حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 224908 / تحميل: 7215
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الحرب الباردة

٤١
٤٢

وما أذيع مصير الخلافة الاسلامية إلى حفيد الرسول (ص) إلا وموجات من الهموم والأحزان قد طافت بابن هند ، فملكته الحيرة واستولى عليه الجزع والذهول ، وذلك لعلمه أن للامام مركزا عظيما في نفوس المسلمين ، ومكانة مرموقة في جميع الأوساط ، لأنه سبط النبي العظيم وأعز الناس عنده وأقربهم إليه ، وقد شاعت بين المسلمين الأحاديث المتواترة عنه (ص) في رفع كيانه وتعظيم شأنه وتقديمه بالفضل على غيره فكيف يعدل الناس عنه إلى ابن هند وكيف يقاس معاوية به وهو من الاسرة الملعونة في القرآن وقد عرف الجميع عداء أبيه وأسرته للاسلام والمسلمين من يوم بزغ نوره

اضطرب معاوية وطارت نفسه شعاعا ، وأقضّ التفكير مضجعه لما ازدانت الخلافة الاسلامية بالامام الحسن ، وذلك لعلمه ان الامام لا يتحول عن شريعة جده وسيرة أبيه التي تقضي بلزوم محاربة الباغين والقضاء عليهم ومعاوية هو رافع لوائهم وعميدهم ، فالحسن لا بد وأن يعمل كل جهوده ويبذل جميع مساعيه لمناجزة معاوية والقضاء عليه ، مضافا إلى ذلك كله انه لم يجد منفذا وثغرا يسلك فيه للطعن بشخصية الامام أو اتهامه بشيء ما فدم عثمان بريء منه ، بل قد قيل إنه من الذابين والمدافعين عنه ، فبما ذا يتهم الامام اذا وقد نزه من كل نقص ورذيلة كما تجرد هو من كل مكرمة وفضيلة.

المؤتمر الاموي :

وعقد معاوية على أثر ذلك اجتماعا مفاجئا في بلاطه دعا فيه خلص أتباعه وأشياعه فاخبرهم بالموقف الرهيب ، والخطر المفاجئ الذي حل في مملكته ، وأعلمهم ان الأمر إذا لم تتخذ فيه القرارات الحاسمة ، ولم تبذل الجهود الجبارة لانتشاله فسوف يحدق بهم الخطر المنذر بالفناء ، وبعد مداولة

٤٣

الآراء والأفكار اجمعت كلمتهم على ما يلي :

١ ـ نشر الجواسيس ، وبث العيون في الأقطار الإسلامية الخاضعة لحكم الامام ، خصوصا البصرة والكوفة ، ليعرفونه الأنباء بالتفصيل ويخبرونه باتجاه المجتمع ونياته ومدى اخلاصه لآل البيت (ع) كما ويقومون بعمليات الذعر والخوف والإرهاب بين المسلمين بقوة معاوية وضعف الحسن

٢ ـ مراسلة الزعماء والوجوه والشخصيات البارزة وارشائهم بالأموال الطائلة والوظائف المهمة في مناصب الدولة إن اتبعوه وانقادوا له وخذلوا الإمام الحسن ، أما هذا الأمر فقد أرجئ تنفيذه ـ بالاجماع ـ إلى وقت آخر قريب ، واما الأمر ( الأول ) فقد نفذ فورا فقد استدعى معاوية رجلين خبيرين يثق بكفاءتهما ويطمئن بدرايتهما وحذاقتهما في عالم التجسس ، أما الرجلان ( فاحدهما ) من حمير وقد ارسله إلى الكوفة ، وأما ( الآخر ) فمن بني القين وقد بعثه إلى البصرة.

ولما وصل الحميري إلى الكوفة ، والقيني إلى البصرة ، اخذا بتنفيذ الخطط المقررة لهما ، وبعد ما انتشر أمرهما قبضت عليهما الشرطة المحلية ، اما الحميري فجيء به إلى الامام فأمر بقتله ، واما القيني فجيء به مخفورا إلى عامل الامام على البصرة عبد الله بن عباس فأمر باعدامه أيضا.

