حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام7%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 224840 / تحميل: 7203
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الحسين حسب إرادته ، النبي يخطب والحسين يدرج في المسجد فيعثر فيقطع النبي خطبته ، ويعدو إليه ويحتضنه ويقول : « قاتل الله الشيطان ، الولد فتنة لما عثر ولدى هذا أحسست أن قلبي قد سقط مني » الى كثير من أمثال هذا مما صدر عنه سلام الله عليه في ولديه مما لست بصدد احصائه وجمعه ، ولكن أقول : إن هذا الشغف ، والحب اللامتناهي ليس لكونهما ابني بنته فحسب فان هذه النسبة لا تستوجب كل هذا العطف الخارق لسياج العرف والعادة ، ولكن لا شك ان هناك أسرارا وأسبابا هي أدق وأعمق ، أسرار روحية هي فوق هذه الوشائج الجسمية ، فهل ترى معى أن رسول الله (ص) لعله ارتفع عن أفق الزمان : وأشرف بروحيته المقدسة من نافذة الدهر ، وأطل على صحيفة التكوين من ألّفه إلى يائه ، فنظر الى الماضي والحاضر والآتى نظرة واحدة ، رأى الحوادث الآتية ممثلة بعينها في صحيفة الوجود لا بصورها على شاشة التمثيل ، رأى ما كابد ولداه من الدفاع عن دينه ، والحماية لشريعته والتضحية بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، وأنهم ارخصوا في المفادات كل غال وعزيز ، تجرع الحسن السم من معاوية مرارا حتى قضى بالمرة الأخيرة التي تقيا بها كبده قطعة قطعة ، ثم ضرب الحسين المثل الأعلى في التضحية والمفادات لحفظ شريعة جده ، فاستقبل السيوف والرماح والسهام وجعل صدره ونحره ورأسه ورئته ، وقاية عن المعاول التي اتخذها بنو أمية لهدم الاسلام ، وقلعه من اساسه ، ونصب نفسه وأولاده وانصاره ، الغر الميامين هدفا وشبحا لوقاية الاسلام من أن تنهار دعائمه ، وتنهد قواعده وقوائمه ، بهجمات الأمويين عليه ، حتى سلم الاسلام واشرقت أنواره ، وعلمت أسراره ، وهلك الكافرون وخسر هنالك المبطلون ، وكانت كلمة الله العليا ، وكلمة اعدائه السفلى ، وكل مسلم من أول اسلام الناس إلى اليوم بل وإلى يوم القيامة مدين ورهين بالشكر والمنة لهذين الامامين ، ولو لا

٢١

تضحيتهما التي ما حدث التأريخ بمثلها أبدا ، نعم لو لا تلك التضحية لعاد الناس بمساعي الأمويين الى جاهليتهم الأولى بل اتعس إذا ، فهل تستغرب من النبيّ (ص) تلك الحفاوة والتعظيم لهما وهما طفلان صغيران ، وقد عرف بل رأى بعين بصره تلك الحوادث الفجيعة ، وذلك الكفاح المرير من أجله وفي سبيله ، وكان يشمهما ويضمهما ويقول : « هما ولداى وريحانتاى » وباليقين انه كان يتنسم منهما العبق الربوبي ، ويتوسم بهما الألق الالهي وبهذا نعرف ويجب ان نعرف أن الحسن والحسين ، نور واحد لا يفضل احدهما على الآخر قدر عرض شعرة كل واحد منهما قد قام بواجبه ، وأدى رسالته وعمل بالمنهاج المقرر له من جده وأبيه ، والصك الذي تسلمه في أول يوم من إمامته ، إذا أردت التوسع في معرفة عظمة الحسن سلام الله عليه وشجاعته ، وبسالته ، وقوة قلبه ، وشدة عارضته ، وبليغ حجته ، وعدم أكتراثه بزخارف الملك ، وأبهة السلطان ، فانظر الى كلماته واحتجاجاته في مجلس معاوية مع رءوس المنافقين ، وضروس الكفرة الملحدين الذين كان معاوية يحرش بينهم وبين الحسن ليضحك على ذقونهم ، كابن العاص وابن شعبة ومروان ونظرائهم من زبانية جهنم الذين ما آمنوا بالله طرف عين ، انظرها واعجب بها ما شئت هناك تتمثل لك العظمة في أوج رفعتها وتتصور لك البسالة في موج لجتها ، وإن شئت المزيد فانظر الى كلماته في ساعة الموت ، ويوم انطلاقه من هذا السجن ، الكلمات التي قالها لأخيه محمد بن الحنفية فى حق أخيه الحسين ، هنالك تنفتح لك أغلاق أسرار الامامة ، ويتضح لديك إشراق أنوار النبوة والزعامة ، وتعرف المرعوية النبوية ، والولاية الكلية ، هنالك الولاية لله « والنبيّ أولى بالمؤمنين من انفسهم » ( ومن كنت مولاه فعلى مولاه ) « وإنما وليكم الله ورسوله » الآية

وقد زحف القلم ، وخرج عن المحدد ، واشتمر عن قصد الجادة

٢٢

وجادة القصد ، إنما القصارى التي أردتها من كلمتى هذه ان العداوة بين بنى هاشم وبنى أميّة ذاتية متأصلة هى عداوة الهدى للضلال ، والنور للظلام ويشهد لذلك انك لو استعرضت سيرة بنى أميّة من اولهم من عبد شمس إلى آخرهم مروان الحمار لم تجد في صحيفة الكثير بل الأكثر منهم إلا الغدر والمكر ونكث العهود ، والفسق والفجور ، والعهر والخنا وانباء الزنا إلى كل ما يتحمله لفظ الرذيلة من المعاني.

وإذا استعرضت سيرة بنى هاشم من أولهم ليومنا هذا لم تجد في صحيفة الكثير بل الأكثر منهم إلا كلما يتحمله لفظ الفضيلة من الوفاء والصدق والشجاعة والعفة ، وطهارة المولد ، وشرف النفس وعلو الهمة ، والتضحية في سبيل المبدأ ، وما الى ذلك من كرم الأخلاق ، وطهارة الأعراق ، وهب أن هناك من يعذر بنى أميّة في عداوتهم لبني هاشم ويقول : إنهم اتخذوها ذريعة ووسيلة الى الملك والسلطان ، ولكن ما عذر الموالين لبني أميّة في هذا العصر ما عذر الأموية الحديثة ، التي لا تنال بذلك حظا من حظوظ الدنيا ولا نصيبا في الآخرة.

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) .

والحمد لله الذي فقأ عيني الكفر والنفاق ، وأقر عينى الاسلام والإيمان بالحسن والحسين ، والعترة الطاهرة ، ونسأله تعالى كما منّ علينا بمعرفتهم وولايتهم أن يحشرنا في زمرتهم ، ويكرمنا بشفاعتهم والبراءة من اعدائهم وعداوتهم :

أو إليكم ما دجت مزنة

وما اصطخب الرعد أو جلجلا

وأبرأ ممن يعاديكم

فان البراءة شرط الولا

٢٣

وحقا إن الزكى أبا محمد سلام الله عليه في المدة القصيرة التي عاشها بعد ابيه تحمل من الرزايا والمحن ما لم يحتملها نبي ، وما هي بأقل من المصائب التي جرت على أخيه أبي عبد الله «ع» يوم الطف ، فان النكبة الأليمة ، والضربة الأثيمة في الأخوين واحدة وإن اختلفت الأشكال والأساليب ، وكما أن الحسين قابل رزاياه بالصبر الذي عجبت منه ملائكة السماوات ، فكذلك الحسن قاتل عدوه ، وقابل الامة وارزائه بصبر عجيب. وصدر رحيب ما هان يوما ولا لان ، ولا تضرع ولا استكان ، وما أخذ من امواله التي اغتصبها معاوية منه وصارت العوبة بايدى بنى أميّة ، ما أخذ واحدا من آلاف بل من مئات الآلاف وكما لا مساغ للتفاضل بين هذين النيرين ، كذلك لا يصح القول بأن صبر الحسن دون صبر الحسين ، أو ان مصيبته اهون المصيبتين ، فسلام الله عليكما يا إمامى الهدى وسليلى على والزهراء ما ازهرت الفضيلة واكفهرت الرذيلة.

