الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ27%

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام بن الحسن بن علي العسكري عليه السلام
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: 209

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 209 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93024 / تحميل: 5418
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: ٩٦٤-٨٦٢٩-١٠-٢
العربية

١
٢

٣
٤

مقدمة المركز

إن دراسة سيرة الأئمة المعصومينعليهم‌السلام تعتبر من الاسس القويمة للبناء الفكري والمنهج السلوكي لديننا الحنيف ، لأنهم الامتداد الحقيقي لنهج النبوة وسيرتها المعطاء ، والحُماة الاُمناء لمفاهيم الرسالة وعقائدها من حالة التردي والتحريف والضلال.

إننا في رحاب سيرتهم نتواصل مع القدوة الحسنة بكلّ تجلياتها الروحيه والفكرية والعلمية ، وامتداداتها التي تستغرق كلّ مفردات الحياة وتسير نحو سُلّم الكمال المطلوب على صعيد الفرد والمجتمع.

من هنا فاننا بحاجة إلى دراسة متأملة وقراءة متأنية تلمّ بأطراف تلك السيرة المشرقة بالعطاء ، لنجعلها نصب أعيننا فنستجلي مواطن العبرة فيها ، ونستلهم دروس العظمة منها ، ونتعاطى مع دلالتها المتناغمة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات على كافة مستويات الفكر والمنهج والسلوك.

ولعل في تنوع ادوار تلك السيرة بحسب طبيعة المرحلة والظروف السياسية المحيطة بقادتنا المعصومينعليه‌السلام ما يزيل الرتابة منها ويجعلها تتواصل مع مختلف المواقف والظروف نحو هدفٍ اسمى وهمّ مشترك ، وذلك هو حفظ الكتاب الكريم وسنة النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلب الاصلاح والهداية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا كتاب قراءة في سيرة أحد عظماء أهل البيتعليهم‌السلام ، ذلك هو إمامنا الحادي عشر أبو محمد الحسن العسكريعليه‌السلام الذي قال فيه أبوه الهاديعليه‌السلام : « أبو

٥

محمد ابني أنصح آل محمد غريزة وأوثقهم حجة ».

ويبدو أن أهم ما يستوقف الباحث في حياة الإمام العسكريعليه‌السلام هو كونه آخر إمامٍ ختمت به الإمامة الظاهرة ، ليبدأ بعده عصر الغيبة الذي بدأت تباشيره وأوشك زمانه ، لذلك وقع على الإمام العسكريعليه‌السلام العبء الأكبر في ترسيخ مبدأ الغيبة وتأصيله في نفوس شيعته للحفاظ على خطهم الرسالي من الضياع والانهيار. وقد استطاع إمامنا العسكريعليه‌السلام أن ينجز هذه المهمة الخطيرة بكلّ جدارة وقوة ، وأن يحافظ على حياة ولده المهديعليه‌السلام من ملاحقة السلطة وأدوات قمعها ، في وقت عصيب عُزل فيه الإمام عن أصحابه وشدّدت الرقابة عليه.

وفي هذا الاتجاه استطاع أن يهيء ذهنية شيعته لتقبل عصر الغيبة باتباع عين الأسلوب الذي سيتّخذه ولده المهديعليه‌السلام في عصرالغيبة ، وهو الاحتجاب عن الناس واتخاذ الوكلاء الذين يختارهم من خاصته ، والاتصال بأصحابه عن طريق المكاتبات والتواقيع التي صارت سمة بارزة في حياة الإمامين العسكريينعليهما‌السلام .

وهناك صفحات اُخرى مشرقة تستوقف الباحث في سيرة هذا الإمام العظيم الملأى بالعطاء ، نتركها للقارئ الكريم وهو يتحرّاها في فصول هذا الكتاب الذي استطاع مؤلفه أن يوقفنا عند المحطات الرئيسية في سيرة هذا الإمام العظيم ، ضمن دراسة جادة موثقة بالمصادر المعتبرة.

ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق

مركز الرسالة

٦

المُقدَّمة ُ

الحمدلله رب العالمين ، وسلامه على عباده المصطفين محمد وآله الميامين.

وبعد : إن البحث في سيرة الأئمة المعصومينعليهم‌السلام باعتبارهم قادةً رساليين وقدوة حسنة تتمثل بهم خصائص العظمة والاستقامة ، يعكس دورهم الايجابي في تحريك طاقات الأمة باتجاه الوعي الرسالي للشريعة ، وتعميق حركة الإسلام الأصيل في وجدانها ، وحماية الرسالة من حالة التردي بالوقوف في وجه التيارات الفكرية المنحرفة.

ويقابل ذلك البحث في سيرة الزماعات المعاصرة لهمعليهم‌السلام التي نقرأ فيها الوجه المشوّه للرسالة على المستوى النظري والتطبيقي ، على الرغم من تماهي أصحاب السلطة والصولجان في كتابه تاريخهم وإغداقهم أسخي الهبات على كتّابهم وشعرائهم.

من هنا كان نصيب السيرة الأولى الخلود والسمو والمجد رغم إقصاء رموزها المعصومينعليهم‌السلام عن مركزهم في زعامة الأمة ، ورغم كونهم ملاحقين ومعزولين عن قواعدهم وشهداء في نهاية المطاف ، وكان نصيبهم أيضاً أن تمسكت بهم غالبية الأمة ومنحتهم كلّ مظاهر التبجيل والثناء والود والثقة ، لا لأنهم من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن المنتسبين إليه كثيرون ، بل لما تستشعره الأمة من سيرتهم الغنية بالعطاء ودورهم المشرق في كلّ اتجاه ذلك لأن الأمة لا تمنح ثقتها وحبها اعتباطاً ، يقول الإمام الكاظمعليه‌السلام لهارون الرشيد :« أنا إمام

٧

القلوب وأنت إمام الجسوم » (١) .

ونحن مع إمامنا الحادي عشرعليه‌السلام نستشعر تمسك الأمة بالإمام وعظم محبته في قلوبهم وهيبته في نفوسهم في عدة مواقف لعلّ أبرزها حينما اُشخص العسكري مع أبيهعليهما‌السلام من مدينةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدهم إلى عاصمة الملك سامراء بأمر المتوكل ، فقد روى المؤرخون والمحدثون عن يحيى بن هرثمة وهو المكلف بإشخاص الإمامعليه‌السلام أنه قال : « فذهبت إلى المدينة ، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله وقامت الدنيا على ساق »(٢) وحينما نعاه الناعي إبّان شهادته « صارت سامراء ضجّة واحدة : مات ابن الرضا وعطّلت الأسواق ، وركب سائر الناس إلى جنازته ، فكانت سامراء يومئذٍ شبيها بالقيامة »(٣) ولم يكن ذلك إلا لشعور الأمة بعطاء الإمامعليه‌السلام ودوره الفعال في حماية الرسالة ، الأمر الذي جعل حتى أعداءَه من رجال البلاط يذعنون بفضله وهديه ، ومنهم وزير المعتمد عبيد الله بن خاقان الذي قال لابنه أحمد عامل الخراج والضياع في قم في إشارة إلى الإمام العسكريعليه‌السلام : « يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه »(٤) .

ولا ريب أن عطاءات الإمام العسكريعليه‌السلام والأدوار التي قام بها على

__________________

(١) ينابيع المودة / القندوزي ٣ : ١٢٠.

(٢) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٢٢ ـ مؤسسة أهل البيتعليهم‌السلام ـ بيروت.

(٣) إكمال الدين / الشيخ الصدوق : ٤٣ ـ المقدمه ـ جماعة المدرسين ـ قم.

(٤) إكمال الدين : ٤١ ـ المقدمه.

