الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ27%

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام بن الحسن بن علي العسكري عليه السلام
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: 209

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 209 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93101 / تحميل: 5433
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: ٩٦٤-٨٦٢٩-١٠-٢
العربية

١
٢

٣
٤

مقدمة المركز

إن دراسة سيرة الأئمة المعصومينعليهم‌السلام تعتبر من الاسس القويمة للبناء الفكري والمنهج السلوكي لديننا الحنيف ، لأنهم الامتداد الحقيقي لنهج النبوة وسيرتها المعطاء ، والحُماة الاُمناء لمفاهيم الرسالة وعقائدها من حالة التردي والتحريف والضلال.

إننا في رحاب سيرتهم نتواصل مع القدوة الحسنة بكلّ تجلياتها الروحيه والفكرية والعلمية ، وامتداداتها التي تستغرق كلّ مفردات الحياة وتسير نحو سُلّم الكمال المطلوب على صعيد الفرد والمجتمع.

من هنا فاننا بحاجة إلى دراسة متأملة وقراءة متأنية تلمّ بأطراف تلك السيرة المشرقة بالعطاء ، لنجعلها نصب أعيننا فنستجلي مواطن العبرة فيها ، ونستلهم دروس العظمة منها ، ونتعاطى مع دلالتها المتناغمة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات على كافة مستويات الفكر والمنهج والسلوك.

ولعل في تنوع ادوار تلك السيرة بحسب طبيعة المرحلة والظروف السياسية المحيطة بقادتنا المعصومينعليه‌السلام ما يزيل الرتابة منها ويجعلها تتواصل مع مختلف المواقف والظروف نحو هدفٍ اسمى وهمّ مشترك ، وذلك هو حفظ الكتاب الكريم وسنة النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلب الاصلاح والهداية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا كتاب قراءة في سيرة أحد عظماء أهل البيتعليهم‌السلام ، ذلك هو إمامنا الحادي عشر أبو محمد الحسن العسكريعليه‌السلام الذي قال فيه أبوه الهاديعليه‌السلام : « أبو

٥

محمد ابني أنصح آل محمد غريزة وأوثقهم حجة ».

ويبدو أن أهم ما يستوقف الباحث في حياة الإمام العسكريعليه‌السلام هو كونه آخر إمامٍ ختمت به الإمامة الظاهرة ، ليبدأ بعده عصر الغيبة الذي بدأت تباشيره وأوشك زمانه ، لذلك وقع على الإمام العسكريعليه‌السلام العبء الأكبر في ترسيخ مبدأ الغيبة وتأصيله في نفوس شيعته للحفاظ على خطهم الرسالي من الضياع والانهيار. وقد استطاع إمامنا العسكريعليه‌السلام أن ينجز هذه المهمة الخطيرة بكلّ جدارة وقوة ، وأن يحافظ على حياة ولده المهديعليه‌السلام من ملاحقة السلطة وأدوات قمعها ، في وقت عصيب عُزل فيه الإمام عن أصحابه وشدّدت الرقابة عليه.

وفي هذا الاتجاه استطاع أن يهيء ذهنية شيعته لتقبل عصر الغيبة باتباع عين الأسلوب الذي سيتّخذه ولده المهديعليه‌السلام في عصرالغيبة ، وهو الاحتجاب عن الناس واتخاذ الوكلاء الذين يختارهم من خاصته ، والاتصال بأصحابه عن طريق المكاتبات والتواقيع التي صارت سمة بارزة في حياة الإمامين العسكريينعليهما‌السلام .

وهناك صفحات اُخرى مشرقة تستوقف الباحث في سيرة هذا الإمام العظيم الملأى بالعطاء ، نتركها للقارئ الكريم وهو يتحرّاها في فصول هذا الكتاب الذي استطاع مؤلفه أن يوقفنا عند المحطات الرئيسية في سيرة هذا الإمام العظيم ، ضمن دراسة جادة موثقة بالمصادر المعتبرة.

ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق

مركز الرسالة

٦

المُقدَّمة ُ

الحمدلله رب العالمين ، وسلامه على عباده المصطفين محمد وآله الميامين.

وبعد : إن البحث في سيرة الأئمة المعصومينعليهم‌السلام باعتبارهم قادةً رساليين وقدوة حسنة تتمثل بهم خصائص العظمة والاستقامة ، يعكس دورهم الايجابي في تحريك طاقات الأمة باتجاه الوعي الرسالي للشريعة ، وتعميق حركة الإسلام الأصيل في وجدانها ، وحماية الرسالة من حالة التردي بالوقوف في وجه التيارات الفكرية المنحرفة.

ويقابل ذلك البحث في سيرة الزماعات المعاصرة لهمعليهم‌السلام التي نقرأ فيها الوجه المشوّه للرسالة على المستوى النظري والتطبيقي ، على الرغم من تماهي أصحاب السلطة والصولجان في كتابه تاريخهم وإغداقهم أسخي الهبات على كتّابهم وشعرائهم.

من هنا كان نصيب السيرة الأولى الخلود والسمو والمجد رغم إقصاء رموزها المعصومينعليهم‌السلام عن مركزهم في زعامة الأمة ، ورغم كونهم ملاحقين ومعزولين عن قواعدهم وشهداء في نهاية المطاف ، وكان نصيبهم أيضاً أن تمسكت بهم غالبية الأمة ومنحتهم كلّ مظاهر التبجيل والثناء والود والثقة ، لا لأنهم من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن المنتسبين إليه كثيرون ، بل لما تستشعره الأمة من سيرتهم الغنية بالعطاء ودورهم المشرق في كلّ اتجاه ذلك لأن الأمة لا تمنح ثقتها وحبها اعتباطاً ، يقول الإمام الكاظمعليه‌السلام لهارون الرشيد :« أنا إمام

٧

القلوب وأنت إمام الجسوم » (١) .

ونحن مع إمامنا الحادي عشرعليه‌السلام نستشعر تمسك الأمة بالإمام وعظم محبته في قلوبهم وهيبته في نفوسهم في عدة مواقف لعلّ أبرزها حينما اُشخص العسكري مع أبيهعليهما‌السلام من مدينةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدهم إلى عاصمة الملك سامراء بأمر المتوكل ، فقد روى المؤرخون والمحدثون عن يحيى بن هرثمة وهو المكلف بإشخاص الإمامعليه‌السلام أنه قال : « فذهبت إلى المدينة ، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله وقامت الدنيا على ساق »(٢) وحينما نعاه الناعي إبّان شهادته « صارت سامراء ضجّة واحدة : مات ابن الرضا وعطّلت الأسواق ، وركب سائر الناس إلى جنازته ، فكانت سامراء يومئذٍ شبيها بالقيامة »(٣) ولم يكن ذلك إلا لشعور الأمة بعطاء الإمامعليه‌السلام ودوره الفعال في حماية الرسالة ، الأمر الذي جعل حتى أعداءَه من رجال البلاط يذعنون بفضله وهديه ، ومنهم وزير المعتمد عبيد الله بن خاقان الذي قال لابنه أحمد عامل الخراج والضياع في قم في إشارة إلى الإمام العسكريعليه‌السلام : « يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه »(٤) .

ولا ريب أن عطاءات الإمام العسكريعليه‌السلام والأدوار التي قام بها على

__________________

(١) ينابيع المودة / القندوزي ٣ : ١٢٠.

(٢) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٢٢ ـ مؤسسة أهل البيتعليهم‌السلام ـ بيروت.

(٣) إكمال الدين / الشيخ الصدوق : ٤٣ ـ المقدمه ـ جماعة المدرسين ـ قم.

(٤) إكمال الدين : ٤١ ـ المقدمه.

٨

مستوى الرسالة ، تمتاز بالخصوصية والاستثناء نظراً للمقطع الزماني الخطير الذي عاشهعليه‌السلام والذي يمتثل في شدة السلطان وإمعانه في عزل الإمام ومراقبة حركاته وسكناته ، بل ولجوئه إلى شتى وسائل القمع لانهائه والاجهاز عليه والحاقه بمن سبقه من سلالة هذا البيت الكرامعليهم‌السلام ، وذلك لكونه والد الإمام الحجةعليهما‌السلام الذي عرفوا بما أثر عندهم من الأحاديث والآثار انه يقيم دولة الحق ويقوّض اُسس الباطل ، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت جوراً وظلماً.