واختم كلمتي بابيات من خاتمة قصيدة رثاء لسيد الشهداء نظمتها منذ مدة تزيد على خمسين سنة استهلها :

حذوا الماء من عيني والنار من قلبي

ولا تحملوا للبرق منا ولا السحب

واختها :

بنى الشرف الوضاح والحسب الذي

تناهي فاضحى قاب قوسين للرب

لئن عدت الأحساب للفخر اوغدت

تطاول بالأنساب سيارة الشهب

فما نسبي إلا انتسابي إليكم

وما حسبي إلا بأنكم حسبى

حرر هذه الكلمة بانامله الرقيمة ، واقلامه السقيمة مرتجلا مترسلا في بضع سويعات آخرها يوم الحادي والعشرين من شهر رمضان يوم وفاة سيد الوصيين وإمام الصديقين امير المؤمنين عليه آلاف السلام والتحية سنة ١٣٧٣ هـ

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

بمدرسة العلمية بالنجف الاشرف

٢٤

البيعة

٢٥
٢٦

واعتنى الاسلام بالخلافة(١) اعتناء بالغا فأناط بها المسئوليات الضخمة فجلها مسئولة عن نهضة المسلمين وتطوهم وانطلاقهم في ميادين العلم ، وتوجيههم نحو الخير وابعادهم عن مسالك الضلال والفساد ، والعمل على ايجاد الوسائل السليمة لأسباب قوتهم ورخائهم ، كما أوكل إليها حراسة الدين والحفاظ على شئونه ، وصيانة مثله فهي المحور الذي تدور عليه سياسته وسائر شئونه.

إن حقيقة الاسلام وفكرته شاملة لجميع المناحي الدينية والسياسية فقد الف بينهما وحدة متسقة وجعلهما كلا لا يتجزأ ، وقد ادرك هذه الحقيقة جمهور كبير من علماء المستشرقين يقول بعضهم :

( إن الاسلام ليس ظاهرة دينية فقط ، وانما اتى بنظام سياسي ذلك ان مؤسسه كان نبيا وكان حاكما مثاليا خبيرا بأساليب الحكم. )

وقال جيت : ( ان الاسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية ، وانما استوجب اقامة مجتمع مستقل له أسلوبه المعين في الحكم وله قوانينه وانظمته الخاصة به. )(٢)

إن الخلافة ترتبط بالاسلام ارتباطا وثيقا فهي جزء من برامجه وفصل من فصوله فلا بد من اقامتها على مسرح الحياة يقول الشيخ محمد عبده :

( الاسلام دين وشرع فقد وضع حدودا ، ورسم حقوقا وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله فقد يغلب الهوى وتتحكم

__________________

(١) الخلافة : في الاصل مصدر خلف ، يقال : خلفه في قومه خلافة فهو خليفة ، ومنه قوله تعالى : « وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى في قومى » ثم أطلقت في العرف على الزعامة العظمى وهي الولاية العامة على كافة الأمة ، والقيام بأمورها والنهوض بأعبائها.

(٢) النظام السياسي فى الاسلام : ص ١٥.

٢٧

الشهوة فيغمط الحق ، ويتعدى المعتدي الحد فلا تكمل الحكمة إلا إذا وجدت قوة لاقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي وصون نظام الجماعة. )(١)

إن الاسلام جاء بمجموعة كاملة من النظم والقوانين تهدف إلى تنظيم الحياة وصيانة الحقوق والقضاء على الغبن والظلم ، وبسط الأمن والعدل فى البلاد ، ومن الطبيعي انها تحتاج إلى قوة ودولة لتقوم بحمايتها وتطبيقها على واقع الحياة.

أما من يتولى قيادة الحكم وإدارة شئون البلاد فقد تحدث الامام أمير المؤمنين (ع) عما يعتبر فيه من الصفات بقوله :

( وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالى على الفروج ، والدماء ، والمغانم ، والاحكام وإمامة ، المسلمين البخيل فتكون في اموالهم نهمته(٢) ولا الجاهل فيضلهم بجهله ، ولا الجافى فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدول(٣) فيتخذ قوما دون قوم ، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ، ويقف فيها دون المقاطع(٤) ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة )(٥)

إن من يلى امور المسلمين ويتولى ادارة شئونهم ـ فى نظر الامام ـ

__________________

(١) الاسلام والنصرانية : ص ٦٥.

(٢) النهمة : ـ بالفتح ـ الافراط فى الشهوة ، المبالغة فى الحرص.

(٣) الحائف : من الحيف : الجور والظلم ، والدول : جمع دولة ـ بالضم ـ وهو المال لأنه يتداول به وينتقل من يد إلى يد ، وفى التنزيل ( كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) والمراد من كلامه (ع) ان الوالى ليس له أن يحيف فى الأموال بأن يفضل قوما على قوم فى العطاء من دون سبب موجب لذلك.

(٤) المقاطع : الحدود التي عينها الله لها.

(٥) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ١٩.

٢٨

لا بد أن يكون ندي الكف بعيدا عن البخل عالما بما تحتاج إليه الامة غير حائف للدول ، ولا مرتشي فى اعماله ، ولا معطل لحدود الله وسنة نبيه فانه اذا تجرد من هذه الصفات واجهت الأمة ـ فى عهده ـ سيلا عارما من المحن وتعرضت البلاد للازمات والنكبات.

وأعرب الذكر الحكيم فى قصة ابراهيم (ع) عمن يستحق الامامة من ذريته قال تعالى :( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) وذكر المفسرون أن المراد بالعهد هو الامامة والإمامة هى الخلافة(٢) فلا ينالها من تلبس بالظلم فى أي مرحلة من حياته(٣) سواء أكان الظلم للنفس(٤) أو للغير فانه لا يمنح بذلك اللطف.

لقد اهتم الاسلام اهتماما كثيرا فيمن يلى امور المسلمين فالزم ان يكون مثالا للعدل وعنوانا للحق ورمزا للعدل والفضائل ليرعى مصالح الأمة ويحقق فى ربوعها جميع ما تصبوا إليه من العزة والكرامة ولم نتوفر الصفات الرفيعة التي يتطلبها الاسلام فى القيادة الرشيدة إلا فى أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، والذين قرنهم النبي (ص)

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٢٤.

(٢) مجمع البيان ١ / ٢. ٢ ط صيدا.

(٣) هذا مبني على ما ذهب إليه بعض علماء الاصول فى بحوث المشتق من أنه حقيقة فى الأعم ممن تلبس بالمبدإ ومن انقضى عنه.

(٤) الظلم للنفس : كالسجود للاصنام وغير ذلك من الاخلاق الذميمة ، وقد استدل علماء الشيعة بالآية الشريفة على أحقية أمير المؤمنين بالخلافة دون غيره لأنه لم يظلم نفسه بالسجود للاصنام التي سجد لها غيره من الصحابة قبل بزوغ نور الاسلام.

٢٩

بكتاب الله العزيز ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ وجعلهم سفنا للنجاة وأمنا للعباد ، ومن الطبيعي أن ذلك لم يكن ناشئا إلا عن مدى أهميتهم ، وقد تحدث الامام أمير المؤمنين (ع) عما مثل فيهم من الصفات والنزعات بقوله :

« هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم. لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه هم دعائم الاسلام ، وولائج الاعتصام(١) بهم عاد الحق فى نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية(٢) لا عقل سماع ورواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل »(٣)

وبالاضافة الى هذه القابليات والمواهب التي يتمتعون بها فان النبي (ص) نصّ على اختصاص الخلافة فيهم وانهم أحق بالأمر من غيرهم ، وقد تواترت النصوص(٤) الواردة منه بذلك كقوله :

« لا يزال هذا الدين قائما حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ».

وقال (ص) : « يكون بعدي اثنا عشر أميرا. وقال : كلهم من قريش »

__________________

(١) الولائج : جمع وليجة ، وهي المحل الذي يعتصم فيه من المطر والبرد.

(٢) عقل الوعاية : الحفظ في فهم ، الرعاية : ملاحظة تعاليم الدين وتطبيق العمل عليها أما السماع والرواية من درن فهم وعمل فمنزلتهما منزلة الجهل.

(٣) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ٢٥٩.

