الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ27%

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام بن الحسن بن علي العسكري عليه السلام
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: 209

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 209 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92989 / تحميل: 5411
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: ٩٦٤-٨٦٢٩-١٠-٢
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وطالمـا عمّروا دوراً لتـحصنهم

ففارقوا الـدور والأهلين وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادّخروا

فخلّفوها على الأعداء وارتحـلوا

أضحـت منازلـهم قفراً معطّلـة

وساكنوها إلى الأجداث قد نزلـوا

     

قال : فأشفق كلّ من حضر على عليّ ، وظن أن بادرة تبدر منه إليه ، قال : والله لقد بكى المتوكل بكاءً طويلاً حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكي من حضره ، ثمّ أمر برفع الشراب ، ثم قال له : يا أبا الحسن ، أعليك دين ؟ قال :نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه وردهّ إلى منزله من ساعته مكرماً »(١) .

٢ ـ هدم قبر الإمام الحسين عليه‌السلام :

والاجراء التعسفي الآخر الذي أقدم عليه المتوكل ، فسوّد به وجه التاريخ الانساني ، هو أنه أمر في سنة ٢٣٦ ه‍ بهدم قبر الإمام السبط الشهيد الحسينعليه‌السلام ، وقد بعث رجلاً من أصحابه يقال له الديزج ، وكان يهودياً فأسلم ، إلى قبر الحسينعليه‌السلام ، وأمره بكرب القبر ومحوه وإخراب كلّ ما حوله ، فمضى لذلك وخرّب ما حوله ، وهدم البناء ، وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ،

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، وراجع أيضاً : تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢ ـ مؤسسة أهل البيت ـ بيروت ـ ١٤٠١ ه‍ ، البداية والنهاية ١١ : ١٥ ، وفيات الأعيان / لابن خلكان ٣ : ٢٧٢ ـ منشورات الرضي ـ قم ، الأئمة الاثنا عشرعليهم‌السلام لابن طولون : ١٠٧ ـ منشورات الرضي ـ قم.

٦١

ثم أمر أن يبذر ويزرع ، ووكلّ به مسالح بين كلّ مسلحتين ميل ، فلا يزوره زائر إلا أخذوه ووجّهوا به إليه ، فقُتِل عدد كبير من زواره أو اُنهكوا عقوبة ، ونودي بالناس في تلك الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام حبسناه في المطبق(١) .

وجاء في بعض الأخبار : « أنه لما صار الماء فوق مكان القبر وقف وافترق فرقتين ، يميناً وشمالاً ، ودار حتى التقى تحت المكان ، وبقي الوسط خالياً من الماء ، والماء مستدير حوله ، فسمّي من ذلك اليوم بالحائر »(٢) .

وتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، ومنهم دعبل بن علي الخزاعي ( ت ٢٤٦ ) والبسّامي(٣) الذي يقول :

تالله إن كان اُمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتى بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبرة مهدوما

__________________

(١) راجع : مقاتل الطالبيين : ٣٩٥ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٠٨ ، تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٦ ـ المطبعة الحيدرية ـ النجف ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٥ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٦٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ : ٤٠٣ ، التتمة في التواريخ الأئمةعليهم‌السلام / للسيد تاج الدين العاملي : ١٣٧.

(٣) هو أبو الحسن ، علي بن محمد بن نصر بن منصور ابن بسّام ، المعروف بالبساّمي ، أو ابن بسّام ، الشاعر المشهور في زمن المقتدر العباسي ، وقد هجا الخلفاء والوزراء ، توفي سنة ٣٠٢ ه‍. سير أعلام النبلاء ١٤ : ١١٢ / ٥٦.

٦٢

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميمـا(١)

ولم يكتف المتوكل بالاعتداء على المكان المقدس الذي شهد ملحمة البطولة بين معسكر الحق بقيادة سيد الشهداءعليه‌السلام ومعسكر الباطل بقيادة يزيد ابن معاوية ، بل اعتدى على الزمان الذي بقي رمزاً يختزن الشجاعة والتحدّي للظلم والطغيان على مرّ الدهور ، فجعل المتوكل العاشر من المحرم الحرام سنة ٢٥٦ ه‍ يوماً لافتتاح مدينته التي بناها بالماحوزة ، ونزوله في قصر الخلافة فيها الذي سماه اللؤلؤة ، وكان يوماً مشهوداً يعجّ بأصحاب الملاهي والمطربين ، فاعطى فيه وأطلق ، وقيل : إنّه وهب فيه أكثر من ألفي ألف درهم(٢) .

٣ ـ حصار آل أبي طالب وملاحقتهم :

ذكرنا في الفصل الأول أن المتوكل فرض حصاراً ظالماً على آل أبي طالب حتى أن الوالي الذي استعمله على مكة والمدينة ـ وهو عمر بن الفرج الرخّجي ـ قد منعهم من الإتّصال والارتباط بالناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وبلغ في هذا الاتجاه مبلغاً لم يبلغه أحد ممن سبقه(٣) .

قال أبو الفرج الأصفهاني : كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً على جماعتهم ، مهتمّاً بأمورهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم ، واتّفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره كان يسيء الرأي فيهم ، فحسّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحدٌ من خلفاء بني

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٥ ، تاريخ الخلفاء / للسيوطي : ٢٦٩.

(٢) راجع : البداية والنهاية ١٠ : ٣٤٧ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٣٠.

(٣) راجع : مقاتل الطابيين : ٣٦٩.

٦٣

العباس القبله(١) .

وتعرض آل أبي طالب بشكل عام والعلويون بشكل خاص لصنوف الأذى والقسوة في زمان المتوكل ، فتفرق رجالهم في النواحي ، واختفى بعض كبارهم ، وتعرض بعضهم للمطاردة والابعاد أو الاعتقال ، أو التصفية الجسدية بدسّ السمّ وهم سجناء ، وأُجْبِرَ آخرون على ارتداء السواد الذي يمثّل شعار الدولة العباسية.

وممن قُتِل في زمان المتوكل القاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ، وكان رجلاً فاضلاً ، وقد حمله عمر بن الفرج الرخّجي إلى سرّ من رأى ، فأمروه بلبس السواد فامتنع ، فلم يزالوا به حتى لبس شيئاً يشبه السواد فرضي منه بذلك.

وروى أبو الفرج الأصفهاني عن أحمد بن سعيد ، عن يحيى بن الحسن عن ذوب مولاة زينب بنت عبد الله بن الحسين قالت : « اعتلّ مولاي القاسم بن عبد الله ، فوجّه إليه بطبيب يسأله عن خبره ، وجهه إليه السلطان ، فجسّ يده ، فحين وضع الطبيب يده عليها يبست من غير علّة ، وجعل وجعها يزيد عليه حتّى قتله ، قالت : سمعت أهله يقولون : أنه دسّ إليه السمّ مع الطبيب »(٢) .

وتوارى أحمد بن عيسىٰ بن زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام مدةً طويلة حتى توفي سنة ٢٤٧ ه‍ ، وكان فاضلاً عالماً مقدماً في أهله ، معروفاً فضله ، وقد كَتَب الحديث وعمّر ، وكُتِب عنه ، وروى عنه الحسين بن علوان روايات كثيرة ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٠٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٠٧.

٦٤

وروى عنه محمد بن المنصور الراوي ونظراؤه.

وتوارى أيضاً عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليعليه‌السلام منذُ أيام المأمون ومات في أيام المتوكل(١) .

وروى أبو الفرج الاصفهاني بالأسناد عن محمد بن سليمان الزينبي قال : « نُعي عبد الله بن موسى إلى المتوكل صبح أربع عشرة ليلة من يوم مات ، ونُعي له أحمد ابن عيسىٰ فاغتبط بوفاتهما وسُرّ ، وكان يخافهما خوفاً شديداً ، ويحذر حركتهما لما يعلم من فضلهما واستنصار الشيعة الزيدية بهما وطاعتهما لهما لو أرادوا الخروج عليه ، فلما ماتا أمن واطمأنّ ، فما لبث بعدهما إلا اُسبوعاً حتّى قُتِل »(٢) .

٤ ـ ملاحقة الشيعة وقتلهم :

أمنعت أجهزة المتوكل بمراقبة شيعة الإمام ومواليه ، فسامهم قتلاً واعتقالاً وافقاراً ، فأمروا ببعضهم أن يُلقى من جبل عالٍ بتهمة موالاة الإمامعليه‌السلام (٣) ، وقطع المتوكل ارزاق بعضهم لملازمة الإمام أبي الحسن الهاديعليه‌السلام (٤) ، وحبس علي بن جعفر ـ وَكيل الإمام الهاديعليه‌السلام وهو من أهل همينيا ـ لمدة طويلة وتحت ظروف قاسية(٥) .

وفي كلّ ذلك يتوجه الأصحاب إلى إمامهمعليه‌السلام فيعينهم بالدعاء. عن

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٠٨.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١٧.

(٣) الثاقب في المناقب : ٥٤٣ ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٤٨.

(٤) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٤٢ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٢٧ / ٥.

(٥) رجال الكشي : ٢ : ٨٦٦ / ١١٢٩ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٨٣ / ٥٨.

٦٥

عبدالله بن سليمان الخلال ، قال : « كتبت إليهعليه‌السلام أسأله الدعاء أن يفرّج الله عنّا في أسباب من قبل السلطان إلى أن قال : فرجع الجواب بالدعاء »(١) .

قتل إمام العربية يعقوب بن السكّيت

روى المؤرخون أنه في سنة ٢٤٤ ه‍ قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية ، فإنّه ندبه إلى تعليم أولاده ، فنظر المتوكل يوماً إلى ولديه المعتز والمؤيد ، فقال لابن السكيت : من أحبّ إليك : هما أو الحسن والحسين ؟ فقال : قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى ماترحمه‌الله وقيل : أمر بسلّ لسانه من قفاه فمات ، وارسل إلى ابنه بديته(٢) .

