حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 316236 / تحميل: 7167
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وترجم له الخطيب البغدادي، فقال « 2 / 230 »: « محمد بن الحسين بن حفص بن عمر، أبو جعفر الخثعمي الأشناني الكوفي: قدم بغداد وحدث بها عن عباد بن يعقوب الرواجني، وعباد بن أحمد العزرمي، وأبي كريب محمد بن العلاء الهمداني، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي، ومحمد بن عبيد المحاربي، وفضالة بن الفضيل التميمي. روى عنه محمد بن سليمان الباغندي، والقاضي أبو عبد الله المحاملي، وأبو عمرو بن السماك، ومحمد بن عمر الجعابي، ومحمد بن زيد بن مروان، وأبو الحسين بن البواب المقرئ، ومحمد بن المظفر الحافظ، وغيرهم ...

أبو الحسن محمد بن أحمد بن حماد بن سفيان الحافظ، قال: سنة خمس عشرة وثلاث مائة، فيها مات أبو جعفر محمد بن الحسين بن حفص بن عمر الخثعمي مولى الأشناني لسبع خلون من صفر يوم الخميس. وأخبرني بعض أصحابنا أنه سمعه يقول: إنه ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين، وكان ثقة حجة ».

2. وفي تاريخ الطبري « 9 / 185 »: « ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي: وفيها « سنة 236 » أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه. فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق « سجن مظلم تحت الأرض » فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع، وزُرع ما حواليه ».

١٢١

3. وقال المسعودي في مروج الذهب « 4 / 52 »: « وكان آل أبي طالب قبل خلافته « المنتصر » في محنة عظيمة وخوفٍ على دمائهم، قد مُنعوا زيارة قبر الحسين والغري من أرض الكوفة، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ست وثلاثين ومائتين.

وفيها أمر المعروف بالذيريج بالسَّيْر إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهَدْمِه ومَحْو أرضه وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر، فكلٌّ خشي العقوبة وأحْجَمَ، فتناول الذيريج مِسْحاةً وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفعلة فيه، وإنهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللحد، فلم يروا فيه أثر رِمَّةٍ ولا غيرها! ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمَّن الناس، وتقدم بالكف عن آل أبي طالب، وترك البحث عن أخبارهم، وأن لا يمنع أحد زيارة الحير لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وأمر برد فدَكَ إلى ولد الحسن والحسين وأطْلَقَ أوقاف آل أبي طالب، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم، وفي ذلك يقول البحتري، من أبيات له:

وإن علياً لأوْلى بكمْ

وأزكى يداً عندكم من عُمَرْ

وكلٌّ له فَضْلُه والحُجُو

لُ يومَ التَّراهُنِ دونَ الغَرَرْ

وفي ذلك يقول يزيد بن محمد المهلبي وكان من شيعة آل أبي طالب، وما كان امتحن به الشيعة في ذلك الوقت، وأغريت بهم العامة:

ولقد بَرَرْتَ الطالبيةَ بعد ما

ذُمُّوا زماناً بعدها وزمانا

ورَدَدْتَ ألفةَ هاشم فرأيتَهُمْ

بعد العداوة بينهم إخوانا

١٢٢

آنستَ ليلَهُمُ وجُدْتَ عليهمُ

حتى نسُوا الأحقادَ والأضغانا

لو يعلمُ الأسلاف كيف بَرَرْتهم

لرأوك أثقلَ من بها ميزانا »

4. وفي النجوم الزاهرة « 2 / 283 »: « أمر بهدم قبر الحسين رضي الله عنه وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل ذلك كله مزارع. فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء دعبل وغيره ».

5. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي / 374: « فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك:

بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ

قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَا

فلقد أتاهُ بنوأبيه بمثله

هذا لعمري قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميما ».

6. وقال ابن الأثير في تاريخه « 6 / 108 »: « في هذه السنة « 236 » أمرالمتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهَدْم ما حوله من المنازل والدور، وأن يُبذر ويُسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادى بالناس في تلك الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق، فهرب الناس وتركوا زيارته، وخُرب وزُرع »!

7. وقال في مآثر الإنافة « 1 / 230 »: « بلغ من بغضه لعلي وأهل بيته أنه في سنة 236 أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل، ومنع الناس من زيارته »!

8. وفي أمالي الطوسي / 325: « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر

١٢٣

الحسين فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فَمُرَّ بها على القبور، فمرَّت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (ع) لم تمرَّ عليه! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فوالله ما جازت على قبره ولا تخطته!قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد (ص) فأنا أبرأ إلى الله منه. وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته ». أي بولادتي منه.

9. وفي أمالي الطوسي / 326: « حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبي علي الحسين بن محمد بن مسلمة بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: حدثني إبراهيم الديزج قال: بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين (ع) وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي: أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين، فإذا قرأت كتابي فقف على الأمر حتى تعرف فعل أولم يفعل. قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمد بن عمار ما كتب به إليه، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار ثم أتيته، فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرتَ به، فلم أر شيئاً، ولم أجد شيئاً! فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت وما رأيت، فكتب إلى السلطان: إن إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً، وأمرته فمخره بالماء، وكَرَبَهُ بالبقر.

قال أبوعلي العماري: فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر فقال لي: أتيت في خاصة غلماني فقط، وإني نبشت فوجدت باريةً جديدة وعليها بدنُ الحسين بن علي

١٢٤

ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالتها وبدن الحسين على البارية، وأمرتُ بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه! فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلظة: لئن ذكر أحد هذا لأقتلنه ».

10. في أمالي الطوسي / 327: « قال: حدثني أبو برزة الفضل بن محمد بن عبد الحميد، قال: دخلت على إبراهيم الديزج وكنت جاره، أعوده في مرضه الذي مات فيه، فوجدته بحال سوء، وإذا هوكالمدهوش وعنده الطبيب، فسألته عن حاله وكانت بيني وبينه خلطة وأنس يوجب الثقة بي والإنبساط إليَّ، فكاتمني حاله وأشار لي إلى الطبيب، فشعر الطبيب بإشارته ولم يعرف من حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله، فقام فخرج وخلا الموضع، فسألته عن حاله فقال: أخبرك والله وأستغفر الله: إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر، فوافيت الناحية مساء معنا الفعلة والروزكاريون « العمال الميامون » معهم المساحي والمرور، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه، فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت، فذهب بي النوم فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية وجعل الغلمان ينبهونني، فقمت وأنا ذَعِرٌ فقلت للغلمان: ما شأنكم؟ قالوا: أعجب شأن! قلت: وما ذاك؟ قالوا: إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب، فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا! وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض فقلت: إرموهم، فرموا

١٢٥

فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهمٌ منها إلا في صاحبه الذي رمى به فقتله! فاستوحشت لذلك وجزعتُ وأخذتني الحُمَّى والقَشعريرة!

ورحلت عن القبر لوقتي، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لماَّ لم أبلغ في القبر جميع ما تقدم إلي به!

قال أبو برزة: فقلت له: قد كفيتَ ما تحذر من المتوكل، قد قتل بارحة الأولى وأعان عليه في قتله المنتصر فقال لي: قد سمعت بذلك وقد نالني في جسمي مالا أرجو معه البقاء! قال أبو برزة: كان هذا في أول النهار، فما أمسى حتى مات!

قال ابن خشيش: قال أبوالفضل: إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة (ع) فسأل رجلاً من الناس عن ذلك فقال له: قد وجب عليه القتل إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر. قال: ما أبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر »!

11. وفي أمالي الطوسي / 326: « حدثني أبوعبد الله الباقطاني، قال: ضمني عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى هارون المعري، وكان قائداً من قواد السلطان، أكتب له، وكان بدنه كله أبيض شديد البياض حتى يديه ورجليه كانا كذلك، وكان وجهه أسود شديد السواد كأنه القير، وكان يتفقأ مع ذلك مادة منتنة، قال: فلما آنس بي سألته عن سواد وجهه، فأبى أن يخبرني، ثم إنه مرض مرضه الذي مات فيه، فقعدت فسألته، فرأيته كأنه يحب أن يكتم عليه، فضمنت له الكتمان فحدثني قال: وجهني المتوكل أنا والديزج لنبش قبر الحسين وإجراء الماء عليه،

١٢٦

فلما عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله (ص) في المنام، فقال: لا تخرج مع الديزج ولا تفعل ما أمرتم به في قبر الحسين.

