حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام0%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: دار البلاغة
تصنيف:

الصفحات: 470
المشاهدات: 293761
تحميل: 6008


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 293761 / تحميل: 6008
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

تحوّل مسلم إلى دار هانئ :

واضطر مسلم إلى تغيير مقرّه وإحاطة نشاطه السياسي بكثير مِن السرّ والكتمان ؛ فقد شعر بالخطر الذي داهمه حينما قدم الطاغية إلى الكوفة ، فهو يعلم بخبث هذا الوغد وإنّه لا يرجو لله وقاراً ولا يتحرّج مِنْ اقتراف الإثم ، وقد أجمع أمره على مغادرة دار المختار ؛ لأنّه لمْ تكن عنده قوّة تحميه ولمْ يكن يأوي إلى ركن شديد ، فالتجأ إلى دار هانئ بن عروة ؛ فهو سيّد المصر وزعيم مراد ، وعنده مِن القوّة ما يضمن حماية الثورة والتغلّب على الأحداث.

فقد كان فيما يقول المؤرّخون : إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع ، وثمانية آلاف راجل ، فإذا أجابتها أحلافها مِنْ كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع(1) ، كما كانت له ألطاف وأياد بيضاء على اُسرته ممّا جعلتهم يكنّون له أعمق الودّ والإخلاص.

ومضى مسلم إلى دار هذا الزعيم العربي الكبير ، فرحّب به واستقبله بحفاوة بالغة. وتنصّ بعض المصادر(2) إنّه قد ثقل على هانئ استجارة مسلم به ، وعظم عليه أنْ يتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للتجمعات ضد الدولة ؛ فإنّه بذلك يعرض نفسه للنقمة والبلاء ، إلاّ أنّه استجاب لمسلم على كره ؛ خضوعاً للعادات العربية التي لا تطرد اللاجئ إليها وإنْ عانت مِنْ ذلك أعظم المصاعب والمشاكل.

والذي نراه أنّه لا صحة لذلك ؛ فإنّ مسلماً لو شعر منه عدم الرضا والقبول لما ركن إليه ، وتحرّج كأشدّ ما يكون التحرّج من دخول داره ؛ وذلك لما توفّرت في مسلم مِن الطاقات التربوية الدينية ، وما عُرِفَ به مِن الشمم والإباء الذي يبعده كلّ البعد من

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 89.

(2) الأخبار الطوال / 213.

٣٦١

سلوك أيّ طريق فيه حرج أو تكلّف على الناس. وبالإضافة إلى ذلك ، فإنّ مسلماً لو لمْ يحرز منه التجاوب التام والإيمان الخالص بدعوته لما التجأ إليه في تلك الفترة العصبية التي تحيط به.

إنّ مِن المؤكد أنّ هانياً لمْ يستجب لحماية مسلم والدفاع عنه على كره أو حياء ، وإنّما استجاب له عن رضى وإيمان يوحي مِنْ دينه وعقيدته.

وعلى أيّ حالٍ فقد استقر مسلم في دار هانئ واتّخذها مقرّاً للثورة ، وقد أحنف(1) به هانئ ودعا القبائل لمبايعته ، فبايعه في منزله ثمانية عشر ألفاً(2) ، وقد عرف مسلم هانئاً بشؤون الثورة وأحاطه علماً بدُعاتها وأعضائها البارزين.

امتناع مسلم من اغتيال ابن زياد :

وذهب معظم المؤرّخين إلى أنّ شريك بن الأعور مرض مرضاً شديداً في بيت هانئ بن عروة أو في بيته(3) ، فانتهى خبره إلى ابن زياد ، فأرسل إليه رسولاً يعلمه أنّه آت لعيادته فاغتنم شريك هذه الفرصة ، فقال لمسلم : إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله منه ، وهو صائر إليّ ليعودني ، فقم فادخل الخزانة حتّى إذا أطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله ، ثمّ صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه ؛ فإنّه لا ينازعك فيه أحد مِن الناس ، وإنْ رزقني الله العافية صرت إلى البصرة فكفيتك أمرها ، وبايع

__________________

(1) هكذا وردت مفردة (أحنف) ، ولعلها (احتفّ). (موقع معهد الإمامين الحسنين).

(2) الأخبار الطوال / 214.

(3) البداية والنهاية 8 / 153 ، والمشهور بين المؤرّخون أنّ شريكاً كان في بيت هانئ لا في بيته ، فقد كان مقيماً بالبصرة ، وجاء مع ابن زياد إلى الكوفة.

٣٦٢

لك أهلها(1) .

وكره هانئ أنْ يُقتل ابن زياد في داره ؛ تمسّكاً بالعادات العربية التي لا تبيح قتل الضيف والقاصد إليها في بيوتها(2) ، فقال له : ما أحبّ أنْ يُقتل في داري.

