حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 316881 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

النوابغ امثال الملك كورش وداريوش والاسكندر المقدوني ، فكما لا تفسير لاعمال لو نسبوها الى الله تعالى والاوامر السماوية الا ما مضى فكذا لا تفسير لاعمال الانبياء الا ما ذكروه.

نحن لا نريد هنا البحث عما يتعلق بما وراء الطبيعة ، كما لا نريد ان نقول لهؤلاء الباحثين : ان لكل علم ان يبحث فيما يدخل في اطاره من مسائله الخاصة ، ولا يحق للعلوم المادية التي تختص بشؤون المادة وخواص آثارها ان تبحث عما يتعلق بما وراء الطبيعة نفيا او اثباتا.

لا نريد هذا ، ولكننا نقول : ان التفسير المذكور للوحي والنبوة يجب أن يعرض على الآيات القرآنية التي هي سند نبوة النبي الكريم ، لنرى هل يلتقيان معا أم لا يلتقيان؟

القرآن الكريم صريح في عكس التفسير السابق للوحي والنبوة ولا يلتقي معه في شيء من آياته. ولا بأس ان نقارن هنا مقاطع ذلك التفسير الموهوم مع ما جاء في القرآن ، فنقول :

١ ـ كلام الله تعالى :

يقول التفسير السابق : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يسمي افكاره الطاهرة التي كانت تنقدح في ذهنه بـ « كلام الله ».

١٠١

ومعنى هذا التفسير ان تلك الافكار كبقية افكار النبي كانت نتيجة لما تدور في خلده ، ولكنها لما كانت طاهرة ومقدسة نسبت الى الله تعالى ، فيه منسوبة الى النبي بالنسبة الطبيعية ومنسوبة الى الله بالنسبة التشريفية.

ولكن القرآن الكريم يصرح في آيات التحدي بنفي كونه من كلام النبي او اي انسان اخر ، فيقول :( ام يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين ) (١) .

ويقول :( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين ) (٢) .

ويقول :( قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) (٣) .

ويقول :( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا

ــــــــــــــــــ

(١) سورة يونس : ٣٨.

(٢) سورة هود : ١٣.

(٣) سورة الاسراء : ٨٨.

١٠٢

بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين ) (١) .

ويقول :( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً ) (٢) .

من الواضح البديهي ان هذه التصريحات لا تناسب كون القرآن من كلام الرسول وقد نسب الى الله تشريفا ، بل تثبت قطعا انه من كلام الله تعالى لا غير.

وبالاضافة الى هذا يسرد القرآن في مئات من اياته ما ظهر من المعاجز وخوارق العادة على يد الانبياءعليهم‌السلام اثبتوا بواسطتها نبوتهم واستدلوا بها على رسالتهم. فلو كانت النبوة ذلك النداء الوجداني والوحي تلك الافكار الطاهرة ـ كما يقول التفسير المذكور ـ لما احتاج القرآن الى اقامة الحجة تأكيدها على نبوة الانبياء بسرد قصص المعاجز والكرامات.

وقد اوّل بعض الكتاب هذه المعاجز الصريحة بشكل مضحك ، الا ان كل واحد من القراء عندما يراجع ما قالوه في تأويلاتهم يرى ان مدلول الآيات القرآنية لا يتفق مع ما ذهبوا اليه من الآراء الخاطئة.

لا نريد في هذا البحث اثبات امكان تحقق المعجزة

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ٢٣.

(٢) سورة النساء : ٨٢.

١٠٣

وخوارق العادة ، او التأكيد على صحة القصص القرآنية. بل نحاول القول بأن القرآن اثبت صريحا للانبياء السابقين كصالح وابراهيم وموسى وعيسىعليهم‌السلام معاجز خاصة ، ولا يمكن حمل هذه القصص الا على خوارق للعادة. ولا نحتاج ـ كما قلنا ـ الى المعاجز في اثبات النداء الوجداني والفكر الطاهر.

٢ ـ جبرائيل والروح الامين :

يسمى التفسير السابق روح الرسول الطاهرة التي كان دأبها طلب الخير والاصلاح الاجتماعي بـ « الروح الامين » ، ويسمى ما تلقيه الروح الزكية في روعه المبارك بـ « الوحي ».

ولكن القرآن الكريم لا يؤيد ما ذهب اليه هؤلاء ، لانه يصرح بأن وسيط الوحي يسمى بـ « جبرائيل » ، وعلى التفسير المذكور لا موجب لهذه التسمية بتاتاً. يقول تعالى :( قل من كان عدواً لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله ) (١) .

نزلت هذه الآية في اليهود الذين سألوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمن يأتيه بالوحي ، فأجابهم انه جبرائيل الملك ، قالوا : ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لاتبعناك(٢) .

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ٩٧.

(٢) الدر المنثور ١ / ٩٠ ، ونور الثقلين ١ / ٨٧ ـ ٨٩ ، وغيرهما.

١٠٤

يرد الله تعالى في هذه الآية على اليهود ، ويؤكد بأن جبرائيل انما جاء بالوحي باذن منه عز شأنه ، فيثبت بأن القرآن من كلام الله تعالى وليس من كلام جبرائيل.

وواضح بأن اليهود كانوا اعداءاً لملك سماوي كان يأتي بالوحي من السماء ، وكان ذلك الملك غير موسى بن عمران ومحمد بن عبد الله صلى الله عليهما ، كما انه لم يكن روحيهما الطاهرة.

والقرآن نفسه الذي صرح في الآية المذكورة ان وسيط الوحي هو جبرائيل ، صرح في آية اخرى انه الروح الامين فقال :( نزل به الروح الامين على قلبك ) (١) .

ويقول تعالى في موضع اخر بصدد التعريف بوسيط الوحي :( انه لقول رسول كريم *ذي قوة عند ذي العرش مكين *مطاع ثم امين *وما صاحبكم بمجنون *ولقد رآه بالافق المبين ) (٢) .

وهذه الآيات تدل دلالة واضحة على ان جبرائيل من الملائكة المقربين عند الله تعالى ، وهو ذو قوة عظيمة ومنزلة رفيعة وهو المطاع الامين.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الشعراء : ١٩٣.

(٢) سورة التكوير : ١٩ ـ ٢٣.

١٠٥

ويصف الملائكة المقربين في موضع آخر بقوله :( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ) (١) .

تدل الآية على ان الملائكة موجودات لهم ارادتهم ومداركهم واستقلالهم ، لان الاوصاف المذكورة فيها ـ كالايمان بالله والتسبيح له واستغفار للمؤمنين ـ لا تتوفر الا فيمن يتم له الاستقلال الكامل والمدارك التامة والارادة الخاصة.

ويقول تعالى في الملائكة المقربين ايضا :( لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم اليه جميعاً ) الى ان يقول :( واما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً اليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً ) (٢) .

ان المسيح والملائكة المقربين لا يعصون الله طرفة عين ، ولكن مع ذلك هددهم تعالى بالعذاب الاليم لو تلبسوا بالمعصية ، والتهديد من عذاب يوم القيامة المتفرع على ترك نوع من التكليف لا يصح الا بالاستقلال واردة.

ويتضح من الآيات المذكورة ان الروح الامين ـ الذي

ــــــــــــــــــ

(١) سورة المؤمن : ٧.

(٢) سورة النساء : ١٧٣.

