حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 317148 / تحميل: 7234
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يسطو فتصعق من بوارقه

وبعزمه كف الردى يسطو

يا روضة الدنيا وبهجتها

ودليلها إن راعها خبط

تقضي ظماً والماء تشربه

عصب الشقا والوحش والرط

الله أكبر أيّ نازلة

بالدين قام بعبئها السبط

سلبت من الدنيا أشعتها

وبها السماء اغتالها الشط

يقضي ابن فاطمة ولا رفعت

سوداء ملؤ إهابها سخط

وهذا نموذج من شعره في الغزل ـ وهذه القطعة من الروضة:

سل عن جوى كبدي لظى أنفاسي

تخبرك عنه وما له من آس

سفك الغرام دمي ولا من ثائر

كمهلهل فيه على جساس

سيان حدّ السيف والمقل التي

بسوادها يبيض شعر الراس

سرّ الهوى أودعت قلبا واثقاً

لولا الدموع وحرقة الأنفاس

سأقول إن عدنا وعاد حديثنا

واها لقلبك من حديد قاسي

ومن غزله قوله:

أهلاً بها بعد الصدود

هيفاء واضحة الخدود

بكر كغصن البان

باكره الصبا بربى زرود

تختال في برد الصبا

أحبب بهاتيك البرود

فسكرتُ في نغماته

وطربت فيه بغير عود

حتى إذا صال الصبا

ح على الدجنّة في عمود

ألوى فقمتُ معانقا

شغفا به جيداً بجيد

مضنى الحشاشة قائلاً

حذر القطيعة والصدود

عُدلي بوصلك وادّكر

يا ظبي ( أوفوا بالعقود )

حتى تريح من الجوى

قلباً به ذات الوقود

فرنا إليّ بمقلة

تصطاد هاصرة الاسود

١٤١

متلفتاً كالريم حلأ

ه الرماة عن الورود

حذر الوشاة فليتهم

فزعوا لقاطعة الوريد

وتذكر العهد القديم

فجاد بالوصل الجديد

ترجم له صاحب الحصون المنيعة ترجمة ضافية وقال: جمع ديوانه بنفسه وبخطه الجيد ويبلغ خمسة عشر الف بيت كله من الرصين المحكم وأكثره في مدايح ومراثي أهل البيتعليهم‌السلام كما ضمّنه مفاكهات ومراسلات مع العلماء من أحبابه والادباء والاشراف من أترابه، أقول وكان الشيخ السماوي يحتفظ بنسخة من الديوان ويقول البعض أنها مستنسخة من نسخة المرحوم الحاج مهدي الفلوجي الحلي، وترجم له الشيخ اغا بزرك الطهراني في ( نقباء البشر في القرن الرابع عشر ) وترجم له البحاثة المعاصر علي الخاقاني في شعراء الحلة.

جاء في ( طبقات أعلام الشيعة ) ج 2 صفحة 430: الشيخ حسين الحلي، هو الشيخ حسين بن مصبح الحلي النجفي فاضل جليل. كان من فضلاء عصره في النجف، ويظهر من بعض الخصوصيات أنه كان من الأجلاء. استعار بعض الكتب العلمية في حدود (1240) كما على ظهر ( إثبات الهداة ) في النصوص والمعجزات في مكتبة السيد اغا التستري في النجف، فالظاهر أن وفاته بعد التاريخ، وهو جد الشاعر الشهير الشيخ حسن مصبح الحلي ابن حسين ابن المترجم، المولود في حدود (1246) المتوفى في 1317 ه‍ كما ترجمناه في ( نقباء البشر ) م 1 صفحة 429.

١٤٢

الشيخ محمد نظر علي

المتوفى 1317

قال من قصيدة يرثي بها الحسين (ع):

لهفي لزينب بعد الصون حاسرة

بين اللئام ومنها الخدر مبتذل

تقول وآضيعتا بعد الحسين أخي

من لي وقد خاب مني الظن والأمل

وأخرجوا السيد السجاد بينهم

يساق قسراً وبالاغلال يعتقل

إذا وَنى قنّعوه بالسياط وإن

مشى أضرّ به من قيده ثقل

وقد سروا ببنات المصطفى ذللا

تسرى بها في الفيافي الأنيق البزل

ما بين باكية للخدّ لاطمة

وبين ثاكلة أودى بها الثكل

وبين قائلة يا جدنا فعلوا

بنا علوج بني مروان ما فعلوا

وقال:

يا قلب ذب كمداً لما

قد ناب أبناء النبيّ

أيلومني الخالي بهم

أين الخليّ من الشجيّ

قد جرعتني علقما

أرزاء نهر العلقميّ

أجسامهم فوق الثرى

ورؤوسهم فوق القنيّ

وعقائل المختار تسبى

بعدهم لابن الدعيّ

وحملن من بعد الخدور

سوافراً فوق المطيّ

* * *

هو ابن الشيخ جعفر بن نظر علي، وبجده هذا يعرف بين الحليين فيعبرون عنه ب‍ ( الشيخ محمد بن نظر علي ) ويلقبونه بالمحدث أيضاً لطول باعة وسعة

١٤٣

أطلاعه في علم الحديث، فقد كان ذا إحاطة واسعة بأحاديث النبي وأهل بيته الأطهار خصوصاً ما ورد منها في صحاح الإمامية وما ألف بعدها من الكتب المعتبرة وقد استفاد كثيراً في هجرته من الحلة إلى النجف من منبر العلامة المتأله الشيخ جعفر التستري ومن ثمة اشتهر أمره بالصلاح والورع وحسن الأساليب في مواعظه وخطابته المنبرية، ودرس عنده جماعة منهم الشيخ محمد حسين بن حمد الحلي، وقد ترك جملة من الاثار والمجاميع المخطوطة كان قد دوّن فيها ما وعاه من مشايخه وما انتخبه من أُمهات الكثب في سيرة أهل البيت وآثارهم وقد تلف قسم منها وبقي بعضها عند صهريه على كريمتيه، الأول منهما خطيب الفيحاء الشيخ محمد آل الشيخ شهيب ( والد الدكتور محمد مهدي البصير ) والثاني السيد جعفر ابن السيد محمد حسن آل السيد ربيع ـ من أطباء العيون في النجف ـ وكان المترجم لهرحمه‌الله يحب العزلة ولا يغشى أندية الفيحاء على كثرتها يوم ذاك عدا نادي آل السيد سلمان في عهد المرحوم السيد حيدر وعمه السيد مهدي بن السيد داود لقرب بيته من بيوتهم. وما زال منقطعاً إلى التهجد والاذكار في مسجدهم الواقع تجاه داره وهو المعروف بمسجد ( أبو حواض ). كانت ولادة المترجم له في الحلة سنة 1259 على التقريب ونشأ وتأدب فيها وكان يقضي شهري المحرم وصفر في البصرة للوعظ والارشاد في المحافل الحسينية كغيره من الخطباء فعاد في آخر سنيّ حياته منها وقد أُصيب فيها بمرض الحمى النافضة ( الملاريا ) فلم تمهله إلا أياماً حتى أجاب داعي ربه سنة 1317 ه‍ أو قبلها بسنة، ورثاه جماعة من شعراء الفيحاء الذين كانوا معجبين بفضله ونسكه منهم الأديب الحاج عبد المجيد الشهير بالعطار والشاعر الفحل الحاج حسن القيم ـ فمن قصيدة القيم قوله:

بادرا في بردة النسك أدرجاه

واعقدا اليوم على التقوى رداه

لي بقايا كبد بينكما

بالبكا يا ناظريّ اقتسماه

وهذا الشيخ وان كان ذا موهبة شعرية ولكنه لا ينظم إلا في اهل البيتعليهم‌السلام . ( انتهى عن البلابليات )

١٤٤

الشيخ محمد العوّامي

المتوفى 1318

مصائب عاشورا تهيج تضرمي

فلله من يوم بشهر محرم

بها المجد ينعى مصدر الفيض إذ غدا

بلا قيّم يأوى إليه وينتمى

ومن قصيدة أخرى:

فيا مضر الحمرا ويا أُسد الشرى

ويا غوث مَن يبغي الندا ويريد

وأمنع مَن في الأرض جاراً وجانبا

وأمنتح مَن أمّت اليه وفود

فيا مطعمي الأضياف يوم مجاعة

ويا خير مَن يبنى العلا ويشيد

ويا مخمدي نار الوغى إن تضرّمت

وشبّ إلى الحرب العوان وقيد

وبدر واحد يشهدان لهاشم

ورب السما من فوق ذاك شهيد

ولما بدت من آل حرب ضغائن

لثارات بدر أظهرت وحقود

وأخرجت المولى الحسين مروّعاً

وقد سبقت منكم اليه عهود

فلهفي عليه من وحيد مضيّع

على الماء يقضي وهو عنه بعيد

بني مضر ماذا القعود عن العدا

وفي كربلا مولى الوجود فريد

وكيف بقى ملقى ثلاثاً على الثرى

تواريه من نسج الرياح برود

١٤٥

الشيخ محمد بن عز الدين الشيخ عبد الله العوامي القطيفي. اشتهر بأبي المكارم لمكارم أخلاقه، ولدرحمه‌الله سنة 1255 ه‍ ثالث شهر شعبان وبدت طلائع النبوغ على أساريره ونمت مداركه ومعارفه فأصبح منهلاً ينتهل منه وبحراً يغترف السائلون من عبابه، حج سنة 1317 ه‍ فأبهر الحاج بعلمه وكرمه وسخائه وعطائه، وعندما تشرف بزيارة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستقرّ بالمدينة المنورة فاجأه السقام فمكث أياماً والمرض يلازمه حتى قبضه الله اليه في عصر يوم السابع والعشرين من شهر محرم الحرام سنة 1318 وعمره ثلاث وستون سنة فدفع بالبقيع، وأولاده أربعة كلهم من أهل الفضل، أما آثاره العلمية فهي:

1 ـ أجوبة المسائل النحوية، كتاب مختصر.

