حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 317030 / تحميل: 7226
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وعبيد الله بن العباس ، ولمّا مثلا عندها ذكّراها بما أمرها الله أنْ تقرّ في بيتها ، وأنْ لا تسفك دماء المسلمين ، وبالغا في نصيحتها ، ولو أنّها وعت نصيحتهما لعادت على الناس بالخير العميم ، وجنّبتهم كثيراً مِن المشاكل والفتن ، إلاّ أنّها جعلت كلامهما دبر أذنيها ، وراحت تقول لهم : إنّي لا أردّ على ابن أبي طالب بالكلام ؛ لأنّي لا أبلغه في الحِجاح(١) .

وبذل الإمام (عليه السّلام) قصارى جهوده في الدعوة إلى السّلم وعدم إراقة الدماء ، إلاّ أنّ هناك بعض العناصر لمْ ترق لها هذه الدعوى ، وراحت تسعى لإشعال نار الحرب وتقويض دعائم السّلم.

الدعوة إلى القرآن :

ولمّا باءت بالفشل جميع الجهود التي بذلها الإمام (عليه السّلام) مِن أجل حقن الدماء ، ندب الإمام (عليه السّلام) أصحابه لرفع كتاب الله العظيم ودعوة القوم إلى العمل بما فيه ، وأخبرهم أنّ مَنْ يقوم بهذه المهمة فهو مقتول ، فلمْ يستجب له أحد سوى فتى نبيل مِن أهل الكوفة ، فانبرى إلى الإمام (عليه السّلام) وقال : أنا له يا أمير المؤمنين.

فأشاح الإمام (عليه السّلام) بوجهه عنه ، وطاف في أصحابه ينتدبهم لهذه المهمة فلمْ يستجب له أحد سوى ذلك الفتى ، فناوله الإمام (عليه السّلام) المصحف ، فانطلق الفتى مزهوّاً لمْ يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يلوح بالكتاب أمام عسكر عائشة قد رفع صوته بالدعوة إلى العمل بما فيه ، ولكنّ القوم قد دفعتهم الأنانية إلى الفتك به فقطعوا يمينه ، فأخذ المصحف بيساره وهو يناديهم بالدعوة إلى العمل بما فيه ، فاعتدوا عليه وقطعوا يساره ، فأخذ المصحف

__________________

(١) الفتوح ٢ / ٣٠٦.

٤١

بأسنانه وقد نزف دمه ، وراح يدعوهم إلى السّلم وحقن الدماء قائلاً : الله في دمائنا ودمائكم.

وانثالوا عليه يرشقونه بنبالهم فوقع على الأرض جثة هامدة ، فانطلقت إليه اُمّه تبكيه وترثيه بذوب روحها قائلة :

يا ربِّ إنّ مسلماً أتاهُمْ

يتلو كتاب الله لا يخشاهُمْ

فخضّبوا مِن دمه لحاهُمْ

واُمّهم قائمةٌ تراهُمْ

ورأى الإمام (عليه السّلام) بعد هذا الإعذار أنْ لا وسيلة له سوى الحرب ، فقال لأصحابه : «الآن حلّ قتالهم ، وطاب لكم الضراب»(١) . ودعا الإمام (عليه السّلام) حضين بن المنذر وكان شاباً ، فقال له : «يا حضين ، دونك هذه الراية ، فو الله ما خفقت قط فيما مضى ، ولا تخفق فيما بقي راية أهدى منها إلاّ راية خفقت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».

وفي ذلك يقول الشاعر :

لمَنْ رايةٌ سوداء يخفُقُ ظلُّها

إذا قيل قدِّمها حُضينٌ تقدّما

يُقدّمها للموت حتّى يزيرها

حِياض المنايا تَقطرُ الموتَ والدما(٢)

الحربُ العامة :

ولمّا استيأس الإمام (عليه السّلام) مِن السّلم عبّأ جيشه تعبئة عامّة ، وكذلك فعل أصحاب عائشة وقد حملوها على جملها (عسكر) ، واُدخلت هودجها المصفّح بالدروع ، والتحم الجيشان التحاماً رهيباً. يقول بعض المؤرّخين : إنّ

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٤٦.

(٢) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٨٠.

٤٢

الإمام الحُسين (عليه السّلام) قد تولّى قيادة فرقة مِنْ فرق الجيش ، وإنّه كان على الميسرة ، وخاض المعركة ببسالة وصمود(١) . وكان جمل عائشة فيما يقول بعض مَنْ شهد المعركة هو راية أهل البصرة ، يلوذون به كما يلوذ المقاتلون براياتهم ، وقد حمل الإمام (عليه السّلام) عليهم وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر في يمينه ذا الفقار الذي طالما ذبّ به عن دين الله ، وحارب به المشركين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله). واقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال ضراوة ، يريد أصحاب عائشة أنْ يحرزوا النصر ويحموا أُمّهم ، ويريد أصحاب علي (عليه السّلام) أنْ يحموا إمامهم ويموتوا دونه.

مصرعُ الزبير :

وكان الزبير رقيق القلب ، شديد الحرص على مكانته مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ حبّ المُلْك هو الذي أغراه ودفعه إلى الخروج على الإمام (عليه السّلام) ؛ يضاف إلى ذلك ولده عبد الله فهو الذي زجّ به في هذه المهالك ، وباعد ما بينه وبين دينه ، وقد عرف الإمام (عليه السّلام) رقّة طبع الزبير ، فخرج إلى ميدان القتال ورفع صوته :

«أين الزبير؟».

فخرج الزبير وهو شاك في سلاحه ، فلمّا رآه الإمام (عليه السّلام) بادر إليه واعتنقه ، وقال له بناعم القول : «يا أبا عبد الله ، ما جاء بك ها هنا؟».

ـ جئت أطلب دم عثمّان.

فرمقه الإمام (عليه السّلام) بطرفه وقال له :

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ١٩٣.

٤٣

«تطلب دم عثمّان!».

ـ نعم.

ـ «قتل الله مَنْ قتل عثمّان».

وأقبل عليه يحدّثه برفق ، قائلاً : «أنشدك الله يا زبير ، هل تعلم أنّك مررت بي وأنت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو متكئ على يدك ، فسلّم عليّ رسول الله وضحك إليّ ، ثمّ التفت إليك فقال لك : يا زبير ، إنّك تقاتل عليّاً وأنت له ظالم».

وتذكّر الزبير ذلك ، وقد ذهبت نفسه أسىً وحسرات ، وندم أشدّ ما يكون النّدم على موقفه هذا ، والتفت إلى الإمام (عليه السّلام) وهو يصدّق مقالته : اللّهم نعم.

ـ «فعلامَ تقاتلني؟».

ـ نسيتها والله ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ولا قاتلتك(١) .

ـ «ارجع».

ـ كيف ارجع وقد التقت حلقتا البطان؟! هذا والله العار الذي لا يُغسل.

ـ «ارجع قبل أنْ تجمع العار والنار».

وألوى عنان فرسه ، وقد ملكت الحيرة والقلق أهابه ، وراح يقول :

فاخترتُ عاراً على نارٍ مؤجّجةٍ

ما إنْ يقوم لها خلقٌ من الطينِ

نادى عليٌّ بأمرٍ لستُ أجهلُهُ

عارٍ لَعمرُك في الدنيا وفي الدينِ

فقلتُ حسبُك مِن عذلٍ أبا حسنٍ

فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني(٢)

وقفل الإمام (عليه السّلام) راجعاً إلى أصحابه ، فقالوا له : تبرز إلى زبير حاسراً

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٧٣.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٢٤٧. على أنّ الأبيات وردت على غير هذا النسق ، وما أثبتناه فهو من بعض المصادر الاُخرى. (موقع معهد الإمامين الحَسنَين)

٤٤

وهو شاك السّلاح ، وأنت تعرف شجاعته! فقال (عليه السّلام) :

«إنّه ليس بقاتلي ، إنّما يقتلني رجل خامل الذكر ، ضئيل النسب ، غيلة في غير ماقط(١) حرب ولا معركة رجال. ويل أُمّه أشقى البشر! ليودّ أنّ أُمّه هبلت به. أما أنّه وأحمر ثمّود لمقرونان في قرن ...»(٢) .