مذكرة الامام :

وعلى أثر وقوع هذا الاعتداء الصارخ من معاوية رفع الامام إليه مذكرة تهدده فيها وتوعده باعلان الحرب عليه وهذا نصها :

( أما بعد : فانك دسست إلي الرجال ، كأنك تحب اللقاء ، لا شك في ذلك فتوقعه إن شاء الله ، وبلغني أنك شمتّ بما لم يشمت به ذوو

٤٤

الحجى(١) وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول :

فانا ومن قد مات منا لكالذي

يروح فيمسي في المبيت ليغتدي

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تجهز لأخرى مثلها فكأن قد

ويلمس في هذه الرسالة مدى روح العزم والحزم والتصميم على الحرب إن اصر معاوية على البغي ، والتمرد والتمادي في الاثم ، كما احتوت على الاستنكار لما أظهره من السرور والغبطة بمقتل الامام أمير المؤمنين.

جواب معاوية :

ولما وردت رسالة الامام إلى معاوية فزع منها ، فانبرى يفتش في حقيبة مكره عذرا يدفع به عن نفسه القبيح الذي ارتكبه ، والمنكر الذي فعله ، فلم بجد عذرا إلا انكار ما أظهره من السرور بمقتل الامام ولا بأس عليه في الكذب ، فقد استساغه واستحله وهو كل ما يملك في خزانة نفسه وأما بعثه العيون والجواسيس فرأى أن يتغاضى عن ذكره ويعرض عن جوابه ويهمل الاعتذار منه وهذا نصه :

( أما بعد : فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، ولقد علمت بما حدث ، فلم أفرح ، ولم أحزن ، ولم أشمت ، ولم آس(٢) وإن عليا

__________________

(١) الحجى : العقل والفطنة.

(٢) لم آس : أي لم أحزن وذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن معاوية أظهر الحزن والأسى والتوجع بمقتل الامام أقول : ـ أولا ـ لا يتفق مع ما ذكره معاوية من عدم حزنه بموت الامام ـ وثانيا ـ انه لا يتفق مع سيرة معاوية وعدائه السافر للامام الذي جعل سبه فريضة من فرائض الاسلام وتتبع شيعته واصحابه فقتلهم تحت كل حجر ومدر.

٤٥

أباك لكما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة(١) :

فأنت الجواد وأنت الذي

إذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا

يضرب منها النساء النحورا

وما مزبد من خليج البحا

ر يعلو الاكام ويعلو الجسورا(٢)

بأجود منه بما عنده

فيعطي الالوف ويعطي البدورا(٣)

__________________

(١) أعشى بني قيس : هو الأعشى الكبير أسمه ( ميمون ) بن قيس ولد بقرية باليمامة يقال لها منفوحة وفيها داره وقبره ويقال انه كان نصرانيا وهو أول من سأل بشعره ، وفد إلى مكة يريد النبي (ص) وقد مدحه بقصيدة أولها :

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبت كما بات السليم مسهدا

ومنها :

أجدك لم تسمع وصاة محمد

نبي الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله

وأنك لم ترصد بما كان أرصدا

فلقيه أبو سفيان فى الطريق فأخبره بقصته فجمع له مائة من الابل ورده عن قصده فلما صار بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله ومن شعره :

قد يترك الدهر فى خلقاء راسية

وهيا وينزل منها الأعصم الصدعا

وكان شيء إلى شيء ففرقه

دهر تعود على تفريق ما جمعا

الخلقاء : الصخرة الثابتة. الأعصم : الذي فى يده بياض. الصدع. الفتى من الوعول جاء ذلك فى معجم الشعراء للمرزباني ( ج ٢ ص ٤٠١ )

(٢) مزبد : مشتق من أزبد البحر إزبادا فهو مزبد ( بالتحريك ) وهو كالرغوة. الاكام : جمع أكمة كقصبة وهي التل.