فلما أصبحنا جاؤوا يستحثونني في المسير، فسرت معهم حتى وافينا كربلاء، وفعلنا ما أمرنا به المتوكل، فرأيت النبي (ص) في المنام فقال: ألم آمرك ألا تخرج معهم ولا تفعل فعلهم، فلم تقبل حتى فعلت ما فعلوا! ثم لطمني وتفل في وجهي، فصار وجهي مسوداً كما ترى، وجسمي على حالته الأولى »!

ملاحظات على نصوص هدم القبرالشريف

1. استمرت محاولة المتوكل هدم القبرالشريف نحو سنة من شعبان سنة 236 الى شعبان 237، حتى استطاع أن يمنع الزوار من زيارته ويهدمه.

لكن الشيعة واصلوا تحدي السلطة والذهاب الى الزيارة أكثر من عشر سنين حتى هلك المتوكل، وواصل هو منع الزوار ومطاردتهم، وحرث مكان القبر!

2. كان أكبر تجمع لزيارة الناس لقبر الحسين (ع) في شهر شعبان. ففي أمالي الطوسي / 328: « بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (ع) فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قواده، وضم إليه كتفاً من الجند كثيراً، ليشعب قبر الحسين (ع) ويمنع الناس من زيارته والإجتماع إلى قبره (ع)، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به، واجتمعوا عليه وقالوا: لوقتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما

١٢٧

حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة، مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها، والإنكفاء إلى المصر! فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (ع)، وأنه قد كثر جمعهم كذلك وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين، ونَبَشَ القبر وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة. وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة رضي الله عنهم، فقتل ولم يتم له ما قَدَّر ».

وفي أمالي الطوسي / 329: « حدثني عبد الله بن دانية الطوري، قال: حججت سنة سبع وأربعين ومائتين، فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) على حال خيفة من السلطان، وزرته ثم توجهت إلى زيارة الحسين (ع) فإذا هوقد حرثت أرضه ومُخِر فيها الماء، وأُرسلت الثيران العوامل في الأرض، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً، فتُضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها، ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب! فما أمكنني الزيارة، فتوجهت إلى بغداد، وأنا أقول في ذلك:

تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ

قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاكَ بنوأبيه بمثلها

هذا لعمرُك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا

في قتله فتتبعوه رميما

١٢٨

فلما قدمت بغداد سمعت الهائعة فقلت: ما الخبر؟ قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل، فعجبت لذلك وقلت: إلهي ليلة بليلة ».

أقول: يدل استشهاد الشاعر بشعر ابن بسام على أنه كان منتشراً بين المسلمين. ويدل ما تقدم على أن المتوكل بدأ حملته على كربلاء سنة 236، وهدمَ القبر الشريف ومنع زيارته لكن المسلمين من أهل الكوفة وغيرهم كسروا المنع، ورأوا المعجزات، فأصروا على زيارة قبر الحسين (ع) وتحضروا للمواجهة في السنة الثانية، ووجه اليهم المتوكل جيشاً كثيفاً، لكن لما رأى إصرارهم على قتاله، أمر قائده أن يرجع ويدعي أنه جاء في مهمة تتعلق بولاية الكوفة! واستمر الأمر على هذا نحوعشر سنين، وكان المنع من الزيارة سارياً، لكنه غير محترم. وبلغ المتوكل في آخر عمره توافد الناس الى كربلاء: « وأنه قد كثر جمعهم وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين »! واستطاعت قواته أن تهدم القبر الشريف، لكن الله تعالى هدم عمره وسقط طائر الحمام الزاجل في بغداد بقتله، كما قالت الرواية.

ومعنى هذا أن محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف استمرت إحدى عشرة سنة فقد بدأت سنة 236، واستمرت حتى هلك في الرابع من شوال سنة 247.

3. واجه الإمام الهادي (ع) خطة المتوكل. وعند صدور المنع أمر الشيعة في بغداد أن يتجنبوا المواجهة، ثم وجههم الى الزيارة وتحدي منع السلطة.

ففي الكافي « 1 / 525 »: « خرج نهيٌ عن زيارة مقابر قريش « الكاظمين » والحاير « كربلا » فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له: إلق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لايزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يُتفقد كل من زار فيقبض

١٢٩

عليه » ثم أمر الإمام (ع) الشيعة بزيارة قبر الحسين (ع) وجعلها أولوية قبل غيره. قال المفيد في المقنعة / 482: « روى إبراهيم بن عقبة قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث: « الإمام الهادي (ع) » أسأله عن زيارة أبي عبد الله الحسين (ع)، وزيارة أبي الحسن موسى وأبي جعفرمحمد بن علي (ع) ببغداد؟ فكتب إليَّ: أبوعبد الله (ع) المقدم، وهذان أجمع وأعظم ثواباً ». وكامل الزيارة / 500.

ثم قام الإمام الهادي (ع) بعمل ملفت في الحث على زيارة قبر جده الحسين (ع) فقد كان مريضاً فأمر أن يرسلوا له شخصاً يزور الحسين (ع) ويدعو له.

ففي الكافي « 4 / 568 »: « عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إليَّ أبو الحسن (ع) في مرضه وإلى محمد بن حمزة فسبقني إليه محمد بن حمزة وأخبرني محمد ما زال يقول: إبعثوا إلى الحير، إبعثوا إلى الحير، فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحير، ثم دخلت عليه وقلت له: جعلت فداك: أنا أذهب إلى الحير؟ فقال: انظروا في ذاك، ثم قال لي: إن محمداً ليس له سر من زيد بن علي، وأنا أكره أن يسمع ذلك، قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع ب‍الحير وهو الحير فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي: أجلس حين أردت القيام، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي: ألا قلت له: إن رسول الله (ص) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله عز وجل أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها. فأنا أحب أن يدعي الله لي حيث يحب الله أن يدعى فيها ».

١٣٠

وروى في الحبل المتين / 228، ومصباح المتهجد / 788 ، عن الإمام الهادي (ع) قال: « علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ».

ورُوِيَ ذلك عن الإمام الحسن العسكري (ع)، وهويدل على أن الإمام الهادي وابنه الحسن العسكري (ع) قاوما معاً هجمة المتوكل لهدم قبر الحسين (ع).

4. نسب بعضهم الأبيات: تالله إن كانت أمية قد أتت الخ. الى ابن السكيت، والصحيح أنها لابن بسام، أو البسامي.

قال السمعاني في الأنساب « 1 / 346 »: « البسامي: بفتح الباء الموحدة والسين المهملة المشددة بعدهما الألف وفي آخرها الميم، هذه النسبة إلى بسام، وهو إسم لجد أبي الحسن علي بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام الشاعر البسامي، من أهل بغداد، سائر الشعر، مشهورٌ عند أهل الأدب، روى عنه محمد بن يحيى الصولي، وأبوسهل أحمد بن محمد بن زياد القطان، وغيرهما مات البسامي في صفر سنة اثنتين وثلاث مائة ». فقد كان في مطلع شبابه عندما هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع).

وفي وفيات الأعيان « 3 / 363 »: « كانت أمه أمامة ابنة حمدون النديم وكان من أعيان الشعراء، ومحاسن الظرفاء، لَسِنَاً مطبوعاً في الهجاء، لم يسلم منه أمير ولا وزير، ولا صغير ولا كبير ولما هَدم المتوكل على الله قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في سنة ست وثلاثين ومائتين، عمل البسامي:

تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ

قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاهُ بنوأبيه بمثله

هذا لعمرك قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما!

١٣١

وكان المتوكل كثير التحامل على علي وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، فهدم هذا المكان بأصوله ودوره وجميع ما يتعلق به، وأمر أن يبذر ويسقى موضع قبره، ومنع الناس من إتيانه. هكذا قال أرباب التواريخ.

ولابن بسام المذكور من التصانيف: أخبار عمر بن أبي ربيعة، ولم يستقص أحد في بابه أبلغ منه، وكتاب أخبار الأحوص، وكتاب مناقضات الشعراء ».

