حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 224456 / تحميل: 7168
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه المؤيد من العهد وضربه وقيّده فمات بعد أيام ، فخشي المعتز أن يتحدّث عنه أنّه قتله أو احتال عليه ، فأحضر القضاة حتى شاهدوه وليس به أثر ، وكان المعتز مستضعفاً مع الأتراك ، فاتفق أنّ جماعة من كبارهم أتوه وقالوا : يا أمير المؤمنين أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف ، وكان المعتز يخاف منهم فطلب من أُمّه ( قبيحة ) مالاً لينفقه فيهم ، فأبت عليه وشحّت نفسها ، ولم يكن بقي في بيوت المال شيء بينما كانت أُمه تملك الأموال العظيمة ، حيث أنفقت على صالح بن وصيف مالاً عظيماً بعد قتله ؛ ولهذا اجتمع الأتراك على خلعه ، ووافقهم صالح بن وصيف ، ومحمد بن بُغا ، فلبسوا السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة فبعثوا إلى المعتز أن اخرج إلينا ، فبعث يقول : قد شربت الدواء وأنا ضعيف ، فهجم عليه جماعة وجرّوا برجله وضربوه بالدبابيس ، وأقاموه في الشمس في يوم صائف ، وهم يلطمون وجهه ويقولون : اخلع نفسك ، ثم احضروا القاضي بن أبي الشوارب والشهود وخلعوه ، ثم أحضروا من بغداد إلى دار الخلافة ـ وهي يومئذٍ سامراء ـ محمد ابن الواثق ، وكان المعتز قد أبعده إلى بغداد فسلّم المعتز إليه الخلافة وبايعه(١) .

ومات المعتزّ بعد خلعه من الخلافة بطريقة غريبة ، بعد خمس ليال من خلعه ، حيث أدخلوه الحمّام ، فلمّا اغتسل عطش فمنعوه الماء ، ثم أُخرج فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتاً ، وذلك في شهر شعبان المعظّم سنة خمس وخمسين ومائتين .

اضطهاد الشيعة :

لقد ذكر المؤرّخون موقف المعتز المعادي لآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضطهادهم واضطهاد شيعتهم ، ومن نماذج سيرته أنّه أعمل السيف في العلويين وآخرين حتّى ماتوا في سجونه ، وممّن قُتل في عهده :

١ ـ جعفر بن محمد الحسيني ، وقد قُتل في وقعة حدثت بالري بينه وبين أحمد بن عيسى عامل محمد بن طاهر(٢) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٣٤ .

١٠١

٢ ـ إبراهيم بن محمد العلوي فقد قتله طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين(١) ، وغير هؤلاء كثير ممّن أعمل ولاة العباسيين فيهم السيف والقتل .

أمّا مَن مات في الحبس فكثير أيضاً ، منهم : عيسى بن إسماعيل الحضرمي ، وأحمد بن محمد الحسيني(٢) .

ــــــــــــــ

(١) المصدر السابق : ٤٣٣ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٣٤ .

١٠٢

الفصل الثالث : ملامح عصر الإمام الهاديعليه‌السلام

١ ـ الحالة السياسية العامّة

مارس الإمام الهاديعليه‌السلام مهامّه القيادية في حكم المعتصم سنة (٢٢٠هـ) واستشهد في حكم المعتزّ سنة (٢٥٤ هـ) وخلال هذه السنوات الأربعة والثلاثين قد عاصر ستّة من ملوك بني العباس الذين لم يتمتّعوا بلذّة الحكم والخلافة كما تمتّع آباؤهم ؛ حيث تراوحت فترة خلافة كل منهم بين ستة أشهر وخمسة إلى ثمان سنوات سوى المتوكل الذي دام حكمه خمسة عشر عاماً .

ويعتبر عهد المتوكل العباسي بدء العصر العباسي الثاني ، وهو عصر نفوذ الأتراك (٢٣٢ ـ ٣٣٤ هـ) واعتبره البعض بدء عصر انحلال الدولة العباسية ، الذي انتهى بسقوطها على أيدي التتار سنة (٦٥٦ هـ) .

وكان لسياسة المتوكل وأسلافه الأثر البالغ في انفصال بعض أمصار الدولة واستقلالها عن السلطة المركزية بالتدريج ، حيث نشأت دويلات صغيرة وكيانات متنافسة فيما بينها : كالسامانية ، والبويهية ، والحمدانية ، والغزنوية ، والسلجوقية ، بعد هذا العصر(١) .

وكما كان لهذه الدويلات تأثير في تقدّم الحضارة الإسلامية باعتبار

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ١ بتصرّف .

١٠٣

انفتاح بعض الأُمراء على العلم والعلماء لكنّها أضعفت كيان الدولة العباسية سياسيّاً ؛ لأنّها قد ساهمت في إيجاد شرخ في وحدة الدولة الإسلامية الكبرى .

وقد يعزى هذا الانفصال وتشكيل هذه الدويلات ـ إضافة إلى الاضطهاد وتعسّف سلاطين الدولة العباسية ـ إلى استخدام الأتراك في مناصب الدولة الحسّاسة ، واعتمادهم كقوّة رادعة ضدّ معارضي الدولة العبّاسية ؛ إذ أصبح الجيش يتكوّن منهم قيادة وأفراداً ، بينما أُبعد العرب وسواهم عن تلك المناصب ممّا أثار حفيظة العرب ضد السلوك السياسي للدولة العبّاسية ؛ وبالتالي أدّى إلى الانفصال عنها .

وكان المعتصم أوّل الخلفاء العباسيين الذين استعانوا بالأتراك وأسندوا إليهم مناصب الدولة وأقطعوهم الولايات الإسلامية(١) .

وقد انتهج المتوكل سياسة العنف تجاه العلويين وشيعة أهل البيتعليهم‌السلام فضلاً عن أهل البيتعليهم‌السلام أنفسهم ، وتجلّى ذلك بوضوح في أمره بهدم قبر الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام وما حوله من الدور ، بل أمر بحرثه وبذره وسقي موضع القبر ومنع الناس من زيارته وتوعّد بالسجن على مَن زاره(٢) .

وقد أثار المتوكل بهذه السياسة حفيظة المسلمين بشكل عام ، وأهل بغداد بشكل خاصّ ، وقد ردّوا على الإهانات التي ألحقها بالعلويين فسبّوه في المساجد والطرقات(٣) .

وفي زمن المتوكل أصابت مدن العراق مجاعة شديدة وهلك كثير من الناس ، وانتهز الروم فرصة ضعف الدولة فاستأنفوا غاراتهم على أراضيها فأغاروا على دمياط وفتكوا بأهلها وأحرقوا دورهم ، ثم غزوا فيليفيا جنوبي

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ٢ ويراجع تاريخ الطبري : ٧ حول ازدياد نفوذ الأتراك في عصر المعتصم .

(٢) تاريخ الطبري : ١١/٤٤ .

(٣) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ٥ .

١٠٤

آسيا الصغرى وهزموا أهلها هزيمة منكرة(١) .

وفي عام (٢٣٥ هـ) عهد المتوكل إلى أولاده الثلاثة المنتصر والمعتز والمؤيد ، بيد أنّه رأى أن يقدّم المعتز على أخويه لمحبّته أم المعتز ( قبيحة ) ولكنّ المنتصر غضب لذلك فدبّر مع أخواله الأتراك مؤامرة لاغتيال أبيه ، وحاول بعض الأتراك في دمشق اغتيال المتوكل غير أنّ محاولتهم تلك باءت بالفشل بفضل ما عمله بغا الكبير والفتح بن خاقان(٢) .

ولم ينج المتوكل من الاغتيال فقد قُتل فيما بعد ، بعد اتفاق بغا الصغير وباغر التركي للتخلّص منه وتنصيب ابنه المنتصر عام (٢٤٧ هـ) .

وكان المنتصر يحسن للعلويين مخالفاً بذلك سياسة أبيه ، وتجلّت سياسته في إزالة الخوف عنهم والسماح لهم بزيارة قبر الحسينعليه‌السلام .

ولم يدم حكم المنتصر طويلاً فقد تآمر عليه الأتراك وقتلوه عن طريق طبيبه طيفور في سنة (٢٤٨ هـ)(٣) .

وبعد مقتل المنتصر تولّى كرسيّ الخلافة المستعين بالله سنة (٢٤٨ هـ) وأرجع عاصمته إلى بغداد غير أنّ الأتراك لم يأمنوا جانبه ، فاتفق باغر التركي مع جماعته على خلع المستعين ونصب المعتز مكانه(٤) .

ووقعت بينهما حرب دامت عدّة أشهر انتهت بإبعاد المستعين إلى واسط ثم قتله غيلة(٥) .

كما أنّ المعتز لم ينج من أعمال العنف والتعسّف التي قام بها قوّاد الدولة العباسية من الأتراك فقُتل شرّ قتلة على أيديهم وذلك سنة (٢٥٥ هـ) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣/٥ .

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٣٩٠ .

(٣) تاريخ الطبري : ٧ أحداث عام ٢٤٨ هـ .

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨ .

(٥) الكامل في التاريخ : ٧ / ٥٠ وما بعدها .

١٠٥

وكان اغتيال الإمام الهادي عليه‌السلام في حكم المعتزّ في سنة (٢٥٤ هـ) (١) .

