الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ18%

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام بن الحسن بن علي العسكري عليه السلام
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: 209

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 209 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93143 / تحميل: 5440
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: ٩٦٤-٨٦٢٩-١٠-٢
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

والإدلال به، أمّا السرور به مع التواضع للّه تعالى، والشكر له على توفيقه لطاعتِه، فذلك ممدوحٌ ولا ضيرَ فيه.

مساوئ العجُب:

للعجُب أضرارٌ ومساوئ:

١ - إنّه سببُ الأنانيّة والتكبّر، فمَن أُعجِب بنفسه إزدهاه العُجُب، وتعالى على الناس، وتجبّر عليهم، وذلك يُسبّب مقت الناس وهوانهم له.

٢ - إنّه يعمي صاحبه عن نقائصه ومساوئه، فلا يهتم بتجميل نفسه، وملافاة نقائصه، ممّا يجعله في غمرة الجهل والتخلّف.

٣ - إنّه باعث على استكثار الطاعة، والإدلال بها، وتناسي الذنوب والآثام، وفي ذلك أضرارٌ بليغة، فتناسي الذنوب يُعيق عن التوبة والإنابة إلى اللّه عزّ وجل منها، ويعرّض ذويها لسخطِه وعقابه، واستكثار الطاعة والعبادة يكدّرها بالعُجب والتعامي عن آفاتها، فلا تنال شرف الرضا والقبول من المولى عزّ وجل.

علاج العُجُب:

وحيث كان العُجب والتكبر صنوين من أصل واحد، وإن اختلفا في الاتجاه، فالعجب كما أسلفنا استعظام النفس مجرداً عن التعالي، والتكبر

١٤١

هما معاً، فعلاجهما واحد، وقد أوضحناه في بحث التكبّر.

وجدير بالمعجَب بنفسه، أنْ يدرك أنّ جميع ما يبعثه على الزهو والإعجاب، من صنوف الفضائل والمزايا، إنّما هي نِعَمٌ إلهيّة يُسديها المولى إلى مَن شاء مِن عباده، فهي أحرى بالحمد، وأجدَر بالشكر مِن العُجب والخُيَلاء.

وهي إلى ذلك عُرضةً لصروف الأقدار، وعوادي الدهر، فما للإنسان والعجُب !!

ومِن طريف ما نُقِل عن بعض الصُلَحاء في ملافاة خواطر العجُب:

قيل: إنّ بعضهم خرَج في جُنح الظلام متّجهاً إلى بعض المشاهد المشرّفة، لأداء مراسم العبادة والزيارة، فبينا هو في طريقه إذ فاجأه العجُب بخروجه سَحَرَاً، ومجافاته لذّة الدفء وحلاوة الكَرى مِن أجل العبادة.

فلاح له آنذاك، بائع شلغم فانبرى نحوه، فسأله كم تربح في كسبك وعناء خروجك في هذا الوقت ؟ فأجابه: دِرهَمين أو ثلاث، فرجع إلى نفسه مخاطباً لها علام العجُب ؟ وقيمة إسحاري لا تزيد عن دِرهَمين أو ثلاث.

ونُقِل عن آخر: أنّه عمِل في ليلة القدر أعمالاً جمّةً مِن الصلوات والدعوات والأوراد، استثارت عُجُبه، فراح يُعالِجه بحكمةٍ وسداد: فقال لبعض المتعبّدين: كم تتقاضى على القيام بأعمال هذه الليلة، وهي كيت وكيت. فقال: نصف دينار، فرجع إلى نفسه مؤنّباً لها وموحياً إليها، علام العُجُب وقيمة أعمالي كلّها نصف دينار ؟

١٤٢

اليقين

وهو: الاعتقاد بأُصول الدين وضروراته، اعتقاداً ثابتاً، مطابقاً للواقع، لا تُزَعزِعه الشُبَه، فإنْ لم يُطابق الواقع فهو جهلٌ مركّب.

واليقين هو غرّة الفضائل النفسيّة، وأعزّ المواهب الإلهيّة، ورمز الوعي والكمال، وسبيل السعادة في الدارَين. وقد أولته الشريعة اهتماماً بالغاً ومجّدت ذويه تمجيداً عاطراً، وإليك طرفاً منه:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الإيمان أفضل من الإسلام، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان، وما مِن شيءٍ أعزّ مِن اليقين )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند اللّه مِن العمل الكثير على غير يقين )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن صحّة يقين المرء المسلم، أنْ لا يُرضي الناس بسخطِ اللّه، ولا يلومَهم على ما لم يأته اللّه، فإنّ الرزق لا يسوقه حِرصُ حريص، ولا يردّه كراهيّة كاره، ولو أنّ أحدَكم فرّ مِن رزقه كما يفرّ مِن الموت، لأدركه رِزقه كما يدركه الموت ).

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٥٧ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٦٠ عن الكافي.

١٤٣

ثمّ قال: ( إنّ اللّه بعدلِه وقسطه جعَل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحُزن في الشكّ والسخط )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: ( لا يَجدُ عبدٌ طعمَ الإيمان، حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يَكن ليُصيبه، وأنّ الضارّ النافع هو اللّه تعالى )(٢).

وسُئل الامام الرضاعليه‌السلام عن رجلٍ يقول بالحقّ ويُسرف على نفسه، بشرب الخمر ويأتي الكبائر، وعن رجلٍ دونه في اليقين وهو لا يأتي ما يأتيه، فقالعليه‌السلام : ( أحسنهما يقيناً كالنائم على المحجّة، اذا انتبه ركبَها، والأدوَن الذي يدخله الشكّ كالنائم على غير طريق، لا يدري اذا انتبه أيّهما المحجّة )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شابٍّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه، قد نحُف جِسمه، وغارَت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه: كيف أصبحت يا فلان ؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقناً، فعجِب رسول اللّه مِن قوله، وقال له: إنّ لكلِّ يقينٍ حقيقة، فما حقيقة يقينك ؟

فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه، هو الذي أحزَنني، وأسهرَ ليلي، وأظمأ هواجري، فعزِفَت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتّى كأنّي أنظر إلى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٤ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٥٤ عن الكافي.

(٣) سفينة البحار ج ٢ ص ٧٣٤ عن فقه الرضا.

١٤٤

عرش ربّي، وقد نصب للحساب، وحُشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون، على الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذَّبون، مصطفون، وكأنّ الآن استمع زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه: هذا عبدٌ نوّر اللّه قلبَه بالإيمان، ثُمّ قال له: إلزَم ما أنت عليه، فقال الشاب: أدع اللّه لي يا رسول اللّه أنْ أُرزق الشهادةَ معك، فدعا له رسول اللّه فلم يلبث أنْ خرَج في بعض غزَوَات النبيّ فاستُشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر )(١).

خصائص الموقنين:

متى ازدهرت النفس باليقين، واستنارت بشُعاعِه الوهّاج، عكَسَت على ذويها ألواناً مِن الجمال والكمال النفسيَّين، وتسامت بهم إلى أوجٍّ روحيٍّ رفيع، يتألّقون في آفاقه تألُّق الكواكب النيّرة، ويتميّزون عن الناس تميّز الجواهر الفريدة مِن الحصا.

فمَن أبرَز خصائصهم ومزاياهم، أنَك تجدهم دائبين في التحلّي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وتجنّب رذائلها ومساوِئها، لا تخدعهم زخارف الحياة، ولا تُلهيهم عن تصعيد كفاءاتهم ومؤهّلاتهم الروحيّة لنيل الدرجات الرفيعة، والسعادة المأمولة في الحياة الاخرويّة، فهم متفانون في طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٣٣ عن الكافي.

١٤٥

عزّ وجل، ابتغاء رضوانه، وحسن مثوبته، متوكّلون عليه، في سرّاء الحياة وضرّائها، لا يرجون ولا يخشون أحداً سِواه، ليقينهم بحسن تدبيره وحكمة أفعاله.