١٠٦

يسمى جبرائيل ايضا وهو الذي يأتي بالوحي الالهي ـ له استقلاله وارادته ومداركه ، بل يستفاد من خلال آيات سورة التكوير « مطاع ثم امين » انه يأمر وينهي في الملأ الاعلى وتطيعه الملائكة المقربون ، بل نرى في بعض الاحيان ان الوحي ربما يأتي على يد ملائكة يأتمرون بأوامره ، كما تشير الى ذلك الآيات الواردة في سورة عبس( كلا انها تذكرة *فمن شاء ذكره *في صحف مكرمة *مرفوعة مطهرة *بأيدي سفرة *كرام بررة ) (١) .

٣ ـ الملائكة والشياطين :

يؤكد التفسير السابق ان « الملائكة » اسم للقوى الطبيعية الداعية الى الخير والسعادة ، « والشياطين » اسم للقوى الطبيعية الداعية الى الشر والشقاء.

ولكن المستفاد من القرآن الكريم خلافه ، فانه يعتبر الملائكة والشياطين مخلوقات لا تدرك بالحواس الظاهرية الا ان لها وجودا خارجيا وهي ذات اداراك واردة مستقلة.

اما الملائكة فقد نرى التصريح في الآيات الماضية بأنها موجودات مستقلة مؤمنة تصدر منها اعمال تحتاج الى الارادة والادراك ، وفي القرآن كثير من امثال هذه الآيات لا يسع البحث سردها كلها

ــــــــــــــــــ

(١) سورة عبس : ١١ ـ ١٦.

١٠٧

واما الشياطين فقصة ابليس وعدم سجوده لادمعليه‌السلام والمحاورات التي جرت بينه وبين الله تعالى مذكورة في عدة مواضع من القرآن ، فقد قال بعد ان اخرج من صفوف الملائكة( لاغوينهم اجمعين *الا عبادك منهم المخلصين ) ، فقال تعالى له :( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين ) (١) .

وغير خفي ان الجزاء والعقاب لا يصح الا للمريد الذي يدرك الحسن والقبح ، ومعنى هذا ان الشياطين لها كامل الادراك والارادة.

وفي آية اخرى نرى ان الله تعالى وصف ابليس بالظن الذي هو من مصاديق الادراك ، فقال :( ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه الا فريقا من المؤمنين ) (٢) .

ويصرح في آية اخرى بأن ابليس يدفع اللوم عن نفسه ، وهذا لا يكون الا ممن يدرك ، وله الارادة التامة ، فيقول تعالى :( وقال الشيطان لما قضي الامر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا انفسكم ) (٣) .

ــــــــــــــــــ

(١) سورة ص : ٨٣ ـ ٨٥.

(٢) سورة سبأ : ٢٠.

(٣) سورة ابراهيم : ٢٢.

١٠٨

ان هذه الآيات الكريمة وآيات اخرى بمضمونها تثبت للشيطان صفات لاتتم الا مع الادراك والاستقلال في الارادة ، وهي لا تتفق مع القوى الطبيعية التي لا تتوفر فيها هذه الصفات البتة.

الجن :

وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم حول الجن اكثر مما ورد حول الملائكة والشياطين ، ففي آية يصف الله تعالى فيها اولئك الذين لم يستمعوا الى دعوة آبائهم وامهاتهم ونسبوا الدين الى الاساطير يقول :( اولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس انهم كانوا خاسرين ) (١) .

ويقول تعالى في موضع اخر :( واذ صرفنا اليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضي ولوا الى قومهم منذرين *قالوا يا قومنا انا سمعنا كتاباً انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي الى الحق والى طريق مستقيم *يا قومنا اجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم *ومن لا يجب داعي الله

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاحقاف : ١٨.

١٠٩

فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه اولياء اولئك في ضلال مبين ) (١) .

تدل هذه القصة على ان الجن كالانس لهم وجود مستقل وارادة وتكليف ونجد ايضا في الآيات التي تصف احوال القيامة ما يدل على ما نستفيده من هذه الآيات الكريمة.

٤ ـ صرخة الضمير :

يستفاد من التفسير المذكور سابقا ان النبوة والرسالة هي صرخة الضمير للاصلاح الاجتماعي العام الشامل ، والسعي في رفع المساوىء الاجتماعية وابدالها بما يضمن للمجتمع السعادة والرفاه.

ولكن المستفاد من القرآن الكريم خلاف هذا المعنى ، فانه يقول :( ونفس وما سواها *فألهما فجورها وتقواها ) (٢) .

ومعنى هذا ان كل انسان يعرف اعماله الحسنة والسيئة بما اوتي من صفاء الضمير فيدرك به صرخة الوجدان الاصلاحية ، الا ان هناك من يهتم بهذه الصرخة فيصبح من السعداء ومن لا يعتني بها فيعود من الاشقياء ، كما قال تعالى :

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاحقاف : ٢٩ ـ ٣٢.

(٢) سورة الشمس : ٧ ـ ٨.

١١٠

( قد افلح من زكاها *وقد خاب من دساها ) (١) .

فلو كانت النبوة والرسالة اثراً من تلك الصرخة لكانت عامة في الناس مودعة في كل الضمائر ، وكان جميع الناس انبياء رسلاً ، مع العلم انا نجد ان الله تعالى يختص بعض عباده بهما فيقول :( واذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتي رسل الله الله اعلم حيث يجعل رسالته ) (٢) .

تدل الآية الكريمة على ان الكفار كانوا يشترطون لايمانهم عمومية الرسالة ليكون لهم حصة منها ، فيرد عز شأنه عليهم مثبتاً ان الرسالة خاصة بفئة مختارة.

٥ ـ حول التفسير الثاني :

لقد كررنا القول اننا لا نحاول في هذه البحوث المختصرة اثبات ان الدين الإسلامي حق ودعاوى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله صدق ، بل نريد ان نذكر ان تفسير اولئك الباحثين الوحي والنبوة والرسالة بما فسروه به خاطىء لا يطابق ما جاء في القرآن العظيم ، فنقول بصدد التفسير الثاني :

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الشمس : ٩ ـ ١٠.

(٢) سورة الانعام : ١٢٤.

١١١

يحاول التفسير الثاني ان يفسر الاصول الاعتقادية التي اتى بها الرسول بأنها مجموعة من العقائد الخرافية التي القيت على الناس بشكل دين سماوي ، ذلك لان الناس كانوا في جهل وامية ولو تتوفر فيهم الثقافة والعلم فلم يمكن اصلاحهم الا من هذا الطريق. كانت هذه التعاليم الخرافية من صالح الناس ، وكان من الضروري ان يلقى عليهم بهذا اللون العقائدي الذي يحفه الخوف من الله ورجاء الجزاء في العالم الاخر ووجود الجنة والنار والحساب والكتاب ، ولولا هذا اللون المزيج بالخرافة لما امكن اصلاحهم بما ينجيهم من واقعهم الاليم.

نقول : اننا لا نعلم الشيء الكثير عن حياة الانبياء الماضينعليهم‌السلام ، الا ان حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مدروسة بصورة واضحة جلية ، ويتبين من خلالها للمراجع الدقيق انه عليه الصلاة والسلام كان شديد الايمان بدعوته وكان يطمئن الى صحتها كامل الاطمئنان. فلو كانت العقائد الإسلامية خرافية ـ كما يزعمون ـ لم يكن هناك حاجة الى مثل هذه الادلة الكثيرة التي يقيمها القرآن الكريم عليها ، كأدلة اثبات الصانع وتوحيده تعالى وبقية الصفات الالهية وسائر العقائد العائدة الى موضوع النبوة والمعاد وغيرهما.