فقال له شريك : ولِمَ؟! فوالله إنّ قتله لقربان إلى الله. ولم يعنَ شريك بهانئ ، والتفت إلى مسلم يحثّه على اغتيال ابن زياد قائلاً له : لا تقصّر في ذلك.

وبينما هم في الحديث وإذا بالضجّة على الباب ، فقد أقبل ابن مرجانة مع حاشيته ، فقام مسلم ودخل الخزانة مختفياً بها ، ودخل ابن زياد فجعل يسأل شريكاً عن مرضه وشريك يجيبه ، ولمّا استبطأ شريك خروج مسلم جعل يقول :

ما الانتظارُ بسلمى أنْ تحيّوها

حيّوا سُليمى وحيّوا مَنْ يُحيّها

كأس المنيّةِ بالتعجيل فاسقوها(3)

__________________

(1) الأخبار الطوال / 214 ، مقاتل الطالبيِّين / 98 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 269 ، وذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ الذي دعا مسلماً لاغتيال ابن زياد هو هانئ بن عروة كما في الإمامة والسياسة 2 / 4.

(2) يشير إلى ذلك ما جاء في مقاتل الطالبيِّين / 98 ، أنّ هانئاً استقبح قتل ابن زياد في داره.

(3) مقاتل الطالبيين / 98 ، وفي مقتل أبي مخنف أنّه أنشد هذه الأبيات :

ما تنظرون بسلمى لا تُحيِّيوها

حيّوا سُليمى وحيّوا مَنْ يُحيِّها

هل شربةٌ عذبةٌ أُسقى على ظمأٍ

ولو تلفْتُ وكانت مُنيتي فيها

وإنْ تخشّيتَ مِنْ سلمى مراقبةً

فلستَ تأمن يوماً مِنْ دواهيها

٣٦٣

ورفع صوته ليُسمعَ مسلماً ، قائلاً :

لله أبوك! أسقنيها وإنْ كانت فيها نفسي(1) .

وغفل ابن زياد عن مراده وظنّ أنّه يهجر ، فقال لهانئ :

أيهجر؟

ـ نعم أصلح الله الأمير ، لمْ يزل هكذا منذ أصبح(2) .

وفطن مهران مولى ابن زياد وكان ذكيّاً إلى ما دُبّرَ لسيّده ، فغمزه ونهض به سريعاً ، فقال له شريك : أيّها الأمير ، إنّي اُريد أنْ اُوصي إليك. فقال له ابن زياد : إنّي أعود إليك.

والتفت مهران وهو مذعور إلى ابن زياد فقال له : إنّه أراد قتلك. فبهر ابن زياد وقال : كيف مع إكرامي له؟! وفي بيت هانئ ويد أبي عنده!

ولمّا ولّى الطاغية خرج مسلم مِن الحجرة ، فالتفت إليه شريك وقلبه يذوب أسىً وحسراتٍ ، قال له : ما منعك مِنْ قتله؟!(3) .

فقال مسلم : منعني منه خلّتان : إحداهما كراهية هانئ لقتله في

__________________

وفي الفتوح 5 / 72 ، والأخبار الطوال / 214 أنّه أنشد هذا البيت :

ما تنظرون بسلمى عند فرصتِها

فقد ونى ودّها واستوسقَ الصّرمُ

(1) مقاتل الطالبيِّين / 99.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 270.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 269 ـ 270.

٣٦٤

منزله ، والاُخرى : قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «إنّ الإيمان قيد الفتك ؛ لا يفتك مؤمن».

فقال له شريك : أما والله ، لو قتلته لاستقام لك أمرك واستوسق لك سلطانك(1) .

ولم يلبث شريك بعد الحادثة إلاّ ثلاثة أيّام حتّى توفي ، فصلّى عليه ابن زياد ودفنه بالثوية. ولمّا تبين له ما دبّره له شريك طفق يقول : والله ، لا أصلّي على جنازة عراقي ، ولولا أنْ قبر زياد فيهم لنبشت شريكاً(2) .

أضواء على الموقف :

ويتساءل الكثيرون مِنْ الناس عن موقف مسلم ، فيلقون عليه اللوم والتقريع ويحمّلونه مسؤولية ما وقع مِن الأحداث ؛ فلو اغتال الطاغية لأنقذ المسلمين مِنْ شرٍّ عظيمٍ وما مُنِيَ المسلمون بتلك الأزمات الموجعة التي أغرقتهم في المحن والخطوب.