٨

مستوى الرسالة ، تمتاز بالخصوصية والاستثناء نظراً للمقطع الزماني الخطير الذي عاشهعليه‌السلام والذي يمتثل في شدة السلطان وإمعانه في عزل الإمام ومراقبة حركاته وسكناته ، بل ولجوئه إلى شتى وسائل القمع لانهائه والاجهاز عليه والحاقه بمن سبقه من سلالة هذا البيت الكرامعليهم‌السلام ، وذلك لكونه والد الإمام الحجةعليهما‌السلام الذي عرفوا بما أثر عندهم من الأحاديث والآثار انه يقيم دولة الحق ويقوّض اُسس الباطل ، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت جوراً وظلماً.

قال الإمام العسكريعليه‌السلام :« زعموا انهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل ، وقد كذّب اللهُ قولَهم ، والحمد لله » (١) لقد ظنوا أنهم يستطيعون النيل من حجة الله المودع بعين الله وحفظه ، فخيب الله ظنّهم.

ورغم الظروف السياسية الحالكة استطاع إمامنا العسكريعليه‌السلام أن يقدّم للامة عطاءً واسعاً ، ويمثل دوراً فاعلاً في إيصال سنن جدّه المصطفيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآبائه المعصومينعليهم‌السلام أن يعدّ جيشاً عقائدياً وطليعة واعية تؤمن بالغيبة كمبدأ عقائدي أصيل يعيش في وجدانها ، وتمكن بالاشراف على شيعته عن طريق التواقيع والمراسلات الوكلاء أن يخطط لسلوكها ويحمي وجودها وينمي وعيها ويمدها بكلّ الأساليب التي تساعد على صمودها وارتقائها إلى مستوى الحاجة الاسلامية.

وتمكن الإمام العسكريعليه‌السلام من إنقاذ الأمة من حالة التعثّر في مهاوي الضلال والتيه ، عن طريق مقاومة التيارات الفكرية المنحرفة عن الجادة وجسّ مواقع تأثيرها وتشخيصها وهي في بدايتها تقديراً لشدّة مضاعفاتها وتخطيطاً

__________________

(١) إكمال الدين : ٤٠٧ ـ باب ٣٨.

٩

للقضاء عليها ، ولعلّ خير مصاديق ذلك هو اهتمام الإمام العسكريعليه‌السلام بمشروع كتاب يصنفه الكندي حول متناقضات ادّعاها في القرآن الكريم ، إذا إتصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته ، فاحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها على خطأ.(١)

وسنعيش مع فصول هذا الكتاب السبعة أدواراً اُخرى وعطاءات كثيرة امتدت منذ نشأة الإمامعليه‌السلام حتى وفاته في سامراء شهيداً وشاهداً على الأمة بعد سنين من المحنة وفصولٍ من الجهاد.

ولسنا ندّعي هنا بأنّنا قد أحطنا بكلّ جوانب حياة هذا الإمام الهمام وسيرته المعطاء ، ولكنّا قدّمنا جهداً متواضعاً نرجو أن يفي بعض الحق الذي في أعناقنا لأئمتنا الهداة الميامين ، سائلين المولى العزيز أن يسدد خطانا ، ويلهمنا الصواب في القول والعمل ، ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو من وراء القصد.

__________________

(١) راجع : المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٧ ـ دار الأضواء ـ بيروت ـ ١٤٢١ ه‍.

١٠

الفصل الأوّل

الحياة السياسية

في عصر الإمام العسكري عليه‌السلام ( ٢٣٢ ـ ٢٦٠ ه‍ )

لا ريب أنّ الحالة السياسية السائدة في عصرٍ ما تشكّل المفصل الأساسي الذي تتحرك عليه مجمل الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لذلك العصر ، وتنعكس عليه سلباً وإيجاباً ، ذلك لأن الحاكم يمتلك ـ بسلطته وسطوته وسيطرته على منابع الثروة ـ مفاتيح التغيير الاجتماعي والفكري ببسط اسباب الحرية أو الاستبداد ، ويمتلك عوامل الرخاء أو الفساد الاقتصادي بعدله أو جوره ، وكلّ ذلك منوط بنوع الجهاز الحاكم وسلوك أجهزتة التنفيذية ، وفيما يتعلق بتاريخ الإمام أبي محمد الحسن العسكريعليه‌السلام الذي عاش في العصر العباسي الثاني سنقدم قراءة تاريخية للحكام الذين عاصروا الإمامعليه‌السلام منذ الولادة حتى الشهادة ، ثمّ نذكر أهمّ السمات التي طبعت ذلك العصر.

الحكام المعاصرون للإمام عليه‌السلام :

ولد الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في الثامن من الربيع الآخر سنة ٢٣٢ ه‍ على القول المشهور في ولادتهعليه‌السلام وذلك في آخر ملك الواثق بالله بن المعتصم ( ٢٢٧ ـ ١٣٢ ه‍ ) وبويع بعده لأخيه جعفربن المعتصم المعروف

١١

بالمتوكل لست بقين من ذي الحجة سنة ٢٣٢ ه‍ ، وكان عمر الإمام العسكريعليه‌السلام نحو ثمانية أشهر ونصف ، وقتل المتوكل سنة ٢٤٧ ه‍ ، وتولى بعده ابنه المنتصر بالله زمام السلطة العباسية لستة أشهر ويومين فقط ، ومات سنة ٢٤٨ ه‍ ، فتولى بعده المستعين بالله أحمد بن محمد المعتصم سنة ٢٤٨ ه‍ ، وخلع نفسه بعد فتنة طويلة وحروب كثيرة سنة ٢٥١ ه‍ ، وتولى بعده المعتز بالله بن المتوكل واسمه محمد وقيل : الزبير ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ه‍ ) واستشهد حجة الله الإمام أبو الحسن علي الهاديعليه‌السلام بعد مضي نحو سنتين ونصف من أيام حكم المعتز بالله ، وذلك في الثالث من رجب سنة ٢٥٤ ه‍ ، وتولى الإمام العسكري مهام الإمامة الإلهية.

ثم جاء إلى السلطة المهتدي بالله محمد بن الواثق بعد خلع المعتز وقتله سنة ٢٥٥ ه‍ ، وحكم نحو سنة واحدة ، ثمّ قتله الأتراك سنة ٢٥٦ ه‍ ، وتولى بعده أحمد ابن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد نحو ثلاث وعشرين سنة حيث قتل سنة ٢٧٩ ه‍ ، وهكذا استغرقت حياة إمامنا العسكريعليه‌السلام الأيام الأخيرة من حكم الواثق ، ثم تمام حكم المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي مع أربع سنين من حكم المعتمد ، حيث استشهد إمامناعليه‌السلام يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول سنة ٢٦٠ ه‍ ، على القول المشهور في وفاتهعليه‌السلام (١) .

__________________

(١) راجع : تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٦٧ ـ ٢٨٢ ـ دار الكتاب العربي ـ ١٤٢٢ ه‍ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤ ـ ٥٠٧ ـ دار صادر ـ ١٤١٥ ه‍ ، إعلام الورى / الطبرسي ٢ : ١١١ ـ ١٣١ ـ مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام لإحياء التراث ـ ١٤١٧ ه‍ ، الجوهر الثمين / ابن دقماق ١ : ١٤٦ ـ ١٥٧ ـ عالم الكتب ـ ١٤٠٥ ه‍ ، دلائل الإمامة ، الطبري : ٤٠٩ و ٣٢٤ ـ مؤسسة البعثة ـ ١٤١٣ ه‍ ، التتمة في

١٢

أهم سمات هذا العصر

يعتبر هذا العصر بداية لضعف سلطة الدولة العباسية وسقوط هيبتها وانحلالها ، بسبب استيلاء الأتراك على عاصمة الملك ، وانتقاض أطراف الدولة واستيلاء العمال والولاة عليها ، واعتزال الخلفاء عن شؤون الحكم وانصراف غالبيتهم إلى أسباب اللهو والترف والمجون ، وقد انعكست آثار ذلك على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر ، وفيما يلي أهم خصائص هذا العصر :

السمة الأولى ـ نفوذ الأتراك وضعف العباسيين

تميز هذا العصر بغلبة الأتراك والفراغنه والمغاربة وغيرهم من الموالي وتدخّلهم في مقاليد الحكم ، وكان أول ذلك في عصر المعصتم الذي اعتنى منذ توليه الحكم سنة ٢١٨ ه‍ ، باقتناء الترك ، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم ، وبذل فيهم الأموال ، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب ، فكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس ، وضاقت بهم البلد ، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا : إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك ، فكان سبب بنائه سرّ من رأى وتحوّله إليها سنة : ٢٢٠ وقيل : ٢٢١ ه‍(١) .