٦ ـ ماذا يقول القرآن في الوحي والنبوة :

ملخص ما نستفيده من الآيات الكريمة انها تعتبر القرآن

١١٢

كتاباً سماوياً ألقي الى الرسول من طريق الوحي ، والوحي هو كلام سماوي ( غير مادي ) ليس للحواس الظاهرية والعقل ان تصل اليه ، بل ربما يوجد في بعض من يختاره الله تعالى ما يدرك بواسطة قوى ربانية الاوامر الالهية والدستور الغيبي ( غير المحسوس بالعقل والحواس الاخرى ) ، وهذه الحالة هي من حالات النبوة وبها يتلقى النبي الشريعة الالهية.

ولزيادة توضيح هذا الموضوع يجب ان ندرس النقاط التالية :

أ ـ الهداية العامة وهداية الإنسان :

لقد ذكرنا في مباحث سابقة بصورة موسعة ان لكل موجود في هذا الكون ـ من الاحياء والجمادات وغيرهما ـ هدفاً يتوجه الى تحقيقه منذ اول خلقته ، وقد اودع فيه ما يناسب تحقيق هدفه من الالات والمعدات ، ولا بد ان يجتهد حتى يصل الى ذلك الهدف ويناله ، قال تعالى :( ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) (١) وقال :( الذي خلق فسوى *والذي قدر فهدى ) (٢) .

وقد ذكرنا ايضاً ان هذا القانون الكلي ( قانون الهداية

ــــــــــــــــــ

(١) سورة طه : ٥٠.

(٢) سورة الاعلى : ٢ ـ ٣.

١١٣

العامة ) يشمل الإنسان كما يشمل غيره ، فله في حياته هدفه الخاص الذي يسعى الى تحقيقه ضمن الاطار العام ، وقد اودع فيه ما يمكّنه من الوصول اليه والحصول عليه ، ونجاحه في مسيرته الطويلة في اطار هذا القانون هو الوصول الى الكمال والسعادة ، كما ان اخفاقه في هذه المسيرة هو الانزلاق في مهوى الشقاء الابدي. وخلقته والاسرار المودعة فيه هي التي تدله على طريق الوصول الى ذلك الهدف السامي ، قال تعالى :( انا خلقنا الإنسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيراً *انا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفوراً ) (١) .

وقال عز من قائل :( من نطفة خلقه فقدره *ثم السبيل يسره ) (٢) .

ب ـ ميزة الإنسان في قطع مسالك الحياة :

تمتاز الحيوانات على غيرها من سائر الموجودات ان اعمالها علمية تصدر عن فهم وادراك ، والإنسان مع انه يشارك الحيوانات في هذه الناحية يمتاز عنها بما اوتي من العقل فان الاعمال التي ينجزها تنبع من العقل ، وهو يميز الخير من

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الدهر : ٢ ـ ٣.

(٢) سورة عبس : ١٩ ـ ٢٠.

١١٤

الشر والنافع من الضار ، ويعملها بعد ان يتأكد من رجحان كفة المنافع فيها ، ويتبع فيها ما يدركه عقله ويرى ان فيه مصلحة له ، فما يراه العقل نافعا ليس فيه ما يضر يحكم بلزوم القيام به ، وما يراه ضارا ليس فيه ما ينفع يحكم بوجوب الاجتناب عنه(١) .

ج ـ كيف يكون الإنسان اجتماعياً؟

لا شك ان الإنسان كان ولا يزال يعيش بصورة جماعية ويشكل مع الاخرين مجتمعاً مرتبطاً بعضه ببعض ويقضي حوائجه بالتعاون مع اخيه الإنسان ، ولكن هل هذا التعاون والترابط الاجتماعي هو مقتضى طبيعته الاولية وسجيته الساذجة التي تدفعه الى ان لا يعيش وحده بل يتعاون مع بني نوعه؟

لقد نرى ان للانسان حاجات حسب طبيعته البشرية ، وله عواطف ومدارك خاصة تدفعه الى ان ينجز ما يحتاج اليه

ــــــــــــــــــ

(١) نريد من حكم العقل ادراك ضرورة الفعل او الترك ، اما الدعوة الى فعل ما او تركه انما هو من عمل العاطفة التي يسوقها العقل اليه ، وهو الذي يميز بين النفع والضرر. نعم لما كانت هذه الادراكات اعتبارية فالحكم فيها واحد لا يختلف ـ فليلاحظ ملاحظة دقيقة.

١١٥

بالاجهزة التي جهز بها ، وفي هذه الحاجة لا يشعر بما يحتاج اليه الاخرون ايضا.

يستخدم الإنسان كل شيء للوصول الى مآربه وما يحتاج اليه ، فيستعين بكل بسيط ومركب لقضاء ما لا بد منه ، يستفيد من النباتات والاشجار الصغيرة والكبيرة ، ويسيطر على الحيوانات وما تدره من الخيرات كل ذلك ليرفع بها ما يشعر به من النواقص الحياتية ويسد بها ما يتجدد من الخلل في عيشه.

الإنسان الذي هذا دأبه ويستخدم كل ما يجده لمصالحة هل يستفيد من نتائج وجوده. هذا الإنسان الذي يحترم اخاه الإنسان في الظاهر هل يخلص التعاون معه ويصرف نظره عن مصالحه الشخصية للمصالح الإنسانية العامة؟

لا ، ليس هكذا

بل الإنسان يحس بما تطلبه الحياة منه من الحاجات المعاشية الكثيرة ، ويعلم انه وحده لا يتمكن من انجازها ، بل يعلم انه بحاجة الى من يساعده في قضاء حوائجه من ابناء نوعه

ولكن من جهة اخرى يلاحظ ان الاماني التي تدور في خلده تراود اذهان الاخرين ايضا ، فيسعون في تحقيق مصالحهم كما يسعى هو في تحقيق مصالحه.

١١٦

ههنا وعندما يحس بهذه الحقيقة يرضخ للتعاون الاجتماعي ، فيتنازل عن بعض منافع جهده لرفع ما يحتاج اليه بنو نوعه كما انه يستفيد من جهة اخرى من جهد غيره لمصالحه الخالصة. وفي الحقيقة يدخل في سوق الاخذ والعطاء الاجتماعي القائم في كل الاعصار والادوار ليأخذ منه ما يحتاج اليه في مسيرته الحياتية

ان ما ينتج من الجهد الاجتماعي والعمل المشترك كأنه يختلط بعضه ببعض ، فيأخذ كل واحد من افراد المجتمع حسب وزنه الاجتماعي ، اي بمقدار قيمة العمل الذي يقوم به ، له حصة من تلك النتيجة يصرفها فيما يحتاج اليه من الحاجات المعاشية.

* * *

يتضح مما سبق ان الإنسان بمقتضى طبيعته في طلب مصالحه الشخصية ، يستخدم الاخرين لاستثمارهم فيما يعود اليه بالنفع ، ولا يرضخ للتعاون الاجتماعي الا اذا اضطر اليه اضطراراً.