واستجاب الزبير لنداء الإمام (عليه السّلام) فاتّجه صوب عائشة ، فقال لها : يا أُمّ المؤمنين ، إنّي والله ما وقفت موقفاً قط إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه إلاّ هذا الموقف ؛ فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر؟!

وعرفت عائشة تغيير فكرته وعزمه على الانسحاب مِنْ حومة الحرب ، فقالت له باستهزاء وسخرية مثيرة عواطفه : يا أبا عبد الله ، خفت سيوف بني عبد المطلب؟! وعاثت هذه السخرية في نفسه ، فالتفت إليه ولده عبد الله فعيّره بالجبن قائلاً : إنّك خرجت على بصيرة ، ولكنّك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت أنّ تحتها الموت فجبنت.

إنّه لمْ يخرج على بصيرة ولا بيّنة مِنْ أمره ، وإنّما خرج مِنْ أجل المُلْك والسلطان.

والتاع الزبير مِنْ حديث ولده ، فقال له : ويحك! إنّي قد حلفت له أنْ لا اُقاتله. [فقال له ابنه :] كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس. فأعتق غلامه وراح يجول في ميدان الحرب ليُري ولده شجاعته ، ويوضّح له أنّه إنّما فرّ بدينه لا جبناً ولا خوراً ، ومضى منصرفاً على وجهه حتّى أتى وادي السّباع. وكان الأحنف بن قيس مع قومه مقيمين هناك ،

__________________

(١) الماقط : ساحة القتال.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ١٣٥.

٤٥

فتبعه ابن جرموز فأجهز عليه وقتله غيلة ، وحمل مقتله إلى الإمام (عليه السّلام) فحزن عليه كأشدّ ما يكون الحزن ، ويقول الرواة : إنّه أخذ سيفه وهو يقول : «سيف طالما جلا الكروب عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». وعلى أي حالٍ ، لقد كانت النهاية الأخيرة للزبير تدعو إلى الأسف والأسى ؛ فقد تمرّد على الحقّ ، وأعلن الحرب على وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

مصرعُ طلحة :

وخاض طلحة المعركة وهو يحرّض جيشه على الحرب ، فبصر به مروان بن الحكم فرماه بسهم ؛ طلباً بثار عثمّان ، فوقع على الأرض يتخبّط بدمه. وكان مروان يقول لبعض ولد عثمّان : لقد كفيتك ثأر أبيك من طلحة. وأمر طلحة مولاه أنْ يأوي به إلى مكان ينزل فيه ، فأوى به بعد مشقّة إلى دار خربة مِنْ دور البصرة فهلك فيها بعد ساعة.

قيادةُ عائشة للجيش :

وتولّت عائشة قيادة الجيش بعد هلاك الزبير وطلحة ، وقد تفانت بنو ضبّة والأزد وبنو ناجية في حمايتها. ويقول المؤرّخون : إنّهم هاموا بحبّها ، فكانوا يأخذون بعر جملها ويشمّونه ، ويقولون : بعر جمل أُمّنا ريحه ريح المسك. وكانوا محدقين به لا يريدون فوزاً ولا انتصاراً سوى حمايتها ، وإنّ راجزهم يرتجز :

يا معشرَ الأزد عليكُمْ أُمّكمْ

فإنّها صلاتُكُم وصومكُمْ

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٩٧.

٤٦

والحرمةُ العظمى التي تعمّكُمْ

فأحضروها جدكُمْ وحزمكُمْ

لا يغلبنْ سمّ العدو سمّكُمْ

إنّ العدوَّ إنْ علاكُمْ زمّكُمْ

وخصّكُم بجورهِ وعمّكُمْ

لا تفضحوا اليوم فداكُم قومكُمْ(١)

وكانت تحرّض على الحرب كلّ مَنْ كان على يمينها ، ومَنْ كان على شمالها ، ومَنْ كان أمامها قائلة : إنّما يصبر الأحرار. وكان أصحاب الإمام (عليه السّلام) يلحّون على أصحاب عائشة بالتخلّي عنها ، وراجزهم يرتجز :

يا أُمَّنا أعقّ اُمٍّ نعلمُ

والأُمُّ تغذو وُلدها وترحمُ

أما ترينَ كم شُجاعٍ يُكلمُ

وتختلي منه يدٌ ومِعصمُ

وكان أصحاب عائشة يردّون عليهم ويقولون :

نحن بني ضبّة أصحابَ الجملْ

ننازلُ القرن إذا القرن نزلْ

والقتلُ أشهى عندنا مِن العسلْ

نبغي ابن عفّان بأطراف الأسلْ

ردّوا علينا شيخَنا ثمّ بجلْ

واشتدّ القتال كأشد وأعنف ما يكون القتال ، وكثرت الجرحى ، وملئت أشلاء القتلى وجه الأرض.

عقرُ الجمل :

ورأى الإمام (عليه السّلام) أنّ الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجوداً ، فصاح (عليه السّلام) بأصحابه : «اعقروا الجمل ؛ فإنّ في بقائه فناء العرب». وانعطف عليه الحسن (عليه السّلام) فقطع يده اليمنى ، وشدّ عليه الحُسين (عليه السّلام) فقطع يده اليسرى(٢) ، فهوى إلى جنبه وله عجيج منكر لمْ يسمع مثله ، وفرّ حماة الجمل في البيداء ؛ فقد تحطّم صنمهم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٨١.

(٢) وقعة الجمل ـ مُحمّد بن زكريا / ٤٤.

٤٧

الذي قدّموا له هذه القرابين ، وأمر الإمام (عليه السّلام) بحرقه وتذرية رماده في الهواء ؛ لئلاّ تبقى منه بقية يُفتتن بها السذّج والبسطاء.

وبعد الفراغ مِنْ ذلك ، قال : «لعنه الله مِنْ دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل!». ومدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبه الهواء ، فتلا قوله تعالى :( وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) . وبذلك فقد وضعت الحرب أوزارها ، وكتب النصر للإمام (عليه السّلام) وأصحابه ، وباءت القوى الغادرة بالخزي والخسران.

وأوفد الإمام (عليه السّلام) للقيا عائشة الحسن والحُسين (عليهما السّلام) ومُحمّد بن أبي بكر(١) ، فانطلقوا إليها ، فمدّ مُحمّد يده في هودجها فجفلت منه ، وصاحت به : مَنْ أنت؟

ـ أبغض أهلك إليك.

ـ ابن الخثعميّة؟

ـ نعم أخوك البرّ.

ـ عقوق.

ـ هل أصابك مكروه؟

ـ سهم لمْ يضرّني.

فانتزعه منها ، وأخذ بخطام هودجها وأدخلها في الهزيع الأخير مِن الليل إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث ، فأقامت فيه أياماً.

العفو العام :

وسار علي (عليه السّلام) في أهل البصرة سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أهل مكة

__________________

(١) وقعة الجمل / ٤٥.