إنّ ضعف شخصيّة الحكّام هو أحد عوامل التفكّك والانهيار الذي أصاب الدولة الإسلامية ، وقد رافقه نفوذ زوجاتهم وأُمّهاتهم إلى جانب سيطرة الأتراك الذين اعتمدوا عليهم للتخلّص من نفوذ الإيرانيين والعرب ، كما كان لظلم الأُمراء والوزراء دوره البالغ في زعزعة ثقة الناس بالحكّام وإثارة الفتن والشغب داخل بلاد المسلمين(٢) ؛ تمرّداً على ظلم الظالمين ونهب ثروات المسلمين والاستهتار بالقيم الإسلامية والتبذير في بيت مال المسلمين .

إنّ ضعف شخصيّة الحكّام أدّى إلى سقوط هيبتهم عند الولاة ممّا دعاهم إلى الاتّجاه نحو الاستقلال بشكل تدريجي لعلمهم بضعف مركز الخلافة وانهماك الحكّام بالملاهي والملذّات .

وقد شجّع الحكّام الأُمراء وعمّالهم على الاهتمام بجمع الأموال وإرسالها إلى الخليفة ونيل رضاه واتّقاء تساؤلاته عن تصرّفات الأُمراء .

وأدّت هذه الظاهرة إلى طغيان المقاييس المادّية واستقرارها في مختلف الشرائح الاجتماعية .

وقد ساعدت الفتوحات ـ التي كانت أشبه بالغزو لإحكام السيطرة على الأراضي بدل فتح القلوب والعقول ـ على استحكام المقاييس المادية ؛ لأنّها كانت تدرّ الأموال والغنائم على الجيش الفاتح فكانت مصدراً من مصادر الثروة التي يفكّر بها الحكّام والأُمراء .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٥٠٣ .

(٢) لقد توالت حوادث الشغب في بغداد من سنة (٢٤٩ هـ) وتجدّدت أربع مرات حتى سنة (٢٥٢ هـ) وبدأت مشاغبات الخوارج من سنة (٢٥٢ هـ) واستمرّت إلى سنة (٢٦٢ هـ) ورافقها ظهور صاحب الزنج سنة (٢٥٥هـ) ، وهذه سوى ما سيأتي من انتفاضات العلويين خلال النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري .

١٠٦

٢ ـ الحالة الثقافية

كان لترجمة الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية أثر كبير في ثقافة هذا العصر ، وكانت ظاهرة الترجمة قد ابتدأت منذ أيام المأمون ، وقد أسهمت في رفد الثقافة الإسلامية من جهة والانفتاح على الثقافات الأخرى التي قد تتقاطع مع ما أفرزته الحضارة الإسلامية من اتجاهات فكرية وثقافية من جهة أخرى .

كما كان لارتحال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أثر كبير في التبادل والتعاطي الثقافي بين شرق البلاد الإسلامية وغربها ، وأنتج ذلك نشاطاً ثقافياً متميّزاً وحركة فكرية ، أعطت للعلماء والفقهاء دوراً كبيراً وموقعاً مرموقاً عند الخلفاء والحكّام حتى عُدّ القرن الرابع الهجري ـ فيما بعد ـ العصر الذهبي للحضارة الإسلامية .

وقد حظي الشعراء والأدباء بمكانة رفيعة عند الأُمراء ممّا أدّى إلى ازدهار الأدب في هذا العصر .

ولا ينبغي أن نغفل عن محنة خلق القرآن وما رافقها من توتّر في المجتمع الإسلامي طيلة عقود ثلاثة(١) .

٣ ـ الحالة الاقتصادية

إنّ الاضطرابات السياسية والصراع على السلطة وبدء انفصال أجزاء عن الدولة العباسية واستقلالها قد أثّر في تدهور الوضع الاقتصادي .

وكان لظهور الطبقية في المجتمع الإسلامي آثار سلبية أدّت إلى سرعة الانهيار الاقتصادي فضلاً عن المجاعة وارتفاع الأسعار ، ممّا كان له أثر كبير

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ٣٣٢ وما بعدها .

١٠٧

في اضطراب الأمن وفقدان السيطرة من قِبل الدولة ، وقد تجلّى ذلك في قصر فترة حكم الخلفاء إلى جانب انتقال إدارة الدولة إلى القوّاد الأتراك بدل الخلفاء ؛ وهو دليل واضح على ضعف شوكتهم وفقدان هيبتهم أمام قوّاد الجيش ووزرائهم وكتّابهم (١) .

٤ ـ الموقع الاجتماعي والسياسي للإمام الهاديعليه‌السلام

إنّ حادثة إشخاص الإمامعليه‌السلام من قِبل المتوكل من المدينة إلى سامراء وإيكال ذلك الأمر إلى يحيى بن هرثمة ، وما نقله يحيى هذا عن حالة أهل المدينة المنوّرة ، وما انتابهم وما أحدثوا من ضجيج واضطراب لإبعاد الإمامعليه‌السلام عنهم ؛ يصوّر لنا مدى تأثّر أهل المدينة بأخلاقيّة الإمامعليه‌السلام المثلى وحسن سلوكه وتعامله معهم وشدّة اندماجه في حياتهم ، ولا غرو ، فهو سليل دوحة النبوّة وثمرة شجرة الإمامة التي هي فرع النبوّة ، فالإمام هو حجّة الله سبحانه على خلقه وهو المثل والقدوة التي يُقتدى بها وهو القيّم والحافظ لرسالة الإسلام .

وهذا عبيد الله بن خاقان المعاصر للإمام الحسن العسكريعليه‌السلام كان يصف الإمام الهادي لرجل قائلاً له : لو رأيت أباه ـ أي الإمام الهاديعليه‌السلام ـ لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيّراً فاضلاً(٢) .

وكان للإمامعليه‌السلام نفوذ في عمق البلاط بحيث نجد أُمّ المتوكل تبعث بصرّة للإمامعليه‌السلام بعد التوسّل به لتوصيف دواء لداء المتوكل وهو كاشف عن إيمانها بمكانة هذا الإمام عند الله تعالى .

وقد شاع خبره وذاع صيته عند أصحاب البلاط فضلاً عن عامّة الناس ،

ــــــــــــــ

(١) يُراجع تاريخ الطبري : ج٧ ، أحداث السنوات ٢٤٧ ـ ٢٥٤ هـ .

(٢) كمال الدين للشيخ الصدوق : ١ / ٤٢ .

١٠٨

في الوقت الذي كان المتوكل قد أحكم الرقابة الدقيقة على تصرّفات الإمامعليه‌السلام وارتباطاته ؛ لئلاّ يتّسع نفوذه وتمتدّ زعامته ، بل كان يخطّط لسجنه واغتياله .

وتكفي نظرة سريعة على ما صدر من معاصريه من تصريحات حول مكانته وسموّ منزلته ؛ لتقف عند الموقع الاجتماعي المتميز للإمامعليه‌السلام بالرغم من كل محاولات التسقيط (١) .

٥ ـ العباسيون والإمام الهاديعليه‌السلام

تدرّجت سياسة الحكّام العباسيين في مناهضة أهل البيتعليهم‌السلام بعد أن عرفوا موقعهم الديني والاجتماعي المتميّز ، وأنّهم لا يداهنون من أجل الحكم والملك ، بل إنّهم أصحاب مبدأ وعقيدة وقيم ، فكانت سياسة السفّاح والمنصور والرشيد تتلخّص في الرقابة المشدّدة والتضييق مع فسح المجال للتحرّك المحدود ، ورافقها خلق البدائل العلمية لئلاّ ينفرد أهل البيتعليهم‌السلام بالمرجعية العلمية والدينية في الساحة الاجتماعية ، فكان الدعم المباشر من الحكّام لأئمة المذاهب وتبنّي بعضها والدعوة إليها في هذا الطريق .

ولكن كل هذه الأساليب لم تفلح في التعتيم الإعلامي وتوجيه الأنظار عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى غيرهم ، فكانت سياسة المأمون هي سياسة الاحتواء التي نفّذها مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

غير أنّ المأمون حين أدرك عدم إمكان احتواء الإمامعليه‌السلام قضى عليه ، لكنّه بتزويجه لابنته أُمّ الفضل من الإمام الجوادعليه‌السلام قد أحكم الرقابة على

ــــــــــــــ

(١) راجع الفصل الثاني من الباب الأوّل من هذا الكتاب .

١٠٩

ولده الإمام الجوادعليه‌السلام بشكل ذكي جداً ، ولم يسمح المعتصم للإمام الجوادعليه‌السلام ـ وهو في ريعان شبابه ـ ليبقى في مدينة جدّه ، بل استدعاه وقضى عليه بالسم ؛ لأنّه قد أدرك أيضاً عدم إمكان احتوائه ، بل عدم إمكان إحكام الرقابة عليه من داخل بيته وخارجه .

وهنا جاء دور المتوكل ومَن تبعه لسجن الإمام والتضييق عليه بأنحاء شتّى ، فتمّ استدعاء الإمام الهاديعليه‌السلام وعُرِّض لأنواع الاحتقار والتسقيط والتضييق ـ كما لاحظنا ـ وأُحكمت الرقابة على كل تصرّفاته داخل البيت وخارجه ، بنحو قد تجنّبوا فيه إثارة الرأي العام حيث تظاهروا بإكرام الإمام واحترامه وإعزازهعليه‌السلام ، بينما وصلت الرقابة إلى أبعد حدّ .

وكانت قضية الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام من الأسباب المهمّة التي دعت السلطة لإحكام الرقابة عليه ؛ لئلاّ يولد الإمام المهديعليه‌السلام إن أمكن أو للاطلاع على وجوده إن كان قد وُلد ، ومن ثمّ القضاء عليه .