لذلك تُستجاب دَعَواتهم، وتظهر الكرامات على أيديهم، وينالون شرف الحظوة والرعاية مِن اللّه عزّ وجل.

درجات الايمان:

ويحسن بي وأنا أتحدّث عن اليقين أنْ أعرض طَرفاً مِن مفاهيم الإيمان ودرجاته، وأنواعه إتماماً للبحث وتنويراً للمؤمنين.

يتفاضل الناس في درجات الإيمان تفاضلاً كبيراً، فمنهم المجلّي السباق في حلَبة الايمان، ومنهم الواهن المتخلف، ومنهم بين هذا وذاك كما صوّرته الرواية الكريمة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الايمان عشر درجات، بمنزلة السُلّم، يُصعَد منه مرقاةً بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لَستَ على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشرة، فلا تُسقط مَن هو دونك، فيسقطك مَن هو فوقَك، وإذا رأيت مَن هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملَنّ عليه ما لا يطيق فتكسِره، فإنّ مَن كسَر مؤمناً فعليه جبْرُه )(١).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٣٠ عن الكافي.

١٤٦

أنواع الايمان:

ينقسم الايمان الى ثلاثة أنواع: فطريّ، ومستَودَع، وكَسْبي.

١ - فالفطريّ: هو ما كان هِبةً إلهيّة، قد فطر عليه الإنسان، كما في الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، فإنّهم المثلُ الأعلى في قوّة الإيمان، وسموّ اليقين، لا تخالجهم الشكوك، ولا تعروهم الوساوس.

٢ - المستودَع: وهو ما كان صوريّاً طافياً على اللسان، سرعان ما تزعزعه الشبَه والوساوِس، كما قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ العبد يصبح مومناً، ويُمسي كافراً، ويصبح كافراً، ويُمسي مؤمناً، وقوم يعارون الإيمان ثُمّ يلبسونه، وُيسَمَّون المُعارين )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى جبَل النبييّن على نبوّتهم، فلا يرتدّون أبداً، وجَبَل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدّون أبداً، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبداً، ومنهم مَن أُعير الإيمان عاريةً، فاذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان )(٢).

وهكذا تعقّب الامام الصادقعليه‌السلام على حديثَيه السالفَين بحديثٍ ثالثٍ بجعلِه مِقياساً للتمييز بين الإيمان الثابت من المستودع، فيقول: ( إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لِمَن لم ينتفع بما أبصره، ولم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفْعٌ له أم ضرّ )، قلت ( الراوي ): فَبِم يُعرَف الناجي مِن هؤلاء جُعِلت فداك ؟

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٥٠ عن الكافي.

١٤٧

قال: ( مَن كان فعله لقوله موافقاً، فأثبتُ له الشهادةَ بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنما ذلك مستودع»(١).

٣ - الكَسْبي: وهو الايمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتى تكامل وسمى الى مستوى رفيع، وله درجات ومراتب.

وإليك بعض الوصايا والنصائح الباعثة على صيانة الجُزء الفطريّ مِن الإيمان، وتوفير الكسبي منه:

١ - مصاحبة المؤمنين الأخيار، ومجانبة الشقاة والعصاة، فإنّ الصاحب متأثّر بصاحبه ومُكتسِب مِن سلوكه وأخلاقه، كما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المرء على دين خلِيله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالِل ).

٢ - ترك النظر والاستماع إلى كتب الضلال، وأقوال المضلّين، المولَعين بتسميم أفكار الناس وحَرْفِهم عن العقيدة والشريعة الإسلاميّتين، وإفساد قِيم الإيمان ومفاهيمه في نفوسهم.

٣ - ممارسة النظر والتفكّر في مخلوقات اللّه عزّ وجل، وما اتّصفت به مِن جميلِ الصنع، ودقّة النظام، وحكمة التدبير، الباهرة المدهشة:( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (٢).

٤ - ومن موجبات الإيمان وتوفير رصيده، جهاد النفس، وترويضها على طاعة اللّه تعالي، وتجنّب معاصيه، لتعمر النفس بمفاهيم الإيمان، وتُشرِق بنوره الوضّاء، فهي كالماء الزلال، لا يزال شفافاً رِقراقاً، ما لم تُكدّره

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٠ عن الكافي.

(٢) الذاريات (٢٠ - ٢١ ).

١٤٨

الشوائب فيغدو آنذاك آسِناً قاتِماً لا صفاءَ فيه ولا جمال. ولولا صدَأ الذنوب، وأوضار الآثام التي تنتاب القُلوب والنفوس، فتجهّم جمالها وتخبّئ أنوارها، لاستنار الأكثرون بالإيمان، وتألّقت نفوسُهم بشُعاعِه الوهّاج:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبه نُكته سَوداء، فإنْ تاب انمحت، وإنْ زاد زادت، حتّى تغلّب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً )(٢).

_____________________

(١) الشمس ( ٧ - ١٠ ).

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

١٤٩

الصبر

وهو: احتمال المكاره مِن غير جزَع، أو بتعريفٍ آخر هو: قَسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامِراً ونَواهياً، وهو دليل رَجاحة العقل، وسِعة الأفق، وسموّ اخلق، وعظمة البطولة والجَلَد، كما هو معراج طاعة اللّه تعالى ورضوانه، وسبَب الظفَر والنجاح، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد.

وناهيك في شرف الصبر، وجلالة الصابرين، أنّ اللّه عزّ وجل، أشاد بهما، وباركهما في نَيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم:

بشّر الصابرين بالرضا والحبّ، فقال تعالى:( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (١).

ووعدهم بالتأييد:( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٢) .

وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف:( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*

____________________

(١) آل عمران: ١٤٦.

(٢) الأنفال: ٤٦.

(٣) الزمر: ١٠.

١٥٠

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١).

وهكذا تواترت أخبار أهل البيتعليهم‌السلام في تمجيد الصبر والصابرين.

قال الصادقعليه‌السلام :

( الصبرُ مِن الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسَد، فإذا ذهَب الرأس ذهَب الجسَد، وكذلك إذا ذهَب الصبر ذهَب الإيمان )(٢).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( الجنّة محفوفةٌ بالمكاره والصبر، فمَن صبَر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفةٌ باللذات والشهَوات، فمَن أعطى نفسه لذّتها وشهَوتها دخل النار )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( لمّا حضَرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره، وقال: يا بُني، إصبر على الحقّ وإنْ كان مرّاً، تُوفّ أجرك بغير حساب )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن ابتُليَ مِن المؤمنين ببلاءٍ فصبَر عليه، كان له أجرُ ألف شهيد )(٥).

_____________________

(١) البقرة: ( ١٥٥ - ١٥٧ ).

(٢) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٣) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٤) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٥) الوافي ج ٣ ص ٦٦ عن الكافي ).

١٥١

ورُبَّ قائلٍ يقول: كيف يُعطى الصابر أجرَ ألف شهيد، والشهداء هُم أبطال الصبر على الجهاد والفداء ؟

فالمراد: أنّ الصابر يستحقّ أجر أُولئك الشهداء، وإنْ كانت مكافأتهم وثوابهم على اللّه تعالى أضعافاً مضاعفة عنه.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( من لم يُنجه الصبر، أهلكه الجزع )(١).

أقسام الصبر

ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساماً أهمّها:

(١) الصبر على المكاره والنوائب:

وهو أعظم أقسامه، وأجلّ مصاديقه الدالّة على سموّ النفس، وتفتح الوعي، ورباطة الجأش، ومضاء العزيمة.

فالإنسان عرضةً للمآسي والارزاء، تنتابه قسراً واعتباطاً، وهو لا يملك إزائها حولاً ولا قوّة، وخير ما يفعله المُمتَحَن هو التذرّع بالصبر، فإنّه بلسم القلوب الجريحة، وعزاء النفوس المعذّبة.