٤٨

كما قال (عليه السّلام) ، فأمِنَ الأسود والأحمر ـ على حدّ تعبير اليعقوبي(١) ـ ولمْ ينكّل بأيّ أحد مِنْ خصومه ، وجلس للناس فبايعه الصحيح منهم والجريح ، ثمّ عمد إلى بيت المال فقسّم ما وجد فيه على الناس بالسواء.

وسار (عليه السّلام) إلى عائشة فبلغ دار عبد الله بن خلف الخزاعي الذي أقامت فيه عائشة ، فاستقبلته صفية بنت الحارث شرّ لقاء ، فقالت له : يا علي ، يا قاتل الأحبّة ، أيتم الله بنيك كما أيتمت بني عبد الله! وكانوا قد قتلوا في المعركة مع عائشة ، فلمْ يجبها الإمام (عليه السّلام) ومضى حتّى دخل على عائشة ، فأمرها أنْ تغادر البصرة وتمضي إلى يثرب لتقرّ في بيتها كما أمرها الله.

ولمّا انصرف أعادت عليه صفية القول الذي استقبلته به ، فقال لها : «لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت مَنْ في هذا البيت». وهو يشير إلى أبواب الحجرات المقفلة ، وكان فيها كثير مِن الجرحى وغيرهم مِنْ أعضاء المؤامرة [الذين] آوتهم عائشة ، فسكتت صفية ، وأراد مَنْ كان مع الإمام (عليه السّلام) أنْ يبطشوا بهم ، فزجرهم زجراً عنيفاً ؛ وبذلك فقد منح العفو لأعدائه وخصومه.

وسرّح الإمام (عليه السّلام) عائشة تسريحاً جميلاً ، وأرسل معها جماعة مِنْ النساء بزي الرجال لتقرّ في بيتها حسب ما أمرها الله ، وقد رحلت عائشة مِن البصرة ، وأشاعت في بيوتها الثكل والحزن والحداد.

يقول عمير بن الأهلب الضبي ، وهو مِن أنصارها :

لقد أورثتنا حومةَ الموت اُمُّنا

فلمْ تنصرف إلاّ ونحن رواءُ

أطعنا بني تيمٍ لشقوةِ جدِّنا

وما تيمُ إلاّ أعبدٌ وإماءُ(٢)

لقد أوردت أُمّ المؤمنين أبناءها حومة الموت ، فقد كان عدد الضحايا مِن المسلمين فيما يقول بعض المؤرخين عشرة آلاف ، نصفهم مِن أصحابها ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٩.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٢٥٦.

٤٩

والنصف الآخر مِنْ أصحاب الإمام (عليه السّلام)(١) . وكان مِنْ أعظم الناس حسرة الإمام (عليه السّلام) ؛ لعلمه بما تجرّ هذه الحرب مِنْ المصاعب والمشاكل.

متاركُ الحرب :

وأعقبت حرب الجمل أفدح الخسائر وأعظم الكوارث التي اُبتلي بها المسلمون ، ومِن بينها ما يلي :

١ ـ إنّها مهّدت السبيل لمعاوية لمناجزة الإمام (عليه السّلام) ، والتصميم على قتاله ، فقد تبنى شعار معركة الجمل وهو المطالبة بدم عثمان ، ولولا حرب الجمل لما استطاع معاوية أنْ يعلن العصيان والتمرّد على حكم الإمام (عليه السّلام).

٢ ـ إنّها أشاعت الفرقة والاختلاف بين المسلمين ، فقد كانت روح المودّة والأُلفة سائدة فيهم قبل حرب الجمل ، وبعدها انتشرت البغضاء بين أفراد الأُسر العربية ؛ فقبائل ربيعة واليمن في البصرة أصبحت تكن أعمق البغض والكراهية لإخوانهم من ربيعة وقبائل اليمن في الكوفة ، وتطالبها بما أُريق من دماء أبنائها ، بل أصبحت الفرقة ظاهرة شائعة حتّى في البيت الواحد ؛ فبعض أبنائه كانوا شيعة لعلي والبعض الآخر كانوا شيعة لعائشة.

ويقول المؤرّخون : إنّ البصرة بقيت محتفظة بولائها لعثمان حفنة من السنين ، وإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إنّما لمْ ينزح إليها لما عُرِفت به من الولاء لعثمان.

٣ ـ إنّها أسقطت هيبة الحكم وجرّأت على الخروج عليه ؛ فقد تشكّلت الأحزاب النفعية التي لا همّ لها إلاّ الاستيلاء على السلطة والظفر بخيرات البلاد ، حتّى كان التطاحن على الحكم من أبرز سمات ذلك العصر.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٢٢٤ ، وفي رواية أبي العلاء في أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٨٠ أنّ عدد الضحايا عشرون ألفاً.

٥٠

٤ ـ إنّها فتحت باب الحرب بين المسلمين ، وقبلها كان المسلمون يتحرجون أشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء بعضهم بعضاً.

٥ ـ إنّها عملت على تأخير الإسلام وشلّ حركته وإيقاف نموّه ، فقد انصرف الإمام (عليه السّلام) بعد حرب الجمل إلى مقاومة التمرّد والعصيان الذي أعلنه معاوية وغيره من الطامعين في الحكم ، ممّا أدّى إلى أفدح الخسائر التي مُنِيَ بها الإسلام.

يقول الفيلسوف (ولز) : إنّ الإسلام كاد أنْ يفتح العالم أجمع لو بقي سائراً سيرته الاُولى لو لمْ تنشب في وسطه مِنْ أوّل الأمر الحرب الداخلية ؛ فقد كان همّ عائشة أنْ تقهر علياً قبل كلّ شيء(١) .

٦ ـ واستباحت هذه الحرب حرمة العترة الطاهرة التي قرنها النّبي (صلّى الله عليه وآله) بمحكم التنزيل ، وجعلها سفن النجاة وأمن العباد ، فمنذ ذلك اليوم شُهِرَت السيوف في وجه عترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، واستحلّ الأوغاد إراقة دمائهم وسبي ذراريهم ، فلمْ يرعَ بنو اُميّة في وقعة كربلاء أي حرمة للنّبي (صلّى الله عليه وآله) في أبنائه ، وانتهكوا معهم جميع الحرمات.

هذه بعض متارك حرب الجمل التي جرّت للمسلمين أفدح الخسائر في جميع فترات التاريخ.

القاسطون :

ولمْ يكد يفرغ الإمام (عليه السّلام) من حرب الناكثين ـ كما اسماهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ حتّى جعل يتأهّب لحرب القاسطين الذين أسماهم النّبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك ، ورأى الإمام (عليه السّلام) أنْ يغادر البصرة إلى الكوفة ؛ ليستعدّ لحرب عدوّ عنيف هو معاوية بن أبي سفيان الذي حارب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبلى في حربه أشدّ

__________________

(١) شيخ المضيرة / ١٧٣.

٥١

البلاء وأقواه ، ولمْ يكن معاوية بأقلّ تنكّراً للإسلام وبغضاً لأهله مِنْ أبيه ، وكان المسلمون الأوّلون ينظرون إليهما نظرة ريبة وشك في إسلامهما ، وقد استطاع بمكره ودهائه أنْ يغزو قلب الخليفة الثاني ، ويحتل المكانة المرموقة في نفسه فجعله والياً على الشام ، وظلّ يبالغ في تسديده وتأييده ، وبعد وفاته أقرّه عثمان وزاد في رقعة سلطانه.