(٣) البدور : جمع مفرده بدرة كوردة وهي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار.

٤٦

ويلمس في هذه الرسالة دهاء معاوية وخداعه ، كما يلمس خوره وضعف عزيمته وفزعه من الامام الحسن وذلك لمدحه وثنائه على الامام علي (ع) وانكاره لما اظهره من الفرح والسرور والغبطة بموته ولو لا ذلك لما سجل لخصمه هذا الثناء العاطر.

مذكرة ابن عباس :

ورفع عامل الامام على البصرة عبد الله بن عباس مذكرة إلى معاوية يستنكر فيها بعثه العيون والجواسيس إلى البصرة ويهدده على هذا الاعتداء السافر ، وهذا نصها :

( أما بعد : فانك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية بن أبي الصلت(١)

لعمرك إني والخزاعي طارقا

كنعجة غادت حتفها تتحفر(٢)

__________________

(١) جاء فى رسالة جمهرة العرب ( ج ٢ ص ٤ ) ان الصحيح هو ( أمية بن الأسكر ) لا أمية بن أبي الصلت فانه خطأ وقد استند إلى ما ذكره برواية الأغاني حيث ذكر هذه الأبيات إلى أمية بن الأسكر قالها لما تغلب اصحاب النبي (ص) على رهط أمية بسبب طارق الخزاعي وكان قاطنا معهم فدل اصحاب النبي (ص) عليهم لأن خزاعة كان مشركها ومؤمنها يميلون إلى النبي على قريش فتأثر أمية من فعل طارق فقال فيه هذه الأبيات وأجابه طارق بأبيات استشهد فيها معاوية فى جوابه عن رسالة عبد الله بن عباس.

(٢) غادت : أي باكرت. الحتف : الموت ، ومنع نعجة من الصرف لأجل الضرورة.

٤٧

اثارت عليها شفرة بكراعها

فظلت بها من آخر الليل تنحر(١)

شمت بقوم هم صديقك أهلكوا

أصابهم يوم من الدهر أعسر(٢)

جواب معاوية :

ولما وردت رسالة ابن عباس على معاوية انبرى إليها مجيبا بجواب تمثلت فيه المواربة والخداع ، وهذه صورته :

( أما بعد : فان الحسن كتب إلينا بنحو الذي كتبت به ، انبنى بما لم يحقّق سوء ظن ورأي فيّ ، وانك لم تصب مثلي ومثلكم ، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية على هذا الشعر :

فو الله ما أدري ( وإني لصادق )

إلى أي من يتظنني اتعذر(٣)

أعنف إن كانت زبينة أهلكت

ونال بني لحيان شر فأنفروا(٤)

وهذا الجواب يضارع الجواب الذي بعثه إلى الامام فى انكاره لما أبداه من السرور والفرح بموت الامام ، كما احتوى جوابه على الدهاء والمؤاربة ، فاما قوله لابن عباس إن الحسن قد انبنى ، فالامام الحسن وإن أنبه ولامه على إظهاره

__________________

(١) الشفرة : السكين العريضة ، وحد السيف ، وجانب النصل ، الكراع :مستدق الساق وجاء فى المثل ( كالباحث عن المدية ) ويروى عن ( الشفرة ) وفي آخر ( كباحثة عن حتفها بظلفها ) وأصله ان رجلا كان جائعا فوجد شاة ولم يكن معه ما يذبحها به فبحثت الشاة الأرض بأظلافها فسقطت على شفرة فذبحها بها يضرب مثلا لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره.

(٢) الأغاني : ( ج ٨ ص ٦٢ ) شرح ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٢ )

(٣) يتظننى : يتهمني.

(٤) نفروا : شردوا.

٤٨

للمسرات بمقتل الإمام إلا أنه تهدده وتوعده باعلانه للحرب لما هو أهم من ذلك وأعظم وهو بعثه للعيون والجواسيس الى مملكته فان هذه الجهة قد أعرض عنها لئلا يذاع نشاط الإمام وعزمه على إعلان الحرب فتخور عزائم جنده وتقوى نفوس أصحاب الإمام.