ولولاه لانهار الإنسان، وغدا صريع الأحزان والآلام، من أجلّ ذلك حرّضت الآيات والأخبار على التحلّي بالصبر والاعتصام به:

قال تعالى:( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا

_____________________

(١) نهج البلاغة.

١٥٢

لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنْ صبَرت جرى عليك القدَر وأنت مأجور، وإنْ جزعت جرى عليك القَدرُ، وأنت مأزور )(٢).

وممّا يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود، هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الإنسان دفعها والتخلّص منها، كفقد عزيز، أو اغتصاب مال، أو اضطهاد عدوّ.

أمّا الاستسلام للنوائب، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حُمقٌ يستنكره الإسلام، كالصبر على المرَض وهو قادر على علاجه، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق، وعلى هضم الحقوق وهو قادرٌ على استردادها وصيانتها.

ومِن الواضح أنّ ما يجرّد المرء مِن فضيلة الصبر، ويخرجه عن التجلّد، هو الجزَع المُفرِط المؤدّي إلى شقّ الجيوب، ولطم الخدود، والإسراف في الشكوى والتذمّر.

أمّا الآلام النفسيّة، والتنفيس عنها بالبكاء، أو الشكاية مِن متاعب المرض وعنائه فإنّها مِن ضرورات العواطف الحيّة، والمشاعر النبيلة، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله عند وفاة ابنه ابراهيم: ( تدمع العين، ويَحزَن القلب، ولا نقول ما يُسخِط الربّ ).

_____________________

(١) البقرة ( ١٥٥ - ١٥٧ ).

(٢) نهج البلاغة.

١٥٣

وقد حكت لنا الآثار طرَفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب، ممّا يبعث على الإعجاب والإكبار، وحُسن التأسّي بأُولئك الأفذاذ.

حُكي أنّ كسرى سخَط على ( بزرجمهر ): فحبَسه في بيتٍ مظلم، وأمَر أنْ يُصفّد بالحديد، فبقيّ أيّاماً على تلك الحال، فأرسل إليه مَن يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر، مطمئنّ النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة مِن الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستّة أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي ابقتني على ما ترون.

قالوا: صِف لنا هذه لعلّنا ننتفع بها عند البلوى، فقال: نعم.

أمّا الخَلط الأوّل: فالثقة باللّه عزّ وجل.

وأمّا الثاني: فكلّ مقدرٍّ كائن.

وأمّا الثالث: فالصبرُ خير ما استعمله الممتَحن.

وأمّا الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزَع.

وأمّا الخامس: فقد يكون أشدّ ممّ أنا فيه.

وأمّا السادس، فمِن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ماقاله كسرى فأطلقه وأعزّه(١).

وعن الرضا عن أبيه عن أبيهعليهم‌السلام قال: ( إنّ سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تبارك وتعالى قد وهَب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدي: سخّر لي الريح، والإنس، والجنّ، والطير، والوحش، وعلّمني منطق الطير، وآتاني مِن كلّ شيء، ومع جميع ما أوتيتُ

_____________________

(١) سفينه البحار ج ٢ ص ٧.

١٥٤

مِن الملك ما تمّ لي سرورٌ يوم إلى الليل، وقد أحبَبت أنْ أدخل قصري في غد، فأصعَد أعلاه، وأنظر إلى ممالِكي، فلا تأذنوا لأحدٍ عليّ لئلاّ يردّ عليّ ما ينغّص عليّ يومي. قالوا: فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده، وصعد إلى أعلى موضع قصره، ووقَف متّكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أُوتي، فرِحاً بما أعطي، اذ نظر إلى شابٍّ حسن الوجه واللباس قد خرَج عليه مِن بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به سليمانعليه‌السلام ، قال له: من أدخَلك إلي هذا القصر، وقد أردت أنْ أخلو فيه اليوم، فبإذن مَن دخلت ؟

فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربّه، وبإذنه دخلت.

فقال: ربّه أحقّ به منّي، فمَن أنت ؟

قال: أنا ملَك الموت، قال: وفيما جئت ؟

قال: جئت لأقبض روحك.

قال: إمض لِما أُمِرت به، فهذا يومُ سروري، وأبى اللّه أنْ يكون لي سرور دون لقائه. فقبض ملك الموت روحه وهو متّكئ على عصاه...)(١) .

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦١٤ عن عيون أخبار الرضا.

١٥٥

(٢) الصبر على طاعة اللّه والتصبّر عن عصيانه:

مِن الواضح أنّ النفوس مجبولةٌ على الجُموح والشرود مِن النُّظُم الإلزاميّة والضوابط المحدّدة لحُريّتها، وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهَوات، وإنْ كانت باعثةً على إصلاحها وإسعادها.

فهي لا تنصاع لتلك النظُم، والضوابط، إلاّ بالإغراء، والتشويق، أو الإنذار والترهيب. وحيث كانت ممارسة طاعة اللّه عزّ وجل، ومجافاة عصيانه، شاقّين على النفس، كان الصبر على الطاعة والتصبّر عن المعصية من أعظم الواجبات، وأجلّ القُرُبات.

وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مشوّقة إلى الأُولى ومحذّرة مِن الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصيته، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولاحزناً، وما لم يأتِ فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة، يقوم عُنقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

١٥٦

الصبر. فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه، ونصبر عن معاصي اللّه، فيقول اللّه تعالى: صدَقوا أدخلوهم الجنّة، وهو قوله تعالى:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( الزمر: ١٠ )(١)

وقالعليه‌السلام :

( الصبر صبران: فالصبر عند المصيبة، حَسَنٌ جميل، وأفضل مِن ذلك الصبر عمّا حرّم اللّه عزّ وجل، ليكون لك حاجزاً )(٢).

(٣) الصبر على النِّعَم:

وهو: ضبط النفس عن مسوّلات البطَر والطُّغيان، وذلك من سِمات عظمة النفس، ورجاحة العقل، وبُعد النظر.

فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأَولى مِن الصبر على مسرّاتها وأشواقها، ومفاتنها، كالجاه العريض، والثراء الضخم، والسلطة النافذة، ونحو ذلك. حيث إنّ إغفال الصبر في الضرّاء يفضي إلى الجزع المدمّر، كما يؤدّي إهماله في السرّاء إلى البطَر والطغيان:( إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) ( العلق: ٦ - ٧ ) وكلاهما ذميمٌ مقيت.

والمراد بالصبر على النِّعَم هو: رعاية حقوقها، واستغلالها في مجالات

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الفقيه.

١٥٧

العطف والإحسان المادّية، أو المعنويّة: كرعاية البؤساء، وإغاثة المُضطهدين، والاهتمام بحوائج المؤمنين، والتوقّي مِن مزالق البطَر والتجبّر.

وللصبر أنواعٌ عديدةٌ أٌخرى:

فالصبر في الحرب: شجاعة، وضدّه الجُبْن.

والصبر عن الانتقام: حِلم، وضدّه الغضب.

والصبر عن زخارف الحياة: زُهد، وضدّه الحِرص.

والصبر على كتمان الأسرار: كتمان، وضدّه الإذاعة والنشر.

والصبر على شهوَتَيّ البطن والفرج: عفّة، وضدّه الشرَه.

فاتّضح بهذا أنّ الصبر نظام الفضائل، وقُطبها الثابت، وأساسها المكين.

محاسن الصبر:

نستنتج من العرض السالف أنّ الصبرَ عِماد الفضائل، وقُطب المكارم، ورأس المفاخر.

فهو عصمة الواجد الحزين، يخفّف وَجده، ويلطّف عناءه، ويمدّه بالسكينة والاطمئنان.

