حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام8%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 316755 / تحميل: 7203
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ولمّا انقضى شهر محرّم مضى القوم على الحرب ، ولكنّها لم تكن عامة ، وإنّما كانت منقطعة تخرج الكتيبة للكتيبة ، والفرقة للفرقة.

وسئم الفريقان هذه الحرب المتقطّعة ، وتعجّلوا الحرب العامة ؛ فعبّأ الإمام (عليه السّلام) جيوشه تعبئة عامة ، وكذلك فعل معاوية ، والتحم الجيشان التحاماً رهيباً واقتتلوا أبرح قتال وأعنفه ، وانكشفت ميمنة جيش الإمام (عليه السّلام) انكشافاً بلغ الهزيمة ، فقاتل الإمام ومعه الحسن والحسين (عليهم السّلام)(١) ، وانحاز الإمام (عليه السّلام) إلى ميسرة جيشه من ربيعة فاستماتت ربيعة دونه (عليه السّلام) ، وكان قائلهم يقول : لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إنْ اُصيب أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو فيكم.

وتحالفت ربيعة على الموت وصمدت في الحرب ، ورجعت ميمنة الإمام (عليه السّلام) إلى حالها بفضل الزعيم مالك الأشتر ، واستمرت الحرب بأعنف ما يتصوّر ، وقد ظهر الضعف وبان الانكسار في جيش معاوية ، وهمّ معاوية بالفرار لولا أنّه تذكّر قول ابن الأطنابة :

أبت لي همّتي وأبى بلائي

وإقدمي على البطلِ المُشيحِ

وإعطائي على المكروهِ مالي

وأخذي الحمدَ بالثَّمنِ الربيحِ

وقولي كلّما جشأتْ وجاشتْ

مكانك تَحمَدي أو تستريحي

وقد ردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات ، كما كان يتحدّث بذلك أيّام المُلْك والسلطان.

منعُ الحسنين (عليهما السّلام) من الحرب :

ومنع الإمام (عليه السّلام) أمير المؤمنين سبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الاشتراك في عمليات الحروب ، فقال (عليه السّلام) : «املكوا عنّي هذين الغلامين ـ يعني

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١.

٦١

الحسن والحسين (عليهما السّلام) ـ لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)»(١) .

لقد حرص الإمام (عليه السّلام) على ريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنّ بهما امتداداً لنسله ، وإبقاءً لذرّيّته.

مصرعُ عمّار :

وعمّار بن ياسر من ألمع أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأكثرهم جهاداً وبلاءً في الإسلام ، وقد شايع عليّاً ولازمه بعد وفاة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أيقن أنّه مع الحقّ والحقّ معه كما قال فيه النّبي (صلّى الله عليه وآله). وكان في أيّام صفّين شيخاً قد نيف على التسعين عاماً ، ولكنّ قلبه وبصيرته كانت بمأمن من الشيخوخة ؛ فقد كان في تلك المعركة كأنّه في ريعان الشباب ، وكان يحارب راية ابن العاص ، وهو يشير إليها قائلاً : والله ، إنّ هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن. وكان يقول لأصحابه لمّا رأى انكشافهم في المعركة : والله ، لو ضربونا حتّى يبلغونا سعفان هجر لعلمنا أنّا على الحقّ ، وأنّهم على الباطل.

ويقول الرواة : إنّه جلس مبكراً في يوم مِنْ أيّام صفّين ، وقد ازداد قلبه شوقاً إلى ملاقاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وملاقاة أبويه ، فخفّ إلى الإمام مسرعاً يطلب منه الإذن في أنْ يلجَ الحرب لعلّه يُرزق الشهادة ، فلمْ يسمح له الإمام (عليه السّلام) بذلك ، وظلّ يعاود الإمام مستأذناً فلمْ تطب نفس الإمام بذلك ، وراح يلح عليه فأذن له ، وأجهش الإمام (عليه السّلام) بالبكاء حزناً وموجدة عليه.

وانطلق عمّار إلى ساحات الحرب وهو موفور القوى ، قد استردّ نشاطه ، وهو جذلان فرح بما يصير إليه من الشهادة ، وقد رفع صوته عالياً :

__________________

(١) نهج البلاغة

٦٢

«اليوم ألقى الأحبّهْ محمّداً وحزبَهْ ..».

وكان صاحب الراية في الكتيبة التي يقاتل فيها عمّار هو هاشم بن عتبة المرقال ، وكان من فرسان المسلمين وخيارهم ، وأحبّهم للإمام (عليه السّلام) وأخلصهم له ، وكان أعور ، فاتّجه نحوه عمّار فجعل تارة يدفعه بعنف إلى الحرب ، ويقول له : تقدّم يا أعور. واُخرى يرفق به أشدّ الرفق ويقول له : احمل فداك أبي واُمّي! وهاشم يقول له : رحمك الله يا أبا اليقظان ، إنّك رجل تستخفّ الحرب ، وإنّي إنّما أزحف لعلّي أبلغ ما اُريد.

وضجر هاشم فحمل وهو يرتجز :

قد أكثروا لومي وما أقلاّ

إنّي شريتُ النّفس لن اعتلاّ

أعور يبغي نفسهُ مَحلاّ

لا بدّ أن يفُلّ أو يُفلاّ

قد عالج الحياة حتّى ملاّ

أشلّهم بذي الكعوب شلاّ

وقد دلّ هذا الرجل على تصميمه على الموت وسئمه مِن الحياة ، وجال في ميدان القتال ، وعمّار معه يقاتل ويرتجز :

نحنُ ضربناكُم على تنزيلِهِ

واليوم نضربكُمْ على تأويلِهِ

ضرباً يُزيل الهامَ عن مقيلهِ

ويذهل الخليلُ عن خليلِهِ

أو يرجع الحقّ إلى سبيلِهِ

لقد قاتل عمّار بإيمان وإخلاص المشركين مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وناضل كأشدّ ما يكون النضال دفاعاً عن كلمة التوحيد ، وقاتل أعنف القتال مع أخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دفاعاً عن تأويل القرآن ، ودفاعاً عن إمام المسلمين ، فما أعظم عائدة عمّار وألطافه على الإسلام!

والتحم عمّار مع القوى الغادرة التحاماً رهيباً ، وحمل عليه رجس من أرجاس البشرية يسمّى أبو الغادية ، فطعنه برمحه طعنة قاتلة ، فهوى إلى الأرض ذلك الصرح الشامخ من العقيدة والإيمان يتخبّط بدمائه الزكية ،

٦٣

وقد أضرّ به العطش ، فبادرت إليه امرأة بلبن ، فلما رآه تبسّم وأيقن بدنو أجله ، وراح يقول بنبرات هادئة مطمئنة : قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «آخر شرابك مِن الدنيا ضياح مِنْ لبن ، وتقتلك الفئة الباغية». ولمْ يلبث قليلاً حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة ، وانطوت بموته أروع صفحة مشرقة مِن الإيمان والجهاد ، وارتفع ذلك العملاق الذي أضاء الحياة الفكرية بإخلاصه واندفاعه نحو الحق.

وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) برحاً لمْ يقرّ له قرار حينما برز عمّار إلى ساحة الجهاد ، فكان يقول : «فتّشوا لي عن ابن سمية». وانطلقت فصيلة من الجند تبحث عنه ، فوجدوه قتيلاً مضمّخاً بدم الشهادة ، فانبروا مسرعين إلى الإمام (عليه السّلام) فاخبروه بشهادته ، فانهدّ ركنه وانهارت قواه ، وسرت موجات من الألم القاسي في مُحيّاه ؛ فقد غاب عنه الناصر والأخ.

ومشى الإمام (عليه السّلام) لمصرعه كئيباً حزيناً وعيناه تفيضان دموعاً ، وسار معه قادة الجيش وقد أخذتهم المائقة ؛ حزناً على البطل العظيم ، ولمّا انتهى إليه ألقى بنفسه عليه وجعل يوسعه تقبيلاً ، وقد انفجر بالبكاء ، وجعل يؤبّنه بحرارة قائلاً : «إنّ امرأً مِن المسلمين لمْ يعظم عليه قتلُ ابن ياسر ، وتدخل عليه المصيبة الموجعة لَغير رشيد. رحم الله عمّاراً يوم أسلم. رحم الله عمّاراً يوم قُتل. رحم الله عمّاراً يوم يُبعث حيّاً. لقد رأيت عمّاراً وما يُذكر مِن أصحاب رسول الله أربعة إلاّ كان رابعاً ، ولا خمسة إلاّ كان خامساً ، وما كان أحد مِن قدماء أصحاب رسول الله يشكّ أنّ عمّاراً قد وجبت له الجنّة في غير موطن ولا اثنين ،

٦٤

فهنيئاً لعمار بالجنّة».

وأخذ الإمام (عليه السّلام) رأسه فجعله في حجره ودموعه تتبلور على خديه ، وانبرى الإمام الحسن (عليه السّلام) وغيره فأبّنوا الشهيد العظيم بقلوب مذابة مِن الحزن ، ثمّ قام الإمام (عليه السّلام) فواراه في مقرّه الأخير.

ويقول المؤرّخون : إنّ الفتنة وقعت في جيش معاوية حينما اُذيع مقتل عمّار ، فقد سمعوا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في فضل عمّار إنّ الفئة الباغية تقتله ، وقد اتضح لهم أنّهم الفئة الباغية التي عناها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولكن ابن العاص استطاع أن يزيل الخلاف ، فقال لهم : إنّ الذي أخرج عمّاراً هو الذي قتله ، وأذعن بسطاء أهل الشام لما قاله ابن العاص.