وظلّ معاوية في الشام يعمل عمل مَنْ يريد المُلْك والسلطان ، فأحاط نفسه بالقوّة واشترى الضمائر ، وسخّر اقتصاد بلاده في تدعيم سلطانه ، وبعد الأحداث التي ارتكبها عثمان علم معاوية أنّه مقتول لا محالة ، فاستغاث به عثمان حينما حوصر فأبطأ في نصره ، وظلّ متربصاً حتّى قُتِلَ ليتّخذ مِنْ قميصه ودمه وسيلة للتشبث بالمُلْك ، وقد دفعه إلى ذلك حرب الجمل التي كان شعارها المطالبة بدم عثمان ، فاتّخذه خير وسيلة للتذرّع لنيل المُلْك.

ويقول المؤرّخون : إنّه استعظم قتل عثمان وهول أمره ، وراح يبني مُلْكه على المطالبة بدمه.

وكان الإمام (عليه السّلام) محتاطاً في دينه كأشدّ ما يكون الاحتياط فلمْ يصانع ولمْ يحاب ، وإنّما سار على الطريق الواضح ، فامتنع أنْ يستعمل معاوية على الشام لحظة واحدة ؛ لأنّ في إقراره على منصبه تدعيماً للظلم وتركيزاً للجور.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الإمام (عليه السّلام) بعد حرب الجمل قد غادر البصرة مع قواته المسلحة ، واتّجه إلى الكوفة ليتّخذها عاصمة ومقرّاً له. واتّجه فور قدومه إليها يعمل على تهيئة وسائل الحرب لمناهضة عدوّه العنيف الذي يتمتّع بقوى عسكرية هائلة أجمعت على حبّه ونصرته ، وكان الشنّي يحرّض الإمام (عليه السّلام) ويحفزّه على حرب أهل الشام بعد ما أحرزه مِن النصر في وقعة الجمل ، وقد قال له :

قل لهذا الإمام قد خبت الحر

بُ وتمّت بذلك النعماءُ

وفرغنا من حرب مَنْ نكث العهْـ

ـد وبالشام حيّةٌ صمّاءُ

٥٢

تنفث السمّ ما لمَنْ نهشته

فارمِها قبل أنْ تعض شفاءُ(١)

إيفادُ جرير :

وقبل أنْ يعلن الإمام (عليه السّلام) الحرب على غول الشام أوفد للقياه جرير بن عبد الله البجلي يدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون من مبايعته ، وقد زوّده برسالة(٢) دعاه فيها إلى الحقّ مِنْ أقصر سبيله ، وبأوضح أساليبه ، وفيها الحكمة الهادية لمَنْ أراد الهداية ، وشرح الله صدره ، وفجّر في فؤاده ينبوع النور. وانتهى جرير إلى معاوية فسلّمه رسالة الإمام (عليه السّلام) ، وألحّ عليه في الوعظ والنصيحة ، وكان معاوية يسمع منه ولا يقول له شيئاً ، وإنّما أخذ يطاوله ويسرف في مطاولته ، لا يجد لنفسه مهرباً سوى الإمهال والتسويف.

معاوية مع ابن العاص :

ورأى معاوية أنّه لن يستطيع التغلّب على الأحداث إلاّ إذا انضمّ إليه داهية العرب عمرو بن العاص فيستعين به على تدبير الحيل ، ووضع المخططات التي تؤدي إلى نجاحه في سياسته ، فراسله طالباً منه الحضور إلى دمشق. وكان ابن العاص فيما يقول المؤرّخون : قد وجد على عثمان حينما عزله عن مصر ، فكان يؤلّب الناس عليه ويحرّضهم على الوقيعة به ، وهو ممّن مهّد للفتنة والثورة عليه ، ولمّا أيقن بحدوث الانقلاب عليه خرج إلى أرض

__________________

(١) الأخبار الطوال / ١٤٥.

(٢) الرسالة في وقعة صفّين / ٣٤.

٥٣

كان يملكها بفلسطين فأقام فيها ، وجعل يتطلّع الأخبار عن قتله.

ولمّا انتهت رسالة معاوية إلى ابن العاص تحيّر في أمره ، فاستشار ولديه عبد الله ومُحمّداً ؛ أمّا عبد الله فكان رجل صدق وصلاح فأشار عليه أنْ يعتزل الناس ، ولا يجيب معاوية إلى شيء حتّى تجتمع الكلمة ويدخل فيما دخل فيه المسلمون ؛ وأمّا ابنه مُحمّد فقد طمع فيما يطمع فيه فتيان قريش مِن السعة والتقدّم وذيوع الاسم ، فقد أشار عليه بأنْ يلحق بمعاوية لينال من دنياه.

فقال عمرو لولده عبد الله : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في ديني. وقال لولده مُحمّد : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في دنياي. وأنفق ليله ساهراً يفكّر في الأمر هل يلتحق بعلي فيكون رجلاً كسائر المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم مِنْ دون أنْ ينال شيئاً مِنْ دنياه ، ولكنّه يضمن أمر آخرته ، أو يكون مع معاوية فيظفر بتحقيق ما يصبو إليه في الدنيا مِن الثراء العريض ، وهو لمْ ينسَ ولاية مصر فكان يحنّ إليها حنيناً متّصلاً ، وقد اُثر عنه تلك الليلة مِن الشعر ما يدلّ على الصراع النفسي الذي خامره تلك الليلة.

ولمْ يسفر الصبح حتّى آثر الدنيا على الآخرة ، فاستقرّ رأيه على الالتحاق بمعاوية ، فارتحل إلى دمشق ومعه ابناه ، فلمّا بلغها جعل يبكي أمام أهل الشام كما تبكي المرأة ، وهو يقول : وا عثماناه! أنعى الحياء والدين(١) .

قاتلك الله يابن العاص! أنت تبكي على عثمان وأنت الذي أوغرت عليه الصدور ، وأثرت عليه الأحقاد ، وكنت تلفي الراعي فتحرّضه عليه حتّى سُفك دمه! لقد بلغ التهالك على السلطة في ذلك العصر مبلغاً أنسى الناس دينهم ، فاقترفوا في سبيل ذلك كلّ ما حرّمه الله.

ولمّا التقى ابن العاص بمعاوية فتح معه الحديث في حربه مع الإمام (عليه السّلام) ، فقال ابن العاص :

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٢٩.

٥٤

ـ أمّا علي فوالله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء مِن الأشياء ، وإنّ له في الحرب لحظاً ما هو لأحد مِنْ قريش إلاّ أنْ تظلمه.

واندفع معاوية يبيّن دوافعه في حربه للإمام قائلاً : صدقت ، ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتلة عثمان.

واندفع ابن العاص ساخراً منه قائلاً : وا سوأتاه! إنّ أحق الناس أنْ لا يذكر عثمان أنت!

ـ ولِمَ ويحك؟!

ـ أمّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتّى استغاث بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه ، وأمّا أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين(١) .

واستيقن معاوية أنّ ابن العاص لا يخلص له ، ورأى أنّ مِن الحكمة أنْ يستخلصه ويعطيه جزاءه مِن الدنيا ، فصارحه قائلاً : أتحبّني يا عمرو؟

ـ لماذا؟ للآخرة فوالله ما معك آخرة ، أم للدنيا؟ فوالله لا كان حتّى أكون شريكك فيها.

ـ أنت شريكي فيها؟

ـ اكتب لي مصر وكورها.

ـ لك ما تريد.

فسجّل له ولاية مصر ، وجعلها ثمناً لانضمامه إليه(٢) في مناهضته لوصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد ظفر بداهية مِنْ دواهي العرب ، وبشيخ مِنْ شيوخ قريش قد درس أحوال الناس ، وعرف كيف يتغلّب على الأحداث.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٦٢.

(٢) العقد الفريد ٣ / ١١٣.