وقد بقي الإمام الهاديعليه‌السلام تحت رقابة الحكّام العباسيين مدة طويلة تزيد على العشرين عاماً(١) ، وهي فترة طويلة جداً إذا ما قسناها مع فترة ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام أو فترة بقاء الإمام الجوادعليه‌السلام في بغداد في زمن المعتصم .

وفي هذا مؤشّر واضح لتغيير العباسيين سياستهم العامة تجاه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

٦ ـ اضطهاد أتباع أهل البيتعليهم‌السلام

إذا استثنينا سياسة المنتصر التي لم تدم سوى ستة أشهر والتي تمثّلت في اللين مع العلويين وشيعة أهل البيتعليهم‌السلام فإنّا نجد السياسة العباسية العامة هي مناهضة أهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم ، وممارسة سياسة العنف معهم بالرغم من اتّساع رقعة التشيّع بعد تظاهر المأمون باحترامه الخاص للإمام الرضاعليه‌السلام .

ــــــــــــــ

(١) وقد عرفت أنّ بعض المصادر صرّحت بأنّ مدّة إقامتهعليه‌السلام في سامراء عشر سنوات وأشهر .

١١٠

إنّ حرمان أهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم من الوضع المعيشي اللائق بهم إنّما كان باعتبار قلقهم من توظيف المال للإطاحة بملكهم .

ومن هنا كانت سياسة التقشّف بالنسبة لهم سياسة عامة قد سار عليها عامة ملوك بني العباس ، وهم أعرف بالمكانة الاجتماعية لأهل البيتعليهم‌السلام في قلوب المؤمنين .

وكان الحرمان يمتدّ إلى إخراجهم من الوظائف الحكومية إن عثروا على موالٍ لأهل البيتعليهم‌السلام كان قد حظي بوظيفة حكومية ، بل تعدّى ذلك إلى تحديد أملاكهم وغلمانهم حتى بان الفقر والحرمان على كثير من العلويين في هذا العصر .

٧ ـ انتفاضات العلويين

لقد تمادى المتوكل في إيذاء العلويين ومنعهم حقوقهم التي منحهم الله إيّاها حتى أشرفوا على الهلاك من شدّة الفقر ، بل تمادى في الجور عليهم حتى قدّم دعوى غير العلوي على دعوى العلوي إذا تحاكما عند القضاة .

ولم نجد من العباسيين عامة إلاّ العداء والبغض لأهل البيتعليهم‌السلام لأسباب شتّى ، منها : تفرّد أهل البيتعليهم‌السلام بالنصّ عليهم من قِبل جدّهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتفرّدهم بالزعامة الروحية والعلمية ، وتأثيرهم على قلوب المسلمين ووجدانهم ، والاهتمام بشؤونهم ، وإيثارهم للدين على الدنيا ، والموت في سبيل الله على الحياة مع الذل والهوان في غير طاعة الله .

إنّ عواطف المسلمين وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسولعليهم‌السلام

وشيعتهم الذين يحذون حذوهم ، وأخذت هذه الظاهرة تنمو وتظهر على الساحة الإسلامية ، وهذا ممّا لا يرتاح له الحكّام العباسيون وعملاؤهم الذين جلسوا على موائدهم التي جسّدت أفضع أنواع التبذير في بيت مال المسلمين .

وأهل البيتعليهم‌السلام بعد ثورة الحسينعليه‌السلام وإن لم يتصدّوا للثورة المسلّحة ضدّ الطغاة لأسباب تعود إلى سياستهم المبدئية لمعالجة أنواع الانحراف في المجتمع الإسلامي ، لكنّهم قد فتحوا الطريق أمام الثوّار العلويين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف والسلاح حين لا يثمر الكلام والحجاج .

ومن هنا لم تخل الساحة الإسلامية من الثورات التي قام بها قادة علويون على طول الخط بعد ثورة الحسينعليه‌السلام .

١١١

وقد استمرّت هذه الثورات حتى عصر الغيبة وانتهت فيما بعد إلى تأسيس دويلات وإمارات يحكمها قادة علويون أو علماء يحملون ثقافة أهل البيتعليهم‌السلام ويحاولون تجسيد قيمهم وسيرتهم في الحياة الإسلامية .

ولم تكن اغتيالات الخلفاء للأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام إلاّ باعتبار دعمهم لهذه الثورات المسلّحة وتأييدهم لها من قريب أو من بعيد .

وهذا الخط الثوري في هذه الظروف الحرجة يُعدّ أحد الأسباب التي حتّمت على الإمام الثاني عشر ـ باعتباره آخر القادة المعصومين ـ أن يتستّر بستار الغيبة لئلاّ تخلو الأرض من حجج الله وبيّناته .

وقد خرج على حكّام هذا العصر من العلويين مجموعة تمثّل استمرار الخط الثوري ضدّ الظلم والظالمين وإليك قائمة بأسمائهم مع ذكر تاريخ ومنطقة تحرّكهم وخروجهم :

١ ـ محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، خرج في حكومة المعتصم واعتُقل في سنة (٢١٩ هـ) وروي

أنّه قُتل بالسمّ .

٢ ـ محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام خرج على المتوكّل في المدينة وأُسر وسُجن في سامراء .

٣ ـ يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

خرج على المستعين في الكوفة سنة (٢٥٠ هـ) ، ارتضاه أهل بغداد وليّاً للأمر كما بايعه جملة من أهل الحل والعقد في الكوفة .

وضجّ الناس لقتله وحزنوا عليه حزناً لم ير مثله .

٤ ـ الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، خرج في طبرستان سنة (٢٥٠ هـ) واستولى على الري وآمل وامتدّ نفوذه إلى جرجان في سنة (٢٥٧ هـ) واستمرّ في الحكم حتى سنة (٢٧٠ هـ) ، ثم خلفه أخوه محمّد بن زيد وكان فقيهاً أديباً وجواداً .

٥ ـ محمد بن جعفر بن الحسن ، خرج في الري سنة (٢٥٠ هـ) ودعا أهل الري إلى حكم الحسن بن زيد الذي كان قد سيطر على طبرستان .

١١٢

٦ ـ الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالبعليهم‌السلام ثار في قزوين سنة (٢٥٠ هـ) .

٧ ـ الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ثار في الكوفة سنة (٢٥١ هـ) .

٨ ـ إسماعيل بن يونس بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ثار في مكّة سنة (٢٥١ هـ) .

٩ ـ أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن طباطبا ثار في سنة (٢٥٥هـ) بين برقة والإسكندرية .

١٠ و ١١ ـ عيسى بن جعفر العلوي ، ثار مع علي بن زيد في الكوفة سنة (٢٥٥ هـ) .

١٢ ـ علي بن زيد بن حسين بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ثار في الكوفة سنة (٢٥٦ هـ) للمرة الثانية .

١٣ ـ إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام المعروف بابن الصوفي ثار في مصر سنة (٢٥٦ هـ)(١) .

هذه صورة موجزة عن الحركات المناهضة للحكّام الذين تربّعوا على كرسيّ الخلافة وحكموا باسم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم بعيدون كل البعد عن هديه وسننه .

وفي مثل هذه الظروف السياسية العامة والفتن الدينية التي أجّجها الخلفاء وسقتها الثقافات المستوردة ، ماذا كانت تتطلّبه الساحة الإسلامية العامة من معالجات ؟ وماذا كانت تتطلّبه الساحة الخاصة بأتباع أهل البيتعليهم‌السلام الذين أخذوا يقتربون من عصر الغيبة الذي أخبر عنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وبدأت تتكشّف علائمه وتتهيّأ أسبابه ؟ هذا ما سوف ندرسه خلال الفصول التالية إن شاء الله تعالى .

ــــــــــــــ

(١) راجع مقاتل الطالبيين : ٤٧٨ ـ ٥٣٦ ومروج الذهب : ٤/٥٠ ـ ١٨٠ ، والكامل في التاريخ ، الجزء السابع .

١١٣

الباب الرابع : وفيه فصول :

الفصل الأول : متطلّبات عصر الإمام الهاديعليه‌السلام .

الفصل الثاني : الإمام الهاديعليه‌السلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها .

الفصل الثالث : الإمام الهاديعليه‌السلام في ذمّة الخلود .

الفصل الرابع : مدرسة الإمام الهاديعليه‌السلام وتراثه .

الفصل الأوّل : متطلّبات عصر الإمام الهاديعليه‌السلام

بعد أن عرفنا المهمّ من ملامح عصر الإمام الهاديعليه‌السلام نستطيع الآن أن نقف على متطلّبات عصره وسوف نبحث عنها في حقلين :

الأوّل : متطلّبات الساحة الإسلامية العامة

الثاني : متطلّبات الجماعة الصالحة بعد تمهيد عام لكلا الحقلين

وذلك أنّ الإمام علي بن محمد الهاديعليه‌السلام قد تولّى الإمامة بعد استشهاد أبيه الجوادعليه‌السلام سنة (٢٢٠ هـ) وهو لمّا يبلغ الحلم ؛ إذ لم يتعدّ عمره الثامنة ـ على أكبر الفروض ـ فهو قد شابه أباه الجوادعليه‌السلام في تولّي الإمامة في سنّ مبكّرة .

وقد كان لتولّي الإمام الجوادعليه‌السلام الإمامة في سنّ مبكّرة بعد استشهاد أبيه الرضا عليه‌السلام مغزى ديني ودلالات وآثار سياسية واجتماعية عديدة ، وإليك جملة منها :

الدلالة الأُولى :

إنّ أهل البيتعليهم‌السلام قد أضافوا دليلاً حسّياً جديداً بعد الأدلة العقائدية التي تمثّلت في النصوص النبويّة أوّلاً ، والواقع العملي الذي جسّد جدارتهم لتولّي شؤون المسلمين وقيادة العالم الإسلامي فكرياً وعمليّاً .