دعاء المظلوم علي الظالم

بقي المتوكل يتوجّس خيفة من نشاط الإمامعليه‌السلام الذي لم تتضح له كامل أبعاده ، ففرض عليه ملازمة داره ومنعه من الركوب إلى أي مكان(٣) ، ومن ثمّ أمر باعتقاله ، فبقي رهن الاعتقال عند علي بن كركر(٤) ، وقبل مقتل المتوكل بأيام أمره أن يترجّل ويمشي بين يديه يوم الفطر ، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ ، فمشىعليه‌السلام مع بني هاشم حتى تفصّد عرقاً ، وكانعليه‌السلام لا يستطيع السير إلا متكأً لمرض ألمّ به ، فما كان من الإمامعليه‌السلام إلا أن يتوجه إلى الله سبحانه بدعاءٍ طويل

__________________

(١) الكامل في المناقب : ٥٤٨ / ٤٩٠.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٣٣ ، تاريخ الخلفاء : ٢٦٩ ، تاريخ ابن الوردي ١ : ٣١٣.

(٣) راجع : الخرائج والجرائح ١ : ٣٩٦ / ٣ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٤٤ / ٢٨.

(٤) راجع : المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٣٩ ، الثاقب في المناقب : ٥٣٦ ، إعلام الورى ٢ : ١٢٣.

٦٦

يكشف عمّا يعانيهعليه‌السلام وشيعته من ظلم المتوكل وعدوانه وطغيانه ، وعن إحساسهعليه‌السلام العميق بمعاناة الأمة من الحيرة والضياع والحدود المعطلة والأحكام المهملة وغيرها من مظاهر التردّي.

روى المسعودي « أنه لما كان يوم الفطر في السنة التي قُتل فيها المتوكل ، أمر بني هاشم بالترجّل والمشي بين يديه ، وإنّما أراد بذلك أن يترجّل له أبو الحسنعليه‌السلام ، فترجّل بنو هاشم وترجّل فاتكأ على رجلٍ من مواليه ، فاقبل عليه الهاشميون ، فقالوا له : يا سيدنا ، ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه فيكفينا الله ! فقال لهم أبو الحسنعليه‌السلام :في هذا العالم من قلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود ، لما عقرت وضج الفصيل إلى الله ، فقال الله :( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (١) ، فقتل المتوكل في اليوم الثالث. وروى أنهعليه‌السلام قال وقد أجهده المشي :أما إنه قد قطع رحمي ، قطع الله أجله »(٢) ، وهذا يوافق ما جاء في التاريخ ، فقد قتل المتوكل في الرابع من شوال سنة ٢٤٧ ه‍.

وجاء الخبر الذي رواه المسعودي مفصلاً في رواية قطب الدين الراوندي ، والسيد ابن طاوس الذي رواه في أكثر من طريق ، وتضمّن الدعاء الطويل الذي سمّاه الإمامعليه‌السلام ( دعاء المظلوم على الظالم ) قالعليه‌السلام :« لمّا بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوزٍ نتوارثها من آبائنا ، وهي أعزّ من الحصون والسلاح والجنن ، وهو دعاء المظلوم على الظالم ، فدعوت به عليه فأهلكه الله » .

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٦٥.

(٢) إثبات الوصية : ٢٤٠.

٦٧

وفيما يلي مقطع منه يعكس لك شدة معاناة الإمامعليه‌السلام : « اللّهم إنّه قد كان في سابق علمك وقضائك ، وماضي حكمك ونافذ مشيئتك في خلقك أجمعين ، سعيدهم وشقيهم ، وفاجرهم وبرّهم ، أن جعلت لفلان بن فلان عليَّ قدرة فظلمني بها ، وبغى عليَّ لمكانها ، وتعزّز عليّ بسلطانه ، وتجبّر عليّ بعلوّ حاله ، وغرّه إملاؤك له ، وأطغاه حلمك عنه ، فقصدني بمكروهٍ عجزتُ عن الصبر عليه ، وتعمدني بشرّ ضعفت على احتماله ، ولم أقدر على الانتصار لضعفي ، والانتصاف منه لذلّي ، فوكلته إليك ، وتوكّلت في أمره عليك ، وتواعدته بعقوبتك ، وحذرته سطوتك ، وخوفته نقمتك ، فظنّ أن حلمك عنه من ضعف ، وحسب أن إملاءك له من عجز ، ولم تنهه واحدة عن اُخرى ، ولا انزجر عن ثانية باُولى ، ولكنه تمادى في غيّة ، وتتابع في ظلمه ، ولجّ في عدوانه ، واستشرى في طغيانه ، جرأةً عليك يا سيدي ، وتعرضاً لسخطك الذي لا تردّه عن القوم الظالمين ، وقلّة اكتراث ببأسك الذي لا تحبسه عن الباغين.

فها أنا يا سيدي مستضعف في يديه ، مستضام تحت سلطانه ، مستذلّ بعقابه ، مغلوب مبغيّ عليّ ، مقصود وجلٌ خائف مروّع مقهور ، قد قلّ صبري ، وضاقت حيلتي ، وانغلقت عليّ المذاهب إلا إليك ، وانسدّت عليّ الجهات الا جهتك ، والتبست علي اُموري في رفع مكروهه عني ، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه ، وخذلني من استنصرته من عبادك ، وأسلمني من تعلّقت به من خلقك طرّاً ، واستشرت نصيحي فأشار عليّ بالرغبة إليك ،

٦٨

واسترشدت دليلي فلم يدلّني الا عليك » (١) .

مقتل المتوكل

لم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى أهلكه الله تعالى وجعله عبرةً لكلّ من طغى وتجبّر ، على يد ابنه المنتصر وخمسة من القادة الترك.

فقد كان المتوكل بايع بولاية العهد لابنه المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد ، ثمّ انه أراد تقديم المعتز لمحبته لاُمه قبيحة ، فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى فكان يحضره مجلس العامة ويحطّ من منزلته ويهدده ويشتمه ويتوعده ، واتفق أن انحرف الترك عن المتوكل لاُمور ، فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه ، فدخل عليه خمسة في جوف الليل وهو سكران ثمل في مجلس لهوه ، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان ، وذلك لاربع خلون من شوال سنة ٢٤٧ ه‍.

وذكر المحدثون والمؤرخون أسباباً أخرى دفعت المنتصر إلى قتل أبيه تدلّ على انتصاره لأهل البيتعليهم‌السلام ، ومنها ما رواه الشيخ الطوسي عن ابن خشيش عن أبي الفضل ، قال : « إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمةعليها‌السلام فسأل رجلاً من الناس عن ذلك ، فقال له : قد وجب عليه القتل ، إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر. فقال : ما إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر ، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر »(٢) .

__________________

(١) مهج الدعوات : ٣٣٠ ـ ٣٣٧ ، بحار الأنوار ٩٥ : ٢٣٤ ـ ٢٤٠ / ٣٠.

(٢) الأمالي : ٣٢٨ / ٦٥٥.

٦٩

وعن ابن الأثير : « أن عبادة المخنّث الذي كان يرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون : قد أقبل الأصلع البطين يحكي بذلك علياًعليه‌السلام ، قد فعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر ، فأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه. فقال المتوكل : ما حالك ؟ فقام وأخبره. فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين ، إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك ، فكُل أنت لحمه إذا شئت ، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه ـ وتلك كلمة حق أمام سلطان جائر لكن المتوكل تمادي في طغيانه ـ فقال للمغنين : غنوا جميعاً :

غار الفتى لابن عمه

رأس الفتى في حِرّ أمّه

قال ابن الأثير : فكان هذا من الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قتل المتوكل »(١) .

وجاء في رواية ابن الأثير : « أن المتوكل شرب في الليلة التي قتل فيها أربعة عشر رطلاً ، وهومستمر في لهوه وسروره إلى الليل بين الندماء والمغنين والجواري »(٢) .

وانتهت بمقتل المتوكل صفحة سوادء من تاريخ الظلم والجور ، وكان قتله خزياً في الدنيا( وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِنَ اللهِ مِن وَاقٍ ) (٣) .

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٠٩.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٣٦ ـ ١٤١ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧١ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٤٩.

(٣) سورة الرعد ١٣ / ٣٤.

٧٠

ثانياً ـ المنتصر ( ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ه‍ ) :

هو محمد بن المتوكل بن المعتصم ، بويع له بعد قتل أبيه في شوال سنة ٢٤٧ ه‍ ، واعدّ كتاباً قرأه أحمد بن الخطيب أن الفتح بن خاقان قد قتل المتوكل فقتله به ، فبايعه الناس ، واستمرت خلافته ستة أشهر ويومين ، ولم تشر هذه الفترة القليلة إلى أي بادرة سوء من المنتصر تجاه الإمامعليه‌السلام وشيعته.

على أنه كان المنتصر أولاً لا يخرج عن إطار السياسة العامة التي انتهجها أبوه المتوكل في مواجهة أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم ، فقد مرّ بك أنه خلع على أبي السمط الشاعر الناصبي لشعر قاله يناوئ فيه أهل البيتعليهم‌السلام ، وربما يكون هذا تقية من أبيه ، وإلا فقد ثبتت توبته ، إذا خالف أباه المتوكل في كلّ شيء فقد خلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد الذي عقده لهما المتوكل بعده(١) ، كما أحسن إلى الطالبيين بشكل عام والعلويين بشكل خاص.

قال ابو الفرج : « كان المنتصر يظهر الميل إلى أهل هذا البيت ، ويخالف أباه في أفعاله ، فلم يجرِ منه على أحد منهم قتل أو حبس ولا مكروه فيما بلغنا ، والله أعلم »(٢) .