٥٥

ردُّ جرير :

ولمّا اجتمع لمعاوية أمره وأحكم وضعه ردّ جرير ، وأرسل معه إلى الإمام (عليه السّلام) رسالة حمّله فيها المسؤولية في إراقة دم عثمان ، وعرّفه بإجماع أهل الشام على حربه إنْ لمْ يدفع له قتلة عثمان ، ويجعل الأمر شورى بين المسلمين.

وارتحل جرير إلى الكوفة فأنبأ علياً (عليه السّلام) بامتناع معاوية عليه ، وعظم له أمر أهل الشام ، ورأى الإمام أنْ يقيم عليه الحجّة مرّة أخرى ، فبعث له سفراء آخرين يدعونه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، إلاّ أنّ ذلك لمْ يجدِ شيئاً ، فقد أصرّ معاوية على غيّه وعناده حينما أيقن أنّ له القدرة على مناجزة الإمام (عليه السّلام) ومناهضته.

قميصُ عثمان :

وألهب معاوية بمكره وخداعه قلوب السذّج والبسطاء مِنْ أهل الشام حزناً وأسىً على عثمان ، فكان ينشر قيمصه الملطخ بدمائه على المنبر فيضجون بالبكاء والعويل ، واستخدم الوعّاظ فجعلوا يهوّلون أمره ، ويدعون الناس إلى الأخذ بثأره ، وكان كلّما فتر حزنهم عليه يقول له ابن العاص بسخرية واستهزاء : حرّك لها حوارها تحنّ.

فيخرج إليهم قميص عثمان فيعود لهم حزنهم ، وقد أقسموا أنْ لا يمسّهم الماء إلاّ مِن الاحتلام ، ولا يأتون النساء ، ولا ينامون على الفراش

٥٦

حتى يقتلوا قتلة عثمان(١) ، وكانت قلوبهم تتحرّق شوقاً إلى الحرب للأخذ بثأره. وقد شحن معاوية أذهانهم بأنّ علياً هو المسؤول عن إراقة دمه ، وأنّه قد آوى قتلته ، وكانوا يستنهضون معاوية للحرب ويستعجلونه أكثر منه.

زحفُ معاوية لصفّين :

وعلم معاوية أنّه لا بدّ من الحرب ؛ لأنّ الإمام (عليه السّلام) لا يحاب ولا يداهن في دينه ، فلا يقرّه على ولاية الشام ، ولا يسند له أي منصب من مناصب الدولة ، وإنّما يقصيه عن جميع أجهزة الحكم ؛ لما يعرفه عنه من الالتواء في دينه.

وسار معاوية في جموع أهل الشام ، وقدّم بين يديه الطلائع ، وقد أنزل أصحابه أحسن منزل وأقربه إلى شريعة الفرات ، وقد احتل الفرات ، وعُدّ هذا أوّل الفتح ؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه ، وبقيت جيوشه رابضة هناك تصلح أمرها وتنضّم قواها استعداداً للحرب.

زحفُ الإمام (عليه السّلام) للحرب :

وتهيّأ الإمام (عليه السّلام) للحرب ، وقام الخطباء في الكوفة يحفّزون الناس للجهاد ، ويحثونهم على مناجزة معاوية بعدما أحرزوه من النصر الكبير في معركة الجمل ، وقد خطب فيهم الإمام الحسين (عليه السّلام) خطاباً رائعاً ومثيراً ، قال فيه بعد حمد الله والثناء عليه : «يا أهل الكوفة ، أنتم الأحبّة الكرماء ، والشعار دون الدثار ، جدّوا في

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٤١.

٥٧

إطفاء ما دثر بينكم ، وتسهيل ما توعّر عليكم ؛ ألا إنّ الحرب شرّها ذريع ، وطعمها فظيع ، فمَنْ أخذ لها أهبتها ، واستعدّ لها عدّتها ، ولم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها ، ومَنْ عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قمن ألاّ ينفع قومه ، وأن يهلك نفسه. نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة»(١) .

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى استعجال الحرب ، واستعداد الشام لها ، والإمعان في وسائلها ؛ فإنّ ذلك من موجبات النصر ، ومن وسائل التغلب على الأعداء ، وإنّ إهمال ذلك ، وعدم الاعتناء به ممّا يوجب الهزيمة والاندحار. ودلّ هذا الخطاب على خبرة الإمام (عليه السّلام) الواسعة في الشؤون العسكرية والحربية.

وتهيّأ الناس بعد خطاب سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) إلى الحرب ، وأخذوا يجدّون في تنظيم قواهم ، ولمّا تمّت عدّتهم زحف بهم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لحرب ابن أبي سفيان ، وقد قدم طلائعه ، وأمرهم أنْ لا يبدؤوا أهل الشام بقتال حتّى يدركهم.

وزحفت كتائب الجيش العراقي كأنّها السيل ، وهي على يقين أنّها إنّما تحارب القوى الباغية على الإسلام ، والمعادية لأهدافه. وقد جرت في أثناء مسيرة الإمام (عليه السّلام) أحداث كثيرة لا حاجة إلى إطالة الكلام بذكرها ، فإنّا لا نقصد بهذه البحوث أن نلمّ بها ، وإنّما نشير إليها بإيجاز.

احتلالُ الفرات :

ولمْ يجد أصحاب الإمام (عليه السّلام) شريعة على الفرات يستقون منها الماء إلاّ وهي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٨٦.

٥٨

محاطة بالقوى المكثفة من جيش معاوية ؛ يمنعونهم أشدّ المنع من الاستسقاء من الماء ، ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) ذلك أوفد رسله إلى معاوية يطلبون منه أنْ يخلّي بينهم وبين الماء ليشربوا منه ، فلمْ تسفر مباحثهم معه أي شيء ، وإنّما وجدوا منه إصراراً على المنع يريد أنْ يحرمهم منه ، كما حرموا عثمان مِن الماء.

وأضرّ الظمأ بأصحاب الإمام (عليه السّلام) ، وانبرى الأشعث بن قيس يطلب الإذن من الإمام (عليه السّلام) أنْ يفتح باب الحرب ليقهر القوى المعادية على التخلّي عن الفرات ، فلمْ يجد الإمام (عليه السّلام) بداً من ذلك فأذن له ، فاقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال ، وكُتِبَ النصر لقوات الإمام (عليه السّلام) فاحتلّت الفرات ، وأراد أصحاب الإمام (عليه السّلام) أنْ يقابلوهم بالمثل فيحرمونهم منه ، كما صنعوا ذلك معهم ، ولكنّ الإمام (عليه السّلام) لمْ يسمح لهم بذلك ، وعمل معهم عمل المحسن الكريم فخلّى بينهم وبين الماء.

لقد كان اللؤم والخبث من عناصر الاُمويِّين وذاتياتهم ، فقد أعادوا على صعيد كربلاء ما اقترفوه من الجريمة في صفّين ، فحالوا بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين الماء ، وتركوا عقائل الوحي ومخدرات الرسالة ، وصبية أهل البيت (عليهم السّلام) قد صرعهم العطش ، ومزّق الظمأ قلوبهم ، فلمْ يستجيبوا لأيّة نزعة إنسانية ، ولمْ ترقّ قلوبهم فيعطفوا عليهم بقليل من الماء.