رسالة ابن عباس للامام :

وعلى أثر ذلك بعث الحازم اليقظ عبد الله بن عباس رسالة الى الإمام ينشطه فيها على إثارة الحرب ومقاومة معاوية ومناجزته ، حتى النفس الأخير وقد دلت رسالته على درايته الواسعة واطلاعه الوافر بفنون السياسة ومعرفته التامة بنفوس المجتمع ووقوفه التام على نفسيات الأمويين واتجاههم السيئ نحو الإسلام والمسلمين وهذا نصها :

« أما بعد : فان المسلمين ولّوك أمرهم بعد عليعليه‌السلام فشمر للحرب وجاهد عدوّك وقارب أصحابك ، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه(١) وولّ(٢) أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم حتى يكون الناس جماعة فان بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق ، وكانت عواقبه تؤدي(٣) إلى ظهور العدل وعز الدين خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعوا الى ظهور الجور وذل المؤمنين وعز الفاجرين. واقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب ، أو اصلاح

__________________

(١) الظنين : المتهم. ويروى ( واستر من الظنين ذنبه بما لا يثلم دينك ).

(٢) وفى رواية ( واستعمل ) وفى أخرى ( ووال ).

(٣) وفى رواية ( تدعو ).

٤٩

بين الناس فان الحرب خدعة(١) ولك فى ذلك سعة إذ كنت محاربا ما لم تبطل حقا.

واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه الى معاوية أنه آسى(٢) بينهم فى الفيء وسوّى بينهم في العطاء ، فثقل عليهم ، واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله فى ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر الله. فلما وحد الرب ، ومحق الشرك وعز الدين أظهروا الإيمان وقرءوا القرآن مستهزئين بآياته ، وقاموا الى الصلاة وهم كسالى وأدّوا الفرائض وهم لها كارهون ، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار توسموا بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتى شركوهم فى أماناتهم وقالوا حسابهم على الله فان كانوا صادقين فاخواننا في الدين وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين ، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمر إلا غيا ، ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا فجاهدهم ولا ترض دنية ولا تقبل خسفا(٣) فان عليا أباك لم يجب الى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل فلما حكموا بالهوى رجع الى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك والسلام(٤) واحتوت هذه الرسالة على أمور بالغة الأهمية هي :

١ ـ أن ابن عباس عرض على الإمام أن يولي الأشراف وذوي

__________________

(١) الحرب خدعة : مثلاثة الخاء ، وبضمها مع فتح الدال أي تنقضي بخدعة.

(٢) آسى : أي سوى.

(٣) خسفا : أي ذلا.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ج ٤ ص ٨. رسائل جمهرة العرب ج ٢ ص ١.

٥٠

النفوذ ، ويشرى من الظنين دينه ليقضي بذلك على روح التفرقة ، ويكون الناس جماعة واحدة ، حتى يتمكن من مناجزة معاوية ومقاومته ، وغفل ابن عباس ان ذلك يتنافى مع السياسية الرشيدة التي انتهجها أهل البيت فانها بنيت على الحق الخالص ، وعلى شجب كافة الوسائل التي لا تتفق مع المبادئ الإسلامية وإن توقف عليها الظفر والنصر ، وسنذكر ذلك بمزيد من التوضيح عند عرض أسباب الصلح.