أمّا هذا النقد فليس موضوعيّاً ولا يحمل أي طابع مِن التوازن والتحقيق ؛ وذلك لعدم التقائه بسيرة مسلم ولا بواقع شخصيته ، فقد كان الرجل فذّاً مِنْ أفذاذ الإسلام في ورعه وتقواه وتحرّجه في الدين ، فقد تربى في بيت عمّه أمير المؤمنين (عليه السّلام) وحمل اتّجاهاته الفكرية ، واتّخذ سيرته المشرقة منهاجاً يسير على أضوائها

__________________

(1) الأخبار الطوال / 214 ، وفي تاريخ ابن الأثير 3 / 270 أنّ هانئاً قال لمسلم : لو قتلته لقتلتَ فاسقاً فاجراً ، كافراً غادراً. وذكر ابن نما أنّ امرأةَ هانئ تعلّقت بمسلم ، وأقسمت عليه بالله أنْ لا يقتل ابن زياد في دارها ، فلمّا علم هانئ قال : يا ويلها! قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فرّت منه وقعت فيه.

(2) تاريخ الطبري 6 / 202 ، الأغاني 6 / 59.

٣٦٥

في حياته. وقد بنى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) واقع حياته على الحقّ المحض الذي لا التواء فيه ، وتحرّج كأعظم ما يكون التحرّج في سلوكه. فلمْ يرتكب أيّ شيء شذّ عن هدي الإسلام وواقعه ، وهو القائل : قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز مِنْ تقوى الله. وعلى ضوء هذه السيرة بنى ابن عقيل حياته الفكرية ، وتكاد أنْ تكون هذه السيرة هي المنهاج البارز في سلوك العلويين.

يقول الدكتور محمّد طاهر دروش : كان للهاشميين مجال يحيون فيه ولا يعرفون سواه ، فهم منذ جاهليتهم للرياسة الدينية قد طُبعوا على ما توحي به مِن الإيمان والصراحة والصدق والعفّة والشرف والفضيلة والترفّع ، والخلائق المثالية والمزايا الأديبة والشمائل الدينية والآداب النّبوية(1) .

إنّ مسلماً لمْ يقدم على اغتيال عدوّه الماكر ؛ لأنّ «الإيمان قيد الفتك ؛ لا يفتك مؤمن».

وعلّق هبة الدين على هذه الكلمة بقوله : كلمة كبيرة المغزى ، بعيدة المدى ؛ فإنّ آل علي مِنْ قوّة تمسّكهم بالحقّ والصدق نبذوا الغدر والمكر حتّى لدى الضرورة ، واختاروا النصر الآجل بقوّة الحقّ على النصر العاجل بالخديعة. شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم وموروثة في أخلاقهم ، كأنّهم مخلوقون لإقامة حكم العدل والفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء ، وقد حفظ التاريخ لهم الكراسي في القلوب(2) .

ويقول الشيخ أحمد فهمي : فهذا عبيد الله بن زياد ، وهو مَنْ هو في دهائه وشدّة مراسه أمكنت مسلماً الفرصة منه إذ كان بين يديه ، ورأسه قريب المنال منه

__________________

(1) الخطابة في صدر الإسلام 2 / 13.

(2) نهضة الحسين (عليه السّلام) / 84.

٣٦٦

وكان في استطاعته قتله ، ولو أنّه فعل ذلك لحرم يزيد نفساً جبّارةً ويداً فتّاكةً وقوّةً لا يُستهان بها ، ولكنّ مسلماً متأثر بهدي ابن عمّه ، عاف هذا المسلك وصان نفسه مِنْ أنْ يقتله غيلةً ومكراً(1) .

وإنّ مهمّة مسلم التي عُهِدَ بها إليه هي أخذ البيعة مِن الناس والتعرّف على مجرّبات الأحداث ولمْ يُعهد إليه بأكثر مِنْ ذلك ، ولو قام باغتيال الطاغية لخرج عن حدود مسؤولياته. على أنّ الحكومة التي جاء مُمثّلاً لها إنّما هي حكومة دينية تعني قبل كلّ شيء بمبادئ الدين ، والالتزام بتطبيق سننه وأحكامه وليس مِن الإسلام في شيء القيام بعملية الاغتيال.

وقد كان أهل البيت (عليهم السّلام) يتحرّجون كأشدّ ما يكون التحرّج مِن السلوك في المنعطفات ، وكانوا ينعون على الاُمويِّين شذوذ أعمالهم التي لا تتّفق مع نواميس الدين.

وما قام الحُسين بنهضته الكبرى إلاّ لتصحيح الأوضاع الراهنة وإعادة المنهج الإسلامي إلى الناس. وماذا يقول مسلم للأخيار والمتحرّجين في دينهم لو قام بهذه العملية التي لا يقرّها الدين؟ وعلى أيّ حالٍ ، فقد استمسك مسلم بفضائل دينه وشرفه مِن اغتيال ابن زياد وكان تحت قبضته.