وقال في موضع آخر ذكر فيه حصار المتوكل للطالبيين ، ثم قال : « إلى أن قُتل المتوكل ، فعطف المنتصر على العلويين ووجه بمال فرّقه فيهم ، وكان يؤثر

__________________

(١) راجع : الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٦حوادث سنة ٢٤٨ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٧.

(٢) مقاتل الطابيين ٤١٩.

٧١

مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعناً عليه ، ونصرة لفعله »(١) .

وذكر المؤرخون كثيراً من إجراءاته المخالفة لأبيه في الموقف من الطالبيين والعلويين : قال ابن الأثير : « أمر الناس بزيارة قبر علي والحسينعليهما‌السلام ، وآمن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه ، وأطلق وقوفهم ، وأمر بردّ فداك إلى ولد الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

وذكر أن المنتصر لمّا ولي الخلافة كان أول ما أحدث أن عزل صالح بن علي عن المدينة ، واستعمل عليها علي بن الحسن(٢) بن إسماعيل بن العباس بن محمد ، قال علي : فلما دخلت أودّعه قال لي : يا علي ، إنّي اُوجّهك إلى لحمي ودمي ، ومدّ ساعده وقال : إلى هذا اُوجّهك ، فانظر كيف تكون للقوم ، وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ فقال : أرجو أن أمتثل أمر أمير المؤمنين إن شاء الله ، فقال : إذن تسعد عندي »(٣) .

ومات المنتصر في ربيع الآخر سنة ٢٤٨ لعلّة لم تمهله طويلاً ، وقيل : بل فصده الطبيب بمبضع مسموم فمات منه(٤) .

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦.

(٢) في تاريخ الطبري ٩ : ٢٥٤ ( الحسين ).

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٩ حوادث سنة ٢٤٨ ، وراجع أيضاً : تاريخ ابن الوردي ١ : ٣١٥ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٢ ـ ٤٤ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٦.

(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٨.

٧٢

ثالثاً ـ المستعين ( ٢٤٨ ـ ٢٥٢ ه‍ ) :

وهو أحمد بن المعتصم ، أخو الواثق والمتوكل ، بويع سنة ٢٤٨ ه‍ ، وقتل سنة ٢٥٢ ه‍ ، وكان مستضعفاً في رأيه وعقله وتدبيره ، وكانت أيامه كثيرة الفتن ، ودولته شديده الاضطراب حتى خلع ثمّ قتل(١) .

ونتيجة تردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وضعف سلطة الخلافة في زمان المستعين ، ثار الكثير من العلويين مطالبين برفع الظلم عن كاهل أبناء الاُمة وداعين إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم الشهيد يحيى بن عمر ، والحسن ابن زيد العلوي ، والحسين بن محمد بن حمزة ، ومحمد بن جعفر بن الحسن ، ولم تحدثنا كتب التاريخ والرواية عن أي شيء من الوقائع بين المستعين والإمام الهاديعليه‌السلام لتدنّي سلطة الخلافة في عصره واستلام مقاليد الأمور بيد القادة الأتراك ، غير أنه لا يخرج عن نهج الخلفاء العباسيين في حصار الإمامعليه‌السلام والاساءة إلى شيعته بشكل عام والطالبيين بوجه خاص ، فقد ذكر المسعودي أن محمد بن أحمد بن عيسىٰ بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، حمله سعيد الحاجب من البصرة ، فحبس حتى مات ، وكان معه ابنه علي ، فلمات مات الأب خلي عنه ، وذلك في أيام المستعين ، وجعفر بن إسماعيل بن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، قتله ابن الأغلب بأرض المغرب ، والحسن بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتله العباس بمكة(٢) .

__________________

(١) الفخري في الآداب السلطانية : ٢٤١.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٤٢٩.

٧٣

مقتل المستعين :

في سنة ٢٥١ ه‍ شغب الأتراك على المستعين بعد قتل باغر التركي ، فهرب المستعين إلى بغداد مع وصيف وبغا الصغير ، ونزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر ، فعاث الأتراك بغياً وفساداً في سامراء وأخرجوا المعتز من سجن الجوسق وبايعوه بالخلافة ، وصارت بغداد مسرحاً للاقتتال والخراب بين جيش المعتز ومؤيدي المستعين ، حتى انتهى القتال بخلع المستعين لنفسه من الخلافة سنة ٢٥٢ ه‍ ، وكان نتيجة ذلك القتال أن خربت الدور والحوانيت والبساتين ، ونهبت الأسواق والأموال وتردت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية بشكل لم يسبق له مثيل على ما بيناه في الفصل الأول.

ثمّ إن المعتز سيّر المستعين إلى واسط ، فاقام بها نحو تسعة أشهر محبوساً موكلاً به أمين ، ثمّ أرسل المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فأبى ، فندب له سعيد بن صالح الحاجب فحمله إلى سامراء فذبحه وحمل إليه برأسه ، فأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولاه معونة البصرة(١) .

رابعاً ـ المعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ ه‍ )

وهو الزبير أو محمد بن المتوكل بن المعتصم ، بويع له عند خلع المستعين سنة ٢٥٢ ه‍ ، وله عشرون سنة أو دونها(٢) .

__________________

(١) راجع : مروج الذهب ٤ : ٤١٧ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٥ ، البداية والنهاية ١١ : ١١ ، تاريخ ابن الوردي ١ : ٣١٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٣٢.

٧٤

١ ـ مواقفه من الطالبيين :

وتعرض الطالبيون في زمان المعتز إلى القتل والمطاردة والحبس والترحيل ، فقد حُمِل في أيامه من الري علي بن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد ، ومات في حبسه(١) .

وفي السنة التي بويع له فيها حمل جماعة من الطالبيين إلى سامراء ، منهم : أبو أحمد محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري(٢) .

وفي أيامه أيضاً قتل عبد الرحمن خليفة أبي الساج أحمد بن عبد الله بن موسى بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن عليعليه‌السلام .

وتوفي في الحبس عيسىٰ بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، كان أبو الساج حمله فحبس بالكوفة فمات هناك.

وقتل بالري جعفر بن محمد بن جعفر بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن الحسين ، في وقعة كانت بين أحمد بن عيسىٰ بن علي بن الحسين بن علي بن الحسينعليه‌السلام وبين عبد الله بن عزيز عامل محمد بن طاهر بالري.

وقُتِل إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن العباس بن علي ، قتله طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين. وحبس أحمد ابن محمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في دار مروان ، حبسه

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤٢٩.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٧.

٧٥

الحارث بن أسد عامل أبي الساج في المدينة فمات في محبسه(١) .

٢ ـ شهادة الإمام الهادي عليه‌السلام في زمان المعتز :

في يوم الاثنين الثالث من رجب سنة ٢٥٤ ه‍(٢) توفي الإمام الهاديعليه‌السلام ، واكتظّ الناس في موكب التشييع ، وصلى عليه ابنه الإمام أبو محمد الحسن العسكريعليه‌السلام (٣) ، وروي أنهعليه‌السلام خرج في جنازته مشقوق القميص ، فقيل له في ذلك ، فقال :« قد شقّ موسى على هارون » (٤) .

وعن اليعقوبي : أنه تمت الصلاة على جنازته الشريفة في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد ، فلما كثر الناس واجتمعوا ، كثر بكاؤهم وضجتهم ، فرُدّ النعش إلى داره فدفن فيها(٥) .

ونقل كثير من المؤرخين والمحدثين أنّ الإمام الهاديعليه‌السلام توفي مسموماً ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٣٣.

(٢) وقيل : لثلاث أو أربع أوخميس بقين من جمادي الآخرة سنة ٢٥٤ ، راجع : الكافي ١ : ٤٩٧. باب مولد أبي الحسن علي بن محمدعليه‌السلام من كتاب الحجة ، دلائل الإمامة : ٤٠٩ ، تاج المواليد / الطبرسي : ١٣٢ ـ ضمن مجموعة نفيسة ـ مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٣٣ ، الكشف الغمة ٣ : ١٦٥ و ١٧٤ ، البداية والنهاية ١١ : ١٤ ـ ١٥ ، الفصول المهمة ٢ : ١٠٧٤ ، إعلام الورى ٢ : ١٠٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣.

(٣) الكافي ١ : ٣٢٦ / ٣ ـ باب الاشارة والنص على أبي محمدعليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد ٢ : ٣١٥ ، إعلام الورى ٢ : ١٣٣.

(٤) رجال الكشي ، بشرح الداماد : ٨٤٢ ـ ٨٤٣ ، المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٧ ، وسائل الشيعة ٣ : ٢٧٤ / ٣٦٣٤ ـ ٣٦٣٦.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣.

٧٦

منهم : المسعودي ، وسبط ابن الجوزي ، والشبلنجي ، وابن الصباغ المالكي ، والشيخ أبو جعفر الطبري(١) ، وصرح الشيخ الكفعمي بأن الذي سمّه هو المعتز(٢) ، ونقل عن ابن بابوية أنّ الذي سمه هو المعتمد العباسي(٣) ، فإمّا أن يكون مصحفاً ، أو أن المعتمد هو الذي دسّ السمّ بايعازٍ من المعتز ، لأن المعتمد بويع بالملك في النصف من رجب سنة ٢٥٦ ه‍ بعد قتل المهتدي.

وليس بعيداً عن مثل المعتز اقتراف مثل هذه الجريمة النكراء ، لأنه كان شاباً متهوّراً لم يتحرج عن القتل ، ففي سنة ٢٥٢ ه‍ خلع أخاه المؤيد من ولاية العهد وعذّبه بضربه أربعين مقرعة ثم حبسه ودبّر قتله في السجن بعد ذلك بخمسة عشر يوماً ، كما حبس أخاه أبا أحمد بن المتوكل سنة ٢٥٣ ه‍ ونفاه إلى واسط ثم إلى البصرة ثم ردّه إلى بغداد(٤) ، ومرّ بك أنه أمر سعيد الحاجب بقتل ابن عمه المستعين فقتله وأتاه برأسه. فهكذا كانت أفعاله مع إخوته وأبناء عمومته ، أما مع الطالبيين ، فكانت أشد وأقسى ، وقد قدّمنا نماذج منها.