وهو ظمانٌ من الجزَع المدمّر، والهلَع الفاضح، ولولاه لانهار المصاب، وغدا فريسة العلل والأمراض، وعرضة لشماتة الأعداء والحسّاد.

وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجّى فيما أعدّ اللّه للصابرين، من عظيم المكافآت، وجزيل الأجر والثواب.

١٥٨

كيف تكسب الصبر:

وإليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلّي به:

١ - التأمّل في مآثر الصبر، وما يفيء على الصابرين من جميل الخصائص، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة.

٢ - التفكّر في مساوئ الجزَع، وسوء آثاره في حياة الإنسان، وأنّه لا يشفي غليلاً، ولا يردُّ قضاءً، ولا يُبدّل واقعاً، ولاينتج إلاّ بالشقاء والعناء. يقول ( دليل كارنيجي ): ( لقد قرأتُ خلال الأعوام الثمانية الماضية كلّ كتاب، وكلّ مجلّة، وكلّ مقالة عالجت موضوع القلَق، فهل تريد أنْ تعرف أحكَم نصيحة، وأجداها خرجْتُ بها مِن قراءتي الطويلة ؟ إنّها: ( إرض بما ليس منه بدّ ).

٣ - تفهم واقع الحياة، وأنّها مطبوعة على المتاعب والهموم:

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفواً مِن الأقذار والأكدار

فليست الحياة دار هناء وارتياح، وإنّما هي: دار اختبار وامتحان للمؤمن، فكما يُرهق طلاّب العلم بالامتحانات إستجلاء لرصيدهم العلمي، كذلك يُمتحن المؤمن إختباراً لأَبعاد إيمانه ومبلغ يقينه.

قال تعالى:( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ

١٥٩

الكاذبين ) ( العنكبوت: ٢ - ٣ ).

٤ - الاعتبار والتأسّي بما عاناه العظماء، والأولياء، من صنوف المآسي والأرزاء، وتجلّدهم فيها وصبرهم عليها، في ذات اللّه، وذلك من محفّزات الجلَد والصمود.

٥ - التسلية والترفيه بما يُخفّف آلام النفس، ويُنَهنِه عن الوجد: كتغير المناخ، وإرتياد المناظر الجميلة، والتسلّي بالقصَص الممتعة، والأحاديث الشهيّة النافعة.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ورد في رواية داود بن الأسود(١) .

وبالمقابل كان أصحابه يتفانون لأجل اللقاء به ، فإذا حظي أحدهم بذلك ، لم تطب نفسه ان يفوته حديثه ولو أضناه العطش ، روى ابن شهر آشوب عن أبي العباس محمد بن القاسم ، قال : « عطشت عند أبي محمدعليه‌السلام ، ولم تطب نفسي أن يفوتني حديثه ، وصبرت على العطش وهو يتحدّث ، فقطع الكلام وقال :يا غلام أسق أبا العباس ماءً »(٢) .

وكانوا يدقّقون في معرفة خطّهعليه‌السلام لتفادي حالة الوضع والتزوير ، فيطلبون منهعليه‌السلام أن يكتب لهم نموذجاً من خطّه ، ومنهم أحمد بن إسحاق الأشعري القمي ، وكان من خاصته وثقاته ، ومُوفَد القميين إلى الإمامعليه‌السلام ، قال : « دخلت على أبي محمدعليه‌السلام فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد ، فقال :نعم ، ثم قال :يا أحمد ، إنّ الخطّ سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكنّ ، ثمّ دعا بالدواة »(٣) .

وكانوا يدفعون كتبهم وما يجب عليهم من الأموال إلى الوكلاء الذين يغطّون على عملهم بمختلف الوسائل ، فكان أبوعمرو عثمان بن سعيد العمري يجعلها في جراب السمن وزقاقه ويحملها إلى الإمام العسكريعليه‌السلام تقيةً وخوفاً ، وقد قيل له السمّان لأنه كان يتجر في السمن تغطيه على هذا الأمر(٤) .

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٠.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٧٢.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٦.

(٤) راجع : غيبة الشيخ الطوسي : ٣٥٤.

١٨١

وكان بعضهم يكاتب الإمامعليه‌السلام عن طريق الخدم ، فقد كتب جعفر بن محمد القلانسي كتاباً إلى الإمام العسكريعليه‌السلام يسأله عن مسائل كثيرة ، ودفعه مع محمد بن عبد الجبار الخادم ليوصله إليهعليه‌السلام (١) .

ومارس الإمامعليه‌السلام دور التربية والتوجيه والاعداد لخاصة أصحابه وقاعدته المؤمنة بمرجعيته الفكرية والروحية ، لتحصينهم من الانحراف العقائدي والفكري ، وتسليحهم بالفقه والمعرفة ، ونظرة واحدة إلى رسائله ووصاياه التي قدمناه بعضها ، تعتبر خير دليل على متابعة الإمامعليه‌السلام لأصحابه وإشرافه على مختلف شؤونهم.

وكان من نتائج ذلك الاشراف والتواصل بين الإمامعليه‌السلام وقاعدته أن اكتملت في عصرهعليه‌السلام معالم مدرسة الفقهاء الرواة الذين كانوا يعيشون في أوساط الناس ، وينقلون إليهم الأحكام والسنن والعقائد ، واستوفت تلك المدرسة كلّ متطلبات المدرسة العلمية من حيث المنهج والمصدر والمادة ، ومهّدت بذلك لعهد الغيبة الصغرى حيث انبثقت عنها مدرسة الفقهاء المحدثين(٢) .

ولغرض الاطلاع على سعة تلك المدرسة وامتداد مرجعية الإمام العسكريعليه‌السلام ومكانته العلمية ودوره في التشريع ، نذكر بعض أقطاب تلك المدرسة الثقات والمؤلفين وكما يلي :

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٢٩٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٨.

(٢) راجع : تاريخ التشريع الاسلامي / د. عبد الهادي الفضلي : ١٩٤ وما بعدها ـ الكتاب الاسلامي ـ ١٤١٤ ه‍.

١٨٢

١ ـ الثقات من أصحابه عليه‌السلام

استطاعت شريحة واسعة من عشّاق مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام التواصل مع الإمام العسكريعليه‌السلام بشتى الوسائل ، فتحمّلوا الرواية عنه ، وبلغوا الفتاوى والأحكام الصادرة عنه ، وأسهموا في نشر مبادئ تلك المدرسة.

وبلغ عدد الرواة عن الإمام أبي محمد العسكريعليه‌السلام (١٠٣) كما في رجال الشيخ الطوسي(١) ، وإذا ضممنا إليهم ما ورد في رجال البرقي ومناقب ابن شهر آشوب ومسند الإمام العسكري ، وما وقعوا في إسناد الأخبار والتواقيع والمكاتبات ، يكون العدد (٢١٦) من عير تكرار ، وهو عدد كبير يدلّ على سعة الدور العلمي البارز الذي اضطلع به أصحاب الإمام العسكري مع قسوة الظروف المحيطة بعملهم ، ويدلّ على سموّ المقام المعرفي والمكانة العلمية التي يمثلها الإمام العسكريعليه‌السلام ، لأنّ الرواة كانوا يمثلون أساتذة المجتمع أنذاك وليسوا مجرد أشخاص يسألون ويروون.

ومن الطبيعي أن هذا العدد من الرواة ، لم يكونوا على نمط واحد في العلم والمعرفة والثقة ، بل هم درجات متفاوتة ، وفما يلي نقتصر على ذكر الثقات منهم ، وهم : إبراهيم بن أبي حفص الكاتب ، إبراهيم بن عبدة النيسابوري ، أحمد بن إدريس القمي ، أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعري ، أحمد بن الحسن ابن علي بن فضال ، إسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، إسحاق بن الربيع الكوفي ، الحسن بن ظريف ، الحسن بن علي بن النعمان ، الحسين بن اشكيب المروزي ، الحسين بن مالك القمي ، حمدان بن سليمان النيسابوري ، داود بن أبي زيد

__________________

(١) راجع : رجال الشيخ : ٣٩٥ ـ ٤٠٣.