5. ذكر المؤرخون أن دعبلاً الخزاعي هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع)، ولم أجد شعره في ذلك، إلا بيتاً واحداً يتهم فيه المتوكل بالتخنث، كما في ديوانه / 48:

ولستُ بقائل قَذَعاً ولكنْ

لأمْرٍ مَّا تَعَبَّدَكَ العبيدُ

وأبياتاً في الحث على زيارة قبر الحسين (ع) وذم الناهين، في ديوانه / 114:

زُرْ خيرَ قبرٍ بالعراق يُزَارُ

وَاعْصِ الِحمَارَ فمَنْ نَهَاكَ حِمَارُ

لم لا أزوركَ يا حسينُ لك الفدا

قومي ومن عطفت عليه نزار

ولك المودةُ في قلوب ذوي النهى

وعلى عدوك مَقْتَةٌ ودَمارُ

يا ابنَ الشهيدِ ويا شهيداً عَمُّهُ

خيرُ العمومة جعفرُ الطيَّار

عجباً لمصقولٍ أصابكَ حَدُّهُ

في الوجه منك وقد عَلاك غُبَارُ

هدم قبر الحسين (ع) قبل المتوكل

في كامل الزيارات لابن قولويه / 221: « عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي، قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى زيارة قبر الحسين (ع) مستخفياً من أهل الشام حتى انتهيت إلى كربلا، فاختفيت في ناحية القرية حتى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحوالقبر، فلما دنوت منه أقبل نحوي رجل فقال لي: إنصرف مأجوراً فإنك لا تصل إليه، فرجعت فزعاً حتى إذا كان يطلع الفجر أقبلت

١٣٢

نحوه، حتى إذا دنوت منه خرج إليَّ الرجل فقال لي: يا هذا إنك لا تصل إليه! فقلت له: عافاك الله ولم لا أصل إليه وقد أقبلت من الكوفة أريد زيارته، فلا تَحُلْ بيني وبينه، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني هاهنا، قال فقال لي: إصبر قليلاً فإن موسى بن عمران (ع) سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر الحسين بن علي (ع) فأذن له، فهبط من السماء في سبعين ألف ملك، فهمَّ بحضرته من أول الليل ينتظرون طلوع الفجر، ثم يعرجون إلى السماء.

قال فقلت له: فمن أنت عافاك الله، قال: أنا من الملائكة الذين أمروا بحرس قبر الحسين (ع) والإستغفار لزواره! فانصرفت وقد كاد أن يطير عقلي لما سمعت منه. قال: فأقبلت حتى إذا طلع الفجر أقبلت نحوه فلم يحل بيني وبينه أحد، فدنوت من القبر وسلمت عليه ودعوت الله على قَتَلتِهِ، وصليت الصبح، وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام ».

أقول: هذا الحديث وغيره يدل على أن الأمويين كانوا يمنعون الشيعة من التجمع عند قبر الحسين (ع) ومن زيارته، وكان المنع متفاوتاً حسب تشدد والي الكوفة وتساهله، وحسب قوة الخليفة الأموي أوضعفه.

لكن الأمويين لم يهدموا قبر الحسين (ع)، وأول من ارتكب جريمة هدمه: المنصور الدوانيقي، وذلك بعد ثورة الحسنيين عليه وانتصاره عليهم سنة 145، فقد أمر والي الكوفة عيسى بن موسى أن يهدمه!

روى الطوسي في أماليه / 321: « حدثنا يحيى بن عبد الحميد الِحَّماني أملاه عليَّ في منزله، قال: خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة، من منزلي

١٣٣

فلقيني أبو بكر بن عياش، فقال لي: إمض بنا يا يحيى إلى هذا فلم أدر من يعني، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعة، وكان راكباً حماراً له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم، التفت إليَّ فقال لي: يا بن الحِمَّاني، إنما جررتك معي وجَشَّمتك معي أن تمشي خلفي، لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية! قال: فقلت: من هويا أبا بكر؟ قال هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى!

فسكت عنه، ومضى وأنا أتبعه حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى، وبصر به الحاجب وتبينه، وكان الناس ينزلون عند الرحبة، فلم ينزل أبوبكر هناك، وكان عليه يومئذ قميص وإزار، وهومحلول الإزار. قال: فدخل على حمار وناداني: تعالى يا ابن الحماني، فمنعني الحاجب فزجره أبوبكر وقال له: أتمنعه يا فاعل وهومعي؟ فتركني فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهوقاعد في صدر الإيوان على سريره، وبجنبي السرير رجال متسلحون، وكذلك كانوا يصنعون، فلما أن رآه موسى رحب به وقربه وأقعده على سريره، ومُنعتُ أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه.

فلما استقر أبوبكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف فناداني: تعال ويحك فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليَّ قميص وإزار فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجل تُكَلِّمُنَا فيه؟ قال: لا، ولكني جئت به شاهداً عليك.

١٣٤

قال: في ماذا؟ قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر. قال: أيُّ قبر؟ قال: قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (ص)!

وكان موسى قد وجه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر، وحرثها وزرع الزرع فيها، فانتفخ موسى حتى كاد أن يَنْقَدَّ، ثم قال: وما أنت وذا؟

قال: إسمع حتى أخبرك، إعلم أني رأيت في منامي كأني خرجت إلى قومي بني غاضرة، فلما صرت بقنطرة الكوفة اعترضني خنازير عشرة تريدني، فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عني، فمضيت لوجهي فلما صرت إلى شاهي ضللت الطريق، فرأيت هناك عجوزاً فقالت لي: أين تريد أيها الشيخ؟ قلت: أريد الغاضرية. قالت لي: تَبَطَّنْ هذا الوادي فإنك إذا أتيت آخره اتضح لك الطريق. فمضيت ففعلت ذلك فلما صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك، فقلت: من أين أنت أيها الشيخ؟ فقال لي: أنا من أهل هذه القرية. فقلت: كم تعدُّ من السنين؟ فقال: ما أحفظ ما مضى من سني وعمري، ولكن أبعدُ ذكري أني رأيت الحسين بن علي (ع) ومن كان معه من أهله ومن تبعه، يمنعون الماء الذي تراه، ولا يمنع الكلاب ولا الوحوش شربه! فاستفظعت ذلك وقلت له: ويحك أنت رأيت هذا؟ قال: إي والذي سمك السماء، لقد رأيت هذا أنها الشيخ وعاينته، وإنك وأصحابك هم الذين يعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين، إن كان في الدنيا مسلم! فقلتُ: ويحك وما هو؟ قال: حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه. قلت: ما أجرى إليه؟ قال:

١٣٥

أيكرب قبر ابن النبي (ص) وتحرث أرضه؟ قلت: وأين القبر؟ قال: ها هوذا أنت واقف في أرضه، فأما القبر فقد عميَ عن أن يعرف موضعه!

قال أبو بكر بن عياش: وما كنت رأيتُ القبر قبل ذلك الوقت قطُّ، ولا أتيته في طول عمري، فقلت: من لي بمعرفته؟ فمضى معي الشيخ حتى وقف بي على حير له باب وآذن، له إذا جماعة كثيرة على الباب، فقلت للآذن: أريد الدخول على ابن رسول الله (ص) فقال: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت. قلت: ولمَ؟ قال: هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله، ومعهما جبرئيل وميكائيل، في رعيل من الملائكة كثير.

قال أبوبكر بن عياش: فانتبهت وقد دخلني روعٌ شديد وحزنٌ وكآبةٌ، ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام، ثم اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدينٍ كان لي على رجل منهم، فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتى إذ صرت بقنطرة الكوفة لقيني عشرة من اللصوص، فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم، فقالوا لي: ألق ما معك وانج بنفسك وكانت معي نفيقة، فقلت: ويحكم أنا أبو بكر بن عياش، وإنما خرجت في طلب دينٍ لي، والله الله لا تقطعوني عن طلب ديني وتضرُّوا بي في نفقتي فإني شديد الإضاقة، فنادى رجل منهم: مولاي ورب الكعبة لا يعرض له. ثم قال لبعض فتيانهم: كن معه حتى تصير به إلى الطريق الأيمن.