٣ ـ ما فعله المعتز بالإمام الحسن العسكري عليه‌السلام :

كانت سيرة المعتز مع الإمام العسكريعليه‌السلام كسيرة أسلافه من ملوك بني العباس مع أهل البيتعليهم‌السلام ، ومما يلحظ على تلك السيرة أن المعتز قد وضع

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤٢٣ ، تذكرة الخواص : ٣٢٤ ، نور الأبصار / الشبلنجي : ٣٣٧ ـ دار الجيل ـ بيروت ، الفصول المهمة ٢ / ١٠٧٦ ، دلائل الإمامة : ٤٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٥٠ : ١١٧ عن مصباح الكفعمي.

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٣٣ ، عن ابن باوية.

(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٥ و ١٩٢ ، تاريخ الخلفاء / للسيوطي : ٢٧٩ ، البداية والنهاية ١١ : ١١ و ١٢.

٧٧

الإمام العسكريعليه‌السلام تحت الرقابة الشديدة ، ولم يعد بإمكانه الاتصال بأصحابه إلا في ظروف خاصة ، وتعرض الإمامعليه‌السلام للاعتقال في زمانه وضيق عليه في السجن ، وكانعليه‌السلام لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فيصوم النهار ويقوم الليل.

وأُودِععليه‌السلام في سجن صالح بن وصيف(١) ، وكان العباسيون يوصونه بالتضييق عليه ، ويدسّون العيون في داخل السجن مع أصحابه.

عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى ، قال : « دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حُبِس أبو محمدعليه‌السلام ، فقالوا له : ضيق عليه ولا توسّع ، فقال لهم صالح : ما أصنع به وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه ، فقد صاروا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم ، ثم أمر باحضار الموكلين فقال لهما : ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ فقالا له : ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا ، فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين »(٢) .

وعن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري ، قال : « كنت في الحبس المعروف بحبس صالح بن وصيف الأحمر أنا والحسن بن محمد العقيقي ، ومحمد بن إبراهيم.

__________________

(١) كان رئيس الامراء الترك في زمان المعتز والمهتدي ، وقتل في خلافة المعتدي سنة ٢٥٦ ه‍ ، راجع الكامل في التاريخ ٦ : ٢١٤.

(٢) الكافي ١ : ٥١٢ / ٢٣ ـ باب مولد أبي محمد الحسن العسكريعليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد ٢ : ٣٣٤.

٧٨

العمري وفلان وفلان ، إذ ورد علينا أبو محمد الحسنعليه‌السلام وأخوه جعفر ، فخففنا له ، وكان المتولي لحبسه صالح بن وصيف ، وكان معنا في الحبس رجل جمحي يقول إنّه علوي ، قال : فالتفت أبو محمدعليه‌السلام وقال :لولا أن فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرّج عنكم ، وأومأ إلى الجمحي أن يخرج فخرج.

فقال أبو محمدعليه‌السلام :هذا الرجل ليس منكم فاحذروه ، فإنّ في ثيابه قصّة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه ، فقام بعضهم ففتش ثيابه ، فوجد فيها القصة ، يذكرنا فيها بكلّ عظيمة ، ويعلمه أنا نريد أن ننقب الحبس ونهرب »(١) .

وحاول المعتز الفتك بالإمامعليه‌السلام على يد سعيد بن صالح الحاجب الذي قتل المستعين بعد أن حمله إلى سامراء فتناهت أنباء تلك المحاولة إلى أسماع الشيعة ، فكتب بعضهم إلى الإمامعليه‌السلام يتساءل عن ذلك ، فطمأنه بالمصير الذي ينتظر المعتز قبل أن ينفذ عزمه.

عن محمد بن بلبل قال : « تقدم المعتز إلى سعيد الحاجب أن أخرج أبا محمد إلى الكوفة ، ثمّ اضرب عنقه في الطريق ، فجاء توقيعهعليه‌السلام إلينا :الذي سمعتموه تكفونه ، فخلع المعتز بعد ثلاث وقُتِل »(٢) .

وعن المعلى بن محمد ، قال : أخبرني محمد بن عبد الله ، قال : « لما اُمر سعيد الحاجب بحمل أبي محمدعليه‌السلام إلى الكوفة ، كتب أبو الهيثم بن سيابة إليه : جعلت

__________________

(١) الثاقب في المناقب : ٥٧٧ / ٥٢٦ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٨٢ / ١ و ٢ ، نور الأبصار : ١٨٣ ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٧٠ ، إعلام الورى ٢ : ١٤١.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٤٦٤.

٧٩

فداك ، بلغنا خبر أقلقنا وبلغ منا كلّ مبلغ ؟ فكتبعليه‌السلام :بعد ثلاث يأتيكم الفرج . فقتل الزبير ـ أي المعتز ـ يوم الثالث »(١) .

وكان الإمامعليه‌السلام قد توجه إلى الله تعالى بالدعاء عليه ، فقد روي عن محمد ابن علي الصيمري أنه قال : « دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله وبين يديه رقعة أبي محمدعليه‌السلام فيها :إنّي نازلت الله في هذا الطاغي ـ يعني الزبير ـوهو آخذه بعد ثلاث. فلما كان في اليوم الثالث فعل به ما فعل »(٢) .

خلع المعتز وقتله :

كان خلع المعتز في رجب سنة ٢٥٥ ه‍ ، وكان سبب خلعه أن الجند وعلى رأسهم القادة الترك اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم ، فلم يكن عنده ما يعطيهم ، فسأل من اُمه أن تقرضه مالاً يدفعهم عنه به ، فلم تعطه واظهرت أنه لا شيء عندها ، فاجتمع الأتراك على خلعه وقتله ، فدخل إليه بعض الأمراء فتناولوه بالدبابيس يضربونه ، وجرّوا برجله وأخرجوه وعليه قميص مخرّق ملطخ بالدم ، فأوقفوه في وسط دار الخلافة في حرّ شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدّة الحرّ ، وجعل بعضهم يلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب : اخلعها والناس مجتمعون. ثمّ ادخلوه حجرة مضيقاً عليه فيها ، وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولي بعده المهتدي بالله ، ثمّ سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات ، ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام حتى

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ٢٠٨ / ١٧٧ ، الخرائح والجرائح ١ : ٤٥١ / ٣٦ ، مهج الدعوات : ٢٧٤ ، دلائل الإمامة : ٤٢٧ / ٣٩١ ، الثاقب في المناقب : ٥٧٦ / ٥٢٣.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٢٩٥ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٧ / ٧٢.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

من أهم عنصر كانت تعتمد عليه وترجع إليه في قضاياها ومشكلاتها الفردية والاجتماعية، فقد كان الإمام حصناً منيعاً يذود عن أصحابه ويقوم بتلبية حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية في كثير من الأحيان.

فهنا صدمة نفسية وإيمانية بالرغم من أن الإيمان بالغيب يشكّل عنصراً من عناصر الإيمان المصطلح، لأنّ المؤمنين كانوا قد اعتادوا على الارتباط المباشر بالإمامعليه‌السلام ولو في السجن أو من وراء حجاب وكانوا يشعرون بحضوره وتواجده بين ظهرانيهم ويحسّون بتفاعله معهم، والآن يُراد لهم أن يبقى هذا الإيمان بالإمام حيّاً وفاعلاً وقويّاً بينما لا يجدون الإمام في متناول أيديهم وقريباً منهم بحيث يستطيعون الارتباط به متى شاءوا.

إنّ هذه لصدمة يحتاج رأبها إلى بذل جهد مضاعف لتخفيف آثارها وتذليل عقباتها. وقد مارس الإمام العسكري تبعاً للإمام الهاديعليهما‌السلام نوعين من الإعداد لتذليل هذه العقبة ولكن بجهد مضاعف وفي وقت قصير جدّاً.

الأوّل: الإعداد الفكري والذهني.

الثاني: الإعداد النفسي والروحي.

أما الإعداد الفكري فقد قام الإمام تبعاً لآبائهعليهم‌السلام باستعراض فكرة الغيبة على مدى التاريخ وطبّقها على ولده الإمام المهديعليه‌السلام وطالبهم بالثبات على الإيمان باعتباره يتضمن عنصر الإيمان بالغيب وشجّع شيعته على الثبات والصبر وانتظار الفرج وبيّن لهم طبيعة هذه المرحلة ومستلزماتها وما سوف يتحقق فيها من امتحانات عسيرة يتمخّض عنها تبلور الإيمان والصبر والتقوى التي هي قوام الإنسان المؤمن برّبه وبدينه وبإمامه الذي يريد أن يحمل معه السلاح ليجاهد بين يديه.
فقد حدّث أبو علي بن همّام قائلاً: سمعت محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن عليعليهما‌السلام

١٤١

وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائهعليهم‌السلام :إنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، فقالعليه‌السلام :«إنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حق» ، فقيل له: ياابن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال:ابني محمّد هو الإمام والحجة بعدي. من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما إنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون ويكذب فيها الوقّاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة »(١) .

وحدّث موسى بن جعفر بن وهب البغدادي فقال: سمعت أبا محمد الحسنعليه‌السلام يقول:«كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي، أما إن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنكر لولدي كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمنكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمن أنكر جميع الأنبياء، لأن طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، أما إنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلاّ من عصمه الله عَزَّ وجَلَّ» (٢) .

وحدّث الحسن بن محمد بن صالح البزّاز قائلاً: سمعت الحسن بن علي العسكريعليهما‌السلام يقول:«إنّ ابني هو القائم من بعدي وهو الذي يُجري فيه سنن الأنبياء بالتعمير والغيبة حتى تقسو القلوب لطول الأمد فلا يثبت على القول به إلاّ من كتب الله عزّ وجلّ في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه» (٣) .