١٨٣

النيسابوري ، داود بن القاسم الجعفري ، الريان بن الصلت ، السندي بن الربيع ، علي بن جعفر وكيلهعليه‌السلام ، عبد الله بن جعفر الحميري ، عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي ، عثمان بن سعيد العمري وكيلهعليه‌السلام ، علي بن بلال ، الفضل بن شاذان النيسابوري ، محمد بن أحمد بن جعفر القمي ، محمد بن بلال ، محمد بن الحسن الصفار ، محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، محمد بن الريان بن الصلت ، محمد بن أبي الصهبان ، محمد بن عثمان العمري ، محمد بن علي بن بلال ، محمد بن علي بن محبوب الأشعري القمي ، محمد بن عيسىٰ بن عبيد اليقطيني ، هارون بن مسلم ابن سعدان ...

هؤلاء هم الذين ورد فيهم التوثيق من علماء الرجال ، ولو أردنا أن نذكر كلّ من ورد فيه مدح من أصحاب الإمام العسكريعليه‌السلام لطال بنا المقام.

٢ ـ المؤلفون من أصحابه عليه‌السلام

ومن بين الرواة من أصحابهعليه‌السلام من اشتغل بالتصنيف في مجال الأحكام والسنن والعقائد وغيرها ، وقد صارت كتبهم منذ ذلك الوقت مصادر يُستقى منها العلم ، ومناهل تؤخذ منها المعرفة ، واُصولاً لمجاميع الحديث التالية لها ، ولا يزال بعضها متداولاً إلى اليوم كبصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار.

وفيما يلي نذكر أسماء المؤلفين من أصحاب الإمام العسكري ، ومن أراد التوسّع في معرفة مؤلفاتهم فليرجع إلى كتب الرجال ، وهم : أبو إسحاق إبراهيم ابن أبي حفص الكاتب ، إبراهم بن مهزيار الأهوازي ، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب النديم ، أحمد بن إدريس القمي ، أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعري ، أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ، أحمد بن محمد بن سيار السياري ،

١٨٤

أيوب بن نوح بن دراج النخعي ، الحسن بن ظريف ، الحسن بن علي بن النعمان ، الحسن بن موسى الخشاب ، الحسين بن اشكيب المروزي ، داود بن أبي زيد النيسابوري ، داود بن القاسم الجعفري ، رجاء بن يحيى بن سامان العبرتائي ، سعد بن عبد الله الأشعري القمي ، أبو سعيد سهل بن زياد الآدمي ، أبو يحيى سهيل بن زياد الواسطي ، صالح بن أبي حماد الرازي ، عبد الله بن جعفر الحميري ، عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي الكوفي ، عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، علي بن بلال ، علي بن الحسن بن فضال الكوفي ، علي بن الريان بن الصلت الأشعري القمي ، الفضل بن شاذان ، محمد بن الحسن بن شمّون ، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار ، محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، محمد بن عبد الحميد ابن سالم العطار ، محمد بن علي بن عيسىٰ الأشعري القمي ، محمد بن علي بن محبوب ، محمد بن عيسىٰ بن عبيد اليقطيني ، موسى بن جعفر البغدادي ، هارون ابن مسلم بن سعدان الكاتب.

رابعاً : تصحيح اُصول الحديث

وقف الإمام العسكريعليه‌السلام على بعض الأصول الحديثية التي عرضت عليه ، فنظر فيها وتصفّحها ، أو قرئت عليه ، فقال فيها كلمته ، ومنها كتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن ، وكتاب الفضل بن شاذان.

روى النجاشي بالاسناد عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري ، قال : « عرضت على أبي محمد صاحب العسكرعليه‌السلام كتاب يوم وليلة ليونس ، فقال لي :تصنيف من هذا ؟ فقلت : تصنيف يونس مولى آل يقطين. فقال :أعطاه الله

١٨٥

بكل حرف نوراً يوم القيامة »(١) . وفي هذا الكلام ما لا يخفى من الحثّ على سلامة التصنيف في الحديث.

وعن بورق البوشنجاني ، وكان معروفاً بالصدق والصلاح والورع والخير ، قال : « خرجت إلى سرّ من رأى ، ومعي كتاب يوم وليلة ، فدخلت على أبي محمدعليه‌السلام وأريته ذلك الكتاب ، فقلت له : جعلت فداك ، إن رأيت أن تنظر فيه ، فلما نظر فيه وتصفحه ورقة ورقة ، قال :هذا صحيح ينبغي أن يُعمَل به »(٢) .

وذكر الكشي أن الفضل بن شاذان عرض كتابه على الإمام العسكريعليه‌السلام ، فتناوله منه ونظر فيه ، فترحّم عليه وقال :« أغبط أهل خراسان لمكان الفضل ابن شاذان ، وكونه بين أظهرهم » (٣) .

وعن الحسين بن روحرضي‌الله‌عنه : أن أبا محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما ، قد سئل عن كتب بني فضّال : فقالوا : كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملأىٰ ؟ فقال صلوات الله عليه :« خذوا بما رووا ، وذروا ما رأوا » (٤) .

المبحث الثالث : هداية الخلق إلى الخالق

وهذا عطاء فكري آخر ، لكنّه يدخل في إطار التأثّر بالسيرة العملية للإمام العسكريعليه‌السلام ، المتمثلة بسموّ الاخلاق وحسن السمت والهدي والصلاح ، ممّا له الأثر في هداية واستبصار المترددين والمخالفين ، وإخراجهم من ظلمات الجهل

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤٤٧ / ١٢٠٨ ترجمة يونس بن عبد الرحمن.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٨١٧ / ١٠٢٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٠ / ٣٣٣٢١.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٨٢٠ / ١٠٢٧ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠١ / ٣٣٣٢٢.

(٤) غيبة الشيخ الطوسي : ٣٩٠ / ٣٥٥.

١٨٦

والضلال إلى نور العلم وصراط الهداية. فقد جاء في الأخبار أن أبا العلاء صاعد ابن مَخْلَد النصراني(١) ، وزير المعتمد ، أسلم على يد الإمام العسكريعليه‌السلام بعد أن رأى دلالاته وهديه ومكارمه(٢) .

كما أسلم على يده راهب دير العاقول ، فقد ورد أنّ الإمام العسكريعليه‌السلام أراد مرةً أن يفتصد ، فبعث إلى بختيشوع الطبيب طالباً أن يرسل إليه أخصّ أصحابه عنده ليفصده ، فبعث إليه أعلم تلامذته ، وقال له : « قد طلب مني ابن الرضا من يفصده ، فصر إليه وهو أعلم في يومنا هذا بمن هو تحت السماء ، فاحذر أن لا تعترض عليه فيما يأمرك به » فوصف له الإمامعليه‌السلام طريقة في الفصد لم يألفها في الطب ، ففصده وقدّم له تخت ثياب وخمسين ديناراً ، وقالعليه‌السلام :« خذ هذا واعذرنا وانصرف » فتحيّر الطالب واستاذه بختيشوع في معرفة ما وصفه الإمامعليه‌السلام في الفصد ، فبعث بخيتشوع تلميذه ومعه كتاب إلى راهب دير العاقول ، وكان أعلم النصارى في الطب ، في ذلك الوقت ، فلما قرأ الكتاب طلب منه أن يوافي معه إلى سامراء ، فوصلوا إلى دار الإمامعليه‌السلام وقد بقي من اليل ثلثه ، ومكث عندهعليه‌السلام إلى الصباح ، ثم خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية ، ولبس ثياباً بيضاً وقد أسلم ، فقال : « خذ بي الآن إلى دار اُستاذك ، قال : فصرنا إلى دار بختيشوع ، فلما رآه بادر يعدو إليه ، ثم قال : ما الذي أزالك عن دينك ؟

__________________

(١) قال الذهبي في ترجمته : الوزير الكبير ، أبو العلاء الكاتب ، أسلم ، وكتب للموفق ، ثم وزر للمعتمد ، وهو من نصارى كسكر ، وله صدقات وبرّ وقيام ليل ، توفي سنة ٢٧٦ ه‍. سير أعلام النبلاء ١٣ : ٣٢٦ / ١٤٩.