2 ـ المناظرات في مسائل متفرقة.

3 ـ المسائل الفقهية.

4 ـ ديوان شعره يحتوي على: منظومة في عقائد الاصول، من توحيد وعدل ونبوة وإمامة ومعاد.

شكوى وعتاب:

ترجمت في هذه الموسوعة بأجزائها الثمانية لمجموعة كبيرة من ادباء البحرين والاحساء والقطيف ممن كانوا في زوايا النسيان ذلك لأن بلاد البحرين من أقدم بلاد الله في العلم والأدب والتشيع لأهل البيت وعريقة في الشعر. وأمامنا ردم من القصائد لم نقف بعد على ترجمة أربابها وكم كتبنا واستنجدنا بعلمائها وادبائها ليزودونا بمعلومات عن تراثهم وحياة أسلافهم، ولكن لا حياة لمن تنادي.

١٤٦

الشيخ حسن القيِّم

المتوفى 1318

قال يرثي الامام الحسين (ع):

إن تكن جازعاً لها أو صبورا

فلياليك حكمها أن تجورا

تصحبنك الضدين ما دمت حياً

نوبا تارة وطوراً سرورا

ربما استكثر القليل فقير

وغنيٌ بها استقل الكثيرا

فكأن الفقير كان غنياً

وكأن الغني كان فقيرا

فحذاراً من مكرها في مقام

ليس فيه تحاذر المحذورا

نذرت أن تسيء فعلاً فأمست

في بني المصطفى تقضّي النذورا

يوم عاشور الذي قد أرانا

كل يوم مصابه عاشورا

يوم حفت بابن النبي رجال

يملؤن الدروع بأساً وخيرا

عمروها في الله أبيات قدس

جاورت فيه بيته المعمورا

ما تعرّت بالطف حتى كساها

الله في الخلد سندساً وحريرا

لم تعثّر أقدامها يوم أمسى

قدم الموت بالنفوس عثورا

بقلوب كأنما البأس يدعو

هالقرع الخطوب كوني صخورا

رفعت جرد خيلهم سقف نقع

ألف الطير في ذراه الوكورا

حاليات يرشحن بالدم مرجاناً

ويعرقن لؤلؤاً منثورا

عشقوا الغادة التي أنشقتهم

من شذاها النقع المثار عبيرا

فتلقوا سهامها بصدور

تركوهن للسهام جفيرا

١٤٧

لازموا الوقفة التي قطّرتهم

تحت ظل القنا عفيراً عفيرا

فخبوا أنجماً وغابوا بدوراً

وهووا أجبلا وغاضوا بحورا

من صريع مرمل غسّلته

من دماء السيوف ماء طمورا

ومعرى على الثرى كفنته

أُمّه الحرب نقعها المستثيرا

عفّر الترب منهم كل وجه

علّم البدر في الدجا أن ينيرا

ونساء كادت بأجنحة الرعب

شظايا قلوبها أن تطيرا

قد أداروا بسوطهم فلك الضرب

عليهنّ فاغتدى مستديرا

صرن في حيث لو طلبن مجيراً

بسوى السوط لم يجدن مجيرا

لو يروم القطا المثار جناحاً

لأعارته قلبها المذعورا

يا لحسرى القناع لم تلف إلا

آثماً من أمية أو كفورا

أوقفوها على الجسوم اللواتي

صرن للبيض روضة وغديرا

فغمرن النحور دمعاً ولو لم

يك قانٍ غسلن تلك النحورا

علّ مستطرقاً يرى الليل درعاً

وعلى نسجه النجوم قتيرا

يبلغن المهديّ عني شكوى

قلّ في أنها تضيق الصدورا

قل له إن شممت تربة أرض

وطأت نعله ثراها العطيرا

وتزودت نظرة من محيّا

تكتسي من بهائه الشمس نورا

قم فأنذر عداك وهو الخطاب

الفصل أن تجعل الحسام نذيرا

كائناً للمنون هارون في البعث

لموسى عوناً له ووزيرا

قد دجا في صدورهم ليل غي

فيه يهوى نجم القنا أن يغورا

أو ما هزّ طود حلمك يوم

كان للحشر شره مستطيرا

يوم أمسى الحسين منعفر الخد

ين فيه ونحره منحورا

أفتديه مخدّراً صار يحمي

بشبا السيف عن نساء الخدورا

ليس تدري محبوكة الدرع ضمّت

شخصه في ثباته أم ثبيرا

١٤٨

أعدت السيف كفه في قراها

فغدا في الوغى يضيف النسورا

صار موسى وآل فرعون حرباً

والعصى السيف والجواد الطورا

وأصريعاً بثوب هيجاء مدرو

جاً وفي درع صبره مقسورا

كيف قرت في فقد مسكنها الأر

ض وقد آذنت له أن تمورا

وقضى في الهجير ظام ولكن

بحشى حرها يذيب الهجيرا

صار سدراً لجسمه ورق البيض

ونقع الهيجا له كافورا

أحسين تقضي بغير نصير

مستظاماً فلا عدمت النصيرا

بأبي رأسك المشهرّ أمسى

يحمل الرمح منه بدراً منيرا

* * *

الشيخ حسن ابن الملا محمد القيّم الحلي أحد نوابغ عصره. كان شاعراً بارعاً من اسرة كانوا قوّاماً في بعض المشاهد فلذلك لقّب بالقيّم، في شعره يحذو حذو المهيار ويعارض قصائده. كان أبوه أيضاً شاعراً خفيف الروح. والشيخ حسن القيم عارض قصيدة المهيار التي أولها:

لمن الطلول كأنهنّ رقوم

تصحو لعينك تارة وتغيم

بقصيدة شهيرة يرويها أكثر خطباء المنبر الحسيني وأولها:

عطن بذات الرمل وهو قديم

حنّت بواديه الخماص الهيم

ولد سنة 1278 ه‍ فاحتضنه أبوه، وهو يومئذ استاذ الخطابة في بغداد والحلة، حتى إذا نشأ وترعرع كان السيد حيدر الحلي، والشيخ حمادي نوح من أوائل مَن تلقفوه وتعاهدوا ملكاته الأدبية. ثم كان له من حانوته الضيق الذي إذا أراد أن يدخله ينحني مع شدة قصره وضآلة جسمه ما يغنيه عن أن يمدّ يد الارتزاق لأحد، حيث احترف فيه حياكة المناطق الحريرية المعروفة ب‍ ( الحُيُص ) ولعلّ هذه المهنة المتواضعة هي الباعث على الاعتقاد بأنه أُميّ لا يقرأ ولا يكتب رغم أن الشيخ محمد علي اليعقوبي يعلق على هذا الزعم بقوله:

١٤٩

وقد رأينا كثيراً من مسودات قصائده بخط يده عند ولده المرحوم عبد الكريم ولقد توفق الاستاذ الخطيب الشيخ اليعقوبي لجمع وتحقيق ديوان الشاعر القيم ونشره في مطابع النجف الأشرف سنة 1385 ه‍ وعثرت أخيراً على مخطوطة للخطيب السيد عباس البغدادي وفيه مرثية نظمها شاعرنا في رثاء سيدة من آل القزويني في سنة 1317 ويعزي العلامة الكبير السيد محمد القزويني قال:

هي نفس تقدست فحباها

محض تقديسها عُلا لا يُضاهى

كيف منها الردى استطاع دنواً

وبأسد الشرى يُحاط خباها

يا لنفس لها نفائس أوصاف

بها الله للملائك باهى

سكنت خدرها المنيع إلى أن

سكنت خير مرقد واراها

فهب اللحد في ثراه طواها

أفهل يستطيع طيّ علاها

شكرت أجرها صحيفتها الملآى

بما قدمت فيا بشراها

فمضت والعفاف يتبعها بالنوح

والنسك ثاكلا ينعاها

يا خطوب الزمان إن خلت أن لا

عاصم اليوم للعلى من أساها

فقد استعصمت ببأس ( أبي

القاسم ) من كل معضل يغشاها

بدر علم وطودُ حلم ولجيّ

صفات جلّت فلا تتناهى

نير المحتد الذي تتجلى الشمس

فيه فيستشف ضياها

طاهر البرد معدن الرشد سامي

المجد غوث الأنام في بأساها

فالقوافي بنعته انشقتنا

نفحات يحيى النفوس شذاها

جمع الله فيه شمل المعالي

وأعزّ الاله فيه حماها

سادة العالمين آل معز الدين

فيكم سمت شريعة طه

فبكم تكشف الحوادث عنا

وتنال النفوس أقصى مُناها

ولنا تُرسل السحائب من أنملكم

حفّلا يفيض نداها

والينا شوارق العلم منكم

تتجلّى فنهتدي بهداها

١٥٠

وجميل اصطباركم بشّر الله

به الصابرين في أُخراها

قدس الله تربة عطّرتها

بنت خير الورى بنشر تقاها

لا عداها صوب الغوادي لأني

قلت أرخ ( صوب الغوادي سقاها )

وفي المخطوطة قصيدة اخرى يرثي بها السيد علي الموسوي ويعزي ولده السيد عباس الخطيب سنة 1316 وأولها:

تخطّى الردى في فيلق منه جرار

اليه فأخلى أُجمة الأسد الضاري

كتب عنه الدكتور البصير في مؤلفه ( نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر ) فقال: أخبرني شاهد عيان ثقة أن حانوته الصغير كان ندوة أدب خطيرة الشأن ـ ذلك لأنه كان يطلع تلاميذه من صغار الحاكة على خير ما يقرأ وخير ما ينظم ويرشدهم الى ما في هذا كله من سحر وجمال وفن وصناعة. وكان عارفو فضله من أهل العلم والأدب يختلفون إلى حانوته دائماً يستمتعون بحديثه العذب وأدبه الغض.