(٤) التواتر : الاستفاضة في نقل الخبر بحيث يؤدي الى القطع بصدقه وذلك فيما إذا أحال العقل تواطؤ المخبرين على الكذب ، ولذا كان الخبر المتواتر من أهم الأسباب المؤدية الى القطع بالأشياء.

٣٠

الى غير ذلك من الأحاديث الدالة بصراحتها وحصرها على اختصاص الخلافة فيهم ، وانهم سفن النجاة وهداة العباد.

ومن الأئمة الطاهرين الاثنى عشر الذين أقامهم الرسول (ص) خلفاء من بعده وأمناء على تبليغ رسالته الامام الحسن ريحانته وسبطه الأكبر فقد نصبه اماما على أمته وقال فيه وفي أخيه : « الحسن والحسين امامان إن قاما وإن قعدا ». ونص على امامته الامام أمير المؤمنين (ع) وأقامه علما من بعده ، بعد أن اغتاله ابن ملجم ، وقد فزع إليه المسلمون بعد موت أمير المؤمنين وأجمعوا على مبايعته ، فقد اجتمعوا في جامع الكوفة سنة أربعين من الهجرة في صبيحة احدى وعشرين من شهر رمضان المبارك ، وأقبلعليه‌السلام وقد احتفت به البقية الباقية من صالحاء المهاجرين والأنصار فاعتلى منصة الخطابة فابتدأ ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ بتأبين فقيد العدالة الكبرى الامام أمير المؤمنين وتعداد بعض فضائله ومواهبه فقال :

« لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، ولم يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله (ص) فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله (ص) يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه ، ولقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم (ع) وقبض فيها يوشع بن نون وصي موسى (ع) وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله ».

وتمثلت صورة أبيه أمامه فخنقته العبرة وأرسل ما في عينيه من دموع وكذلك بكى جميع من حضر في جنبات الحفل ، وساد الحزن وعم الأسى ثم استأنف الامام خطابه فأعرب للناس سمو مكانته وما يتمتع به من الشرف

٣١

والمجد قائلا :

« أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن علي ، وأنا ابن النبي ، وأنا ابن الوصي ، وأنا ابن البشير النذير ، وأنا ابن الداعي الى الله باذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا من أهل البيت الذي كان جبرئيل ينزل إلينا ، ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وأنا من أهل بيت افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال تبارك وتعالى لنبيه (ص) : « قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، ومن يقترف حسنة نزد له منها حسنا » فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت ».

وحفل خطابه البليغ بما يلي :

١ ـ انه عرف الناس بجهاد ابيه وعظيم بلائه في الإسلام ووقايته لرسول الله (ص) بنفسه في جميع المواقف والمشاهد وقد أبّنه بكلمة تمثلت فيها بلاغة الاعجاز وروعة الايجاز وهي قوله : « فهو لم يسبقه الأولون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل » ومن كان لم يسبقه الأولون ولم يدركه الآخرون كان أعظم شخصية بزت جميع المصلحين والعظماء في جميع مراحل التاريخ وحقا انه كذلك ، فليس في جميع فترات الزمن وآناته قديما وحديثا أحد فاق الامام أو يفوقه في مثله وأعماله وجهاده وذبه عن حظيرة الإسلام.

٢ ـ وأبان (ع) في خطابه الرائع قداسة الليلة التي رحل فيها أبوه الى جنان الخلد. فلقد عرج فيها الى السماء المسيح عيسى بن مريم (ع) ورحل فيها إلى جواره تعالى يوشع بن نون وصي موسى (ع). وفي هذه الليلة العظيمة انتقل الى جوار الله سيد الأوصياء ، وعميد الأتقياء ، وحامى

٣٢

حوزة الإسلام الامام علي (ع) فهي ـ بحق ـ أشرف الليالي وأسماها عند الله.

٣ ـ وأعرب (ع) لذلك الحفل الحاشد زهد أبيه وعدم اعتنائه بدنياه فلقد رحل عنها ولم يخلف من حطامها شيئا ، وقد كان في استطاعته أن يسكن أفخم القصور ، ويلبس الحرير والديباج ، ويأكل ما لذّ من الطعام ويتخذ العبيد والاماء ولكنه ترك كل ذلك رغبة فيما أعد الله له فى دار البقاء من النعيم والكرامة والسعادة ، وما أفاض عليه في هذه الدنيا من خلود الاسم والثناء العاطر والذكر الحسن المقرون بالاكبار والتقديس عند الناس جميعا!! لقد وافى الامام عليا الأجل المحتوم وما خلف سوى ثمالة من المال يتركها أقل البائسين والضعفاء ، وهو سلطان المسلمين وزعيمهم ، تجبى له الأموال الطائلة من شتى الأقطار الإسلامية ولكنه (ع) أبى أن يأخذ منها شيئا.

٤ ـ وتضمن خطابه (ع) دعوة الناس إلى مبايعته ، وقد كانت دعواه رائعة بكل ما للروعة من معنى ، فلقد عرّف نفسه إلى الجماهير بأنه ابن الداعي إلى الله ، وابن السراج المنير ، وانه ممن أذهب الله عنهم الرجس والأباطيل ، وهل هناك أحد أحق بالخلافة من شخص التقت به هذه الكمالات ، واجتمعت فيه هذه الفضائل.

ولما انهى (ع) خطابه الذي لم يرو التأريخ الا شطرا منه انبرى عبيد الله بن العباس فحفز المسلمين إلى المبادرة لمبايعته قائلا :

( معاشر الناس هذا ابن نبيكم ، ووصي إمامكم فبايعوه ).

واستجاب الناس لهذه الدعوة المباركة فهتفوا بالطاعة ، واعلنوا الرضا والانقياد قائلين :

٣٣

( ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة )(١) .

وانثالوا على الامام يبايعونه وهم ( إنما يبايعون الله ورسوله )

وأول من بايعه المؤمن الثائر والحازم اليقظ الزعيم قيس بن سعد الأنصاري فقال له بنبرات تقطر حماسا وشوقا إلى حرب اعداء الله وخصوم الاسلام :

( ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المحلين ).

وثقل على الامام أن يعزب عن قيس من أن العمل على كتاب الله وسنة نبيه والسير على أضوائهما يغني عن اشتراط قتال المحلين لأن فيهما تبيانا لكل شيء ، فقال له بلطف ولين :

( على كتاب الله ، وسنة نبيه ، فانهما يأتيان على كل شرط )(٢)

وذكر ابن قتيبة أن الامام كلما قصدته كوكبة من الناس لتبايعه يلتفت إليها قائلا :

( تبايعون لى على السمع والطاعة ، وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت ).

ولما سمعوا هذا الشرط احجموا عن البيعة(٣) وأمسكوا أيديهم عنها ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٤ ، الارشاد ص ١٦٧.

(٢) تأريخ ابن الأثير ج ٣ ص ١٧٤ ، تأريخ ابن خالدون ج ٢ ص ١٨٦.

(٣) البيعة : هى العهد على الطاعة لأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له أمر النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه على ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم فى يده تأكيدا للعهد فاشبه ذلك كلا من البائع والمشتري فسمي بيعة ذكر ذلك ابن خالدون في مقدمته ص ١٩٧ ، والبيعة نوع من العقد الاجتماعي الذي ذكره ( جان جاك روسو )ـ

٣٤

وقبض الحسن يده ، فانثالوا نحو الحسين ، وهم يهتقون :

( ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك ، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام ).

فردعهم الحسين قائلا :

( معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حيا ).

وبعد ما رفض الحسين (ع) طلبهم أقبلوا نحو الحسن فبايعوه وهم مكرهون(١) وهذا القول بعيد فانه يدل على رغبة الامام في السلم فى أول الأمر وهو مناف لمواقفه العديدة فى إمضائه للحرب وعدم رغبته فى الموادعة والمسالمة مع خصمه كما ـ سنذكره بالتفصيل ـ ولو سلمنا صحة ذلك فانما كان مع الخوارج الذين يريدون خلق الاضطرابات والشغب في المجتمع العراقي واذاعة الخوف والارهاب بينهم بعزم الامام على الحرب ويدل على ذلك إحجامهم عن البيعة فى أول الأمر وذلك يكشف عن اضطراب نفوسهم وعدم ثقتهم وايمانهم بالخليفة الجديد ، وهذا مما عرفت به الخوارج وأما شيعته وأصحابه وخواصه فان نفوسهم قد ملئت ايمانا وثقة وحبا واخلاصا له.