قال الإمام العسكريعليه‌السلام :« زعموا انهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل ، وقد كذّب اللهُ قولَهم ، والحمد لله » (١) لقد ظنوا أنهم يستطيعون النيل من حجة الله المودع بعين الله وحفظه ، فخيب الله ظنّهم.

ورغم الظروف السياسية الحالكة استطاع إمامنا العسكريعليه‌السلام أن يقدّم للامة عطاءً واسعاً ، ويمثل دوراً فاعلاً في إيصال سنن جدّه المصطفيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآبائه المعصومينعليهم‌السلام أن يعدّ جيشاً عقائدياً وطليعة واعية تؤمن بالغيبة كمبدأ عقائدي أصيل يعيش في وجدانها ، وتمكن بالاشراف على شيعته عن طريق التواقيع والمراسلات الوكلاء أن يخطط لسلوكها ويحمي وجودها وينمي وعيها ويمدها بكلّ الأساليب التي تساعد على صمودها وارتقائها إلى مستوى الحاجة الاسلامية.

وتمكن الإمام العسكريعليه‌السلام من إنقاذ الأمة من حالة التعثّر في مهاوي الضلال والتيه ، عن طريق مقاومة التيارات الفكرية المنحرفة عن الجادة وجسّ مواقع تأثيرها وتشخيصها وهي في بدايتها تقديراً لشدّة مضاعفاتها وتخطيطاً

__________________

(١) إكمال الدين : ٤٠٧ ـ باب ٣٨.

٩

للقضاء عليها ، ولعلّ خير مصاديق ذلك هو اهتمام الإمام العسكريعليه‌السلام بمشروع كتاب يصنفه الكندي حول متناقضات ادّعاها في القرآن الكريم ، إذا إتصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته ، فاحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها على خطأ.(١)

وسنعيش مع فصول هذا الكتاب السبعة أدواراً اُخرى وعطاءات كثيرة امتدت منذ نشأة الإمامعليه‌السلام حتى وفاته في سامراء شهيداً وشاهداً على الأمة بعد سنين من المحنة وفصولٍ من الجهاد.

ولسنا ندّعي هنا بأنّنا قد أحطنا بكلّ جوانب حياة هذا الإمام الهمام وسيرته المعطاء ، ولكنّا قدّمنا جهداً متواضعاً نرجو أن يفي بعض الحق الذي في أعناقنا لأئمتنا الهداة الميامين ، سائلين المولى العزيز أن يسدد خطانا ، ويلهمنا الصواب في القول والعمل ، ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو من وراء القصد.

__________________

(١) راجع : المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٧ ـ دار الأضواء ـ بيروت ـ ١٤٢١ ه‍.

١٠

الفصل الأوّل

الحياة السياسية

في عصر الإمام العسكري عليه‌السلام ( ٢٣٢ ـ ٢٦٠ ه‍ )

لا ريب أنّ الحالة السياسية السائدة في عصرٍ ما تشكّل المفصل الأساسي الذي تتحرك عليه مجمل الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لذلك العصر ، وتنعكس عليه سلباً وإيجاباً ، ذلك لأن الحاكم يمتلك ـ بسلطته وسطوته وسيطرته على منابع الثروة ـ مفاتيح التغيير الاجتماعي والفكري ببسط اسباب الحرية أو الاستبداد ، ويمتلك عوامل الرخاء أو الفساد الاقتصادي بعدله أو جوره ، وكلّ ذلك منوط بنوع الجهاز الحاكم وسلوك أجهزتة التنفيذية ، وفيما يتعلق بتاريخ الإمام أبي محمد الحسن العسكريعليه‌السلام الذي عاش في العصر العباسي الثاني سنقدم قراءة تاريخية للحكام الذين عاصروا الإمامعليه‌السلام منذ الولادة حتى الشهادة ، ثمّ نذكر أهمّ السمات التي طبعت ذلك العصر.

الحكام المعاصرون للإمام عليه‌السلام :

ولد الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في الثامن من الربيع الآخر سنة ٢٣٢ ه‍ على القول المشهور في ولادتهعليه‌السلام وذلك في آخر ملك الواثق بالله بن المعتصم ( ٢٢٧ ـ ١٣٢ ه‍ ) وبويع بعده لأخيه جعفربن المعتصم المعروف

١١

بالمتوكل لست بقين من ذي الحجة سنة ٢٣٢ ه‍ ، وكان عمر الإمام العسكريعليه‌السلام نحو ثمانية أشهر ونصف ، وقتل المتوكل سنة ٢٤٧ ه‍ ، وتولى بعده ابنه المنتصر بالله زمام السلطة العباسية لستة أشهر ويومين فقط ، ومات سنة ٢٤٨ ه‍ ، فتولى بعده المستعين بالله أحمد بن محمد المعتصم سنة ٢٤٨ ه‍ ، وخلع نفسه بعد فتنة طويلة وحروب كثيرة سنة ٢٥١ ه‍ ، وتولى بعده المعتز بالله بن المتوكل واسمه محمد وقيل : الزبير ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ه‍ ) واستشهد حجة الله الإمام أبو الحسن علي الهاديعليه‌السلام بعد مضي نحو سنتين ونصف من أيام حكم المعتز بالله ، وذلك في الثالث من رجب سنة ٢٥٤ ه‍ ، وتولى الإمام العسكري مهام الإمامة الإلهية.

ثم جاء إلى السلطة المهتدي بالله محمد بن الواثق بعد خلع المعتز وقتله سنة ٢٥٥ ه‍ ، وحكم نحو سنة واحدة ، ثمّ قتله الأتراك سنة ٢٥٦ ه‍ ، وتولى بعده أحمد ابن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد نحو ثلاث وعشرين سنة حيث قتل سنة ٢٧٩ ه‍ ، وهكذا استغرقت حياة إمامنا العسكريعليه‌السلام الأيام الأخيرة من حكم الواثق ، ثم تمام حكم المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي مع أربع سنين من حكم المعتمد ، حيث استشهد إمامناعليه‌السلام يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول سنة ٢٦٠ ه‍ ، على القول المشهور في وفاتهعليه‌السلام (١) .

__________________

(١) راجع : تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٦٧ ـ ٢٨٢ ـ دار الكتاب العربي ـ ١٤٢٢ ه‍ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤ ـ ٥٠٧ ـ دار صادر ـ ١٤١٥ ه‍ ، إعلام الورى / الطبرسي ٢ : ١١١ ـ ١٣١ ـ مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام لإحياء التراث ـ ١٤١٧ ه‍ ، الجوهر الثمين / ابن دقماق ١ : ١٤٦ ـ ١٥٧ ـ عالم الكتب ـ ١٤٠٥ ه‍ ، دلائل الإمامة ، الطبري : ٤٠٩ و ٣٢٤ ـ مؤسسة البعثة ـ ١٤١٣ ه‍ ، التتمة في

١٢

أهم سمات هذا العصر

يعتبر هذا العصر بداية لضعف سلطة الدولة العباسية وسقوط هيبتها وانحلالها ، بسبب استيلاء الأتراك على عاصمة الملك ، وانتقاض أطراف الدولة واستيلاء العمال والولاة عليها ، واعتزال الخلفاء عن شؤون الحكم وانصراف غالبيتهم إلى أسباب اللهو والترف والمجون ، وقد انعكست آثار ذلك على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر ، وفيما يلي أهم خصائص هذا العصر :

السمة الأولى ـ نفوذ الأتراك وضعف العباسيين

تميز هذا العصر بغلبة الأتراك والفراغنه والمغاربة وغيرهم من الموالي وتدخّلهم في مقاليد الحكم ، وكان أول ذلك في عصر المعصتم الذي اعتنى منذ توليه الحكم سنة ٢١٨ ه‍ ، باقتناء الترك ، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم ، وبذل فيهم الأموال ، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب ، فكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس ، وضاقت بهم البلد ، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا : إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك ، فكان سبب بنائه سرّ من رأى وتحوّله إليها سنة : ٢٢٠ وقيل : ٢٢١ ه‍(١) .