توفيرحمه‌الله سنة 1319 ولم يتجاوز الخامسة والأربعين. أما صفاته فقد كان أبيّاً وفياً ذكيّ القلب خفيف الروح بارع النكتة شديد التأمل في شعره كثير التنقيح له، قرض الشعر وهو عامل بسيط فلم تحدثه نفسه في يوم من الأيام أن يتخذه وسيلة لجرّ المغانم وكسب الجوائز ولو أراد هذا لكان ميسوراً سهلاً، ولكنه أبى إلا أن يصطنع الأدب للأدب وأن يقرض الشعر للشعر. ولذلك كان شعره رثاءً لأهل البيت أو غزلاً أو تهنئة لصديق أو مديحاً أو رثاء له، أو نكتة تستدعيها مناسبة طريفة، وللتدليل على ذلك نذكر إحدى طرفه وذلك أنه عاده في مرضه جمع من الأصدقاء وجاء أحد الثقلاء يهمّه أن يتكلم ولا يهمه أن يكون كلامه مفيداً ام غير مفيد مقبولاً أم غير مقبول، فأكثر من الهذيان إلى أن قال: أكثر ما يؤذيك شدّة الحر ـ وكان الفصل صيفاً ـ فأجابه شاعرنا قائلاً: وكثرة الهذيان.

١٥١

ومن درره هذه المرثية الحسينية التي أشرنا اليها:

عطن بذات الرمل وهو قديم

حنت بواديه الخماص الهيم

وتذكرت بالأنعمين مرابعاً

خضر الأديم ونبتهن عميم

أيام مرتبع الركائب باللوى

خضل وماء الواديين جميم

ومن العذيب تخب في غلس الدجى

بالمدلجات مسومات كوم

والركب يتبع ومضة من حاجر

فكأنه بزمامها مخطوم

سل أبرق الحنّاء عن أحبابنا

هل حيهم بالأبرقين مقيم

والثم ثرى الدار التي بجفونها

يوم الوداع ترابها ملثوم

واحلب جفونك ان طفل نباتها

عن ضرع غادية الحيا مفطوم

عجباً لدار الحي تنتجع الحيا

وأخو الغوادي جفني المسجوم

ومولّع باللوم ما عرف الجوى

سفهاً يعنف واجداً ويلوم

فأجبته والنار بين جوانحي

دعني فرزئي بالحسين عظيم

أنعاه مفطور الفؤاد من الظما

وبنحره شجر القنا محطوم

جمّ المناقب منه يضرب للعلا

عرق بأعياص الفخار كريم

فلقد تعاطى والدماء مدامة

ولقد تنادم والحسام نديم

في حيث أودية النجيع يمدّها

بطل بخيل الدارعين يعوم

يغشى الطريد شبا الحسام ورأسه

قبل الفرار أمامه مهزوم

لبّاس محكمة القتير مفاضة

يندق فيها الرمح وهو قويم

يعدو وحبات القلوب كأنها

عقد بسلك قناته منظوم

ومضى يريد الحرب حتى أنه

تحت اللواء يموت وهو كريم

واختار أن يقضي وعمّته الضبا

فيها وظِلته القنا المحطوم

وقضى بيوم حيث في سمر القنا

قِصدٌ وفي بيض الضبا تثليم

ثاوٍ بظل السمر يشكر فعله

في الحرب مصرعه بها المعلوم

١٥٢

فدماؤه مسفوكة وحريمه

مهتوكة وتراثه مقسوم

عجباً رأى النيران بابن قسيمها

برداً خليل الله ابراهيم

وابن النبي قضي بجمرة غلة

منها يذيب الجامدات سموم

وكريمة الحسبين بابن زعيمها

هتفت عشية لا يجيب زعيم

هتكوا الحريم وأنت أمنع جانباً

بحميةٍ فيها تصان حريم

ترتاع من فزع العدو يتيمة

ويأن من ألم السياط يتيم

تطوي الضلوع على لوافح زفرة

خرساء تقعد بالحشا وتقوم

في حيث قدر الوجد يوقد نارها

ملؤ الجوانح زفرة وهموم

فتعج بالحادي ومن أحشائها

جمعت شظايا ملؤهن كلوم

إما مررت على جسوم بني أبي

دعني ولولوث الأزار أقيم

وأرواح ألثم كل نحرٍ منهم

قبلي بأفواه الضبا ملثوم

وأشمّ من تلك النحور لطائماً

فيهن خفاق النسيم نموم

وبرغمهم أسري وأترك عندهم

كبداً ترف عليهم وتحوم

أنعى بدوراً تحت داجية الوغى

يطلعن فيها للرماح نجوم

أكل الحديد جسومهم ومن القنا

صارت لأرؤوسهم تنوب جسوم

ماتوا ضرباً والسيوف بوقفة

فيها لأظفار القنا تقليم

ومشوا لها قدماً وحائمة الردى

لهم بأجنحة السيوف تحوم

وقضوا حقوق المجددون مواقف

رعفت بهنّ أسنة وكلوم

* * *

١٥٣

وله في الامام الحسينعليه‌السلام :