ومهما يكن من شي ، فان هذا الحديث كما كان يتضمن السلم كذلك يتضمن إمضاء الحرب والتصميم عليه ، فهو جامع بين الأمرين السلم لمن دخل في الطاعة والحرب لمن خرج عنها سواء أكانوا من الخوارج أم من أهل الشام ولكن

__________________

ـ وتقوم هذه النظرية على اساس ان الاجتماع الذي يقع بين الناس في صورة شعب أو أمة انما يقوم على تعاقد بين الافراد فكل فرد قد دخل مع أفراد فراد مجتمعه فى عملية تعاقد ، ويقضي ذلك بأن يصبح الفرد جزءا من المجتمع ، وقد استدل على هذه النظرية ( روسو ) وأوضح كثيرا من جوانبها فى كتابه العقد الاجتماعي.

(١) الامامة والسياسة ١ / ١٧٠.

٣٥

لم يرق ذلك للخوارج فلذا شاغبوا فى الأمر وأرادوا الحرب خاصة لأهل الشام لا تتعداها الى غيرهم ، وقبل ان نسدل الستار على هذا الفصل نقدم إلى القارئ الكريم أمورا تتعلق فى هذا الفصل وهي كما يلى :

١ ـ قبول الخلافة :

ويتساءل كثير من النقاد عن السبب في قبول الامام للخلافة مع ما منيت به الحاضرة الاسلامية من اخطار وعواصف وفتن ، فكان الأجدر به أن يتريث فى الأمر ولا يتسرع ( كما يقولون ) ولندع الجواب إلى سماحة المغفور له الحجة آل ياسين قال نضر الله مثواه :

أما أولا :

فلما كان الواجب على الناس دينا ، الانقياد إلى بيعة الامام المنصوص عليه كان الواجب على الامام ـ مع قيام الحجة بوجود الناصر ـ قبول البيعة من الناس.

أما قيام الحجة ـ فيما نحن فيه ـ فقد كان من انثيال الناس طواعية إلى البيعة فى مختلف بلاد الاسلام ما يكفي ـ بظاهر الحال ـ دليلا عليه ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه.

وأما ثانيا :

فان مبعث هذا الانعكاس البدائي عن قضية الحسنعليه‌السلام هو النظر إليها من ناحيتها الدنيوية فحسب بينما الأنسب بقضية ( إمام ) ان يستنطقها الباحث من ناحيتها الدينية على الأكثر ، وكثير هو الفرق بين الدنيا والدين

٣٦

في نظر إمام ، والقضية من هذه الناحية ظفر لا خسارة ـ كما سنأتي على توضيحه في محله المناسب ـ وهي وإن تكن معرض آلام ، ولكنها آلام في سبيل الاسلام ، ومن أولى بالاسلام من الحسن (ع) وتحمل آلامه وإنما هو نبت بيته.

واما ثالثا :

فلم يكن الحسن في رفعة مكانه من زعماء المسلمين ، وفي نسبه الممتاز ومركزه من العلم ، بالذي يستطيع الفراغ وإن أراده عن عمد ، ولا بالذي يتركه الناس وإن أراد هو ان يتركهم ، وكان لا بد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي أن تتدافع إليه ، تستدعيه للوثوب إحقاقا للحق وانكارا للمنكر كما وقع لأخيه الحسينعليه‌السلام في ظرفه(١) .

ويأخذ شيخنا في الاستدلال على ضرورة قبول الامام للخلافة ، ولزوم تسرعه لإجابة الجماهير الهاتفة باسمه ، وعلى كل فليس هناك مجال للشك في أنه (ع) لو تقاعس عن الاعتلاء على العرش ، وترك الأمة حبلها على غاربها لوقعت في محاذير ومصاعب لا يمكن حلها ، ثم ما هو المبرر له في عدم التسرع في الأمر بعد ما أجمعت الأمة على مبايعته كما ذكر ذلك بالتفصيل سماحة المغفور له آل ياسين.

٢ ـ عموم البيعة :

واجمع العالم الاسلامي من اقصاه إلى ادناه على مبايعة الامام والانقياد لحكومته والخضوع لأمره ، فبايعه من الكوفة اثنان واربعون الفا على السمع

__________________

(١) صلح الحسن ص ٤٧.

٣٧

والطاعة وكذلك بايعه أهل البصرة والمدائن ، وجميع أهل العراق وبايعته فارس على يد زياد بن ابيه ، وبايعه الحجازيون واليمانيون ، على يد القائد العسكري الحازم اليقظ جارية بن قدامة وما تخلف أحد عن البيعة سوى معاوية ومن يمت به كما تخلف عن مبايعة الامام علي (ع) من قبل فكانت بيعته (ع) عامة على غرار بيعة أبيه.

٣ ـ احكام الدولة :

ولما تمت البيعة أخذ (ع) في إحكام دولته فرتب العمال ، ووظف المحنكين والأشراف من عدول المؤمنين وصالحاء المسلمين واعطى الاوامر الحازمة إلى الامراء وزاد في عطاء الجيش مائة مائة ، وكان الامام علي قد فعل ذلك يوم الجمل ، هذه هي الخطة الاولى من الاحسان والبر والمعروف التي افاضها على الجيش فملك بها القلوب والسيوف حتى قال ابن كثير : ( وأحبوه أشد من حبهم لأبيه )(١) وهكذا أخذ (ع) يعمل مجدا في اصلاح دولته ، وإحكامها وصيانتها ، وقد خطب فيهم فكان منطق خطابه الحث على لزوم طاعته ووجوب الانقياد إليه لأنه من العترة الطاهرة ومن حلقات الثقل الأكبر الذي خلفه رسول الله (ص) في أمته وحذر (ع) رعيته من الاصغاء والانجراف بدعاية معاوية وبهتانه وكذبه وأمرهم بالتكاثف والاتحاد والوحدة ، لرد العدوان الأموي الذي يهدد المجتمع الاسلامي بالخطر ، وينذره بفقدان الحياة ، وقد تقدم نص هذا الخطاب في الحلقة الأولى من هذا الكتاب(٢) .

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٨ ص ٤١.

(٢) الجزء الأول ص ٣٢٧.

٣٨

٤ ـ اخطاء تأريخية :

ووقع فريق من المؤرخين وكتاب العصر في اخطاء حول بيعة الامام الحسن نشأت من قلة التتبع رأينا من اللازم التنبيه عليها.

١ ـ المسعودي :

ذكر المسعودى : ( أن الامام بويع بعد وفاة أبيه بيومين )(١) وهذا القول لا يتفق مع ما ذكره جمهور المؤرخين من أنه بويع له في صبيحة الليلة التي وارى فيها جثمان أبيهعليه‌السلام .

٢ ـ فريد وجدي :

وذكر الاستاذ السيد محمد فريد وجدي أن الحسن (ع) : ( بويع له في الخلافة قبل وفاة والده ، ولما انتهت البيعة توفي والده )(٢) وهذا القول كالقول السالف في مخالفته لاجماع المؤرخين ، فقد أجمعوا على أن البيعة كانت بعد مقتل الامام بلا فصل ، ولم يذكر مؤرخ ـ فيما نعلم ـ أنه بويع للامام في حياة أبيه.

٣ ـ الخضري :

ذكر الشيخ محمد الخضري في بيعة الامام ما نصه : ( نظر الحسن إلى بيعته في انها ليست كبيعة أبيه لأنها ليست عامة ، ولكنها قاصرة على شيعتهم من أهل العراق )(٣) وهذا القول مجاف للواقع فان بيعة الامام لم تكن قاصرة على أهل العراق من الشيعة ، فان عمال الامام في جميع الاقطار الاسلامية قد أخذوا له البيعة من المسلمين ـ كما ذكرناه سابقا ـ ولم

__________________

(١) التنبيه والاشراف ص ٢٦٠.

(٢) دائرة المعارف ج ٣ ص ٤٤٣ ، كنز العلوم واللغة ص ٣٨٠ لفريد وجدي

(٣) اتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص ٢٢٥.