وبعد ذلك ازداد نفوذ الأتراك في عاصمة العسكر سامراء وتسنّموا

__________________

تواريخ الأئمةعليه‌السلام / تاج الدين العاملي : ١٣٧ و ١٤٢ ـ مؤسسة البعثة ـ ١٤١٢ ه‍.

(١) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٥٩ ، معجم البلدان / ياقوت الحموي ـ المجلد الثالث : ١٠ ـ ١٣ ـ ( مدينة سامراء ) دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٤١٧ ه‍.

١٣

مناصب هامة كولاة وعمال وقادة جيش ، ومنهم بغا الكبير ، وابناه موسى ومحمد ، وبابكيال ، وياركوج ، واذكوتكين ، وبغا الصغير الشرابي ، ووصيف بن باغر وغيرهم. وبعد عصر المتوكل ازدادت سيطرتهم على مقاليد الحكم فأهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا إرادتهم ، وتدخلوا في شؤون الملك ، وتلاعبوا ببيوت الأموال ، وانتكهوا مصالح الاُمة ومقدراتها ؛ فقد قتلوا المتوكل والمهتدي ، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد ، واستخلفوا للمستعين ، واستولوا على الأموال في عهده ، وقاتلوه حين غضب عليهم ، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.

قال ابن طقطقا : كان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة ، واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه ، وإن شاءوا خلعوه ، وإن شاءوا قتلوه(١) .

وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولا قوة مع اُمراء الجند الأتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله :

خليفة في قفصٍ

بين وصيفٍ وبغا

يقول ما قال لهُ

كما تقول الببغـا(٢)

ومن مظاهر سيطرة اُمراء الأتراك على جميع أفراد الدولة بما فيهم الخليفة في زمان المعتزّ بالله ، ما ذكره اليعقوبي في تاريخه حوادث سنة ٢٥٥ ه‍ ، قال : وثب

__________________

(١) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطا : ٢٤٣ ، نشر الشريف الرضي ، قم.

(٢) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٨.

١٤

صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز ، وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع ، وعلى عيسىٰ بن إبراهيم بن نوح وعلى ابن نوح ، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذّبهم بأنواع العذاب ، وغلب على الأمر ، فهمّ المعتزّ بجمع الأتراك ، ثمّ دخل إليه فأزاله من مجلسه ، وصُيّر في بيت ، وأخذ رقعته بخلع نفسه ، وتوفي بعد يومين ، وصلّى عليه المهتدي(١) .

السمة الثانية ـ استئثار رجال السلطة بالأموال العامة

السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاء هي الاستئثار ببيت المال وتسخيره لخدمة مصالحهم الخاصه وحرمان الأغلبية الساحقة منه ، ومن مظاهر ذلك الاستئثار ان اُمّ شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت أموالاً لا تُحصر ؛ من ذلك خمسة آلاف ألف دينار من العين وحده(٢) . ونقل المؤرخون في أحداث سنة ٢٤٩ أن المستعين أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال ، وأباحهم فعل ما أرادوا ، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة وما يفضل من هؤلاء الثلاثة يأخذه أتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته(٣) .

وذكروا أنه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة ٢٥٢ ه‍

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ : ٥٠٤ ، سير أعلام النبلاء / الذهبي ١٢ : ٥٣٥ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤١٩ ه‍.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤١.

(٣) الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٦ : ١٥٤ ـ دار الكتاب العلمية ـ ١٤١٥ ه‍ ، البداية والنهاية / ابن كثير ١١ : ٣ ـ مكتبة المعارف ـ ١٤١٤ ه‍.

١٥

خلّف في بيت المال بسامراء نحو خمسائة ألف دينار ، وفي بيت مال أم المستعين ألف ألف دينار ، وفي بيت المال العباس ابنه ستمائة ألف دينار(١) .

وفي أحداث سنة ٢٥٥ ه‍ ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله ، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة ، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله ، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ، وفي سفط آخر مقداركليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله ، فقوّمت الأسفاط بالفي ألف دينار(٢) .

أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاء وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط ، فمما يخرج بنا عن الغرض ، ويكفي مثالاً على ذلك أن بغا الكبير حينما مات سنة ٢٤٨ ه‍ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار ، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار(٣) .

وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم وحينما مات خلّف من العين عشرة ألف دينار ، وأربعة وعشرين ألف مملوك(٤) .

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٦٦ ، البلادية والنهاية ١١ : ٧.

(٢) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٥ بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ـ بيروت ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٧ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٨٠.

(٣) البداية والنهاية ١١ : ٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٩٤ ـ ٩٥.

١٦

وكانت غُريب جارية المعتمد ذات أموال جزيلة(١) .

السمة الثالثة ـ ميل العباسيين إلى البذخ والترف واللهو

كان رجال الدولة وعلى رأسهم السلطان ينفقون الأموال الطائلة لشؤونهم الخاصة كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين وجميع وسائل اللهو والمجون المتاحة في ذلك العصر ، وكانوا يسرفون في الانفاق على الشعراء وبناء القصور ، بينما تعيش الأكثرية الساحقة من الناس على الكفاف وينهكها الجوع والفقر وتفتك بها الأمراض والأوبئة.

فقد كان المتوكل كثير الانفاق على الشعراء حتى قيل : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكل(٢) ، فأجاز مروان بن أبي الجنوب علي قصيدة في مدحه بمائة وعشرين ألف درهم ، وأعطاه حتى أثرى كثيراً فقال :

فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد

فقد خفت أن أطغى وأن اتجبرا

فقال : لا أمسك حتى يغرقك جودي(٣) .

وقرّب المتوكل أبا شبل عاصم بن وهب البرجمي ، وكان شاعراً ماجناً ، وأنفق عليه حتى أثرى ، قال أبو الفرج : نَفَق عند المتوكل بايثاره العبث وخدمه وخُصّ به فأثرى ، وأمر له بثلاثين ألف درهم على قصيدة من ثلاثين بيتاً(٤) .

وأجاز عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبا شبل البرجمي أيضاً على قصيدة في

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٥٢.

(٢) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٠.

(٣) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٠.

(٤) الأغاني / ابو الفرج الاصفهاني ١٤ : ١٩٣ ـ دار إحياء التراث العربي.

١٧

مدحه خمسة آلاف درهم ودابة وخلع عليه(١) .

وعن أحمد بن المكي ، قال : غنيت المتوكل صوتاً شعره لأبي شبل البرجمي ، فأمر لي بعشرين ألف درهم ، فقلت : يا سيدي أسأل الله أن يبلّغك الهُنيدة. فسأل عنها الفتح ، فقال : يعني مائة سنة ، فأمر لي بعشرة آلاف اُخرى(٢) .

وأجاز المتوكل الحسين بن الضحاك الخليع على أربعة أبيات أربعة آلاف دينار(٣) .

وكان المتوكل مغرماً بالجواري اللاتي يجلبن من أنحاء البلاد بأموال طائلة ، فقد روي عن المسعودي أنه قال : كان المتوكل منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرّية ووطئ الجميع(٤) .