والأئمة بعد استشهاد الحسينعليه‌السلام قد اتّجهوا لتربية الأجيال الطليعية ليحصّنوا الأمة الإسلامية من تبعات التلاقح الفكري أو الاختراق الثقافي الذي حصل من الانفتاح على ثقافات جديدة بعد الفتوح .

١١٤

وقد عادت الهمينة الفكرية والريادة العلمية لأهل البيتعليهم‌السلام بالرغم من التخطيط الذي كان من ورائه الأمويون ومَن سار في خطّهم ؛ لإعادة الجاهلية بكل مظاهرها إلى الحياة الإسلامية الجديدة .

فالإمام زين العابدينعليه‌السلام وابنه الباقرعليه‌السلام الذي عرف بأنّه يبقر العلم بقراً ، وحفيده جعفر الصادقعليه‌السلام الذي دانت له أرباب المذاهب الأربعة ومَن سواهم بالمرجعية العلمية والروحية في أرجاء العالم الإسلامي ؛ قد أثبتوا بشكل عملي وحسّي جدارة أهل البيتعليهم‌السلام للريادة الفكرية التي هي روح الريادة الاجتماعية والسياسية إلى جانب نص الرسول على أنّهم الخلفاء الحقيقيون له .

واستمرّ هذا الخط الريادي في عصري الإمامين الكاظم والرضاعليهما‌السلام وأفرز آثاره الاجتماعية والسياسية حيث هيمن حبّ أهل البيتعليهم‌السلام على قلوب المسلمين من جديد وراحوا يشيدون بهم وبمثلهم وعلوّ منزلتهم في الحياة الإسلامية ، وانعكس هذا الأمر على الحكّام انعكاساً لا يُطاق فلم يتحمّل هارون الرشيد وجود الإمام الكاظمعليه‌السلام ؛ إذ اعتبره منافساً حقيقياً له حتى قضى عليه بعد سجنه مسموماً شهيداً .

كما لم يتحمّل ابنه المأمون الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام كذلك ، بالرغم من تغييره لسياسة أسلافه حيث حاول احتواءه وتجديد نشاطه بشكل ذكي ثم جدّ في إطفاء نوره بما أجراه من الحوارات والتحدّيات العلمية الصعبة بعد أن أيس من سلب ثقة الناس منه بفرض ولاية العهد عليه ؛ إذ كان قد خطّط لإظهاره بمظهر الإنسان الحريص على الملك وحب الدنيا الذي كان هو شأن عامة الملوك من بني أمية وبني العباس بعد اليأس من نجاح آخر محاولات التسقيط بادر إلى تصفيته جسدياً ليقضي على أكبر منافس له فإنّ الإمام الرضاعليه‌السلام كان يرى هو وكثير من المسلمين بأنّ المأمون لا يستحق الخلافة وإنّما هي رداء ألبسه الله مَن اصطفاه من عباده وهم أهل بيت الرحمة والرسالة .

١١٥

فالمأمون يفتقد الرصيد الشرعي والشعبي بينما الإمام الرضاعليه‌السلام ولا سيّما بعد فرض ولاية العهد عليه لم يسقط من القلوب ، بل قد تألّق نجمه ، فهو يحظى بالرصيدين الشرعي والشعبي أكثر من ذي قبل ولا سيّما بعد الحوارات العلمية التي أُجريت معه .

إنّ نقاط القوة التي كان يفتقدها المأمون رغم ذكائه وحنكته السياسية ، قد سوّلت له وجرّته الى اغتيال الإمام الرضاعليه‌السلام .

وهنا جاءت إمامة الجوادعليه‌السلام المبكّرة لتضفي رقماً جديداً ودليلاً واضحاً وقوياً آخر على جدارة أهل البيتعليهم‌السلام للقيادة الإسلامية يلمسه عامّة المسلمين بما فيهم الحكام .

وشكّلت هذه الإمامة تحدّياً صارخاً لا يمكن غضّ الطرف عنه ولا يمكن مواجهته بأي شكل من الأشكال ، فقد عرّض المأمون الإمام الجوادعليه‌السلام لأصناف الحوارات والتحدّيات العلمية وأيقن بعجزه عن مواجهته ، ولكنّه كان لا يملك أيّ عذر للقضاء عليه .

ولكنّ المعتصم قد دنّس يديه بهذه الجريمة البشعة التي قضت على الإمام الجواد وهو في عمر الزهور حيث لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره ولم تدم أيّام إمامته سوى سبع عشرة سنة .

والقضاء على الإمام الجوادعليه‌السلام في هذه الظروف كاشف عن مدى عمق الهيمنة الروحية والعلمية للإمام الجوادعليه‌السلام وهو عميد أهل البيت وكبيرهم روحيّاً وعلمياً وقيادياً ؛ حيث طأطأ لعظمة علماء الطائفة ، وتعلّقت به قلوب شيعته ومحبّيه ـ فضلاً عن قلوب مَن سواهم ـ ودانت له بالولاء أعداد غفيرة من المسلمين وإلاّ فلماذا هذا التسرّع في القضاء عليه وهو لم يحاول القيام بأيّة حركة أو ثورة ضدّ النظام الحاكم ؟!

وقد جاءت الإمامة المبكّرة للإمام الهاديعليه‌السلام في هذا الظرف وبعد هذه التحدّيات وإفرازاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية .

١١٦

فهل نصدّق بأنّ الحكّام بعد المعتصم ، وبعد ما رأوه من هذه الهيمنة الروحية والعلمية لأهل البيتعليهم‌السلام على الساحة الإسلامية ، سوف يتركونهم أحراراً وهم المتقمّصون لرداء خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والموقع القيادي لأهل البيتعليهم‌السلام الذين قد اشتهر عنهم وعن جدّهم أنّهم المنصّبون لهذا الموقع الديني والسياسي بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وقد أثبتوا جدارتهم العلمية والفكرية والروحية لتولّي قيادة الأمر وإدارة شؤون المسلمين وهيمنوا على قلوب الناس وعقولهم ؟

إنّ هذه النقطة تشكّل مفرق طريق واضح بين خطين خطّ الحاكمين وخط أهل البيتعليهم‌السلام .

ولم يرتدع هؤلاء الحكّام عمّا سلف عليه آباؤهم من مقارعة مَن ينافسهم وهم يرون وجود المنافس الحقيقي لهم حتى وهو لم يبادر إلى الثورة ضدّهم ، ولم يثبت لديهم أنّهم وراء الانتفاضات التي كانت تنطلق بين آونة وأُخرى .

فما هو المخرج في رأيهم وبحسب مقاييسهم ؟ وكما علمنا ـ سابقاً ـ أنّ الإمام الهاديعليه‌السلام في كل مراحل حياته التي قضاها في مدينة جدّه أو في سامراء كانت تحت رقابة شديدة ، وقد جرّعوه ما استطاعوا من الغصص التي كانت تتمثّل في محاولات الاحتواء تارة والتسقيط العلمي تارة أُخرى ثم التحجيم بشتّى أشكاله التي تمثّلت في الاستدعاء والتحقير والرقابة المكثّفة والسجن ومحاولات الاغتيال المتكرّرة خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً من سنيّ عمره المبارك .

فما الذي كان ينتظره الإمامعليه‌السلام من هؤلاء الحكّام في هذا الظرف ومع هذه المحاسبات ؟ وما الذي كان ينبغي له أن يقوم به والفرص التي بين يديه محدودة جدّاً وهي تمر مرّ السحاب ؟ على ضوء هذه الحقائق لابد أن نبحث عن متطلّبات المرحلة في كلا الحقلين كما سيأتي بيانه .

١١٧

الدلالة الثانية :

إنّ إمامة الجواد عليه‌السلام المبكّرة والتي تلتها إمامة ولده الهادي المبكّرة أيضاً ذات علاقة وطيدة بقضيّة الإمام المهدي المنتظر الذي سيتولّى الإمامة في ظرف عصيب جداً وعمره دون عمر هذين الإمامين عليهما‌السلام ، كما أخبر بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام .

إنّ التمهيد الذي قام به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تبعاً للقرآن الكريم ـ بالنسبة لقضية المصلح الإسلامي العالمي والتصريح بأنّه سيولد من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فاطمة وعليعليهما‌السلام وأنّه التاسع من أبناء الحسين الشهيد ، كان ضرورة إسلامية تفرضها العقيدة ؛ لأنّها نقطة إشعاع ومركز الأمل الكبير للمسلمين في أحلك الظروف الظالمة التي سيمرّون بها ، وقد أيّدت الظروف التي حلّت بالمسلمين بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الأخبار السابقة لأوانها .

إنّ هذا التمهيد النبوي الواسع قد بلغت نصوصه ـ لدى الفريقين ـ ما يزيد على الـ (٥٠٠) نص حول حتميّة ظهور المهديعليه‌السلام وولادته وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره وعدله وحكمه الإسلامي النموذجي .

وقد سار على درب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام خلال قرنين ـ وعملوا على تأكيد هذا الأصل وتأييده وإقراره في النفوس وجعله معلماً من معالم عقيدة المسلمين فضلاً عن الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم وقد زرع هذا المبدأ ألغاماً تهدّد الظالمين بالخطر وتنذرهم بالفناء والقضاء عليهم وعلى خطّهم المنحرف ، فهو مصدر إشعاع لعامّة المسلمين كما أنّه مصدر رعب للظالمين المتحكّمين في رقاب المسلمين .