٣٩

تبق هناك أي حاظرة من الحواظر الاسلامية إلا بايعته سوى البلاد الخاضعة لمعاوية.

٤ ـ طه حسين :

قال الدكتور طه حسين في بيعة الامام الحسن : ( ومهما يكن من شيء فلم يعرض الحسن نفسه على الناس ، ولم يتعرض لبيعتهم وانما دعا الناس إلى هذه البيعة قيس بن عبادة فبكى الناس ، واستجابوا واخرج الحسن للبيعة )(١) وما ذكره بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لما يلي

١ ـ إن قوله : ( إن الحسن لم يعرض نفسه على الناس ، ولم يتعرض لبيعتهم ) لا واقعية له ويرده خطاب الحسن في تأبين أبيه ، فقد دعا الناس إلى مبايعته وحفزهم إلى طاعته وذلك بذكره للفضائل النسبية والنفسية التي اختص بها فان بيانها وهو في مقام تأبين أبيه ليس المقصود منه إلا إلا الدعوة لمبايعته ، وارشاد المجتمع الإسلامى الى أحقيته بالخلافة دون غيره.

٢ ـ وأما قوله : إن قيس بن سعد دعا الناس الى البيعة ولم يكن الإمام حاظرا فاستجابوا له ، وأخرج فبويع. فانه اشتباه ظاهر وخلط غريب لأن الدعوة الى البيعة إنما كانت بعد ما أنهى الإمام خطابه السالف ولم تكن قبل ذلك الوقت والذي دعا إليها عبيد الله بن العباس وأول من بايعه قيس بن سعد كما بينّا ذلك فيما تقدم إن أغلب بحوث الدكتور فى الإمام الحس كانت خالية عن التحقيق وبعيدة عن الصواب ، فقد مرّ فى صلح الإمام وفى سائر مناحي حياته مرور منطلق فلم يقف على الحقيقة ولم يقرب من الواقع ، وسنشير الى مواضع اشتباهه إن من الناحية التأريخية أو الاستنتاج التأريخي فى كثير من الجهات التي تخص البحث

__________________

(١) على وبنوه : ص ١٩٥.

٤٠

الحرب الباردة

٤١
٤٢

وما أذيع مصير الخلافة الاسلامية إلى حفيد الرسول (ص) إلا وموجات من الهموم والأحزان قد طافت بابن هند ، فملكته الحيرة واستولى عليه الجزع والذهول ، وذلك لعلمه أن للامام مركزا عظيما في نفوس المسلمين ، ومكانة مرموقة في جميع الأوساط ، لأنه سبط النبي العظيم وأعز الناس عنده وأقربهم إليه ، وقد شاعت بين المسلمين الأحاديث المتواترة عنه (ص) في رفع كيانه وتعظيم شأنه وتقديمه بالفضل على غيره فكيف يعدل الناس عنه إلى ابن هند وكيف يقاس معاوية به وهو من الاسرة الملعونة في القرآن وقد عرف الجميع عداء أبيه وأسرته للاسلام والمسلمين من يوم بزغ نوره

اضطرب معاوية وطارت نفسه شعاعا ، وأقضّ التفكير مضجعه لما ازدانت الخلافة الاسلامية بالامام الحسن ، وذلك لعلمه ان الامام لا يتحول عن شريعة جده وسيرة أبيه التي تقضي بلزوم محاربة الباغين والقضاء عليهم ومعاوية هو رافع لوائهم وعميدهم ، فالحسن لا بد وأن يعمل كل جهوده ويبذل جميع مساعيه لمناجزة معاوية والقضاء عليه ، مضافا إلى ذلك كله انه لم يجد منفذا وثغرا يسلك فيه للطعن بشخصية الامام أو اتهامه بشيء ما فدم عثمان بريء منه ، بل قد قيل إنه من الذابين والمدافعين عنه ، فبما ذا يتهم الامام اذا وقد نزه من كل نقص ورذيلة كما تجرد هو من كل مكرمة وفضيلة.

المؤتمر الاموي :

وعقد معاوية على أثر ذلك اجتماعا مفاجئا في بلاطه دعا فيه خلص أتباعه وأشياعه فاخبرهم بالموقف الرهيب ، والخطر المفاجئ الذي حل في مملكته ، وأعلمهم ان الأمر إذا لم تتخذ فيه القرارات الحاسمة ، ولم تبذل الجهود الجبارة لانتشاله فسوف يحدق بهم الخطر المنذر بالفناء ، وبعد مداولة

٤٣

الآراء والأفكار اجمعت كلمتهم على ما يلي :

1 ـ نشر الجواسيس ، وبث العيون في الأقطار الإسلامية الخاضعة لحكم الامام ، خصوصا البصرة والكوفة ، ليعرفونه الأنباء بالتفصيل ويخبرونه باتجاه المجتمع ونياته ومدى اخلاصه لآل البيت (ع) كما ويقومون بعمليات الذعر والخوف والإرهاب بين المسلمين بقوة معاوية وضعف الحسن

2 ـ مراسلة الزعماء والوجوه والشخصيات البارزة وارشائهم بالأموال الطائلة والوظائف المهمة في مناصب الدولة إن اتبعوه وانقادوا له وخذلوا الإمام الحسن ، أما هذا الأمر فقد أرجئ تنفيذه ـ بالاجماع ـ إلى وقت آخر قريب ، واما الأمر ( الأول ) فقد نفذ فورا فقد استدعى معاوية رجلين خبيرين يثق بكفاءتهما ويطمئن بدرايتهما وحذاقتهما في عالم التجسس ، أما الرجلان ( فاحدهما ) من حمير وقد ارسله إلى الكوفة ، وأما ( الآخر ) فمن بني القين وقد بعثه إلى البصرة.

ولما وصل الحميري إلى الكوفة ، والقيني إلى البصرة ، اخذا بتنفيذ الخطط المقررة لهما ، وبعد ما انتشر أمرهما قبضت عليهما الشرطة المحلية ، اما الحميري فجيء به إلى الامام فأمر بقتله ، واما القيني فجيء به مخفورا إلى عامل الامام على البصرة عبد الله بن عباس فأمر باعدامه أيضا.

مذكرة الامام :

وعلى أثر وقوع هذا الاعتداء الصارخ من معاوية رفع الامام إليه مذكرة تهدده فيها وتوعده باعلان الحرب عليه وهذا نصها :

( أما بعد : فانك دسست إلي الرجال ، كأنك تحب اللقاء ، لا شك في ذلك فتوقعه إن شاء الله ، وبلغني أنك شمتّ بما لم يشمت به ذوو

٤٤

الحجى(1) وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول :

فانا ومن قد مات منا لكالذي

يروح فيمسي في المبيت ليغتدي

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تجهز لأخرى مثلها فكأن قد

ويلمس في هذه الرسالة مدى روح العزم والحزم والتصميم على الحرب إن اصر معاوية على البغي ، والتمرد والتمادي في الاثم ، كما احتوت على الاستنكار لما أظهره من السرور والغبطة بمقتل الامام أمير المؤمنين.

جواب معاوية :

ولما وردت رسالة الامام إلى معاوية فزع منها ، فانبرى يفتش في حقيبة مكره عذرا يدفع به عن نفسه القبيح الذي ارتكبه ، والمنكر الذي فعله ، فلم بجد عذرا إلا انكار ما أظهره من السرور بمقتل الامام ولا بأس عليه في الكذب ، فقد استساغه واستحله وهو كل ما يملك في خزانة نفسه وأما بعثه العيون والجواسيس فرأى أن يتغاضى عن ذكره ويعرض عن جوابه ويهمل الاعتذار منه وهذا نصه :

( أما بعد : فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، ولقد علمت بما حدث ، فلم أفرح ، ولم أحزن ، ولم أشمت ، ولم آس(2) وإن عليا

__________________

(1) الحجى : العقل والفطنة.

(2) لم آس : أي لم أحزن وذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن معاوية أظهر الحزن والأسى والتوجع بمقتل الامام أقول : ـ أولا ـ لا يتفق مع ما ذكره معاوية من عدم حزنه بموت الامام ـ وثانيا ـ انه لا يتفق مع سيرة معاوية وعدائه السافر للامام الذي جعل سبه فريضة من فرائض الاسلام وتتبع شيعته واصحابه فقتلهم تحت كل حجر ومدر.