إلى غيرها من الأحاديث والأدعية التي تضمّنت بيان فكرة الغيبة وضرورة تحققها وضرورة الإيمان بها والصبر فيها والثبات على الطريق الحق مهما كانت الظروف صعبة وعسيرة.

وأما الإعداد النفسي والروحي فقد مارسه الإمامعليه‌السلام منذ زمن أبيه

ــــــــــــ

(١) كمال الدين: ٢/٤٠٩.

(٢) كمال الدين: ٢/٤٠٩.

(٣) كمال الدين: ٢/٥٢٤.

١٤٢

الهاديعليه‌السلام فقد مارس الإمام الهاديعليه‌السلام سياسة الاحتجاب وتقليل الارتباط بشيعته إعداداً للوضع المستقبلي الذي كانوا يستشرفونه وكان يُهيئهم له، كما انّه قد مارس عملية حجب الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام عن شيعته فلم يعرفه كثير من الناس وحتى شيعته إلاّ بعد وفاة أخيه محمد حيث أخذ يهتمّ بإتمام الحجة على شيعته بالنسبة لإمامة الحسن من بعده واستمر الإمام الحسنعليه‌السلام في سياسة الاحتجاب وتقليل الارتباط لضرورة تعويد الشيعة على عدم الارتباط المباشر بالإمام ليألفوا الوضع الجديد ولا يشكّل صدمة نفسية لهم، فضلاً عن ان الظروف الخاصة بالإمام العسكريعليه‌السلام كانت تفرض عليه تقليل الارتباط حفظاً له ولشيعته من الانكشاف أمام أعين الرقباء الذين زرعتهم السلطة هنا وهناك ليراقبوا نشاط الإمام وارتباطاته مع شيعته.

وقد عوّض الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام الأضرار الحاصلة من تقليل الارتباط المباشر بأمرين:

أحدهما: بإصدار البيانات والتوقيعات بشكل مكتوب إلى حدٍّ يغطي الحاجات والمراجعات التي كانت تصل إلى الإمامعليه‌السلام بشكل مكتوب. وأكثر الروايات عن الإمام العسكريعليه‌السلام هي مكاتباته مع الرواة والشيعة الذين كانوا يرتبطون به من خلال هذه المكاتبات.

ثانيهما: بالأمر بالارتباط بالإمامعليه‌السلام من خلال وكلائه الذين كان قد عيّنهم لشيعته في مختلف مناطق تواجد شيعته. فكانوا حلقة وصل قوية ومناسبة ويشكّلون عاملاً نفسيّاً ليشعر اتباع أهل البيت باستمرار الارتباط بالإمام وإمكان طرح الأسئلة عليه وتلقي الأجوبة منه. فكان هذا الارتباط غير المباشر كافياً لتقليل أثر الصدمة النفسية التي تحدثها الغيبة لشيعة الإمامعليه‌السلام .

وهكذا تمّ الإعداد الخاص من قبل الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام لشيعته ليستقبلوا عصر الغيبة بصدر رحب واستعداد يتلائم مع مقتضيات الإيمان بالله

١٤٣

وبرسوله وبالأئمة وبقضية الإمام المهديعليه‌السلام العالمية والتي تشكّل الطريق الوحيد لإنقاذ المجتمع الإنساني من أوحال الجاهلية في هذه الحياة.

البحث الثالث: نظام الوكلاء في عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام

إنّ نظام الوكلاء قد أسّسه الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام حين اتّسعت الرقعة الجغرافية للقاعدة الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام . وقد اختار الأئمة من بين أصحابهم وثقاتهم من أوكلوا إليه جملة من المهام التي لها علاقة بالإمامعليه‌السلام مثل قبض الأموال وتلقي الأسئلة والاستفتاءات وتوزيع الأموال على مستحقّيها بأمر الإمامعليه‌السلام . وبالإضافة إلى مهمة الإرشاد وبيان الأحكام كان الوكيل يقوم بتخفيف العبء عن الإمام وشيعته في ظروف تشديد الرقابة على الإمامعليه‌السلام من قبل السلطة، كما كان يتولّى مهمة بيان مواقف الإمام السياسية حين لا يكون من المصلحة أن يتولّى الإمام بنفسه بيان مواقفه بشكل صريح ومباشر.

إنّ نظام الوكلاء يعتبر حلقة الوصل والمؤسسة الوسيطة بين الإمام وأتباعه في حال حضور الإمامعليه‌السلام ولا سيّما عند صعوبة الارتباط به.

كما أنه أصبح البديل الوحيد للارتباط بالإمامعليه‌السلام في دور الغيبة الصغرى. وحيث إنّ الأئمةعليهم‌السلام كانوا يعلمون ويتوقّعون الوضع المستقبلي للإمام المهديعليه‌السلام كما أخبرت بذلك نصوص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الأطهارعليهم‌السلام ، كان الخيار الوحيد للإمام المعصوم في عصر الغيبة الصغرى أن يعتمد على مثل هذه المؤسسة الواسعة الأطراف والمهامّ، ومن هنا كان الاعتماد على الثقات من جهة وتعويد الأتباع للارتباط بالإمامعليه‌السلام من خلال وكلائه أمرا لابد منه، وهذا الأمر يحتاج إلى سياسة تعتمد السنن الاجتماعية وتأخذها بنظر الاعتبار، ولا يمكن لمثل هذه المؤسسة البديلة أن تستحدث

١٤٤

في أيام الغيبة الصغرى بل لابد من التمهيد لذلك بإنشائها وإثبات جدارتها تاريخياً من خلال مراجعة الوكلاء والتثبت من جدارتهم وتجذّر هذه المؤسسة في الوسط الشيعي ليكون هذا البديل قادراً على تلبية الحاجات الواقعية لأبناء الطائفة، ولئلا تكون صدمة الغيبة فاعلة وقوية. ومن هنا كان يتسع نشاط هذه المؤسسة ويصبح دورها مهماً كلّما اشتدت الظروف المحيطة بالإمام المعصومعليه‌السلام وكلّما اقترب الأئمة من عصر الغيبة.

وعلى هذا يتّضح أن عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام الذي كان يشكّل نقطة الانتقال المهمّة والجوهرية من عصر الحضور إلى عصر الغيبة كان يستدعي الاعتماد الكبير على الوكلاء ويستدعي إحكام نظامهم وكثرة مهامّهم واتّساع دائرة نشاطهم وتواجدهم اتّساعاً يمهّد للانتقال بأتباع أهل البيتعليهم‌السلام إلى دور الغيبة التي ينقطعون فيها عن إمامهم وقيادتهم المعصومة.

إنّ مقارنة عدد وكلاء الإمام العسكريعليه‌السلام بوكلاء الإمام الهاديعليه‌السلام ومناطق تواجد هؤلاء الوكلاء والمسؤوليات الملقاة عليهم وكيفية الارتباط فيما بينهم تشهد على تميّز الدور الكبير للوكلاء في هذه الفترة القصيرة جدّاً وهي ستّ سنوات، كما أن استقرار الوكلاء في مناصبهم واعتماد الإمامعليه‌السلام عليهم وبيان ذلك لأتباعه قد حقق الهدف المرتقب من نظام الوكلاء في مجال تسهيل الانتقال إلى عصر الغيبة بأقلّ ما يمكن من الأخطار والتبعات.

على أن انحراف بعض الوكلاء ـ طمعاً أو حسداً ـ وكشف انحرافهم من قبل الإمامعليه‌السلام وحذفهم وإخبار الأتباع بانحرافهم في أول فرصة ممكنة دليل على مدى حرص الإمامعليه‌السلام على سلامة عناصر هذا الجهاز الخطير في دوره ومهامّه الرسالية، وهو دليل على المراقبة المستمرة من الإمامعليه‌السلام لهم ومدى متابعته لأوضاعهم ونشاطاتهم.

١٤٥

وإليك قائمة بأسماء بعض وكلاء الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام :

١ ـ إبراهيم بن عبدة النيسابوري من أصحاب العسكريينعليهما‌السلام ، كان وكيلاً له في نيسابور..

٢ ـ أيوب بن نوح بن درّاج النخعي كان وكيلاً للعسكريينعليهما‌السلام .

٣ ـ أيوب بن الباب، أنفذه من العراق وكيلاً إلى نيسابور.

٤ ـ أحمد بن إسحاق الرازي.

٥ ـ أحمد بن إسحاق القمي الأشعري كان وكيلاً له بقم.

٦ ـ جعفر بن سهيل الصيقل.

٧ ـ حفص بن عمرو العمري الجمّال.

٨ ـ عثمان بن سعيد العمري السمّان(الزيّات) وهو أوّل السفراء الأربعة.

٩ ـ علي بن جعفر الهمّاني من وكلاء أبي الحسن وأبي محمدعليهما‌السلام .

١٠ ـ القاسم بن العلاء الهمداني من وكلائه ووكلاء ابنه الإمام المهديعليه‌السلام .

١١ ـ محمّد بن أحمد بن جعفر(الجعفري) القمي العطّار.

١٢ ـ محمّد بن صالح بن محمد الهمداني.

١٣ ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري.

١٤ ـ عروة بن يحيى البغدادي النخّاس المعروف بالدهقان كان من وكلائه في بغداد ثم انحرف وضلّ وأخذ يكذب على الإمام ويقتطع الأموال لنفسه وأحرق بيت المال الذي سُلّم إليه من بعد ابن راشد وتبرّأ منه الإمام ولعنه وأمر شيعته بلعنه ودعا عليه حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر(١) .

ــــــــــــ

(١) راجع للتفصيل حياة الإمام العسكري: ٣٢٩ ـ ٣٤٢.