٢ ـ واشتملت هذه الرسالة على أهم الأسباب الوثيقة التي أدت الى خذلان الإمام فى دور خلافته ونجاح معاوية فى عهد حكومته ، فان الإمام قد انتهج سياسة العدل والمساواة فسوى بين المسلمين فى العطاء فلم يقدم أحدا على أحد فى العطاء عملا بما أمر به الإسلام ونصت عليه مبادئه العادلة التي محت التفاوت بين الأبيض والأسود وهدمت الحواجز بين الغني والفقير وجعلت ( الناس سواسية كأسنان المشط كلهم من آدم وآدم من تراب ) لا ميزة لأحد على أحد إلا بالتقوى ، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل والكفاءة ، سار الإمام علي (ع) على هذه السياسة العادلة ومشى على هذه الخطة الواضحة حتى ضرب الرقم القياسي للمساواة والعدل فمن بوادر عدله انه ساوى بين سيدة قرشية ، وبين أمة في العطاء فغاظ القرشية ذلك وأقبلت إليه وهي محنقة مغيظة تقول بحرارة :

« أتساوي فى العطاء بيني وبين هذه الأمة؟ »

فرمقها الإمام بطرفه وأخذ بيده قبضة من التراب وجعل يقلبه بيده وهو يقول :

« لم يكن بعض هذا التراب أفضل من بعض ».

لقد ثقل على الناس هذه المساواة وشق عليهم هذا العدل لأنهم

٥١

لا يتطلبون إلا مصالحهم الخاصة ، فلذا زهدوا في حكومته وخضعوا لحكومة الظلم حكومة معاوية الذي لا هدف له إلا إشباع شهواته ، وتحقيق رغباته.

٣ ـ وأعرب ابن عباس في رسالته عن دراسته الوثيقة لنفسيات الأمويين ومعرفته بما انطوت عليه قلوبهم ، فلقد بيّن أنهم مجموعة من الملحدين والمشركين « كما هم كذلك » فاذا حاربهم الإمام فانما يحارب من حارب الله ورسوله حينما بزغ نور الاسلام فانه لما كتب الله النصر لدينه وقهر سلطان الإسلام العرب دخلت أمية فيه لكن لا إيمانا منهم بقضيته بل خوفا من حر السيف ، ورهبة الموت ، فكانوا يتظاهرون باعتناق الإسلام فيقرءون آيات الذكر الحكيم ولكن قراءة استهزاء وسخرية لا إيمانا واعتقادا به وكانوا يقيمون الصلاة ولكنهم يؤدونها وهم كسالى ، ويقيمون فرائض الإسلام ولكن عن كره ونفاق ، ولما رأوا أن خطتهم مغلوطة ولا تضمن لهم النجاح ، ولا تكفل لهم السعادة إذ لا يعز في هذا الدين إلا الأبرار الصلحاء لقوله تعالى :( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (١) . أظهروا ـ تدليسا ورياء ـ الصلاح والتقى والإيمان وأضمروا في دخائل نفوسهم الشرك والنفاق والحقد على الإسلام ، وظلوا على هذا الحال يظاهرون الطاعة لله والانقياد لأوامره وأحكامه حتى أشركهم المسلمون في امورهم وشئونهم ولكن المسلمين مع ذلك كانوا مرتابين منهم شاكين في أمرهم على ريب من صدقهم.

٤ ـ واحتوت هذه الرسالة على حث الإمام وتحريضه لمحاربة هؤلاء المنافقين والمارقين من الدين ، ومواصلة حربهم حتى النفس الأخير لتستريح الأمّة من شرهم ، وتسلم من مكرهم وغوائلهم. ولا شك ان هذه

__________________

(١) سورة الحجرات آية ١٣.

٥٢

الرسالة التي دبجتها يراعة هذا الحبر الجليل كان لها موقع حسن في نفس الإمام فقد حفزته الى مناجزة معاوية ومقاومته ، وإعلان الحرب عليه.

رسالة الامام الى معاوية :

وأرسل الإمام رسالة أخرى الى معاوية يدعوه الى مبايعته ، وطاعته والدخول فيما دخل فيه المسلمون. وقد أرسل هذه الرسالة بيد شخصين من عيون المؤمنين وثقات الإسلام وهما الحارث بن سويد التميمي(١) وجندب الأزدي(٢) وإليك نص رسالته :

« من عبد الله الحسن أمير المؤمنين ، الى معاوية بن أبي سفيان.