ان هذه حقيقة تتجلى واضحة في دراسة حياة الاطفال ، فان الطفل يريد الحصول على ما يشتهيه جزافاً وبدون قبول اي توجيه ، ويؤكد طلبه بالبكاء والالحاح لو لم يوفق الى الحصول عليه. وكلما تقدم في السن يقترب الى الحياة

١١٧

الاجتماعية ويتعرف على ما يفرضه عليه الخضم الاجتماعي ، فيبتعد تدريجا عن القول جزافا والطلب غير الوجيه ، وهكذا تتبدل به الاحوال حتى ينسى الى حد ما مطاليبه الجزافية.

وشاهد آخر : اننا نرى ان انسانا ما لو اوتي قدرة فوق قدرة المجتمع المحيط به لم يلتزم بما يتطلبه منه من التعاون الاجتماعي ، بل يحاول بكل امكاناته استخدام الناس ليستثمر جهدهم بدون اي تعويض.

يشير تعالى الى التعاون الاجتماعي المذكور بقوله :( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً ) (١) .

الآية الكريمة تشير الى حقيقة التعاون الاجتماعي ، وان كل واحد من افراد البشر يفوق على غيره في جانب من الجهد المشترك ، فكل فرد من المجتمع له قابلية خاصة يستثمر الاخرين بواسطتها ، فهم وحدة اجتماعية متشابكة كالسدى واللحمة بالنسبة الى الثوب.

ويقول تعالى :( ان الإنسان لظلوم كفار ) (٢) .

ويقول أيضا :( انه كان ظلوماً جهولاً ) (٣) .

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : ٣٢.

(٢) سورة ابراهيم : ٣٤.

(٣) سورة الاحزاب : ٧٢.

١١٨

الايتان تشيران الى الغريزة الطبيعية المودعة في الإنسان الذي يستخدم بواسطتها اخاه الإنسان ويظلمه ويبتز منه ثمرات جهده واتعابه.

د ـ الاختلافات وضرورة القانون :

اضطر الإنسان ان يتقبل النظام الاجتماعي لاغراضه التي لا يمكن الوصول اليها بدونه ، ولذا ربما يتنازل عن بعض ما له من الحرية لضمان حريات الاخرين. ولكن لا يكفي مجرد وجود التعاون الاجتماعي مع ما نراه من الاختلافات الطبقية وعدم التوازن في الاستغلال والاستثمار وشدة الفروق الكبيرة في القوى الروحية والجسدية. وقد نرى ايضا ان المنافع التي ينتظر ان تكون سببا لاصلاح الفرد والمجتمع ، اصبحت هي بنفسها سببا لظهور انواع الخلافات والمشاجرات.

من هنا يعلم الحاجة الى سلسلة من المقررات المشتركة التي يتفق افراد المجتمع على اقرارها والتسليم لها ، فان من البديهي المسلم ان معاملة ما ـ مهما كانت صغيرة وبسيطة ـ لا بد فيها من مقررات مشتركة بين البائع والمشتري حتى تتحقق المعاملة بالشكل المرضي على ضوء تلك المقررات.

فاذن لا محيص من قوانين خاصة ، يسري مفعولها على

١١٩

كل الافراد ، ليبقى المجتمع متماسكاً لا يتسرب اليه التفكك وليحفظ بها المنافع والمصالح.

ولهذا نجد المشرع الاول الذي يريد هداية الإنسان الى الصراط المستقيم وما فيه الحق ، وضع القوانين التي تضمن للمجتمع الإنساني سعادة الدنيا والاخرة ، ودعا الناس الى اتباعها وتحقيقها في حياتهم اليومية.

قال تعالى :( من نطفة خلقه فقدره *ثم السبيل يسره ) (١) .

هـ ـ لا يكفي العقل في هداية الإنسان الى القانون :

مهما كانت هذه الهداية وكيفما تحققت فهي من الفيض الرباني ، لانه تعالى هو الذي خلق الخلق وجعل له هدفا في مسيرته الحياتية تضمن سعادته ، وهو الذي ارشده الى الهداية العامة التي من ضمنها هدايته.

وواضح انه لا يسري الخطأ والتناقض في افعال الله عز وجل ، فلو لم ينتج سبب الهدف الخاص به او ينحرف عنه فليس ذلك من ذنب السبب ، بل هو مستند الى تأثير السبب او الاسباب الاخرى التي منعت الوصول الى ذلك الهدف او الانحراف عنه ، فان السبب الواحد لا يصدر منه الامور

ــــــــــــــــــ

(١) سورة عبس : ١٩ ـ ٢٠.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

فأجابه مفتخراً بأنّه مِنْ عملاء السلطة الاُمويّة وأذنابها قائلاً :

أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته ونصح الاُمّة ، والإمام إذ غششته وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو.

أيّ حقّ عرفه الباهلي؟ وأيّ نصيحة أسداها للاُمّة هذا الجلف الجافي الذي ارتطم في الباطل وماج في الضلال؟ لقد كان منتهى ما يفخر به تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو صفحةُ عارٍ وخزي على الإنسانية في جميع مراحل التاريخ.

وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً : لاُمِّك الثكل! ما أجفاك وأفظك ، وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم منّي.

واستحيا عمارة بن عقبة(١) مِنْ جفوة الباهلي وقسوته ، فدعا بماء بارد فصبّه في قدح فأخذ مسلم كلّما أراد أنْ يشرب يمتلئ القدح دماً ، وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال وقد ذاب قلبه مِن الظمأ : لو كان مِن الرزق المقسوم لشربته(٢) .

وهكذا شاءت المقادير أنْ يُحرمَ مِن الماء ويموت ظامئاً ، كما حُرِمَ مِن الماء ابن عمّه ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة.

مع ابن زياد :

وكان مِنْ أعظم ما رُزئ به مسلم أنْ يدخلَ أسيراً علي الدعيّ ابن مرجانة ، فقد ودّ أنّ الأرض وارته ولا يمثُل أمامه ، وقد شاءت المقادير

__________________

(١) في الإرشاد / ٢٣٩ ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فجاء بقُلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء ، وقال له : اشرب.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٣.

٤٠١

أنْ يدخل عليه ، وقد دخل تحفُّ به الشرطة ، فلمْ يحفل البطل بابن زياد ولم يعنَ به ، فسلّم على الناس ولمْ يسلّم عليه ، فأنكر عليه الحرسي وهو مِنْ صعاليك الكوفة قائلاً : هلاّ تسلّم على الأمير؟ فصاح به مسلم محتقراً له ولأميره : اسكت لا اُمّ لك! ما لك والكلام؟! والله ليس لي بأمير فاُسلّم عليه.

وكيف يكون ابن مرجانة أميراً على مسلم سيّد الأحرار وأحد المستشهدين في سبيل الكرامة الإنسانية؟! إنّما هو أمير على اُولئك الممسوخين الذين لمْ يألفوا إلاّ الخنوع والذلّ والعار.

والتاع الطاغية مِن احتقار مسلم له وتبدّد جبروته ، فصاح به : لا عليك ، سلّمت أمْ لمْ تسلّم فإنّك مقتول.

ولمْ يملك الطاغية سوى سفك الدّم الحرام ، وحَسِبَ أنّ ذلك يخيف مسلماً أو يوجب انهياره وخضوعه له ، فانبرى إليه بطل عدنان قائلاً بكلّ ثقةٍ واعتزاز بالنفس : إنْ قتلتني فقد قَتَلَ مَنْ هو شرٌّ مِنك مَنْ كان خيراً منّي.