بأيّ حمى قلب الخليط مولع

وفي أي واد كاد صبرك ينزع

وقفن بها لكنها أيّ وقفة

وجدن قلوباً قد جرت وهي ادمع

ترجّع ورقاء الصدى في عراصها

فتنسيك مَن في الأيك باتت ترجّع

مضت ومضى قلب المشوق يؤمها

فلا نأيها يدنو ولا القلب يرجع

فأسرعت دمعي فيهم حيث أسرعوا

وودعت قلبي فيهم حيث ودعوا

كأن حنيني وانصباب مدامعي

زلازل إرعاد به الغيث يهمع

جزعت ولكن لا لمن كان ركبهم

ولولاك يوم الطف ما كنت أجزع

قضت فيك عطشى من بني الوحي فتية

سقتها العدى كأس الردى وهو مترع

بيوم أهاجوا للهياج عجاجة

تضيّع وجه الشمس من حيث تطلع

بفيض نجيع الطعن والسمر شرّع

ويسود ليل النقع والبيض لمّع

بخيل سوى فرسانها ليس تبتغي

وقوم سوى الهيجاء لا تتوقع

تجرد فوق الجرد في كل غارة

حداد سيوف بينها الموت مودع

عليها من الفتيان كل ابن بجدة

يردّ مريع الموت وهو مروع

أحب اليها في الوغى ما يضرها

إذا كان من مال المفاخر ينفع

وما خسرت تلك النفوس بموقف

يحافظ فيها المجد وهي تضيع

تُدفّع من تحت السوابق للقنا

نفوساً بغير الطعن لا تتدفع

كأن رماح الخط بين أكفهم

أراقم في أنيابها السمّ منقع

ولما أبت إلا المعالي بمعرك

به البيض لا تحمي ولا الدرع تمنع

هوت في ثرى الغبرا ولكن سما لها

على ذروة العلياء عزٌ مرفّع

فبين جريح فهو للبيض أكلة

وبين طعين وهو للسمر مرتع

ثوت حيث لا يدري بيوم ثوائها

اصيبت اسود ام بنو الوحي صرّع

فمنعفر خداً وصدر مرضض

ومختضبٌ نحراً وجسم مبضع

١٥٤

كأني بها في كربلا وهي كعبة

سجود عليها البيض والسمر ركع

فيا لوجوه في ثرى الطف غيبت

ومن نورها ما في الأهلة يسطع

ولما تعرّت بالعراء جسومها

كساها ثياباً مجدها ليس ينزع

وظمآنة كادت تروي غليلها

بأدمعها لو كان يروي وينقع

فذا جفنها قد سال دمعاً وقلبها

بكف الرزايا بات وهو موزع

هوت فوق أجساد رأت في هوّيها

حشاشتها من قلبها فهي وقّع

تبيت رزايا الطف تأسر قلبها

وتطلقه أجفانها وهي أدمع

فيا منجد الاسلام إن عز منجد

ويا مفزع الداعي إذا عزّ مفزع

حسامك من ضرب الرقاب مثلّمٌ

ورمحك من طعن الصدور مصدّع

فما خضت بحر الحتف إلا وقد طغى

بهام الأعادي موجه المتدفع

إذا حسرت سود المنايا لثامها

وللشمس وجه للغبار مقنع

ولم أدر يوم الطعن في كل موقف

قناتك ام طير القرى فيه اطمع

فجمعت شمل الدين وهو مفرق

وفرقت شمل الشرك وهو مجمع

إذا لم تفدهم خطبة سيفك اغتدى

خطيباً على هاماتهم وهو مصقع

له شعلة لو يطلب الأفق ضوءها

لأبصرت شمساً لم تغب حين تطلع

ولو كان سمعٌ للصوارم لاغتدى

مجيباً إلى داعي الوغى وهو مسرع

وقفتَ وقد حمّلتَ ما لو حملنَه

الجبال الرواسي أوشكت تتصدع

ورحّبتَ صدراً في امور لو أنها

سرت بين رحب ضاق وهو موسّع

بحيث الرماح السمهريات تلتوي

عليك وبيض المشرفيات تلمع

فلا عجب من هاشم حيث لم تكن

تذب بيوم الطف عنك وتدفع

إذا ضيعوا حتى الوصي ولم تقم

بنصرته فاليوم حقك أضيع

تشيّع ذكر الطف وقعتك التي

بقيت لديها عافراً لا تشيّع

لقد طحنت أضلاعك الخيل والقنا

بجنبك يوم الطعن فيهن ضلّع

١٥٥

فنحرك منحور وصدرك موطأ

ورأسك مشهور وجسمك مودع

إذا لم تضيّع حق عهد جفوننا

عليك فعهد الصبر منا مضيع

وإن جف صوب الدمع باتت قلوبنا

لهن عيون في مصابك تدمع

وإن أدركت بالطف وترك هاشم

فلا المجد منحط ولا الأنف أجدع

تروّي القنا الخطار وهي عواطش

وتشبع ذؤبان الفلا وهي جوّع

تدافع عن خدر التي قد تقنعت

بسوط العدى اذلا حماة تقنّع

أموقع يوم الطف أبقيت حرقة

لها كل آن بين جنبيّ موضع

سأبكيك دهري ما حييت وإن أمت

فلي مقلة عبرى وقلب مفجّع

بنفسي أوصال المكارم واصلت

سيوف العدى حتى انحنت تتقطع

مصارعها في كربلا غير أنها

لها كل آنٍ نصب عينيّ مصرع

* * *

١٥٦

الشيخ محمد سعيد السكافي

المتوفى 1319

يقلّ لدمعي دماً أن يصوبا

وللقلب مني أسىً أن يذوبا

لما قد ألمّ بآل النبي

فأجرى الدموع وأورى القلوبا

ولا مثل يومهم في الطفوف

فقد كان في الدهر يوماً عصيبا

غداة حسين وخيل العدى

تسدّ عليه الفضاء الرحيبا

دعته لينقاد سلس القياد

وتأبى حميته أن يجيبا

فهبّ لحربهم ثائراً

بفتيان حرب تشبّ الحروبا

فمن كل ليث وغىً تتقي

له في الوغى الاسد بأساً مهيبا

وأروع يغشى الوغى باسما

ووجه المنية يبدي قطوبا

فكم ثلمت للمواضي شبا

وكم حطمت للعوالي كعوبا

إلى أن ثوت في الثرى جثّما

تضوّع من نشرها الترب طيبا

وأضحى فريداً غريب الديار

بنفسي أفدي الفريد الغريبا

فراح يخوض غمار الحتوف

ونار حشاه تشبّ لهيبا

وأضحى بجنب العرى عاريا

كسته الأعاصير برداً قشيبا

وسيقت حرائره كالإماء

تجوب حزونا وتطوي سهوبا

ويا رب نادبة والحشى

يكاد بنار الجوى أن يذوبا

أريحانة المصطفى هل ترى

درى المصطفى بك شلواً سليبا

يعز على المصطفى أن يرى

على الترب خدك أمسى تريبا

١٥٧

يعزّ على المصطفى أن يرى

بقاني الدما لك شيباً خضيبا

يعزّ على المصطفى أن يرى

بأيدي العدى لك رحلاً نهيبا

ألانت قناتي يد الحادثا

ت وقد كان عود قناتي صليبا

فهل لليالي بهم أوبة

وهيهات ما قد مضى أن يؤوبا

* * *

الشيخ محمد سعيد الاسكافي ابن الشيخ محمود بن سعيد النجفي الشهير بالاسكافي شاعر مبدع وأديب له شهرته في عصره، ولد في النجف الأشرف 14 رجب 1250 ه‍ ترجم له صاحب الحصون المنيعة نقلاً عن ( كنز الأديب في كل فن عجيب ) تأليف الشيخ أحمد بن الحاج درويش علي الحائري البغدادي المتوفى 1322 فقال: الشيخ محمد سعيد ابن الشيخ محمود الشاعر، الجامع لاشتات المفاخر، كانت لابائه نيابة التولية والنظارة في الحضرة المنورة الحيدرية حينما كان الخازن لها هو المتولي للحكومة السنية في النجف برهة من الزمن وهو الملا يوسف، ثم تغيرت الأحوال بعد وفاة أبيه وابن عم أبيه فصرفت عنهم هذه التولية. توفي والده الشيخ محمود بعد ولادة المترجم له بسنتين وشبّ الصبي وترعرع وتدرج على الأدب والعلم باللغتين الفارسية والعربية ومن أوائل نظمه قوله:

وأخ وفيٌ لا أُطيق فراقه

حكم الزمان بأن أراه مفارقي

بان الأسى مذبان وابيضت أسى

لنواه سود نواظري ومفارقي

ومما يجدر ذكره أنه من اسرة تعرف ب‍ ( آل الحاج علي هادي ) ولم يكن من آل السكافي ( البيت النجفي المعروف ) وإنما يتصل بالقوم من طريق الخؤلة، ومما يتحدث به المعمرون من أسرته التي أشرنا اليها أن أصلهم يرجع إلى الملوك البويهيين الذين ملكوا العراق في غرة القرن الرابع وأنشأوا العمارات الضخمة في النجف وغيرها من العتبات المقدسة، وإذا صحّ ذلك فهم من أقدم البيوت

١٥٨

التي تقطن النجف زهاء الف عام، وتوجد عند بقيتهم صكوك رسمية ( فرامين ) يتوارثونها خلفاً عن سلف قد صودق عليها من قبل الشاهات الصفويين والسلاطين العثمانيين تدل على قدمهم في النجف ورسوخ قدمهم في خدمة الروضة العلوية.

وشاعرنا المترجم له نال هذه الملكة الأدبية بحكما لتربية وأثرها من خاله الذي نشأ في حجره وهو الشاعر المعروف الشيخ عباس بن الملا علي المتوفى سنة 1276 ومن ثمة تجد شاعرنا هذا يسلك في شعره طريقة خاله في الرقة والجزالة وحسن السبك وسرعة البديهة ومن غزله قوله متغزلاً ومتحمساً وقد كتبه بخطه الجيد فانه خطاط مليح الخط قال:

تذكرت عهداً بالحمى راق لي دهرا

فهاجت تباريح الغرام لي الذكرى

وأومض من وادي الغضا لمع بارق

فأذكى لنيران الغضا في الحشا جمرا

فيا حبذا تلك المغاني وإن نأت

وياما أُحيلى العيش فيها وإن مرّا

فيا طالما بالانس كانت أواهلا

وان هي أمست بعد موحشة قفرا

عشية عاطاني المدامة شادن

أغنّ غضيض الطرف ذو غرة غرا

حكى الغصن قداً والجأذر لفتة

وعين ألمها عيناً وبيض الضبا نحرا

فبتنا وقد مدّ الظلام رواقه

علينا وأرخى من جلابيبه سترا

وقد هدأت عنا العيون وهوّمت

سوى أن عين النجم ترمقنا شزرا

من العدل يا ظبي الصريمة أن ترى

وصالي حراماً في الهوى ودمي هدرا

لقد هنت قدراً في هواك وإنني

لأعلى الورى كعباً وأرفعهم قدرا

ويا رب لاح قط ما خامر الهوى

حشاه ولا فاضت له مقلة عبرى

يلوم فلم أرع المسامع عذله

كأن باذني عند تعنيفه وقرا

وهيهات يصغى للملامة وامق

معنّى الحشى مضنى أخو كبد حرى

وقائلة مالي أراك مشمراً

لجوب القفار البيد توسعها مسر

تجوب الفلا أو تركب البحر جاهداً

فلم تتئد أن تقطع البر والبحرا

١٥٩

فقلت لها كفيّ الملامة إنما

هلال الدجى لولا السرى لم يكن بدرا

سأفرى نحور البيد شرقاً ومغربا

وأقطع من أجوازها السهل والوعرا

لأمنية أحظى بها أو منية

فان لم تك الاولى فيا حبذا الاخرى

وللشاعر ديوان جمعه في حياته وروى لنا الأخ الخاقاني في ( شعراء الغرى ) طائفة من روائعه، أقول واختار شاعرنا لنفسه أن يسكن في إحدى المدارس الدينية ويعيش عيشة طلاب العلم الروحيين فقضى شطراً من حياته في مدرسة ( البقعة ) بكربلاء المقدسة حتى استأثرت بروحه الرحمة الالهية وحيداً لا عقب له ودون أن يتزوج وذلك ليلة الاربعاء سلخ ربيع الأول سنة 1319 ه‍ ودفن في صحن الإمام الحسين (ع) وكان عمره 69 عاماً.