رسلُ السلام :

وكان الإمام (عليه السّلام) متحرّجاً كأشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء المسلمين ، فقد جهد على نشر السلام والوئام ، فأوفد إلى معاوية عدي بن حائم ، وشبث بن ربعي ، ويزيد بن قيس ، وزياد بن حفصة يدعونه إلى حقن دماء المسلمين ، ويذكّرونه الدار الآخرة ، ويحذّرونه أنْ ينزل به ما نزل بأصحاب الجمل ، ولكنّ ابن هند لمْ يستجب لذلك ، وأصرّ على الغي والتمرد ، وقد

٥٩

حمّل الإمام (عليه السّلام) المسؤولية في قتل عثمان بن عفان ، وقد دفعه إلى العصيان ما يتمتّع به من القوى العسكرية واتفاق كلمتها ، وإصرارها على الطلب بدم عثمان.

ورجعت رسل السّلام وقد أخفقت في سفارتها ، واستبان لها أنّ معاوية مصمّم على الحرب ، ولا رغبة له في الصلح ، وأحاطوا الإمام (عليه السّلام) علماً بذلك ، فجعل يتهيّأ للحرب ، ويدعو الناس إلى القتال.

الحربُ :

وعبّأ الإمام (عليه السّلام) أصحابه على راياتهم واستعد للقتال ، وقد أمر أصحابه أنْ لا يبدؤوهم بقتال ، كما عهد لهم في حرب الجمل ، وأنْ لا يقتلوا مدبراً ، ولا يجهزوا على جريح ، ولا يمثّلوا بقتيل ، ولا يهيجوا امرأة إلى غير ذلك من الوصايا التي تمثّل شرف القيادة العسكرية في الإسلام.

وجعلت فرق من جيش الإمام (عليه السّلام) تخرج إلى فرق من جيش معاوية فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه ، ثمّ يتحاجزان من دون أنْ تقع حرب عامة بينهما ، وقد رجا الإمام (عليه السّلام) بذلك أنْ يثوب معاوية إلى الصلح وحقن الدماء. ودام الأمر على هذا حفنة من الأيام من شهر ذي الحجّة ، فلمّا أطلّ شهر الحرام ، وهو من الأشهر التي يحرم فيها القتال في الجاهلية والإسلام توادعوا شهرهم كلّه ، واُتيح للفريقين أنْ يقتلوا آمنين ، وقد آمن بعضهم بعضاً ولمْ تقع بينهم أي حرب ، وقد سعت بينهم سفراء السلم إلاّ أنّها أخفقت في سعيها.

وقد احتدم الجدال بين الفريقين ؛ فأهل العراق يدعون أهل الشام إلى جمع الكلمة وحقن الدماء ، ومبايعة وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، وأهل الشام يدعون العراقيّين إلى الطلب بدم عثمان ورفض بيعة الإمام (عليه السّلام) ، وإعادة الأمر شورى بين المسلمين.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتجّ به غدا يوم القيامة ، وهو يوجب الكفر والإلحاد؟!

وأيّ عذر لهم عن ذلك وعن الكفر والإلحاد؟!

( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (٢) ؟!

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة الله سبحانه إلى كلّ خسيسة ورذيلة! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فليحذر المقلّد وينظر كيف هؤلاء القوم الّذين يقلّدونهم؟! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم ، كفاهم بذلك ضلالا!

وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء ، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف وفّقهم الله لإصابة الصواب.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة النساء ٤ : ٧٨.

٣٠١

وقال الفضل (١) :

قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة.

ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبّال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبّال وأخذ الحمّص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذّذ به.

فهذا ابن المطهّر النجس! كالزبّال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفّر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ بالله من الضلال ، والله الهادي.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٠.

٣٠٢

وأقول :

قد عرفت أنّه لم يشتمل كلامه إلّا على التمويه ، الذي لا ينفعه حين الندامة ، ولا يكون له عذرا يوم القيامة ، والعجب منه أنّه يجازي المصنّف بما يدلّ على أنّه فاعل مختار.

فإذا كان الله تعالى هو الذي خلق تكفير المصنّف لهم ، فلينتصف من الله تعالى لا من المصنّف ، وليحارب الله تعالى لا المحلّ الذي لا أثر له أصلا.

ولينظر العاقل أنّ الذي وقع في البين من المخاصمة والعداء كلّه من الله سبحانه ، فيكون لاعبا ، أو من عبيده؟!

وهل يحسن من الله تعالى أن يفعل ذلك ثمّ يعاقب غيره على ما لا أثر له فيه؟! تعالى الله عمّا يصفون.

* * *

٣٠٣
٣٠٤

إبطال الكسب

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

المطلب الثاني عشر

في إبطال الكسب

إعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة ، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ، التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) (٢) ، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم الضرورية ، كما هو دأبه(٣) وعادته في ما تقدّم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال :

الله تعالى يوجد الفعل ، والعبد مكتسب له(٤) ، فإذا طولب بتحقيق

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٣.

(٣) كان في الأصل : « رأيه » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

(٤) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، مقالات الإسلاميّين :٥٣٩.

٣٠٥

الكسب وما هو؟ وأيّ وجه يقتضيه؟ وأيّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه

فقال بعضهم : معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل ، وعدمه عقيب اختياره العدم ، فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الله الفعل عند اختيار العبد(١) .

وقال بعضهم : معنى الكسب أنّ الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر ألبتّة ، لكنّ العبد يؤثّر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من الله تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد(٢) .

وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنّه صادر عن العبد(٣) .

* * *

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ ٥٩ ـ ٦٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، العلم الشامخ : ٣١٩ عن ابن الهمام.

(٢) انظر : تمهيد الأوائل : ٣٤٧ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٤ ـ ٨٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٤ ، العلم الشامخ : ٣٢١ عن أبي منصور السمرقندي.

(٣) انظر : شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، العلم الشامخ : ٣١٧ و ٣٢٥ حكاية عن والد السبكي.

٣٠٦

وقال الفضل (١) :

قد مرّ أنّ مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : أنّ أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى ، مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له هذا مذهب الشيخ(٢) .

ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد ، وتنزيه الله تعالى عن الشركاء في الخلق ، مع إثبات الكسب للعبد ، حتّى تكون قواعد الإسلام ، ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعيّة ، من غير تكلّف إيجاد الشركاء في الخلق.

ونحن إن شاء الله تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف ، وينقاد لصحّته المتعسّف ، فنقول :

يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة ، وفسّره بكون العبد محلّا للفعل تارة.

وتحقيقه : إنّ الله تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء ، وقدرة يصحّح بها الفعل والترك.

ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل.

وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٣.

(٢) تقدّم في الصفحة ١١٣ من هذا الجزء.

٣٠٧

فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل ، وذلك الفعل ممكن ، والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح ، فهو يوجد لا محالة بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية ، والقدرة القديمة ، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا من الإرادة والقدرة الحادثة.

والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة ، كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه.

فلمّا أوجد الله تعالى الفعل ، وكان قبل الإيجاد تهيّأت صفة اختيار العبد إلى إيجاد الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته ، فبقي للفعل نسبتان :

نسبة إلى العبد ؛ وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيّؤ الإرادة والاختيار نحو تحصيل الفعل ، وحصول الفعل عقيب تهيّئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب ؛ لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد.

ونسبة إلى الله تعالى ؛ وهو أنّه كان مخلوقا لله تعالى ، موجدا منه.

وهذا معنى كون الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد.

ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد ، فيكون العبد محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته ، كالأسود فإنّه محلّ للسواد ، فيجوز أن يقال ـ باعتبار كون الفعل صفة له ـ : إنّه كسبه ؛ ومعنى الكسب كونه محلّا له.

والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب ، بواسطة كونه محلّا لليبوسة المفرطة.

وهل يحسن أن يقال : لم ترتّب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلّا لليبوسة؟! والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة! وأيّ

٣٠٨

ذنب للحطب؟! وهل هذا الإحراق إلّا الظلم والجور والعدوان؟!