ولذعه هذا الكلام الصارم وأطاح بغلوائه ، فقد ألحقه مسلم بالجلاّدين والسفّاكين مِنْ قتلة الأحرار والمصلحين. واندفع الطاغية يصبح بمسلم : يا شاق ، يا عاق ، خرجت على إمام زمانك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة.

أيّ إمام خرج عليه مسلم ، وأيّ عصاً للمسلمين شقّها ، وأيّ فتنة ألقحها؟! إنّما خرج على قرين الفهود والقرود. لقد خرج لينقذ الاُمّة مِنْ محنتها أيّام ذلك الحكم الأسود.

وانبرى مسلم يردّ عليه قائلاً :

٤٠٢

والله ، ما كان معاوية خليفة بإجماع الاُمّة ، بل تغلّب على وصيّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) بالحيلة ، وأخذ منه الخلافة بالغصب ، وكذلك ابنه يزيد ؛ وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك زياد مِنْ بني علاج. وأنا أرجو أنْ يرزقني الله الشهادة على يد شرّ بربته ، فوالله ما خالفت ولا كفرت ولا بدّلت ، وإنّما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحُسين بن علي ، ونحن أولى بالخلافة مِنْ معاوية وابنه وآل زياد.

وكانت هذه الكلمات أشدّ على ابن مرجانة مِن الموت ، فقد كشفت واقعه أمام شرطته وعملائه ، وجرّدته مِنْ كلّ نزعة إنسانية ، وأبرزته كأحقر مخلوق على وجه الأرض. ولمْ يجد الدّعيّ وسيلةً يلجأ إليها سوى الافتعالات الكاذبة التي هي بضاعته وبضاعة أبيه زياد مِنْ قبل. فأخذ يتّهم مسلماً بما هو برئ منه قائلاً : يا فاسق ، ألمْ تكن تشرب الخمر في المدينة؟

فصاح به مسلم : أحقّ والله بشرب الخمر مَنْ يقتل النفس المحرّمة وهو يلهو ويلعب كأنّه لمْ يسمع شيئاً.

واسترد الطاغية تفكيره فرأى أنّ هذه الأكاذيب لا تجديه شيئاً ، فراح يقول له : منّتك نفسك أمراً حال الله بينك وبينه وجعله لأهله.

فقال مسلم باستهزاء وسخرية : مَنْ أهله؟!

ـ يزيد بن معاوية.

ـ الحمد لله ، كفى بالله حاكماً بيننا وبينكم.

ـ أتظنّ أنّ لك مِن الأمر شيئاً؟

٤٠٣

ـ لا والله ، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين.

ـ قتلني الله إنْ لمْ أقتلك.

ـ إنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المُثلة وخبث السريرة. والله ، لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربة ماء لطال عليك أنْ تراني في هذا القصر ، ولكنْ إنْ كنت عزمت على قتلي فأقم لي رجلاً مِنْ قريش أوصي له بما اُريد(١) . وسمح له الطاغية بأن يوصي بما أهمّه.

وصيّة مسلم :

ونظر مسلم في مجلس ابن زياد فرأى عمر بن سعد فأحبّ أنْ يعهد إليه بوصيته ، فقال له : لا أرى في المجلس قرشيّاً غيرك(٢) ، ولي إليك حاجة وهي سرّ(٣) .

واستشاط ابن زياد غضباً حيث نفاه مسلم مِنْ قريش ، وأبطل استلحاقه ببني اُميّة ، فقد أبطل ذلك النسب اللصيق الذي ثبت بشهادة أبي مريم الخمّار ، ولمْ يستطع أنْ يقول ابن زياد شيئاً.

وامتنع ابن سعد مِن الاستجابة لمسلم ؛ ارضاءً لعواطف سيّده ابن مرجانة ، وكسباً لمودّته. وقد لمس ابن زياد خوره وخنوعه فأسرّها في نفسه

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٩٧ ـ ٩٩.

(٢) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب / ١٣٤.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٤ ، الإرشاد / ٢٣٩.

٤٠٤

ورأى أنّه خليق بأنْ يرشّحه لقيادة قوّاته المسلحة التي يزجّ بها لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وأمر ابن زياد عمر بن سعد بأنْ يقوم مع مسلم ليعهد إليه بوصيته ، وقام ابن سعد معه فأوصاه مسلم بما يلي :

١ ـ أنّ عليه ديناً بالكوفة يبلغ سبعمئة درهم ، فيبيع سيفه ودرعه ليوفيها عنه(١) .

وقد دلّ ذلك على شدّة احتياطه وتحرّجه في دينه ، كما أوصى أنْ يعطي لطوعة ما يفضل مِنْ وفاء دينه.

٢ ـ أنْ يستوهب جئته مِن ابن زياد فيواريها(٢) ؛ وذلك لعلمه بخبث الاُمويِّين وإنّهم لا يتركون المُثلة.

٣ ـ أنْ يكتب للحُسين بخبره(٣) فقد شغله أمره ؛ لأنّه كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة.

وأقبل ابن سعد يلهث على ابن زياد فقال له : أتدري أيّها الأمير ما قال لي؟ إنّه قال : كذا وكذا(٤) .

وأنكر عليه ابن زياد إبداءه السرّ فقال : لا يخونك الأمين ، ولكنْ قد يؤتمن الخائن ؛ أمّا ماله فهو لك تصنع به ما شئت ، وأمّا الحُسين فإنْ لمْ يردنا لمْ نرده وإنْ أرادنا لمْ نكفّ عنه ، وأمّا جثته فإنّا لن نشفّعك فيها(٥) .

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٤ ، وفي الطبري ٦ / ٢١٢ إنّ عليّ ستمئة درهم ، وفي الأخبار الطوال / ٢٤١ إنّ عليّ ألف درهم.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٢.

(٣) الإرشاد / ٢٣٩.

(٤) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٤.

(٥) وفي الإرشاد / ٢٣٩ أمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنِعَ بها.

٤٠٥

لقد ترك الطاغية شفاعة ابن سعد في جثة مسلم ؛ فقد عزم على التمثيل بها للتشفّي منه وليتّخذ مِنْ ذلك وسيلة لإرهاب الناس وخوفهم.

الطاغية مع مسلم :

وصاح ابن مرجانة بمسلم ، فقال له : بماذا أتيت إلى هذا البلد؟ شتّت أمرهم ، وفرّقت كلمتهم ، ورميت بعضهم على بعض.

وانطلق فخر هاشم قائلاً بكلّ ثقة واعتزاز بالنفس : لست لذلك أتيت هذا البلد ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمّرتم على الناس مِنْ غير رضى ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ؛ فأتيناهم لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا أهلاً لذلك ؛ فإنّه لمْ تزل الخلافة لنا منذ قُتِلَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ولا تزال الخلافة لنا ، فإنّا قُهرنا عليها.

إنّكم أوّل مَنْ خرج على إمام هدى وشقّ عصا المسلمين ، وأخذ هذا الأمر غصباً ونازع أهله بالظلم والعدوان(١) .

وأدلى مسلم بهذا الحديث عن أسباب الثورة التي أعلنها الإمام الحُسين على الحكم الاُموي ، وقد التاع الطاغية مِنْ كلام مسلم وتبدّدت نشوة ظفره ، فلمْ يجد مسلكاً ينفذ منه لإطفاء غضبه سوى السبّ للعترة الطاهرة ، فأخذ يسبّ علياً والحسن والحُسين.