كما كان ميالاً إلى التأنّق في تشييد القصورالضخمة التي تعجّ بألوانٍ من مظاهر الترف والبذخ والعبث اللهو والمجون ، قال اليعقوبي : بني المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها : الشاه ، والعروس ، والشِّبندار ، والبديع ، والغريب ، والبرج ، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار(٥) .

وقيل : أنفق على الجوسق والجعفري والهاروني أكثر من مئتي ألف ألف

__________________

(١) الأغاني ١٤ : ١٩٩.

(٢) الأغاني ١٤ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) مروج الذهب / المسعودي ٤ : ٣٨٨ ـ دار إحياء التراث العربي ـ ١٤٢٢ ه‍ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠.

(٤) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧١ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١.

١٨

درهم(١) .

أما الإسراف في مراسم البلاط الخاصه باولاد الخلفاء وغيرهم فمما يطول به الحديث ، ومن شواهد ذلك ما نقله ابن كثير عن مراسم تسليم المعتز على أبيه بالخلافة ، قال : لما جلس [ المعتزّ ] وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة ، وخطب الناس ، نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة ، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار ، ومثلها ذهباً ، وألف وألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر(٢) .

أمّا المستعين فقد قالوا عنه : إنه كان متلافاً للمال مبذراً ، فرّق الجواهر وفاخر الثياب ، واختلّت الخلافه بولايته واضطربت الاُمور(٣) .

وذكروا أنّ اُم المهتدي محمد بن الواثق ، التي ماتت قبل استخلافه ، أنّها كانت تحت المستعين ، فلمّا قُتل المستعين صيّرها المعتزّ في قصر الرصافة الذي فيه الحرم ، فلمّا ولي المهتدي الخلافة قال يوماً لجماعة من الموالي : أمّا أنا فليس لي اُمّ أحتاج لها إلى غلّة عشرة آلاف ألف في كلّ سنة لجواريها وخدمها والمتّصلين بها(٤) .

وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ ، وهي تحكي عن حجم التبذير في بيوت

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠ ، وراجع : معجم البلدان / ياقوت ٢ : ٦٠ ـ دار إحياء التراث العربي ـ عند ترجمة الجعفري ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٢ ، والبداية والنهاية ١٠ : ٣٤٦ ، والكامل في التاريخ ٦ : ١٣٠.

(٢) البداية والنهاية ١١ : ١٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٦.

(٤) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٦ ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٣ ، البداية والنهاية ١١ : ١٨.

١٩

الأموال والإسراف في النفقات الخاصه على حساب الأغلبية المحرومة ، وكان من نتائج ذلك أن ابتعد الخليفة عن الرعية وأهمل شؤونهم فكرهه غالبية الناس.

قال ابن كثير في حوادث سنة ٢٤٩ ـ خلافة المستعين ـ : قد ضعف جانب الخلافة ، واشتغلوا بالقيان والملاهي ، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك(١) .

اما المعتمد الذي مات بالقصر الحسني مع الندماء والمطربين وكان يكسر ويعربد على الندماء(٢) ، فقد قال السيوطي وغيره : انهمك باللهو واللذات ، واشتغل عن الرعية فكرهه الناس(٣) .

ولعلّ ذلك هو أحد الاسباب في تعاطف عامة الناس سيما أهل بغداد مع بعض الطالبيين الثائرين بوجه الظلم والاستئثار ، ومنهم يحيى بن عمر الشهيد سنة ٢٥٠ ه‍ فضلاً عن حسن سيرته ، قال أبو الفرج : كان هوى أهل بغداد مع يحيى ، ولم يُروَ قطّ أنّهم مالوا إلى طالبي خرج غيره(٤) .

وقال ابن الأثير : تولاه العامة من أهل بغداد ، ولا يعلم أنّهم تولوا أحداً من [ أهل ] بيته سواه(٥) .

كما أنكر أهل بغداد على المتوكل وكتبوا شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء ، وحينما أمر بهدم قبر الإمام الحسينعليه‌السلام وهدم ما حوله من الدور

__________________

(١) البداية والنهاية ١١ : ٣.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٥٢.

(٣) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٨٢ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٤٠.

(٤) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الاصفهاني : ٤٢١ ـ المكتبة الحيدرية ـ النجف.

(٥) الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٧.

٢٠

القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة :( وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى ) ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هنا ليس كلّ المعجزات التي ظهرت على يد موسىعليه‌السلام طيلة حياته في مصر. بل مرتبطة بالمعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته ، معجزة العصا ، واليد البيضاء ، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة ، والتي كانت بنفسها دليلا حيّا على أحقّيته ، ولذلك تطالعنا بعد هذه الحادثة مسألة المواجهة بين السّحرة وموسىعليه‌السلام ومعجزاته الجديدة.

والآن ، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته ، وكيف اتّهمه كما هي عادة كلّ المتسلّطين والحكّام المتعنّتين :( قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ) وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوّة والدعوة إلى التوحيد ، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للانتصار علينا ، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا ، فليس هدفك الدعوة إلى التوحيد ، ولا نجاة وتخليص بني إسرائيل ، بل هدفك الوصول إلى الحكم والسيطرة على هذه الأرض ، وإخراج المعارضين!

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على امتداد التاريخ ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر ، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر ، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة ، ووجوده يعني وجودهم!

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الهدف من جلب بني إسرائيل إلى مصر ، والاحتفاظ بهم في هذه الأرض لم يكن من أجل استغلال قواهم كعبيد وحسب ، بل إنّهم في الوقت نفسه كانوا لا يريدون لبني إسرائيل ، الذين كانوا قوما أقوياء ، أن يتحوّلوا إلى قوّة ومصدر خطر. وكذلك لم يكن الأمر بقتل الذكور للخوف من ولادة موسى فقط ، بل للوقوف أمام قوّتهم والحدّ منها ، وهذا عمل يقوم به كلّ الأقوياء الظالمين ، وبناء على هذا فإنّ خروج بني إسرائيل ـ حسب طلب موسى ـ

٢١

يعني اقتدار هذه الأمّة ، وفي هذه الحالة سيتعرّض سلطان الفراعنة وعرشهم إلى الخطر.

والنقطة الأخرى في هذه العبارة القصيرة ، هي أنّ فرعون قد اتّهم موسى بالسحر ، وهذا هو ما اتّهم به كلّ الأنبياء عند إظهار معجزاتهم البيّنة ، كما نقرأ ذلك في الآيتين (52 ـ 53) من سورة الذاريات :( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) .

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة أيضا ، وهي أنّ إثارة المشاعر الوطنية وحبّ الوطن في مثل هذه المواضع أمر مدروس بدقّة كاملة ، لأنّ أغلب الناس يحبّون أرضهم ووطنهم كحبّهم أنفسهم وأرواحهم ، ولذلك جعلوا هذين الأمرين في مرتبة واحدة ، كما في بعض آيات القرآن :( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) (1) .

ثمّ أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ) ، ولكي يظهر حزما أكثر فإنّه قال :( فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً ) .

وذكر البعض في تفسير( مَكاناً سُوىً ) : إنّ المراد هو أن تكون فاصلته عنّا وعنك متساوية ، وقال بعضهم : أن تكون فاصلته متساوية بالنسبة إلى الناس ، أي أن يكون المكان في وسط المدينة تماما ، وقال بعض : المراد أن تكون الأرض أرضا مكشوفة ومسطّحة يشرف عليها الجميع ، وأن يتساوى في ذلك العالي والداني. ويمكن أن تعتبر كلّ هذه المعاني مجتمعة فيها.

وينبغي التذكير بأنّ الحكّام الطغاة ، ومن أجل أن يهزموا خصمهم في المعركة ، ويرفعوا معنويات أتباعهم وأعوانهم الذين ربّما وقعوا تحت تأثيره (كما في قصّة

__________________

(1) النساء ، 66.

٢٢

موسى ومعجزاته فلا يبعد أن يكونوا قد وقعوا تحت تأثيره) فإنّهم يعيدون إليهم المعنويات والقوّة ، ويتعاملون في الظاهر مع أمثال هذه المسائل بصرامة وشدّة ، ويثيرون الصخب حولها!