١٤٦

البحث الرابع: مدرسة الفقهاء والتمهيد لعصر الغيبة:

أكمل الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام الخط الذي أسّسه آباؤه الطاهرون وهو إنشاء جماعة صالحة تمثل خط أهل البيت الفكري والعقائدي والأخلاقي والسلوكي وقد اهتمّ الإمامان محمّد الباقر وجعفر الصادقعليهما‌السلام بشكل خاص بإعداد وتربية مجموعة من الرواة والفقهاء فتمثّلت فيهم مدرسة علمية استوفت في عهد الإمام العسكريعليه‌السلام كل متطلبات المدرسة العلمية من حيث المنهج والمصدر والمادة ممهدة به لعصر الغيبة الصغرى(١) .

وقد أيّد الإمام العسكريعليه‌السلام جملة من الكتب الفقهية والأصول الروائية التي جمعت في عصره أو قبل عصره وأيّد أصحابها وشكر لهم مساعيهم وبذلك يكون قد أعطى للمدرسة الفقهية تركيزاً واهتماماً يشير إلى أنّ الخط الفقهائي هو الخط المستقبلي الذي يجب على القاعدة الشيعية أن تسير عليه(٢) .

وكان من منتسبي هذه المدرسة أساتذة وطلاباً في عهد أبناء الرضاعليه‌السلام مجموعة قد أورد الشيخ المجلسيرضي‌الله‌عنه في موسوعته أسماءهم(٣) .

وقد أحصيت أسماء أصحاب الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ورواة حديثه فبلغت ٢١٣ محدثاً وراوياً(٤) .

وإليك بعض ثقاة الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام وأصحابه:

ـ علي بن جعفر الهماني.

ـ أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري.

ــــــــــــ

(١) تاريخ التشريع الإسلامي، د. عبد الهادي الفضلي: ١٩٤ ـ ٢٠٢.

(٢) حياة الإمام العسكري للشيخ محمد جواد الطبسي: ٣٢٥.

(٣) بحار الأنوار: ج٥٠، المشتمل على حياة الأئمة الجواد: ١٠٦ والهادي: ٢١٦ والعسكري عليهم‌السلام : ٣١٠.

(٤) حياة الإمام العسكري عليه‌السلام : محمد جواد الطبسي: الفصل العاشر.

١٤٧

ـ داود بن أبي يزيد النيسابوري.

ـ محمد بن علي بن بلال.

ـ عبد بن جعفر الحميري القمي.

ـ أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الزيّات والسمّان.

ـ إسحاق بن الربيع الكوفي.

ـ أبو القاسم جابر بن يزيد الفارسي.

ـ إبراهيم بن عبيد الله بن إبراهيم النيسابوري.

ـ محمد بن الحسن الصفار.

ـ عبدوس العطار.

ـ سري بن سلامة النيسابوري.

ـ أبو طالب الحسن بن جعفر.

ـ أبو البختري.

ـ الحسين بن روح النوبختي.

ومع ملاحظة حراجة الظروف المحيطة بالإمام العسكري وقصر الفترة التي عاشها إماماً ومرجعاً للأمة والشيعة فإنَّ هذه النسبة من الرواة تشكل رقماً قياسيّاً طبعاً.

وكان لمحمد بن الحسن بن فروّخ الصفّار المتوفى سنة(٢٩٠هـ) مجموعة من المؤلفات تقارب الأربعين مؤلفاً، وقد عدّه الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب أبي محمد الحسن العسكريعليه‌السلام وقال: «له كتب مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة كتاب بصائر الدرجات وغيره، وله مسائل كتب بها إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري»(١) .

ــــــــــــ

(١) الفهرست، الشيخ الطوسي: ١٧٤.

١٤٨

وقد تضمنت كتبه مختلف أبواب الأحكام كالصلاة والوضوء والعتق والدعاء والزهد والخمس والزكاة والشهادات، والتجارات، والجهاد وكتاب حول فضل القرآن الكريم وبلغت كتبه ـ على ما أحصاه الأستاذ الفضلي ـ خمسة وثلاثين كتاباً(١) .

وقد اتّسم عهد الأئمة من أبناء الرضاعليه‌السلام وهم ـ الجواد والهادي والعسكريعليهم‌السلام ـ باتّساع رقعة انتشار التشيّع، وكثرة العلماء والدعاة إلى مذهب أهل البيت، واكتمال معالم وأبعاد مدرستهم الفقهية في المنهج والمادة معاً.

ويتلخّص المنهج الذي سارت عليه مدرسة الفقهاء الرواة عن أهل البيتعليهم‌السلام في نقاط جوهرية وأساسية تميّزها عمّا سواها من المدارس الفقهية وهي:

١ ـ اعتماد الكتاب والسنّة فقط مصدراً أساسياً للتشريع الإسلامي.

٢ ـ ضرورة الرجوع في تعلّم العلوم الشرعية وأخذ الفتوى إلى الإمام المعصوم إن أمكن.

٣ ـ لزوم الرجوع إلى الفقهاء الثقاة حيث يتعسّر الرجوع إلى الإمام المعصوم.

٤ ـ الإفتاء بنصّ الرواية أو بتطبيق القاعدة المستخلصة من الرواية(٢) .

وبهذا وفّرت مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ـ خلال قرنين ونصف قرن على الرغم من قساوة الظروف وبالرغم من افتتاح عدة جبهات للمعارضة مع الحكم القائم ـ كل متطلبات إحياء الشريعة الإسلامية وديمومتها واستمرارها حتى في عصر الغيبة. وهيّأت للمسلمين عامة ولشيعة أهل البيت خاصّة كل مقدّمات الاستقلال الفكري والسياسي والاقتصادي والثقافي وأعطتهم الزخم اللازم لاستمرار المواجهة مع الباطل الذي يترصّد الحق في كل زمان ومكان.

ــــــــــــ

(١) تاريخ التشريع الإسلامي، عبد الهادي الفضلي: ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

(٢) تاريخ التشريع الإسلامي، عبد الهادي الفضلي: ٢٠٢ ـ ٢١١.

١٤٩

البحث الخامس: قيادة العلماء الأمناء على حلاله وحرامه

إن مرجعية العلماء وقيادتهم للشيعة بعد الغيبة الكبرى التي ابتدأت عام(٣٢٩ هـ ) بوفاة الوكيل الرابع(١) للإمام المهديعليه‌السلام كانت تأسيساً حيويّاً من قبل الأئمة المعصومينعليهم‌السلام وبأمر من الله ورسوله، فهم الذين أمروا الشيعة بالرجوع إلى العلماء الفقهاء الذين تربّوا في مدرستهم الرسالية لأخذ معالم دينهم عنهم، وهذا المفهوم قد أعطاه الإمام الصادقعليه‌السلام صبغته التشريعية بقولهعليه‌السلام :

«ينظر من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله» (٢) .

وقد استمرّ الأئمةعليهم‌السلام على هذا النهج وقاموا لتحقيق هذه المهمّة بتربية الفقهاء الأمناء على المنهج العلمي السليم الذي رسموا معالمه وتفاصيله بالتدريج، وتواصلت جهودهم رغم كل الظروف العصيبة بعد عصر الإمام الصادقعليه‌السلام .

ثم كان للخطوات التي اتخذها الإمام الهاديعليه‌السلام الدور البارز في إعطاء الصيغة الاجتماعية الكاملة لمرجعية العلماء، فقد قالعليه‌السلام :لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه‌السلام من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن

ــــــــــــ

(١) علي بن محمد السمري، يراجع كشف الغمة: ٣ / ٢٠٧.

(٢) الكافي: ١/٥٤ ح ١٠ و ٧/٤١٢ ح ٥ والتهذيب: ٦/٢١٨ ح ٥١٤ و ٣٠١ ح ٨٤٥ و عنهما في وسائل الشيعة: ٢٧/١٣٦ ح ١ ب ١١.

١٥٠

فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عَزَّ وجَلَّ (١) .

إن الأساس والمرتكز الذي تقوم عليه فكرة إرجاع الأمة إلى الفقهاء العدول هو: «أن الأجيال المسلمة تحتاج باستمرار إلى المرشد والموجه والمفكّر المُدَّبر كي يعطيهم تعاليم دينهم ويرتفع بمستوى إيمانهم وعقيدتهم ويشرح لهم إسلامهم ويوجههم في سلوكهم إلى العدل والصلاح ورضا الله عَزَّ وجَلَّ»(٢) .

ووفقاً لذلك كان ما اتخذه الإمام العسكريعليه‌السلام من مواقف ايجابية بالنسبة للعلماء ورواة الحديث الثقاة المأمونين على حلال الله وحرامه وإرجاع شيعته إليهم يعتبر تمهيداً أساسيّاً لعصر الغيبة، وتأكيداً لفكرة المرجعية الشاملة إلى جانب نظام الوكلاء الثقاة المأمونين من شيعته والذي كان من مهامّه إرجاع عامة الطائفة إلى العلماء منهم.

كما كان احتجابه عن الشيعة واتخاذ المراسلات والتواقيع الخارجة عنه سبيلاً آخر للتمهيد أيضاً ـ كما عرفت ـ فقد جاء عنهعليه‌السلام في العمري وابنه محمد:العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك فعني يؤديان وما قالا فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان (٣) .

وممّا يدل على أن الإمام العسكريعليه‌السلام كان يوجّه القواعد الشعبية للرجوع إلى الفقهاء وتقليدهم وأخذ معالم دينهم عنهم ما جاء عنهعليه‌السلام :

«فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه

ــــــــــــ

(١) الاحتجاج: ٢ / ٢٦٠.

(٢) الغيبة الصغرى للصدر: ٢١٩.

(٣) الغيبة الصغرى: ٢١٩.

١٥١

فللعوام أن يقلّدوه» (١) .