أما بعد : فان الله بعث محمدا (ص) رحمة للعالمين فأظهر به الحق ، وقمع به الشرك ، وأعزّ به العرب عامة ، وشرّف به قريشا خاصة ،

__________________

(١) الحارث بن سويد التميمي : هو أبو عائشة الكوفي روى عن جماعة من ثقات الصحابة منهم الإمام علي وابن مسعود ، وروى عنه جماعة من الثقات وقد عظّم الروات شأنه فقال ابن معين : إنه ثقة. وقال غيره : إنه أجود اسناد روى عن الإمام علي وقد أطرى على الرجل وأثنى عليه بثناء عاطر ويكفيه فضلا أنه ثقة الإمام الحسن ومعتمده الذي بعثه لمعاوية توفى في أواخر أيام عبد الله بن الزبير ، جاء في تهذيب التهذيب ج ٢ ص ١٧٣.

(٢) جندب الأزدي العامري يكنى أبو عبد الله وهو أحد الصحابة وقد روى عن النبي (ص) أنه قال : ( حد الساحر ضربه بالسيف ) روى عن جماعة من الصحابة منهم الإمام علي (ع) وسلمان الفارسي ، وروى عنه جماعة آخرون وذكره ابن حيان من ثقات التابعين ، توفي في آخر خلافة معاوية. جاء ذلك في تهذيب التهذيب ج ٢ ص ١١٨.

٥٣

فقال :( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) (١) ، فلما توفاه الله تنازعت العرب في الأمر بعد ، فقالت قريش : نحن عشيرته وأولياؤه فلا تنازعونا سلطانه فعرفت العرب لقريش ذلك وجاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب ، فهيهات ما انصفتنا قريش ، وقد كانوا ذوي فضيلة في الدين ، وسابقة في الإسلام ، ولا غرو إلا منازعتك إيانا الأمر بغير حق في الدنيا معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، فالله الموعد ، نسأل الله معروفه أن لا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا عنده في الآخرة.

إن عليا لما توفاه الله ولاني المسلمون الأمر بعده ، فاتق الله يا معاوية وانظر لأمة محمد (ص) ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها والسلام »(٢)

وتروى هذه الرسالة بصورة أخرى أبسط من هذه الصورة وأوفى نذكرها لما فيها من مزيد الفائدة :

« من الحسن بن علي أمير المؤمنين ، الى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فان الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين ، ومنة للمؤمنين ، وكافة للناس أجمعين( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ) (٣) فبلغ رسالات الله وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان ، وبعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، وخصّ به قريشا خاصة. فقال له : « وإنه لذكر لك ولقومك » ، فلما توفى تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه ،

__________________

(١) سورة الزخرف آية ٤٤.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ج ٤ ص ٩.

(٣) سورة يس آية ٧٠.

٥٤

فرأت العرب أن القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد ، فأنعمت لهم(١) وسلمت إليهم ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه الى محاججتهم وطلب النصف(٢) منهم باعدونا ، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا(٣) والعنت منهم لنا ، فالموعد الله وهو الولي النصير.

ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا فى حقنا وسلطان بيتنا ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب(٤) في ذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من إفساده ، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله. لا بفضل فى الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ولكتابه ، والله حسيبك ، فسترد وتعلم لمن عقبى الدار ، وبالله لتلقينّ عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدّمت يداك ، وما الله بظلاّم للعبيد.

__________________

(١) أنعم له : أي قال له نعم.

(٢) النصف : الإنصاف.

(٣) راغمهم : نابذهم وعاداهم.

(٤) الأحزاب : هي التي تحزبت على قتال رسول الله (ص) من قريش وغطفان وبني مرة وبني أشجع وبني سليم وبني أسد في غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق وكان قائدهم العام أبا سفيان وذلك في السنة الخامسة من الهجرة.