إلّا أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه ، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقا ، بل قال بحزم :( قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (1) .

إنّ التعبير بـ( يَوْمُ الزِّينَةِ ) إشارة إلى يوم عيد كان عندهم لا نستطيع تعيينه بدقّة ، إلّا أنّ المهمّ هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه ، وكانوا حتما مستعدّين للمشاركة في مثل هذا «المشهد».

على كلّ حال ، فإنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة ، وتأثيرها النفسي في أنصاره ، صمّم على مواجهة موسىعليه‌السلام بالاستعانة بالسّحرة ، ولذلك وضع الاتّفاق المذكور مع موسى( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ) .

في هذه الجملة القصيرة تلخّصت حوادث جمّة جاءت بشكل مفصّل في سورتي الأعراف والشعراء ، لأنّ فرعون بعد تركه ذلك المجلس ومفارقة موسى وهارون ، عقد اجتماعات عديدة مع مستشاريه الخاصّين ، وأتباعه المستكبرين ، ثمّ دعا السّحرة من جميع أنحاء البلاد إلى الحضور في العاصمة ، ورغّبهم بمرغّبات كثيرة من أجل مواجهة موسىعليه‌السلام ، وامور أخرى ليس هنا مجال بحثها ، إلّا أنّ القرآن الكريم قد جمّعها كلّها في هذه الجمل الثلاث :( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ، ثُمَّ أَتى ) (2) .

وأخيرا حلّ اليوم الموعود ، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين ، الذين كان بعضهم السّحرة ، وكان عددهم ـ على رأي بعض المفسّرين ـ إثنين وسبعين

__________________

(1) «الضحى» في اللغة بمعنى زيادة أشعّة الشمس ، أو ارتفاع الشمس ، والواو في جملة (وأن يحشر الناس) دالّة على المعيّة.

(2) بالرغم من أنّ (تولّى) فسّرت هنا بالافتراق عن موسى ، أن عن ذلك المجلس ، إلّا أنّ من الممكن أن تعكس ـ مع ملاحظة معناها من الناحية اللغوية ـ حالة الاعتراض والغضب لدى فرعون. وموقفه المعادي تجاه موسى.

٢٣

ساحرا ، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة ، وذكر البعض أعدادا أكبر أيضا. وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته ، وأخيرا القسم الثّالث الذي كان يشكّل الأكثرية ، وهم الناس المتفرّجون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة ، أو إلى الفراعنة ، والسّحرة ، و( قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى ) . وواضح أنّ مراد موسى من الافتراء على الله سبحانه هو أن يجعلوا شخصا أو شيئا شريكا له ، أو ينسبوا معجزات رسول الله إلى السحر ، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم ، ومن المحتّم أنّ الله سبحانه سوف لا يدع من ينسبون هذه الأكاذيب إلى الله ، ويسعون بكلّ قواهم لإطفاء نور الحقّ ، بدون عقاب.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه ، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كلّ الأنبياء الحقيقيين ، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر ، فأثّرت على بعض القلوب ، وأوجدت اختلافا بين ذلك الحشد من السّحرة ، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة ، وبعض تردّد في الأمر ، واحتمل أن يكون موسىعليه‌السلام نبيّا إليها ، وأثّرت فيهم تهديداته ، خاصّة وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام ، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين ، كان يعتبر دليلا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما ، ولذلك فإنّ القرآن يقول :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى ) .

إنّ من الممكن أن تكون هذه المسارّة والنجوى أمام فرعون ، ويحتمل أيضا أن لا تكون أمامه ، وهناك احتمال آخر ، وهو أنّ القائمين على إدارة هذا المشهد قد تناجوا في خفاء عن الناس.

إلّا أنّ أنصار الاستمرار في المواجهة انتصروا أخيرا وأخذوا زمام المبادرة بيدهم ، وشرعوا في تحريك السّحرة بطرق مختلفة ، فأوّلا( قالُوا إِنْ هذانِ

٢٤

لَساحِرانِ ) (1) وبناء على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما ، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة ، ولأنّ قوتكم وقدرتكم أكبر منهما!

ثمّ إنّهما( يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما ) الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم ، إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم ، بل إنّهما يريدان أيضا أن يجعلا مقدّساتكم أضحوكة ومحلّا للسخرية( وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ) (2) .

والآن حيث أصبح الأمر كذلك ، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقا مطلقا ، بل( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) لأنّ الوحدة رمز انتصاركم في هذه المعركة المصيريّة الحاسمة( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى ) .

* * *

__________________

(1) إنّ هذه الجملة من ناحية الإعراب هي : (إن) مخفّفة من (أنّ) ولذلك لم تعمل عملها فيما بعدها ، إضافة إلى أنّ رفع اسم (إن) ليس قليلا في لغة العرب.

(2) «الطريقة» تعني العادة والأسلوب المتبع ، والمراد منها هنا المذهب. و (مثلي) من مادّة (مثل). وهي هنا تعني العالي والأفضل ، أي الأشبه بالفضيلة.

٢٥

الآيات

( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام ينزل إلى الساحة :

لقد اتّحد السّحرة ظاهرا ، وعزموا على محاربة موسىعليه‌السلام ومواجهته ، فلمّا نزلوا إلى الميدان( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ اقتراح السّحرة ، هذا إمّا أن يكون من أجل أن يسبقهم موسىعليه‌السلام ، أو إنّه كان احتراما منهم لموسى ، وربّما كان هذا الأمر هو الذي هيّأ السبيل إلى أن يذعنوا لموسىعليه‌السلام ويؤمنوا به بعد هذه الحادثة.

٢٦

إلّا أنّ هذا الموضوع يبد وبعيدا جدّا ، لأنّ هؤلاء كانوا يسعون بكلّ ما أوتوا من قوّة لأن يسحقوا ويحطّموا موسى ومعجزته ، وبناء على هذا فإنّ التعبير آنف الذكر ربّما كان لإظهار اعتمادهم على أنفسهم أمام الناس.

غير أنّ موسىعليه‌السلام بدون أن يبدي عجلة ، لاطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه ، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز( قالَ بَلْ أَلْقُوا ) . ولا شكّ أنّ دعوة موسىعليه‌السلام هؤلاء إلى المواجهة وعمل السحر كانت مقدّمة لإظهار الحقّ ، ولم يكن من وجهة نظر موسىعليه‌السلام أمرا مستهجنا ، بل كان يعتبره مقدّمة لواجب.

فقبل السّحرة ذلك أيضا ، وألقوا كلّ ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة ، وإذا قبلنا الرّواية التي تقول : إنّهم كانوا آلاف الأفراد ، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة ألقيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة( فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) !

أجل ، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيّات صغيرة وكبيرة متنوّعة ، وفي أشكال مختلفة ومخيفة ، ونقرأ في الآيات الأخرى ، من القرآن الكريم في هذا الباب :( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) (1) وبتعبير الآية (44) من سورة الشعراء :( وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) .

لقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي موادا كالزئبق الذي إذا مسّته أشعّة الشمس وارتفعت حرارته وسخن ، فإنّه يولّد لهؤلاء ـ نتيجة لشدّة فورانه ـ حركات مختلفة وسريعة «إنّ هذه الحركات لم تكن سيرا وسعيا حتما ، إلّا أن إيحاءات السّحرة التي كانوا يلقنونها الناس ، والمشهد

__________________

(1) الأعراف ، 116.

٢٧

الخاص الذّي ظهر هناك ، كان يظهر لأعين الناس ويجسّد لهم أنّ هذه الجمادات قد ولجتها الروح ، وهي تتحرّك الآن. (وتعبير( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) إشارة إلى هذا المعنى أيضا ، وكذلك تعبير( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضا).