وبعد ذلك ازداد نفوذ الأتراك في عاصمة العسكر سامراء وتسنّموا

__________________

تواريخ الأئمةعليه‌السلام / تاج الدين العاملي : ١٣٧ و ١٤٢ ـ مؤسسة البعثة ـ ١٤١٢ ه‍.

(١) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٥٩ ، معجم البلدان / ياقوت الحموي ـ المجلد الثالث : ١٠ ـ ١٣ ـ ( مدينة سامراء ) دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٤١٧ ه‍.

١٣

مناصب هامة كولاة وعمال وقادة جيش ، ومنهم بغا الكبير ، وابناه موسى ومحمد ، وبابكيال ، وياركوج ، واذكوتكين ، وبغا الصغير الشرابي ، ووصيف بن باغر وغيرهم. وبعد عصر المتوكل ازدادت سيطرتهم على مقاليد الحكم فأهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا إرادتهم ، وتدخلوا في شؤون الملك ، وتلاعبوا ببيوت الأموال ، وانتكهوا مصالح الاُمة ومقدراتها ؛ فقد قتلوا المتوكل والمهتدي ، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد ، واستخلفوا للمستعين ، واستولوا على الأموال في عهده ، وقاتلوه حين غضب عليهم ، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.

قال ابن طقطقا : كان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة ، واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه ، وإن شاءوا خلعوه ، وإن شاءوا قتلوه(١) .

وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولا قوة مع اُمراء الجند الأتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله :

خليفة في قفصٍ

بين وصيفٍ وبغا

يقول ما قال لهُ

كما تقول الببغـا(٢)

ومن مظاهر سيطرة اُمراء الأتراك على جميع أفراد الدولة بما فيهم الخليفة في زمان المعتزّ بالله ، ما ذكره اليعقوبي في تاريخه حوادث سنة ٢٥٥ ه‍ ، قال : وثب

__________________

(١) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطا : ٢٤٣ ، نشر الشريف الرضي ، قم.

(٢) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٨.

١٤

صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز ، وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع ، وعلى عيسىٰ بن إبراهيم بن نوح وعلى ابن نوح ، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذّبهم بأنواع العذاب ، وغلب على الأمر ، فهمّ المعتزّ بجمع الأتراك ، ثمّ دخل إليه فأزاله من مجلسه ، وصُيّر في بيت ، وأخذ رقعته بخلع نفسه ، وتوفي بعد يومين ، وصلّى عليه المهتدي(١) .

السمة الثانية ـ استئثار رجال السلطة بالأموال العامة

السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاء هي الاستئثار ببيت المال وتسخيره لخدمة مصالحهم الخاصه وحرمان الأغلبية الساحقة منه ، ومن مظاهر ذلك الاستئثار ان اُمّ شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت أموالاً لا تُحصر ؛ من ذلك خمسة آلاف ألف دينار من العين وحده(٢) . ونقل المؤرخون في أحداث سنة ٢٤٩ أن المستعين أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال ، وأباحهم فعل ما أرادوا ، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة وما يفضل من هؤلاء الثلاثة يأخذه أتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته(٣) .

وذكروا أنه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة ٢٥٢ ه‍

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ : ٥٠٤ ، سير أعلام النبلاء / الذهبي ١٢ : ٥٣٥ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤١٩ ه‍.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤١.

(٣) الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٦ : ١٥٤ ـ دار الكتاب العلمية ـ ١٤١٥ ه‍ ، البداية والنهاية / ابن كثير ١١ : ٣ ـ مكتبة المعارف ـ ١٤١٤ ه‍.

١٥

خلّف في بيت المال بسامراء نحو خمسائة ألف دينار ، وفي بيت مال أم المستعين ألف ألف دينار ، وفي بيت المال العباس ابنه ستمائة ألف دينار(١) .

وفي أحداث سنة ٢٥٥ ه‍ ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله ، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة ، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله ، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ، وفي سفط آخر مقداركليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله ، فقوّمت الأسفاط بالفي ألف دينار(٢) .

أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاء وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط ، فمما يخرج بنا عن الغرض ، ويكفي مثالاً على ذلك أن بغا الكبير حينما مات سنة ٢٤٨ ه‍ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار ، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار(٣) .

وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم وحينما مات خلّف من العين عشرة ألف دينار ، وأربعة وعشرين ألف مملوك(٤) .

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٦٦ ، البلادية والنهاية ١١ : ٧.

(٢) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٥ بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ـ بيروت ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٧ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٨٠.

(٣) البداية والنهاية ١١ : ٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٩٤ ـ ٩٥.

١٦

وكانت غُريب جارية المعتمد ذات أموال جزيلة(١) .

السمة الثالثة ـ ميل العباسيين إلى البذخ والترف واللهو

كان رجال الدولة وعلى رأسهم السلطان ينفقون الأموال الطائلة لشؤونهم الخاصة كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين وجميع وسائل اللهو والمجون المتاحة في ذلك العصر ، وكانوا يسرفون في الانفاق على الشعراء وبناء القصور ، بينما تعيش الأكثرية الساحقة من الناس على الكفاف وينهكها الجوع والفقر وتفتك بها الأمراض والأوبئة.

فقد كان المتوكل كثير الانفاق على الشعراء حتى قيل : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكل(٢) ، فأجاز مروان بن أبي الجنوب علي قصيدة في مدحه بمائة وعشرين ألف درهم ، وأعطاه حتى أثرى كثيراً فقال :

فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد

فقد خفت أن أطغى وأن اتجبرا

فقال : لا أمسك حتى يغرقك جودي(٣) .

وقرّب المتوكل أبا شبل عاصم بن وهب البرجمي ، وكان شاعراً ماجناً ، وأنفق عليه حتى أثرى ، قال أبو الفرج : نَفَق عند المتوكل بايثاره العبث وخدمه وخُصّ به فأثرى ، وأمر له بثلاثين ألف درهم على قصيدة من ثلاثين بيتاً(٤) .

وأجاز عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبا شبل البرجمي أيضاً على قصيدة في

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٥٢.

(٢) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٠.

(٣) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٠.

(٤) الأغاني / ابو الفرج الاصفهاني ١٤ : ١٩٣ ـ دار إحياء التراث العربي.

١٧

مدحه خمسة آلاف درهم ودابة وخلع عليه(١) .

وعن أحمد بن المكي ، قال : غنيت المتوكل صوتاً شعره لأبي شبل البرجمي ، فأمر لي بعشرين ألف درهم ، فقلت : يا سيدي أسأل الله أن يبلّغك الهُنيدة. فسأل عنها الفتح ، فقال : يعني مائة سنة ، فأمر لي بعشرة آلاف اُخرى(٢) .

وأجاز المتوكل الحسين بن الضحاك الخليع على أربعة أبيات أربعة آلاف دينار(٣) .

وكان المتوكل مغرماً بالجواري اللاتي يجلبن من أنحاء البلاد بأموال طائلة ، فقد روي عن المسعودي أنه قال : كان المتوكل منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرّية ووطئ الجميع(٤) .

كما كان ميالاً إلى التأنّق في تشييد القصورالضخمة التي تعجّ بألوانٍ من مظاهر الترف والبذخ والعبث اللهو والمجون ، قال اليعقوبي : بني المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها : الشاه ، والعروس ، والشِّبندار ، والبديع ، والغريب ، والبرج ، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار(٥) .

وقيل : أنفق على الجوسق والجعفري والهاروني أكثر من مئتي ألف ألف

__________________

(١) الأغاني ١٤ : ١٩٩.

(٢) الأغاني ١٤ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) مروج الذهب / المسعودي ٤ : ٣٨٨ ـ دار إحياء التراث العربي ـ ١٤٢٢ ه‍ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠.

(٤) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧١ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١.

١٨

درهم(١) .

أما الإسراف في مراسم البلاط الخاصه باولاد الخلفاء وغيرهم فمما يطول به الحديث ، ومن شواهد ذلك ما نقله ابن كثير عن مراسم تسليم المعتز على أبيه بالخلافة ، قال : لما جلس [ المعتزّ ] وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة ، وخطب الناس ، نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة ، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار ، ومثلها ذهباً ، وألف وألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر(٢) .