واشتد القتال بأعنفه بعد مقتل عمّار ، وقد تفلّلت جميع قوى معاوية ، وبان الضعف في جيشه.

مكيدةُ ابن العاص :

لعلّ أبشع مهازل التاريخ البشري في جميع فترات التاريخ هي مكيدة ابن العاص في رفع المصاحف ، وقد وصفها (راو حوست ميلر) بأنّها من أشنع المهازل وأسوئها في التاريخ البشري(١) . وأكاد أعتقد أنّ هذه المكيدة لم تكن وليدة المصادفة أو المفاجئة ، فقد حيكت اُصولها ووضعت مخططاتها قبل هذا الوقت ، فقد كان ابن العاص على اتصال دائم أحيط بكثير مِن الكتمان مع جماعة مِن قادة الجيش العراقي في طليعتهم الأشعث بن قيس ، فهما اللذان دبّرا هذا الأمر ، وقد ذهب إلى هذا الرأي الدكتور طه حسين ، قال : فما أستبعد أنْ يكون الأشعث بن قيس وهو ماكر أهل

__________________

(١) العقيدة والشريعة في الإسلام / ١٩٠.

٦٥

العراق وداهيتهم ، قد اتصل بعمرو بن العاص ماكر أهل الشام وداهيتهم ، ودبّرا هذا الأمر بينهم تدبيراً ، ودبّروا أنْ يقتتل القوم ؛ فإنْ ظهر أهل الشام فذاك ، وإنْ خافوا الهزيمة أو أشرفوا عليها رفعوا المصاحف فأوقعوا الفرقة بين أصحاب علي ، وجعلوا بأسهم بينهم شديداً(١) .

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الهزيمة لمّا بدت بأهل الشام وتفلّلت جميع قواعدهم ، فزع معاوية إلى ابن العاص يطلب منه الرأي ، فأشار عليه برفع المصاحف ، فأمر بالوقت برفعها ، فرُفعت زهاء خمسمئة مصحف على أطراف الرماح ، فعلت الأصوات من أهل الشام بلهجة واحدة : هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته. مَنْ لثغور أهل الشام بعد أهل الشام؟ ومَنْ لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ ومَنْ لجهاد الروم؟ ومَنْ للترك؟ ومَنْ للكفار؟

وكانت هذه الدعوى كالصاعقة على رؤوس الجيش العراقي ، فقد انقلب رأساً على عقب ، فتدافعوا كالموج نحو الإمام (عليه السّلام) وهم ينادون : لقد أعطاك معاوية الحقّ ؛ دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه. ودلّهم الإمام (عليه السّلام) على زيف هذه الحيلة ، وأنّها جاءت نتيجة فشلهم في العمليات العسكرية ، وأنّها لمْ يقصد بها إلاّ خداعهم ، وأنّهم رفعوا المصاحف لا إيماناً بها وإنّما هو من الخداع والمكر.

وممّا يؤسف له أنّهم لمْ يقرروا حقّ مصيرهم ومصير الأُمّة في تلك الفترات الحاسمة من تاريخهم التي أشرفوا فيها على الفتح والنصر ، ولمْ يبقَ من دكِّ حصون الظلم ونسف قواعد الجور إلاّ لحظات.

يا للمصيبة والأسف! لقد أصرّوا على التمرّد والعناد ، فانحاز منهم اثنا عشر ألفاً وهم أهل الجباه السود ، فخاطبوا الإمام (عليه السّلام) باسمه الصريح قائلين :

__________________

(١) الفتنة الكبرى ٢ / ٨٩.

٦٦

«يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت له ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنّها إنْ لمْ تجبهم ...».

فكلّمهم الإمام (عليه السّلام) برقّة ولطف ليقلع روح التمرّد منهم ، إلاّ أنّ كلام الإمام ذهب هباءً ، وراح القوم في غيّهم يعمهون وهم يصرّون على إرغام الإمام على إيقاف القتال ، وكان الأشعث بن قيس هو الذي يدفعهم إلى ذلك وينادي بأعلى صوته بالرضاء والقبول لدعوة أهل الشام.

ولمْ ير الإمام (عليه السّلام) بدّاً من إجابتهم ، فأصدر أوامره بإيقاف عمليات الحروب ، وقلبه الشريف يتقطّع ألماً وحزناً ، فقد أيقن أنّ الباطل قد انتصر على الحقّ ، وأنّ جميع متاعبه ودماء جيشه قد ذهبت سدى. وأصرّ المتمرّدون على الإمام بسحب مالك الأشتر من ساحة الحرب ، وكان قد أشرف على الانتصار ، ولم يبقَ بينه وبين الفتح إلاّ حلبة شاة ، فأرسل إليه الإمام (عليه السّلام) بالقدوم إليه ، فلم يعن بما أمر به ، وقال لرسول الإمام : قل لسيدي : ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أنْ تزيلني فيها عن موقفي ، إنّي قد رجوت الله أن يفتح لي فلا تعجلني.

ورجع الرسول فأخبر الإمام بمقالة القائد العظيم ، فارتفعت أصوات اُولئك الوحوش بالإنكار على الإمام (عليه السّلام) قائلين : والله ، ما نراك إلاّ أمرته أن يقاتل. وامتحن الإمام (عليه السّلام) في أمرهم كأشدّ ما تكون المحنة ، فقال لهم : «أرأيتموني ساررت رسولي (إليه)؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟».

وأصرّوا على الغي قائلين : فابعث إليه فليأتيك ، وإلاّ فوالله اعتزلناك. وأجمعوا على الشرّ ، وأوشكوا أن يفتكوا بالإمام (عليه السّلام) ، فأصدر أوامره المشدّدة

٦٧

بانسحاب مالك من ساحة الحرب ، واستجاب الأشتر لأمر الإمام (عليه السّلام) ، فقفل راجعاً وقد تحطّمت قواه ، وقال ليزيد الذي كان رسول الإمام : ألرفع هذه المصاحف؟ ـ يعني حدثت هذه الفتنة ـ [فقال :] نعم.

وعرف الأشتر مكيدة ابن العاص فقال : أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقع اختلافاً وفرقة ، إنّها مشورة ابن العاهرة. ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى إلى ما يلقون؟ ألا ترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟!

وأحاطه يزيد علماً بحراجة الموقف ، والأخطار الهائلة التي تحفّ بالإمام قائلاً : أتحبّ أنّك إنْ ظفرت هاهنا ، وأنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلّم إلى عدوه؟! فقال الأشتر مقالة المؤمن : سبحان الله! لا والله ما اُحبّ ذلك. [قال :] فإنّهم قالوا : لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينّك ، أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا ابن عفان ، أو لنسلمنّك إلى عدوّك.

وقفل الأشتر راجعاً وقد استولى الحزن على إهابه ، فقد ذهبت آماله أدراج الرياح ، فتوجّه نحوهم يلومهم ويعنّفهم ، ويطلب منهم أن يخلّوا بينه وبين عدوهم ، فقد أشرف على النصر والفتح. ولمْ يذعن اُولئك الممسوخون لمقالة الأشتر ، فقد أصروا على الذلّ والوهن قائلين له :

«لا لا».

٦٨

ـ أمهلوني عدوة فرس فإنّي قد طمعت في النصر.

ـ إذن ندخل معك في خطيئتك.

وانبرى الأشتر يحاججهم وينقد ما ذهبوا إليه قائلاً : حدّثوني عنكم ـ وقد قُتل أماثلكم وبقي أرذالكم ـ متى كنتم محقّين؟ أحين كنتم تقتلون أهل الشام ، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون؟! أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقّون؟ فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم ، وكانوا خيراً منكم في النار.

ولم يجد معهم هذا الكلام المشرق فقالوا له : دعنا منك يا أشتر ، قاتلناهم في الله ، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا. وردّ عليهم الأشتر بعنف حينما يئس من إصلاحهم ، وأخذ يحذرهم من مغبّة هذه الفتنة ، وأنّهم لا يرون بعدها عزاً أبداً. وحقّاَ إنّهم لمْ يروا عزّاً ، فقد أفلت من اُفقهم دولة الحقّ ، وآل أمرهم إلى معاوية فأخذ يسومهم سوء العذاب.

وطلب مالك من الإمام (عليه السّلام) أن يناجزهم الحرب فأبى ؛ لأنّ العارضين كانوا يمثّلون الأكثرية الساحقة في جيشه ، وفتْح باب الحرب يؤدي إلى أفظع النتائج ؛ فإنّ الاُمّة تقع فريسة سائغة بأيدي الاُمويِّين. وأطرق الإمام (عليه السّلام) برأسه وقد طافت به موجات من الآلام ، وأخذ يطيل التفكير في العاقبة المرّة التي جرّها هؤلاء العصاة للأُمّة.

ويقول المؤرّخون : إنّهم قد اتخذوا سكوته رضىً منه بالتحكيم فهتفوا : إنّ علياً أمير المؤمنين قد رضي الحكومة ، ورضي بحكم القرآن. والإمام غارق في الهموم ، فقد أفلت منه الأمر ، وتمرّد عليه جيشه ، وليس باستطاعته أنْ يعمل شيئاً ، وقد أدلى (عليه السّلام) بما مُنِيَ به ، بقوله :

٦٩

«لقد كنتُ أمس أميراً فأصبحتُ اليوم مأموراً ، وكنتُ أمس ناهياً فأصبحتُ اليوم منهيّاً».