٥٥

إن عليا لما مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه يوم قبض ، ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيا ـ ولاني المسلمون بعده ، فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة ، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بيني وبين الله عز وجل فى أمرك ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فانك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أوّاب(١) حفيظ ومن له قلب منيب ، واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو الله ما لك خير فى أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به وادخل فى السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ليطفئ الله النائرة(٢) بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين »(٣)

وحفلت هذه الرسالة ـ على كلتا الروايتين ـ بأمور مهمة :

١ ـ إن الإمام أعرب فيها عن شعوره تجاه الخلافة الإسلامية فهو فهو يرى أنها من حقوق أهل البيت (ع) لا يشاركهم فيها أحد ، وان من ابتزها منهم فقد اعتدى عليهم وسلب تراثهم ، وقد سلك الإمام في الاستدلال على رأيه الوثيق بعين ما استدلت به قريش على العرب في أحقيتهم بالخلافة من أنهم أقرب الناس الى النبي (ص) وأمس الناس رحما به ، فان هذا الشعار الذي هتفوا به موجود في أهل البيت على النحو الأكمل

__________________

(١) آب الى الله رجع عن ذنبه وتاب فهو أواب مبالغة.

(٢) النائرة : العداوة والبغضاء.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ج ٤ ص ١٢ ،

٥٦

فانهم فرع دوحته والصق الناس به وأقربهم إليه ، ومن الغريب ان العرب قنعت بحجة قريش ، ولكن القرشيين لم يخضعوا لمقالة أهل البيت ، نعم يعود السبب فى ذلك الى الأضغان والأحقاد التي أترعت نفوسهم بها فناصبوا عترة نبيهم ، وبالغوا في ارهاقهم ، والتنكيل بهم ، فواجهت العترة الطاهرة ألوانا قاسية من المحن والخطوب.

٢ ـ وذكر الإمام الحسن السر في إمساكهم وإحجامهم عن المطالبة بحقهم وذلك خوفا منهم على بيضة الإسلام وكلمة التوحيد من الأحزاب والمنافقين الذين مردوا على النفاق ، فقد قويت شوكتهم بموت النبي (ص) وأخذوا ينتهزون الفرصة لمحق الإسلام واستئصال شأفته ، فاثروا مصلحة الإسلام على ضياع حقهم ، وقد صرح الإمام أمير المؤمنين (ع) بذلك في كتابه الذي بعثه الى أهل مصر وقد جاء فيه :

« فلما مضىعليه‌السلام ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو الله ما كان يلقى فى روعي ، ولا يخطر ببالي ، ان العرب تزعج هذا الأمر من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أهل بيته ، ولا انهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس عن الإسلام يدعون الى محق دين محمد (ص) فخشيت إن لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوات ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب »

فلأجل الحفاظ على الإسلام والاحتياط على مصلحة المسلمين أمسكوا عن المطالبة بحقوقهم ، ولم يناجزوا القوم بالسيف ، وسلموا الأمر الى الله.

٣ ـ وأعرب الإمام الحسن في رسالته عن استغرابه من نزاع معاوية

٥٧

وتطاوله عليه وهو من الحزب الذي سعر الدنيا حربا على رسول الله (ص) وأثاروا عليه حفائظ الجاهلية وأحقادها ، فكيف ينازع حفيد النبي ووريثه على منصبه ومقامه!! وهناك باعث آخر من بواعث استغراب الإمام على منازعة معاوية له ، وهو أن معاوية ليس له فضل فى الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وليست أي موهبة أو فضيلة حتى يستحق هذا المنصب العظيم في الإسلام.

٤ ـ وذكر (ع) لمعاوية عموم البيعة له بعد وفاة أبيه وان الأمّة قد أجمعت على مبايعته وعلى الانقياد إليه وهي حجة بالغة لو وعاها معاوية ورجع الى منطق الحق والصواب.