على كلّ حال ، فإنّ المشهد كان عجيبا جدّا ، فإنّ السّحرة الذين كان عددهم كبيرا ، وتمرسهم واطلاعهم في هذا الفن عميقا ، وكانوا يعرفون جيدا طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفيّة ، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كلّ هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح.

فعلت صرخات السرور من الفراعنة ، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب ، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) وكلمة «أوجس» أخذت من مادّة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي ، وبناء على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي ، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحيّا وخفيفا ، ولم يكن يعني أنّه أولى اهتماما لهذا المنظر المرعب لسحر السّحرة ، بل كان خائفا من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحقّ.

أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيّأ الفرصة لموسى لإظهار معجزته ، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحقّ لهم ، كما نقرأ في خطبة الإمام عليعليه‌السلام الرقم (6) من نهج البلاغة : «لم يوجس موسىعليه‌السلام خيفة على نفسه ، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال»(1) . ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر الأجوبة الأخرى التي قيلت في باب خوف موسىعليه‌السلام .

__________________

(1) لقد قال الإمام عليعليه‌السلام هذا الكلام في وقت كان قلقا من انحراف الناس ، ويشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ قلقي ليس نابعا من شكّي في الحقّ.

٢٨

على كلّ حال ، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال ، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن :( قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) .

إنّ هذه الجملة وبتعبيرها المؤكّد قد أثلجت قلب موسى بنصره المحتّم ـ فإنّ (إنّ) وتكرار الضمير ، كلّ منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى ، وكذلك كون الجملة اسميّة ـ وبهذه الكيفيّة ، فقد أرجعت لموسى اطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه الله مرّة أخرى بقوله تعالى :( وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) .

«تلقف» من مادة «لقف» بمعنى البلع ، إلّا أنّ الراغب يقول في مفرداته : إنّ معناها في الأصل تناول الشيء بحذق ، سواء في ذلك تناوله باليد أو الفمّ. وفسّرها بعض اللغويين بأنّها التناول بسرعة.

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول (الق ما في يمينك) وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الاهتمام بالعصا ، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة ، بل المهم إرادة الله وأمره ، فإنّه إذا أراد الله شيئا ، فليست العصا فقط ، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه المقدّرة!

وهنا نقطة تستحقّ الذكر أيضا وهي : إنّ كلمة (ساحر) في الآية وردت أوّلا نكرة ، وبعدها معرفة بألف ولام الجنس ، وربّما كان هذا الاختلاف لأنّ الهدف في المرتبة الأولى هو عدم الاهتمام بعمل هؤلاء السّحرة ، ومعنى الجملة : إنّ العمل الذي قام به هؤلاء ليس إلّا مكر ساحر. أمّا في المورد الثّاني فقد أرادت التأكيد على أصل عام ، وهو أنّه ليس هؤلاء السّحرة فقط ، بل كلّ ساحر في كلّ زمان ومكان وأينما وجد سوف لا ينتصر ولا يفلح.

* * *

٢٩

بحثان

1 ـ ما هي حقيقة السحر؟

بالرغم من أنّنا تحدّثنا بصورة مفصّلة فيما مضى عن هذا الموضوع ، إلّا أنّنا نرى أن نذكر على سبيل الإيضاح باختصار أنّ «السحر» في الأصل يعني كلّ عمل وكلّ شيء يكون مأخذه خفيا ، إلّا أنّه يقال في التعبير المألوف للأعمال الخارقة للعادة التي تؤدّى باستعمال الوسائل المختلفة. فتسمّى سحرا أيضا فأحيانا يتخذ جانب الحيلة والمكر وخداع النظر والشعوذة.

وأحيانا يستفاد من عوامل التلقين والإيحاء.

وأحيانا يستفاد من خواص الأجسام والمواد الفيزيائية والكيميائية المجهولة.

وأحيانا بالاستعانة بالشياطين.

وكلّ هذه الأمور جمعت واندرجت في ذلك المفهوم اللغوي الجامع.

إنّنا نواجه على طول التاريخ قصصا كثيرة حول السحر والسّحرة ، وفي عصرنا الحاضر فإنّ الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا بالقليلين ، إلّا أنّ كثيرا من خواص الأجسام والموجودات التي كانت خافية على الناس فيما مضى ، قد اتّضحت في زماننا الحاضر ، بل كتبوا كتبا في مجال آثار الموجودات المختلفة العجيبة ، فكشفت كثيرا من سحر السّاحرين وسلبته من أيديهم.

فمثلا ، إنّنا نعرف في علم الكيمياء الحديثة أجساما كثيرة وزنها أخفّ من الهواء ، وإذا ما وضعت داخل جسم فإنّ من الممكن أن يتحرّك ذلك الجسم ، ولا يتعجّب من ذلك أحد ، فحتّى الكثير من وسائل لعب الأطفال اليوم ربّما كانت تبدو سحرا في الماضي!

اليوم يعرضون في «السيرك» فعاليّات تشبه سحر السّحرة الماضين بالاستفادة من كيفيّة الإضاءة وتوليد النور ، والمرايا ، وخواص الأجسام

٣٠

الفيزياوية والكيمياوية ، ويحدثون مشاهد غريبة وعجيبة بحيث يفتح المتفرجون أفواههم أحيانا من التعجّب.

طبعا ، إنّ أعمال المرتاضين الخارقة للعادة لها قصّة أخرى عجيبة جدّا.

وعلى كلّ حال ، فانّه لا مجال لإنكار وجود السحر ، أو اعتباره خرافة سواء في الأزمنة الماضية أو هذه الأيّام.

والملاحظة التي تستحقّ الانتباه ، هي أنّ السحر ممنوع في الإسلام ، ويعدّ من الذنوب الكبيرة ، لأنّه في كثير من الأحيان سبب لضلال الناس ، وتحريف الحقائق ، وتزلزل عقائد السذج. ومن الطبيعي أنّ لهذا الحكم الإسلامي ـ ككثير من الأحكام الاخرى ـ موارد استثناء ، ومن جملتها تعلّم السحر لإبطال ادّعاء المدّعين للنبوّة ، أو لإزالة أثره ممّن رأوا منه الضرر والأذى. وقد تحدّثنا حول هذه المسألة بصورة مفصّلة في ذيل الآيتين 102 ـ 103 من سورة البقرة.

2 ـ السّاحر لا يفلح أبدا

يسأل الكثيرون : إنّ السّحرة إذا كانوا يقدرون على القيام بأعمال خارقة للعادة وشبيهة بالمعجزة ، فكيف يمكن التفريق والتمييز بين أعمال هؤلاء وبين المعجزة؟

والجواب عن هذا السؤال بملاحظة نقطة واحدة ، وهي : إنّ عمل السّاحر يعتمد على قوّة الإنسان المحدودة ، والمعجزة تستمدّ قوتها وتنبع من قدرة الله الأزليّة غير المتناهية ، ولذلك فإنّ أي ساحر يستطيع أن يقوم بأعمال محدودة ، وإذا أراد ما هو أعظم منها فسيعجز ، فهو يستطيع أن يؤدّي ما تمرّن عليه كثيرا من قبل ، وتمكّن منه وسيطر عليه ، وأصبح مطّلعا وعارفا بكلّ دقائق وزوايا وعقد ذلك العمل ، إلّا أنّه سيكون عاجزا فيما عداه ، في حين أنّ الأنبياء لمّا كانوا يستمدّون العون من قدرة الله الأزليّة ، فإنّهم قادرون على القيام بأي عمل خارق

٣١

للعادة ، في الأرض ، والسّماء ، ومن كلّ نوع وشكل.