٤٥

أباك لكما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة(1) :

فأنت الجواد وأنت الذي

إذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا

يضرب منها النساء النحورا

وما مزبد من خليج البحا

ر يعلو الاكام ويعلو الجسورا(2)

بأجود منه بما عنده

فيعطي الالوف ويعطي البدورا(3)

__________________

(1) أعشى بني قيس : هو الأعشى الكبير أسمه ( ميمون ) بن قيس ولد بقرية باليمامة يقال لها منفوحة وفيها داره وقبره ويقال انه كان نصرانيا وهو أول من سأل بشعره ، وفد إلى مكة يريد النبي (ص) وقد مدحه بقصيدة أولها :

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبت كما بات السليم مسهدا

ومنها :

أجدك لم تسمع وصاة محمد

نبي الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله

وأنك لم ترصد بما كان أرصدا

فلقيه أبو سفيان فى الطريق فأخبره بقصته فجمع له مائة من الابل ورده عن قصده فلما صار بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله ومن شعره :

قد يترك الدهر فى خلقاء راسية

وهيا وينزل منها الأعصم الصدعا

وكان شيء إلى شيء ففرقه

دهر تعود على تفريق ما جمعا

الخلقاء : الصخرة الثابتة. الأعصم : الذي فى يده بياض. الصدع. الفتى من الوعول جاء ذلك فى معجم الشعراء للمرزباني ( ج 2 ص 401 )

(2) مزبد : مشتق من أزبد البحر إزبادا فهو مزبد ( بالتحريك ) وهو كالرغوة. الاكام : جمع أكمة كقصبة وهي التل.

(3) البدور : جمع مفرده بدرة كوردة وهي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار.

٤٦

ويلمس في هذه الرسالة دهاء معاوية وخداعه ، كما يلمس خوره وضعف عزيمته وفزعه من الامام الحسن وذلك لمدحه وثنائه على الامام علي (ع) وانكاره لما اظهره من الفرح والسرور والغبطة بموته ولو لا ذلك لما سجل لخصمه هذا الثناء العاطر.

مذكرة ابن عباس :

ورفع عامل الامام على البصرة عبد الله بن عباس مذكرة إلى معاوية يستنكر فيها بعثه العيون والجواسيس إلى البصرة ويهدده على هذا الاعتداء السافر ، وهذا نصها :

( أما بعد : فانك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية بن أبي الصلت(1)

لعمرك إني والخزاعي طارقا

كنعجة غادت حتفها تتحفر(2)

__________________

(1) جاء فى رسالة جمهرة العرب ( ج 2 ص 4 ) ان الصحيح هو ( أمية بن الأسكر ) لا أمية بن أبي الصلت فانه خطأ وقد استند إلى ما ذكره برواية الأغاني حيث ذكر هذه الأبيات إلى أمية بن الأسكر قالها لما تغلب اصحاب النبي (ص) على رهط أمية بسبب طارق الخزاعي وكان قاطنا معهم فدل اصحاب النبي (ص) عليهم لأن خزاعة كان مشركها ومؤمنها يميلون إلى النبي على قريش فتأثر أمية من فعل طارق فقال فيه هذه الأبيات وأجابه طارق بأبيات استشهد فيها معاوية فى جوابه عن رسالة عبد الله بن عباس.

(2) غادت : أي باكرت. الحتف : الموت ، ومنع نعجة من الصرف لأجل الضرورة.

٤٧

اثارت عليها شفرة بكراعها

فظلت بها من آخر الليل تنحر(1)

شمت بقوم هم صديقك أهلكوا

أصابهم يوم من الدهر أعسر(2)

جواب معاوية :

ولما وردت رسالة ابن عباس على معاوية انبرى إليها مجيبا بجواب تمثلت فيه المواربة والخداع ، وهذه صورته :

( أما بعد : فان الحسن كتب إلينا بنحو الذي كتبت به ، انبنى بما لم يحقّق سوء ظن ورأي فيّ ، وانك لم تصب مثلي ومثلكم ، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية على هذا الشعر :

فو الله ما أدري ( وإني لصادق )

إلى أي من يتظنني اتعذر(3)

أعنف إن كانت زبينة أهلكت

ونال بني لحيان شر فأنفروا(4)

وهذا الجواب يضارع الجواب الذي بعثه إلى الامام فى انكاره لما أبداه من السرور والفرح بموت الامام ، كما احتوى جوابه على الدهاء والمؤاربة ، فاما قوله لابن عباس إن الحسن قد انبنى ، فالامام الحسن وإن أنبه ولامه على إظهاره

__________________

(1) الشفرة : السكين العريضة ، وحد السيف ، وجانب النصل ، الكراع :مستدق الساق وجاء فى المثل ( كالباحث عن المدية ) ويروى عن ( الشفرة ) وفي آخر ( كباحثة عن حتفها بظلفها ) وأصله ان رجلا كان جائعا فوجد شاة ولم يكن معه ما يذبحها به فبحثت الشاة الأرض بأظلافها فسقطت على شفرة فذبحها بها يضرب مثلا لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره.

(2) الأغاني : ( ج 8 ص 62 ) شرح ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 12 )

(3) يتظننى : يتهمني.

(4) نفروا : شردوا.

٤٨

للمسرات بمقتل الإمام إلا أنه تهدده وتوعده باعلانه للحرب لما هو أهم من ذلك وأعظم وهو بعثه للعيون والجواسيس الى مملكته فان هذه الجهة قد أعرض عنها لئلا يذاع نشاط الإمام وعزمه على إعلان الحرب فتخور عزائم جنده وتقوى نفوس أصحاب الإمام.

رسالة ابن عباس للامام :

وعلى أثر ذلك بعث الحازم اليقظ عبد الله بن عباس رسالة الى الإمام ينشطه فيها على إثارة الحرب ومقاومة معاوية ومناجزته ، حتى النفس الأخير وقد دلت رسالته على درايته الواسعة واطلاعه الوافر بفنون السياسة ومعرفته التامة بنفوس المجتمع ووقوفه التام على نفسيات الأمويين واتجاههم السيئ نحو الإسلام والمسلمين وهذا نصها :

« أما بعد : فان المسلمين ولّوك أمرهم بعد عليعليه‌السلام فشمر للحرب وجاهد عدوّك وقارب أصحابك ، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه(1) وولّ(2) أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم حتى يكون الناس جماعة فان بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق ، وكانت عواقبه تؤدي(3) إلى ظهور العدل وعز الدين خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعوا الى ظهور الجور وذل المؤمنين وعز الفاجرين. واقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب ، أو اصلاح

__________________

(1) الظنين : المتهم. ويروى ( واستر من الظنين ذنبه بما لا يثلم دينك ).

(2) وفى رواية ( واستعمل ) وفى أخرى ( ووال ).

(3) وفى رواية ( تدعو ).

٤٩

بين الناس فان الحرب خدعة(1) ولك فى ذلك سعة إذ كنت محاربا ما لم تبطل حقا.

واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه الى معاوية أنه آسى(2) بينهم فى الفيء وسوّى بينهم في العطاء ، فثقل عليهم ، واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله فى ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر الله. فلما وحد الرب ، ومحق الشرك وعز الدين أظهروا الإيمان وقرءوا القرآن مستهزئين بآياته ، وقاموا الى الصلاة وهم كسالى وأدّوا الفرائض وهم لها كارهون ، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار توسموا بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتى شركوهم فى أماناتهم وقالوا حسابهم على الله فان كانوا صادقين فاخواننا في الدين وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين ، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمر إلا غيا ، ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا فجاهدهم ولا ترض دنية ولا تقبل خسفا(3) فان عليا أباك لم يجب الى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل فلما حكموا بالهوى رجع الى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك والسلام(4) واحتوت هذه الرسالة على أمور بالغة الأهمية هي :

1 ـ أن ابن عباس عرض على الإمام أن يولي الأشراف وذوي

__________________

(1) الحرب خدعة : مثلاثة الخاء ، وبضمها مع فتح الدال أي تنقضي بخدعة.

(2) آسى : أي سوى.

(3) خسفا : أي ذلا.

(4) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 8. رسائل جمهرة العرب ج 2 ص 1.