ولو لم يصدر من أهل البيتعليهم‌السلام إلاّ التأكيد على هذا المبدأ فقط ـ وإن لم يمارسوا أي نشاط سياسي ملحوظ ـ لكان هذا كافياً في نظر الحكّام للقضاء عليهم مادام هذا المبدأ يقضّ مضاجعهم .

ولكنّ اضطرارهم لمراعاة الرأي العام الإسلامي حال بينهم وبين ما يشتهونه ويخطّطون ضد أهل البيتعليهم‌السلام فكانت إرادة الله تفوق إرادتهم غير أنّهم لم يتركوا التخطيط للقضاء على أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١١٨

فعن الحسين أشاعوا أنّه قد خرج على دين جدّه وهو الذي كان يطلب الإصلاح في أُمّة جده .

والإمام الكاظمعليه‌السلام ـ ومَن سبقه ـ قد اتّهم بأنّه يُجبى له الخراج وهو يخطّط للثورة على السلطان .

والإمام الرضا والجوادعليهما‌السلام قد قُضي عليهما بشكل ماكر وخبيث بالرغم من علم المأمون بأنّه المتهم في اغتيال الرضاعليه‌السلام ، والمعتصم قد وظّف ابنة المأمون لارتكاب جريمة الاغتيال .

إذن كان التمهيد النبوي لقضية الإمام المهدي الإسلامية يشكّل نقطة أساسية ومَعْلَماً لا يمكن تجاوزه ؛ حرصاً على مستقبل الأمة الإسلامية التي قدّر لها أن تكون أُمّة شاهدة وأُمّة وسطاً يفيء إليها الغالي ويرجع إليها التالي حتى ترفرف راية ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ) على ربوع الأرض ويظهر دينه الحق على الدين كلّه ولو كره الكافرون .

وقد ضحّى أهل البيتعليهم‌السلام لهذا المبدأ القرآني الذي بيّنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتمده أهل البيتعليهم‌السلام كخط عام وعملوا على تثبيته في نفوس المسلمين .

ويشهد لذلك ما ألّفه العلماء من كتب الملاحم التي اهتمّت بقضية الإمام المهديعليه‌السلام في القرنين الأوّل والثاني الهجريين بشكل ملفت للنظر .

فالإمام المهديعليه‌السلام قبل ولادته بأكثر من قرنين كان قد تلألأ اسمه وتناقلت الرواة أهدافه وخصائصه ونسبه وكل ما يمتّ إلى ثورته الإسلامية بصلة .

واستمرّ التبليغ لذلك طوال قرنين ونصف قرن من الزمن والمسلمون يسمعون كل ذلك ويتناقلون نصوصه جيلاً بعد جيل بل يعكفون على ضبطه والتأليف المستقلّ بشأنه .

والمتيقّن أنّ عصر الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام ومَن تلاهما من الأئمةعليهم‌السلام قد حفل بهذا التأكيد ؛ فقد أُحصيت نصوص الإمام الصادقعليه‌السلام بشأن المهدي فناهزت الـ (٣٠٠) نصّاً واستمرّ التأكيد على ذلك خلال العقود التي تلته .

فما هي إفرازات هذا الواقع الذي ذكرناه من الناحيتين السياسية والاجتماعية ؟ وما هي النتائج المتوقّعة لمثل هذه القضية التي لابد من إقرارها في نفوس المسلمين ؟ وهنا نصّ جدير بالدراسة والتأمّل قد وصلنا من الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في هذا الشأن بالخصوص وفيه تأييده لهذه الحقيقة الكبرى .

١١٩

( قال أبو محمد بن شاذان ـ عليه الرحمة ـ حدّثنا أبو عبد الله بن الحسين ابن سعد الكاتبرضي‌الله‌عنه قال أبو محمدعليه‌السلام : قد وضع بنو أُمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلّتين : إحداهما : أنّهم كانوا يعلمون ( أنّ ) ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إيّاها وتستقرّ في مركزها .

وثانيهما : أنّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أنّ زوال ملك الجبابرة الظلمة على يد القائم منّا ، وكانوا لا يشكّون أنّهم من الجبابرة والظلمة ، فسعوا في قتل أهل بيت سول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم عليه‌السلام أو قتله ، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون ) (١) .

ومن هنا نفهم السرّ في تسرّع الحكّام للقضاء على الثلث الأخير من أئمة أهل البيت الاثني عشرعليهم‌السلام .

كما نفهم السرّ في تشديد الرقابة على تصرّفاتهم حتى قاموا بزرع العيون في داخل بيوتهم واستعانوا بشكل مكثّف بالعنصر النسوي لتحقيق هذه المراقبة الدقيقة والشاملة .

كما أنّنا يمكن أن نكتشف السرّ في أنّ الأئمة بعد الإمام الصادقعليه‌السلام لماذا لم يولدوا من نساء هاشميات يُشار إليهنّ بالبنان ؟ بل وُلدوا من إماء طاهرات عفيفات مصطفاة ، فلم يكن هناك زواج رسمي وعلني وعليه فلا يكون الإمام المولود ملفتاً للنظر سوى للخواص والمعتمدين من أصحاب أهل البيتعليهم‌السلام .

ــــــــــــــ

(١) منتخب الأثر : ٣٥٩ ط ثانية عن أربعين الخاتون آبادي ( كشف الحق ) .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

ولم يشك في الله طرفة عين ، وأيم الله لتنتهين يا ابن أم عمرو أو لأقرعن جبينك بكلام تبقى سمته عليك ما حييت ، فاياك والابراز علي فاني من قد عرفت لست بضعيف الغميزة(١) ولا بهش المشاشة(٢) ولا بمرئ المأكلة وإني من قريش كاوسط القلادة ، يعرف حسبي ، ولا أدعى لغير أبي وقد تحاكمت فيك رجال من قريش فغلب عليك ألأمهم نسبا وأظهرهم لعنة فاياك عنى فانك رجس ، وأما نحن بيت الطهارة أذهب الله عنا الرجس ، وطهرنا تطهيرا »(٣) .

٨ ـ ومما وقع للإمام في دمشق انه دخل على معاوية فلما رآه قام إليه واحتفى به فساء ذلك مروان واضطرب غيظا وموجدة واندفع قائلا :

يا حسن ، لو لا حلم أمير المؤمنين وما قد بنى له آباؤه الكرام من المجد والعلا ما أقعدك هذا المقعد ، ولقتلك وأنت له مستوجب بقودك الجماهير

فلما أحسست بنا وعلمت أن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام ، وصناديد بني أمية اذعنت بالطاعة ، واحتجزت بالبيعة ، وبعثت تطلب الأمان ، أما والله لو لا ذلك لأريق دمك ، وعلمت أنا نعطي السيوف حقها عند الوغى فاحمد الله اذا ابتلاك بمعاوية فعفا عنك بحلمه ثم صنع بك ما ترى!. ».

فرد عليه الإمام قائلا :

ويحك يا مروان ، لقد تقلدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها والمخاذلة عند مخالطتها ، نحن ـ هبلتك الهوابل ـ لنا الحجج البوالغ ، ولنا إن شكرتم عليكم النعم السوابغ ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار ، فشتان ما بين المنزلتين تفخر ببني أمية وتزعم أنهم صبر في الحروب أسد عند اللقاء

__________________

(١) الغميزة : ضعف العقل أو العمل.

(٢) المشاشة : الأرض اللينة كنى (ع) بذلك عن مقدرته وحزمه.

(٣) شرح ابن ابى الحديد ٤ / ١٠ المحاسن والمساوى.

٣٢١

ثكلتك أمك أولئك البهاليل السادة والحماة الذادة والكرام القادة بنو عبد المطلب أما والله لقد رأيتهم وجميع من في هذا البيت ما هالتهم الأهوال ولم يحيدوا عن الأبطال كالليوث الضارية الباسلة الحنقة فعندها وليت هاربا وأخذت أسيرا فقلدت قومك العار لأنك في الحروب خوار ، أيراق دمى زعمت؟!! أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدار فذبحه كما يذبح الجمل؟ وأنت تثغو ثغاء النعجة!! وتنادي بالويل والثبور كالأمة اللكعاء ألا دفعت عنه بيد أو ناضلت عنه بسهم؟! لقد أرتعدت فرائصك!! وغشي بصرك فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه فأنجيتك من القتل ومنعتك منه ثم تحث معاوية على قتلي؟ ولو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفان ، أنت معه أقصر يدا وأضيق باعا وأجبن قلبا من أن تجسر على ذلك ثم تزعم أنى ابتليت بحلم معاوية أما والله لهو أعرف بشأنه ، وأشكر لما وليناه هذا الأمر فمتى بدا له ، فلا يغضين جفنه على القذى معك فو الله لاعقبن أهل الشام بجيش يضيق عنه فضاؤها ويستأصل فرسانها ثم لا ينفعك عند ذلك الهرب والروغان ، ولا يرد عنك الطلب تدريجك الكلام فنحن من لا يجهل آباؤنا القدماء الأكابر ، وفروعنا السادة الأخيار ، أنطلق إن كنت صادقا ».

فقال ابن العاص مستهزا بمروان :

« ينطق بالخنا وتنطق بالصدق ». ثم أنشأ يقول :

قد يضرط العير والمكواة تأخذه

لا يضرط العير والمكواة في النار

« ذق وبال أمرك يا مروان ».