١٣٦

قال أبوبكر: فجعلت أتذكر ما رأيته في المنام، وأتعجب من تأويل الخنازير حتى صرت إلى نينوى، فرأيت والله الذي لا إله إلا هوالشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته، رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا فقلت: لا إله إلا الله ما كان هذا إلا وحياً، ثم سألته كمسألتي إياه في المنام، فأجابني ثم قال لي: إمض بنا فمضيت فوقفت معه على الموضع وهومكروب، فلم يفتني شئ في منامي إلا الآذن والحير، فإني لم أر حِيراً ولم أر آذناً؟ فاتق الله أيها الرجل، فإني قد آليت على نفسي ألا أدعَ إذاعة هذا الحديث، ولا زيارةَ ذلك الموضع وقصدَه وإعظامَه، فإن موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمد وجبرئيل وميكائيل (ع) لحقيقٌ بأن يرغب في إتيانه وزيارته، فإن أبا حصين حدثني أن رسول الله (ص) قال: من رآني في المنام فإياي رأى، فإن الشيطان لا يتشبه بي.

فقال له موسى: إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنك تتحدث بهذا لأضربن عنقك، وعنق هذا الذي جئت به شاهداً علي! فقال أبوبكر: إذن يمنعني الله وإياه منك، فإني إنما أردت الله بما كلمتك به!

فقال له: أتراجعني يا عامر وشتمه! فقال له: أسكت أخزاك الله وقطع لسانك!

فأرعد موسى على سريره ثم قال: خذوه!

١٣٧

فأخذ الشيخ عن السرير، وأخذت أنا، فوالله لقد مر بنا من السحب والجرِّ والضرب، ما ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبداً، وكان أشد ما مرَّ بي من ذلك أن رأسي كان يُجَرُّ على الصخر، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: أقتلوهما بني كذا وكذا بالزاني لا يكني!

وأبو بكر يقول له: أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك، اللهم إياك أردنا، ولولد وليك غضبنا، وعليك توكلنا.

فصيَّر بنا جميعاً إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلا قليلاً، فالتفت إليَّ أبوبكر ورأي ثيابي قد خرقت وسالت دمائي، فقال: يا حِمَّاني قد قضينا لله حقاً، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله (ص).

فما لبثنا إلا مقدار غدائةٍ ونومة، حتى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة وكبراً، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً، وكان أبوبكر إذا تعب في مشيه جلس يسيراً، ثم يقول: اللهم إن هذا فيك فلا تَنْسَهْ، فلما دخلنا على موسى، وإذا هوعلى سرير له فحين بصر بنا قال: لا حيا الله ولا قرب، من جاهل أحمق يتعرض لما يكره، ويلك يا دعي، ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم!

فقال له أبوبكر: قد سمعت كلامك، والله حسبك! فقال له: أخرج قبحك الله، والله لئن بلغني أن هذا الحديث شاع، أوذكر عنك لأضربن عنقك!

١٣٨

ثم التفت إليَّ وقال: يا كلب وشتمني وقال: إياك ثم إياك أن تظهر هذا، فإنه إنما خُيِّلَ لهذا الشيخ الأحمق شيطانٌ يلعب به في منامه، أخرجا عليكما لعنة الله وغضبه، فخرجنا وقد يئسنا من الحياة!

فلما وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره، فلما أراد أن يدخل منزله التفت إليَّ وقال: إحفظ هذا الحديث وأثبته عندك، ولا تحدثن هؤلاء الرعاع، ولكن حدث به أهل العقول والدين ».

ملاحظات

1. أبوبكر بن عياش، من كبار أئمة السنة وقرائهم وعُبَّادهم: « روى له البخاري في صحيحه ومسلم في مقدمة كتابه وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة. وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ». « الكواكب النيرات / 102 ».

قال الذهبي في سيره: « 8 / 495 »: « أبوبكر بن عياش بن سالم الأسدي، مولاهم الكوفي الحناط بالنون، المقرئ، الفقيه، المحدث، شيخ الإسلام، وبقيه الأعلام مولى واصل الأحدب لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة ».

وقد روى عنه كبار أئمة المذاهب، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب « 12 / 31 »: « وعنه الثوري، وابن المبارك، وأبوداود الطيالسي، وأسود بن عامر شاذان، ويحيى بن آدم، ويعقوب القمي، وابن مهدي، وابن يونس، وأبونعيم، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابنا أبي شيبة، وإسماعيل بن أبان الوراق، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وخالد بن يزيد الكاهلي وآخرون ».

١٣٩

ويظهر من غضبه لهدم قبر الحسين (ع) ومبادرته الى النهي عن المنكر، أنه صاحب دين، لكن طريقته في الإستنكار ساذجة، ثم نراه تراجع وسكت! وقد كانت له مكانة واحترام في الناس، فلو أنه وقف في المسجد ودعا المسلمين الى الإعتراض لأجابه الكثيرون، لكنه اعترض بطريقة بدائية، فزجره الوالي العباس بأسلوب فرعون، وقال له: قصتك ومنامك خيال وحماقة، وأنت فارسي مولى بني أسد، ونحن والحسين هاشميون، فلا تدخل بيننا!

وقصته تدل على أن مؤسس جريمة هدم قبر الحسين (ع) المنصور الدوانيقي! وأن المسلمين حتى غير الشيعة نقموا عليه واعترضوا.

2. أعاد المسلمون مشهد الحسين (ع) بعد الدوانيقي، وعادوا الى زيارته حتى جاء حفيده هارون، الذي سموه الرشيد، فهدمه مرة ثانية!

روى الطوسي في أماليه / 321: « حدثني يحيى بن المغيرة الرازي، قال: كنت عند جرير بن عبد الحميد، إذ جاءه رجل من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين (ع) وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت! قال: فرفع جرير يديه، فقال: الله أكبر، جاءنا فيه حديث عن رسول الله (ص) أنه قال: لعن الله قاطع السدرة، ثلاثاً، فلم نقف على معناه حتى الآن، لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لايقف الناس على قبره ».

أقول: معنى: تغيير مصرعه، تغيير قبره ومكان قتله (ع). وقد قطعت قبل تلك السدرة سدرتان: سدرة البقيع وكانت تستظل بها الزهراء (ع)، وسدرة الحديبية التي بايع النبي (ص) تحتها المسلمين. وقاطعهما واحد، ولا مجال للتفصيل.

١٤٠

وهدمت هذه السياسة قواعد العدل والمساواة التي جاء بها الإسلام ؛ فإنّه لمْ يفرّق بين المسلمين ، وجعلهم سواسية كأسنان المشط.

سياسةُ الخداع :

وأقام معاوية دولته على المخاتلة والخداع ، فلا ظل للواقع في أي تحرّك مِن تحركاته السياسية ، فما كان مثل ذلك الضمير المتحجّر أنْ يعي الواقع أو يفقه الحقّ ، وقد حفل التاريخ بصور كثيرة مِن خداعه ، وهذه بعضها :

١ ـ لمّا دسّ معاوية السمّ إلى الزعيم الكبير مالك الأشتر أقبل على أهل الشام فقال لهم : إنّ علياً وجّه الأشتر إلى مصر فادعوا الله أنْ يكفيكموه. فكان أهل الشام يدعون عليه في كلّ صلاة ، ولمّا أُخبر بموته أنبأ أهل الشام بأنّ موته نتج عن دعائهم ؛ لأنّهم حزب الله ، ثمّ همس في أُذن ابن العاص قائلاً له : إنّ لله جنوداً مِن عسل(١) .

٢ ـ ومِن خداع معاوية وأضاليله أنّ جرير البجلي لمّا أوفده الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية يدعوه إلى بيعته ، طلب معاوية حضور شرحبيل الكندي ، وهو مِن أبرز الشخصيات في الشام ، وقد عهد إلى جماعة مِن أصحابه أنْ ينفرد كلّ واحد منهم به ، ويلقي في روعه أنّ علياً هو الذي قتل عثمان بن عفان.

ولمّا قدم عليه شرحبيل أخبره معاوية بوفادة جرير وأنّه يدعوه إلى بيعة الإمام ، وقد حبس نفسه في البيعة حتّى يأخذ رأيه ؛ لأنّ الإمام قد قتل عثمان. وطلب منه شرحبيل أنْ يمهله لينظر في الأمر ، فلمّا خرج التقى به القوم كلّ على انفراده ، وأخبروه أنّ الإمام هو المسؤول

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٣.

١٤١

عن إراقة دم عثمان ، فلم يشك الرجل في صدقهم ، فانبرى إلى معاوية وهو يقول له :

يا معاوية ، أين الناس؟ ألا إنّ علياً قتل عثمان. والله إنْ بايعت لنخرجنّك مِن شامنا ولنقتلنّك. فقال معاوية مخادعاً له :

ما كنت لاُخالف عليكم ، ما أنا إلاّ رجل من أهل الشام(١) .