٥٠

النفوذ ، ويشرى من الظنين دينه ليقضي بذلك على روح التفرقة ، ويكون الناس جماعة واحدة ، حتى يتمكن من مناجزة معاوية ومقاومته ، وغفل ابن عباس ان ذلك يتنافى مع السياسية الرشيدة التي انتهجها أهل البيت فانها بنيت على الحق الخالص ، وعلى شجب كافة الوسائل التي لا تتفق مع المبادئ الإسلامية وإن توقف عليها الظفر والنصر ، وسنذكر ذلك بمزيد من التوضيح عند عرض أسباب الصلح.

2 ـ واشتملت هذه الرسالة على أهم الأسباب الوثيقة التي أدت الى خذلان الإمام فى دور خلافته ونجاح معاوية فى عهد حكومته ، فان الإمام قد انتهج سياسة العدل والمساواة فسوى بين المسلمين فى العطاء فلم يقدم أحدا على أحد فى العطاء عملا بما أمر به الإسلام ونصت عليه مبادئه العادلة التي محت التفاوت بين الأبيض والأسود وهدمت الحواجز بين الغني والفقير وجعلت ( الناس سواسية كأسنان المشط كلهم من آدم وآدم من تراب ) لا ميزة لأحد على أحد إلا بالتقوى ، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل والكفاءة ، سار الإمام علي (ع) على هذه السياسة العادلة ومشى على هذه الخطة الواضحة حتى ضرب الرقم القياسي للمساواة والعدل فمن بوادر عدله انه ساوى بين سيدة قرشية ، وبين أمة في العطاء فغاظ القرشية ذلك وأقبلت إليه وهي محنقة مغيظة تقول بحرارة :

« أتساوي فى العطاء بيني وبين هذه الأمة؟ »

فرمقها الإمام بطرفه وأخذ بيده قبضة من التراب وجعل يقلبه بيده وهو يقول :

« لم يكن بعض هذا التراب أفضل من بعض ».

لقد ثقل على الناس هذه المساواة وشق عليهم هذا العدل لأنهم

٥١

لا يتطلبون إلا مصالحهم الخاصة ، فلذا زهدوا في حكومته وخضعوا لحكومة الظلم حكومة معاوية الذي لا هدف له إلا إشباع شهواته ، وتحقيق رغباته.

3 ـ وأعرب ابن عباس في رسالته عن دراسته الوثيقة لنفسيات الأمويين ومعرفته بما انطوت عليه قلوبهم ، فلقد بيّن أنهم مجموعة من الملحدين والمشركين « كما هم كذلك » فاذا حاربهم الإمام فانما يحارب من حارب الله ورسوله حينما بزغ نور الاسلام فانه لما كتب الله النصر لدينه وقهر سلطان الإسلام العرب دخلت أمية فيه لكن لا إيمانا منهم بقضيته بل خوفا من حر السيف ، ورهبة الموت ، فكانوا يتظاهرون باعتناق الإسلام فيقرءون آيات الذكر الحكيم ولكن قراءة استهزاء وسخرية لا إيمانا واعتقادا به وكانوا يقيمون الصلاة ولكنهم يؤدونها وهم كسالى ، ويقيمون فرائض الإسلام ولكن عن كره ونفاق ، ولما رأوا أن خطتهم مغلوطة ولا تضمن لهم النجاح ، ولا تكفل لهم السعادة إذ لا يعز في هذا الدين إلا الأبرار الصلحاء لقوله تعالى :( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (1) . أظهروا ـ تدليسا ورياء ـ الصلاح والتقى والإيمان وأضمروا في دخائل نفوسهم الشرك والنفاق والحقد على الإسلام ، وظلوا على هذا الحال يظاهرون الطاعة لله والانقياد لأوامره وأحكامه حتى أشركهم المسلمون في امورهم وشئونهم ولكن المسلمين مع ذلك كانوا مرتابين منهم شاكين في أمرهم على ريب من صدقهم.

4 ـ واحتوت هذه الرسالة على حث الإمام وتحريضه لمحاربة هؤلاء المنافقين والمارقين من الدين ، ومواصلة حربهم حتى النفس الأخير لتستريح الأمّة من شرهم ، وتسلم من مكرهم وغوائلهم. ولا شك ان هذه

__________________

(1) سورة الحجرات آية 13.

٥٢

الرسالة التي دبجتها يراعة هذا الحبر الجليل كان لها موقع حسن في نفس الإمام فقد حفزته الى مناجزة معاوية ومقاومته ، وإعلان الحرب عليه.

رسالة الامام الى معاوية :

وأرسل الإمام رسالة أخرى الى معاوية يدعوه الى مبايعته ، وطاعته والدخول فيما دخل فيه المسلمون. وقد أرسل هذه الرسالة بيد شخصين من عيون المؤمنين وثقات الإسلام وهما الحارث بن سويد التميمي(1) وجندب الأزدي(2) وإليك نص رسالته :

« من عبد الله الحسن أمير المؤمنين ، الى معاوية بن أبي سفيان.

أما بعد : فان الله بعث محمدا (ص) رحمة للعالمين فأظهر به الحق ، وقمع به الشرك ، وأعزّ به العرب عامة ، وشرّف به قريشا خاصة ،

__________________

(1) الحارث بن سويد التميمي : هو أبو عائشة الكوفي روى عن جماعة من ثقات الصحابة منهم الإمام علي وابن مسعود ، وروى عنه جماعة من الثقات وقد عظّم الروات شأنه فقال ابن معين : إنه ثقة. وقال غيره : إنه أجود اسناد روى عن الإمام علي وقد أطرى على الرجل وأثنى عليه بثناء عاطر ويكفيه فضلا أنه ثقة الإمام الحسن ومعتمده الذي بعثه لمعاوية توفى في أواخر أيام عبد الله بن الزبير ، جاء في تهذيب التهذيب ج 2 ص 173.

(2) جندب الأزدي العامري يكنى أبو عبد الله وهو أحد الصحابة وقد روى عن النبي (ص) أنه قال : ( حد الساحر ضربه بالسيف ) روى عن جماعة من الصحابة منهم الإمام علي (ع) وسلمان الفارسي ، وروى عنه جماعة آخرون وذكره ابن حيان من ثقات التابعين ، توفي في آخر خلافة معاوية. جاء ذلك في تهذيب التهذيب ج 2 ص 118.

٥٣

فقال :( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) (1) ، فلما توفاه الله تنازعت العرب في الأمر بعد ، فقالت قريش : نحن عشيرته وأولياؤه فلا تنازعونا سلطانه فعرفت العرب لقريش ذلك وجاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب ، فهيهات ما انصفتنا قريش ، وقد كانوا ذوي فضيلة في الدين ، وسابقة في الإسلام ، ولا غرو إلا منازعتك إيانا الأمر بغير حق في الدنيا معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، فالله الموعد ، نسأل الله معروفه أن لا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا عنده في الآخرة.

إن عليا لما توفاه الله ولاني المسلمون الأمر بعده ، فاتق الله يا معاوية وانظر لأمة محمد (ص) ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها والسلام »(2)

وتروى هذه الرسالة بصورة أخرى أبسط من هذه الصورة وأوفى نذكرها لما فيها من مزيد الفائدة :

« من الحسن بن علي أمير المؤمنين ، الى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فان الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين ، ومنة للمؤمنين ، وكافة للناس أجمعين( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ) (3) فبلغ رسالات الله وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان ، وبعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، وخصّ به قريشا خاصة. فقال له : « وإنه لذكر لك ولقومك » ، فلما توفى تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه ،

__________________

(1) سورة الزخرف آية 44.

(2) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 9.

(3) سورة يس آية 70.

٥٤

فرأت العرب أن القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد ، فأنعمت لهم(1) وسلمت إليهم ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه الى محاججتهم وطلب النصف(2) منهم باعدونا ، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا(3) والعنت منهم لنا ، فالموعد الله وهو الولي النصير.

ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا فى حقنا وسلطان بيتنا ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب(4) في ذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من إفساده ، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله. لا بفضل فى الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ولكتابه ، والله حسيبك ، فسترد وتعلم لمن عقبى الدار ، وبالله لتلقينّ عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدّمت يداك ، وما الله بظلاّم للعبيد.