وصاح معاوية بمروان :

« قد كنت نهيتك عن هذا الرجل وأنت تأبى إلا إنهما كما فيما لا يعنيك أربع على نفسك فليس أبوك كأبيه ولا أنت مثله ، أنت ابن الطريد الشريد وهو ابن

٣٢٢

رسول الله (ص) الكريم ، ولكن رب باحث عن حتفه وحافر عن مديته ».

وانتفخت أوداج مروان غضبا وحنقا فاندفع نحو معاوية قائلا :

« ارم من دون بيضتك ، وقم بحجة عشيرتك ».

ثم التفت إلى ابن العاص قائلا :

« وطعنك أبوه فوقيت نفسك بخصييك فلذلك تحذره ».

ثم قام وهو محطم الكيان قد أهين وحقر فقال معاوية :

« لا تجار البحور فتغمرك ، ولا الجبال فتبهرك »(١) .

٩ ـ ودخل الإمام على معاوية وكان في مجلس ضيق فجلس (ع) عند رجليه فتحدث معاوية بما شاء أن يتحدث به ثم قال « عجبا لعائشة!! تزعم أني في غير ما أنا أهله ، وان الذي أصبحت فيه ليس لي بحق ، مالها ولهذا يغفر الله لها ، انما كان ينازعنى أبو هذا الجالس ـ وأشار إلى الحسن ـ وقد استأثر الله به ».

فقال (ع) : « أوعجب ذلك يا معاوية!! ».

ـ أي والله! :.

ـ أفلا اخبرك بما هو أعجب؟!!.

ـ ما هو؟

ـ جلوسك في صدر المجالس وأنا عند رجليك.

فضحك معاوية وراوغ على عادته وقال :

« يا ابن أخي بلغنى أن عليك دينا ، كم هو؟ ».

ـ مائة الف.

ـ أمرنا لك بثلاثمائة ألف ، مائة ألف منها لدينك ، ومائة ألف تقسمها

__________________

(١) المحاسن والمساوى ١ / ٦٣ ـ ٦٥.

٣٢٣

في أهل بيتك خاصة ، ومائة ألف لخاصة نفسك ، فقم مكرما فاقبض صلتك.

وخرج الإمام من عنده وكان يزيد حاضرا في مجلس أبيه فلما رأى حفاوته بالإمام ساءه ذلك وحينما انصرف من في المجالس اندفع قائلا :

« تالله ما رأيت رجلا مثلك ، استقبلك بما استقبلك به ثم أمرت له بثلاثمائة ألف! »

ـ يا بني ، إن الحق حقهم فمن جاءك منهم فاحث له(١) .

وقد اعترف معاوية أن الخلافة الإسلامية لأهل البيت وانه قد غصبها منهم.

هذه بعض مناظرات الإمام مع خصومه ، قد روى أكثرها البيهقي والجاحظ ، ونصّ عليها غيرهما من المؤرخين ، وقد فضح بها الإمام معاوية وأتباعه ، وأبدا عارهم وعيارهم ، وأظهر لأهل الشام مخازي بنى أمية ، وعيوب آل أبي سفيان ، فهي بحق ثورة على حكومة معاوية ، فقد حطمت كيانه ، وأنزلته من عرشه إلى قبره.

وشكك بعض أهل العلم فى بعض تلك المناظرات ، واحتمل فيها الوضع لأنها قد اشتملت على تعيير الإمام لخصومه باسلوب يستبعد صدور منه وقد استدل على ذلك بما روى من أن الإمام لم تسمع منه كلمة فحش قط إلا قوله لمروان : « ليس لك عندي إلا ما رغم به أنفك » ومع هذا فكيف يصدر ذلك منه ، وهو احتمال موهوم لأن خصومه الحقراء قد تجرءوا عليه وجابهوه بألفاظ قاسية بذيئة ، فرد عليهم اعتداءهم ، ولكن لم يستعن بالكذب ، ولم يتذرع بالبذاء كما تذرعوا به.

وعلى أي حال فان معاوية بالرغم مما انزله الإمام به من الذل والهوان فانه كان يحذر جانبه ويخشاه وذلك لما له من المكانة المرموقة في نفوس المسلمين ، وتقديمهم له بالفضل على غيره ، وكانوا يعلنون ذلك أمام معاوية

__________________

(١) شرح ابن ابي الحديد ٤ / ٤.

٣٢٤

فقد ذكر رواة الأثر ان معاوية تحدث في مجلسه فقال :

« اخبروني بخير الناس أبا وأما ، وعما وعمة ، وخالا وخالة ، وجدا وجدة ».

وانما قال ذلك ليرى مدى انطباع المسلمين عن الإمام ، فقام إليه مالك بن عجلان فقال له : « هذا ـ وأشار إلى الحسن ـ خير الناس أبوه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت رسول الله (ص) ، وعمه جعفر الطيار في الجنان ، وعمته أم هاني بنت أبي طالب ، وخاله القاسم بن رسول الله ، وخالته زينب بنت رسول الله ، وجده رسول الله (ص) ، وجدته خديجة بنت خويلد ».

فسكت معاوية ولم يطق جوابا ، ولما انصرف الإمام انبرى ابن العاص الى مالك فانكر عليه قوله ، قائلا له :

« أحب بني هاشم حملك على أن تكلمات بالباطل؟! ».

فرد عليه مالك قائلا :

« ما قلت إلا حقا : وما أحد من الناس يطلب مرضاة المخلوق بمعصية الخالق ، إلا لم يعط أمنيته في دنياه ، وختم له بالشقاء في آخرته ، بنو هاشم أنضرهم عودا ، واوراهم زندا ».

والتفت إلى معاوية فقال له : « أليس هم كذلك؟ » ولم يسع معاوية إلا التصديق لكلامه(١) .

ان معاوية كان يخشى من الإمام ويحذر من انتفاضته عليه ، ولا تزال ذكريات صفين ماثلة امامه فيفزع منها ، ويخاف ان تعود عليه مرة اخرى ، ولهذا كان يرعى عواطف الإمام ، وقد ذكر المؤرخون ان عمرو ابن عثمان بن عفان ، واسامة بن زيد مولى رسول الله (ص) تخاصما عند

__________________

(١) المحاسن والمساوى ١ / ٦٢.

٣٢٥

معاوية في ارض فقال عمرو لأسامة : « كأنك تنكرني؟! » فرد عليه اسامة مقالته ، وكثر التشاجر بينهما فهدده أسامة بالهاشميين ، ثم قام فجلس إلى جانب الحسن (ع) وقام الهاشميون فجلسوا إلى جانبه ، ولما راى الأمويون ذلك انضموا إلى ابن عثمان ، وخاف معاوية من اثارة الفتنة فبادر الى حسم النزاع قائلا :

« لا تعجلوا أنا كنت شاهدا إذ أقطعها رسول الله (ص) اسامة ».

وقد حكم بذلك لأسامة وقدمه على عمرو ولما خرج الإمام اقبل الأمويون على معاوية يلومونه على ذلك ، وقالوا له : « الا كنت اصلحت بيننا؟ » فأجابهم معاوية بما ينم عن فزعه وخوفه قائلا :

« دعوني فو الله ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلا لبس علي عقلي ، وإن الحرب اولها نجوى ، واوسطها شكوى ، وآخرها بلوى ».

ثم تمثل بأبيات لامرئ القيس قائلا :

الحرب اول ما تكون فتية

تدنو بزينتها لكل جهول

حتى إذا حميت وشب ضرامها

عادت عجوزا غير ذات حليل

شمطاء جزت راسها وتنكرت

مكروهة للّثم والتقبيل

ثم قال : ما في القلوب يشب الحروب ، والأمر الكبير يدفعه الأمر الصغير ، وتمثل بقول الشاعر :

قد يلحق الصغير بالجليل

وإنما القرم من الأفيل

وتسحق النخل من الفسيل(١)

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن سفر الإمام إلى دمشق ، وعن مناظراته فيها.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٠٩.

٣٢٦

خرق معاوية شروط الصّلح

٣٢٧
٣٢٨

والتزمت أغلب الأمم والشعوب على اختلاف عناصرها وأديانها بالوفاء بالعهود ، وتنفيذ الشروط ، وعدم مجافاتها لما تلتزم به ، وذلك حرصا منها على الروابط الاجتماعية ، وحفظا على النظام العام ، وقد اهتم الإسلام بهذه الناحية اهتماما بالغا فأكد رعاية العهود ، وضرورة الوفاء بها قال تعالى :( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) (١) وقال تعالى :( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) (٢) لقد دعا تعالى المسلمين ـ بهذه الآية ـ إلى أن يهبوا إلى نصرة إخوانهم في الدين وإلى الاشتراك معهم في عمليات الحروب إذا دعوهم إلى ذلك وقد استثنى تعالى المسلمين الذين بينهم وبين المشركين عهد وميثاق فانه لا يجوز لهم خرق ذلك الميثاق ، وذلك لما للعهود من الأهمية عند الله ، يقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المؤمنون عند شروطهم ، وقال (ص) : « المؤمن إذا وعد وفى » ويقول أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر :

« وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت.

فانه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود.

وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استبلوا من عواقب الغدر. فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك فانه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته ، وحريما يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى

__________________

(١) سورة بني إسرائيل : آية ٣٤.

(٢) سورة الأنفال : آية ٧٢.

٣٢٩

جواره ».