أمّا المستعين فقد قالوا عنه : إنه كان متلافاً للمال مبذراً ، فرّق الجواهر وفاخر الثياب ، واختلّت الخلافه بولايته واضطربت الاُمور(٣) .

وذكروا أنّ اُم المهتدي محمد بن الواثق ، التي ماتت قبل استخلافه ، أنّها كانت تحت المستعين ، فلمّا قُتل المستعين صيّرها المعتزّ في قصر الرصافة الذي فيه الحرم ، فلمّا ولي المهتدي الخلافة قال يوماً لجماعة من الموالي : أمّا أنا فليس لي اُمّ أحتاج لها إلى غلّة عشرة آلاف ألف في كلّ سنة لجواريها وخدمها والمتّصلين بها(٤) .

وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ ، وهي تحكي عن حجم التبذير في بيوت

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠ ، وراجع : معجم البلدان / ياقوت ٢ : ٦٠ ـ دار إحياء التراث العربي ـ عند ترجمة الجعفري ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٢ ، والبداية والنهاية ١٠ : ٣٤٦ ، والكامل في التاريخ ٦ : ١٣٠.

(٢) البداية والنهاية ١١ : ١٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٦.

(٤) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٦ ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٣ ، البداية والنهاية ١١ : ١٨.

١٩

الأموال والإسراف في النفقات الخاصه على حساب الأغلبية المحرومة ، وكان من نتائج ذلك أن ابتعد الخليفة عن الرعية وأهمل شؤونهم فكرهه غالبية الناس.

قال ابن كثير في حوادث سنة ٢٤٩ ـ خلافة المستعين ـ : قد ضعف جانب الخلافة ، واشتغلوا بالقيان والملاهي ، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك(١) .

اما المعتمد الذي مات بالقصر الحسني مع الندماء والمطربين وكان يكسر ويعربد على الندماء(٢) ، فقد قال السيوطي وغيره : انهمك باللهو واللذات ، واشتغل عن الرعية فكرهه الناس(٣) .

ولعلّ ذلك هو أحد الاسباب في تعاطف عامة الناس سيما أهل بغداد مع بعض الطالبيين الثائرين بوجه الظلم والاستئثار ، ومنهم يحيى بن عمر الشهيد سنة ٢٥٠ ه‍ فضلاً عن حسن سيرته ، قال أبو الفرج : كان هوى أهل بغداد مع يحيى ، ولم يُروَ قطّ أنّهم مالوا إلى طالبي خرج غيره(٤) .

وقال ابن الأثير : تولاه العامة من أهل بغداد ، ولا يعلم أنّهم تولوا أحداً من [ أهل ] بيته سواه(٥) .

كما أنكر أهل بغداد على المتوكل وكتبوا شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء ، وحينما أمر بهدم قبر الإمام الحسينعليه‌السلام وهدم ما حوله من الدور

__________________

(١) البداية والنهاية ١١ : ٣.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٥٢.

(٣) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٨٢ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٤٠.

(٤) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الاصفهاني : ٤٢١ ـ المكتبة الحيدرية ـ النجف.

(٥) الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٧.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هكذا كالنور تفنى

كل أحلامك لبنى

فخذي حظك من دنياك قبل الارتحال(١)

وهكذا كانت بدايات الشاعر. أشعار عاطفية وأبيات في الوجد والحب تفصح عن شعور صادق ، أحاسيس جياشة تبثها نفس الشاعر الشاب في فترة هي من أجمل فترات العمر المفعمة بالحركة والنشاط والحيوية.

وبدأ الوعي الفكري ينمو في شعور الشاعر ، وأخذت الأفكار تستحوذ على أدبه ، فبدأ ينظم قصائد رصينة المعنى ، محكمة البناء ، قويمة المحتوى والمضمون وهو في سن التاسعة عشرة من عمره. وتستوقفنا أربع قصائد نظمها الشاعر في هذه السن ، الاولى : قصيدة « التقاليد » التي قال في مطلعها :

تقاليدٌ تجرّ لك الشجونا

واوضاع تجرعك المنونا(٢)

وقد نقد الشاعر في هذه القصيدة التقاليد السقيمة التي كانت تجور على نظم الاصلاح الدينية والاجتماعية وتحول دون تقدم المجتمع ورقيّه.

أمّا القصيدة الثانية فهي قصيدة « وادي السلام » ، وفيها وصف رائع ودقيق لمقبرة النجف الشهيرة. وتعد هذه القصيدة من أروع قصائد الشاعر التي قالها وهو في هذه السن لما تحمل من أوصاف رائعة وأفكار فلسفية تفصح عن نضج فكري مبكر تمتع به الشاعر ولما يزل في نضارة العمر. ومن أبيات هذه القصيدة :

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٩ ، ٢٠.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

١٠١

على الذكوت البيض من جانب الوادي

قفا ساعةً واستنطقا الأثَر البادي

فكم فيه معنىً لا يفي ببيانه

لسان فصيح أو يراعةُ نُقّاد

وكم عبرة خرسا بها نطق البلى

فأفصح تبياناً على غير معتاد

الى ان يقول :

فيا صفحة الوادي وأنت سجله

أتدرين كم مرّت قرون على الوادي

وكم قد تلاشت في ثراه مفارق

وكم طويت فيه أكاليل أسياد

وكم صولجان قد تداعى كيانه

به وعروش دكها الزمن العادي

ورب لسان مفصح عاد أخرساً

وخانتهُ للتعبير قوّة ايجاد

وكان محالاً عنده الصمت فاغتدى

لسلطانه الجبار أطوع منقاد

فهل طويت منه الفصاحة في الثرى

وهل أخمدت في أثرها روعة النادي(١)

والقصيدة الثالثة قصيدة « العقل » وهي كسابقتها من حيث متانة الأفكار ، وقوة المعاني والمضامين. يقول الشاعر في بعض أبياته :

وازِن بعقلك فالحجى ميزان

وزنت به عرفانها الأذهان

وانهج على منهاجه كيما ترى

حججاً عليها ينهض الوجدان

فيه فلاسفةُ الوجود تمكنوا

من حد مالا يدركُ الأنسان

عرفوا به كنه الأثير فحللوا

ذّراته في ذاتها وأبانوا

واستخرجوا روح النبات وماله

من جوهر ينمو به الحيوان

حتى أرونا للذوات حقائقاً

كشف الغطا عن نورها البرهان(٢)

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٩٧ ، ٢٩٨.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨٤.

١٠٢

أمّا القصيدة الرابعة فهي بعنوان « بلبل الروض » وقد بث فيها الشاعر حسراته على أيام الطفولة التي كان ينعم بهنائها وصفائها مبتعداً عن الأحزان والآلام :

والهفتاهُ على عصر مضى هدراً

عصر الطفولة أنت اليوم مفقود

اذ كنت فيك عن الآلام مبتعداً

واليوم قلبي من الآلام محشود

فلا أرى سولة لي عنك تنعشنى

وكيف يسلو معنّىً وهو معمود(١)

وأول قصيدة بدأ يسطع نجم الشاعر من أفقها هي قصيدة « الحقيقة » التي نظمها عام ١٩٣٨ م ، وألقاها في الحفلة التي عقدها السيد محمد رضا الصافي(٢) في بيته احتفاءً بزفاف الأديب السيد محمد علي البلاغي صاحب مجلة الاعتدال. وقد نالت تشجيعاً أدبياً قيماً في حفل محتشد برجال العلم والادب. وفي القصيدة اشارة الى مواطن التخلف والجهل التي شقي بها الشرق ، ودعوة الى النهوض واليقظة لمسايرة ركب المدنية والحضارة :

أما آن عن وجه الحقيقة ينجاب

سجاف عليها قد أذيل وجلباب

ألا ينجلي هذا الظلامُ بمشعلٍ

لتهدى عقول تائهاتٌ وألباب

الى كم بهذا الجهل تشقى عقولنا

ويخدعنا من خلّب الغي جذاب

وحتامَ نبقى والقشور نصيبنا

وقد اوصدت فوق الحقيقة أبواب

لقد ضللت تلك العقول فلم تجد

سناً تهتدي فيه اذا هي تنتاب

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣٢٢.

٢ - السيد محمد رضا الصافي ( ١٢٩٨ - ١٣٦١ ه ). سياسي قدير ، وأديب رقيق الروح. كانت له مساهمات فعالة في العمل السياسي والوطني. ( شعراء الغري ، ج ٨ ، ص ٣٩٢ ).