إن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل الله تعالى الكافر محلّ الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟!

والعاقل يعلم أنّه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني!

فرّغ جهدك لنيل ما حقّقناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري ، لئلّا يبقى لك شبهة ، فهذا نهاية التوضيح.

ولكنّ المعتزلي عمي بصره فعظم ضرره ، ألقته الشبهة في مهواة غائلة ، واغتاله القول(١) في مهمّة(٢) هائلة ، ونعم ما قلت شعرا :

ظهر الحقّ من الأشعري والنور جلي

طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي(٣)

فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب ، وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الراتع في جنة عالية ، قطوفها دانية ، والله تعالى يجازيه!

* * *

__________________

(١) في نسخة إحقاق الحقّ : الغول ؛ ولعلّها الأنسب.

(٢) المهمّة : كلّ ما نواه المرء من فعل أو أمر وأراده وعزم عليه وهمّ بأن يفعله ؛ انظر : تاج العروس ١٧ / ٧٦٤ و ٧٦٧ مادّة « همم ».

(٣) نقول : لا ندري ممّ نتعجّب؟! أمن علم هذا الرجل وبراعته في علم الكلام؟! أم من فصاحته وبلاغته ونبوغه في الشعر ومعرفته بالمعاني؟! أم من خلقه الرفيع العالي؟!

والعجب كلّ العجب ممّن يتّبع هذا وأمثاله ويدافع عنهم دون علم ودراية!! ولكن كما قال أبو الطيّب المتنبّي :

شبيه الشيء منجذب إليه

وأشبهنا بدنيانا الطغام

فليتأمّل!

٣٠٩

وأقول :

ظهر لك من تضاعيف الكلمات أنّ الكسب بمعزل عن الحقّ ، وأنّ التنزيه الذي موّهوا به من باب تسمية الشيء باسم ضدّه ، إذ لم يشتمل إلّا على إنكار العدل والرحمة ، وإثبات العبث في التكليف والبعثة.

وأمّا ما ادّعاه من التحقيق ، ففيه وجوه من الخلل :

أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : « فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا » ، خطأ ؛ لأنّ تميّز الإرادة والقدرة القديمتين عن الحادثتين لا يوجب أن يوجد الله سبحانه أفعال العباد ، ولا يوجب التزاحم بينهما حتّى تحصل الغلبة.

نعم ، يوجب التزاحم لو قلنا : إنّ قدرة الله على الشيء تستلزم فعله له ، كما يظهر من بعض ما يحكى عن الرازي(١) ، ويظهر من الخصم في المبحث الآتي ، حيث إنّه في أثناء كلامه على قول المصنّف : « وأيضا دليلهم آت » إلى آخره ، قال : « فالاختيار مقدور لله تعالى فيكون مخلوقا لله تعالى ».

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ القدرة تستلزم فعل كلّ مقدور ، لعدم اقتضاء ذاتها له ، وللزوم أن يكون كلّ ممكن فرض موجودا لأنّه مقدور ، أو انحصار قدرته بالموجودات ، وهو كما ترى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات التهيّؤ لإرادة العبد لا فائدة فيه ، إذ لا يصحّح اللوازم الفاسدة من العقاب للعبد بلا ذنب ، والعبث في البعثة والتكليف ،

__________________

(١) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ٢١.

٣١٠

ونحوها ؛ على أنّه إن زعم أنّ التهيّؤ أثر للعبد فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا فلا يثمر تكلّفه إلّا تطويل مسافة الجبر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله : « لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء » إن أراد به أنّ لفظ الكسب في القرآن يراد به المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة ، فهو باطل ؛ لأنّه اصطلاح جديد ، فاللازم حمله على معناه اللغوي ، وهو : العمل(١) .

وأيّ دلالة في ذكر الكسب ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ على كون المراد هو الكسب الأشعري حتّى يحمل عليه؟!

وإن أراد به أنّ وجود لفظ الكسب في القرآن ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ سبب لتسمية المعنى الذي تصوّره الأشعري بالكسب ، ففيه :

إنّا لو تصوّرنا وجها للسببية ، فلا يثبت به إلّا تصحيح الاصطلاح ، لا حمل الكتاب العزيز عليه ، كما هي عادتهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف محلّ لصفته » ، باطل ؛ لأنّ أفعال الله تعالى صفات له ، لذا يوصف بالمحيي ، والمميت ، والخالق ، والرازق ، ونحوها ، وهو ليس محلّا لها بنحو محلّيّة الأسود للسواد الذي مثّل به.

ثمّ إنّ ما فرّعه عليه بقوله : « فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له : إنّه كسبه » ، غير تامّ ؛ فإنّه يستدعي أن يقال باعتبار كون أفعال الله تعالى صفة له : إنّه كسبها ، وهو باطل ؛ لأنّ الكسب لا يطلق إلّا حيث يكون الفاعل قاصدا لجلب النفع له أو دفع المضرّة عنه.

__________________

(١) انظر مادّة « كسب » في : لسان العرب ١٢ / ٨٧ ، المصباح المنير : ٢٠٣.

٣١١

وأمّا خامسا : فلأنّ قوله : « والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب » ، ظاهر الفساد ، فإنّه يستلزم صحّة العقاب على الطول والقصر ؛ لأنّه محلّ لهما ، ولا يكون الاختيار فارقا ما دام غير مؤثّر ، ولذا قاس الإنسان على الحطب ، وقاس كفره على يبوسة الحطب ، وهذا القياس فاسد ؛ لعدم الضرر والأذى على الحطب لانتفاء الشعور والإحساس عنه ، ولذا لا يكون الإحراق ظلما له ، بخلاف عذاب الحسّاس الذي لا ذنب منه ولا أثر له بالمعصية أصلا.

فيا عجبا ممّن يتفوّه بهذه الكلمات ، ويزعم أنّه لا تبقي معها شبهة ، وأنّ صاحبها على متن الصراط ، وما هو إلّا كبيته الذي سمّاه شعرا!!

* * *

٣١٢

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

وهذه الأجوبة فاسدة

أمّا الأوّل : فلأنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه.

وأيّ فرق بينهما؟! وأيّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا؟! وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى ، وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك ، وليس بمعلوم.

وأيضا : دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ، إمّا العبد أو الله تعالى ، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا ، لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير ، من غير شركة للعبد فيه.

وأيضا : العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى الفعل عقيبه ، ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار ، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر(٢) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٦.

(٢) في المخطوط : القدر.

٣١٣

وقال الفضل (١) :

قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ(٢) ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب

أمّا ما أورد على القول الأوّل ، وهو : « إنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال » ، فباطل ؛ لأنّهما من جملة الصفات ، وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة [ والاختيار ] ممّا يخلقها الله تعالى في العبد ، والعبد بهما يرجّح الفعل(٣) .

فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم منه ، فإنّه صار قائلا بأنّ أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، ولكن ربّما يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطرارية ، وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراريّ.

وأمّا قوله : « دليلهم آت في نفس هذا الاختيار » ، وبيانه : إنّ الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله ، فيكون مخلوقا لله تعالى ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه الله تعالى عقيب الاختيار؟!

فجوابه : إنّ الاختيار من الصفات التي يخلقها الله تعالى أوّلا في العبد ، كسائر صفاته النفسانية ، وكيفيّاته المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتّب

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٣٤.

(٢) انظر الصفحتين ١١٣ و ٣٠٧.