السّاحر لا يستطيع أن يقوم بالعمل الخارق وفق اقتراح الناس ، إلّا أن يكون ذلك الاقتراح مطابقا لما تمرّن عليه (وأحيانا يتفقون مع أصدقائهم بأن ينهضوا من بين الناس ويقترحوا ابتداء القيام بالعمل المتفق عليه سابقا) إلّا أنّ الأنبياء كانوا يقومون مرارا وتكرارا بمعاجز مهمّة كان يطلبها أناس يبتغون الحقّ دعما للنبوّة ودليلا على صحتها ، كما سنلاحظ ذلك أيضا في قصّة موسى هذه.

ومع ما مرّ ، فإنّ السحر لما كان عملا منحرفا ، ونوعا من الخدعة والمكر ، فإنّه يحتاج إلى وضع روحي ينسجم معه ، والسّحرة ـ بدون استثناء ـ أفراد خدّاعون ماكرون يمكن معرفتهم بسرعة من خلال مطالعة نفسياتهم ، في حين أنّ إخلاص وطهارة وصدق الأنبياءعليهم‌السلام أمور مقرونة بمعاجزهم ، وتضاعف من تأثيرها.

(دقّقوا ذلك).

وربّما لهذه الأسباب تقول الآية :( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) لأنّ قوّته محدودة ، وأفكاره وصفاته منحرفة.

إنّ هذا الموضوع لا يختص بالسّحرة الذين هبّوا لمحاربة الأنبياء ، بل هو صادق في شأن السّحرة بصورة عامّة ، لأنّهم سوف يفتضحون بسرعة ، ولا يفلحون في عملهم.

* * *

٣٢

الآيات

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) )

التّفسير

الإنتصار العظيم لموسىعليه‌السلام :

انتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى أمر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين ، وقد عقبت هذه المسألة في هذه الآية ، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل

٣٣

التي كانت واضحة قد حذفت ، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه ، فتحوّلت إلى حيّة عظيمة لقفت كلّ آلات وأدوات سحر السّحرة ، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين ، فاستوحش فرعون وارتبك ، وفغر أتباعه أفواهمم من العجب.

فأيقن السّحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل ، وكانوا يفرّقون جيدا بين السحر وغيره ، إنّ هذا الأمر ليس إلّا معجزة إلهيّة ، وإنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول الله ، فاضطربت قلوبهم ، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات :

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ) . إنّ التعبير بـ (القي) ـ وهو فعل مبني للمجهول ـ ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى ، وتأثّروا بمعجزته إلى الحدّ الذي سجدوا معه دون إرادة.

ونقطة أخرى يلزم ذكرها وتستحقّ الالتفات ، وهي أنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الإيمان القلبي ، بل رأوا أنّ من واجبهم إظهار هذا الإيمان بصورة جليّة ، بتعابير لا يشوبها أي إبهام ، أي التأكيد على ربوبية ربّ موسى وهارون ، حتّى يرجع أولئك الذين ضلّوا بسبب سحرهم ، ولا تبقى على عاتقهم مسئولية من هذه الجهة.

من البديهي أنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبّارة المستبدّة الظالمة ، وهزّ كلّ أركانها ، لأنّ الإعلام كان قد ركّز على هذه المسألة مدّة طويلة في جميع أنحاء مصر ، وكانوا قد جلبوا السّحرة من كلّ أرجاء البلاد ، ووعد هؤلاء بكلّ نوع من المكافئات والجوائز والامتيازات إذا ما غلبوا وانتصروا في المعركة!

إلّا أنّه يرى الآن أنّ أولئك الذين كانوا في الصفّ الأوّل من المعركة ، قد استسلموا فجأة للعدو بصورة جماعية ، ولم يسلموا وحسب ، بل أصبحوا من المدافعين الصلبين عنه ، ولم تكن هذه المسألة في حسبان فرعون أبدا ، ولا شكّ أنّ

٣٤

جمعا من الناس قد اتّبعوا السّحرة وآمنوا بدين موسى. ولذلك لم ير فرعون بدّا إلّا أن يجمع كيانه ويلملم ما تبّقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ ، فتوجّه نحو السّحرة و( قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) .

إنّ هذا الجبّار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب ، بل كان يريد أن يقول : إنّ قلوبكم تحت تصرّفي أيضا ، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني ، وهذا هو العمل الذي يؤكّد عليه كلّ الفراعنة على امتداد العصور.

فالبعض ـ كفرعون مصر ـ يجريها على لسانه حمقا عند اضطرابه وقلقه ، والبعض احتفظ بهذا الحقّ لنفسه ويبيّنه بصورة غير مباشرة عن طريق وسائل الإعلام ، وطوابير العملاء ، ويعتقد بأنّ الناس يجب أن لا يعطوا الاستقلالية في التفكير ، بل إنّه في بعض الأحيان قد يسلب الناس الحرية باسم حرية التفكير.

وعلى كلّ حال ، فإنّ فرعون لم يكتف بذلك ، بل إنّه ألصق بالسّاحرين التهمة وقال:( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) .

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه ، ولم يكن بالإمكان أن تحدث مثل هذه المؤامرة في جميع أنحاء مصر ويجهل جنوده وشرطته بالأمر ، وكان فرعون قد ربّى موسىعليه‌السلام في أحضانه ، وغيبته عن مصر كانت من المسلّمات لديه ، فلو كان كبير سحرة مصر لكان معروفا بذلك في كلّ مكان ، ولا يمكن أن يخفى أمره. إلّا أنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عند ما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حقّ يتعرّض للخطر.

ثمّ إنّه لم يكتف بهذا ، بل إنّه هدّد السّحرة أشدّ تهديد ، التهديد بالموت ، فقال:( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا

٣٥

أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ) (1) .

في الحقيقة إنّ جملة( أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً ) إشارة إلى تهديد موسىعليه‌السلام له من قبل ، وكذلك تهديده للسحرة في البداية( وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ) . والتعبير بـ( مِنْ خِلافٍ ) إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس ، وربّما كان إختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة ، لأنّ موت الإنسان يكون أكثر بطأ وأشدّ عذابا في هذه الحالة ، أي أنّ النزيف سيكون أبطأ ، وسيعانون عذابا أشدّ ، وربّما أراد أن يقول : سأجعل بدنكم ناقصا من جانبيه.

أمّا التهديد بالصلب على جذوع النخل ، فربّما كان لأنّ النخلة تعدّ من الأشجار العالية ، وكلّ شخص ـ سواء البعيد أو القريب ـ يرى المعلّق عليها.

والملاحظة التي تستحقّ الذكر أنّ الصلب في عرف ذلك الزمان لم يكن كما هو المتعارف عليه اليوم ، فلم يكونوا يضعون حبل الإعدام في رقبة من يريدون صلبه ، بل كانوا يشدّون به الأيادي أو الأكتاف حتّى يموت المصلوب بعد تحمّل العذاب الشديد.

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السّحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة ، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة ، و( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ) لكن ، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على القضاء في هذه الدنيا ، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون ، وستلاقي أنت أشدّ العقاب( إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

وعلى هذا ، فإنّهم قد بيّنوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون :

الأولى : إنّنا قد عرفنا الحقّ واهتدينا ، ولا نستبدله بأي شيء.

__________________

(1) من المعلوم أنّ (في) في جملة( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) تعني (على) ، أي أعلّقكم على جذوع النخل ، إلّا أنّ الفخر الرازي يعتقد أنّ (في) هنا تعطي نفس معناها ، لأنّ (في) للظرفيّة ، والظرفيّة تناسب كلّ شيء ، ونعلم أنّ خشبة الإعدام كالظرف والوعاء بالنسبة للفرد الذي يعلّق للإعدام. إلّا أنّ هذا التوجيه لا يبدو صحيحا.

٣٦

والأخرى : إنّنا لا نخاف من تهديداتك مطلقا.

والثّالثة : حكومتك وسعيك سوف يدومان إلّا أيّاما قليلة من الدينا!

ثمّ أضافوا بأنّا قد ارتكبنا ذنوبا كثيرة نتيجة السحر ، فـ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) وخلاصة القول : إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية ، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي ، فنحن نريد أن نصل عن هذا الطريق إلى السعادة الأبدية ، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا ، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم!

