء عليهم ، دون الاستلهام من دين نبي الإسلام الأصيل؟

والقادة الإسلاميون بخاصة مأمورون بهذا الأمر قبل الجميع ، كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض ، لقول اللهعزوجل لنبيّه :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته بقوله :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) »(٢) .

اللهمّ امنحنا هذه الموهبة العظيمة ، هذه العطية السماوية ، وهذا الصبر والثبات

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، المجلد ٢ ، صفحة ٦١.

(٢) احتجاج الطبرسي طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٢٣.

٣٠٨

والاستقامة أمام المشاكل.

اللهمّ وفقنا لحفظ مشعل النور الذي حمله أولو العزم من أنبيائك ، وخاصة خاتم النبيين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من أجل هداية البشرية بعد تحملهم الجهود المضنية ، ووفقنا لأن نكون أهلا لحراسته.

إلهنا! إنّ أعداء الحق متحدون ومتحزّبون ضده ، ولا يرتدعون عن اقتراف أية جريمة وجناية ، اللهمّ فامنحنا صبرا وثباتا أعظم مما لديهم لئلا نركع أمام سيل المشاكل وعظمتها ، ووفقنا لأن نتخطى الأمواج والعواصف ونتركها وراءنا ، وهذا لا يتمّ إلّا بعونك ولطفك اللامحدود.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الأحقاف

* * *

٣٠٩
٣١٠

سورة

محمّد

مدنيّة

وعدد آياتها ثمان وثلاثون آية

٣١١
٣١٢

«سورة محمّد»

محتوى السورة :

سمّيت هذه السورة بسورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ اسمه الشريف قد ذكر في الآية الثانية ، واسمها الآخر هو سورة القتال ، والواقع أنّ مسألة الجهاد وقتال أعداء الإسلام هو أهم موضوع ألقى ظلاله على هذه السورة ، في حين أنّ جزءا مهما آخر من آيات هذه السورة يتناول المقارنة بين حال المؤمنين والكافرين وخصائصهم وصفاتهم ، وكذلك المصير الذي ينتهي إليه كلّ منهما في الحياة الآخرة.

ويمكن تلخيص محتوى السورة بصورة عامة في عدة فصول :

١ ـ مسألة الإيمان والكفر ، والمقارنة بين أحوال المؤمنين والكفار في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.

٢ ـ بحوث معبرة بليغة وصريحة حول مسألة الجهاد وقتال المشركين ، والتعليمات الخاصة فيما يتعلق بأسرى الحرب.

٣ ـ شرح أحوال المنافقين الذين كان لهم نشاطات هدّامة كثيرة حين نزول هذه الآيات في المدينة.

٤ ـ فصل آخر يتناول مسألة السير في الأرض ، وتدبر مصير الأقوام الماضين وعاقبتهم ، كدرس للاعتبار والاتعاظ.

٥ ـ وفي جانب من آيات هذه السورة ذكرت مسألة الاختبار الإلهي لمناسبتها موضوع القتال والجهاد.

٦ ـ ورد الحديث في فصل آخر عن مسألة الإنفاق الذي يعتبر بحدّ ذاته نوعا

٣١٣

من الجهاد ، وجاء الحديث عن مسألة البخل الذي يقع في الطرف المقابل.

٧ ـ وتناولت بعض آيات هذه السورة ـ لمناسبة موضوعها ـ مسألة الصلح مع الكفار ـ الصلح الذي يكون أساسا لهزيمة المسلمين وذلّتهم ـ ونهت عنه.

وبالجملة ، فبملاحظة أنّ هذه السورة قد نزلت في المدينة حينما كان الاشتباك شديدا بين المسلمين وأعداء الإسلام ، وعلى قول بعض المفسّرين أنّها نزلت أثناء معركة أحد أو بعدها بقليل ، فإنّ أهم مسألة فيها هي قضية الجهاد والحرب ، وتدور بقية المسائل حول ذلك المحور الحرب المصيرية التي تميّز المؤمنين عن الكافرين والمنافقين الحرب التي كانت تثبت دعائم الإسلام ، وردّت كيد الأعداء الذين هبّوا للقضاء على الإسلام والمسلمين في نحورهم ـ وأوقفتهم عند حدّهم.

فضل تلاوة السورة :

جاء في حديث عن نبي الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة محمّد كان حقّا على الله أن يسقيه من أنهار الجنّة»(١) .

وروي في كتاب ثواب الأعمال عن الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «من قرأ سورة الذين كفروا ـ سورة محمّد لم يرتب أبدا ، ولم يدخله شكّ في دينه ، ولم يبتله الله بفقر أبدا ، ولا خوف سلطان أبدا ، ولم يزل محفوظا من الشرك والكفر أبدا حتى يموت ، فإذا مات وكلّ الله به في قبره ألف ملك يصلون في قبره ، ويكون ثواب صلاتهم له ويشيعونه حتى يوقفوه موقف الأمن عند اللهعزوجل ، ويكون في أمان الله ، وأمان محمّد»(٢) .

من الواضح أنّ الذين جرى محتوى هذه السورة في دمائهم ، وتشبّعت به

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، بداية سورة محمّد.