وإنّ مِنْ أهزل الأقوال وأوهنها ، القول بأنّ عدم فتكه به ناشئ عن ضعفه وخوره ، فإنّ هذا أمر لا يمكن أنْ يُصغى إليه ؛ فقد أثبت في مواقفه البطولية في الكوفة حينما غدر به أهلها ما لمْ يُشاهد التاريخ له نظيراً في جميع مراحله ، فقد صمد أمام ذلك الزحف الهائل مِن الجيوش فقابلها وحده ولمْ تظهر عليه أيّ بادرة مِن الخوف والوهن.

فقد قام بعزم ثابت يحصد الرؤوس ويحطّم الجيوش حتّى ضجّت الكوفة مِنْ كثرة مَنْ قُتِلَ منها ، فكيف يتّهم بطل هاشم وفخر عدنان بالوهن والضعف؟!

__________________

(1) ريحانة الرسول / 178.

٣٦٧

المخططات الرهيبة :

وأدّت المخطّطات الرهيبة التي صمّمها الطاغية إلى نجاحه في الميادين السياسية وتغلّبه على الأحداث ، فبعد أنْ كانت الكوفة تحت قبضة مسلم انقلبت عليه رأساً على عقب ، فزجّ بها الماكر الخبيث إلى حرب مسلم والقضاء عليه ، ومِنْ بين هذه المخططات :

1 ـ التجسس على مسلم :

وأوّل بادرة سلكها ابن زياد هي التجسس على مسلم ومعرفة جميع نشاطاته السياسية ، والوقوف على نقاط القوّة والضعف عنده ، وقد اختار للقيام بهذه المهمّة مولاه معقلاً ، وكان مِنْ صنائعه وتربّى في كنفه ودرس طباعه ووثق بإخلاصه وكان فطناً ذكياً ، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أنْ يتّصل بالشيعة ، ويعرّفهم أنّه مِنْ أهل الشام ، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميري.

وكانت الصبغة السائدة على الموالي هي الإخلاص لأهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ولذا أمره بالانتساب إلى الموالي حتّى ينفي الشك والرّيب عنه ، وقال له : إنّه إذا التقى بهم فليعرّفهم بأنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد بلغه قدوم رجل إلى الكوفة يدعو للإمام الحُسين وعنده مال يريد أنْ يلقاه ليوصله إليه حتّى يستعين به على حرب عدوه.

ومضى معقل في مهمّته فدخل الجامع وجعل يفحص ويسأل عمّن له معرفة بمسلم فأُرشد إلى مسلم بن عوسجة ، فانبرى إليه وهو يُظهر الإخلاص والولاء للعترة الطاهرة ، قائلاً له : إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال وتدلّني على صاحبك لأُبايعه ،

٣٦٨

وإنْ شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه.

فقال مسلم : لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تحبّ وينصر الله بك أهل نبيّه ، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي مِنْ قبل أنْ يتمّ مخافة هذا الطاغية وسطوته ، ثمّ أخذ منه البيعة وأخذ منه المواثيق المغلّظة على النصيحة وكتمان الأمر(1) .

وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي ؛ وكان قد عيّنه لقبض المال ليشتري به السلاح والكراع.

وكان معقل ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أوّل مَنْ يدخل على مسلم وآخر مَنْ يخرج منه ، وجميع البوادر والأحداث التي تصدر ينقلها بتحفّظ في المساء إلى ابن زياد(2) حتى وقف على جميع أسرار الثورة.

مع أعضاء الثورة :

والذي يواجه أعضاء الثورة مِن المؤاخذات ما يلي :

أولاً : إنّ معقلاً كان مِنْ أهل الشام الذين عُرِفوا بالبغض والكراهية لأهل البيت (عليهم السّلام) والولاء لبني أُميّة والتفاني في حبّهم ، فما معنى الركون إليه؟

ثانياً : إنّ اللازم التريّب حينما أعطى المال لمسلم بن عوسجة وهو يبكي ، فما معنى بكاؤه أو تباكيه؟ أليس ذلك ممّا يوجب الرّيب في شأنه؟

ثالثاً : إنّه حينما اتّصل بهم كان أوّل داخل وآخر خارج ، فما معنى هذا الاستمرار والمكث الطويل في مقرّ القيادة العامّة؟ أليس ذلك ممّا يوجب الشك في أمره؟

لقد كان الأولى بالقوم التحرّز منه ، ولكنّ القوم قد خدعتهم المظاهر المزيقة. ومِن الحقّ ، أنّ هذا الجاسوس كان ماهراً في صناعته وخبيراً فيما انتدب إليه.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 269.

(2) الأخبار الطوال / 215.

٣٦٩

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ ابن زياد قد استفاد مِنْ عملية التجسس أموراً بالغة الخطورة.

فقد عرف العناصر الفعالة في الثورة ، وعرف مواطن الضعف فيها ، وغير ذلك مِن الاُمور التي ساعدته على التغلّب على الأحداث.