بمثل هذا الخداع والبهتان أقام دعائم سلطانه ، وبنى عليه عرش دولته.

٣ ـ ومن ألوان خداعه لأهل الشام أنّه لمّا راسل الزعيم قيس بن سعد يستميله ويمنيه بسلطان العراقيين وبسلطان الحجاز لِمَنْ أحبّ مِن أهل بيته إنْ صار معه ، فردّ عليه قيس بأعنف القول ، فأظهر معاوية لأهل الشام أنّه قد بايع ، وأمرهم بالدعاء له ، واختلق كتاباً نسبه إليه وقد قرأه عليهم ، وهذا نصّه : أمّا بعد ، إنّ قتل عثمان كان حدثاً في الإسلام عظيماً ، وقد نظرت لنفسي وديني فلمْ أرَ بوسعي مظاهرة قومٍ قتلوا إمامهم ، مسلماً محرماً ، براً تقيّاً ، فنستغفر الله لذنوبنا. ألا وإنّي قد ألقيت لكم بالسّلام ، وأحببت قتال قتلة إمام الهدى المظلوم ، فاطلب منّي ما أحببت مِن الأموال والرجال أعجّله إليك(٢) .

وبهذه الأساليب المنكرة خدع أهل الشام ، وزج بهم لحرب وصيِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

٤ ـ لقد كان الخداع من ذاتيّات معاوية ، ومن العناصر المقوّمة لسياسته ، وقد بهر ولده يزيد حينما بويع ، وكان الناس يمدحونه ، فقال لأبيه :

__________________

(١) شرج نهج البلاغة ١ / ١٢٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٣.

١٤٢

يا أمير المؤمنين ، ما ندري ، أنخدع الناس أم يخدعوننا؟! فأجابه معاوية : كلّ مَنْ أردت خديعته فتخادع له حتّى تبلغ منه حاجتك ، فقد خدعته(١) .

لقد جرّ معاوية ذيله على الخداع ، وغذّى به أهل مملكته حتّى نشأ جيل كانت هذه الظاهرة مِن أبرز ما عرف منه.

إشاعةُ الانتهازيّة :

وعملت حكومة معاوية على إشاعة الانتهازية والوصولية بين الناس ، ولم يعد ماثلاً عند الكثيرين منهم ما جاء به الإسلام مِن إيثار الحقّ ونكران الذات. ومِن مظاهر ذلك التذبذب ما رواه المؤرّخون : أنّ يزيد بن شجرة الرهاوي قد وفد على معاوية ، وبينما هو مقبلٌ على سماع حديثه إذ أصابه حجَرٌ عاثر فأدماه ، فأظهر تصنعاً عدم الاعتناء به ، فقال له معاوية : لله أنت! ما نزل بك؟

ـ ما ذاك يا أمير المؤمنين؟

ـ هذا دم وجهك يسيل.

ـ إنّ حديث أمير المؤمنين ألهاني حتّى غمز فكري ، فما شعرت بشيء حتّى نبّهني أمير المؤمنين.

فبُهر معاوية وراح يقول : لقد ظلمك مَنْ جعلك في ألف مِن العطاء ، وأخرجك مِن عطاء أبناء المهاجرين وكماة أهل صفين. وأمر له بخمسمئة ألف درهم ،

__________________

(١) الكامل للمبرد ١ / ٣٠٥.

١٤٣

وزاد في عطائه ألف درهم(١) .

وكانت هذه الظاهرة سائدة في جميع أدوار الحكم الاُموي ، فقد ذكر المؤرّخون : أنّ إسماعيل بن يسار كان زبيري الهوى ، فلمّا ظفر آلُ مروان بآل الزبير انقلب إسماعيل عن رأيه وأصبح مروانياً ، وقد استأذن على الوليد فأخّره ساعة ، فلمّا أذن له دخل وهو يبكي ، فسأله الوليد عن سبب بكائه ، فقال : أخّرتني وأنت تعلم مروانيتي ومروانية أبي! وأخذ الوليد يعتذر منه ، وهو لا يزداد إلاّ إغراقاً في البكاء ، فهّون عليه الوليد وأحسن صلته. فلمّا خرج تبعه شخص ممّن يعرفه ، فسأله عن مروانيته التي ادّعاها متى كانت ، فقال له : بغضنا لآل مروان ، وهي التي حملت أباه يسار في حال موته أنْ يتقرّب إلى الله بلعن مروان بن الحكم ، وهي التي دعت أُمّه أنْ تلعن آلَ مروان مكان ما تتقرّب به إلى الله مِن التسبيح(٢) .

ونقل المؤرّخون بوادر كثيرة مِن ألوان هذا الخداع الذي ساد في تلك العصور ، وهو مِن دون شكّ مِن مُخلّفات سياسة معاوية الذي ربّى جيله على التذبذب والانحراف عن الحقّ.

الخلاعةُ والمجون :

وعُرِفَ معاوية بالخلاعة والمجون. يقول ابن أبي الحديد : كان معاوية أيّام عثمان شديد التهتك ، موسوماً بكلّ قبيح ، وكان في أيّام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه ، إلاّ إنّه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في

__________________

(١) التاج في أخلاق الملوك / ٥٥.

(٢) الأغاني ٤ / ١٢٠.

١٤٤

آنية الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات السروج المحلات بها ـ أي بالذهب ـ وعليها جلال الديباج والوشي ، وكان حينئذ شاباً وعند نزق الصبا ، وآثر الشبيبة وسكر السلطان والإمرة. ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنّه كان يشرب الخمر في أيّام عثمان في الشام.

ولا خلاف في أنّه سمع الغناء وطرب عليه ، ووصل عليه أيضاً. وتأثر به ولده يزيد فكان مدمناً خليعاً مستهتراً ، وتأثر بهذا السلوك جميع خلفاء بني أُميّة. يقول الجاحظ : وكان يزيد ـ يعني ابن معاوية ـ لا يمسي إلاّ سكراناً ، ولا يصبح إلاّ مخموراً ، وكان عبد الملك بن مروان يسكر في كلّ شهر مرّة حتّى لا يعقل في السماء هو أو في الماء ، وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوماً ويدع يوماً ، وكان سليمان بن عبد الملك يشرب في كلّ ثلاث ليال ليلة ، وكان هشام يشرب في كلّ جمعة ، وكان يزيد بن الوليد والوليد بن يزيد يدمنان اللهو والشراب ؛ فأمّا يزيد بن الوليد فكان دهره بين حالتي سكر وخمار ، ولا يوجد أبداً إلاّ ومعه إحدى هاتين ، وكان مروان بن محمّد يشرب ليلة الثلاثاء وليلة السبت(١) .

وولّى هشام بن عبد الملك الوليد على الحجّ سنة (١١٩ هـ) ، فحمل معه كلاباً في صناديق فسقط منها صندوق وفيه كلب ، وحمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة ليضعها عليها ، وحمل معه خمراً ، وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة ويجلس فيها ، فخوّفه أصحابه وقالوا له : لا نأمن الناس عليك وعلينا ، فترك(٢) .

ووفد علي بن عباس على الوليد بن يزيد في خلافته ، وقد اُتي بابن شراعة مِن الكوفة ، فبادره قائلاً :

والله ، ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب الله وسنّة رسوله.

__________________

(١) التاج في أخلاق الملوك / ١٥١.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٢٨٨.

١٤٥

فضحك ابن شراعة وقال : إنّك لو سألتني عنهما لوجدتني حماراً.

ـ أنا أرسلت إليك لأسالك عن القهوة ـ أي الخمر ـ ، أخبرني عن الشراب؟

ـ يسأل أمير المؤمنين عمّا بدا له.

ـ ما تقول في الماء؟

ـ لا بدّ منه والحمار شريكي فيه.

وأخذ يسأله عن المشروبات حتّى انتهى إلى الخمر فقال له : ما تقول في الخمر؟

ـ أوآه تلك صديق روحي.

ـ أنت والله صديق روحي(١) .