(٢) بحار الأنوار ٥٠ : ٢٨١ / ٥٧ عن فرج المهموم لابن طاوس.

١٨٧

قال : وجدت المسيح فاسلمت على يده. قال : وجدت المسيح ؟! قال : أو نظيره ، فإنّ هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلا المسيح ، وهذا نظيره في آياته وبراهينه ، ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات »(١) .

وذكرنا في الفصل الثاني أن الإمام العسكريعليه‌السلام حبس أكثر من مرّة ، ونقلت لنا الأخبار كيف كان تأثيره في محيط السجن بحيث انقلب المتصدّون لسجنه من بغضه والحقد عليه إلى حبّه والإخلاص له ، ذلك لأن الانسان في السجن يعيش حالة نفسية صعبة ، لكنهم وجدوهعليه‌السلام في أعلى درجات الارتباط بالله سبحانه وفي أعمق مواقع الاخلاص له تعالى.

روى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن محمد بن إسماعيل العلوي ، قال : « حُبس أبو محمدعليه‌السلام عند علي بن نارمش ، وهو أنصب الناس ، وأشدّهم على آل أبي طالب ، وقيل له : افعل به وفعل ، فما أقام عنده الا يوماً حتى وضع خدّيه له ، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً ، فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرةً وأحسنهم فيه قولاً »(٢) .

وهكذا يستسلم السجّان للسجين الذي لا يملك حولاً ولا قوة غير تأثيره الروحي ، فيضع خديه له متذللاً خاضعاً ، ولا يرفع بصره إجلالاً وهيبة ، لأنّه استطاع أن يقلب تفكيره ووجدانه وسلوكه ، فتحول من عدو شديد العداوة إلى صديق شديد الصداقة ، بل تحول إلى داعية إلى الإمامعليه‌السلام .

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٤٢٢ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٦٠ / ٢١.

(٢) أصول الكافي ١ : ٥٠٨ / ٨ ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجة.

١٨٨

وفي رواية بهذا الاتجاه عن علي بن عبد الغفّار ، قال : « دخل العباسيون على صالح بن وصيف ، عندما حبس أبا محمدعليه‌السلام ، فقالوا له : ضيّق عليه ولا توسّع. فقال لهم صالح : وما أصنع به ؟! قد وكلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه ، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم ، ثمّ أمر باحضار الموكلين فقال لهما : ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ فقالا له : ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا ، وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا ، فلمّا سمع العباسيون ذلك انصرفوا خاسئين »(١) .

إذن فالإمامعليه‌السلام استطاع أن يؤثر فيهما بقوة شخصيته الرحبة ، وبالجو الروحاني الذي لم يجدا مثله ، الأمر الذي جعل صالح بن وصيف المتولي لسجن الإمام قد أعيته الحيل والوسائل كلّها في التأثير على الإمامعليه‌السلام .

وامتدت آثار الإمام الروحية إلى قاعدة واسعة من الناس ، بما فيهم عوائل المتولين للسجن ، فقد روي الشيخ الكليني بالاسناد عن علي بن محمد ، عن بعض أصحابنا ، قال : « سُلّم أبو محمدعليه‌السلام إلى نحرير ، فكان يضيق عليه ويؤذيه ، قال : فقالت له امرأته ، ويلك اتق الله ، لا تدري من في منزلك ؟ وعرّفته صلاحه وقالت : إني أخاف عليك منه »(٢) .

هذه هي بعض آثار الإمام العسكريعليه‌السلام في مخالفيه ، فعلينا أن ننفتح عليها لنزداد هدياً من هديه ، وعلماً من علمه ، ووعياً ممّا يعطينا من عناصر الوعي.

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٥١٢ / ٢٣ ـ من نفس الباب المتقدم ، الإرشاد ٢ : ٣٣٤.

(٢) أصول الكافي ١ : ٥١٣ / ٢٦ ـ من نفس باب المتقدم.

١٨٩
١٩٠

الفصل السابع

شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام

الإمام العسكري عليه‌السلام ينعى نفسه

ذكرنا أن الإمام العسكريعليه‌السلام كان بصدد تهيئة شيعته لعصر الغيبة ، وكان من جملة أفعاله في هذا الاتجاه أنه نعى نفسه المقدسة لأصحابه في أكثر من مناسبة ، وكتب كتباً لهم قبل ليلة من وفاته ، كي لايفجأهم الأمر ولا يهولهم الاختلاف الحاصل بسبب الانتقال من الإمامة الظاهرة إلى عصر الإمامة الغائبة.

فقد ورد عن المسعودي : « أنه أمر أبو محمدعليه‌السلام والدته بالحج في سنة ٢٥٩ ، وعرّفها ما يناله في سنة (٢٦٠) ، وأحضر الصاحبعليه‌السلام فأوصى إليه ، وسلّم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه ، وخرجت اُمّ أبي محمد مع الصاحبعليه‌السلام جميعاً إلى مكة ، وقبضعليه‌السلام في شهر ربيع الآخر سنة ٢٦٠ ه‍ »(١) .

وعن محمد بن أبي الزعفران ، عن اُمّ أبي محمدعليه‌السلام قالت : « قال لي أبو محمد يوماً من الأيام :تصيبني في سنة ستين حزازة أخاف أن أنكب فيها نكبة ،

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٦ / ١٣ عن عيون المعجزات مسنداً عن أحمد بن إسحاق بن مصقلة.

١٩١

فإنّ سلمت فالى سنة سبعين ، قالت : فأظهرت الجزع وبكيت ، فقال :لابد لي من وقوع أمر الله فلا تجزعي »(١) .

وعن أبي غانم ، قال : « سمعت أبا محمد الحسن بن عليعليه‌السلام يقول :في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي . فيها قبض أبو محمد وتفرقت الشيعة وأنصاره »(٢) .

وقال الشيخ الصدوق : « وجدت مثبتاً في بعض الكتب المصنفة في التواريخ ولم أسمعه إلا عن محمد بن الحسين بن عباد أنه قال : مات أبو محمد الحسن بن عليعليه‌السلام يوم جمعة مع صلاة الغداة ، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة ، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة ، ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية ، وعقيد الخادم ومن علم الله عزوجل غيرهما »(٣) .

تاريخ شهادته عليه‌السلام

قال الشيخ المفيد : مرض أبو محمد الحسنعليه‌السلام في أول شهر ربيع الأول سنة ٢٦٠ ه‍ ، ومات يوم الجمعة لثمان خلون من هذا الشهر في السنة المذكورة(٤) . وقد اتفق المؤرخون على أنّ شهادة الإمام العسكريعليه‌السلام كانت في سنة ٢٦٠ ه‍(٥) ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٠ ، عن بصائر الدرجات : ٤٨٢.

(٢) إكمال الدين : ٤٠٨ / ٦ باب ٣٨.

(٣) إكمال الدين : ٤٧٣ / ٢٥ ـ باب ٤٣ ذكر من شاهد القائمعليه‌السلام ورآه وكلمه.

(٤) الإرشاد ٢ : ٣٣٦.

(٥) راجع : مروج الذهب ٤ : ٤٤٢ ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٤٩ ، تذكرة الخواص :

١٩٢

وذلك بعد مضي نحو أربع سنوات من خلافة المعتمد ، وأنه دفن إلى جنب أبيهعليه‌السلام في داره بسرّ من رأى ، غير أنّهم اختلفوا في اليوم والشهر الذي استشهد فيه على عدة أقوال :

١ ـ يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول ، وهو القول المشهور(١) .