التحكيمُ :

ولمْ تقف محنة الإمام وبلاؤه في جيشه المتمرّد إلى هذا الحد من العصيان والخذلان ، وإنّما تجاوز الأمر إلى أكثر مِنْ هذا ، فقد أصرّ المتمردون بقيادة الأشعث بن قيس على انتخاب أبي موسى الأشعري الذي هو مِنْ ألدّ أعداء الإمام ، وأكثرهم حقداً عليه ، وألحّوا على انتخابه لعلمهم بأنّه سيعزل الإمام عن الحكم ، وينتخب غيره ممّن يحقق أطماعهم ، وقد احتف هؤلاء العصاة بالإمام (عليه السّلام) ، وهم يهتفون : إنّا رضينا بأبي موسى الأشعري.

وزجرهم الإمام (عليه السّلام) ، ونهاهم عن انتخابه قائلاً : «إنّكم قد عصيتموني في أوّل الأمر فلا تعصوني الآن ، إنّي لا أرى أنْ اُولّي أبا موسى». وأصرّوا على غيهم وعنادهم قائلين : لا نرضى إلاّ به ، فما كان يحذرنا وقعنا فيه.

وأخذ الإمام (عليه السّلام) يدلي عليهم واقع أبي موسى وانحرافه عنه ، قائلاً : «إنّه ليس لي بثقة ؛ قد فارقني وخذّل الناس عنّي ، ثمّ هرب عنّي حتّى آمنته بعد أشهر ، ولكنْ هذا ابن عباس نولّيه».

وامتنعوا من ترشيح ابن عباس ، فأرشدهم ثانياً إلى انتخاب مالك الأشتر فرفضوه ، وأصرّوا على انتخاب الأشعري ، ولم يجد الإمام (عليه السّلام) بعد هذا بدّاً من الرضا والإذعان.

٧٠

وثيقةُ التحكيم :

واتفق الفريقان على أنْ يحكموا ابن العاص من قبل أهل الشام ، وأبا موسى الأشعري من قبل العراقيين ، وقد كتبوا صحيفة سجلوا فيها ما اتفقوا عليه من الأخذ بما يتفق عليه الحكمان ، وهذا نصها ، كما رواها الطبري :

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضي علي على أهل الكوفة ومَنْ معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية على أهل الشام ومَنْ كان معهم مِن المؤمنين والمسلمين ، إنا ننزل عند حكم الله عز وجل وكتابه ، ولا يجمع بيننا غيره ، وأنّ كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ، ونميت ما أمات ، فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل ، وهما أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس ، وعمرو بن العاص القرشي عملنا به ، وما لم يجدا في كتاب الله عز وجل فالسُنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة.

وأخذ الحكمان مِنْ علي ومعاوية ومِن الجُندين مِن العهود والميثاق ، والثقة من الناس أنّهما آمنان على أنفسهما وأهلهما ، والأُمّة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه ، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه العمل على ما في هذه الصحيفة ، وأنْ قد وجبت قضيتهما على المؤمنين ؛ فإنّ الأمن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا ، على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وشاهدهم وغائبهم ، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أنْ يحكما بين هذه الأُمّة ، ولا يردّاها في حرب ولا فرقة حتّى يعصيا ، وأجل القضاء إلى رمضان ، وإنْ أحبّا أنْ يؤخّرا ذلك أخّراه على

٧١

تراضٍ منهما. وإنْ توفي أحد الحكمين فإنّ أمير الشيعة يختار مكانه ، ولا يألوا مِنْ أهل المعدلة والقسط ، وإنّ مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام ، وإنْ رضيا وأحبّا فلا يحضرهما فيه إلاّ مَنْ أرادا ، ويأخذ الحكمان مَنْ أرادا مِن الشهود ثم يكتبان شهادتهما على ما في هذه الصحيفة ، وهم أنصار على مَنْ ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحاداً وظلماً. اللّهم إنّا نستنصرك على مَنْ ترك ما في هذه الصحيفة(١) .

ووقّع عليها طائفة مِن الفريقين ، وأصبحت نافذة المفعول ، وقد حقّقت آمال معاوية ، وأنقذته مِن الأخطار التي كادت أنْ تطوي حياته وتقضي على أتباعه.

والشيء المهم في هذه الوثيقة إنّها أهملت المطالبة بدم عثمان فلمْ تعرض لا بقليل ولا بكثير ، وإنّما كانت تنشد إيقاف الحرب ، ونشر السلم والعافية بين الفريقين ، وفيما أعتقد إنّها كُتِبَت ولم يكن للإمام (عليه السّلام) فيها أي رأي ، فقد خلّى بين جيشه وبين ما يريدون.

رجوعُ الإمام (عليه السّلام) للكوفة :

وغادر الإمام صفّين متّجهاً إلى الكوفة ، ولا أعتقد أنْ يلمّ كاتب بتصوير المحنة الكبرى التي ألمّت بالإمام ، فقد رجع مثقلاً بالهموم ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره قد تمّ ، وينظر إلى جيشه أصبح متمرّداً يدعوه فلا يستجيب ، ويأمره فلا يطيع ، قد مزّقت الفتنة جميع كتائبه ، فقد كانوا فيما يقول المؤرّخون : يتشاتمون ويتضاربون بالسياط ، ويبغي بعضهم على بعض. وأخطر ما حدث فيه انبثاق الفكرة الحروريّة التي سنتحدث

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٣٠.

٧٢

عنها ، فإنّها كانت سوسة تنخر في المعسكر العراقي ، وأهم من أي خطر داهم عليه ، فقد أخذت تعمل على تفلل وحدة جيش الإمام (عليه السّلام) ، وتذيع الفتنة والخوف بين صفوفه.

ودخل الإمام (عليه السّلام) الكوفة فرأى لوعة وبكاءً قد سادت في جميع أرجائها ، وحزناً على مَنْ قُتل منها في صفّين ؛ فإنّ قتلى صفّين بالقياس إلى قتلى الجمل كانوا أضعافاً أضعافاً.

مع المارقين :

ويقول الرواة : إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) سمّى أهل النهروان بالمارقين ، وأنّه قد عهد إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بقتالهم كما عهد إليه بقتال الناكثين والقاسطين من بعده.

والظاهرة البارزة في اتجاهات الخوارج هي الالتواء في السلوك ، والإصرار على الجهل والعناد ، فقد بنوا واقعهم على التعصّب ، وعدم التدبر والإمعان في حقائق الأمور ، وقد كان شعارهم الذي تفانوا في سبيله وقدّموا له المزيد من الضحايا (لا حكم إلاّ لله) ، ولكنّهم لمْ يلبثوا أنْ جعلوا الحكم للسيف ، فنشروا الإرهاب والخوف والفساد في الأرض ، كما سنذكر ذلك.

وعلى أي حال ، فإنّ الإمام (عليه السّلام) لمّا نزح من صفّين إلى الكوفة لمْ يدخلوا إليه ، وإنّما انحازوا إلى (حروراء) فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون : اثني عشر ألفاً ، وقد جعلوا أميرهم على القتال شبث بن ربعي ، وعلى الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكري ، وخلعوا الإمام (عليه السّلام) عن الخلافة ، وجعلوا الأمر شورى بين المسلمين.

والتاع الإمام (عليه السّلام) من تمرّدهم فأوفد للقياهم عبد الله بن عباس ، وأمره

٧٣

أنْ لا يخوض معهم في ميدان الخصومة والنزاع حتّى يأتيه ، إلاّ أنّه لمْ يجد بداً من الحوار معهم ، وبينما هو يحاورهم إذ أطلّ عليهم الإمام (عليه السّلام) فنهى ابن عباس عن مناظرتهم ، وأقبل عليهم فقال لهم : «اللهمّ ، إنّ هذا مقام مَنْ أفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ومَنْ نطق وأوعث فيه فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً». ثم قال لهم : «مَنْ زعيمكم؟».

ـ ابن الكواء.

ـ «ما أخرجكم علينا؟».

ـ حكومتكم يوم صفّين.

ـ «أنشدكم بالله ، أتعلمون أنّهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله ، قلتُ لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ؛ إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال. امضوا على حقّكم وصدقكم ، فإنّما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهناً ومكيدة ، فرددتم عليّ رأيي وقلتم : لا ، بل نقبل منهم. فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي ، فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين أنْ يحييا ما أحيا القرآن ، وأنْ يميتا ما أمات القرآن ، فإنْ حكما بحكم القرآن فليس لنا أنْ نخالف حكماً يحكم بما في القرآن ، وإنْ أبيا فنحن من حكمها براء».

وأبطلت هذه الحجّة النيرة جميع أوهامهم ، فهم المسؤولون عن التحكيم ، كما هم مسؤولون عن كلّ ما حدث من الفتنة والفساد ، وليس للإمام (عليه السّلام) ظلع في ذلك ، وأيقنوا أنّ الذنب ذنبهم ، وليس على الإمام (عليه السّلام) أي تبعة في ذلك ، فقالوا له : أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟

٧٤

ـ «لسنا حكّمنا الرجال إنما حكّمنا القرآن ، وهذا القرآن إنّما هو خط مسطور بين دفّتين لا ينطق ، وإنّما يتكلّم به الرجال».

ـ خبّرنا عن الأجل لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم؟

ـ «ليعلم الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعلّ الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأُمّة».

وسدّ عليهم الإمام (عليه السّلام) كلّ نافذة ينفذون منها ، ووجد منهم تقارباً وإذعاناً لمقالته ، فخاطبهم بناعم القول : «ادخلوا مصركم رحمكم الله». فأجابوه إلى ذلك ودخلوا عن آخرهم معه إلى الكوفة ، إلاّ أنّهم بقوا مصرّين على فكرتهم يذيعونها بين البسطاء ، حتّى شاع أمرهم وقويت شوكتهم ، وأخذوا ينشرون الخوف والإرهاب ، ويدعون إلى البغي ، وعزل الإمام (عليه السّلام) ، وجعل الأمر شورى بين المسلمين(١) .