١٠٣

وكيف ترى نهج الحقيقة والهدى

وقد جللته للأضاليل أثواب

وحتى متى تنجو من الجهل أمة

بها علقت من آفة الجهل أنياب(١)

أما عن طريقة النظم التي تَميّز بها الشاعر عن سائر شعراء عصره ، فيقول عنها : « نظمت الشعر في العقد الثاني من عمري ، وطريقتي في نظم الشعر نادرة إذ اني أنظم القصيدة الطويلة على لوحة خاطري وتبقى أياماً مرتسمة في حافظتي ثم اكبتها واصلح ما يلزم إصلاحه منها. وبسبب هذه المنحة التي منّ بها المنعم أصبح من السهل على إلقاء قصائدي في الاحتفالات بدون ورق شبه المرتجل وإعادة مواردها مراراً من أي موضع يطلبه المستعيد وإن كنت في آخر القصيدة كأنها مرسومة في ورقة أمام ناظري(٢) ».

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٦.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨

١٠٤

ثانياً : المؤثرات

لا يخفى أنّ الشاعر بحكم احساسه المرهف وروحه الرقيقة يتأثر بعوامل عديدة تنعكس على عواطفه وخواطره وتلقي بظلالها على شعره وأدبه. وتشكل هذه العوامل الحدر الاساس في بناء أدب الشاعر وتكوين هيكليته وأساسه. والشيخ الفرطوسي وهو الشاعر الذي حمل بين حنايا ضلوعه قلباً حساساً وروحاً شاعرة وعاطفة ثائرة كان لا بد ان يتأثر بالعوامل المحيطة به وأن يعكسها على مرآة شعره وأدبه. ومن هذه العوامل :

١ - المحيط* :

لا شك أنّ للمحيط الأثر الأكبر في بلورة شاعرية الشاعر وتحديد معالم أدبه وشعره. وكما قال الفرطوسي : « إنّ للمحيط الذي يتشبع ذهن الانسان بخواطره وتملأ عينه بمناظره. والحياة التي يعيش في رغد نعيمها أو نكد جحيمها. والنكبات التي تفاجئه بها الحوادت فيتلقاها بالثبات او يستسلم لسلطانها. والاتجاهات العاطفية التي تسير بالنفس الى شواطيء رغباتها. كل هذه العوامل لها أثر واقعي في توجيه أدب الشاعر وتكييفه لان الأدب موهبة من مواهب النفس ، والنفس تتأثر بهذه الدواعي فلابد وأن يظهر لونها على الأدب(١) ».

ولون الأدب عند الفرطوسي هو لون الحزن والألم بل قل لون العذاب

__________________

* - ليس المقصود من الميحط هنا البيئة التي عاشها الشاعر وتأثر بأجوائها. فهذا موضوع سبق أن بحث في الباب الأول من هذه الدراسة. وانما المقصود من المحيط هو العوامل غير البيئية التي حدقت بالشاعر وأثّرت عليه وشاركت في حوك نسيجه الشعري المتميز.

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٦.

١٠٥

والشقاء فقلما أحس الشاعر ساعة هناء أو استساغ فمه طعم نعيم خلال العقود السبعة التي عاشها وما أصعبها من عقود. وعن أسباب هذا الحزن يقول الشاعر : « أعيش في زوايا مظلمة من بيت قديم متداعي لا تجد الشمس فيه مدخلاً سهلاً لأشعتها ومتى ضاقت النفس من سجن هذا القفص وطلبت التمتع بالفضاء الرحب والنسيم الطلق ذهبت الى « وادي السلام » وماذا بالوادي غير قبور بالية ومناظر حزينة باكية تستعرضها فتمر في ذهنك ذكريات عشرات من القرون الغابرة طويت أجيالها في صفحاتها ويهيمن على نفسك وأنت تستطلع الطريق بين أرمالها سكون ذلك الوادي الرهيب وروعته وجلاله. كما أني أرتاد في كل عام بعض المناطق القروية وهي طافحة بصور الفقر والبأساء متحشدة بمناظر الحزن والألم فتطبع في القروية وهي طافحة بصور الفقر والبأساء محتشدة بمناظر الحزن والألم فتطبع في نفسي من هذه وتلك ألوان من الصور الكئيبة وتحز في قلبي مدى من آلامها(١) ».

ويستشف من شعر الفرطوسي الكثير الكثير من ضروب البؤس والشقاء التي تقاطرت على الشاعر من كل حدب وصوب وبحلقات متسلسلة ومتواصلة :

حياتُك واليأس صُنوٌ لها

ومنها الرّدى فَرقاً يفزع

حياة الجحيم على ما بها

الى جنبها رغدٌ ممتع

حياةٌ ترقُ لها الحادثات

ويرثي لها الألم الموجع

عجبت لقلبك يحيى بها

وفي كلّ آن له مصرع

حياتُك يا منبعَ العاطفات

ضروبُ الشقاء بها تنبع

له ألفُ مطلع حزن يُرى

وما للسرور بها مطلع

وأنت على ما بها من عناً

يقض له الجنب والمضجع

أراك ولوعاً بآلامها

فرفقاً بنفسك يا مولع

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٦ ، ٢٧.

١٠٦

فهل عندك الألم الموجع

هو الأملُ الباسم الممرع(١)

وقصيدة « قلبي » التي نظمها الشاعر عام ١٩٥٢ م تصور وبكل وضوح وشفافية حياة البؤس والنكد التي واكبت مسيرة الشاعر في مختلف أدوار حياته :

قلبي لمستك جمرة في أضلعي

صعّدتها لفمي فكانت مطلعي

ولمحت نورك موجة في ناظري

طفحت فسالت في شقائق أدمعي

ولقد عهدتك بلبلاً يهفو على

نغم بقيثار الشعور موقع

يهتز للألم الحزين كأنه

أملٌ يسامره بلحن ممتع

ويطير من اُفق خصيب كيفما

يهوى الى افق خصيب المرتع

وأراك في افق الخيال وقد دجا

شبحاً ضئيلاً هامداً في بلقع

فعلمت انك من جمودك جثة

اضحى لها قفص هامداً كمصرع(٢)

واضافة الى القصيدة ذاتها فأنّ تعبير الشاعر في مقدمة القصيدة يفصح عن عمق الحزن الذي تخلل قلب الشاعر ولم يترك فيه فسحة للنعيم والهناء :

« غارس يزرع الأمل ويحصد الألم ، حقل ينبت الورد ويجتني الشوك. جدول يروي الظماء من معين الحياة ويموت ملتهباً ظامئاً. بلبل سجين في قفص مظلم يطرب السامع من الحانه الكئيبة وهو باك حزين. روح يوحي السعادة ويعيش بشقاء. هذا هو قلبي فأين السعادة والنعيم من هذا الشقي المعذب ».

ولم يحن لمسلسل البؤس ان ينتهي. فقد نكب الشاعر بحشد من النوائب وافواج من المصائب بددت أعز أفراد أسرته ، وأجهزت على خيرة أهله وأحبائه.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٢٣ ، ١٢٤.

٢ - المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٣ ، ١٣٤.

١٠٧

ففي عام ١٣٦١ ه نكب الشاعر بمصرع أخيه الشاب « جبار » إثر عملية جراحية فاشلة. ولم تمض سنة حتى نعي بوفاة ولده « عبدالرزاق » وذلك عام ١٣٦٢ ه وما هي الاّ سنوات ويفقد الشاعر طفله « علي » عندما كان يمرح مع أترابه في ملعب الطفولة. ثم يأتي عام ١٣٧٢ ه ليفجعه بأخيه الأكبر الشيخ عبدالزهراء.