ومن رثائه للحسين (ع):

معاهدهم بالسفح من أيمن الحمى

سقاهن وجافّ الغمام إذا همى

وقفت بها كيما أبثّ صبابتي

فكان لسان الدمع عنها مترجما

دهتها صروف الحادثات فلم تدعد

بها أثراً إلا طلولاً وأرسما

بلى إنها الأيام شتى صروفها

إذا ما رمت أصمت ولم تخط مرتمى

وليس كيوم الطف يوم فإنه

أسال من العين المدامع عندما

غداة استفزت آل حرب جموعها

لحرب ابن من قد جاء بالوحي معلما

فلست ترى إلا أصمّ مثقفاً

وأبيض إصليتا وأجرد أدهما

أضلّت عداها الرشد والهدي والحجى

وباعت هداها يوم باعته بالعمى

أتحسب أن يستسلم السبط ملقياً

اليها مقاليد الامور مسلّما

ليوث وغىً لم تتخذ يوم معرك

بها أجماً إلا الوشيج المقوّما

ولم ترض غير الهام غمداً إذا انتضت

لدى الروع مشحوذ الغرارين مخذما

ومذ عاد فرد الدهر فرداً ولم يجد

له منجداً إلا الحسام المصمما

رمى الجيش ثبت الجأش منه بفيلق

يردّ لُهام الجيش أغبر أقتما

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

تحوّل مسلم إلى دار هانئ :

واضطر مسلم إلى تغيير مقرّه وإحاطة نشاطه السياسي بكثير مِن السرّ والكتمان ؛ فقد شعر بالخطر الذي داهمه حينما قدم الطاغية إلى الكوفة ، فهو يعلم بخبث هذا الوغد وإنّه لا يرجو لله وقاراً ولا يتحرّج مِنْ اقتراف الإثم ، وقد أجمع أمره على مغادرة دار المختار ؛ لأنّه لمْ تكن عنده قوّة تحميه ولمْ يكن يأوي إلى ركن شديد ، فالتجأ إلى دار هانئ بن عروة ؛ فهو سيّد المصر وزعيم مراد ، وعنده مِن القوّة ما يضمن حماية الثورة والتغلّب على الأحداث.

فقد كان فيما يقول المؤرّخون : إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع ، وثمانية آلاف راجل ، فإذا أجابتها أحلافها مِنْ كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع(١) ، كما كانت له ألطاف وأياد بيضاء على اُسرته ممّا جعلتهم يكنّون له أعمق الودّ والإخلاص.

ومضى مسلم إلى دار هذا الزعيم العربي الكبير ، فرحّب به واستقبله بحفاوة بالغة. وتنصّ بعض المصادر(٢) إنّه قد ثقل على هانئ استجارة مسلم به ، وعظم عليه أنْ يتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للتجمعات ضد الدولة ؛ فإنّه بذلك يعرض نفسه للنقمة والبلاء ، إلاّ أنّه استجاب لمسلم على كره ؛ خضوعاً للعادات العربية التي لا تطرد اللاجئ إليها وإنْ عانت مِنْ ذلك أعظم المصاعب والمشاكل.

والذي نراه أنّه لا صحة لذلك ؛ فإنّ مسلماً لو شعر منه عدم الرضا والقبول لما ركن إليه ، وتحرّج كأشدّ ما يكون التحرّج من دخول داره ؛ وذلك لما توفّرت في مسلم مِن الطاقات التربوية الدينية ، وما عُرِفَ به مِن الشمم والإباء الذي يبعده كلّ البعد من

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٨٩.

(٢) الأخبار الطوال / ٢١٣.

٣٦١

سلوك أيّ طريق فيه حرج أو تكلّف على الناس. وبالإضافة إلى ذلك ، فإنّ مسلماً لو لمْ يحرز منه التجاوب التام والإيمان الخالص بدعوته لما التجأ إليه في تلك الفترة العصبية التي تحيط به.

إنّ مِن المؤكد أنّ هانياً لمْ يستجب لحماية مسلم والدفاع عنه على كره أو حياء ، وإنّما استجاب له عن رضى وإيمان يوحي مِنْ دينه وعقيدته.

وعلى أيّ حالٍ فقد استقر مسلم في دار هانئ واتّخذها مقرّاً للثورة ، وقد أحنف(١) به هانئ ودعا القبائل لمبايعته ، فبايعه في منزله ثمانية عشر ألفاً(٢) ، وقد عرف مسلم هانئاً بشؤون الثورة وأحاطه علماً بدُعاتها وأعضائها البارزين.

امتناع مسلم من اغتيال ابن زياد :

وذهب معظم المؤرّخين إلى أنّ شريك بن الأعور مرض مرضاً شديداً في بيت هانئ بن عروة أو في بيته(٣) ، فانتهى خبره إلى ابن زياد ، فأرسل إليه رسولاً يعلمه أنّه آت لعيادته فاغتنم شريك هذه الفرصة ، فقال لمسلم : إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله منه ، وهو صائر إليّ ليعودني ، فقم فادخل الخزانة حتّى إذا أطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله ، ثمّ صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه ؛ فإنّه لا ينازعك فيه أحد مِن الناس ، وإنْ رزقني الله العافية صرت إلى البصرة فكفيتك أمرها ، وبايع

__________________

(١) هكذا وردت مفردة (أحنف) ، ولعلها (احتفّ). (موقع معهد الإمامين الحسنين).

(٢) الأخبار الطوال / ٢١٤.

(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٥٣ ، والمشهور بين المؤرّخون أنّ شريكاً كان في بيت هانئ لا في بيته ، فقد كان مقيماً بالبصرة ، وجاء مع ابن زياد إلى الكوفة.

٣٦٢

لك أهلها(١) .

وكره هانئ أنْ يُقتل ابن زياد في داره ؛ تمسّكاً بالعادات العربية التي لا تبيح قتل الضيف والقاصد إليها في بيوتها(٢) ، فقال له : ما أحبّ أنْ يُقتل في داري.

فقال له شريك : ولِمَ؟! فوالله إنّ قتله لقربان إلى الله. ولم يعنَ شريك بهانئ ، والتفت إلى مسلم يحثّه على اغتيال ابن زياد قائلاً له : لا تقصّر في ذلك.

وبينما هم في الحديث وإذا بالضجّة على الباب ، فقد أقبل ابن مرجانة مع حاشيته ، فقام مسلم ودخل الخزانة مختفياً بها ، ودخل ابن زياد فجعل يسأل شريكاً عن مرضه وشريك يجيبه ، ولمّا استبطأ شريك خروج مسلم جعل يقول :

ما الانتظارُ بسلمى أنْ تحيّوها

حيّوا سُليمى وحيّوا مَنْ يُحيّها

كأس المنيّةِ بالتعجيل فاسقوها(٣)

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢١٤ ، مقاتل الطالبيِّين / ٩٨ ، تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٩ ، وذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ الذي دعا مسلماً لاغتيال ابن زياد هو هانئ بن عروة كما في الإمامة والسياسة ٢ / ٤.

(٢) يشير إلى ذلك ما جاء في مقاتل الطالبيِّين / ٩٨ ، أنّ هانئاً استقبح قتل ابن زياد في داره.

(٣) مقاتل الطالبيين / ٩٨ ، وفي مقتل أبي مخنف أنّه أنشد هذه الأبيات :

ما تنظرون بسلمى لا تُحيِّيوها

حيّوا سُليمى وحيّوا مَنْ يُحيِّها

هل شربةٌ عذبةٌ أُسقى على ظمأٍ

ولو تلفْتُ وكانت مُنيتي فيها

وإنْ تخشّيتَ مِنْ سلمى مراقبةً

فلستَ تأمن يوماً مِنْ دواهيها

٣٦٣

ورفع صوته ليُسمعَ مسلماً ، قائلاً :

لله أبوك! أسقنيها وإنْ كانت فيها نفسي(١) .

وغفل ابن زياد عن مراده وظنّ أنّه يهجر ، فقال لهانئ :

أيهجر؟

ـ نعم أصلح الله الأمير ، لمْ يزل هكذا منذ أصبح(٢) .

وفطن مهران مولى ابن زياد وكان ذكيّاً إلى ما دُبّرَ لسيّده ، فغمزه ونهض به سريعاً ، فقال له شريك : أيّها الأمير ، إنّي اُريد أنْ اُوصي إليك. فقال له ابن زياد : إنّي أعود إليك.

والتفت مهران وهو مذعور إلى ابن زياد فقال له : إنّه أراد قتلك. فبهر ابن زياد وقال : كيف مع إكرامي له؟! وفي بيت هانئ ويد أبي عنده!

ولمّا ولّى الطاغية خرج مسلم مِن الحجرة ، فالتفت إليه شريك وقلبه يذوب أسىً وحسراتٍ ، قال له : ما منعك مِنْ قتله؟!(٣) .

فقال مسلم : منعني منه خلّتان : إحداهما كراهية هانئ لقتله في

__________________

وفي الفتوح ٥ / ٧٢ ، والأخبار الطوال / ٢١٤ أنّه أنشد هذا البيت :

ما تنظرون بسلمى عند فرصتِها

فقد ونى ودّها واستوسقَ الصّرمُ

(١) مقاتل الطالبيِّين / ٩٩.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٠.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

٣٦٤

منزله ، والاُخرى : قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «إنّ الإيمان قيد الفتك ؛ لا يفتك مؤمن».

فقال له شريك : أما والله ، لو قتلته لاستقام لك أمرك واستوسق لك سلطانك(١) .

ولم يلبث شريك بعد الحادثة إلاّ ثلاثة أيّام حتّى توفي ، فصلّى عليه ابن زياد ودفنه بالثوية. ولمّا تبين له ما دبّره له شريك طفق يقول : والله ، لا أصلّي على جنازة عراقي ، ولولا أنْ قبر زياد فيهم لنبشت شريكاً(٢) .

أضواء على الموقف :

ويتساءل الكثيرون مِنْ الناس عن موقف مسلم ، فيلقون عليه اللوم والتقريع ويحمّلونه مسؤولية ما وقع مِن الأحداث ؛ فلو اغتال الطاغية لأنقذ المسلمين مِنْ شرٍّ عظيمٍ وما مُنِيَ المسلمون بتلك الأزمات الموجعة التي أغرقتهم في المحن والخطوب.