(٢) ثواب الأعمال ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٢٥.

٣١٤

أرواحهم ، وهم أشداء في جهاد الأعداء اللدودين القساة ، والذين لم يدعوا للشك والتزلزل الى أنفسهم سبيلا ، تكون أسس دينهم قوية ، وإيمانهم صلبا ، ولا يملكهم خوف ولا تنالهم ذلة ولا يعتريهم فقر ، وهم في الآخرة منعمون في جوار رحمة الله.

وجاء في حديث آخر أنّ الإمامعليه‌السلام قال : «من أراد أن يعرف حالنا وحال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد فإنّه يراها آية فينا وآية فيهم»(١) .

وقد نقل هذا الحديث مفسرو السنّة أيضا ، كالآلوسي في روح المعاني(٢) والسيوطي في الدر المنثور(٣) .

وهذه السورة تبيان لحقيقة أنّ أهل بيت النّبيعليه‌السلام كانوا نموذجا لأكمل الإيمان وأتمه ، وأنّ بنيّ أمية كانوا المثال البارز للكفر والنفاق.

صحيح أنّه لم يرد تصريح باسم أهل البيت ولا باسم بني أمية في هذه السورة ، لكن لمّا كان البحث فيها عن فئة المؤمنين والمنافقين وخصائص كلّ منهما ، فإنّها تشير قبل كلّ شيء إلى مصداقين واضحين ، ولا مانع في نفس الوقت من أن تشمل السورة سائر المؤمنين والمنافقين.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، أوّل السورة.

(٢) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٣٣.

(٣) الدر المنثور ، المجلد ٦ ، ص ٤٦.

٣١٥

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) )

التّفسير

المؤمنون أنصار الحق ، والكافرون أنصار الباطل :

إنّ هذه الآيات الثلاث تعتبر في الحقيقة مقدمة لأمر حربي مهم صدر في الآية الرابعة ، فبيّنت الأولى منها وضع الكافرين وحالهم ، والثانية حال المؤمنين ، وقارنت ثالثتهما بين الإثنين ، وذلك لتتهيأ الأرضية والاستعداد للجهاد الديني ضد الأعداء الظالمين العتاة باتضاح حال الفئتين.

تقول الآية الأولى :( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) وهي

٣١٦

إشارة الى زعماء الكفر ومشركي مكّة الذين كانوا يشعلون نار الحروب ضد الإسلام ، ولم يكتفوا بكونهم كفارا ، بل كانوا يصدون الآخرين عن سبيل الله بأنواع الحيل والخدع والمخططات.

ومع أنّ بعض المفسّرين ـ كالزمخشري في الكشّاف ـ فسّر «الصدّ» هنا بمعنى الإعراض عن الإيمان ، في مقابل الآية التالية التي تتحدث عن الإيمان ، إلّا أنّ الإحاطة بموارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم توجب الحفاظ على معناها الأصلي ، وهو المنع.

والمراد من :( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) أنّه يحبطها ويجعلها هباء منثورا ، لأنّ الإحباط والإضاعة كناية عن بقاء الشيء بدون حماية ولا عماد ، ولازم ذلك زواله وفناؤه.

وعلى أية حال ، فإنّ بعض المفسّرين يرون أنّ هذه الجملة إشارة إلى الذين نحروا الإبل يوم بدر وأطعموها الناس ، إذ نحر أبو جهل عشرة من الإبل ، ومثله صفوان ، وسهيل بن عمر ، لإطعام جيش الكفر(١) . لكن لمّا كانت هذه الأعمال من أجل التفاخر ومكائد الشيطان فقد أحبطت جميعا.

غير أنّ الظاهر أنّها لا تنحصر بهذا المعنى ، بل إنّ كلّ أعمالهم التي قاموا بها ، وظاهرها معونة للفقراء والضعفاء ، أو إقراء للضيف ، أو غير ذلك ستحبط لعدم إيمانهم.

وبغض النظر عن ذلك ، فإنّ ذلك ، فإنّ الله سبحانه قد أحبط كلّ مؤامراتهم وما قاموا به من أعمال لمحو الإسلام والقضاء على المسلمين ، وحال بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم الخبيثة.

والآية التالية وصف لوضع المؤمنين الذين يقفون في الصف المقابل للكافرين الذين وردت صفاتهم في الآية السابقة ، فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٣٣.

٣١٧

وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ ) (١) .

إنّ ذكر الإيمان بما نزل على نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذكر الإيمان بصورة مطلقة ، تأكيد على تعليمات هذا النّبي العظيم ومناهجه ، وهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، وتبيان لحقيقة أنّ الإيمان بالله سبحانه لا يتمّ أبدا بدون الإيمان بما نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويحتمل أيضا أن تكون الجملة الأولى إشارة إلى الإيمان بالله تعالى ، ولها جانب عقائدي ، وهذه الجملة إشارة إلى الإيمان بمحتوى الإسلام وتعليمات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولها الجانب العملي.