وأرسل الوليد إلى عامله على الكوفة يطلب منه أنْ يبعث إليه الخُلعاء والشعراء الماجنين ليستمع ما يلهو به مِن الفسق والمجون ، وقد سخّر جميع أجهزة دولته للذاته وشهواته ، وكتب إلى واليه على خراسان أنْ يبعث إليه ببرابط وطنابير ، وقال أحد شعراء عصره ساخراً منه :

أبشر يا أمين الله

أبشر بتباشيرِ

بإبل يُحمل المالُ

عليها كالأنابير(٢)

بغالٌ تحمل الخمرَ

حقائبْها طنابيرُ

فهذا لك في الدنيا

وفي الجنّة تحبيرُ(٣)

وسادت اللذة واللهو في المجتمع العربي ، وتهالك الناس على الفسق

__________________

(١) نهاية الإرب ٤ / ٩٣ ، العقد الفريد ٣ / ١٨٤.

(٢) الأنابير : أكداس من الطعام.

(٣) تاريخ الطبري ٨ / ٢٩٨.

١٤٦

والفجور. ومِن طريف ما ينقل في هذا الموضوع : أنّه اُوتي بشيخ إلى هشام بن عبد الملك وكان معه قيان وخمر وبربط ، فقال : اكسروا الطنبور على رأسه. فبكى الشيخ ، فقال له أحد الجالسين : عليك بالصبر. فقال له الشيخ : أتراني أبكي للضرب؟ إنّما أبكي لاحتقاره البربط إذ سمّاه طنبوراً!(١) .

لقد كانت سيرة الاُمويِّين في جميع أدوارهم امتداداً لسيرة معاوية الذي أشاع حياة اللهو والخلاعة في البلاد ؛ للقضاء على أصالة الأُمّة ، وسلب وعيها الديني والاجتماعي.

إشاعةُ المجون في الحرمين :

وعمد معاوية إلى إشاعة الدعارة والمجون في الحرمين ؛ للقضاء على قدسيتهما ، وإسقاط مكانتهما الاجتماعية في نفوس المسلمين. يقول العلائلي : وشجّع الاُمويّون حياة المجون في مكّة والمدينة إلى حدّ الإباحة ؛ فقد استأجر طوائف مِن الشعراء والمخنّثين مِن بينهم عمر بن أبي ربيعة لأجل أنْ يمسحوا عاصمتي مكّة والمدينة بمسحة لا تليق ، ولا تجعلهما صالحتين للزعامة الدينية.

وقد قال الأصمعي : دخلت المدينة فما وجدت إلاّ المخنثين ، ورجلاً يضع الأخبار والطرف(٢) ، وقد شاعت في يثرب مجالس الغناء ، وكان الوالي يحضرها ويشارك فيها(٣) ، وانحسرت بذلك روح الأخلاق ، وانصرف الناس عن المُثل العليا التي جاء بها الإسلام.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٢٨٥.

(٢) سمو المعنى في سمو الذات / ٣٠.

(٣) العقد الفريد ٣ / ٢٤١.

١٤٧

الاستخفافُ بالقيم الدينيّة :

واستخفّ معاوية بكافة القيم الدينية ، ولمْ يعن بجميع ما جاء به الإسلام مِن الأحكام ، فاستعمل أواني الذهب والفضة ، وأباح الربا ، وتطيّب في الإحرام ، وعطّل الحدود(١) ، وقد أُلغيت معظم الأحكام الإسلاميّة في أغلب أدوار الحكم الاُموي ، وفي ذلك يقول شاعر الإسلام الكميت :

وعُطِلَتِ الأحكام حتّى كأنّنا

على ملّةٍ غير التّي نتنحّلُ

أأهلُ كتابٍ نحنُ فيه وأنتمُ

على الحقّ نقضي بالكتابِ ونعدلُ

كأنّ كتابَ الله يعني بأمرِه

وبالنهي فيه الكوذني المركّلُ(٢)

فتلك ملوكُ السُوء قد طال ملكُهمْ

فحتّامَ حتّامَ العناءُ المطوّلُ

وما ضَرَبَ الأَمثَالَ في الجَورِ قَبلَنا

لأَجوَرَ من حُكَّامِنا المُتَمَثِّلُ(٣)

واستخف معاوية بالمقدّسات الإسلاميّة واحتقرها. يقول الرواة : إنّه لمّا تغلّب قيل له : لو سكنت المدينة ؛ فهي دار الهجرة ، وبها قبر النّبي (صلّى الله عليه وآله). فقال : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ)(٤) .

واقتدى به في ذلك جميع بني أُميّة ، فقد انبرى يحيى بن الحكم إلى عبد الله بن جعفر فقال له : كيف تركت الخبيثة؟ ـ يعني مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ فأنكر عليه ابن جعفر وصاح به :

__________________

(١) ذكرنا مصادر هذه الأحداث في الجزء الثاني مِن كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

(٢) الكوذني : البليد.

(٣) الهاشميات / ١١١.

(٤) المناقب والمثالب ـ القاضي نعمان المصري / ٧٠.

١٤٨

سمّاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) طيبة وتسمّيها خبيثة! قد اختلفتما في الدنيا ، وستختلفان في الآخرة.

قال يحيى : والله ، لأنْ أموت وأُدفن بأرض الشام المقدّسة أحبّ إليّ مِن أنْ أُدفن بها. فقال له : اخترت مجاورة اليهود والنصارى على مجاورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والمهاجرين!(١) .

استلحاقُ زياد :

ومِنْ مظاهر استخفاف معاوية بالقيم الإسلاميّة استلحاقه زياد بن عبيد الرومي وإلصاقه بنسبه مِن دون بيّنة شرعية ، وإنّما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمّار ، وهو ممّا لا يثبت به نسب شرعي ، وقد خالف بذلك قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». لقد قام بذلك انطلاقاً وراء أهدافه السياسية ، وتدعيماً لحكمه وسلطانه.

ومِن طريف ما يُنقل في الموضوع : أنّ نصر بن حجّاج خاصم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عند معاوية في عبد الله مولى خالد بن الوليد ، فأمر معاوية حاجبه أنْ يؤخّرهما حتّى يحتفل مجلسه ، فلمّا اكتمل مجلسه ، أمر بحَجَرٍ فأُدني منه وألقى عليه طرفاً مِن ثيابه ، ثمّ أذن لهما ، فترافعا عنده في شأن عبد الله ، فقال له نصر : إنّ أخي وابن أبي عهد إليّ أنّه ـ يعني عبد الله ـ منه. وقال عبد الرحمن : مولاي وابن عبد أبي وأمته ولد على فراشه.

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

١٤٩

وأصدر معاوية الحكم في المسألة ، فقال : يا حرسي ، خُذ هذا الحَجرَ فادفعه إلى نصر بن حجّاج ، فقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر».

وانبرى نصر فقال : أفلا أجريت هذا الحكم في زياد؟! فقال معاوية : ذلك حكم معاوية ، وهذا حكم رسول الله(١) .

إنكارُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وأنكر الإمام الحُسين (عليه السّلام) على معاوية هذا الاستلحاق الذي خالف به قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فكتب إليه مذكّرة تضمّنت الأحداث الجسام التي اقترفها معاوية ، وقد جاء فيها : «أوَلستَ المدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش وللعاهر الحجر. فتركت سُنّة رسول الله تعمّداً ، واتّبعت هواك بغير هدىً مِن الله؟!».

لقد أثار استلحاق معاوية لزياد موجةً مِن الغضب والاستياء عند الأخيار والمتحرّجين في دينهم ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

الحقدُ على النّبي (صلّى الله عليه وآله) :

وحقدَ معاوية على النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقد مكث في أيّام خلافته أربعين

__________________

(١) تاريخ الطبري ١٠ / ٤٨٠ ، العقد الفريد ٦ / ١٣٣.

١٥٠

جمعة لا يصلّي عليه ، وسأله بعض أصحابه عن ذلك ، فقال : لا يمنعني عن ذكره إلاّ أنْ تشمخ رجال بآنافها(١) .

وسمع المؤذن يقول : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، فلم يملك إهابه واندفع يقول : لله أبوك يا ابن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أنْ يُقرنَ اسمك باسم ربِّ العالمين!(٢) .

ومِن مظاهر حقده على الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ما رواه مطرف بن المغيرة قال : وفدت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يتحدّث عنده ثمّ ينصرف إليّ وهو يذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه. وأقبل ذات ليلة وهو غضبان ، فأمسك عن العشاء ، فانتظرته ساعة وقد ظننت أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلت له : مالي أراك مغتماً منذ الليلة؟

ـ يا بُني ، جئتك مِن أخبث الناس.