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إنّ السّحرة قد أتوا بأنفسهم إلى حلبة الصراع ظاهرا ، بالرغم من أنّ فرعون قد وعدهم وعودا كبيرة ، فكيف عبّرت الآية بالإكراه؟

ونقول في الجواب : إنّنا لا نملك أي دليل على أنّ السّحرة لم يكونوا مجبورين منذ البداية ، بل إنّ ظاهر جملة( يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) (1) ، أنّ السّحرة العلماء بالفنّ كانوا ملزمين بقبول الدعوة ، ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر يبدو طبيعيّا في ظلّ حكومة فرعون المستبدّة ، بأن يجبر أفرادا في طريق تحقيق نيّاته ، ووضع الجوائز وأمثال ذلك لا ينافي هذا المفهوم ، لأنّنا رأينا ـ كثيرا ـ حكومات ظالمة مستبدّة تتوسّل بالترغيبات المادية إلى جانب استعمال القوّة.

ويحتمل أيضا أنّ السّحرة عند أوّل مواجهة لهم مع موسىعليه‌السلام تبيّن لهم من خلال القرائن أنّ موسىعليه‌السلام على الحقّ ، أو أنّهم على أقل تقدير وقعوا في شكّ ، ونشب بينهم نزاع وجدال ، كما نقرأ ذلك في الآية (62) من هذه السورة :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) ، فأطلع فرعون وأجهزته على ما جرى ، فأجبروهم على الاستمرار في المجابهة.

ثمّ واصل السّحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح فـ( إِنَّهُ مَنْ

__________________

(1) الأعراف ، 112.

٣٧

يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه( لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) بل إنّه يتقلّب دائما بين الموت والحياة ، تلك الحياة التي هي أمر من الموت ، وأكثر مشقّة منه.

( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّ الجمل الثلاث الأخيرة تابعة لكلام السّحرة أمام فرعون ، أم أنّها جمل مستقلّة من جانب الله سبحانه جاءت تتمّة لكلامهم؟ فبعضهم اعتبرها تابعة لكلام السّحرة ، وربّما كان الابتداء بـ (انّه) التي هي في الواقع لبيان العلّة ، يؤيّد وجهة النظر هذه.

إلّا أنّ التفصيل الذي جاء في هذه الآيات الثلاث حول مصير المؤمنين الصالحين ، والكافرين المجرمين ، الذي ينتهي بجملة( وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) وكذلك الأوصاف التي جاءت فيها حول الجنّة والنّار ، تؤيّد الرأي الثّاني ، وهو أنّها من كلام الله ، لأنّ السّحرة ينبغي أن يكونوا قد تلّقوا حظّا وافرا من المعرفة والعلوم الإلهيّة في هذه الفترة القصيرة بحيث يستطيعون أن يقضوا بهذا الجزم والقطع ، وعن علم واطّلاع ووعي من أمر الجنّة والنّار ومصير المؤمنين والمجرمين. إلّا أن نقول : إنّ الله سبحانه قد أجرى هذا الكلام على ألسنتهم لإيمانهم ، وإن كان هذا لا يفرّق عندنا ولا يختلف من ناحية التربية الإلهيّة والنتيجة سواء كان الله تعالى قد قال ذلك ، أو أنّ السّحرة قد تعلّموه من الله ، خاصة وأنّ القرآن ينقل كلّ ذلك بنغمة متناسقة.

* * *

٣٨

بحوث

1 ـ العلم أساس الإيمان والوعي

إنّ أهمّ مسألة تلاحظ في الآيات ـ محلّ البحث ـ هي تحوّل السّحرة السريع العميق قبال موسىعليه‌السلام ، فإنّهم عند ما وقفوا بوجه موسىعليه‌السلام كانوا أعداء ألدّاء ، إلّا أنّهم اهتزّوا بشدّة عند مشاهدة أوّل معجزة من موسى ، فانتبهوا وغيّروا مسيرهم حتّى أثاروا دهشة الجميع.

إنّ هذا التغيير السريع من الكفر إلى الإيمان ، ومن الانحراف إلى الاستقامة ، ومن الاعوجاج إلى الطريق المستقيم ، ومن الظلمة إلى النور ، قد جعل الجميع في دهشة ، وربّما كان هذا الأمر غير قابل للتصديق حتّى من قبل فرعون نفسه ، ولذا سعى إلى إيهام الناس بأنّ هذا الأمر قد دبّر من قبل ، واتّفق عليه مسبقا ، في حين أنّه كان يعلم في أعماقه أنّ هذا الاتّهام كذب محض.

أي عامل كان السبب في هذا التّحول العميق السريع؟ وأي عامل أضاء قلوبهم بنور الإيمان الوهّاج ، إلى درجة أبدوا استعدادهم فيها لأن يضعوا كلّ وجودهم في خدمة هذا العمل ، بل وضعوه فعلا على ما نقل التاريخ ، لأنّ فرعون قد نفّذ تهديده ، وقتل هؤلاء بطريقة وحشيّة؟

هل نجد هنا عاملا غير العلم والوعي؟ إنّ هؤلاء لمّا كانوا عالمين بفنون السحر وأسراره ، وأيقنوا بوضوح تامّ أنّ عمل موسى لم يكن سحرا ، بل هو معجزة إلهيّة ، غيّروا مسيرهم بتلك الشجاعة والحزم ، ومن هنا نعلم جيدا أنّه من أجل تغيير الأفراد المنحرفين ، أو المجتمع المنحرف ، وإيجاد انقلاب في المسيرة ينبغي توعيتهم قبل كلّ شيء(1) .

__________________

(1) لقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآيات 123 ـ 126 من سورة الأعراف.

٣٩

2 ـ لن نؤثرك على البيّنات

ممّا يلفت النظر أنّ هؤلاء اختاروا أكثر التعابير منطقيّة إزاء فرعون وكلامه غير المنطقي ، فقالوا أوّلا : إنّنا قد رأينا أدلّة واضحة على أحقيّة موسى ودعوته الإلهيّة ، وسوف لا نكترث بأي شيء ولا نقدّمه على هذه الدلالات البيّنة ، وأكّدوا هذا الأمر فيما بعد بجملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) وربّما كان هذا التعبير بحدّ ذاته ـ مع ملاحظة كلمة (فطرنا) ـ إشارة إلى ما هم عليه من الفطرة التوحيديّة ، فكأنّهم قالوا : إنّنا نشاهد نور التوحيد من أعماق وجودنا وأرواحنا ، وكذلك بالدليل العقلي ، ومع هذه الآيات البيّنات كيف نستطيع أن نترك هذا الصراط المستقيم ، ونسير في طريقك المنحرف؟

ويلزم الالتفات إلى هذه النكتة أيضا ، وهي أنّ جمعا من المفسّرين لم يعتبروا جملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) قسما ، بل عدّوها عطفا على( ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ) وبناء على هذا سيصبح معنى الجملة : إنّنا سوف لن نؤثرك أبدا على هذه الأدلّة الجلية ، وعلى الله الذي خلقنا.

غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصحّة ، لأنّ عطف هاتين الجملتين بعضهما على بعض غير مناسب. «فلاحظوا بدقّة»!

3 ـ من هو المجرم؟

بملاحظة الآيات الشريفة التي تقول :( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) والتي يظهر منها خلود العذاب ، يتبادر هذا السؤال : ترى هل لكلّ مجرم هذا المصير؟

إلّا أنّه بالالتفات إلى أنّ الآية التالية قد بيّنت النقطة المقابلة لذلك ، وجاءت فيها كلمة «المؤمن» يتّضح أنّ المراد من المجرم هنا هو الكافر ، إضافة إلى أنّه ورد في القرآن كثيرا استعمال هذه الكلمة بمعنى الكافر.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209