هذا هو موقف الإسلام تجاه المعاهدات والشروط فقد الزم بوفائها ورعايتها ، وحرم نكثها ، ولنرجع بعد هذا إلى اتفاقية الصلح التي تمت بين الإمام ومعاوية ، لنرى مدى الالتزام بها من الجانبين ، أما ما يخص الإمام الحسن (ع) من الشروط التي اشترطها معاوية عليه فانه لم يكن سوى شرط واحد وهو أن لا يخرج الإمام عليه ، وقد وفى له بذلك ، فقد خف إليه خلص شيعته بعد أن أعلن معاوية نقضه للشروط التي أعطاها للإمام ، فعرضوا عليه أن يخرج على معاوية ، ويناجزه فأبى (ع) أن ينقض ما أعطاه من العهد ، وبعد خروجه من الكوفة وشخوصه إلى يثرب جاءه زعماء شيعته فطلبوا منه مناجزة معاوية ، وضمنوا له احتلال الكوفة وإخلائها من عامل معاوية ، فامتنع (ع) من إجابتهم وأمرهم بالخلود الى الصبر ـ كما تقدم بيان ذلك ـ.

وأما ما يخص معاوية فانه قد خان بعهده ، وحنث بيمينه ، وكذب بمواعيده ، بالرغم من أنه الزم نفسه بالإيمان المغلظة والعهود المؤكدة على الوفاء بما أعطاه للإمام من شروط فقد جاء فى ختام المعاهدة بتوقيعه : « وعلى معاوية بن أبي سفيان ، عهد الله وميثاقه ، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء ، وبما أعطى الله من نفسه. » فلم تمض أيام على امضاء المعاهدة حتى أعلن نقضها فقال أمام المسلمين : « الا ان كل شيء أعطيته للحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به! » يقول الحصين بن نمير : « ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه ، قتل حجرا وأصحاب حجر ، وبايع لابنه وسم الحسن. »(١) .

__________________

(١) شرح ابن ابي الحديد ٤ / ١٦.

٣٣٠

إن جميع ما شملته بنود المعاهدة من شرط قد نقضها « كسرى العرب » فلم يف بشيء منها ، وقد أسفر بذلك عن سياسته التي رفعت شعار الغدر ونكث الذمم ونقض العهود ، وفيما بلي الشروط التي نقضها ولم يف بها.

١ ـ سبه لأمير المؤمنين :

إذا مات الإنسان وجب أن تموت معه الحزازات ، وتنطوي معه الأحقاد ، وسائر المؤثرات ، وقد جرت سيرة الناس على ذلك منذ فجر التأريخ ، ولكن ابن هند قد جافى ذلك ، فقد أخذ بعد إبرام الصلح يعلن سب أمير المؤمنينعليه‌السلام ويبالغ فى انتقاصه ، لم يمنعه عنه أنه قد اشترط عليه تركه فى اتفاقية الصلح ، ولم يمنعه عنه انتقال الإمام إلى جوار الله ، وقد قيل :

واحترام الأموات حتم وإن كا

نوا بعادا فكيف بالقرباء(١)

لقد اندفع معاوية بجميع طاقاته وقواه إلى النيل من الإمام وإلى الحط من شأنه ، وقد سخّر جميع أجهزة دولته فى ذلك حتى جعل سب العترة الطاهرة سنة من سنن المسلمين يحتجون على تركها ، ويتنادون عليها ويأثمون على عدم أدائها.

ومما لا شبهة فيه أن سب أمير المؤمنين (ع) إنما هو سب للنبي (ص) وانتقاص له فقد أثر عنه (ص) أنه قال : « من سب عليا فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله »(٢) وأثر عنه أنه قال : من آذى عليا فقد

__________________

(١) ديوان الرصافى ص ٥٨٩.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٢١ ، ذخائر العقبى ص ٦٦.

٣٣١

آذاني. »(١) وقال (ص) : « اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ».

وتواترت الأخبار عنه (ص) في أن الإمام أخوه ، ووصيه ، وخليله وباب مدينة علمه ، ولو لا جهاده ودفاعه عن دين الله لما قام الإسلام ، وما عبد الله عابد ، ولا وحّده موحد ، وقديما قيل :

أعلى المنابر تعلنون بسبه

وبسيفه نصبت لكم أعوادها

أما بواعث سبه ، فان معاوية علم أنه لا يستقيم له الأمر إلا بانتقاص الإمام والنيل منه وقد صرح بذلك مروان بن الحكم فقال :

« لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك ـ أي بسب علي ـ ».(٢)

وعلى أي حال فان معاوية حينما رجع إلى دمشق بعد الصلح أمر بجمع الناس فقام فيهم خطيبا فقال :

« أيها الناس ، إن رسول الله (ص) قال لي : إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فان فيها الأبدال ، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب ».

__________________

(١) مسند الامام أحمد بن حنبل ٣ / ٤٨٣ ، أسد الغابة ٤ / ١١٣ » وجاء في مجمع الهيثمي ٩ / ١٢٩ عن سعد بن أبي وقاص قال كنت جالسا في المسجد أنا ورجلين معي ، فنلنا من علي فأقبل رسول الله (ص) غضبان يعرف فى وجهه الغضب ، فتعوذت بالله من غضبه ، فقال (ص) : مالكم ومالي؟ من آذى عليا فقد آذاني ، وفي ذخائر العقبى ص ٦٥ عن عمرو بن شاس الأسلمي قال : قال رسول الله (ص) : « من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ، ومن آذى عليا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ».

(٢) الصواعق المحرقة ص ٣٣.

٣٣٢

فأخذ الناس في لعنه وانتقاصه(١) ثم اتخذ سبه سنة جارية في خطب الجمعة والأعياد ، فكان يخطب على الناس ويقول في آخر خطبته :

« اللهم إن أبا تراب ألحد في دينك وصد عن سبيلك ، فالعنه لعنا وبيلا وعذبه عذابا أليما » فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر(٢) ثم كتب إلى جميع عماله وولاته بلعن أخي رسول الله وسيد هذه الأمة.

فانبرت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنونه ويبرءون منه(٣)

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٣٦١.

(٢) النصائح الكافية ص ٧٢ نقله عن أبي عثمان الجاحظ فى كتاب « الرد على الإمامية ».

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥ ومن الخير أن نذكر موقف أمير المؤمنين وولده الحسن من سب معاوية فقد جاء في شرح النهج ١ / ٤٢٠ أن أمير المؤمنين ٧ سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام صفين فنهرهم ونهاهم وقال لهم : « إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب فى القول وأبلغ فى العذر ، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم احقن دماءنا ودماءهم واصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ».

وأما موقف الإمام الحسن من سب معاوية فقد جاءه رسول معاوية فلما رأى الرسول هيبة الإمام وعظمته قال له : « أسأل الله أن يحفظك ويهلك هؤلاء القوم ».

فنهره الإمام وقال له : « رفقا لا تخن من ائتمنك ، وحسبك أن تحبني لحب رسول الله (ص) ولأبي وأمى ، ومن الخيانة أن يثق بك قوم وأنت عدو لهم وتدعو عليهم » الملاحم والفتن ص ١٤٣.

٣٣٣

وسار عماله على ذلك ، ومن أبى منهم عزله ، فقد عزل سعيد بن العاص عن إمارة يثرب لأنه امتنع من سب الإمام ، وجعل في مكانه مروان بن الحكم ، وقد بالغ هذا الوغد الخبيث في لعن الإمام وانتقاصه حتى امتنع الإمام الحسن (ع) من الحضور فى الجامع(١) وكان المغيرة بن شعبة يبالغ فى كثرة السب حتى لم يحص أحد كثرة سبه له(٢) وكان زياد يحرض الناس على ذلك ، ومن أبى عرضه على السيف(٣) .

لقد بالغ الولاة في لعن الإمام حتى جعلوا سبه من أجزاء صلاة الجمعة وبلغ الحال أن بعضهم نسي اللعن في خطبة الجمعة فذكره وهو في السفر فقضاه ، وبنوا مسجدا سموه « مسجد الذكر »(٤) وخطب هشام بن عبد الملك بعرفة فلم يتناول الإمام بسوء فانكر عليه عبد الملك بن الوليد قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب »

فقال له هشام : « ليس لهذا جئنا »(٥) ولما ولي عبد الملك بن مروان جعل في طليعة مهامه سب أمير المؤمنين ، وتعميم لعنه على جميع الحضر الإسلامية ، وقد رمى بالفجور فى مجلسه ، وكان خالد بن عبد الله القسرى(٦) وهو أحد ولاة الأمويين على مكة والعراق يجاهر في لعن

__________________

(١) تطهير الجنان واللسان ص ١٤٢.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٣٦١.

(٣) المسعودي على هامش ابن الأثير ٦ / ٩٩.

(٤) مقتل الحسين للمقرم ص ١٩٨.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٤٧٦.

(٦) خالد بن عبد الله القسري كان امير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك وكانت أمه نصرانية فبنى لها كنيسة تتعبد بها وفي ذلك يقول الفرزدق فى هجائه : ـ

٣٣٤

أمير المؤمنين والحسن والحسين فكان ينزو على المنبر ويقول :

« اللهم العن علي بن ابي طالب بن عبد المطلب بن هاشم صهر رسول الله (ص) على ابنته ، وأبا الحسن والحسين ».

ثم يلتفت إلى الناس ويقول لهم :

« هل كنيت؟ »(١) .