ـ ما ذاك؟!

ـ خلوت بمعاوية فقلت له : إنّك قد بلغت مُناك يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً ؛ فإنّك قد كبُرت ، ولو نظرت إلى إخوتك مِن بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فثار معاوية واندفع يقول : هيهات هيهات! مَلَكَ أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل ، فوالله ما عدا أنْ هلكَ فهلكَ ذكره ، إلاّ أنْ يقول قائل : أبو بكر. ثمّ مَلَكَ أخو عديّ فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فوالله ما عدا أنْ هلكَ فهلكَ ذكره إلاّ أنْ يقولَ قائل : عمر. ثمّ مَلَكَ أخونا عثمان فمَلَكَ رجلٌ لمْ يكن أحدٌ في مثل نسبه ،

__________________

(١) النصائح الكافية / ٩٧.

(٢) نهج البلاغة ١٠ / ١٠١.

١٥١

فعُمل به ما عُمل ، فوالله ما عدا أنْ هلكَ فهلكَ ذكره. وإنّ أخا هاشم يُصرخ به في كلّ يوم خمس مرات : أشهد أنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأيّ عمل يبقى بعد هذا ـ لا أُمّ لك ـ إلاّ دفناً دفناً؟!(١) .

ودلّت هذه البادرة على مدى زعزعة العقيدة الدينية في نفس معاوية ، وإنّها لمْ تكن إلاّ رداءً رقيقاً يشف عمّا تحته مِن حبّ الجاهلية والتأثر بها إلى حدٍّ بعيد. وكانت النزعة الإلحادية ماثلة عند أغلب ملوك الاُمويِّين.

يقول الوليد في بعض خمرياته منكراً للبعث والنشور :

أدِر الكأس يميناً

لا تدِرها ليسارِ

اسقِ هذا ثمّ هذا

صاحبَ العود النضارِ

مِن كميتٍ عتّقوها

منذُ دهرٍ في جرارِ

ختموها بالأماويـ

ـه(٢) وكافور وقارِ

فلقد أيقنت أنّي

غيرُ مبعوثٍ لنارِ

سأروض الناس حتّى

يركبوا دين الحمارِ

وذروا مَنْ يطلب الـ

جنّة يسعى لتبارِ(٣)

وتأثّر الكثيرون مِن ولاتهم بهذه النزعة الإلحادية ، فكان الحجّاج يخاطب الله أمام الجماهير الحاشدة قائلاً : أرسولك أفضل أمْ خليفتك؟ يعني أنّ عبد الملك أفضل مِن النّبي العظيم (صلّى الله عليه وآله)(٤) . وكان ينقم على الذين يزورون قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويقول : تبّاً لهم! إنّما يطوفون بأعواد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٧.

(٢) الأماويه : مِن أنواع الطيب.

(٣) رسالة الغفران / ١٤٥.

(٤) النزاع والتخاصم للمقريزي / ٢٧ ، رسائل الجاحظ / ٢٩٧ ، العقد الفريد ٣ / ٣٥٥.

١٥٢

ورمّة بالية ، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير مِن رسوله؟!(١) .

وهكذا كان جهاز الحكم الاُموي في كثيرٍ مِن أدواره ، فقد تنكّر للرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وازدرى برسالته.

تغييرُ الواقع الإسلامي :

وعمد معاوية إلى تغيير الواقع الإسلامي المشرق الذي تبنّى الحركات النضالية والقضايا المصيرية لجميع الشعوب ، فأهاب بالمسلمين أنْ لا يقرّوا على كظّةِ ظالم ، ولا سغب مظلوم. وقد تبنّى هذا الشعار المقدّس الصحابي العظيم أبو ذر الغفاري الذي فهم الإسلام عن واقعه ، فرفع راية الكفاح في وجه الحكم الاُموي ، وطالب عثمان ومعاوية بإنصاف المظلومين والمضطهدين ، وتوزيع ثروات الأُمّة على الفقراء والمحرومين.

لقد أراد معاوية إقبار هذا الوعي الديني ، وإماتة الشعور بالمسؤولية ، فأوعز إلى لجان الوضع التي ابتدعها أنْ تفتعل الأحاديث على لسان المحرّر العظيم الرسول (صلّى الله عليه وآله) في إلزام الأُمّة بالخضوع للظلم ، والخنوع للجور ، والتسليم لما يقترفه سلطانها مِن الجور والاستبداد. وهذه بعض الأحاديث :

١ ـ روى البخاري بسنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال لأصحابه : (إنّكم سترون بعدي إثرةً واُموراً تنكرونها). قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : (أدّوا إليهم حقّهم ، واسألوا الله حقّكم)(٢) .

٢ ـ روى البخاري بسنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (مَنْ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٤٢.

(٢) صحيح البخاري ٨ / ٨٧.

١٥٣

رأى مِن أميره شيئاً يكره فليصبر عليه ؛ فإنّه مَنْ فارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليّة)(١) .

٣ ـ روى البخاري بسنده عن مسلمة بن زيد الجعفي أنّه سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : يا نبي الله ، أرأيت إنْ قامت علينا أُمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا ، فما ترى؟ فأعرض (صلّى الله عليه وآله) عنه ، فسأله ثانياً وثالثاً والرسول معرضٌ ، فجذبه الأشعث بن قيس ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (اسمعوا وأطيعوا ، فإنّ عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم)(٢) .

٤ ـ روى البخاري بسنده عن عجرفة قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (إنّه ستكون هِنات وهِنات ، فمَنْ أراد أنْ يفرّق أمر هذه الأُمّة وهي جمع فاضربوه بالسّيف كائناً ما كان)(٣) . إلى غير ذلك مِن الموضوعات التي خدّرت الأُمّة ، وشلّت حركتها الثورية ، وجعلتها قابعة ذليلة تحت وطأة الاستبداد الاُموي وجوره.

وقد هبّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) الثائر الأوّل في الإسلام إلى إعلان الجهاد المقدّس ؛ ليوقظ الأُمّة مِن سُباتها ، ويُعيد للإسلام نضارته وروحه النضالية التي انحسرت في عهد الحكم الاُموي.

مع أهل البيت (عليهم السّلام) :

وسخّر معاوية جميع أجهزته للحطّ مِن قيمة أهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم وديعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والعصب الحسّاس في هذه الأُمّة ، وقد

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٨٧.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١١٩.

(٣) صحيح البخاري ٢ / ١٢١.

١٥٤

استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم وإقصائهم عن واقع الحياة الإسلاميّة ، وكان مِن بين ما استخدمه في ذلك ما يلي :

١ ـ تسخير الوعّاظ :

وسخّر معاوية الوعّاظ في جميع أنحاء البلاد ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت (عليهم السّلام)(١) ، ويذيعوا الأضاليل في انتقاصهم ؛ تدعيماً للحكم الاُموي.

٢ ـ استخدامُ معاهد التعليم :

واستخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب لتغدية النشء ببغض أهل البيت (عليهم السّلام) ، وخَلْقِ جيلٍ مُعادٍ لهم(٢) ، وقد قامت تلك الأجهزة بدور خطير في بثّ روح الكراهية في نفوس النشء لعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله).

٣ ـ افتعال الأخبار.

وأقام معاوية شبكةً لوضع الأخبار تعدّ مِن أخطر الشبكات التخريبية في الإسلام ، فعهد إليها بوضع الأحاديث على لسان النّبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ للحطّ مِن قيمة أهل البيت (عليهم السّلام) ، أمّا الأعضاء البارزون في هذه اللجنة فهم :

١ ـ أبو هريرة الدوسي.

٢ ـ سمرة بن جندب.

٣ ـ عمرو بن العاص.

٤ ـ المغيرة بن شعبة.

وقد افتعلوا آلاف الأحاديث على لسان النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وكانت عدّة طوائف مختلفة حسب التخطيط السياسي للدولة وهي :

الطائفة الأولى : وضع الأخبار في فضل الصحابة لجعلهم قبال أهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد عدّ الإمام الباقر (عليه السّلام) أكثر مِن مئة حديث ، منها :

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٦١ الطبعة الثانية.

(٢) المصدر نفسه.

١٥٥

أ ـ أنّ عمر مُحدّث ـ بصيغة المفعول ـ أي تحدّثه الملائكة.

ب ـ أنّ السكينة تنطق على لسان عمر.