2 ـ رشوة الزعماء والوجوه :

ووقف ابن زياد على نبض الكوفة وعرف كيف يستدرج أهلها ، فبادر إلى إرشاء الوجوه والزعماء ، فبذل لهم المال بسخاء فاستمال ودّهم واستولى على قلوبهم ، فصارت ألسنتهم تكيل له المدح والثناء ، وكانوا ساعده القوي في تشتيت شمل الناس وتفريق جموعهم عن مسلم.

لقد استعبدهم ابن مرجانة بما بذله مِن الأموال فأخلصوا له ومنحوه النصيحة ، وخانوا بعهودهم ومواثيقهم التي أعطوها لمسلم ، وقد أخبر بعض أهل الكوفة الإمام عن هذه الظاهرة حينما التقى به في أثناء الطريق ، فقال له : أمّا أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم ومُلئت غرائرهم ، يُستمال ودّهم ويُستخلص به نصيحتهم ، وأمّا سائر الناس فإنّ أفئدتهم تهوى إليك ، وسيوفهم غداً مشهورة عليك(1) .

لقد تناسى الكوفيّون كتبهم التي أرسلوها للإمام (عليه السّلام) وبيعتهم له على يد سفيره ؛ مِنْ أجل الأموال التي أغدقتها عليهم السلطة.

يقول بعض الكتّاب : إنّ الجماعات التي أقامها النكير على بني اُميّة وراسلت الحُسين ، وأكّدت له إخلاصها وذرفت أمام مسلم أعزّ دموعها ، هي الجماعات التي ابتاعها عبيد الله بن زياد بالدرهم والدينار ، وقد ابتاعها فيما بعد مصعب

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 233.

٣٧٠

ابن الزّبير فتخلّوا عن المختار وتركوه وحيداً يلقى حتفه ، ثمّ اشتراها الخليفة الاُموي عبد الملك بن مروان فتخلّوا عن مصعب وتركوه يلقى مصيره على يد عبد الملك بن مروان(1) .

الإحجام عن كبس دار هانئ :

وعلم الطاغية أنّ هانئاً هو العضو البارز في الثورة ، فقد أطلعه الجاسوس الخطير معقل على الدور الفعّال الذي يقوم به هانئ في دعم الثورة ومساندتها بجميع قدراته ، وعرّفه أنّ داره أصبحت المركز العام للشيعة والمقرّ الرئيسي لسفير الحُسين مسلم فلماذا لمْ يقمْ بكبسها وتطويقها بالجيش ليقضي بذلك على الثورة؟ وإنّما أحجم عن ذلك لعجزه عسكرياً ، وعدم مقدرته على فتح باب الحرب ؛ فإنّ دار هانئ مع الدور التي كانت محيطة بها ، كانت تضمّ أربعة آلاف مقاتل ممّن بايعوا مسلماً.

بالإضافة إلى أتباع هانئ ومكانته المرموقة في المصر ؛ فلهذا لمْ يستطع ابن زياد مِن القيام بذلك نظراً للمضاعفات السيئة.

رسل الغدر :

وأنفق ابن زياد لياليه ساهراً يطيل التفكير ويطيل البحث مع حاشيته في شأن هانئ ، فهو أعزّ مَنْ في المصر وأقوى شخصية يستطيع القيام بحماية الثورة ، ولا يدع مسلماً فريسة لأعدائه ، فإذا قضى عليه فقد استأصل الثورة مِنْ جذورها وقد أعرضوا عن إلقاء القبض عليه

__________________

(1) المختار الثقفي مرآة العصر الاُموي / 69 ـ 70.

٣٧١

وتطويق داره ، فإنّ ذلك ليس بالأمر الممكن ، وقد اتّفق رأيهم على خديعته بإرسال وفد إليه مِنْ قبل السلطة يعرض عليه رغبة ابن زياد في زيارته ، فإذا وقع تحت قبضته فقد تمّ كلّ شيء ، ويكون تشتيت أتباعه ليس بالأمر العسير ، وشكّلوا وفداً لدعوته ، وهم :

1 ـ حسّان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة.

2 ـ محمّد بن الأشعث زعيم كندة.

3 ـ عمرو بن الحجّاج.

ولمْ يكن لحسّان بن أسماء علم بالمؤامرة التي دبّرت ضد هانئ ، وإنّما كان يعلم بها محمّد بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج ، وقد أمرهم ابن زياد أنْ يحملوا له عواطفه ورغبته الملحّة في زيارته ، ويعملوا جاهدين على إقناعه.

اعتقال هانئ :

وأسرع الوفد إلى هانئ عشيّة فوجدوه جالساً على باب داره ، فسلّموا عليه وقالوا له : ما يمنعك مِنْ لقاء الأمير فإنّه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنّه شاكٍ لعدته؟

فقال لهم : الشكوى تمنعني.