وبهذه الخطوات أكمل الإمام العسكريعليه‌السلام الدور الموكل إليه والمناط به في هذه المرحلة المهمة من تأريخ الرسالة الإسلامية، فقد أنشأ مدرسة علمية لها الدور الأكبر في حفظ تراث أهل البيت الرسالي ومبادئ الإسلام أوّلاً، ومن ثم كان لها الأثر الكبير في نشر فكرة الغيبة وتهيئته الذهنية العامة لتقبّلها ثانياً، كما كان لها مساهمة فعّالة في توجيه شيعة الإمامعليه‌السلام بالرجوع إلى الفقهاء الذين هم حصن الإسلام الواقي للمسلمين من الأعداء ثالثاً.

وبعد الغيبة الكبرى ظهرت الآثار الايجابية لمدرسة الإمام العسكريعليه‌السلام وتعاليمه ووصاياه في التزام الشيعة وأتباع أهل البيتعليهم‌السلام بخط المرجعية الرشيدة.

ويعدّ مبدأ الاجتهاد والتقليد عند الإمامية مظهراً لواقعية هذا المذهب في قدرته على الحفاظ على روح التشريع وحيويّة الرسالة الإسلامية بعد غيبة الإمام المعصومعليه‌السلام والى اليوم الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً بعدما تملأ جوراً وظلماً.

البحث السادس: الإمام العسكريعليه‌السلام والفرق الضالّة

إن للانحراف عن جادّة الصواب أسباباً يعود بعضها إلى طبيعة الظروف التي تطرأ على الإنسان فتتعاضد مع ما يحمله من ضعف فكري عقائدي أو هبوط أخلاقي ولا سيّما إذا لم يتلقّ تربية صحيحة من ذويه ومن يحيط به أو يصاحبه.

ــــــــــــ

(١) تفسير الإمام العسكري: ١٤١ وعنه في الاحتجاج: ٢/٢٦٣.

١٥٢

وأهل البيتعليهم‌السلام قد أعدّهم الله ورسوله لتربية أبناء الأمة وانتشالهم من الانحراف عبر التوجيه والإرشاد، وتبقى الاستجابة لهدايتهم هي السبب الأعمق لتأثيرها وفاعليتها في كل فرد.

وحين يصبح الانحراف خطّاً منظماً وفاعلاً في المجتمع الإسلامي ينبغي مواجهته بالإدانة وبتفتيت عناصره وقواه الفاعلة ومحاولة إرجاع العناصر المضلَّلة التي تبغي الحق في عمق وجودها وإن حادت عنه.

ونجد للإمام العسكريعليه‌السلام مواقف إرشادية وتوجيهية لبعض أتباع الفرق الضالّة بينما نجده صارماً مع رموز بعض هذه الفرق. وجادّاً في التحذير منهم لعزلهم والحيلولة دون تأثيرهم في القاعدة الشعبية التي تدين بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام .

ونقف فيما سيأتي على موقف الإمامعليه‌السلام من الواقفة أولاً ثم موقفه من المفوّضة وممّن كان متأثّراً بهم.

١ ـ الإمام العسكريعليه‌السلام والواقفة

والواقفة جماعة، وقفت على إمامة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، ولم تقل بإمامة الإمام الرضاعليه‌السلام ، وكان المؤسس لمذهب هذه الجماعة زياد بن مروان القندي الأنباري وعلي بن أبي حمزة، وعثمان بن عيسى وكان سبب توقّفهم هو أن زياد بن مروان القندي الأنباري كانت عنده سبعون ألف دينار من الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام فأظهر هو وصاحباه القول بالوقف طمعاً بالمال الذي كان عندهم(١) .

ــــــــــــ

(١) يراجع رجال الكشي: ٤٦٧ ح ٨٨٨ و ٤٩٣ ح ٩٤٦ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/٢٥١ وعنه في سفينة البحار: ٣/٥٨١.

١٥٣

روى شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسيرضي‌الله‌عنه عن ابن يزيد عن بعض أصحابه قال: مضى أبو إبراهيم ـ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ـ وعند زياد القندي سبعون ألف دينار وعند عثمان بن عيسى الرواسي ثلاثون ألف دينار، وخمس جواري ومسكنه بمصر، فبعث إليهم أبو الحسن الرضاعليه‌السلام :«أن احملوا ما قبلكم من المال، وما كان اجتمع لأبي عندكم، فإني وارثه وقائم مقامه، وقد اقتسمنا ميراثه ـ وبهذا أشار الرضاعليه‌السلام إلى موت الإمام الكاظمعليه‌السلام ـولا عذر لكم في حبس ما قد اجتمع لي ولورّاثه قبلكم» .

فأما أبو حمزة فإنّه أنكره ولم يعترف بما عنده، وكذلك زياد القندي، وأمّا عثمان بن عيسى فإنّه كتب إلى الإمام الرضاعليه‌السلام : إنّ أباك صلوات الله عليه لم يمت وهو حيّ قائم، ومن ذكر أنّه مات فهو مبطل، واعمل على أنه مضى كما تقول، فلم يأمرني بدفع شيء إليك، وأما الجواري، فقد أعتقتهن وتزوّجت بهنّ(١) .

وقد سأل أحد أصحاب الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام عمن وقف على أبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام قائلاً: أتولاّهم أم أتبرّأ منهم ؟ فكتبعليه‌السلام :«لا تترحّم على عمك لا رحم الله عمك وتبرأ منه، أنا إلى الله منهم بريء فلا تتولاهم، ولا تعد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا تصلِ على أحد منهم مات أبداً سواء من جحد إماماً من الله أو زاد إماماً ليست إمامته من الله أو جحد أو قال: قالت ثلاثة، إنّ جاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا والزائد فينا كالناقص الجاحد أمرنا» (٢) .

وبهذا علم السائل أنّ عمّه منهم، كما علم موقف الإمام الصارم من هذه الجماعة التي سُميت بالكلاب الممطورة، فقد روى الشيخ الكشيرضي‌الله‌عنه عن

ــــــــــــ

(١) الغيبة: ٦٤ ح ٦٧ ونحوه أخصر منه في رجال الكشي: ٥٩٨ ح ١١٢٠ وليس فيه: تزوّجت بهن، وفي ح١١١٧: ثم تاب وبعث إليه بالمال وفي ح ١١١٨: أنه سكن الكوفة ثم الحيرة ومات بها.

(٢) الخرائج والجرائح: ١/٤٥٢ ح٣٨ وعنه في كشف الغمة: ٣ / ٣١٩.

١٥٤

أبي علي الفارسي عن إبراهيم بن عقبة، أنه قال: كتبت إلى العسكريعليه‌السلام : جعلت فداك قد عرفت هؤلاء الممطورة، فأقنت عليهم في صلواتي ؟ قال:نعم، اُقنت عليهم في صلواتك (١) .

٢ ـ الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام والمفوّضة

والمفوّضة جماعة، قالت: إنّ الله خلق محمّداً وفوّض إليه خلق الدُّنيا، فهو الخلاّق لما فيها، وقيل: فوّض ذلك إلى الإمام عليعليه‌السلام (٢) والأئمةعليهم‌السلام من بعده. وعن إدريس بن زياد الكفرتوثائي قال: كنت أقول فيهم قولاً عظيماً فخرجتُ إلى العسكر للقاء أبي محمّدعليه‌السلام ، فقدمت وعليَّ أثر السفر وعناؤه، فألقيتُ نفسي على دكّان حمّام، فذهب بي النوم، فما انتبهت إلاّ بمقرعة أبي محمّدعليه‌السلام ، قد قرعني بها حتّى استيقظت، فعرفته سلام الله عليه فقمتُ قائماً أقبّل قدمه وفخذه، وهو راكب، والغلمان من حوله فكان أوّل ما تلقّاني به أن قال:ياإدريس ( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٣) .

فقلت: حسبي يامولاي وإنّما جئت أسألك عن هذا، قال:تركني ومضى(٤) .

وإنّ قوماً من المفوّضة قد وجّهوا كامل بن إبراهيم المدني إلى أبي محمدعليه‌السلام قال كامل: قلت في نفسي أسأله: لا يدخل الجنّة إلاّ من عرف معرفتي؟ وكنت جلستُ إلى باب عليه ستر مرخىً، فجاءت الريح فكشفت طرفه فإذا أنا

ــــــــــــ

(١) رجال الكشي: ٤٦٠ ح ٨٧٥ و ٤٦١ ح ٨٧٩ وعنه في بحار الأنوار.

(٢) يُراجع معجم الفرق الإسلامية: ٢٣٥.

(٣) الأنبياء(٢١): ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) المناقب: ٤ /٤٦١.

١٥٥

بفتى كأنّه فِلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها، فقال لي:ياكامل بن إبراهيم ; فاقشعررت من ذلك وألهمت أن قلت: لبّيك ياسيّدي.

فقال:جئت إلى وليّ الله تسأله: «لا يدخل الجنة إلاّ من عرف معرفتك وقال بمقالتك» ؟

قلت: إي والله.

قال:إذن والله يقلّ داخلها والله إنه ليدخلها قوم يقال لهم الحقيّة .

قلت: ومن هم ؟

قال:«قوم من حبهم لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام يحلفون بحقّه وما يدرون ما حقه وفضله» .(أي قوم يعرفون ما يجب عليهم معرفته جملة لا تفصيلاً من معرفة الله ورسوله والأئمةعليهم‌السلام ).

ثم قال:جئت تسأله عن مقالة المفوّضة ؟ كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء شئنا، والله يقول: ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) (١) . فقال لي أبو محمّدعليه‌السلام :ما جلوسك وقد أنبأك بحاجتك الحجة من بعدي فقمت وخرجت ولم أعاينه بعد ذلك(٢) .

وقد كان الإمام العسكريعليه‌السلام حريصاً على هداية أتباع أهل البيتعليهم‌السلام وإرشادهم إلى الحق بإزالة الشكوك التي كانت تعترضهم في الطريق.