اجتماعُ الحكمين :

وانتهت المدّة التي عيّنها الفريقان للتحكيم ، وقد استردّ معاوية قواه التي فقدها أيّام صفّين ، واستحكم أمره ، وقد أرسل إلى الإمام (عليه السّلام) يطلب منه الوفاء بالتحكيم ، وإنّما سارع إلى ذلك لعلمه بما مُنِيَ به جيش الإمام (عليه السّلام) من الفرقة والخلاف ، ثمّ هو على علم بأنّ النتيجة ستكون من صالحه ؛ لأنّ المنتخب للتحكيم هو أبو موسى الأشعري ، وهو على علم بانحرافه عن الإمام (عليه السّلام).

وأشخص الإمام (عليه السّلام) أبا موسى الأشعري إلى التحكيم ، وأرسل أربعمئة من أصحابه جعل عليهم شريح بن هاني ، وعبد الله بن عباس يصلّي بهم ، والتقى

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٤٦٩ ـ ٤٧٢.

٧٥

الحكمان الضالاّن على حدّ تعبير النّبي (صلّى الله عليه وآله)(١) في دومة الجندل أو في أذرح. ويقول المؤرّخون : إنّ ابن العاص لمْ يفتح الحديث مع الأشعري ثلاثة أيّام ، فقد أفرد له مكاناً خاصاً ، وجعل يقدّم له أطائب الطعام والشراب حتّى استبطنه وأرشاه ، ولمّا أيقن أنّه صار ألعوبة بيده أخذ يضفي عليه النعوت الحسنة والألقاب الكريمة حتّى ملك مشاعره وعواطفه ، فقد قال له : يا أبا موسى ، إنّك شيخ أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله) وذو فضله ، وذو سابقته ، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الأُمّة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها ، فهل لك أنْ تكون ميمون هذه الأُمّة فيحقن الله بك دماءها ، فإنّه يقول في نفس واحدة : (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). فكيف بمَنْ أحيا هذا الخلق كلّه؟!

ومتى كان الأشعري شيخ صحابة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، ومِن ذوي الفضائل والسوابق في الإسلام؟! وانخدع الأشعري بهذه الكلمات المعسولة ، فطفق يسأل ابن العاص عن سبل الإصلاح وحقن الدماء ، فأجابه ابن العاص : تخلع أنت علي بن أبي طالب ، وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان ، ونختار لهذه الأُمّة رجلاً لمْ يحضر في شيء مِن الفتنة ، ولمْ يغمس يده فيها.

فبادر أبو موسى يسأل عن الرجل الذي لمْ ينغمس في الفتنة قائلاً :

__________________

(١) روى سويد بن غفلة قال : كنت مع أبي موسى الأشعري على شاطئ الفرات في خلافة عثمان ، فروى لي خبراً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : سمعته يقول : «إنّ بني إسرائيل اختلفوا فلمْ يزل الاختلاف بينهم حتّى بعثوا حكمين ضالّين ضلاّ وأضلاّ مَنْ اتّبعهما ، ولا تنفك أمر اُمّتي حتّى يبعثوا حكمين يضلاّن ويضلاّن مَنْ اتّبعهما». فقلت له : احذر يا أبا موسي أن تكون أحدهما. قال : فخلع قميصه وقال : أبرأ إلى الله مِن ذلك كما برأ قميصي من هذا. جاء ذلك في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٣١٥.

٧٦

مَنْ يكون ذلك؟

وكان ابن العاص قد عرف ميول الأشعري واتجاهاته نحو عبد الله بن عمر فقال : إنّه عبد الله بن عمر. وسرّ الأشعري بذلك واندفع يطلب منه العهود على الالتزام بما قاله : كيف لي بالوثيقة منك؟

ـ يا أبا موسى ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. خذ منّي العهود والمواثيق حتّى ترضى.

ولم يبقَ يميناً إلاّ أقسم على الالتزام بما قاله ، وأيقن الأشعري بمقالة ابن العاص ، فأجابه بالرضا والقبول ، وعيّنا وقتاً خاصاً يذيعان فيه ما اتفقا عليه.

وأقبلت الساعة الرهيبة التي كانت تنتظرها الجماهير بفارغ الصبر ، وأقبل الماكر ابن العاص مع زميله الأشعري إلى منصة الخطابة ليعلنا للناس ما اتّفقا عليه ، واتّجه ابن العاص نحو الأشعري فقال له : قم فاخطب الناس يا أبا موسى.

ـ قم أنت فاخطبهم.

وراح ابن العاص يخادع الأشعري قائلاً له : سبحان الله! أنا أتقدمك وأنت شيخ أصحاب رسول الله! والله ، لا فعلت ذلك أبداً.

داخل الأشعري العجب بنفسه مِن هذه الألقاب الفخمة التي أضفاها عليه ابن النابغة ، وطلب الخامل المخدوع مِن ابن العاص الأيمان أنْ يفي له بما قال ، فأقسم له على الوفاء بما اتّفقا عليه(١) ، ولمْ تخفَ هذه

__________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٣١٥.

٧٧

الخديعة على حبر الأُمّة عبد الله بن عباس ، فالتفت إلى الأشعري يحذّره مِنْ مكيدة ابن العاص قائلاً له : ويحك! والله إنّي لأظنّه قد خدعك. إنْ اتفقتما على أمر فقدّمه فليتكلّم بذلك الأمر قبلك ، ثم تكلّم أنت بعده ؛ فإنّ عمراً رجل غادر لا آمن مِنْ أنْ يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه ، فإذا قمت في الناس خالفك.

ولمْ يعنَ الغبي بابن عباس ، وإنّما راح يشتدّ نحو منصّة الخطابة ، فلمّا استوى عليها حمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، ثم قال : أيّها الناس ، إنّا قد نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا مِن الأمن والصلاح ، ولَمِّ الشعث ، وحقن الدماء ، وجمع الأُلفة خلعنا عليّاً ومعاوية ، وقد خلعت عليّاً كما خلعت عمامتي هذه ـ وأهوى إلى عمامته فخلعها ـ واستخلفنا رجلاً قد صحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنفسه ، وصحب أبوه النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فبرز في سابقته وهو عبد الله بن عمر(١) .

أُفٍّ للزمان! وتعساً للدهر أنْ يتحكّم في المسلمين أمثال هؤلاء الصعاليك الذين ران الجهل على قلوبهم!

لقد عزل الأشعري الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) حكيم هذه الأُمّة ، ورائد العدالة الكبرى في الأرض ، الذي طوّق الدين بعبقرياته ومواهبه. لقد جعل الأشعري قيادة الأُمّة بيد عبد الله بن عمر وهو لا يحسن طلاق زوجته على حدّ تعبير أبيه. إنّها مِن مهازل الزمن التي تمثّلت على مسرح الحياة العامّة في ذلك العصر الذي أُخمدت فيه أضواء العقل ، وراح الإنسان يسير خلف رغباته وميوله.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد انبرى الخاتل الماكر ابن العاص إلى منصّة الخطابة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٣٩.

٧٨

فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أيّها الناس ، إنّ أبا موسى عبد الله بن قيس خلع عليّاً ، وأخرجه مِن هذا الأمر الذي يطلب وهو أعلم به ، ألا وإنّي خلعت عليّاً معه وأثبتّ معاوية عليَّ وعليكم. وإنّ أبا موسى قد كتب في الصحيفة(١) أنّ عثمان قد قُتِلَ مظلوماً شهيداً ، وأنّ لوليه أنْ يطلب بدمه حيث كان ، وقد صحب معاوية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنفسه ، وصحب أبوه النّبي (صلّى الله عليه وآله). ثم أخذ يثني على معاوية ويصفه بما هو ليس أهلاً له ، ثم قال : هو الخليفة علينا ، وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان(٢) .

واشتدّ الأشعري نحو ابن العاص بعد ما غرّر به ونكث عهده ، فصاح به : ما لك عليك لعنة الله! ما أنت إلاّ كمثل الكلب إنْ تحمل عليه يلهث ، وإنْ تنركه يلهث. فزجره ابن العاص : لكنّك مثل الحمار يحمل أسفاراً.

وصدق كلّ منهما في وصف صاحبه ، لقد جرّ هذا التحكيم إلى الأُمّة كثيراً مِن المصاعب والفتن ، وأخلد لها الخطوب والويلات.

وماج العراقيون في الفتنة ، وأيقنوا بضلال ما أقدموا عليه ، وانهزم الأشعري نحو مكّة يصحب معه العار والخزي له ولذرّيّته(٣) ، فقد غدر في

__________________

(١) وهي غير الصحيفة التي تمّ عليها إيقاف القتال.

(٢) أنساب الأشراف ١ / ق ١ ، الإمامة والسياسة ١ / ١٤٣.

(٣) لقد كان الناس يحقّرون ذرّية أبي موسى ويسخرون منهم ، فقد سمع الفرزدق أبا بردة بن أبي موسى يقول : كيف لا أتبختر وأنا ابن أحد الحكمين! فردّ عليه الفرزدق قائلاً : أمّا أحدهما فمائق ؛ وأمّا الآخر

٧٩

المسلمين غدرة منكرة ، وأكثر شعراء ذلك العصر في هجاء الكوفيين وهجاء الأشعري.