وأبطلوا هذا الزعم ، وقالوا له : إنّه قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشيّة على باب دارك وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان ، أقسمنا عليك لما ركبت معنا. وأخذوا يلحّون عليه في زيارته فاستجاب لهم على كرهٍ ، فدعا بثيابه

٣٧٢

فلبسها ودعا ببغلة فركبها ، فلمّا كان قريباً مِن القصر أحسّت نفسه بالشرّ فعزم على الانصراف ، وقال لحسّان بن أسماء : يابن الأخ إنّي والله لخائف مِنْ هذا الرجل فما ترى؟

فقال حسّان : يا عمّ ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً ، ولِمَ تجعل على نفسك سبيلاً؟ وأخذ القوم يلحّون عليه حتّى أدخلوه على ابن مرجانة فاستقبله بعنف وشراسة ، وقال : أتتك بخائن رجلاه.

وكان شريح إلى جانبه ، فقال له :

اُريدُ حياتَهُ(1) ويريدُ قتلي

عذيركَ مِنْ خليلِكَ مِنْ مُرادِ

وذعر هانئ ، فقال له : ما ذاك أيّها الأمير؟ فصاح به الطاغية بعنف : أيهٍ يا هانئ! ما هذه الاُمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟

فأنكر ذلك هانئ ، وقال : ما فعلت ذلك وما مسلم عندي.

ـ بلى قد فعلت.

وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما ، فرأى ابن زياد أنْ يحسم النزاع فدعا معقلاً الذي جعله عيناً عليهم ، فلمّا مثُلَ عنده قال لهانئ : أتعرف هذا؟

ـ نعم.

__________________

(1) يروى (حباءه) من العطاء.

٣٧٣

وأسقط ما في يدي هانئ وأطرق برأسه إلى الأرض ، ولكنْ سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف فانتفض كالأسد ، وقال لابن مرجانة : قد كان الذي بلغك ولن أضيع يدك عندي(1) ، تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم فإنّه جاء حقّ مَنْ هو أحقّ مِنْ حقّك وحقّ صاحبك(2) .

فثار ابن زياد وصاح به : والله ، لا تفارقني حتّى تأتيني به.

وسخر منه هانئ ، وأنكر عليه قائلاُ له مقالة الرجل الشريف : لا آتيك بضيفي أبداً.

ولمّا طال الجدال بينهما انبرى إلى هانئ مسلم بن عمر الباهلي وهو مِنْ خدّام السلطة ، ولمْ يكن رجل في المجلس غريب غيره ، فطلب مِن ابن زياد أنْ يختلي بهانئ ليقنعه فأذن له ، فقام وخلا به ناحية بحيث يراهما ابن زياد ويسمع صوتهما إذا علا.

وحاول الباهلي إقناع هانئ فحذّره مِنْ نقمة السلطان ، وإنّ السلطة لا تنوي السوء بمسلم قائلاً : يا هانئ ، أنشدك الله أنْ تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك ، إنّ هذا الرجل ـ يعني مسلماً ـ ابن عمّ القوم وليسوا بقاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليه فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ؛ إنّما تدفعه إلى السلطان.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 271.

(2) مروج الذهب 3 / 7 ، سمط النجوم العوالي 3 / 61 تايخ الإسلام ـ الذهبي 2 / 269 وروي كلامه بصورة أخرى وهي تخالف ما رواه مشهور المؤرّخين.

٣٧٤

ولمْ يخفَ على هانئ هذا المنطق الرخيص ، فهو يعلم أنّ السلطة إذا ظفرت بمسلم فسوف تنكّل به ولا تدعه حيّاً ، وإنّ ذلك يعود عليه بالعار والخزي إنْ سلّم ضيفه وافد آل محمّد فريسة لهم قائلاً : بلى والله ، عليّ في ذلك أعظم العار أنْ يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا حي صحيح الساعدين كثير الأعوان. والله ، لو لمْ أكنْ إلاّ وحدي لما سلّمته أبداً.

وحفل هذا الكلام بمنطق الأحرار الذين يهبون حياتهم للمثُل العُليا ولا يخضعون لما يخلّ بشرفهم.

ولمّا يئس الباهلي مِنْ إقناع هانئ انطلق نحو ابن زياد فقال له : أيّها الأمير ، قد أبى أنْ يسلّم مسلماً أو يُقتل(1) .

وصاح الطاغية بهانئ :

أتأتيني به أو لأضربنَّ عنقك. فلم يعبأ به هانئ ، وقال : إذن تكثر البارقة حولك. فثار الطاغية وانتفخت أوداجه ، وقال : وا لهفا عليك! أبا البارقة تخوّفني؟!(2)

وصاح بغلامه مهران وقال : خذه ، فأخذ بضفيرتي هانئ ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه وضربه ضرباً عنيفاً حتّى كسر أنفه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتّى تحطّم القضيب وسالت الدماء على ثيابه ، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه ، فصاح ابن زياد :

__________________

(1) الفتوح 5 / 83.