فعن محمّد بن عياش أنه قال: تذاكرنا آيات الإمام فقال ناصبيّ: إن أجاب عن كتاب بلا مداد علمت إنّه حقّ، فكتبنا مسائل وكتب الرّجل بلا مداد على ورق وجعل في الكتب، وبعثنا إليه فأجاب عن مسائلنا وكتب على ورقة اسمه واسم أبويه، فدهش الرّجل، فلمّا أفاق اعتقد الحق(٣) .

وروي عن عمر بن أبي مسلم أنه قال: كان سميع المسمعيّ يؤذيني كثيراً

ــــــــــــ

(١) الإنسان(٧٦): ٣٠.

(٢) الغيبة: ٢٤٧، بحار الأنوار: ٢٥ / ٣٣٦ و ٣٣٧.

(٣) المناقب: ٢/٤٧٠.

١٥٦

ويبلغني عنه ما أكره، وكان ملاصقاً لداري، فكتبت إلى أبي محمدعليه‌السلام أسأله الدّعاء بالفرج منه، فرجع الجواب: أبشر بالفرج سريعاً، ويقدم عليك مال من ناحية فارس. وكان لي بفارس ابن عمّ تاجر لم يكن له وارث غيري فجاءني ماله بعدما مات بأيّام يسيرة.

ووقّع في الكتاب:استغفر الله وتب إليه ممّا تكلّمت به، وذلك أنّي كنت يوماً مع جماعة من النّصاب فذكروا أبا طالب حتّى ذكروا مولاي، فخضت معهم لتضعيفهم أمره، فتركت الجلوس مع القوم، وعلمت أنه أراد ذلك (١) .

قال محمّد بن هارون بن موسى التلعكبريّ: حدثنا محمد بن هارون فقال: أنفذني والدي مع أصحاب أبي القلا صاعد النصراني لأسمع منه ما روى عن أبيه من حديث مولانا أبي محمد الحسن بن عليّ العسكريعليه‌السلام فأوصلني إليه فرأيت رجلاً معظماً وأعلمته السبب في قصدي فأدناني وقال:

حدّثني أبي أنه خرج وإخوته وجماعة من أهله من البصرة إلى سرّ من رأى للظلامة من العامل، فإذا [كنّا] بسرّ من رأى في بعض الأيام إذا بمولانا أبي محمدعليه‌السلام على بغلة، وعلى رأسه شاشة، وعلى كتفه طيلسان، فقلت في نفسي: هذا الرجل يدّعي بعض المسلمين أنه يعلم الغيب، وقلت: إن كان الأمر على هذا فيحوّل مقدّم الشاشة إلى مؤخرها، ففعل ذلك.

فقلت: هذا اتّفاق ولكنه سيحوّل طيلسانه الأيمن إلى الأيسر والأيسر إلى الأيمن ففعل ذلك وهو يسير، وقد وصل إليّ فقال:يا صاعد لم لا تشغل بأكل حيدانك عمّا لا أنت منه ولا إليه ، وكنّا نأكل سمكاً.

وهكذا أسلم صاعد بن مخلّد وكان وزيراً للمعتمد(٢) .

وعن محمد بن عبيدالله قال: كنت يوماً كتبت إليه أخبره باختلاف

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥٠/٢٧٣.

(٢) بحار الأنوار: ٥٠/٢٨١.

١٥٧

الموالي واسأله إظهار دليل، فكتب: إنّما خاطب الله تعالى ذوي الألباب وليس أحد يأتي بآية أو يظهر دليلاً أكثر ممّا جاء به خاتم النبيين وسيّد المرسلين فقالوا: كاهن وساحر كذاب، فهدى الله من اهتدى غير أن الأدلة يسكن إليها كثير من الناس. وذلك أن الله جلّ جلاله يأذن لنا فنتكلم ويمنع فنصمت، ولو أحب الله ألا يظهر حقاً لنا بعث النبيين مبشرين ومنذرين يصدعون بالحق في حال الضعف والقوة في أوقات وينطقون في أوقات ليقضي الله أمره وينفذ الناس حكمه في طبقات شتى، فالمستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق، متعلق بفرع أصيل، غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ.

وطبقة لم تأخذ الحق من أهله، فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه. وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفعه بالباطل والهوى كفّاراً حسداً من عند أنفسهم فدع من ذهب يميناً وشمالاً فإن الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون سعي. ذكرت اختلاف والينا، فإذا كانت الوصيّة والكتب فلا ريب من جلس مجلس الحكم فهو أولى بالحكم، أحسن رعاية من استرعيت. وإيّاك والإذاعة وطلب الرياسة فإنّهما يدعوان إلى الهلكة.

ثم قال:

ذكرت شخوصك إلى فارس فاشخص خار الله لك وتدخل مصر إن شاء الله آمناً واقرأ من تثق به من موالينا السلام ومرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا .

قال: فلما قرأت خار الله لك في دخولك مصر إن شاء الله آمناً لم أعرف المعنى فيه فقدمت بغداد عازماً على الخروج إلى فارس فلم يقيض لي وخرجت إلى مصر.

قال: ولما همّ المستعين في أمر أبي محمد بما همّ وأمر سعيد الحاجب بحمله إلى الكوفة وأن يحدث في الطريق حادثة انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم وكان بعد مضي أبي الحسن بأقلّ من خمس سنين.

فكتب إليه محمد بن عبد الله والهيثم بن سبابة: قد بلغنا جعلنا الله فداك خبر أقلقنا وغمّنا وبلغ منا، فوقّععليه‌السلام :بعد ثلاثة أيام يأتيكم الفرج . قال: فخلع

١٥٨

المستعين في اليوم الثالث وقعد المعتز وكان كما قال(١) .

وعن علي بن محمد بن الحسن قال: خرج السلطان يريد البصرة وخرج أبو محمد بشيعته فنظرنا إليه ماضياً وكنّا جماعة من شيعته فجلسنا ما بين الحائطين ننتظر رجوعه فلمّا رجع وحاذانا وقف علينا، ثم مدّ يده إلى قلنسوته فأخذها من رأسه وأمسكها بيده.

ثم مرّ يده الأخرى على رأسه وضحك فيوجه رجل منا، فقال الرجل مبادراً: أشهد أنك حجة الله وخيرته. فسألناه ما شأنك؟ فقال: كنت شاكاً فيه فقلت في نفسي: إنْ رجع وأخذ قلنسوته من رأسه قلت بإمامته(٢) .

وروى جماعة من الصيمريين من ولد إسماعيل بن صالح: أنّ الحسن ابن إسماعيل بن صالح كان في أوّل خروجه إلى سرّ من رأى للقاء أبي محمد ومعه رجلان من الشيعة وافق قدومه ركوب أبي محمد، قال الحسن بن إسماعيل: فتفرقنا في ثلاث طرق وقلنا: إن رجع في أحدهما رآه رجل منا فانتظرناه، فعادعليه‌السلام في الطريق الذي فيه الحسن بن إسماعيل.

فلمّا طلع وحاذاه قال: قلت في نفسي: اللهمّ إن كانت حجتك حقّاً وإمامنا فليمسّ قلنسوته، فلم استتم ذلك حتى مسّها وحرّكها على رأسه، فقلت: يا رب إن كان حجتك فليمسّها ثانياً، فضرب بيده فأخذها عن رأسه ثم ردّها، وكثر عليه الناس بالسلام عليه والوقوف على بعضهم فتقدمه إلى درب آخر.

فلقيت صاحبَيّ وعرّفتهما ما سألت الله في نفسي وما فعل، فقالا: فتسأل ونسأل الثالثة، فطلععليه‌السلام وقربنا منه فنظر إلينا ووقف علينا ثمّ مدّه يده إلى قلنسوته فرفعها عن رأسه وأمسكها بيده وأمرّ يده الأخرى على رأسه وتبسّم في وجوهنا وقال:كم هذا الشك؟ قال الحسن: فقلت: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك

ــــــــــــ

(١) اثبات الوصية: ٢٣٩.

(٢) اثبات الوصية: ٢٤٥.

١٥٩

حجة الله وخيرته، قال: ثم لقيناه بعد ذلك في داره وأوصلنا إليه ما معنا من الكتب وغيرها(١) .

كما أنّا نجد الإمامعليه‌السلام يستغل هذا الظرف ويُلقي الحجة على شابّ قد أتى من المدينة لاختلاف وقع بين أصحابه في إمامة الحسن العسكريعليه‌السلام ، فيبادره الإمامعليه‌السلام بالسؤال:أغفّاري أنت ؟ فقال الشاب: نعم، ثم يسأله الإمام عليه‌السلام عن والدته ويسمّيها له قائلاً: ما فعلت أمك حمدويه؟ فقال الشاب صالحة (٢) . وكان الشاب من ولد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري. وعاد إلى أصحابه وهو مطمئن القلب بإمامة الحسن العسكري عليه‌السلام .

البحث السابع: من وصايا الإمام العسكريعليه‌السلام وإرشاداته لشيعته

وتضمّنت وصايا الإمام ورسائله، بيان الأحكام الشرعية ومسائل الحلال والحرام كما اشتملت على خطوط للتعامل مع الآخرين وكان ذلك بمثابة منهاج سلوكي ليسير عليه شيعته ويقيموا علائقهم وفقاً له فيما بينهم وبين أبناء المجتمع الذي يعيشون فيه وإن اختلفوا معهم في المذهب والمعتقد، ومن هذه الوصايا:

١ ـ قولهعليه‌السلام :«أوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من بر أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صَلّوا في عشائركم، واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي فيسرّني ذلك، اتّقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جُرّوا

ــــــــــــ

(١) إثبات الوصية: ٢٤٦.

(٢) الخرائج والجرائح: ١/٤٣٩ ح ٢٠ وعنه في بحار الأنوار: ٥٠/٢٦٩.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209