يقول أيمن بن خريم الأسدي :

لو كان للقومِِ رأيٌ يُعصمون به

مِن الضلال رموكُم بابنِ عبّاسِ

لله درّ أبيه أيُّما رجلٍ

ما مثلُهُ لفصالِ الخطب في الناسِ

لكنْ رموكُمْ بشيخٍ مِن ذوي يمنٍ

لمْ يدرِ ما ضربُ أخماسٍ لأسداسِ

إنْ يخلُ عمرو به يقذفْهُ في لُججٍ

يهوي به النّجمُ تيساً بين أتياسِ

أبلغ لديك علياً غير عاتبهِ

قول امرئٍ لا يرى بالحقِّ من باسِ

ما الأشعريّ بمأمونٍ أبا حسنٍ

فاعلمْ هُديتَ وليس العَجزُ كالراسِ

فاصدم بصاحبكَ الأدنى زعيمَهُمُ

إنّ ابن عمّك عباسٍ هو الآسي(١)

وظفر معاوية بالنصر ، فقد عاد إليه أهل الشام يسلّمون عليه بإمرة المؤمنين ، وأمّا الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقد أغرق جيشه في الفتنة والفرقة والخلاف ، فجعل بعضهم يتبرأ مِنْ بعض ، وقد شاع فيهم الخلاف ، وعرفوا وبال ما جنت أيديهم ، فخطب الإمام الحسن (عليه السّلام) خطاباً مسهباً دعاهم فيه إلى الأُلفة والمودّة ، وكذلك خطب فيهم عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وقد شجبا في خطابهما التحكيم ، ودعا الناس إلى الطاعة ونبذ الخلاف(٢) ، وقد استجاب لهم بعض الناس ، وأصرّ آخرون على التمرّد والعصيان.

ولمّا انتهى خبر التحكيم إلى الإمام (عليه السّلام) بلغ به الحزن أقصاه ، فجمع الناس وخطبهم خطاباً مؤثّراً ، صعّد فيه آلامه وأحزانه على مخالفة أوامره في إيقاف

__________________

ففاسق فكن ابن أيّهما شئت. جاء ذلك في شرح نهج البلاغة ١٩ / ٣٥٣.ونظر رجل إلى بعض ولد أبي موسى يختال في مشيته ، فقال : ألا ترون مشيته؟! كأن أباه خدع عمرو بن العاص!

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٥٢٩.

(٢) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

٨٠

القتال ، والاستجابة لنداء عدوه الذي قضى فيه على ما أحرزوه مِن الفتح والنصر.

يقول (عليه السّلام) : «الحمد لله ، وإنْ أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل ، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ ، الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي ، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ ، وَالْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ ، وََنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ ، فَكُنْتُ أَنَا وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ :

أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى

فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاّ ضُحَى الْغَدِ

ألا إنّ الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وارتأيا الرأي مِن قِبَلِ أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات القرآن.

ثمّ اختانا في حكمهما ، فكلاهما لا يرشد ولا يسدّد ، فبرئ الله منها ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدوا للجهاد ، وتأهبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم الاثنين إنْ شاء الله»(1) .

وتهيّأت قواته المسلّحة إلى السفر في الموعد الذي ضربه لها ، وكتب إلى أهل البصرة يدعوهم إلى نصرته ، فالتحقت به كتائب مِن الجيش.

تمرّدُ المارقين :

وسافر الإمام (عليه السّلام) بأصحابه يريد الشام ، ولكنّه لمْ يلبث حتّى وافته الأنباء بتمرّد الخوارج وفسادهم ، وأنّهم عادوا إلى فكرتهم.

ويقول المؤرّخون : إنّ جماعة منهم خرجوا مِن الكوفة ، والتحق بهم إخوانهم مِن أهل البصرة ، وساروا جميعاً إلى النهروان فأقاموا فيها ، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً ،

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٨١

فاستحلّوا دماء المسلمين وقالوا بكفرهم. واجتاز عليهم الصحابي عبد الله بن خباب بن الأرت ، فتصدّوا له فسألوه عن اسمه فأخبرهم به ، ثم سألوه عن انطباعاته الخاصة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فأثنى عليه ، فاستشاطوا غضباً ، فانبروا إليه فأوثقوه كتافاً ، وأقبلوا به وبامرأته ـ وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة ـ فجاؤوا بهما تحت نخلة ، فسقطت رطبة منها فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأنكروا عليه فالقاها من فمه.

واخترط بعضهم سيفاً فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله ، فصاح به بعضهم : إنّ هذا من الفساد في الأرض! فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه ، فلمّا نظر عبد الله إلى احتياطهم في الأموال قال لهم : لئن كنتم صادقين فيما أرى ما عليّ منكم بأس. والله ، ما أحدثت حدثاً في الإسلام ، وإنّي لمؤمن ، وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك.

فلمْ يعنوا به ، وعمدوا إليه فأقبلوا به إلى الخنزير الذي قتلوه فوضعوه عليه وذبحوه ، وأقبلوا على امرأته ـ وهي ترتعد من الخوف ـ فقالت لهم مسترحمة : إنّما إنا امرأة ، أما تتّقون الله؟! ولمْ تلن قلوبهم التي طبع عليها الزيغ ، فذبحوها وبقروا بطنها ، وعمدوا إلى ثلاثة نسوة فقتلوهن(1) ، وفيهن أُمّ سنان الصيداويّة ، وكانت قد صحبت النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وجعلوا يذيعون الذعر وينشرون الفساد في الأرض.

وأوفد لهم الإمام (عليه السّلام) الحرث بن مرّة العبدي يسألهم عن هذا الفساد الذي أحدثوه ، ويطلب منهم أن يسلّموا إليه الذين استحلوا قتل الأنفس التي حرّم الله إزهاقها بغير حقّ ، ولمْ يكد الرسول يدنو منهم حتّى قتلوه ، ولمْ يدعوه يدلي بما جاء به.

__________________

(1) أنساب الأشراف.

٨٢

قتالُ المارقين :

وكره أصحاب الإمام (عليه السّلام) أنْ يسيروا إلى الشام ، ويتركوا مِن ورائهم الخوارج يستبيحون أموالهم وأعراضهم مِن بعدهم ، فطلبوا مِن الإمام (عليه السّلام) أنْ ينهض بهم لمناجزتهم ، فإذا فرغوا منهم تحولوا إلى حرب معاوية ، فأجابهم الإمام (عليه السّلام) إلى ذلك وسار بهم حتّى أتى النهروان ، فلما صار بإزاء الخوارج ، أرسل إليهم يطلب منهم قَتَلة عبد الله بن خباب ومَنْ كان معه مِن النسوة ، كما طلب منهم قتلة رسوله الحرث بن مرّة ، ليكفّ عنهم ويمضي إلى حرب معاوية ، ثمّ ينظر في أمورهم ، فأجابوه : ليس بيننا وبينك إلاّ السيف ، إلاّ أنْ تقرّ بالكفر وتتوب كما تبنا.

فالتاع الإمام (عليه السّلام) منهم ، وانطلق يقول : «أبعد جهادي مع رسول الله وإيماني أشهد على نفسي بالكفر؟! قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ»(1) . وجعل الإمام (عليه السّلام) يعظهم تارة ويراسلهم اُخرى ، فجعل كثير منهم يتسللون ويعودون إلى الكوفة ، وقسم منهم التحق بالإمام (عليه السّلام) ، وفريق ثالث اعتزل الحرب ، ولمْ يبقَ إلاّ ذو الثفنات عبد الله بن وهب الراسبي زعيم الخوارج ، ومعه ثلاث آلاف.

ولمّا يئس الإمام (عليه السّلام) مِن إرشادهم عبّأ جيشه ، وأمر بأنْ لا يبدؤوهم بقتال حتّى يُقاتلوهم. ولمّا نظر الخوارج إلى تهيئة الإمام (عليه السّلام) تهيّؤوا للحرب ، وكانت قلوبهم تتحرّق شوقاً إلى القتال تحرّق الظمآن إلى الماء ، وهتف بعضهم : هل مِن رائح إلى الجنّة! فتصايحوا جميعا : الرواح إلى الجنّة.

ثمّ حملوا حملة منكرة على جيش الإمام (عليه السّلام) وهم يهتفون بشعارهم : (لا حكم إلاّ لله). فانفرجت

__________________

(1) أنساب الأشراف.

٨٣

لهم خيل الإمام (عليه السّلام) فرقين ؛ فرق يمضي إلى الميمنة ، وفرق يمضي إلى الميسرة ، والخوارج يندفعون بين الفرقين ، ولمْ تمضِ إلاّ ساعة حتّى قتلوا عن آخرهم ، ولمْ يفلت منهم إلاّ تسعة(1) .

ولمّا وضعت الحرب أوزارها طلب الإمام (عليه السّلام) مِن أصحابه أنْ يلتمسوا له ذا الثدية في القتلى ، ففتّشوا عنه فلمْ يظفروا به ، فعادوا إليه يخبرونه بعدم ظفرهم به ، فأمرهم ثانياً أنْ يبحثوا عنه ، قائلاً : «والله ما كذبتُ ولا كُذّبت ، ويحكم! التمسوا الرجل فإنّه في القتلى». فانطلقوا يبحثون عنه ، فظفر به رجل من أصحابه ـ وكان قد سقط قتيلاً في ساقية ـ فمضى يهرول فأخبر الإمام (عليه السّلام) به ، فلما سمع النبأ خرّ ساجداً هو ومَنْ معه مِن أصحابه ، ثمّ رفع رأسه وهو يقول : «ما كذبتُ ولا كُذّبت ، ولقد قتلتم شرّ الناس». وأخذ الإمام (عليه السّلام) يحدّث أصحابه بما سمعه مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) فيه ، أنّه قال : «سيخرج قوم يتكلّمون بكلام الحقّ لا يجاوز حلوقهم ، يخرجون مِن الحقّ خروج السّهم ـ أو مروق السّهم ـ إنّ فيهم رجلاً مُخدج اليد ، في يده شعرات سود ، فإنْ كان فيهم فقد قتلتم شرّ الناس».