(2) البارقة : السيوف التي يلمع بريقها.

٣٧٥

أحروري أحللت بنفسك وحلّ لنا قتلك؟

وأمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(1) ، واندفع حسّان بن أسماء بن خارجة وكان ممّن أمّن هانئاً وجاء به إلى ابن زياد ، وقد خاف مِنْ سطوة عشيرته ونقمتها عليه ، فأنكر عليه ما فعله بهانئ قائلاً : أرسله يا غادر! أمرتنا أنْ نجيئك بالرجل فلمّا أتيناك به هشمت وجهه وسيلت دماءه وزعمت أنّك تقتله؟!

وغضب منه ابن زياد فأوعز إلى شرطته بتأديبه ، فلهز وتعتع ثمّ ترك. وأمّا ابن الأشعث المتملّق الحقير فجعل يحرّك رأسه ، ويقول ليسمع الطاغية : قد رضينا بما رأى الأمير لنا كان أم علينا ، إنّما الأمير مؤدب(2) .

ولا يهمّ ابن الأشعث ما اقترفه الطاغية مِنْ جريمة في سبيل تأمين مصالحه ورغباته.

انتفاضة مذحج :

وانتهى خبر هانئ إلى اُسرته فاندفعت بتثاقل كالحشرات ، فقاد جموعها الانتهازي الجبان عمرو بن الحجّاج الذي لا عهد له بالشرف والمروءة ، فأقبل ومعه مذحج وهو يرفع عقيرته لتسمع السلطة مقالتهم قائلاً : أنا عمرو بن الحجّاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لمْ نخلع طاعة ولمْ نفارق جماعة.

وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة وليس فيه اندفاع لإنقاذ هانئ ؛ ولذا لمْ يحفل به ابن زياد ، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له : ادخل على

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 271.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 271.

٣٧٦

صاحبهم فانظر إليه ، ثمّ اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ. وخرج شريح فدخل على هانئ فلمّا بصر به صاح مستجيراً :

يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟! أين أهل الدين ، أين أهل المصر؟! أيُحذرونني عدوّهم(1) . وكان قد سمع الأصوات وضجيج الناس ، فالتفت إلى شريح(2) قائلاً :

يا شريح ، إنّي لأظنها أصوات مذحج وشيعتي مِن المسلمين ، إنّه إنْ دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني(3) .

وخرج شريح وكان عليه عين لابن زياد ؛ مخافة أنْ يدلي بشيء على خلاف رغبات السلطة فيفسد عليها أمرها ، فقال لهم :

قد نظرت إلى صاحبكم وإنه حيّ لمْ يُقتل. وبادر عمرو بن الحجّاج فقال : إذا لمْ يُقتل فالحمد لله(4) . وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص مِن السجن وهم يصحبون العار والخزي ، وظلّوا مثالاً للخيانة والجبن على امتداد التاريخ.

وفيما أحسب أنّ هزيمة مذحج بهذه السرعة ، وعدم تأكدها مِنْ سلامة زعيمها جاءت نتيجة اتّفاق سرّيٍّ بين زعماء مذحج وبين ابن زياد للقضاء على

__________________

(1) في رواية الطبري : (أيخلّوني وعدوهم).

(2) شريح القاضي ينتمي لإحدى بطون كندة ، جاء ذلك في الكامل للمبرد / 21.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 ، وجاء في تهذيب التهذيب 2 / 351 أنّ هانئاً قال لشريح : يا شريح اتّقِ الله ، فإنّه قاتلي.

(4) تاريخ ابن الأثير 3 / 271.

٣٧٧

هانئ ؛ ولولا ذلك لنفرت مذحج حينما أخرج هانئ مِن السجن في وضح النهار ونفّذ فيه حكم الإعدام في سوق الحذّائين.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد خلدت مذحج للذلّ ورضيت بالهوان ، وانبرى شاعر مجهول أخفى اسمه ؛ حذراً مِنْ نقمة الاُمويِّين وبطشهم فرثى هانئاً وندّد باُسرته ؛ محاولاً بذلك أنْ يثير في نفوسهم روح العصبية القبلية ليثأروا لقتيلهم. يقول :

فإنْ كنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظري

إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قدْ هشّمَ السيفُ وجهَهُ

وآخر يهوي مِنْ طمارِ قتيلِ(1)

أصابهما أمرُ الأميرِ فأصبحا

أحاديثَ مَنْ يسري بكلّ سبيلِ(2)

ترى جسداً قدْ غيّرَ الموتُ لونَهُ

ونضْحَ دمٍ قدْ سالَ كلّ مسيلِ

فتىً كان أحيا مِنْ فتاةٍ حييّةٍ

وأقطعَ مِن ذي شفرتينِ صقيلِ

أيركبُ أسماء الهماليج آمناً

وقد طلبَتْهُ مذحجٌ بذحولِ(3)

__________________

(1) الطمار : اسم لغرفة شُيّدت فوق قصر الإمارة ، وفي أعلاها قُتِلَ مسلمُ بن عقيل ورُمِيَتْ جثتُه إلى الأرض. وما ذكره ابن أبي الحديد أنّ الطمار هو الجدار فليس بصحيح.