وثار مسلم في وجهه ، فقال له : أنت وأبوك أحقّ بالشتم منهم ، فاقض ما أنت قاض ؛ فنحن

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٠١.

٤٠٦

أهل البيت موكّل بنا البلاء(١) .

لقد ظلّ مسلم حتّى الرمق الأخير مِنْ حياته عالي الهمّة ، وجابه الأخطار ببأس شديد ، فكان في دفاعه ومنطقه مع ابن مرجانة مثالاً للبطولات النادرة.

إلى الرفيق الأعلى :

وآن للقائد العظيم أنْ يُنقل عن هذه الحياة بعد ما أدّى رسالته بأمانة وإخلاص ، وقد رُزِقَ الشهادة على يد الممسوخ القذر ابن مرجانة ، فندب لقتله بكير بن حمران الذي ضربه مسلم ، فقال له : خذ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه بيدك ؛ ليكون ذلك أشفى لصدرك.

والتفت مسلم إلى ابن الأشعث الذي أعطاه الأمان فقال له : يابن الأشعث ، أما والله ، لولا أنّك آمنتني ما استسلمت. قمْ بسيفك دوني فقد اخفرت ذمّتك. فلمْ يحفل به ابن الأشعث(٢) .

واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فصعد به إلى أعلى القصر وهو يسبح الله ويستغفره بكلّ طمأنينة ورضى ، وهو يقول : اللّهم ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا(٣) .

وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيين فضرب عنقه ، ورمى برأسه

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٠٢ ، وفي تاريخ ابن الأثير ، والإرشاد أنّ مسلماً لم يكلّم ابن زياد بعد شتمه له.

(٢) الطبري ٦ / ٢١٣.

(٣) الفتوح ٥ / ١٠٣.

٤٠٧

وجسده إلى الأرض(١) ، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي يحمل نزعات عمّه أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومُثُلَ ابن عمّه الحُسين ، وقد استشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ونزل القاتل الأثيم فاستقبله ابن زياد ، فقال له : ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟

ـ كان يسبّح الله ويستغفره ، فلمّا أردت قتله قلت له : الحمد لله الذي أمكنني منك وأقادني منك. فضربته ضربة لمْ تغن شيئاً ، فقال لي : أما ترى فيّ خدشاً تخدشنيه وفاءً مِنْ دمك أيّها العبد.

فبهر ابن زياد وراح يبدي إعجابه وإكباره له قائلاً : أوَفخراً عند الموت(٢) !

وقد انطوت بقتل مسلم صفحة مشرقة مِنْ أروع صفحات العقيدة والجهاد في الإسلام ، فقد استشهد في سبيل العدالة الاجتماعية ومن أجل إنقاذ الاُمّة وتحريرها مِن الظلم والجور. وهو أوّل شهيد مِن الاُسرة النّبوية يُقتل علناً أمام المسلمين ولمْ يقوموا بحمايته والذبّ عنه.

سلبه :

وانبرى سليل الخيانة محمّد بن الأشعث(٣) إلى سلب مسلم ، فسلب

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٩.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٤.

(٣) الأشعث بن قيس : إنّما سمي بالأشعث لشعوثة رأسه ، واسمه سعد بن كرب ، هلك بعد مقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بأربعين ليلة ، وكان عمره ٦٣ سنة ، جاء ذلك في تاريخ الصحابة / ٥ ؛ أمّا محمّد بن الأشعث فأمّه اُمّ فروة أخت أبى بكر لأبيه ، جاء ذلك في الرياض المستطاب / ٨.

٤٠٨

سيفه ودرعه وهو غير حافل بالعار والخزي ، وقد تعرّض للنقد اللاذع مِنْ جميع الأوساط في الكوفة.

ويقول بعض الشعراء في هجائه :

وتركت عمّكَ أنْ تُقاتلَ دونَهُ

فشلاً ولولا أنتَ كان منيعا

وقتلتَ وافدَ آلِ بيت محمّدٍ

وسلبت أسيافاً له ودروعا(١)

وعمد بعض أجلاف أهل الكوفة فسلبوا رداء مسلم وثيابه.

تنفيذ الإعدام في هانئ :

وأمر الطاغية بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة وإلحاقه بمسلم ؛ مبالغة في إذلال زعماء الكوفة وإذاعة للذعر والخوف بين الناس.

وقام محمّد بن الأشعث فتشفّع فيه خوفاً مِنْ بطش اُسرته قائلاً : أصلح الله الأمير ، إنّك قد عرفت شرفه في عشيرته(٢) ، وقد عرف قومه إنّي وأسماء بن خارجة جئنا به إليك ، فاُنشدك الله أيّها الأمير لما وهبته لي ؛ فإنّي أخاف عداوة أهل بيته ، وإنّهم سادات أهل الكوفة وأكثرهم عدداً.

فلمْ يحفل ابن زياد وإنّما زبره وصاح به ، فسكت العبد ، واُخرج البطل إلى السوق في موضع تُباع فيه الأغنام مبالغة في إذلاله. ولمّا عُلم أنّه ملاق حتفه جعل يستنجد باُسرته وقد رفع عقيرته : وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم. وا عشيرتاه(٣) !

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٨.

(٢) وفي رواية (عرفت شرفه في مصره).

(٣) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥.

٤٠٩

ولو كانت عند مذحج صبابة مِن الشرف والنبل لانبرت إلى إنقاذ زعيمها ، ولكنّها كانت كغيرها مِنْ قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً.

وعمد هانئ إلى إخراج يده مِن الكتاف وهو يطلب السلاح ليدافع به عن نفسه ، فلمّا بصروا به بادروا إليه فأوثقوه كتافاً ، وقالوا له : امدد عنقك. فأجاب برباطة جأش ورسوخ يقين : لا والله ، ما كنت بالذي أعينكم على نفسي.

وانبرى إليه وغد مِنْ شرطة ابن زياد يُقال له رشيد التركي(١) فضربه بالسيف فلمْ يصنع به شيئاً ، ورفع هانئ صوته قائلاً : اللّهم إلى رحمتك ورضوانك. اللّهم ، اجعل هذا اليوم كفّارة لذنوبي ؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت محمّد.

وضربه الباغي ضربة أخرى فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه الزاكي ، ولمْ يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة(٢) ، وكان عمره يوم استشهد تسعاً وتسعين سنة(٣) ، وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته ، وجزع لقتله الأحرار والمصلحون.

وقد رثاه أبو الأسود الدؤلي بقوله :

__________________

(١) وقد ثار لدم هانئ عبدُ الرحمن بن حصين فقتل رشيداً ، وفي ذلك يقول :

إنّي قتلتُ راشد التركيّا

وليته أبيض مشرفيّا

أرضى بذلك النّبيا

جاء ذلك في أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥.

(٢) الدر النظيم / ١٦٠ ، مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، أنساب الأشراف ١ ق ١.

(٣) مرآة الزمان / ٨٥.