وأمر الإمام (عليه السّلام) بإحضار جثّته فأُحضرت له ، فكشف عن يده فإذا على منكبه ثدي كثدي المرأة ، وعليها شعرات سود تمتد حتّى تحاذي بطن يده الاُخرى ، فإذا تركت عادت إلى منكبه ، فلمّا رأى ذلك خرّ لله ساجداً. ثمّ عمد الإمام (عليه السّلام) إلى القتلى من الفريقين فدفنهم ، وقسّم بين أصحابه سلاح الخوارج ودوابهم ، وردّ الأمتعة والعبيد إلى أهليهم كما فعل ذلك بأصحاب الجمل.

وانتهت بذلك حرب النهروان التي تفرّعت مِن واقعة صفّين ، وقد

__________________

(1) الملل والنحل 1 / 159.

٨٤

أسفرت عن تشكيل حزب ثوري عنيف ظهر في الإسلام ، وهو حزب الحرورية الذي أخذ على نفسه التمرّد على الحكومات القائمة في البلاد الإسلامية ، ومحاربتها بشكل سافر ، ممّا أدى إلى إراقة الدماء وإشاعة الفتنة والخلاف في كثير مِن تلك العصور.

لقد كان البارز في الأنظمة الدينية للخوارج هو الحكم بكفر كلّ مَنْ لا يدين بفكرتهم مِن المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم. وفيما أحسب أنّ أكثر الجرائم المريعة التي صدرت في معركة كربلاء تستند إلى هؤلاء الممسوخين الذين سُلِبَتْ عنهم كلّ نزعة إنسانية ؛ فقد تأثّر الكثير مِن ذلك الجيش بأخلاقهم ، فاندفعوا إلى الجريمة بأبشع صورها وألوانها.

مخلّفات الحرب :

وأعقبت تلك الحروب أعظم المحن وأشدّها هولاً ، ولمْ يُمتحن الإمام (عليه السّلام) بها وحده وإنّما امتحن بها العالم الإسلامي ؛ فقد أخلدت له الفتن ، وجرّت له الكثير مِن الويلات والخطوب ، ولعلّ أعظم ما عاناه منها ما يلي :

1 ـ انتصار معاوية :

وأتاحت الفرص لمعاوية بعد تلك الأحداث أنْ يعلن نفسه لأوّل مرّة بأنّه المرشّح للخلافة ، بعد أنْ كان حاكماً على إقليم الشام ، وراح يعلن انتصاره على الإمام (عليه السّلام) وتغلبه عليه ، بقوله : لقد حاربت عليّاً بعد صفّين بغير جيش ولا عناء ، أو لا عتاداً(1) .

وأمّا الإمام (عليه السّلام) فقد أصبح بمعزل عن السلطات السياسية

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 200.

٨٥

والعسكرية ، فكان يدعو فلا يُسمع لدعوته ، ويقول فلا يُلتفت إلى قوله.

لقد أدّت تلك الحروب إلى تحوّل الخلافة الإسلامية إلى حكم قيصري لا ظلّ فيه لحكم الإسلام ومنطق القرآن ؛ فقد آل الأمر إلى معاوية ، فاتّخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وأرغم المسلمين على ما يكرهون.

2 ـ تفلّل جيش الإمام (عليه السّلام) :

وتفلّلت جميع القوات العسكرية في جيش الإمام (عليه السّلام) ، وشاعت الفرقة والاختلاف فيما بينها خصوصاً بعد واقعة النهروان ، فقد انحطّت معنويات الجيش.

يقول البلاذري : إنّ معاوية أرسل عمارة بن عقبة إلى الكوفة ليتجسس له عن حالة جيش الإمام (عليه السّلام) ، فكتب له : خرج على علي أصحابُه ونسّاكهم ، فسار إليهم فقتلهم ، فقد فسد عليه جنده وأهل مصره ، ووقعت بينهم العداوة ، وتفرّقوا أشدّ الفرقة.

فقال معاوية للوليد بن عقبة : أترضى أخوك بأنْ يكون لنا عيناً؟ ـ وهو يضحك ـ فضحك الوليد وقال : إنّ لك في ذلك حظّاً ونفعاً. وقال الوليد لأخيه عمارة :

فَإِن يَكُ ظَنّي يا اِبنَ أمِّيَ صادِقي

عُمارَةُ لا يُدرَكُ بِذَحلٍ وَلا وِترِ

تُضاحِكُ أَقتالَ اِبنِ عَفّانَ لاهِياً

كَأَنَّكَ لَم تَسمَع بِمَوتِ أَبي عَمرِو

يَظَلُّ وَأَوتارُ اِبنِ عَفّانَ عَندَهُ

مُخَيِّمَةٌ بَينَ الحَوَرنَقِ وَالجِسرِ(1)

لقد مُنِيَ جيش الإمام (عليه السّلام) بالفتنة والخلاف ، ولمْ يكن باستطاعة الإمام (عليه السّلام) ـ بما يملك مِن طاقات خطابية هائلة ـ أنْ يرجع إليهم حوازب أحلامهم ، ويقضي على عناصر الشغب والتمرّد التي أصبحت مِن أبرز ذاتيّاتهم.

وممّا زاد في تمرّد الجيش أنّ معاوية راسل جماعة مِن زعماء العراق

__________________

(1) أنساب الأشراف.

٨٦

البارزين كالأشعث بن قيس ، فمنّاهم بالأموال ، ووعدهم بالهبات والمناصب إذا قاموا بعمليات التخريب في جيش الإمام (عليه السّلام) وشعبه ، فاستجابوا إليه ، فقاموا بدورهم في إشاعة الأراجيف وتضليل الرأي العام ، وبثّ روح التفرقة والخلاف بين الناس(1) ، وقد أثّرت دعايتهم تأثيراً هائلاً في أوساط ذلك الجيش ، فقد خلعوا طاعة الإمام (عليه السّلام) وعمدوا إلى عصيانه.

لقد كانت الأكثرية الساحقة في معسكر الإمام (عليه السّلام) لهم رغباتهم الخاصة التي تتنافى مع مصلحة الدولة وغايات رئيسها ، في حين أنّ شعب الشام كان على العكس مِن ذلك.

يقول الحجّاج بن خزيمة لمعاوية : إنّك تقوى بدون ما يقوى به علي ؛ لأنّ معك قوماً لا يقولون إذا سكتّ ، ويسكتون إذا نطقت ، ولا يسألون إذا أمرت ، ومع علي قوم يقولون إذا قال ، ويسألون إذا سكت(2) .

3 ـ احتلال مصر :

ولمْ تقف محنة الإمام (عليه السّلام) وبلاؤه عند حدّ ، وإنّما أخذت تتابع عليه المحن ، وهي كأشدّ ما تكون هولاً ، فإنّه لمْ يكد ينتهي مِن مُناجزة المارقين حتّى ابتلى في أمر دولته ؛ فقد أخذ معاوية يحتلّ أطرافها ، ويغير على بعضها ، ويشيع فيها الخوف والإرهاب ، فقد أيقن بتخاذل جيش الإمام (عليه السّلام) وما مُنِيَ به من الفرقة والاختلاف ، وقد أجمع رأيه على احتلال مصر التي هي قلب البلاد العربية ، وقد جعلها طعمة إلى وزيره وباني دولته عمرو بن العاص ؛ ليتمتع وحده بخيراتها.

وكان الإمام (عليه السّلام) قد ولّى على مصر الزعيم الكبير قيس بن سعد الأنصاري ،

__________________

(1) أنساب الأشراف.

(2) الأخبار الطوال / 156.

٨٧

الذي كان من ألمع الشخصيات الإسلامية في حسن سياسته وعمق تفكيره وبُعْدِ نظره ، وقد ساس المصريين أيّام المحنة سياسةَ عدلٍ وحقٍّ ، وقضى على الاضطرابات الداخلية ، ونشر المحبّة والألفة فيها. وقد عزله الإمام (عليه السّلام) عنها وولّى مكانه الطيب محمّد بن أبي بكر ، فاضطرب أمر مصر ، وظهرت الدعوة العثمانية فيها ، فعزل الإمام (عليه السّلام) محمّداً عنها وولّى مكانه مالك الأشتر النخعي الذي هو من أنصح الناس للإمام (عليه السّلام) وأكثرهم إخلاصاً له ، إلاّ أنّه لمْ يكد ينتهي إلى (القلزم) حتّى مات.

وأجمع المؤرّخون على أنّ معاوية قد أغوى صاحب الخراج في (القلزم) فدسّ إليه سمّاً في شربة مِن عسل فمات بها ، وكان معاوية وصاحبه ابن العاص يتحدّثان بعد ذلك ويقولان : إنّ لله جنوداً مِن عسل.