وعلى الرغم من كل ما قاسى الشاعر من مصاعب وآلام ، وما تحمل من شقاء وعذاب ، فانه بقي صلب العود ، قوي الايمان ، راضياً بقضاء الله ، غير قانط من رحمته ، متحلياً بالصبر في كل حال من احواله :

لقد شهد الدهر المحددُ نابهُ

علي بأني قد أبنت به الكسرا

وما أنكرت مني الصروف صلابة

تعودتها ما اقبلت زمراً تترى

وكنت اذا جازت مساحة اصبع

إلي صروف الدهر جاوزتها شبرا

تتوق لانغام الخطوب صبابة

وتهتز نفسي من تقاطيعها بشرا

وتنعم عيني بالظلام كأنما

سواد الدجى كحل لمقلتها العبرى

تأملت في هذي الحياة فلم أجد

بها لي الاّ مسلكاً موحشاً وعرا

كأن خطوب الدهر آلت وأقسمت

على نفسها أن ترغم الفطن الحرا

رضيً بقضاء الله إن كان قد قضى

علي بأن اشقى وطوعاً لما اجرى

وصبراً يراعَ الحر انّك مثلُهُ

غريب فلا تستعظم الخطب والأمرا

تروم بأن تحيا من الدهر مطلقاً

ويحكم إلاّ أن تموت به أسرا(١)

ولا ننسى ونحن نستعرض ألوان الشقاء التي اصطبغت بها حياة الشاعر أن نذكر نكبته ببصره حيث حرم النور ولما يبلغ الخمسين من عمره. وقد كان وقع هذا الخطب على نفسه عظيماً حيث أثار لواعج احزانه وجدد قديم آلامه وأشجانه.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ، ٢٥٧.

١٠٨

ومن أليم قوله في هذا الشأن : « أفق حزين أطبقت عليه ظلمة اليأس وهو منبع النور والأمل يقتات من بقايا الصور الخيالية المرتسمة على مرآة الذهن فهو مصباحه ، ويستاف من زفرات قلبه المحترقة عبيره ونفحاته ، فهو حقله ومجمره. ويستمد من وعي الروح المنطلق قوته ونشاطه فهو حياته يحدق في النجم فلا يرى غير الضئيل من شعاعه ويرمق الزهرة فلا يدرك سوى اللون الواضح من جمالها يرنو للوجه الحسن فلا يحس بغيرالروعة البارزة من قسماته. هذا هو بصري وهذه صور من الألم أرسمها على صفحات هذا اللوح الكئيب :

ربيعَ العمر والآمال تجلى

وأنت الخصب قد أجدبت محلا

ويا أفق الحياة ظلمت نجما

أشاب اليأس من عينيه طفلا

أهذا الجو للغربان ملك

فحيث تحل منه لها أحلا

وأقفاص البلابل وهي تشدو

لها قد أصبحت سجناً وغلا

أحدق بالنجوم دجى فتخفى

على طرف بداج الاُفق ضلا

كأن الليل مدّ عليه سجفاً

وألقاه على عيني ظلا

فلا نجم يلوح ولا شعاع

لعين بافتقاد النور ثكلى

أرى الوجه الجميل ولا أراه

وأسلوه وكيف الحسن يُسلى

وأمتع بالشذى الفياح شوقاً

الى النفحات حين أرود حقلا

وألمس ورده بيديّ لما

حُرمت جماله لوناً وشكلا »(١)

ومن هنا أصبح لون الحزن والألم مميزاً في شعر الفرطوسي يتجلى في معظم نظمه ويشيع في أغلب قصائده. ولا غرو في ذلك فمن يمّر بمثل ما مّر به الفرطوسي ، ويتجرع الغصص التي تجرعها لحقيق بأن تظهر عليه آثار الحزن ومظاهر الألم.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٠ ، ١٣١.

١٠٩

٢ - العقيدة :

للعقيدة الدينية مكانتها الخاصة في شعر الفرطوسي. فقد اهتم الشاعر في منهجه الأدبي بالجانب العقائدي اهتماماً كبيراً هيمن على جلّ نتاجه الشعري. ويشكل هذا الأهتمام اتجاهاً واضحاً في مسيرة الشاعر. فقد دأب الشيخ في الألتزام وحرص على توظيف أدبه في خدمة الدين ونشر الثقافة الاسلامية المتمثلة بمبادىء الرسالة المحمدية ، ومعارف أهل البيتعليهم‌السلام .

ومن المعروف أنّ التزام الشيخ الفرطوسي هو التزام ديني قبل ان يكون التزاماً أدبياً. فقد عرف الشيخ في الأوساط الدينية ب « الانسان التقي الذي تعيش التقوى في كل مواقع حياته وفي كل دوائر علاقاته وفي حسن العبادة وخشوعها وابتهالها ، وفي كل آفاق الالتزام الديني الذي يجعله يحتاط فيه ، ويحتاط له حتى يشتدد على نفسه ليتأكد انّه قد أدّى واجبه امام الله بشكل كامل غير منقوص(١) ».

ويبرز الالتزام العقائدي عند الشاعر اكثر فأكثر حين ينظم قصائد المديح والرثاء في النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأهل بيتهعليهم‌السلام . وقد اكثر الشاعر النظم في هذا المجال حتى شمل ثلث ديوانه ، هذا بالاضافة الى موسوعته الشعرية الكبرى - ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام - التي تجاوزت الأربعين ألف بيت.

ومرجع هذا التفاني في احياء الفكر الاسلامي ونشر معارف أهل البيتعليهم‌السلام انما يعود الى التربية الاسلامية التي نشأ عليها الشاعر وتربى في احضانها وترعرع في ظلها الوارف.

وتتجسد العقيدة الدينية في شعر الفرطوسي من خلال رؤيته الواضحة

__________________

١ - محمد حسين فضل الله ، من كلمة له في تقديم الجزء الثامن من ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ص ٣.

١١٠

ومعرفته الدقيقة للدين الاسلامي. فهو من هذا المنظار يعرف جيداً كيف يلقي الضوء على العقائد الاسلامية ، ويصورها في شعره من الزاوية التي يجب أن تصور وفي الاتجاه الصحيح والسليم.

ومن مميزات الصورة التي يرسمها الشاعر في شعره العقائدي انّه عندما يتناول موضوعاً في هذا المجال يمهد له في باديء الأمر بمقدمات تكون ضرورية في الغالب لبسط الموضوع ودرك فحواه. وبعد أن يستوفي الغرض في المقدمات يعرج على ذكر البراهين والحجج التي يمكن عن طريقها التوصل الى الحقيقة المنشودة ، والغاية التي من اجلها أنشد قصيده. وفي مثل هذه المواضع يكثر الشاعر من ايراد الشواهد والأمثلة التي من شأنها أن تساعد على استيعاب الموضوع بأسهل صورة ممكنة.

فمثلاً عندما يتناول الشاعر موضوع ولاية الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، يذكر في البداية مقدمات في مناقب الامام وفضله وكذلك مواقفهعليه‌السلام التي حفظت للدين الاسلامي عزته وكرامته :

لك بالامامة واضحات دلائل

بنهارها يُمحى ظلام الباطل

كالسيف تشهر وهي أعظم سطوة

في وجه كل معاند ومجادل

يا واحدَ الدنيا المخّلدَ ذكرُه

بخلائق قدسيَّةٍ وشمائل

خلّدت للاسلام مجداً باذخاً

يربو على افق السما المتطاول

وأشدت للدين الحنيف منازلاً

لولا حسامُك لم تكن بأواهل

وبنور نهجك وهو منبع حكمة

متدفق اوضحت ايَّ مشاكل

أوردتنا فيه نميراً صافياً

يمنى لخير موارد ومناهل

أحكمته بقواعد حكمية

كفلت بيان اصول كل مسائل

١١١

تقف العقولُ أمامه مسحورة

ببيانه وبنسقه المتواصل

انت المحيطُ معارفاً لكنما

لم تحوِ غيرَ جواهر وفضائل

ومن ثم ينتقل الشاعر الى اثبات ولاية الامامعليه‌السلام بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة مستشهداً بأحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الخصوص :

عيد الغدير وأنت أعظم شاهد

بانت به للحق خيرُ دلائل

يومٌ به قام النبيّ مبلغاً

من ربّه نصّ البلاغ النازل

والناس بعضهم غدا متواصلاً

بالبعض في حشد عظيم حافل

نادى بهم والحق يشهد انّه

لولا الحقيقة لم يكن بالقائل

من كنت مولاه فهذا حيدر

مولاهُ بالنص الجليّ الكامل

هذا اميرُ المؤمنينَ اميرُكم

وخليفتي فيكم بقول شامل

لكنما غشيت عميً وضلالة

تلك البصائر بالضلال الحائل

نبذوا الكتاب وراءهم وتنكبوا

عن منهج الحق الصريح الفاصل

عدلوا عن الحبل المتين غواية

وتمسكوا من غيّهم بحبائل

ويواصل الشعر ردّه على شبهات المعاندين بكثير من المناقب والفضائل التي خص بها الامام دون غيره من الصحابة والتابعين :