٤١٠

أقول: وذاك مِنْ جزعٍ ووجدِ

أزالَ اللهُ مُلكَ بني زيادِ

هُمُ جدعوا الاُنوفَ وكنّ شُمّاً

بقتلهِمُ الكريمَ أخا مرادِ(١)

ورثى الأخطل ابنَ زياد بقوله :

ولمْ يكُ عن يومِ ابنِ عروة غائباً

كما لمْ يغبْ عن ليلة ابنِ عقيلِ

أخو الحرب صرّاها فليس بناكلٍ

جبارٍ ولا وجب الفؤاد ثقيلِ

السحل في الشوارع :

وعهد الطاغية إلى زبانيته وعملائه بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق ، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(٢) ؛ وذلك لإخافة العامة وشيوع الإرهاب ، وليكونا عبرة لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على الحكم الاُموي.

لقد سُحب هانئ أمام اُسرته وقومه ، ولو كان عندهم ذرّة مِن الشرف والحمية لانبروا إلى تخليص جثة زعيمهم مِنْ أيدي الغوغاء الذين بالغوا في إهانتها.

صلب الجثّتين :

ولمّا قضى الطاغية إربه في سحل جثة مسلم وهانئ أمر بصلبهما ،

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥ ، ديوان أبي الأسود.

(٢) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥ ، الدر النظيم / ١٦٠ ، مقتل الخوارزمي ١ / ٢١٥.

٤١١

فصُلِبا منكوسين(١) في الكناسة(٢) ، فكان مسلم فيما يقول المؤرّخون أوّل قتيل صُلِبَتْ جثته مِنْ بني هاشم(٣) ، وقد استعظم المسلمون كأشدّ ما يكون الاستعظام هذا الحادث الخطير ؛ فإنّ هذا التمثيل الفظيع إنّما هو جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ، ومسلم وهانئ إنّما هما مِنْ روّاد الحقّ ودُعاة الإصلاح في الإرض.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أخضع الطاغية بعد قتله لمسلم وهانئ العراق الثائر ، وارتمت جميع أوساطه تحت قدميه بدون أيّة مقاومة.

الرؤوس إلى دمشق :

وعمد ابن مرجانة إلى إرسال رأس مسلم وهانئ وعمارة بن صلخب الأزدي(٤) هدية إلى سيّده يزيد ؛ لينال الجائزة ويحرز إخلاص الاُسرة المالكة له.

وقد أرسل معها هذه الرسالة : أمّا بعد ، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه وكفاه مؤونة عدوّه. أخبر أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما العيون ، ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتّى استخرجتهما ، وأمكن الله منهما ، فضربت أعناقهما وبعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حيّة الوداعي الهمداني ، والزّبير بن الأروح التميمي ، وهما مِنْ أهل السمع والطاعة ، فليسألهما أمير المؤمنين

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٩٤.

(٢) المناقب والمثالب / ١٧٢.

(٣) مروج الذهب ٣ / ٧.

(٤) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥.

٤١٢

عمّا أحبّ ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً ، والسّلام(١) .

واحتوت هذه الرسالة على العمليات التي قام بها الطاغية للقضاء على الثورة ، والتي كان مِنْ أهمّها :

١ ـ استعانته بالعيون والجواسيس في معرفة شؤون الثورة والوقوف على أسرارها ، وقد قام بهذه العملية معقل مولاه.

٢ ـ إنّه دسّ لهانئ العضو البارز في الثورة الرجال حتّى صار تحت قبضته واعتقله ، وكذلك كاد لمسلم حينما ثار عليه ، فقد أرسل عيون أهل الكوفة ووجوهها مع العرفاء فأخذوا يذيعون الذعر وينشرون الإرهاب حتّى انهزم جيشه.

جواب يزيد :

ولمّا انتهت الرؤوس إلى دمشق سرّ يزيد بذلك سروراً بالغاً ، وكتب لابن مرجانة جواباً عن رسالته شكره فيها ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّك لمْ تعد إذ كنت كما أحبّ. عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابض. فقد كفيت وصدقت ظنّي ورأيي فيك وقد دعوت رسوليك فسألتهما عن الذين ذكرت ، فقد وجدتهما في رأيهما وعقلهما وفهمهما وفضلهما ومذهبهما كما ذكرت ، وقد أمرت لكلّ واحد منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك فاستوص بهما خيراً.

وقد بلغني أنّ الحُسين بن علي قد عزم على المسير إلى العراق ، فضع المراصد والمناظر واحترس واحبس على الظنّ ، واكتب إليّ في كلّ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٤.

٤١٣

يوم بما تجدّد لك مِنْ خيرٍ أو شرٍّ ، والسّلام(١) .

وحفلت هذه الرسالة بالتقدير البالغ لابن زياد وأضفت عليه صفة الحازم اليقظ ، وإنّه قد حقّق ظنّ يزيد فيه أنّه أهل للقيام بمثل هذه الأعمال الخطيرة. وقد عرّفه يزيد بعزم الإمام الحُسين على التوجّه إلى العراق ، وأوصاه باتّخاذ التدابير التالية :

١ ـ وضع المراصد والحرس على جميع الطرق والمواصلات.

٢ ـ التحرّس في أعماله ، وأنْ يكون حذراً يقظاً.

٣ ـ أخذ الناس بسياسة البطش والإرهاب.

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٠٩ ، أنساب الأشراف ١ ق ١ ، ولمْ يتعرض المؤرّخون إلى شؤون هذه الرؤوس الكريمة ، فهل دُفنت في دمشق أو في مكان آخر؟ فقد أهملوا ذلك ، إلاّ أنّه جاء في مرآة الزمان / ٥٩ فيما يخصّ رأس هانئ ما نصه : أنّه في هذه السنّة ـ أي سنة ٣٠٢ هـ ـ ورد الخبر إلى بغداد أنّه وُجِدَ بخراسان بالقصر أزجاً فيه ألف رأس في برج ، في اُذن كلّ واحد خيط من إبريسم فيه رقعة فيها اسم صاحبه ، وكان مِنْ جملتها رأس هانئ بن عروة ، وحاتم بن حنّة ، وطلق بن معاذ وغيرهم. وتاريخهم ـ أيّ تاريخ وضعهم في ذلك الأزج ـ سنة سبعين مِن الهجرة.

ونقل الزركلي في هامش أعلامه ٩ / ٥١ عن صلة تاريخ الطبري / ٦٢ مِنْ حوادث سنة ٣٠٤ هـ أنّه ورد إلى بغداد كتاب مِنْ خراسان يذكر فيه أنّه وجِدَ بقندهار في أبراج سورها برج متّصل بها ، فيه خمسة آلاف رأس في سلال مِنْ حشيش ، ومِنْ هذه الرؤوس تسعة وعشرون رأساً ، في اُذن كلّ رأس منها رقعة مشدودة بخيط إبريسم باسم رجل منهم. وعدّ منهم هانئ بن عروة ، وقال : إنّهم قد وجدوا على حالهم إلاّ أنّه قد جفّت جلودهم ، والشعر عليها بحالته لمْ يتغيّر.

٤١٤

٤ ـ أنْ يكون على اتصال دائم مع يزيد ويكتب له بجميع ما يحدث في القطر ، وطبّق ابن مرجانة جميع ما عهده إليه سيّده ، ونفّذ ما يلي :

إعلانُ الأحكام العرفية :

وبعدما أطاح الطاغية بثورة مسلم قبض على العراق بيد مِنْ حديد ، وأعلن الأحكام العرفية في جميع أنحاء العراق ، واعتمد في تنفيذ خططه على القسوة البالغة ، فأشاع مِن الظلم والجور ما لا يوصف. فكان اسمه موجباً لإثارة الفزع والخوف في نفوس العراقيين كما كان اسم أبيه زياد مِنْ قبل.