وجهّز معاوية جيشاً لاحتلال مصر وأمر عليه ابن العاص ، ولمّا علم الإمام (عليه السّلام) ذلك أقرّ محمّداً على مصر ، ووعده بأنْ يمدّه بالجيش والمال ، وأخذ يدعو أهل الكوفة لنجدة إخوانهم في مصر فلمْ يستجيبوا له ، وجعل الإمام (عليه السّلام) يلحّ عليهم ويطلب منهم النجدة ، فاستجاب له جند ضئيل كأنّما يساقون إلى الموت ، فأرسلهم إلى مصر ، ولكنّه لمْ يلبث أن وافته الأنباء بأنّ ابن العاص قد احتل مصر ، وأنّ عامله محمّداً قد قُتِلَ وأُحرِقَت جثته في النار ، فردّ جنده وخطب أهل الكوفة خطاباً مثيراً ندّد بهم ، ونعى عليهم تخاذلهم وخور عزائمهم.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ احتلال مصر قد قوى شوكة معاوية ، ودفعه إلى أنْ يغزو أهل العراق في عقر دارهم.

٨٨

الغارات :

ولمْ يقنع معاوية بما أحرزه مِن النصر في احتلاله لمصر ، وإنّما راح يشيع الذعر والهلع في البلاد الخاضعة لحكم الإمام (عليه السّلام) ؛ ليشعر أهلها بأنّ عليّاً قد ضَعُفَ سلطانه ، وأنّه لا يتمكّن مِن حمايتهم وردّ الاعتداء عنهم ، وقد شكّل قِطَعاً مِن جيوشه وعهد إليها أنْ تتوغّل في البلاد ، وتشيع فيها الفساد والقتل ، وقد ولّى عليها جماعة مِن السفّاكين الذين تمرّسوا في الجرائم ، وتجرّدوا مِنْ كلّ نزعة إنسانية ، وعهد لكلّ واحد منهم أنْ يقتل كلّ مَنْ كان شيعة للإمام (عليه السّلام) ، ويغير على جهة خاصة بسرعة خاطفة.

ونعرض بإيجاز إلى بعض تلك الغارات :

الغارة على العراق :

وشكّل معاوية أربع قِطَع للغارة على أطراف العراق وداخله ؛ ليملأ قلوب العراقيين فزعاً وخوفاً حتّى لا يستجيبوا للجهاد إذا دعاهم الإمام (عليه السّلام) إليه ، وهذه بعض المناطق العراقية التي غار عليها.

1 ـ عين التّمر :

وأرسل معاوية النعمان بن بشير الأنصاري في ألف رجل إلى عين التّمر ، وكان فيها مالك بن كعب ، ومعه كتيبة مِن الجيش تبلغ ألف رجل ، إلاّ أنّه لمْ يعلم بغزو أهل الشام له ، فأذن لجنده بإتيان أهلهم في الكوفة ، وبقي في مئة رجل ، ولمّا دهمه جيش معاوية قاومه مقاومة باسلة ، وتوجّهت

٨٩

له نجدة تبلغ خمسين رجلاً ، فلمّا رآهم النعمان فزع وولّى هارباً ، فقد ظنّ أنّ لهم مدداً ، ولمّا بلغت الإمام (عليه السّلام) أنباء هذه الغارة قام خطيباً في جيشه يدعوهم إلى نجدة عامله ، فقال (عليه السّلام) : «يا أهل الكوفة ، كلّما أطلّت عليكم سرية ، وأتاكم مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ ، وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا ، وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا. الذَّلِيلُ وَاللَّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ ، وَمَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ ، فقبحاً لكم وترحاً! وقد ناديتكم وناجيتكم ، فلا أحرار عند اللقاء ، ولا إخوان(1) عند النجا ، قد مُنيتُ منكم بصُمٍّ لا يسمعون ، وبُكمٍ لا يعقلون ، وكمّه لا يبصرون»(2) .

2 ـ هيت :

ووجّه معاوية للغارة على هيت سفيان بن عوف وضم إليه ستة آلاف ، وأمره أن يأتي بعد الغارة عليها إلى الأنبار والمدائن فيوقِع بأهلها ، وسار بجيشه إلى هيت فلمْ يجد بها أحداً ، فانعطف نحو الأنبار ، فوجد بها مسلحة للإمام (عليه السّلام) تتكون مِن مئتي رجل فقاتلهم ، وقُتِلَ أشرس بن حسّان البكري مع ثلاثين رجلاً مِن أصحابه ، ثمّ نهبوا ما في الأنبار مِن أموال ، وتوجّهوا إلى معاوية وهم مسرورون بما أحرزوه مِن النصر ، وبما نهبوه مِن الأموال(3) .

وبلغت أنباء الأنبار عليّاً فأثارته إلى حدّ بعيد ، وبلغ به الغيظ أقصاه ، وكان عليلاً لا يمكنه الخطاب ، فكتب كتاباً قُرِأ على الناس ، وقد أُدْنِيَ مِن السّدرة ليسمع القراءة(4) ، وهذا نصه :

__________________

(1) في الطبري : ولا إخوان ثقة.

(2) أنساب الأشراف.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 189.

(4) أنساب الأشراف.

٩٠

«أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ ، وَشَمِلَهُ الْبَلاءُ ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالإِسْهَابِ ، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ وَمُنِعَ النَّصَفَ. أَلا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً ، وَسِرّاً وَإِعْلاناً ، وَقُلْتُ لَكُمُ : اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ ؛ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاّ ذَلُّوا ، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ. وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا ، وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا ، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَاِاسْتِرْحَامِ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ، وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً ، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً. فَيَا عَجَباً! عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى ، يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلا تُغِيرُونَ ، وَتُغْزَوْنَ وَلا تَغْزُونَ ، وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْنَ! فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ : هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ : هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ. كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ ، فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.

يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلا رِجَالَ! حُلُومُ الأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَاللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأَعْقَبَتْ سَدَماً ؛ قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلأتُمْ قَلْبِي قَيْحاً ، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً ، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً ، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذلانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ : إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. لِلَّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً ، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ(1) وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ ، وَلَكِنْ لا رَأْيَ لِمَنْ لا يُطَاعُ»(2) .

__________________

(1) في رواية «وما بلغت العشرين».

(2) انسب الاشراف.

٩١

وقد صوّر هذا الخطاب ما في نفس الإمام (عليه السّلام) مِن غيظ ممضٍ ، ويأسٍ شديدٍ مِن أصحابه الذين امتلأت قلوبهم خوفاً وذلاً مِن أهل الشام ، فتخاذلوا وقبعوا في بيوتهم يطاردهم الفزع ، حتّى فسد على الإمام (عليه السّلام) أمره.

3 ـ واقصة :

ووجّه معاوية الضحّاك بن قيس الفهري إلى واقصة ليغير على كلّ مَنْ كان فيها مِن شيعة الإمام (عليه السّلام) ، وضمّ إليه ثلاثة آلاف رجل ، فسار الضحّاك فنهب أموال الناس ، وقتل كلّ مَنْ ظنّ أنّه على طاعة الإمام (عليه السّلام) ، وسار حتّى انتهى إلى القطقطانة وهو يشيع القتل والإرهاب ، ثمّ سار إلى السماوة ، وبعدها ولّى إلى الشام.

ولمّا وافت الأنباء الإمام (عليه السّلام) قام خطيباً في جيشه ، وقد دعاهم إلى صدّ هذا الاعتداء فلمْ يستجب له أحد ، فقال (عليه السّلام) : «وددت والله أنّ لي بكلّ عشرة منكم رجلاً مِن أهل الشام ، وإنّي صرفتكم كما يصرف الذهب ، ولوددت أنّي لقيتهم على بصيرتي فأراحني الله مِنْ مقاساتكم ومداراتكم». وسار الإمام (عليه السّلام) وحده نحو الغريّين لصدّ هذا الاعتداء ، فلحقه عبد الله بن جعفر بدابة فركبها ، ولمّا رأى الناس ذلك خفّ إليه بعضهم ، فسرح (عليه السّلام) لطلب الضحاك حِجْر بن عدي في أربعة آلاف ، وسار في طلبه فلمْ يدركه فرجع(1) .

لقد أخذت غارات معاوية تتوالى على العراق مِنْ دون أنْ تتعرّض لأيّ مقاومة تذكر ، وقد أيقن معاوية بالنصر والظفر لِما مُنِيَ به أصحاب الإمام (عليه السّلام) مِن التخاذل.

__________________

(1) أنساب الأشراف.

٩٢

الغارة على الحجاز واليمن :

وبعث معاوية بسر بن أرطاة في ثلاثة آلاف للغارة على الحجاز واليمن ، فاتّجه نحو يثرب فلمْ يجد مِنْ أهلها أيّة مقاومة ، فصعد المنبر ورفع عقيرته يندب عثمان ، وينشر الرعب والإرهاب بين الناس.

وأخذ البيعة مِنْ أهلها لمعاوية ، ثمّ سار إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملاً للإمام (عليه السّلام) ، فهرب منه حتّى أتى الكوفة ، فاستخلف الإمام (عليه السّلام) عليها عبد الله الحارثي فقتله بسر وقتل ابنه ، وعمد إلى طفلين لعبيد الله فقتلهما ، ولمّا انتهى خبرهما إلى اُمّهما فقدت وعيها ، وراحت ترثيهما بذوب روحها ، بأبياتها المشهورة(1) .

لقد قام سلطان معاوية على قتل الأبرياء ، وذبح الأطفال ، وأشاع الرعب والفزع في البلاد.

ولمّا انتهت الأنباء الأليمة إلى الإمام (عليه السّلام) خارت قواه ، ومزّق الأسى قلبه ، وراح يخطب في جيشه ، يذكر ما عاناه مِن الخطوب والكوارث منهم ، قائلاً : «اُنبئتُ بسراً قد أطلع اليمن(2) ، وإنّي والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون(3) منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 193.

(2) أطلع اليمن : بلغها واحتلتها قواته.