__________________

(1) أنعم له : أي قال له نعم.

(2) النصف : الإنصاف.

(3) راغمهم : نابذهم وعاداهم.

(4) الأحزاب : هي التي تحزبت على قتال رسول الله (ص) من قريش وغطفان وبني مرة وبني أشجع وبني سليم وبني أسد في غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق وكان قائدهم العام أبا سفيان وذلك في السنة الخامسة من الهجرة.

٥٥

إن عليا لما مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه يوم قبض ، ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيا ـ ولاني المسلمون بعده ، فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة ، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بيني وبين الله عز وجل فى أمرك ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فانك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أوّاب(1) حفيظ ومن له قلب منيب ، واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو الله ما لك خير فى أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به وادخل فى السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ليطفئ الله النائرة(2) بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين »(3)

وحفلت هذه الرسالة ـ على كلتا الروايتين ـ بأمور مهمة :

1 ـ إن الإمام أعرب فيها عن شعوره تجاه الخلافة الإسلامية فهو فهو يرى أنها من حقوق أهل البيت (ع) لا يشاركهم فيها أحد ، وان من ابتزها منهم فقد اعتدى عليهم وسلب تراثهم ، وقد سلك الإمام في الاستدلال على رأيه الوثيق بعين ما استدلت به قريش على العرب في أحقيتهم بالخلافة من أنهم أقرب الناس الى النبي (ص) وأمس الناس رحما به ، فان هذا الشعار الذي هتفوا به موجود في أهل البيت على النحو الأكمل

__________________

(1) آب الى الله رجع عن ذنبه وتاب فهو أواب مبالغة.

(2) النائرة : العداوة والبغضاء.

(3) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 12 ،

٥٦

فانهم فرع دوحته والصق الناس به وأقربهم إليه ، ومن الغريب ان العرب قنعت بحجة قريش ، ولكن القرشيين لم يخضعوا لمقالة أهل البيت ، نعم يعود السبب فى ذلك الى الأضغان والأحقاد التي أترعت نفوسهم بها فناصبوا عترة نبيهم ، وبالغوا في ارهاقهم ، والتنكيل بهم ، فواجهت العترة الطاهرة ألوانا قاسية من المحن والخطوب.

2 ـ وذكر الإمام الحسن السر في إمساكهم وإحجامهم عن المطالبة بحقهم وذلك خوفا منهم على بيضة الإسلام وكلمة التوحيد من الأحزاب والمنافقين الذين مردوا على النفاق ، فقد قويت شوكتهم بموت النبي (ص) وأخذوا ينتهزون الفرصة لمحق الإسلام واستئصال شأفته ، فاثروا مصلحة الإسلام على ضياع حقهم ، وقد صرح الإمام أمير المؤمنين (ع) بذلك في كتابه الذي بعثه الى أهل مصر وقد جاء فيه :

« فلما مضىعليه‌السلام ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو الله ما كان يلقى فى روعي ، ولا يخطر ببالي ، ان العرب تزعج هذا الأمر من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أهل بيته ، ولا انهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس عن الإسلام يدعون الى محق دين محمد (ص) فخشيت إن لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوات ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب »

فلأجل الحفاظ على الإسلام والاحتياط على مصلحة المسلمين أمسكوا عن المطالبة بحقوقهم ، ولم يناجزوا القوم بالسيف ، وسلموا الأمر الى الله.

3 ـ وأعرب الإمام الحسن في رسالته عن استغرابه من نزاع معاوية

٥٧

وتطاوله عليه وهو من الحزب الذي سعر الدنيا حربا على رسول الله (ص) وأثاروا عليه حفائظ الجاهلية وأحقادها ، فكيف ينازع حفيد النبي ووريثه على منصبه ومقامه!! وهناك باعث آخر من بواعث استغراب الإمام على منازعة معاوية له ، وهو أن معاوية ليس له فضل فى الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وليست أي موهبة أو فضيلة حتى يستحق هذا المنصب العظيم في الإسلام.

4 ـ وذكر (ع) لمعاوية عموم البيعة له بعد وفاة أبيه وان الأمّة قد أجمعت على مبايعته وعلى الانقياد إليه وهي حجة بالغة لو وعاها معاوية ورجع الى منطق الحق والصواب.

جواب معاوية :

ولما وصلت رسالة الإمام الى معاوية أجاب عنها بجواب يلمس فيه المكر والخداع ، وهذه صورته :

« أما بعد : فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله (ص) وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله ، وذكرت تنازع المسلمين الأمر بعده ، فصرّحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر وأبي عبيدة الأمين وصالحاء المهاجرين فكرهت لك ذلك إن الأمّة لما تنازعت الأمر بينها رأت قريشا أخلقها به ، فرأت قريش والأنصار وذوو الفضل والدين من المسلمين أن يولوا من قريش أعلمها بالله وأخشاها له وأقواها على الأمر فاختاروا أبا بكر ولم يألوا(1) ولو علموا مكان رجل غير أبي بكر يقوم مقامه ، ويذب عن حرم الإسلام ذبه ، ما عدلوا بالأمر الى أبي بكر ، والحال اليوم بيني وبينك على ما كانوا عليه

__________________

(1) لم يألوا : أي لم يقصروا.

٥٨

فلو علمت أنك أضبط لأمر الرعية ، وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة ، وأكيد للعدو ، وأقوى على جمع الفيء ، لسلمت لك الأمر بعد أبيك ، فان أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما فطالب الله بدمه ، ومن يطلبه الله فلن يفوته ، ثم ابتز الأمّة أمرها ، وفرّق جماعتها فخالفه نظراؤه من أهل السابقة والجهاد والقدم فى الإسلام ، وادعى أنهم نكثوا بيعته فقاتلهم فسفكت الدماء ، واستحلت الحرم ، ثم أقبل إلينا يدعي علينا بيعة ولكنه يريد أن يملكنا اغترارا فحاربناه وحاربنا ، ثم صارت الحرب الى أن اختار رجلا واخترنا رجلا ليحكما بما تصلح عليه الأمّة ، وتعود به الجماعة والألفة ، وأخذنا بذلك عليهما ميثاقا ، وعليه مثله ، وعلينا مثله على الرضا بما حكما ، فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت وخلعاه فو الله ما رضى بالحكم ، ولا صبر لأمر الله ، فكيف تدعوني الى أمر إنما تطلبه بحق أبيك ، وقد خرج منه فانظر لنفسك ولدينك والسلام »(1) .

وروى هذا الجواب بصورة أخرى أوسع وأبسط من الأولى وهذا نصه :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين الى الحسن بن علي : سلام عليك فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله (ص) من الفضل وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه وصغيره وكبيره وقد والله بلغ وأدى ونصح وهدى حتى أنقذ الله به من الهلكة ، وأنار به من العمى ، وهدى به من الجهالة والضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم بعث ويوم قبض ويوم يبعث حيا ، وذكرت وفاة

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 9.

٥٩

النبي (ص) وتنازع المسلمين بعده وتغلبهم على أبيك فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري(1) رسول الله (ص) وصالحاء المهاجرين والأنصار فكرهت ذلك لك ، إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ، ولا المسيء ، ولا اللئيم ، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل.

إن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم ، ولا قرابتكم من نبيكم ، ولا مكانكم في الإسلام وأهله ، فرأت الأمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانتها من نبيها ، ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار ، وغيرهم من سائر الناس وعوامهم ، أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما ، وأعلمها بالله ، وأحبها له ، وأقواها على أمر الله فاختاروا أبا بكر. وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل ، والناظرين للأمة فأوقع ذلك فى صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا متهمين ولا فيما أتوا بالمخطئين ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه(2) ، ويقوم مقامه ، ويذب عن حريم الإسلام ذبه ما عدلوا بالأمر الى غيره رغبة عنه ، ولكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله ، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح ، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي (ص) ، فلو علمت أنك أضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال ، وأكيد للعدو لأجبتك الى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا ، ولكن قد علمت اني أطول منك ولاية ، وأقدم منك بهذه

__________________

(1) الحواري : الناصر والمعين أو ناصر الأنبياء.

(2) الغناء : النفع ، وأغنى غناءه أجزأ عنه ، وقام مقامه.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529