(٣) الإمامية لا تقول بذلك على إطلاقه ، وسيأتي ردّ المصنّف1 عليه.

٣١٤

عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ؛ لأنّا نختار أنّ الدليل صحيح ، وليس هو مستندا إلى العبد وهو صادر عن الله تعالى.

وأمّا قوله : « وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا نختار أنّ الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد.

وأيضا : نختار أنّ الاختيار يدلّ العبد ليس موجبا للفعل.

قوله : « لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ».

قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب للعبد التوجّه نحو تحصيل الأفعال ، ويخلق الفعل عقيب توجيه العبد للاختيار ، والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك ، فالفرق واضح(١) .

وأمّا قوله : « العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه ».

فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد بالجواز هو الإمكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار.

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١١٣.

٣١٥

وأقول :

ينبغي أن نذكر هنا بعض ما في « شرح المقاصد » لتعرف صدق المصنّف في ما حكاه عنهم ، فإنّه بعد بيان أنّ فعل العبد واقع بقدرة الله وحدها ، وأنّ العبد كاسب ، قال :

« لا بدّ من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنّه اسم بلا مسمّى ، فاكتفى بعض أهل السنّة ، بأنّا نعلم بالبرهان أنّ لا خالق سوى الله تعالى ، ولا تأثير إلّا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أنّ القدرة الحادثة للعبد تتعلّق ببعض أفعاله ، كالصعود دون البعض كالسقوط ، فيسمّى أثر تعلّق القدرة الحادثة كسبا وإن لم تعرف حقيقته.

قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإنّ الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز ، فأصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسمّاة ب‍ :

الكسب(١) .

وقريب من ذلك ما يقال : إنّ أصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وتعيّنها بقدرة العبد ، وهو كسب ، وفيه نظر.

وقيل : الفعل الذي يخلقه الله تعالى في العبد يخلق معه قدرة للعبد متعلّقة به ، يسمّى كسبا للعبد ، بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة.

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ١٠.

٣١٦

وقيل : إنّ للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط ، كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي ، فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب.

و هذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحّة انفراد القادرية ، وما يقع في محلّ قدرته ، بخلاف الخلق ، فإنّه ما يقع به المقدور مع صحّة انفراد القادرية ، وما يقع لا في محلّ قدرته.

فالكسب لا يوجب وجود المقدور ، بل يوجب ـ من حيث هو كسب ـ اتّصاف الفاعل بذلك المقدور ؛ ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ، ككون الفعل طاعة أو معصية ، حسنا أو قبيحا ، فإنّ الاتّصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح ، بخلاف خلق القبيح ، فإنّه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربّما يشتمل عليهما.

وملخّص الكلام ما أشار إليه الإمام حجّة الإسلام ، وهو : إنّه لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه عندنا بالاكتساب.

إلى أن قال : فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمّى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة الله تعالى خلقا ، فهي خلق للربّ ووصف للعبد وكسب له ، وقدرته خلق للربّ ووصف للعبد وليس بكسب له(١) »(٢) .

وإنّما أطلنا بنقل كلامه لتعرف حال أساطينهم فضلا عن مثل هذا

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد : ٦٠.

(٢) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣١٧

الخصم.

ويكفي في بطلان هذه الكلمات مجرّد النظر فيها ، مع أنّ الكسب ـ بأيّ معنى فسّر ـ إن كان من فعل الله تعالى دون العبد فلا فائدة في إثباته ، وإن كان من أثر العبد فقد خالفوا مذهبهم ولم يكن موجب لإثباته وإنكار تأثير العبد في الفعل.

ولو لا تعلّق القصد بردّ ما أورده الخصم لكان الأولى الإعراض عن مثله ، إلّا إنّه لا مناص من ردّه ، فنقول :

أمّا ما ذكره من أنّ الإرادة من جملة الصفات ، فصحيح ، سواء أراد بالصفات ما كان من مقولة الكيف ، أو ما لوحظ فيه جهة التلبّس لا الحدوث ، لكن لا ينافي أن تكون الإرادة فعلا باعتبار حدوثها ، ولذا يقول المتكلّمون : إنّ الله تعالى فاعل للعدل والرحمة والمغفرة باعتبار حدوثها منه ، وموصوف بها باعتبار تلبّسه بها(١)

فصحّ قول المصنّف : « إنّ إرادة العبد من جملة الأفعال ».

على أنّه لا أثر للاصطلاح والتسمية ، فإنّ كلام المصنّف في الصدور الذي يسلّمه القائل بالقول الأوّل ، فأورد عليه أنّه إذا جازصدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه إلى آخره.

وأمّا قوله : « وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها الله تعالى في العبد »

فإن أراد أنّها ربّما يخلقها الله تعالى ، فلا يضرّنا القول به ، وإن أراد أنّها مخلوقة له دائما ، فكذب علينا ، كيف؟! وقد سبق أنّ العبد فاعل لها ،

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٣١٨

قادر عليها وجودا وعدما ، ولو بالقدرة على أسبابها!

وأمّا حمده لله تعالى على إقرار المصنّف بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، فمن المضحك ، إذ لم يظهر من المصنّف اختيار أنّ إرادة العبد صادرة عن الله تعالى إن لم يظهر منه الخلاف ، ومجرّد قول أصحابه به ـ لو سلّم ـ لا يستلزم أن يقول المصنّف به ، إذ ليس هو من أصول الدين.

على أنّ القول بأنّ بعض أفعالنا مخلوق لله تعالى لا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في الإيجاب الكلّي حيث يقولون : إنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى(١) ، ونحن نمنعه ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي.

ثمّ إنّ معنى قول الخصم : « ولكن ربّما يدفعه » إلى آخره ؛ هو أنّ المصنّف قد يجيب عن ذلك بأنّ الإرادة والاختيار ليسا محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في الأفعال الاختيارية ، وليست الإرادة والاختيار صادرين بالاختيار.

وفيه : إنّ المصنّف لا يجيب بهذا ؛ لأنّ الإرادة عنده فعل اختياري(٢) ، أي من آثار قدرة العبد ، وإنّما يجيب بخطأ الخصم ، حيث زعم أنّ الإرادة عندنا من أفعال الله تعالى ، كما عرفت.

ثمّ إن أراد بقوله : « وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراري » إنكار كون الاختيار فعلا ، فباطل ؛ لما عرفت من معنى الفعل.

وإن أراد به دعوى أنّ الاختيار مسبوق بالاختيار ، لزمه التسلسل.

__________________

(١) الإبانة عن أصول الديانة : ٤٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ، المواقف : ٣١١.

(٢) مناهج اليقين : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٣١٩

وإن أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد ، فنعم الوفاق ، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله : « إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ».

وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف : « ودليلهم آت في نفس الاختيار »

ففيه : إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد ، ومنه يعلم ما في جوابه أيضا عن الإشكال الثالث بقوله : « فجوابه : إنّ الاختيار صادر عن الله لا عن العبد ».

وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل

ففيه : إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار ـ كما زعم ـ إن كان أثرا للعبد كان خروجا عن مذهبه ، وإلّا فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا ، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه ، لا الفرق كيفما كان ، وإلّا فالفروق كثيرة.

واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد ؛ لأنّهما هما المحقّقان للكسب ، وإن كانا معا من فعل الله تعالى كأصل الفعل ، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازما لا مناص منه ليكون به المخلص ، فإذا جعلوه عاديا غير لازم الوجود واقعا ، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف ، لم يكن مخلصا.

وهذا هو مقصود المصنّف في كلامه الأخير.

وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مخلصهم بإثبات وجوب

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470