(3) سيدالون : أي ستكون لهم الدولة بسبب اجتماع كلمتهم ، واختلاف رأي العراقيّين.

٩٣

قُعب(1) لخشيت أنْ يذهب بعلاقته(2) . اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وسئمتهم وسئموني ، فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شرّاً منّي. اللهمّ مِث في قلوبهم كما يُماث الملح في الماء ، أما والله لوددت أنّ لي ألف فارس مِنْ بني فرس ابن غنم(3) :

هنالك لو دعوتَ أتاكَ منهُمْ

فوارسُ مثلُ أرميةِ الحميمِ

ثمّ نزل عن المنبر(4) وهو غارق بالهموم والأحزان ، قد استولى اليأس على نفسه مِن أصحابه الذين أصبحوا أعصاباً رخوةً خاليةً مِن الشعور والإحساس.

هذه بعض الغارات التي شنّها معاوية على العراق وخارجه من الأقاليم الإسلامية الخاضعة لحكم الإمام (عليه السّلام) ، وكان المقصود منها زعزعة هذه المناطق مِن إيمانها بمقدرة الإمام (عليه السّلام) على حمايتها مِن الاعتداء ، وإذاعة مقدرة معاوية وقوته العسكرية ، وتقوية الروح المعنوية في جيشه ، وحزبه المنتشر في تلك البلاد.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد صوّرت هذه الغارات جانباً كبيراً مِن الضعف والتمرّد في جيش الإمام (عليه السّلام) ، حتّى طمع معاوية في شنّ هجومٍ عامٍ على العراق لاحتلاله ، والقضاء على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، ومِن المؤكد ، أنّه لو فعل ذلك لوجد الطريق سهلاً ، ولمْ يجد أيّة صعوبة أو مقاومة تذكر ، فقد خلُد القوم إلى الراحة ، وسئموا مِن الجهاد.

__________________

(1) القُعب بالضم : القدح الكبير.

(2) عِلاقته بكسر العين : ما يعلق به القعب من ليف ونحوه.

(3) بنو فرس : قبيلة عربية مشهورة بالشجاعة والإقدام.

(4) نهج البلاغة محمّد عبده 1 / 60.

٩٤

عبثُ الخوارج :

وتواكبت المحن الشاقّة على الإمام (عليه السّلام) يقفو بعضاً ، فغارات معاوية متصلة على العراق وخارجه ، وهي تنشر الرعب والهلع في قلوب المواطنين ، والإمام (عليه السّلام) لا يتمكن على حماية الأمن وصيانة الناس مِن الاعتداء ؛ فقد خلع جيشه يد الطاعة وأعلن العصيان والتمرّد ، ولمْ يعُدْ له أي نفوذ أو سلطان عليه ، ومِن تلك المحن الشاقّة التي ابتلي بها الإمام (عليه السّلام) هي فتنة الخوارج ؛ فإنّه لمْ يقضِ عليهم في النهروان ، وإنّما قضى على جماعة منهم ، وبقي أكثرهم يعيشون معه ، وهم يكيدون له ويتربّصون به الدوائر ، ويحوّلون قلوب الناس عنه. قد أمِنوا مِن بطشه ، واستيقنوا أنّه لن يبسط عليهم يداً ، ولا ينزل بهم عقوبة ، وقد أطمعهم عدله وأغراهم لينه ، فراحوا يجاهرون بالردّ والإنكار عليه ، فقد قطع بعضهم عليه خطبته تالياً قوله تعالى :( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) . فأجابه الإمام (عليه السّلام) بآية اُخرى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ) .

وجاءه الخريت بن راشد السامي في ثلاثين من أصحابه فقال له : يا علي ، والله لا أطيع أمرك ، ولا اُصلّي خلفك ، وإنّي غداً مفارق لك. فلطف به الإمام (عليه السّلام) وحاججه ، وخلّى بينه وبين حرّيته فلمْ يسجنه ، وإنّما ترك له الطريق مفتوحاً. وولّى الرجل إلى قومه مِن بني ناجية فأخبرهم بما كان بينه وبين الإمام (عليه السّلام) ، ثمّ خرج في الليل يريد الحرب ، وجرت أحداث كثيرة في خروج الخريت وتمرّده ذكرها المؤرّخون بالتفصيل.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ المسؤولية الكبرى في كثير مِن الأحداث المفزعة التي مُنِيَ بها العالم الإسلامي تقع على الخوارج ، فهم الذين قضوا على مصير

٩٥

الأُمّة في أهم الفترات الحاسمة مِن تاريخها حينما كُتِبَ النصر للإمام (عليه السّلام) ، وباء معاوية بالهزيمة والفشل ، بحيث لمْ يبقَ مِن حياته إلاّ فترةٍ يسيرةٍ مِن الزمن ، قدّرها قائد القوات العسكرية في جيش الإمام (عليه السّلام) مالك الأشتر بحلبة شاة أو بعدوة فرس ، فأضاعوا ذلك النصر الكبير ، وأرغموا الإمام (عليه السّلام) على قبول التحكيم.

دعاءُ الإمام (عليه السّلام) على نفسه :

وطاقت بالإمام (عليه السّلام) موجات رهيبة ومذهلة مِن الأحداث والأزمات ، فهو يرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره قد تمّ ، ويرى نفسه في أرباض الكوفة ، قد احتوشته ذئاب العرب الذين كرهوا عدله ، ونقموا عليه مساواته ، وعملوا جاهدين على الحيلولة بينه وبين تحقيق آماله من القضاء على الإثرة والاستعلاء والطغيان.

والشيء الوحيد الذي أقضّ مضجع الإمام (عليه السّلام) هو تمزّق جيشه ، وتفلّل جميع وحداته ، فقد أصبح بمعزل عن جميع السلطات ، وقد نظر (عليه السّلام) إلى المصير المؤلم الذي سيلاقونه مِن بعده ، فقال : «أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وإثرة يتّخذها الظالمون فيكم سُنّة ؛ فيفرّق جماعتكم ، ويبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنون عن قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني ، فستعلمون حقّ ما أقول لكم ، ولا يبعُد الله إلاّ مَنْ ظلم وأثم»(1) .

ولمْ يجد نصح الإمام (عليه السّلام) معهم شيئاً ، فقد تمادوا في الغي ، وعادت لهم جاهليتهم الرعناء. وقد سئم الإمام (عليه السّلام) منهم وراح يتمنّي مفارقة حياته ، فكان كثيراً ما يقول

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 200.

٩٦

في خطبة : «متى يُبْعَثُ أشقاها؟». وأخذ يلحّ بالدعاء ، ويتوسّل إلى الله بقلب منيب أنْ يريحه منهم.

فقد روى البلاذري ، عن أبي صالح ، قال : شهدت عليّاً وقد وضع المصحف على رأسه ، حتّى سمعت تقعقع الورق وهو يقول : «اللّهم ، إنّي سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك. اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وأبغضتهم وأبغضوني ، وحملوني على غير خُلُقي ، وعلى أخلاقٍ لمْ تكن تُعرف لي ، فأبدلني خيراً لي منهم ، وأبدلهم بي شرّاً ، ومِث قلوبهم ميث الملح»(1) .

واستجاب الله دعاء وليّه العظيم ، فنقله بعد قليل إلى حضيرة القدس مع النبيّين والصدّيقين ، وأراحه مِن ذلك المجتمع الذي كره الحقّ ونقم على العدل ، وقد سلّط الله عليهم أرجاس البشرية ، فأخذوا يمعنون في ظلمهم وإذلالهم ، فيأخذون البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، ويقتلون على الظنّة والتهمة ، فاستيقظوا عند ذلك ، وأخذوا يندمون أشدّ الندم على ما اقترفوه مِن الإثم تجاه الإمام (عليه السّلام) ، وما فرّطوا به مِن عصيانه وخذلانه.

هذه بعض مخلّفات تلك الحروب التي امتُحن بها الإمام (عليه السّلام) كأشد ما يكون الامتحان قسوة وإرهاقاً ، ولمْ يُمتحن بها وحده ، وإنّما امتُحن بها العالم الإسلامي بأسره ؛ فقد أخلدت للمسلمين المشاكل والخطوب ، وألقتهم في شرٍّ عظيم.

لقد واكب الإمام الحسين (عليه السّلام) هذه الأحداث المفزعة التي جرت على أبيه ، ووقف على واقعها ، وقد استبان له كراهية القوم لأبيه ؛ لأنّه لمْ يداهن في دينه ، وأراد أنْ يحمل الناس على الحقّ المحض ، والعدل الخالص ، ولا يدع محروماً ولا مظلوماً في البلاد.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ هذه الحروب قد ساهمت مساهمة إيجابية في خلق كارثة كربلاء التي لمْ تأت إلاّ بعد انهيار الأخلاق ، وإماتة الوعي الديني والاجتماعي ، وإشاعة الانتهازية والتحلل بين أفراد المجتمع ، فقد سيطرت

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٩٧

الرأسمالية القرشية على الشؤون الاجتماعية ، فأخذت تعيث فساداً في الأرض ، وتنقض جميع ما أقامه الإسلام مِن صروحٍ للفضيلة والأخلاق. وكان مِن أسوء ما قامت به أنّها عملت جاهدة على إشاعة العداء والكراهية لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم مصدر الوعي والإحساس في هذه الأُمّة.

فقد عمدت بشكل سافر إلى تقطيع أوصالهم على صعيد كربلاء ، وإبادتهم إبادةً جماعيةً بصورةٍ رهيبةٍ لمْ يحدث لها نظير في تاريخ الإنسانية.

٩٨

اُفول دولة الحق

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470