أمّا هذا النقد فليس موضوعيّاً ولا يحمل أي طابع مِن التوازن والتحقيق ؛ وذلك لعدم التقائه بسيرة مسلم ولا بواقع شخصيته ، فقد كان الرجل فذّاً مِنْ أفذاذ الإسلام في ورعه وتقواه وتحرّجه في الدين ، فقد تربى في بيت عمّه أمير المؤمنين (عليه السّلام) وحمل اتّجاهاته الفكرية ، واتّخذ سيرته المشرقة منهاجاً يسير على أضوائها

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢١٤ ، وفي تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٠ أنّ هانئاً قال لمسلم : لو قتلته لقتلتَ فاسقاً فاجراً ، كافراً غادراً. وذكر ابن نما أنّ امرأةَ هانئ تعلّقت بمسلم ، وأقسمت عليه بالله أنْ لا يقتل ابن زياد في دارها ، فلمّا علم هانئ قال : يا ويلها! قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فرّت منه وقعت فيه.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٢ ، الأغاني ٦ / ٥٩.

٣٦٥

في حياته. وقد بنى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) واقع حياته على الحقّ المحض الذي لا التواء فيه ، وتحرّج كأعظم ما يكون التحرّج في سلوكه. فلمْ يرتكب أيّ شيء شذّ عن هدي الإسلام وواقعه ، وهو القائل : قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز مِنْ تقوى الله. وعلى ضوء هذه السيرة بنى ابن عقيل حياته الفكرية ، وتكاد أنْ تكون هذه السيرة هي المنهاج البارز في سلوك العلويين.

يقول الدكتور محمّد طاهر دروش : كان للهاشميين مجال يحيون فيه ولا يعرفون سواه ، فهم منذ جاهليتهم للرياسة الدينية قد طُبعوا على ما توحي به مِن الإيمان والصراحة والصدق والعفّة والشرف والفضيلة والترفّع ، والخلائق المثالية والمزايا الأديبة والشمائل الدينية والآداب النّبوية(١) .

إنّ مسلماً لمْ يقدم على اغتيال عدوّه الماكر ؛ لأنّ «الإيمان قيد الفتك ؛ لا يفتك مؤمن».

وعلّق هبة الدين على هذه الكلمة بقوله : كلمة كبيرة المغزى ، بعيدة المدى ؛ فإنّ آل علي مِنْ قوّة تمسّكهم بالحقّ والصدق نبذوا الغدر والمكر حتّى لدى الضرورة ، واختاروا النصر الآجل بقوّة الحقّ على النصر العاجل بالخديعة. شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم وموروثة في أخلاقهم ، كأنّهم مخلوقون لإقامة حكم العدل والفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء ، وقد حفظ التاريخ لهم الكراسي في القلوب(٢) .

ويقول الشيخ أحمد فهمي : فهذا عبيد الله بن زياد ، وهو مَنْ هو في دهائه وشدّة مراسه أمكنت مسلماً الفرصة منه إذ كان بين يديه ، ورأسه قريب المنال منه

__________________

(١) الخطابة في صدر الإسلام ٢ / ١٣.

(٢) نهضة الحسين (عليه السّلام) / ٨٤.

٣٦٦

وكان في استطاعته قتله ، ولو أنّه فعل ذلك لحرم يزيد نفساً جبّارةً ويداً فتّاكةً وقوّةً لا يُستهان بها ، ولكنّ مسلماً متأثر بهدي ابن عمّه ، عاف هذا المسلك وصان نفسه مِنْ أنْ يقتله غيلةً ومكراً(١) .

وإنّ مهمّة مسلم التي عُهِدَ بها إليه هي أخذ البيعة مِن الناس والتعرّف على مجرّبات الأحداث ولمْ يُعهد إليه بأكثر مِنْ ذلك ، ولو قام باغتيال الطاغية لخرج عن حدود مسؤولياته. على أنّ الحكومة التي جاء مُمثّلاً لها إنّما هي حكومة دينية تعني قبل كلّ شيء بمبادئ الدين ، والالتزام بتطبيق سننه وأحكامه وليس مِن الإسلام في شيء القيام بعملية الاغتيال.

وقد كان أهل البيت (عليهم السّلام) يتحرّجون كأشدّ ما يكون التحرّج مِن السلوك في المنعطفات ، وكانوا ينعون على الاُمويِّين شذوذ أعمالهم التي لا تتّفق مع نواميس الدين.

وما قام الحُسين بنهضته الكبرى إلاّ لتصحيح الأوضاع الراهنة وإعادة المنهج الإسلامي إلى الناس. وماذا يقول مسلم للأخيار والمتحرّجين في دينهم لو قام بهذه العملية التي لا يقرّها الدين؟ وعلى أيّ حالٍ ، فقد استمسك مسلم بفضائل دينه وشرفه مِن اغتيال ابن زياد وكان تحت قبضته.

وإنّ مِنْ أهزل الأقوال وأوهنها ، القول بأنّ عدم فتكه به ناشئ عن ضعفه وخوره ، فإنّ هذا أمر لا يمكن أنْ يُصغى إليه ؛ فقد أثبت في مواقفه البطولية في الكوفة حينما غدر به أهلها ما لمْ يُشاهد التاريخ له نظيراً في جميع مراحله ، فقد صمد أمام ذلك الزحف الهائل مِن الجيوش فقابلها وحده ولمْ تظهر عليه أيّ بادرة مِن الخوف والوهن.

فقد قام بعزم ثابت يحصد الرؤوس ويحطّم الجيوش حتّى ضجّت الكوفة مِنْ كثرة مَنْ قُتِلَ منها ، فكيف يتّهم بطل هاشم وفخر عدنان بالوهن والضعف؟!

__________________

(١) ريحانة الرسول / ١٧٨.

٣٦٧

المخططات الرهيبة :

وأدّت المخطّطات الرهيبة التي صمّمها الطاغية إلى نجاحه في الميادين السياسية وتغلّبه على الأحداث ، فبعد أنْ كانت الكوفة تحت قبضة مسلم انقلبت عليه رأساً على عقب ، فزجّ بها الماكر الخبيث إلى حرب مسلم والقضاء عليه ، ومِنْ بين هذه المخططات :

١ ـ التجسس على مسلم :

وأوّل بادرة سلكها ابن زياد هي التجسس على مسلم ومعرفة جميع نشاطاته السياسية ، والوقوف على نقاط القوّة والضعف عنده ، وقد اختار للقيام بهذه المهمّة مولاه معقلاً ، وكان مِنْ صنائعه وتربّى في كنفه ودرس طباعه ووثق بإخلاصه وكان فطناً ذكياً ، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أنْ يتّصل بالشيعة ، ويعرّفهم أنّه مِنْ أهل الشام ، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميري.

وكانت الصبغة السائدة على الموالي هي الإخلاص لأهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ولذا أمره بالانتساب إلى الموالي حتّى ينفي الشك والرّيب عنه ، وقال له : إنّه إذا التقى بهم فليعرّفهم بأنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد بلغه قدوم رجل إلى الكوفة يدعو للإمام الحُسين وعنده مال يريد أنْ يلقاه ليوصله إليه حتّى يستعين به على حرب عدوه.

ومضى معقل في مهمّته فدخل الجامع وجعل يفحص ويسأل عمّن له معرفة بمسلم فأُرشد إلى مسلم بن عوسجة ، فانبرى إليه وهو يُظهر الإخلاص والولاء للعترة الطاهرة ، قائلاً له : إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال وتدلّني على صاحبك لأُبايعه ،

٣٦٨

وإنْ شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه.

فقال مسلم : لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تحبّ وينصر الله بك أهل نبيّه ، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي مِنْ قبل أنْ يتمّ مخافة هذا الطاغية وسطوته ، ثمّ أخذ منه البيعة وأخذ منه المواثيق المغلّظة على النصيحة وكتمان الأمر(١) .

وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي ؛ وكان قد عيّنه لقبض المال ليشتري به السلاح والكراع.

وكان معقل ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أوّل مَنْ يدخل على مسلم وآخر مَنْ يخرج منه ، وجميع البوادر والأحداث التي تصدر ينقلها بتحفّظ في المساء إلى ابن زياد(٢) حتى وقف على جميع أسرار الثورة.

مع أعضاء الثورة :

والذي يواجه أعضاء الثورة مِن المؤاخذات ما يلي :

أولاً : إنّ معقلاً كان مِنْ أهل الشام الذين عُرِفوا بالبغض والكراهية لأهل البيت (عليهم السّلام) والولاء لبني أُميّة والتفاني في حبّهم ، فما معنى الركون إليه؟

ثانياً : إنّ اللازم التريّب حينما أعطى المال لمسلم بن عوسجة وهو يبكي ، فما معنى بكاؤه أو تباكيه؟ أليس ذلك ممّا يوجب الرّيب في شأنه؟

ثالثاً : إنّه حينما اتّصل بهم كان أوّل داخل وآخر خارج ، فما معنى هذا الاستمرار والمكث الطويل في مقرّ القيادة العامّة؟ أليس ذلك ممّا يوجب الشك في أمره؟

لقد كان الأولى بالقوم التحرّز منه ، ولكنّ القوم قد خدعتهم المظاهر المزيقة. ومِن الحقّ ، أنّ هذا الجاسوس كان ماهراً في صناعته وخبيراً فيما انتدب إليه.

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٩.

(٢) الأخبار الطوال / ٢١٥.

٣٦٩

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ ابن زياد قد استفاد مِنْ عملية التجسس أموراً بالغة الخطورة.

فقد عرف العناصر الفعالة في الثورة ، وعرف مواطن الضعف فيها ، وغير ذلك مِن الاُمور التي ساعدته على التغلّب على الأحداث.