وذكر الحافظ السيوطى أنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين الف منبر يلعن عليها ابن أبي طالب (ع) وذلك بما سنه لهم معاوية ، وفي ذلك يقول العلامة أحمد حفظي مصطفى الشافعي في أرجوزته :

وقد حكى الشيخ السيوطي أنه

قد كان فيما جعلوه سنة

سبعون الف منبر وعشرة

من فوقهن يلعنون حيدرة

وهذه في جنبها العظائم

تصغر بل توجه اللوائم(٢)

ولما رأى سواد الناس والطبقة الواطئة في الشعب أن أحب شيء

__________________

ـ

ألا قبح الرحمن ظهر مطية

أتتنا تهادى من دمشق بخالد

وكيف يؤم الناس من كانت أمه

تدين بأن الله ليس بواحد

بنى بيعة فيها الصليب لأمه

ويهدم من بغض منار المساجد

وعزله هشام عن العراقين لأنه قد أكره امرأة مسلمة على الزنا ثم قتله في أيام الوليد ، جاء ذلك فى وفيات الأعيان ٥ / ١٥٢ ـ ١٦٢ وقريب منه ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ١٠ / ٢٠ والعجب من ابن حبان حيث عد هذا المجرم الأثيم من الثقات كما ذكر ذلك ابن حجر فى تهذيب التهذيب ٣ / ١٠١ قاتل الله العصبية فانها تلبس الباطل لباس الحق.

(١) النصائح ص ٨٠.

(٢) النصائح ص ٧٩.

٣٣٥

للسلطة الأموية وأقوى سبب للاتّصال بها سب أمير المؤمنين (ع) وانتقاصه أخذوا يتقربون إليها بذلك فقد أقبل بعض الأوغاد إلى الحجاج وهو رافع عقيرته قائلا :

« أيها الأمير ، إن أهلي عقوني فسموني عليا ، وإني فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج ».

فأنس الحجاج بذلك وتضاحك وقال له :

« للطف ما توصلت به فقد وليتك موضع كذ »(١) .

لقد انتشر سب أمير المؤمنين ولعنه في جميع الأقطار الإسلامية سوى سجستان فانه لم يلعن على منابرها إلا مرة واحدة ولما أصر الأمويون على ذلك امتنعوا عليهم حتى أضطر الأمويون أخيرا إلى موافقتهم(٢) وبذلك فقد حاز أهل سجستان الشرف والمجد وسجلت لهم هذه المأثرة بمداد من الشرف والنور.

وظل الأمويون مصرين على سب بطل الإسلام وحامى حوزته وقد بذلوا قصارى جهودهم فى نشر ذلك إلى أن جاء دور عمر بن عبد العزيز فمنع السب وكتب بالمنع إلى جميع عماله وولاته ، وأمر أن يجعل بدل اللعن فى خطبة الجمعة والأعياد قوله تعالى :( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (٣) .

وقيل بل جعل مكان ذلك قوله تعالى :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

__________________

(١) النصائح الكافية وشرح ابن أبي الحديد ١ / ٣٥٦.

(٢) معجم البلدان.

(٣) سورة الحشر : آية ١٠.

٣٣٦

وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) .

وقيل بل جعلهما معا(٢) وقد سجل بذلك مكرمة لا تنسى مدى الأجيال والأحقاب ، وقد مدحه شاعر العبقرية والنبوغ السيد الشريف الرضيرحمه‌الله على ذلك وشكر له هذه اليد البيضاء التي أسداها على عموم المسلمين فقال :

يا ابن عبد العزيز لو بكت الع

ين فتى من أمية لبكيتك

__________________

(١) سورة النحل : آية ٩٠.

(٢) الغدير ١٠ / ٢٦٦ وذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ / ٣٥٦ ان عمر حدث عن السبب في تركه لسب أمير المؤمنين قال : كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمر بي يوما وأنا العب مع الصبيان ونحن نلعن عليا فكره ذلك ودخل المسجد فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردى فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني حتى أحسست منه بذلك فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي فقلت له ما بال الشيخ؟ فقال لي أنت اللاعن عليا منذ اليوم؟ قلت نعم قال فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضى عنهم؟ فقلت له يا أبت وهل كان علي من أهل بدر؟ فقال ويحك وهل كانت بدر كلها إلا له ، فقلت له لا أعود ، فقال بالله عليك لا تعود فقلت له نعم وقال كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أمير المدينة فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه حتى يأتي إلى لعن علي (ع) فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوما يا أبت أنت أفصح الناس ، وأخطبهم فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عييا ، فقال يا بني لو علم من تحت منبرنا من ـ

٣٣٧

غير أني أقول إنك قد طب

ت وإن لم يطب ولم يزك بيتك

أنت نزهتنا عن السب والقذ

ف فلو أمكن الجزاء جزيتك

ولو اني رأيت قبرك لاستحيي

ت من أن أرى وما حييتك

وقليل ان لو بزلت دماء ال

بدن ضربا على الذرى وسقيتك

دير سمعان فيك مأوى أبي حفص

فبودي لو أنني آويتك

دير سمعان لا أغبك غيث

خير ميت من آل مروان ميتك

(١) لقد قدم له السيد الشريف آيات الشكر والثناء بهذه الأبيات الرائعة وشكره على محوه لهذه البدعة التي أثبتت جاهلية معاوية ، ومروقه من الدين

المنكرون ذلك :

وأثار سب الامام أمير المؤمنين سخط الأخيار والمتحرجين فى دينهم لأن الامام نفس النبي (ص) وأخوه وأبو سبطيه ، وصاحب العناء فى الاسلام ، ولأن سب المسلم من أفحش المحرمات ، فقد أثر عن النبي أنه

__________________

ـ أهل الشام وغيرهم فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد ، فقال عمر فوقرت كلمته فى صدري مع ما قال لي معلمي أيام صغرى فأعطيت الله عهدا لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيرنه فلما منّ الله علي بالخلافة اسقطت ذلك ، وجاء فى « الاسلام بين السنة والشيعة » ص ٢٥ أن عمر بن عبد العزيز لما ألغى سب أمير المؤمنين خطب بعض الخطباء بجامع « حران » ولما ختم خطابه لم يسب أمير المؤمنين فتصايح الناس من كل جانب ويحك السنة السنة ، تركت السنة وذكرت بعض للصادر ان جميع الحضر الاسلامية تركت سب أمير المؤمنين بعد تحريم عمر بن عبد العزيز له سوى أهل حمص فإنهم أصروا على ذلك.

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٣٥٧.

٣٣٨

« سباب المسلم فسوق »(١) ، وقال (ص) : « لا يكون المؤمن لعانا »(٢) الى غير ذلك من الأحاديث التي وردت عنه (ص) فى تحريم سب المسلم وقذفه ، فلذا اندفعوا الى اعلان سخطهم والى الانكار عليه وعلى ولاته ، ونسوق نص كلامهم في ذلك :

١ ـ سعد بن أبي وقاص :

وعزّ على سعد أن يسمع سب أمير المؤمنين وهو يعير ذلك أذنا صماء من دون أن ينكر عليه ، فقد ذكر المؤرخون ان معاوية بعد عام الصلح قصد بيت الله الحرام ، وبعد فراغه من الطواف توجه الى دار الندوة فلما استقرّ به المجالس شرع فى سبّ أمير المؤمنين فغضب سعد والتفت الى معاوية قائلا :

« يا معاوية أجلستني على سريرك ثم شرعت فى سبّ عليّ ، والله لان يكون فيّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن أكون صهرا لرسول الله (ص) ولي من الولد ما لعلي أحب إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس والله لأن يكون رسول الله (ص) قال لي ما قال له فيه يوم خيبر : « لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ليس بفرّار ، يفتح الله على يديه » أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن يكون رسول الله (ص) قال لي ما قال له فى غزوة تبوك : « ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، وأيم الله

__________________

(١) الترغيب والترهيب ٣ / ٣٩٤ ، وفيض القدير ٤ / ٨٤.

(٢) صحيح الترمذي.

٣٣٩

ما دخلت لك دارا ما بقيت ، ثم نهض وهو غضبان ثائر »(١) .

٢ ـ السيدة أم سلمة :

وكانت السيدة أم سلمة عالمة بمنزلة أمير المؤمنين (ص) ولما له من المنزلة الكريمة عند رسول الله (ص) ولما رأت أن معاوية يسبه علانية وجهرا اندفعت الى انكار ذلك وقد رفعت الى معاوية مذكرة جاء فيها : « إنكم تعلنون الله ورسوله على منابركم ، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب (ع) ومن أحبه ، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله ».

ولكن انكارها لم يجد شيئا فقد بقي معاوية مصرّا على غيه وإثمه(٢) .

٣ ـ عبد الله بن عباس :

واجتاز حبر الأمّة عبد الله بن عباس على قوم يسبون أمير المؤمنين فقال لقائده : ادنني منهم فأدناه ، فانبرى إليهم وقد قدّ قلبه قائلا لهم بنبرات تقطر غضبا وألما :

ـ أيّكم الساب رسول الله؟

ـ نعوذ بالله أن نسب رسول الله!!

ـ أيّكم الساب علي بن أبي طالب!

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣١٧ ، وذكره ابن كثير فى تاريخه ، ومسلم فى صحيحه ، والترمذي في صحيحه مع اختلاف يسير بين الروايات ، وذكر المسعودي جواب معاوية لسعد ما يقبح التصريح به رأينا من المناسب تركه.

(٢) العقد الفريد ٣ / ١٢٧ ، وجاء فى مستدرك الصحيحين ١ / ١٢١.

عن أبي عبد الله الجدلي قال : دخلت على أم سلمة فقالت لي : أيسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكم؟ فقلت : معاذ الله ، أو سبحان الله ، أو كلمة نحوها فقالت : سمعت رسول الله (ص) يقول : من سبّ عليا فقد سبني.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529