٢ ـ يوم الأحد الثامن من ربيع الأول(٢) .

٣ ـ اليوم الأول من ربيع الأول(٣) .

__________________

٣٢٤ ، مرآة الجنان / اليافعي ٢ : ١٧٢ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، شذرات الذهب / ابن العماد ٢ : ١٤١ ، المنتظم / ابن الجوزي ١٢ : ١٥٨ ـ دار الكتب العلمية ، الانساب / السمعاني ٤ : ١٩٤.

(١) راجع : أصول الكافي ١ : ٥٠٣ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام الإرشاد ٢ : ٣١٣ و ٣٣٦ ، التهذيب٦ : ٩٢ ـ كتاب المزار ـ باب ٤٢ ، دلائل الإمامة : ٤٢٤ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٥ ، روضة الواعظين : ٢٥١ ، تاريخ بغداد ٧ : ٢٦٦ وزاد : وقيل يوم الاربعاء ، الفصول المهمة ٢ : ١٠٨٩ ، مرآة الجنان ٢ : ١٧٢ على أحد قوليه ، مصباح الكفعمي : ٥١٠ على أحد قوليه ، التتمة في تواريخ الأئمةعليهم‌السلام : ١٤٤ ، إعلام الورى ٢ : ١٣١ و ١٥١ ، الأئمة الاثنا عشر لابن طولون : ١١٣ وزاد : أو يوم الاربعاء ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٥ / ٨ و ١٠ ، ٣٣٦ / ٧ عن كشف الغمة ٣ : ٢٧٢.

(٢) الدروس / للشهيد الأول : ١٥٤ ـ نشر صادقي ـ قم ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٥ / ٩ عنه.

(٣) مصباح المجتهد / الشيخ الطوسي : ٧٩١ ، توضيح المقاصد / بهاء الدين العاملي : ٥١٩ ضمن مجموعة نفيسة ـ بصيرتي ـ قم ، مصباح الكفعمي : ٥١٠ على أحد قوليه ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٥ / ١٢ عنه.

١٩٣

٤ ـ يوم الجمعة السادس من ربيع الأول(١) .

٥ ـ في ربيع الآخر(٢) .

٦ ـ في الثامن من جمادي الاولى(٣) .

مقدار عمره عليه‌السلام

استشهد الإمام العسكريعليه‌السلام وهو في شرخ الشباب ، حيث كان له من العمر يوم شهادته ٢٨ عاماً(٤) ، وقيل : ٢٩ عاماً(٥) ، بحسب الاختلاف الذي مضى في تاريخ ولادتهعليه‌السلام .

سبب شهادته عليه‌السلام

إن دراسة الأخبار الواصلة إلينا عن المدّة القصيرة من إمامة الإمام العسكريعليه‌السلام ( ٢٥٤ ـ ٢٦٠ ه‍ ) تقودنا إلى الاعتقاد بأن السلطة العباسية كانت منذ زمن المعتز ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ه‍ ) بصدد الفتك بالإمام قبل أن يُولَد له ، ذلك لأنّها تعتقد أن المولود له هو المهدي الموعود خاتم أئمة الحق الاثني عشر الذي يقصم

__________________

(١) مرآة الجنان ٢ : ١٧٢على أحد قوليه.

(٢) إثبات الوصية / المسعودي : ٢٥٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٦ / ١٣ عن عيون المعجزات ، المنتظم ١٢ : ١٥٨.

(٣) وفيات الأعيان ٢ : ٩٤ ، الأئمة الاثنا عشر لابن طولون : ١١٣.

(٤) أصول الكافي ١ : ٥٠٣ ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام الإرشاد ٢ : ٣١٣ ، روضة الواعظين : ٢٥١ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٦ ـ القاهرة ، الفصول المهمة ٢ : ١٠٩٠ ، إعلام الورى ٢ : ١٣١.

(٥) مروج الذهب ٤ : ٤٤٢ ، دلائل الإمامة : ٤٢٣ ، إثبات الوصية : ٢٥٦ ، تذكرة الخواص : ٣٢٤ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٣٦ / ٧ عن كشف الغمة ٣ : ٢٧٢.

١٩٤

الجبارين ، ويبدد دول الظالمين ، ويرسي دعائم دولة الحق ، وينشر العدل والقسط ، وقد حاول المعتز تنفيذ تلك السياسة ، حيث أمر سعيد بن صالح الحاجب أن يحمل الإمام العسكريعليه‌السلام إلى الكوفة ويضرب عنقه في الطريق ، فاجتهد الإمامعليه‌السلام بالدعاء عليه ، فقتل قبل أن ينفذ عزمه(١) .

وروى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، قال : « خرج عن أبي محمدعليه‌السلام حين قتل الزبيري :هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه ، يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب ، فكيف رأى قدرة الله فيه ؟ وولد له ولد سماه محمداً »(٢) .

وحاول المهتدي العباسي ( ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ه‍ ) تنفيذ هذه السياسة ، فهدّد الإمامعليه‌السلام بالقتل قائلاً : « والله لأجلينهم عن جديد الأرض » غير أنه قتل قبل تنفيذ هذا الغرض(٣) .

ولم يخرج المعتمد ( ٢٥٦ ـ ٢٧٩ ه‍ ) عن هذا الإطار ، فتعرض الإمام العسكريعليه‌السلام في زمانه لشتّىٰ أنواع التحديات والضغوط ، وحاول قتل الإمامعليه‌السلام لنفس السبب الذي قدّمناه ، وهو الاطمئنان لانقطاع الإمامة دون

__________________

(١) راجع : المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٤ ، غيبة الطوسي : ٢٠٨ / ١٧٧ ، الخرائج والجرائح ١ : ٤٥١ / ٣٦ ، دلائل الإمامة : ٤٢٧ / ٣٩١.

(٢) أصول الكافي ١ : ٣٢٩ / ٥ باب الاشارة والنص إلى صاحب الدار ، إكمال الدين : ٤٣٠ / ٣ باب ٤٢.

(٣) أصول الكافي ١ : ٥١٠ / ١٦ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليعليه‌السلام ، الإرشاد ٢ : ٣٣٣ ، وراجع : إثبات الوصية : ٢٤٥ ، مهج الدعوات : ٣٤٣ ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٣ ، غيبة الطوسي : ١٧٣ / ٢٠٥ و ٢٣٣ / ١٨٧.

١٩٥

نسل ، على الرغم من حدوث الولادة في زمان المعتمد ، لأن الدولة على المستوى الرسمي لم تكن مطلعة عليها ، بسبب اجراءات الإمامعليه‌السلام القائمة على أساس الكتمان والسرية في هذا الأمر ، وأبى الله سبحانه إلا أن يتمّ نوره ، فأخفى وليه الذي ينتظره العالم كلّه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

روى الشيخ الصدوق بالاسناد عن سعد بن عبد الله ، قال : حدثني موسى ابن جعفر بن وهب البغدادي ، أنه خرج من أبي محمدعليه‌السلام توقيع :« زعموا أنّهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل ، وقد كذب الله عزوجل قولهم والحمدلله » (١) وتكذيب قولهم كان بحدوث الولادة المباركة وحفظه مع أبيهعليهما‌السلام من تحديات السلطة.

ومما تقدم يتبين أن واقع الحال يشير إلى أن المعتمد متّهم بقتل الإمامعليه‌السلام ، فضلاً عن أنه ورد التصريح بموت الإمامعليه‌السلام مسموماً عن كثير من محدثي الشيعة وغيرهم.