ج ـ أنّ عمر يلقّنه المَلَك.

د ـ أنّ الملائكة لتستحي مِن عثمان(١) .

إلى كثير مِن أمثال هذه الأخبار التي وُضعت في فضل الصحابة.

يقول المحدّث ابن عرفة المعروف بنفطويه : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعِلَتْ في أيّام بني أُميّة ؛ تقرّباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون بها اُنوف بني هاشم(٢) . كما وضعوا في فضل الصحابة الأحاديث المماثلة للأحاديث النّبويّة في فضل العترة الطاهرة ، كوضعهم : (إنّ سيّدَي كهول أهل الجنّة أبو بكر وعمر) ، وقد عارضوا بذلك الأحاديث المتواترة : «الحسنُ والحسين سيدا شباب أهل الجنّة»(٣) .

الطائفة الثانية : وضع الأخبار في ذمّ العترة الطاهرة والحطّ مِن شأنها ، فقد أعطى معاوية سمرة بن جندب أربعمئة ألف على أنْ يخطب في أهل الشام ، ويروي لهم أنّ الآية الكريمة نزلت في علي ، وهي قوله تعالى :( وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى‏ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلّى‏ سَعَى‏ فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْفَسَادَ ) (٤) . فروى لهم سمرة ذلك ، وأخذ العوض الضخم مِن بيت مال المسلمين(٥) . وممّا رووا أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) قال في آل

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٦٢ الطبعة الثانية.

(٢) النصائح الكافية / ٧٤.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٦٢.

(٤) سورة البقرة / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٥) النصائح الكافية / ٢٥٣.

١٥٦

أبي طالب : إنّ آل أبي طالب ليسوا بأولياء لي ، إنّما وليّ الله وصالح المؤمنين(١) . وروى الأعمش : أنّه لمّا قدِم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة سنة (٤١ هـ) جاء إلى مسجد الكوفة ، فلمّا رأى كثرة مَنْ استقبله مِن الناس جثا على ركبتيه ، ثمّ ضرب صلعته مراراً وقال : يا أهل العراق ، أتزعمون أنّي أكذب(٢) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحرقُ نفسي بالنار؟! لقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : «إنّ لكلّ نبي حرماً ، وإنّ حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور ، فمَنْ أحدث فيهما حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ، وأشهد بالله أنّ علياً أحدث فيها. فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه ، وولاّه إمارة المدينة(٣) .

إلى كثير مِن أمثال هذه الموضوعات التي تقدح في العترة الطاهرة ، التي هي مصدر الوعي والإحساس في العالم الإسلامي.

الطائفة الثالثة : افتعال الأخبار في فضل معاوية لمحو العار الذي لحقه ولحق أباه وأُسرته في مناهضتهم للإسلام ، وإخفاء ما أُثر عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) في ذمّهم.

وهذه بعض الأخبار المفتعلة :

١ ـ قال (صلّى الله عليه وآله) : معاوية بن أبي سفيان أحلم أُمّتي وأجودها(٤) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٥.

(٢) علّق على ذلك العلاّمة فقيد الإسلام الشيخ محمود أبو رية في كتابه (أبو هريرة / ٢٣٦) ، بقوله : يدلّ هذا القول على أنّ كذب أبي هريرة على النّبي (صلّى الله عليه وآله) كان قد اشتهر حتّى عمّ الآفاق ، وأصبح الناس يتحدّثون به في كل مكان.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥٩.

(٤) البداية والنهاية ٨ / ١٢١ ، تطهير الجنان المطبوع على هامش الصواعق المحرقة / ٢٦.

١٥٧

٢ ـ قال (صلّى الله عليه وآله) : صاحب سرّي معاوية بن أبي سفيان(١) .

٣ ـ قال (صلّى الله عليه وآله) : اللهمّ علّمه ـ يعني معاوية ـ الكتاب ، وقِه العذاب ، وأدخله الجنة(٢) .

٤ ـ قال (صلّى الله عليه وآله) : إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه(٣) ؛ فإنّه أمين هذه الاُمّة(٤) .

إلى غير ذلك مِن الأحاديث الموضوعة التي تعكس الصراع الفكري ضد الإسلام عند معاوية ، وإنّه حاول جاهداً محو هذا الدين والقضاء عليه.

حديثُ مفتعل على الحُسين (عليه السّلام) :

مِن الأحاديث الموضوعة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ما روي : أنّه وفد على معاوية زائراً في يوم الجمعة ، وكان قائماً على المنبر خطيباً ، فقال له رجل مِن القوم : ائذن للحُسين يصعد المنبر. فقال له معاوية : ويلك! دعني افتخر. ثمّ حمد الله وأنثى عليه ، ووجّه خطابه للحُسين (عليه السّلام) قائلاً له : سألكتك يا أبا عبد الله ، أليس أنا ابن بطحاء مكة؟

ـ إي والذي بعث جدّي بشيراً.

ـ سألتك يا أبا عبد الله ، أليس أنا خال المؤمنين؟

ـ إي والذي بعث جدّي نبيّاً.

__________________

(١) تطهير الجنان / ٢٦.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) وضع هذه الأحاديث لمعارضة الحديث الصحيح المروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) : «إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه».

(٤) تاريخ بغداد.

١٥٨

ـ سألتك يا أبا عبد الله أليس أنا كاتب الوحي؟

ـ أي والذي بعتث جدي نذيراً.

ثم نزل معاوية عن المنبر ، فصعد الحسين فحمد الله بمحامد لم يحمده الأولون والآخرون بمثلها ثم قال : حدثني أبي عن جدي عن جبرائيل عن الله تعالى أن تحت قائمة كرسي العرش ورقة آس من خضراء مكتوب عليها : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، يا شيعة آل محمد لا يأتي أحدكم يوم القيامة إلا أدخله الله الجنة.

فقال له معاوية : سألتك يا أبا عبد الله من شيعة آل محمد؟

فقال (عليه السلام) : الذين لا يشتمون الشيخين أبا بكر وعمر ، ولا يشتمون عثمان ولا يشتمونك يا معاوية.

وعلّق الحافظ ابن عساكر على هذا الحديث بقوله : هذا حديث منكر ولا أرى سنده متصلاً إلى الحسين(١) .

وقد امتحن المسلمون امتحاناً عسيراً بهذا الموضوعات التي دونت في كتب السنة ، وظن الكثيرون من المسلمين أنها حق ، فأضفوا على معاوية ثوب القداسة ، وألحقوه بالرعيل الأول من الصحابة المتحرجين في دينهم وهم من دون شك لو علموا واقعها لتبرؤا منها كما قال المدايني(٢) .

ولم تقتصر الموضوعات على تقديس معاوية والحط من شأن أهل البيت (عليهم السلام) وإنما تدخلت في شؤون الشريعة فألصقت بها المتناقضات والمستحيلات مما شوهت الواقع الإسلامي وأفسدت عقائد المسلمين.

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٣١٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٣ / ١٦.

١٥٩

سب الإمام أمير المؤمنين :

وتمادى معاوية في عدائه للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فأعلن سبّه ولعنه في نواديه العامّة والخاصّة وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين الناس ، وسرى سبّ الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وقد خطب معاوية في أهل الشام فقال لهم : أيها الناس ، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لي : إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدّسة ـ يعني الشام ـ فإن فيها الأبدال ، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب.

وعجّ أهل الشام بسب الإمام(١) وخطب في أولئك الوحوش فقال لهم : ما ظنكم برجل ـ يعني علياً ـ لا يصلح لأخيه ـ يعني عقيلاً ـ يا أهل الشام ، إنّ أبا لهب المذموم في القرآن هو عم علي بن أبي طالب(٢) .

ويقول المؤرخون : إنّه كان إذا خطب ختم خطابه بقوله : اللهم إنّ أبا تراب ألحد في دينك وصد عن سبيلك فالعنه لعناً وبيلاً ، وعذّبه عذاباً إليماً.

وكان يشاد بهذه الكلمات على المنابر(٣) ولما ولي معاوية المغيرة بن شعبة إمارة الكوفة كان أهم ما عهد إليه أن لا يتسامح في شتم الإمام (عليه السلام) والترحّم على عثمان ، والعيب لأصحاب علي وإقصاءهم ، وأقام المغيرة

__________________

(١) النصائح الكافية / ٧٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٣ / ٣٦١.

(٣) النصائح الكافية.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470