٢ ـ رشوة الزعماء والوجوه :

ووقف ابن زياد على نبض الكوفة وعرف كيف يستدرج أهلها ، فبادر إلى إرشاء الوجوه والزعماء ، فبذل لهم المال بسخاء فاستمال ودّهم واستولى على قلوبهم ، فصارت ألسنتهم تكيل له المدح والثناء ، وكانوا ساعده القوي في تشتيت شمل الناس وتفريق جموعهم عن مسلم.

لقد استعبدهم ابن مرجانة بما بذله مِن الأموال فأخلصوا له ومنحوه النصيحة ، وخانوا بعهودهم ومواثيقهم التي أعطوها لمسلم ، وقد أخبر بعض أهل الكوفة الإمام عن هذه الظاهرة حينما التقى به في أثناء الطريق ، فقال له : أمّا أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم ومُلئت غرائرهم ، يُستمال ودّهم ويُستخلص به نصيحتهم ، وأمّا سائر الناس فإنّ أفئدتهم تهوى إليك ، وسيوفهم غداً مشهورة عليك(١) .

لقد تناسى الكوفيّون كتبهم التي أرسلوها للإمام (عليه السّلام) وبيعتهم له على يد سفيره ؛ مِنْ أجل الأموال التي أغدقتها عليهم السلطة.

يقول بعض الكتّاب : إنّ الجماعات التي أقامها النكير على بني اُميّة وراسلت الحُسين ، وأكّدت له إخلاصها وذرفت أمام مسلم أعزّ دموعها ، هي الجماعات التي ابتاعها عبيد الله بن زياد بالدرهم والدينار ، وقد ابتاعها فيما بعد مصعب

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٣.

٣٧٠

ابن الزّبير فتخلّوا عن المختار وتركوه وحيداً يلقى حتفه ، ثمّ اشتراها الخليفة الاُموي عبد الملك بن مروان فتخلّوا عن مصعب وتركوه يلقى مصيره على يد عبد الملك بن مروان(١) .

الإحجام عن كبس دار هانئ :

وعلم الطاغية أنّ هانئاً هو العضو البارز في الثورة ، فقد أطلعه الجاسوس الخطير معقل على الدور الفعّال الذي يقوم به هانئ في دعم الثورة ومساندتها بجميع قدراته ، وعرّفه أنّ داره أصبحت المركز العام للشيعة والمقرّ الرئيسي لسفير الحُسين مسلم فلماذا لمْ يقمْ بكبسها وتطويقها بالجيش ليقضي بذلك على الثورة؟ وإنّما أحجم عن ذلك لعجزه عسكرياً ، وعدم مقدرته على فتح باب الحرب ؛ فإنّ دار هانئ مع الدور التي كانت محيطة بها ، كانت تضمّ أربعة آلاف مقاتل ممّن بايعوا مسلماً.

بالإضافة إلى أتباع هانئ ومكانته المرموقة في المصر ؛ فلهذا لمْ يستطع ابن زياد مِن القيام بذلك نظراً للمضاعفات السيئة.

رسل الغدر :

وأنفق ابن زياد لياليه ساهراً يطيل التفكير ويطيل البحث مع حاشيته في شأن هانئ ، فهو أعزّ مَنْ في المصر وأقوى شخصية يستطيع القيام بحماية الثورة ، ولا يدع مسلماً فريسة لأعدائه ، فإذا قضى عليه فقد استأصل الثورة مِنْ جذورها وقد أعرضوا عن إلقاء القبض عليه

__________________

(١) المختار الثقفي مرآة العصر الاُموي / ٦٩ ـ ٧٠.

٣٧١

وتطويق داره ، فإنّ ذلك ليس بالأمر الممكن ، وقد اتّفق رأيهم على خديعته بإرسال وفد إليه مِنْ قبل السلطة يعرض عليه رغبة ابن زياد في زيارته ، فإذا وقع تحت قبضته فقد تمّ كلّ شيء ، ويكون تشتيت أتباعه ليس بالأمر العسير ، وشكّلوا وفداً لدعوته ، وهم :

١ ـ حسّان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة.

٢ ـ محمّد بن الأشعث زعيم كندة.

٣ ـ عمرو بن الحجّاج.

ولمْ يكن لحسّان بن أسماء علم بالمؤامرة التي دبّرت ضد هانئ ، وإنّما كان يعلم بها محمّد بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج ، وقد أمرهم ابن زياد أنْ يحملوا له عواطفه ورغبته الملحّة في زيارته ، ويعملوا جاهدين على إقناعه.

اعتقال هانئ :

وأسرع الوفد إلى هانئ عشيّة فوجدوه جالساً على باب داره ، فسلّموا عليه وقالوا له : ما يمنعك مِنْ لقاء الأمير فإنّه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنّه شاكٍ لعدته؟

فقال لهم : الشكوى تمنعني.

وأبطلوا هذا الزعم ، وقالوا له : إنّه قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشيّة على باب دارك وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان ، أقسمنا عليك لما ركبت معنا. وأخذوا يلحّون عليه في زيارته فاستجاب لهم على كرهٍ ، فدعا بثيابه

٣٧٢

فلبسها ودعا ببغلة فركبها ، فلمّا كان قريباً مِن القصر أحسّت نفسه بالشرّ فعزم على الانصراف ، وقال لحسّان بن أسماء : يابن الأخ إنّي والله لخائف مِنْ هذا الرجل فما ترى؟

فقال حسّان : يا عمّ ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً ، ولِمَ تجعل على نفسك سبيلاً؟ وأخذ القوم يلحّون عليه حتّى أدخلوه على ابن مرجانة فاستقبله بعنف وشراسة ، وقال : أتتك بخائن رجلاه.

وكان شريح إلى جانبه ، فقال له :

اُريدُ حياتَهُ(١) ويريدُ قتلي

عذيركَ مِنْ خليلِكَ مِنْ مُرادِ

وذعر هانئ ، فقال له : ما ذاك أيّها الأمير؟ فصاح به الطاغية بعنف : أيهٍ يا هانئ! ما هذه الاُمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟

فأنكر ذلك هانئ ، وقال : ما فعلت ذلك وما مسلم عندي.

ـ بلى قد فعلت.

وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما ، فرأى ابن زياد أنْ يحسم النزاع فدعا معقلاً الذي جعله عيناً عليهم ، فلمّا مثُلَ عنده قال لهانئ : أتعرف هذا؟

ـ نعم.

__________________

(١) يروى (حباءه) من العطاء.

٣٧٣

وأسقط ما في يدي هانئ وأطرق برأسه إلى الأرض ، ولكنْ سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف فانتفض كالأسد ، وقال لابن مرجانة : قد كان الذي بلغك ولن أضيع يدك عندي(١) ، تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم فإنّه جاء حقّ مَنْ هو أحقّ مِنْ حقّك وحقّ صاحبك(٢) .

فثار ابن زياد وصاح به : والله ، لا تفارقني حتّى تأتيني به.

وسخر منه هانئ ، وأنكر عليه قائلاُ له مقالة الرجل الشريف : لا آتيك بضيفي أبداً.

ولمّا طال الجدال بينهما انبرى إلى هانئ مسلم بن عمر الباهلي وهو مِنْ خدّام السلطة ، ولمْ يكن رجل في المجلس غريب غيره ، فطلب مِن ابن زياد أنْ يختلي بهانئ ليقنعه فأذن له ، فقام وخلا به ناحية بحيث يراهما ابن زياد ويسمع صوتهما إذا علا.

وحاول الباهلي إقناع هانئ فحذّره مِنْ نقمة السلطان ، وإنّ السلطة لا تنوي السوء بمسلم قائلاً : يا هانئ ، أنشدك الله أنْ تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك ، إنّ هذا الرجل ـ يعني مسلماً ـ ابن عمّ القوم وليسوا بقاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليه فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ؛ إنّما تدفعه إلى السلطان.

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٧ ، سمط النجوم العوالي ٣ / ٦١ تايخ الإسلام ـ الذهبي ٢ / ٢٦٩ وروي كلامه بصورة أخرى وهي تخالف ما رواه مشهور المؤرّخين.

٣٧٤

ولمْ يخفَ على هانئ هذا المنطق الرخيص ، فهو يعلم أنّ السلطة إذا ظفرت بمسلم فسوف تنكّل به ولا تدعه حيّاً ، وإنّ ذلك يعود عليه بالعار والخزي إنْ سلّم ضيفه وافد آل محمّد فريسة لهم قائلاً : بلى والله ، عليّ في ذلك أعظم العار أنْ يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا حي صحيح الساعدين كثير الأعوان. والله ، لو لمْ أكنْ إلاّ وحدي لما سلّمته أبداً.

وحفل هذا الكلام بمنطق الأحرار الذين يهبون حياتهم للمثُل العُليا ولا يخضعون لما يخلّ بشرفهم.

ولمّا يئس الباهلي مِنْ إقناع هانئ انطلق نحو ابن زياد فقال له : أيّها الأمير ، قد أبى أنْ يسلّم مسلماً أو يُقتل(١) .

وصاح الطاغية بهانئ :

أتأتيني به أو لأضربنَّ عنقك. فلم يعبأ به هانئ ، وقال : إذن تكثر البارقة حولك. فثار الطاغية وانتفخت أوداجه ، وقال : وا لهفا عليك! أبا البارقة تخوّفني؟!(٢)

وصاح بغلامه مهران وقال : خذه ، فأخذ بضفيرتي هانئ ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه وضربه ضرباً عنيفاً حتّى كسر أنفه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتّى تحطّم القضيب وسالت الدماء على ثيابه ، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه ، فصاح ابن زياد :

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٨٣.