لقد فوّضتْ إليه حكومة دمشق السلطات الواسعة ، وأمرته بأخذ الناس بالظنّة وإعدام كلّ مَنْ يحقد على الحكم الاُموي ، أو له ضلع بالاشتراك في أيّة مؤامرة تُحاك ضدّه.

وبهذه الأساليب الرهيبة ساق الناس لحرب الحُسين. فقد كان يحكم بالموت على كلّ مَنْ يتخلّف ، أو يرتدع عن الخوض في المعركة(١) .

احتلال الحدود العراقية :

واحتل ابن زياد جميع الحدود العراقية احتلالاً عسكرياً ، ومنع الناس مِن الدخول للعراق والخروج منه إلاّ بإذن وتأشير خاص مِنْ شرطة الحدود ، وكانوا إذا أخذوا رجلاً أجروا معه التحقيق الكامل. فإنْ علموا براءته أطلقوا سراحه ، وإلاّ بعثوه مخفوراً إلى السلطة المركزية في الكوفة ؛ لتجري معه المزيد مِن التحقيق. وقد احتاط في هذه الجهة أشدّ الاحتياط ؛ مخافة أنْ يلج أحدٌ إلى العراق أو يخرج منه مِنْ شيعة الإمام الحُسين. ويقول المؤرّخون :

__________________

(١) الدولة الاُمويّة في الشام / ٥٦.

٤١٥

إنّه جعل على جميع المفارق ورؤوس المنازل عيوناً مِنْ عسكره ، كما عيّن في البرّ نقاطاً ومسالح ترصد جميع الحركات ، وقد بعث الحُصين بن نمير رئيس شرطته إلى القادسية ومنها إلى خفان ثمّ إلى القطقطانية وجبل لعلع ، ورتّب في كلّ مكان جماعة مِن الفرسان والخيّالة ؛ لتفتيش الداخل والخارج.

وقد حفظت هذه الإجراءات تلك المناطق مِن الاشتراك بأيّ عمل ضدّ الدولة ، كما حفظت خطوط المواصلات بين الكوفة والشام ، وقد ألقت الشرطة القبض على مسهر الصيداوي رسول الإمام الحُسين إلى الكوفة وبعثته مخفوراً إلى ابن زياد ، وسنذكر حديثه في البحوث الآتية :

الاعتقالات الواسعة :

وقام ابن زياد بحملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف الشيعة. فاعتقل منهم فيما يقول بعض المؤرّخين اثني عشر ألفاً(١) ، وكان مِنْ بين المعتقلين سليمان بن صرد الخزاعي والمختار بن يوسف الثقفي وأربعمئة مِنْ الأعيان والوجوه(٢) .

وقد أثارث هذه الإجراءات عاصفة مِن الفزع والهلع لا في الكوفة فحسب وإنّما في جميع أنحاء العراق ، وقد ابتعد الكوفيون عن التدخّل في أيّة مشكلة سياسية ، ولمْ تبدِ منهم أيّة حركة مِنْ حركات المعارضة وأيقنوا أنْ لا قدرة لهم على الإطاحة بالعرش الاُموي ، وظلّوا قابعين تحت وطأة سياطه القاسية.

__________________

(١) المختار ، مرآة العصر الاُموي / ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء ١ / ١٠٩.

٤١٦

إخفاق الثورة

٤١٧
٤١٨

ويتساءل الكثيرون عن الأسباب التي أدّت إلى إخفاق مسلم في ثورته مع ما كان يتمتع به مِن القوى العسكرية ، في حين أنّ خصمه لمْ تكن عنده أيّة قوّة يستطيع أنْ يدافع بها عن نفسه ، فضلاً عن الهجوم والدخول في عمليات القتال ، ويعزو بعضهم السبب في ذلك إلى قلّة خبرة مسلم في الشؤون السياسية وعجزه مِن السيطرة على الموقف ؛ فترك المجال مفتوحاً لعدوه حتّى تغلّب عليه.

وهذا الرأي فيما يبدو سطحي ليست له أيّة صبغة مِن التحقيق ؛ وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الأحداث بعمق وشمول ، ومِنْ أهمها فيما نحسب دراسة المجتمع الكوفي وما مُنِيَ به مِن التناقض في سلوكه الفردي والاجتماعي ، والوقوف على المخططات السياسية التي اعتمد عليها ابن زياد للتغلّب على الأحداث ، والنظر في الصلاحيات المُعطاة لمسلم بن عقيل مِنْ قبل الإمام ؛ فإنّ الإحاطة بهذه الاُمور توضّح لنا الأسباب في إخفاق الثورة ، وفيما يلي ذلك :

المجتمع الكوفي :

ولا بدّ لنا أنْ نتحدّث بمزيد مِن التحقيق عن طبيعة المجتمع الكوفي ؛ فإنّه المرآة الذي تنعكس عليه الأحداث الهائلة التي لعبت دورها الخطير في تاريخ الإسلام السياسي ، وأنْ نتبيّن العناصر التي سكنت الكوفة وننظر إلى طبيعة الصلات الاجتماعية فيما بينهما ، والحياة الاقتصادية التي كانت تعيش فيها ؛ فإنّ البحث عن ذلك يلقي الأضواء على فشل الثورة ، كما يلقي الأضواء على التذبذب والانحرافات الفكرية التي مُنِيَ بها هذا المجتمع ، والتي كان مِنْ نتائجها ارتكابه لأبشع جريمة في تاريخ الإنسانية وهي إقدامه على قتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإلى القراء ذلك :

٤١٩

الظواهر الاجتماعية :

أمّا الظواهر الاجتماعية التي تفرّد بها المجتمع الكوفي دون بقيّة الشعوب فهي :

التناقض في السلوك :

والظاهرة الغريبة في المجتمع الكوفي أنّه كان في تناقض صريح مع حياته الواقعية ؛ فهو يقول شيئاً ويفعل ضدّه ، ويؤمن بشيء ويفعل ما ينافيه ، والحال أنّه يجب أنْ تتطابق أعمال الإنسان مع ما يؤمن به.

وقد أدلى الفرزدق بهذا التناقض حينما سأله الإمام عن أهل الكوفة ، فقال له : خلّفت قلوب الناس معك ، وسيوفهم مشورة عليك. وكان الواجب يقضي أنْ تذب سيوفهم عمّا يؤمنون به ، وأنْ يناضلوا عمّا يعتقدون به ، ولا توجد مثل هذه الظاهرة في تاريخ أيّ شعب مِن الشعوب.

ومِنْ غرائب هذا التناقض أنّ المجتمع الكوفي قد تدخّل تدخّلاً إيجابياً في المجالات السياسية وهامَ في تياراتها ، فكان يهتف بسقوط الدولة الاُمويّة ، وقد كاتبوا الإمام الحُسين لينقذهم مِنْ جور الاُمويِّين وبطشهم ، وبعثوا الوفود إليه مع آلاف الرسائل التي تحثّه على القدوم لمصرهم.

ولمّا بعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل قابلوه بحماس بالغ ، وأظهروا له الدعم الكامل حتّى كاتب الإمام الحُسين بالقدوم إليهم ، ولكنْ لمّا دهمهم ابن مرجانة ونشر الرعب والفزع في بلادهم تخلّوا عن مسلم وأقفلوا عليهم بيوتهم ، وراحوا يقولون :

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470