قال أمين الاسلام الطبرسي : « ذهب كثير من أصحابنا إلى أنهعليه‌السلام مضى مسموماً ، وكذلك أبوه وجده وجميع الأئمةعليهم‌السلام خرجوا من الدنيا بالشهادة ، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادقعليه‌السلام من قوله :ما منا إلا مقتول شهيد. والله أعلم بحقيقة ذلك »(٢) .

__________________

(١) إكمال الدين : ٤٠٧ / ٣ باب ٣٨.

(٢) إعلام الورى ٢ : ١٣١ ، وورد التصريح بموت الإمام العسكريعليه‌السلام مسموماً في عدة مصادر اُخرى ، منها : الفصول المهمة ٢ : ١٠٩٣ ، مصباح الكفعمي : ٥١٠ وقال : سمه المعتمد ، دلائل الإمامة : ٤٢٤ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٦ ، بحار

١٩٦

بناءً على ذلك فإنّ جميع الأئمةعليهم‌السلام خرجوا من الدنيا بالقتل ، وليس فيهم من يموت حتف أنفه ، وقاتلهم دائماً هو الحاكم الذي يحذر نشاطهم ويتوجس منهم خيفة ، لأنهم يمثلون جبهة المعارضة ضد الانحراف الذي يمثله الحاكم(١) .

وصرّح بعض أعلام الشيعة في أرجازهم بموت الإمامعليه‌السلام مسموماً من قبل المعتمد ، مؤكدين على ما يقوّي هذا الاحتمال وهو كون الإمامعليه‌السلام في سن الشباب ، وأوج الصحة والقوة والعنفوان.

قال الحرّ العاملي في ارجوزته :

قتله بسمّه المعتمد

بقوّة يرقّ منها الجلمد

وعمره تسع وعشرون وقد

قيل ثمان بعد عشرين فُقِد

وعاش من بعد أبيه خمسا

وقيل ستاً ثمّ حلّ الرمسا(٢)

وقال الشيخ محمد حسين الاصفهاني :

حتى قضىٰ العمر بما يقاسي

فسمّه المعتمد العباسي

قضى على شبابه مسموما

مضطهداً محتسباً مظلوما

فناحت الحور على شبابه

وصبّت الدموع في مصابه

__________________

الأنوار ٥٠ : ٣٣٥ / ١٢ ، إحقاق الحق ١٢ : ٤٧٤ عن ينابيع المودة ٣ : ١١٣ ، و ١٢ : ٤٧٥ عن أئمة الهدى ص ١٣٨ تأليف : محمد عبد الغفار الهاشمي الحنفي ، وقال فيه : دسّ له المعتمد العباسي سماً ، فتوفّي منه.

(١) راجع بحثاً مفصلاً حول هذا الموضوع في تاريخ الغيبة الصغرى / للسيد محمد صادق الصدر : ٢٢٩.

(٢) إحقاق الحق ١٢ : ٤٦٢ ، عن نزهة الجليس للسيد عباس المكي ٢ : ١٢١.

١٩٧

وانصدت لرزئه الجبال

كأنه الساعة والأهوال(١)

تصرف السلطة

ورد في حديث طويل عن أحد أقطاب السلطة ما يبين موقف السلطة قبل شهادة الإمامعليه‌السلام وبعدها ، ويستعرض موقف جعفر بن علي أخي الإمامعليه‌السلام الذي كان يتربّص الفرصة لاحتلال موقع الإمامة كذباً وبهتاناً على الله سبحانه ، والحديث بمجموعه يشير إلى تأكيد تهمة السلطة بدم الإمامعليه‌السلام .

قال أحمد بن عبيد الله بن خاقان في مجلس له بتاريخ شعبان سنة ٢٧٨ ، يصف موقف جعفر بعد وفاة أخيه الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، قال : « والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليعليه‌السلام ما تعجبت منه ، وما ظننت أنه يكون ، وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتلّ ، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة ، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته ، فمنهم نحرير ، وأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليعليه‌السلام وتعرّف خبره وحاله ، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً ، فلما كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنه قد ضعف ، فركب حتى بكّر إليه ، ثم أمر المتطببين بلزومه ، وبعث إلى القضاء فأحضره مجلسه ، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه ، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسنعليه‌السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى توفيعليه‌السلام لأيام مضت من شهر ربيع

__________________

(١) الأنوار القدسية / الشيخ محمد حسين الاصفهاني : ١٠٩ ـ مؤسسة الوفاء ـ بيروت.

١٩٨

الأول من سنة ستين ومائتين ، فصارت سرّ من رأى ضجّة واحدة : مات ابن الرضا.

وبعث السلطان إلى داره من يفتشها ويفتش حجرها ، وختم على جميع ما فيها ، وطلبوا أثر ولده ، وجاءوا بنساء يعرفن بالحبل ، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ ، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل ، فأمر بها فجعلت في حجرة ، ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم ، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته ، وعطّلت الأسواق ، وركب أبي وبنوهاشم والقواد والكتاب وسائر الناس إلى جنازتهعليه‌السلام ، فكانت سر من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة.

فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها ، فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء والمعدّلين ، وقال : هذا الحسن بن علي بن محمد ، ابن الرضا ، مات حتف أنفه على فراشه ، حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ثمّ غطّى وجهه وقام فصلّى عليه وكبّر عليه خمساً ، وأمر بحمله فحمل من وسط داره ، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوهعليه‌السلام .

فلما دفن وتفرق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده ، وكثر التفتيش في المنازل والدور ، وتوقّفوا على قسمة ميراثه ، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين بطلان الحبل ، فقسم ميراثه بين اُمه وأخيه جعفر ، وادعت اُمّه وصيته ، وثبت ذلك عند

١٩٩

القاضي والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده »(١) .

فهذا الخبر يدلّ على أن المعتمد لم يكن بريئاً من دم الإمامعليه‌السلام ، لذلك أراد من خلال تلك الاجراءات المذكورة في الخبر أن يدفع التهمة عن نفسه ويبقي ثوبه نقياً منها على المستوى العام الذي يشير إليه باصبع الاتهام ، وذلك بادعاء موتهعليه‌السلام حتف أنفه مع الاشهاد على ذلك ، ولو لم يكن ضالعاً في تلك الجريمة النكراء ، لما طلب من أول وفد أرسله إلى دار الإمام بملازمته وتعرف خبره وحاله ، لأنّه في ذلك يجزم بموت الإمامعليه‌السلام ولا يبدي أدنى احتمالٍ في شفائه ، سيما وأنه شاب قوي البنية لا تؤثر في مثله الأمراض عادة ، كما أنه عيّن جماعة يترقّبون موته لكشف السرّ الذي لا زال يحتفظ به الإمامعليه‌السلام منذ خمسة أعوام ، وهو المهديعليه‌السلام الذي أخفى مولده وستر أمره ، لصعوبة الوقت وشدة طلب السلطان له واجتهاده في البحث عنه ، من هنا فقد أمر السلطان قبل كلّ شيء أن تُفتَشْ داره ويختم على محتوياتها ، وأن يُطلَب أثر الولد ، وحينما تعييهم الوسائل يقبضون على اُمّ الإمام المهديعليه‌السلام ( صقيل ) ولم تنج من قبضتهم إلا بعد سنتين أو أكثر لجملة أحداث شغلتهم عنها.

روى الشيخ الصدوق والطبري الامامي عن محمد بن الحسين بن عباد ، قال : « قدمت اُم أبي محمدعليه‌السلام من المدينة واسمها ( حديث ) حين اتصل بها الخبر إلى سرّ من رأى ، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته إياها بميراثه وسعايته إلى السلطان وكشفه ما أمر الله عزوجلّ بستره ، فادّعت عند ذلك صقيل أنها حامل ، فحملت إلى دار المعتمد ، فجعل نساء المعتمد وخدمه

__________________

(١) إكمال الدين ـ المقدمة : ٤٢ ـ ٤٣.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209