(2) وفي رواية (أصابهما بغي الأمير).

(3) الهماليج : جمع هملاج ، وهو نوع من البرذون. والذحول : جمع ذحل الثأر.

٣٧٨

تطوفُ حوالَيْهِ (مرادٌ) وكلّهم

على رقيةٍ مِنْ سائلٍ ومسولِ

فإنْ أنتمُ لمْ تثأروا بأخيكمُ

فكونوا بغايا اُرْضِيَتْ بقليلِ(1)

وعلّق الدكتور يوسف خليف على هذه الأبيات ، يقول : واللحن هنا تأثر عنيف ، والتعبير فيه قوّي صريح ، بل تصل فيه الصراحة إلى درجة الجرأة ، وشجّع الشاعر على هذه الجرأة أنّه كان في مأمنٍ مِنْ بطش الاُمويِّين ؛ لأنّه استطاع أنْ يُخفي اسمه حتّى أصبح شخصاً مختلفاً فيه عند بعض الرواة ومجهولاً تماماً عند بعضهم.

وهو في هذا اللحن لا يتحدّث عن الحُسين ولا عن السياسة ، وإنّما كلّ حرصه أنْ يُثير روح العصبية القبلية في نفوس اليمنية ؛ ليثأروا لقتيلهم ، وهو مِنْ أجل هذا أغفل متعمّداً مِنْ غير شكّ ذكر محمّد بن الأشعث اليمني ، ولمْ يذكر إلاّ أسماء بن خارجة الفزاري على أنّه هو المسؤول عن دمِ هانئ ، مع أنّ كليهما كان رسول ابن زياد إليه ، ولكنّ الشاعر حرص على أنْ يغفل ذكر ابن الأشعث ؛ حتّى لا يثير فتنة أو انقساماً بين اليمنية وهو في أشدّ الحاجة إلى أنْ يوحّد صفوفهم حتّى يُدركوا ثأرهم.

واعتمد الشاعر في قصيدته على هذه الصورة المفزعة التي رسمها للقتيلين اللذين هشّم السيف وجه أحدهما واُلقي بالآخر مِنْ أعلى القصر ، واللذين أصبحا أحاديث للناس في كلّ مكان.

وهو حريص في هذه الصورة على أنْ يعرض للناس منظرين رهيبين يثيران في نفوسهم كلّ عواطف الحزن والسخط والانتقام. منظر هذين الجسدين وقد

__________________

(1) في مروج الذهب 2 / 70 إنّها لشاعر مجهول ، وكذلك في الأغاني 13 / 35 ، وفي جمهرة الأنساب / 228 إنّها للأخطل ، وفي مقاتل الطالبيِّين / 108 إنّها لعبد الله بن الزّبير الأسدي ، وفي الطبري إنّها للفرزدق ، وفي الأخبار الطوال / 219 إنّها لعبد الرحمن بن الزّبير الأسدي ، وفي لسان العرب 6 / 174 إنّها لسليم بن سلام الحنفي.

٣٧٩

غيّر الموتُ مِنْ لونهما ، وهذا الدم الذي ينضخ منهما ويسيل كلّ مسيل ، ثمّ منظر أسماء بن خارجة وهو يحتال في طُرقات الكوفة على دوابّه التي تتبختر به آمنا مطمئناً. ويسأل إلى متى سيظل هذا الرجل في أمنه وخيلائه ومِنْ حوله قبيلة القتيل تطالبه بالثار؟ فلا يجد أشدّ مِنْ طعنها في كرامتها ، فيقول لهم : إنْ لمْ تثأروا بقتيلكم فكونوا بغايا ببغي شرفهنَّ بثمنٍ بخس دراهم معدودات(1) .

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلمْ تفِ له حقوقه ؛ فتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه مِنْ دون أنْ تحرّك ساكناً ، في حين أنّها كانت لها السيادة والسيطرة على الكوفة كما يرى ذلك فلهوزن.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد كان لاعتقال هانئ الأثر الكبير في ذيوع الفزع والخوف في نفوس الكوفيين ممّا أدّى إلى تفرّق الناس عن مسلم وإخفاق الثورة.

ثورة مسلم :

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد ؛ لعلمه بأنّه سيلقى نفس المصير الذي لاقاه هانئاً ، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أنْ ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور ، فاجتمع إليه أربعة آلاف(2)

__________________

(1) حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني للهجرة / 463 ـ 464.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 ، المناقب لابن شهر آشوب 5 / 126 مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

٣٨٠