(٢) البارقة : السيوف التي يلمع بريقها.

٣٧٥

أحروري أحللت بنفسك وحلّ لنا قتلك؟

وأمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(١) ، واندفع حسّان بن أسماء بن خارجة وكان ممّن أمّن هانئاً وجاء به إلى ابن زياد ، وقد خاف مِنْ سطوة عشيرته ونقمتها عليه ، فأنكر عليه ما فعله بهانئ قائلاً : أرسله يا غادر! أمرتنا أنْ نجيئك بالرجل فلمّا أتيناك به هشمت وجهه وسيلت دماءه وزعمت أنّك تقتله؟!

وغضب منه ابن زياد فأوعز إلى شرطته بتأديبه ، فلهز وتعتع ثمّ ترك. وأمّا ابن الأشعث المتملّق الحقير فجعل يحرّك رأسه ، ويقول ليسمع الطاغية : قد رضينا بما رأى الأمير لنا كان أم علينا ، إنّما الأمير مؤدب(٢) .

ولا يهمّ ابن الأشعث ما اقترفه الطاغية مِنْ جريمة في سبيل تأمين مصالحه ورغباته.

انتفاضة مذحج :

وانتهى خبر هانئ إلى اُسرته فاندفعت بتثاقل كالحشرات ، فقاد جموعها الانتهازي الجبان عمرو بن الحجّاج الذي لا عهد له بالشرف والمروءة ، فأقبل ومعه مذحج وهو يرفع عقيرته لتسمع السلطة مقالتهم قائلاً : أنا عمرو بن الحجّاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لمْ نخلع طاعة ولمْ نفارق جماعة.

وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة وليس فيه اندفاع لإنقاذ هانئ ؛ ولذا لمْ يحفل به ابن زياد ، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له : ادخل على

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٣٧٦

صاحبهم فانظر إليه ، ثمّ اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ. وخرج شريح فدخل على هانئ فلمّا بصر به صاح مستجيراً :

يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟! أين أهل الدين ، أين أهل المصر؟! أيُحذرونني عدوّهم(١) . وكان قد سمع الأصوات وضجيج الناس ، فالتفت إلى شريح(٢) قائلاً :

يا شريح ، إنّي لأظنها أصوات مذحج وشيعتي مِن المسلمين ، إنّه إنْ دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني(٣) .

وخرج شريح وكان عليه عين لابن زياد ؛ مخافة أنْ يدلي بشيء على خلاف رغبات السلطة فيفسد عليها أمرها ، فقال لهم :

قد نظرت إلى صاحبكم وإنه حيّ لمْ يُقتل. وبادر عمرو بن الحجّاج فقال : إذا لمْ يُقتل فالحمد لله(٤) . وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص مِن السجن وهم يصحبون العار والخزي ، وظلّوا مثالاً للخيانة والجبن على امتداد التاريخ.

وفيما أحسب أنّ هزيمة مذحج بهذه السرعة ، وعدم تأكدها مِنْ سلامة زعيمها جاءت نتيجة اتّفاق سرّيٍّ بين زعماء مذحج وبين ابن زياد للقضاء على

__________________

(١) في رواية الطبري : (أيخلّوني وعدوهم).

(٢) شريح القاضي ينتمي لإحدى بطون كندة ، جاء ذلك في الكامل للمبرد / ٢١.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١ ، وجاء في تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥١ أنّ هانئاً قال لشريح : يا شريح اتّقِ الله ، فإنّه قاتلي.

(٤) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١.

٣٧٧

هانئ ؛ ولولا ذلك لنفرت مذحج حينما أخرج هانئ مِن السجن في وضح النهار ونفّذ فيه حكم الإعدام في سوق الحذّائين.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد خلدت مذحج للذلّ ورضيت بالهوان ، وانبرى شاعر مجهول أخفى اسمه ؛ حذراً مِنْ نقمة الاُمويِّين وبطشهم فرثى هانئاً وندّد باُسرته ؛ محاولاً بذلك أنْ يثير في نفوسهم روح العصبية القبلية ليثأروا لقتيلهم. يقول :

فإنْ كنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظري

إلى هانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قدْ هشّمَ السيفُ وجهَهُ

وآخر يهوي مِنْ طمارِ قتيلِ(١)

أصابهما أمرُ الأميرِ فأصبحا

أحاديثَ مَنْ يسري بكلّ سبيلِ(٢)

ترى جسداً قدْ غيّرَ الموتُ لونَهُ

ونضْحَ دمٍ قدْ سالَ كلّ مسيلِ

فتىً كان أحيا مِنْ فتاةٍ حييّةٍ

وأقطعَ مِن ذي شفرتينِ صقيلِ

أيركبُ أسماء الهماليج آمناً

وقد طلبَتْهُ مذحجٌ بذحولِ(٣)

__________________

(١) الطمار : اسم لغرفة شُيّدت فوق قصر الإمارة ، وفي أعلاها قُتِلَ مسلمُ بن عقيل ورُمِيَتْ جثتُه إلى الأرض. وما ذكره ابن أبي الحديد أنّ الطمار هو الجدار فليس بصحيح.

(٢) وفي رواية (أصابهما بغي الأمير).

(٣) الهماليج : جمع هملاج ، وهو نوع من البرذون. والذحول : جمع ذحل الثأر.

٣٧٨

تطوفُ حوالَيْهِ (مرادٌ) وكلّهم

على رقيةٍ مِنْ سائلٍ ومسولِ

فإنْ أنتمُ لمْ تثأروا بأخيكمُ

فكونوا بغايا اُرْضِيَتْ بقليلِ(١)

وعلّق الدكتور يوسف خليف على هذه الأبيات ، يقول : واللحن هنا تأثر عنيف ، والتعبير فيه قوّي صريح ، بل تصل فيه الصراحة إلى درجة الجرأة ، وشجّع الشاعر على هذه الجرأة أنّه كان في مأمنٍ مِنْ بطش الاُمويِّين ؛ لأنّه استطاع أنْ يُخفي اسمه حتّى أصبح شخصاً مختلفاً فيه عند بعض الرواة ومجهولاً تماماً عند بعضهم.

وهو في هذا اللحن لا يتحدّث عن الحُسين ولا عن السياسة ، وإنّما كلّ حرصه أنْ يُثير روح العصبية القبلية في نفوس اليمنية ؛ ليثأروا لقتيلهم ، وهو مِنْ أجل هذا أغفل متعمّداً مِنْ غير شكّ ذكر محمّد بن الأشعث اليمني ، ولمْ يذكر إلاّ أسماء بن خارجة الفزاري على أنّه هو المسؤول عن دمِ هانئ ، مع أنّ كليهما كان رسول ابن زياد إليه ، ولكنّ الشاعر حرص على أنْ يغفل ذكر ابن الأشعث ؛ حتّى لا يثير فتنة أو انقساماً بين اليمنية وهو في أشدّ الحاجة إلى أنْ يوحّد صفوفهم حتّى يُدركوا ثأرهم.

واعتمد الشاعر في قصيدته على هذه الصورة المفزعة التي رسمها للقتيلين اللذين هشّم السيف وجه أحدهما واُلقي بالآخر مِنْ أعلى القصر ، واللذين أصبحا أحاديث للناس في كلّ مكان.

وهو حريص في هذه الصورة على أنْ يعرض للناس منظرين رهيبين يثيران في نفوسهم كلّ عواطف الحزن والسخط والانتقام. منظر هذين الجسدين وقد

__________________

(١) في مروج الذهب ٢ / ٧٠ إنّها لشاعر مجهول ، وكذلك في الأغاني ١٣ / ٣٥ ، وفي جمهرة الأنساب / ٢٢٨ إنّها للأخطل ، وفي مقاتل الطالبيِّين / ١٠٨ إنّها لعبد الله بن الزّبير الأسدي ، وفي الطبري إنّها للفرزدق ، وفي الأخبار الطوال / ٢١٩ إنّها لعبد الرحمن بن الزّبير الأسدي ، وفي لسان العرب ٦ / ١٧٤ إنّها لسليم بن سلام الحنفي.

٣٧٩

غيّر الموتُ مِنْ لونهما ، وهذا الدم الذي ينضخ منهما ويسيل كلّ مسيل ، ثمّ منظر أسماء بن خارجة وهو يحتال في طُرقات الكوفة على دوابّه التي تتبختر به آمنا مطمئناً. ويسأل إلى متى سيظل هذا الرجل في أمنه وخيلائه ومِنْ حوله قبيلة القتيل تطالبه بالثار؟ فلا يجد أشدّ مِنْ طعنها في كرامتها ، فيقول لهم : إنْ لمْ تثأروا بقتيلكم فكونوا بغايا ببغي شرفهنَّ بثمنٍ بخس دراهم معدودات(١) .

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلمْ تفِ له حقوقه ؛ فتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه مِنْ دون أنْ تحرّك ساكناً ، في حين أنّها كانت لها السيادة والسيطرة على الكوفة كما يرى ذلك فلهوزن.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد كان لاعتقال هانئ الأثر الكبير في ذيوع الفزع والخوف في نفوس الكوفيين ممّا أدّى إلى تفرّق الناس عن مسلم وإخفاق الثورة.

ثورة مسلم :

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد ؛ لعلمه بأنّه سيلقى نفس المصير الذي لاقاه هانئاً ، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أنْ ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور ، فاجتمع إليه أربعة آلاف(٢)

__________________

(١) حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني للهجرة / ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧١ ، المناقب لابن شهر آشوب ٥ / ١٢٦ مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470