قل للمعاند قد ضللت جهالة

سفهاً لعقلك من عنود جاهل

أعماك غيك أن ترى نور الهدى

فتسير في نهج البصير العاقل

أمن العدالة أن يؤخرَ سابقٌ

ويقدَم المفضولُ دون الفاضل

هذي فضائله وذي آثاره

سطعت بآفاق الهدى كمشاعل

فتصفح التأريخ فهي بوجهه

غرر صباح نظّمت كسلاسل

١١٢

ينبئك من واسى النبيّ محمداً

بمواقف مشهورة وغوائل

وفداه عند مبيته بفراشه

في نفسه فوقاه شر الباطل

ومن الذي اردى الوليد وشيبة

في يوم بدر بالحمام العاجل

وبيوم احد من طغت عزماته

فرست جبالاً في الزحام الهائل

من فرق الأحزاب حين تجمعت

فرقاً وما في القوم غير الناكل

ورمى على وجه الثرى اصنامها

لما رقى من فوق أشرف كاهل

وبكفه حصن اليهود قد اغتدى

متلاطماً كالموج فوق الساحل

ومن الذي ردت له شمس الضحى

لما أشار لها ارجعي في بابل

وفضائل ليست تعد و« هل اتى »

و« النجم » و« النبأ العظيم » دلائلي

عميت عيون لا ترى شمس الضحى

عند استقامة كلِ ظل مائل

عيد الغدير وأنت اكرم وافد

وافى من البشرية بخير رسائل

عيد به الاسلام اضحى حافلاً

فرحاً بتتويج الامام العادل

عيدٌ به شمس الحقيقة أشرقت

والحق اطلق من شباك الباطل

ما جادت الدنيا لنا في مثله

أبداً ولا تأتي له بمماثل

حقّاً يُخلَّد ذكرهُ وعلاؤهُ

وبه يُخلَّد ما تخط أناملي(١)

وعلى هذا النحو تتمثل العقيدة الاسلامية في شعر الفرطوسي بأوضح صورها وأتم معالمها ، مما لا تدع مجالاً للشك في اخلاص الشاعر تجاه دينه ومعتقده الذي حرص على أدائه بأكمل ما يمكن من وجوه الدقة والكمال.

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١١٧ - ١١٩.

١١٣

٣ - التاريخ :

لم يغفل الشيخ الفرطوسي عن مكانة التاريخ في التعبير الشعري ومدى تأثيره في حياة الناس. فقد استخدم الشاعر هذا العامل المحفز للإشادة بأمجاد السلف وتذكار تراثهم العريق الحافل بالمفاخر والبطولات ليستنهض همم أبناء جلدته ، ويثير في نفوسهم الحماس والحمية من أجل الدفاع عن مبادئ الدين القويم ، والحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله.

وكثيراً ما أشاد الشاعر بالماضي القديم ليستعيد من وهجه المضيء قبساً ينير درب المستقبل الذي اظلمته الحروب والويلات وعكّرت صفوه النوائب والأزمات :

عزائم العرب ثوري وانضي فينا

الى الوغى وأعيدي مجد ماضينا

ورفرفي يا بنودَ الحقِّ خافقةً

بالنصر واستقبلي دنيا أمانينا

قد آن أن تملأ الدنيا عزائمنا

ناراً موقدة تُصلي أعادينا

فتلك أوطاننا أضحت بها علناً

بشائرُ النهضة الكبرى تحيّينا

ثارت فلم يبق في دنيا الفخار فمٌ

للعرب إلاّ ولبّاها تلاحينا

وطاف في الشرق صوت الحق فابتهجت

له النفوسُ ولبّته مواضينا

واستنهض المجد من أبناء نجدته

عزائماً بعثت روح الإبا فينا(١)

ويلح الشاعر على تصفح التأريخ المجيد ليقرأ في صحائفه الوضّاءة أمجاد أمّته الخالدة التي حققت النصر والغلبة تحت راية الأسلام وبنصر من الله مؤزّر :

يا أمة خانها في الشرق طالعها

فعاد في صفقة الخسران مغبونا

سلي الحوادث عن تأريخ نهضتنا

«واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا»

____________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٧.

١١٤

كم نهضة في سبيل المجد خالدةٍ

جبارة قد أقامتها مواضينا

هاتيك « أندلس » للآن ما برحت

آثارنا في ضواحيها تنادينا

غداة سرنا ونصر الله يصحبنا

وراية الحق والاسلام تعلونا

« فما انثنينا ولا فلت عزائُمنا »

حتى فتحنا وأمست طوع أيدينا

وكيف نثنى ولم يُرفع لنا علمٌ

إلاّ وعاد بنصر الله مقرونا(١)

ولم يكتف الشاعر بتذكار الماضي البعيد ، بل راح يشيد بأحداث قريبة العهد من مثل ثورة العشرين التي فجرها الشعب ضد المحتل الأنجليزي في مطلع هذا القرن :

يا ثورة العشرين يوُمكِ غُرةٌ

في جبهة التاريخ لا تتغير

ميلاد نجمك بين أحضان الضحى

والشمس مولدها الصباح المسفر

أفق الفرات ومهده قد أنجبا

فية وها هو بالارومة يفخر

حملته وهو المجد بين ضلوعها

اُمٌ ولودٌ كالعفرنى تزأر(٢)

حتى اذا وضعته في لجج الدِما

كرها وعاصفة المنية تجأر

حضنته جارتُها وأضحت تدعي

فيه وهل تلد العقيمُ وتثمر

وتفيأت منه الظلالَ وامّه

تصلى برابعة الهجير وتُصهر

واستثمرته كأنما هو غرسةٌ

منها اجتناها الغارس المستثمر(٣)

وهكذا ينفذ التاريخ إلى شعر الفرطوسي عبر أحداثه المتفاوتة وأزمانه المختلفة ليشكل منعطفاً هاماً وجزءاً كبيراً من نتاج الشاعر وخاصة نتاجه في حقل السياسة والعمل الوطني.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٩.

٢ - أسد عَفرنى ، أي شديد قوي. ( لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٢٨٥ ).

٣ - ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ٧٣.

١١٥

ثالثاً : الخصائص

١ - التوظيف والألتزام :

لعل من أهم الخصائص التي امتاز بها الشاعر الفرطوسي في منظوماته وأشعاره ، الهدفية والألتزام التي واكبت مسيرة شعره اكثر من خمسة عقود. ونعني بالألتزام هنا ، الألتزام بمعنييه العام والخاص. فالاول وهو أن يتناول الشاعر مشكلة اقتصادية أو سياسية تتصل بالهموم العامة للأنسان في محاولة منه لمعالجتها وايجاد سبل لحلها من خلال المعيار الاجتماعي والفردي(١) .

أمّا الألتزام بالمعنى الخاص فنقصد به الأدب الذي جسّد الاسلام في حقيقته وتناول في أغراضه المختلفة سيرة ومعارف أهل البيتعليهم‌السلام (٢) .

وفي كلا المعنيين نجد الفرطوسي يوظف شعره في الاتجاهين المذكورين سواء الاتجاه الاجتماعي والسياسي أو الاتجاه الديني المتمثل بنشر حقيقة الاسلام ومعارف وعلوم أهل البيتعليهم‌السلام .

ففي المعنى الاول يتجه الفرطوسي اتجاهاً واضحاً لا غبار عليه محاولاً من خلاله معالجة قضايا المجتمع والأخذ بعين الاعتبار سبل الأصلاح والتوعية. ولا تمضي سنة من عمر الشاعر إلاّ ونقرأ له شعراً في هذا الخصوص. ففي سن التاسعة عشرة مثلاً ينظم الشاعر قصيدة « التقاليد » التي دعا فيها أبناء جلدته الى اليقظة والنهوض من أجل الاصلاح والتعليم وخاصة تعليم الجنسين وتربيتهما ترتبية صالحة وسليمة :

__________________

١ - محمود البستاني : الاسلام والفن ، ص ٩.