وبتعبير آخر ، فإنّ الإيمان بالله سبحانه لا يكفي وحده ، بل يجب أن يؤمنوا بما نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يكون لهم إيمان بالقرآن ، إيمان بالجهاد ، إيمان بالصلاة والصوم ، وإيمان بالقيم الأخلاقية التي نزلت عليه. ذلك الإيمان الذي يكون مبدأ للحركة ، وتأكيدا على العمل الصالح.

وممّا يستحق الانتباه أنّ الآية تقول بعد ذكر هذه الجملة :( وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) وهي تعني أنّ إيمانهم لم يكن تقليدا ، أو أنّه لم يقم على دليل وحجة ، بل إنّهم آمنوا بعد أن رأوا الحق فيه.

وعبارة( مِنْ رَبِّهِمْ ) تأكيد على حقيقة أنّ الحق يأتي دائما من قبل الله سبحانه ، فهو يصدر منه ، ويعود إليه.

والجدير بالالتفات إليه أنّ الآية تبيّن ثوابين للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، في مقابل العقابين اللذين ذكرا للكفار الصادين عن سبيل الله : أو لهما : التكفير عن السيئات التي لا يخلو منها أي إنسان غير معصوم ، والثاني : إصلاح البال.

لقد جاء «البال» بمعان مختلفة ، فجاء بمعنى الحال ، العمل ، القلب ، وعلى قول

__________________

(١) اعتبر جماعة من المفسّرين جملة (وهو الحق من ربّهم) جملة معترضة.

٣١٨

الراغب : بمعنى الحالات العظيمة الأهمية ، وبناء على هذا فإنّ إصلاح البال يعني تنظيم كلّ شؤون الحياة والأمور المصيرية ، وهو يشمل ـ طبعا ـ الفوز في الدنيا ، والنجاة في الآخرة ، على عكس المصير الذي يلاقيه الكفار ، إذ لا يصلون إلى ثمرة جهودهم ومساعيهم ، ولا نصيب لهم إلّا الهزيمة والخسران بحكم :( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) .

ويمكن القول بأنّ غفران ذنوبهم نتيجة إيمانهم ، وأنّ إصلاح بالهم نتيجة أعمالهم الصالحة.

إنّ للمؤمنين هدوءا فكريا واطمئنانا روحيا من جهة ، وتوفيقا ونجاحا في برامجهم العملية من جهة ثانية ، فإنّ لإصلاح البال إطارا واسعا يشمل الجميع ، وأي نعمة أعظم من أن تكون للإنسان روح هادئة ، وقلب مطمئن ، وبرامج مفيدة بنّاءة.

وبيّنت الآية الأخيرة العلة الأساسية لهذا الإنتصار وتلك الهزيمة من خلال مقارنة مختصرة بليغة ، فقالت :( ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) .

هنا يكمن سرّ المسألة بأنّ خطّي الإيمان والكفر يتفرعان عن خطّي الحق والباطل ، فالحق يعني الحقائق العينية ، وأسماها ذات الله المقدّسة ، وتليها الحقائق المتعلقة بحياة الإنسان ، والقوانين الحاكمة في علاقته بالله تعالى ، وفي علاقته بالآخرين.

والباطل يعني الظنون ، والأوهام ، والمكائد والخدع ، والأساطير والخرافات ، والأفعال الجوفاء التي لا هدف من ورائها ، وكلّ نوع من الانحراف عن القوانين الحاكمة في عالم الوجود.

نعم ، إنّ المؤمنين يتبعون الحق وينصرونه ، والكفار يتبعون الباطل ويؤازرونه ، وهنا يكمن سرّ انتصار هؤلاء ، وهزيمة أولئك.

٣١٩

يقول القرآن الكريم :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ) (١) .

وفسّر البعض «الباطل» بالشيطان ، وآخرون بالعبثية ، لكن كما قلنا ، فإنّ للباطل معنى واسعا يشمل هذين التّفسيرين وغيرهما.

وتضيف الآية في النهاية :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ) أي : كما أنّه سبحانه قد بيّن الخطوط العامّة لحياة المؤمنين والكفار ، وعقائدهم وبرامجهم العملية ونتائج أعمالهم في هذه الآيات ، فإنّه يوضح مصير حياتهم وعواقب أعمالهم.

يقول الراغب في مفرداته : المثل عبارة عن قول يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة يبيّن أحدهما الآخر.

ويستفاد من كلام آخر له أنّ هذه الكلمة تستعمل أحيانا بمعنى «المشابهة» ، وأحيانا بمعنى «الوصف».

والظاهر أنّ المراد في هذه الآية هو المعنى الثاني ، أي إنّ الله سبحانه يصف حال الناس هكذا ، كما مثّل الجنّة في الآية (١٥) من سورة محمّد :( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) .

وعلى أية حال ، فالذي يستفاد من هذه الآية جيدا ، أنّنا كلما اقتربنا من الحق اقتربنا من الإيمان ، وسنكون أبعد عن حقيقة الإيمان وأقرب إلى الكفر بتلك النسبة التي تميل بها أعمالنا نحو الباطل ، فإنّ أساسي الإيمان والكفر هما الحق والباطل.

* * *

__________________

(١) سورة ص ، الآية ٢٧.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529