جواب معاوية :

ولما وصلت رسالة الإمام الى معاوية أجاب عنها بجواب يلمس فيه المكر والخداع ، وهذه صورته :

« أما بعد : فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله (ص) وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله ، وذكرت تنازع المسلمين الأمر بعده ، فصرّحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر وأبي عبيدة الأمين وصالحاء المهاجرين فكرهت لك ذلك إن الأمّة لما تنازعت الأمر بينها رأت قريشا أخلقها به ، فرأت قريش والأنصار وذوو الفضل والدين من المسلمين أن يولوا من قريش أعلمها بالله وأخشاها له وأقواها على الأمر فاختاروا أبا بكر ولم يألوا(١) ولو علموا مكان رجل غير أبي بكر يقوم مقامه ، ويذب عن حرم الإسلام ذبه ، ما عدلوا بالأمر الى أبي بكر ، والحال اليوم بيني وبينك على ما كانوا عليه

__________________

(١) لم يألوا : أي لم يقصروا.

٥٨

فلو علمت أنك أضبط لأمر الرعية ، وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة ، وأكيد للعدو ، وأقوى على جمع الفيء ، لسلمت لك الأمر بعد أبيك ، فان أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما فطالب الله بدمه ، ومن يطلبه الله فلن يفوته ، ثم ابتز الأمّة أمرها ، وفرّق جماعتها فخالفه نظراؤه من أهل السابقة والجهاد والقدم فى الإسلام ، وادعى أنهم نكثوا بيعته فقاتلهم فسفكت الدماء ، واستحلت الحرم ، ثم أقبل إلينا يدعي علينا بيعة ولكنه يريد أن يملكنا اغترارا فحاربناه وحاربنا ، ثم صارت الحرب الى أن اختار رجلا واخترنا رجلا ليحكما بما تصلح عليه الأمّة ، وتعود به الجماعة والألفة ، وأخذنا بذلك عليهما ميثاقا ، وعليه مثله ، وعلينا مثله على الرضا بما حكما ، فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت وخلعاه فو الله ما رضى بالحكم ، ولا صبر لأمر الله ، فكيف تدعوني الى أمر إنما تطلبه بحق أبيك ، وقد خرج منه فانظر لنفسك ولدينك والسلام »(١) .

وروى هذا الجواب بصورة أخرى أوسع وأبسط من الأولى وهذا نصه :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين الى الحسن بن علي : سلام عليك فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله (ص) من الفضل وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه وصغيره وكبيره وقد والله بلغ وأدى ونصح وهدى حتى أنقذ الله به من الهلكة ، وأنار به من العمى ، وهدى به من الجهالة والضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم بعث ويوم قبض ويوم يبعث حيا ، وذكرت وفاة

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ج ٤ ص ٩.

٥٩

النبي (ص) وتنازع المسلمين بعده وتغلبهم على أبيك فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري(١) رسول الله (ص) وصالحاء المهاجرين والأنصار فكرهت ذلك لك ، إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ، ولا المسيء ، ولا اللئيم ، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل.

إن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم ، ولا قرابتكم من نبيكم ، ولا مكانكم في الإسلام وأهله ، فرأت الأمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانتها من نبيها ، ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار ، وغيرهم من سائر الناس وعوامهم ، أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما ، وأعلمها بالله ، وأحبها له ، وأقواها على أمر الله فاختاروا أبا بكر. وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل ، والناظرين للأمة فأوقع ذلك فى صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا متهمين ولا فيما أتوا بالمخطئين ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه(٢) ، ويقوم مقامه ، ويذب عن حريم الإسلام ذبه ما عدلوا بالأمر الى غيره رغبة عنه ، ولكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله ، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح ، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي (ص) ، فلو علمت أنك أضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال ، وأكيد للعدو لأجبتك الى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا ، ولكن قد علمت اني أطول منك ولاية ، وأقدم منك بهذه

__________________

(١) الحواري : الناصر والمعين أو ناصر الأنبياء.

(٢) الغناء : النفع ، وأغنى غناءه أجزأ عنه ، وقام مقامه.

٦٠

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529