٢ - محمود البستاني : تاريخ الأدب العربي ، ص ٤٤٢.

١١٦

أفيقوا يابني وطني عجالا

فما يجدي الرقادُ النائمينا

وهبّوا فيه للاصلاح كيما

نراكم للتمدن ناهضينا

أليس ثقافة الجنسين فرضاً

تقوم به الرجال المصلحونا

وفي نور المعارف خير هادٍ

طريق يقتفيه السالكونا

جمال الشعب يوماً أن نراه

يسير الى الثقافة مستبينا

وان ثقافة الأحلام نورٌ

به يُهدى الشبابُ الواثبونا(١)

وفي سن العشرين ينشد قصيدة « غارس الورد » التي أشار فيها الى مآسي الفلاحين وما يعانون من شظف في العيش وضيق في الحياة :

يا غارس الورد حاول أن تنسّقه

في خير سلك من التنظيم موزون

ايّاك ايّاك أن تسعى بتفرقة

بين الشقيقين من تلك الرياحين

فضمّ ما عشت ورد الاقحوان الى

ورد الشقيق خدود الخرد العين

واشفق على النرجس الذاوي بجنبهما

اني لأخشى عليه ساعة الهون

هذي الازاهير وهي الحسن أجمعه

فيها تمتع من حين الى حين

وخلّ عنك أعاصير الهموم فقد

أفنيت عمرك في تلك الميادين

ما أنصفت أممٌ جبارةٌ غصبت

منك الحياة بظلم غير مسنون

هل العدالة تقضي أن تضام بها

أم تلك حكمة هاتيك القوانين(٢)

وهكذا دواليك في باقي قصائده الاجتماعية والسياسية الكثيرة من مثل « الحقيقة » و« فلسطين » ، و« الى الاغنياء » ، و« مآسي الحرب » ، و« اليتيم » ، و« السعادة ». وهذه الأخيرة تعد من خيرة قصائد الشاعر الاجتماعية التي تناول فيها الفوارق الكبيرة بين طبقتي الاغنياء والفقراء مصوراً فيها حياة البؤس والشقاء

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٩.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣١٧ ، ٣١٨.

١١٧

التي كان يحياها معظم الناس دون الاقلية من الاغنياء.

هذا على الصعيد الأجتماعي والسياسي ، أمّا على الصعيد الديني فقد اهتم الشاعر بهذا الجانب اهتماماً كبيراً بلغ فيه أن خصص قسماً كبيراً من نتاجه الأدبي لهذا الغرض. فثلث ديوانه المكوّن من جزئين يختص بذكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وموسوعته الشعرية الكبرى - ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام - التي جاوزت الأربعين الف بيت تندرج في الإطار ذاته. ولهذا عرف الشيخ الفرطوسي في الأوساط الادبية والدينية بشاعر أهل البيت لغزارة شعره وكثرة نظمه فيهمعليهم‌السلام .

ومنشأ هذا الألتزام بشعر وأدب أهل البيتعليهم‌السلام انّما يعود الى التربية الاسلامية المبتنية على حب أهل البيتعليهم‌السلام والتي ترعرع الشاعر في ظلها واستضاء بقبس نورها وضياء هدايتها. وقد عبر الشاعر عن هذا الحب المتأصل في ذاته في مواقع كثيرة ، منها قوله:

على حبّكم يا آل بيت محمدٍ

ترعرعت في مهد الطُفولة ناشيا

وعندي من وحي الولاء عواطف

عرفت بها حبّي لكم وولائيا

صهرت بها روحي هدى وعقيدة

وأفعمت بالايمان منها فؤاديا

فؤادٌ بكم غالى هوىً وصبابةً

فأصبح فيكم مغرماً متفانيا

أغذيه عذباً من غدير ولائكم

يعب به عباً ويصدر ظاميا

وأعجبُ من قلب يعب معينه

ويصدر ريّاناً من الحب راويا(١)

ومهما يكن من أمر فأن الشاعر من جهة حرص كل الحرص على أن يوظف شعره وأدبه في خدمة المجتمع ليعالج من خلاله شؤونه الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن جهة اخرى تبنى موقفاً دينياً واضحاً يهدف الى خدمة الدين الاسلامي ونشر معارف أهل البيتعليهم‌السلام .

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٥٢.

١١٨

٢ - الواقعية والموضوعية :

سيطر الواقع الاجتماعي والسياسي على شعر الفرطوسي سيطرة بعثت فيه روح الاندفاع نحو الأصلاح والنهوض بوجه الأمر الواقع الذي يفرضه المستعمر الغاشم بشتى حيله الاقتصادية والسياسية والثقافية. فكان الشاعر يدرك هذا الواقع المر من خلال حسه الشعوري المرهف وتواجده الفاعل والمستمر في الساحة. وكان مواظباً في تصويره للواقع الاجتماعي والسياسي مبتعداً عن حالة الغموض والرمزية مستخدماً الطريقة المباشرة في التعبير ليتسنى لعامة الشعب فهم رسالته واستيعابها بسهولة.

وكان الشاعر يعيش مع الأحداث ويواكب مسيرتها خطوة بخطوة ، ويحاول الالتفات الى منعطفاتها الخطيرة التي تذهب بالأمة الى هاوية الانزلاق والسقوط. فنلحظه مثلاً عندما نشبت الحرب العالمية الثانية يصرخ مندداً بهذه الطامة العظمى التي أضرمتها نار الأحقاد والضغينة لتحيل نعمة الأرض وخيرها نقمة وشقاءً :

إنّها الحرب أضرمتها سعيراً

بلظاها الأحقاد والبغضاء

قد أشابت حتى الجمادات هولاً

وهي بكرٌ فتيّةٌ عذراء

تخذوها الى المطامع جسراً

كونته الأغراض والأهواء

ظلموا العالَم الوديعَ اغتصاباً

ليفوزوا بها فخاب الرجاء

ألقحوها وهم شقوا بلظاها

ويظنّون أنّهم سعداء

كم أساؤا الى الحضارة فيها

ليتهم أحسنوا كما قد أساؤا(١)

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٩.

١١٩

وما ان وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ التأزم الاقتصادي يتفاقم ، وبدأت المشاكل تتوالى الواحدة بعد الاُخرى ، وبدأ الفساد يدب في المجتمع دون رادع ومانع. فعزّ على الشاعر أن يرى أبناء شعبه وهم يتخبطون في البؤس والشقاء ، فأشاد بالاصلاح ودعا المصلحين إلى العمل من أجل خلاص الشعب من ربقة العناء والألم :

رُحماك يا مصلح الأخلاق بالبشر

لم يبق فيه لقوس الصبر من وتر

انّ الفضيلةَ لم نبصر لها وضحاً

وهل تُحسُّ بلا عين ولا أثر(١)

ومنبتُ الخير قد غاضت منابعهُ

وموقد الشر يطغى من لظى الشرر

والكون مجزرةٌ تبدو لناظرها

من الضحايا بها آلاف محتضر

ومعرض حاشد بالبؤس قد مثلت

به الفضائعُ أشكالاً على صور

ضاعت مقاييس إصلاح منظمة

لكلّ وضعٍ من الإفساد منتثر

فأختلّ منّا نظامُ الاجتماعِ لها

حتى بدا فيه نقصٌ غيرُ مستتر

وأُبعد النبلُ عن قوم به عرفوا

وقرّبوا بعد عرف الحق للنكر

وكل شيء على عكس المرام بدا

مشوه الشكل بعد المنظر النضر

ولا نحسّ لهذا النقص من سببٍ

سوى اختلال نظام العالم البشري(٢)

ولم تقتصر نداءات الشاعر ومناشداته الاصلاحية على عصر أو حكم. فكما طالب بالاصلاحات في العهد الملكي نراه يطالب بها وباندفاع أكبر في العهد الجمهوري. ومواقفه في هذا الخصوص كثيرة ، منها قصيدته اللاذعة التي ألقاها في المهرجان الكبير الذي اُقيم في مدينة النجف عام ١٩٦٣ م بمناسبة مولد الامام الحسينعليه‌السلام والتي قال فيها :

__________________

١ - الوَضَح : الضَّوء. ( لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٣٢٣ ).

٢ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٤٤ ، ١٤٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209